Professional Documents
Culture Documents
Omran 33 2020 Zaafrane PDF
Omran 33 2020 Zaafrane PDF
* (((
رشيد الزعفران | Rachid Zaafrane
* باحث في سلك الدكتوراه ،قسم علم االجتماع واألنثروبولوجيا ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،جامعة ابن طفيل ،القنيطرة.
PhD researcher in the Department of Sociology and Anthropology, Faculty of Arts and Humanities, Ibn Tofail University,
Kenitra.
212
العدد Issue 9 / 33
صيف Summer 2020
االستعماري في قلب مجتمع الواحة أحدث فيه تنتمي واحة غريس – موضوع الكتاب – إلى
مس أعماق بناه االجتماعية وتغيرا جذريًّا َّ
ً تبدل
ً وحدة جغرافية متميّزة ومتجانسة بالجنوب
وأسسه الثقافية .فهل أنهى االستعمار «غريس» ُ الشرقي للمغرب ،األمر الذي طبعها بتاريخ
منهجيا ونظريًّا،
ًّ العتيقة والتقليدية؟ وما الذي يُبرر، الوحدة .غير أن واحة غريس تتميّز بكونها واحة
العودة إلى لحظة االستعمار لتحليلها والوقوف تاريخيا؛ إذ لم
ًّ ديمغرافيا وغير بارزة
ًّ متوسطة
حصرا عند آليات التحول وأشكال المقاومة؟ ً تشغل اهتمام المؤرخين والرحالة والجغرافيين
كما شغلهم اسم سجلماسة أو فاس أو تنبكتو
منهجية الكتاب وأهميتها في القرون الوسطى بصفتها محاور مركزية في
اعتمد المؤلف ،منهجيًّا ،الرواية الشفوية، مسالك التجارة الصحراوية .لذلك ،تحمل
والمقابالت وتحليل المضمون ،والمالحظة ،إلى خاصة وواضحة مع الواحات ّ غريس فوارق
والمناطق األخرى المجاورة لها والمتفاعلة معها،
جانب اشتغاله بالرواية األدبية واألشعار المحلية
وهذا يجعل فرضية ثبات بعض خصائصها،
وكتب السيرة؛ ليس من حيث هي نصوص سردية،
التي قد تُمحى في واحات ومناطق أخرى بفعل
سوسيولوجيا،
ًّ بل بصفتها شهادات استثمرها
أمرا وار ًدا ،خاصة أن غريس لم تشهد االستعمارً ،
وبصفتها عالمات ومؤشرات م ّكنته من قراءة
االستعمار على نحو طويل األمد ُمقارنة بغيرها
الحياة اليومية إلنسان الواحة أثناء االستعمار.
من المناطق ،ومن هنا فطن الباحث إلى أهمية
وقد استهدف لحظة االستعمار «لكونها ،من
وسوسيولوجيا ،بمساءلة
ًّ أنثروبولوجيا
ًّ دراستها
جيدة لفهم الناحية النظرية والمنهجيةُ ،مناسبة ّ بناها التقليدية ،وتحوالتها الثقافية واالجتماعية،
وتحليل االتصال بين الشعوب وأشكال المثاقفة»
وأشكال مقاومتها للظاهرة الكولونيالية.
(ص ،)11 باعتبارها (أي المثاقفة) فكرة غير
ُمحايدة في الواقع ،بل باعتبارها «الطريقة التي يعتبر المؤلف من رواد عالم الواحات بحثًا
تدرك بها األنثربولوجيا االستعمار»((( ،أو باعتبار وتنظيرا ،ويظهر هذا جليًّا في مقاالته وأبحاثه،
ً
االستعمار حالة من حاالت التثاقف المختلفة(((. وفي تتبعه الخطي والزمني لواحة غريس ،قبل
فرغم أن هذا النوع من االتصال بين ثقافتين أو االستعمار وأثناءه ،فهل نحن أمام واحتين :واحدة
اتصال عنيف ،والإنساني ،فإنه ُمختبر ٌ أكثر، قبل االستعمار وأخرى لحظة االستعمار ،أم أمام
سوسيولوجي حقيقي ولحظة التقاء واحتكاك واحة واحدة في قلب التحول مع االستعمار؟
أنثروبولوجي مهمة تصلح لفهم الثقافتين م ًعا،إن هذا النوع من األسئلة ينطلق من فرضية
أساسية ُمؤداها أننا «ال نستطيع – كما يقول
ولتحليل بنى المجتمع.
فيرناند بروديل–1985( Fernand Braudel
من هذا المنطلق ،ركّز المؤلف ،على دراسة
)1902استبعاد تاريخ الحرب التي ال تكف عن
واحة غريس ،وعالقة أهاليها باالستعمار بصفته
خلخلة حياة البشر وتمزيقها»(((؛ أي إن التغلغل
ظاهرة تسعى فيها حضارة إلى إخضاع حضارة
((( ف ـ ــرن ـ ــان بـ ــروديـ ــل ،ال ـم ـت ــوس ــط وال ـع ــال ــم ال ـم ـت ــوس ـط ــي ،تـعــريــب
((( ليكلرك ،ص.117 وإي ـ ـجـ ــاز م ـ ـ ــروان آب ـ ــي سـ ـم ــرا (ب ـ ـي ـ ــروت :دار ال ـم ـن ـت ـخ ــب ال ـع ــرب ــي
((( المرجع نفسه ،ص.83 للدراسات والنشر والتوزيع ،)1993 ،ص.147
214
العدد Issue 9 / 33
صيف Summer 2020
بتطبيق مبادئ «المدنية» مع الحفاظ على احترام هو المجال العمومي .وقد ساهم هذا المجال
الخصوصيات المحلية التي ال تتعارض معها؟ أم الجديد (أي الفيالج) في ترسيخ ثقافة االستقرار
أن اإلدارة االستعمارية الفرنسية فرضت سياستها وبناء البيوت ثم انفجار القصور فيما بعد ،وتشييد
االستعمارية عن طريق اإلدارة غير المباشرة أولى معالم «الفيالج» الذي اعتبره المؤلف بمنزلة
كما قامت بها اإلدارة االستعمارية البريطانية في دعوة إلى تجاوز حميمية المجال الخصوصي
عالقاتها بمستعمراتها في أفريقيا ،منذ البداية، الذي كانت تحيا فيه القصور /الجمهوريات نحو
وعلى نحو خاص مع نيجيريا التي كانت تعتبر المجال العمومي ،وكأن السياسة الكولونيالية
(((1
تحضرا فيها؟
ً أكثر المناطق بذلك تهدف إلى «خلق وزرع المجال العمومي
ألول مرة في تاريخ الواحة»(.((1
لقد عملت السياسة االستعمارية الفرنسية على
إفراغ السلط المحلية التقليدية لـ« جماعت»
القبيلة واألسرة والمدرسة
خصوصا
ً (مجلس القبيلة) و«أمغار» (الشيخ)،
من محتواها العرفي «مصطب ًغا إياها بالعمالة» ً
وجها لوجه والقيم التقليدية:
(بخدمة السياسة الكولونيالية) (ص ،)74 وذلك مع المشروع الكولونيالي
عندما أحدث «الفيالج» ومؤسسة «القايد» ،كما كيف تعاملت السياسة االستعمارية الفرنسية مع
جة كبيرة وعنيفة على عملت على إحداث ر ّ والسلط المحلية واألعراف القضائية
المؤسسات ُّ
مستوى العالئق االجتماعية ،حيث انتقل بها التقليدية؟ هل انتهجت سياسة اإلدارة المباشرة
من القرابة والعرف إلى معايير أخرى كالزبونية المبنية على نهج «التماثل» الذي ينطلق من
والمصلحة واألجرة .بل إن المشروع الكولونيالي الخطية التي شهدت
ّ مواقف المدرسة التطورية
الفرنسي استطاع استغالل اإلنسان المحلي في طفرتها بين عا َمي 1860و ، 1880وهي
(((1
وفضل عن ذلك ،خلق ً تهيئة السواقي والطرق. مدرسة أنثروبولوجية تقضي بجعل اآلخرين
لديه الحاجة إلى الكالم والتقرب والتزلف ،أي إنه مشابهين للمجتمع «المتمدن»؟ أم حاولت
خلق قي ًما ورمو ًزا جديدة في الواحة ،مثل رموز تكييف االستعمار مع المؤسسات المحلية أي
االستهالك والتباهي بالملبس والسيارة واألثاث؛
( ((1رغ ــم وجــود مـجــاالت عمومية بالنسبة إلــى كــل قصر على
ما يعني أنه زعزع في العمق شخصية اإلنسان حـ ــدة وأخ ـ ــرى ب ـي ـق ـصــريــة ،م ـث ــل س ــاح ــة ال ـم ـس ــاف ــري ــن بــال ـن ـس ـبــة إل ــى
الواحي الزاهد والمتقشف ،المتشبث بهوية ترتكز األول ــى ،والـســاقـيــة والـمـســالــك بالنسبة إلــى الـثــانـيــة ،فــإن كــل قصر
رغــم ذلــك يعتبر الـعـمــومــي خـصــوصـ ًّـيــا بالنسبة إلـيــه ،بينما الــواحــة
على الماضي والمحافظة على التقاليد ،بخالف كلها تعتبر الـقـنــوات والـمـســالــك خصوصية بالنسبة إلـيـهــا ،ينظر:
المشروع الكولونيالي المتوجه بالفعل السياسي قسطاني ،ص.65
نحو الحاضر والمستقبل. ( ((1ع ــرف ــت األنـثــروبــولــوجـيــا طـفــرة جــديــدة حــوالــى ع ــام ،1860
ح ـيــث ظ ـه ــرت مـعـظــم مــؤل ـفــات ال ـم ــدرس ــة ال ـت ـط ــوري ــة ،وم ـن ـهــا حــق
إن تمركز السلطة وانتقالها من الالمركزية التقليدية األمــومــة ليوهان ياكوب باخوفن ،والقانون الـقــديــم لماين ،1861
ك ـمــا ظ ـهــر ع ــام 1856ك ـت ــاب إدوارد ب ـيــرنــت ت ــاي ـل ــور أب ـح ــاث فــي
إلى المركزية الحديثة ،والتهدئة ،وتنظيم الشغل، ال ـتــاريــخ الـمـبـكــر لـلـجـنــس ال ـب ـشــري وت ـط ــور ال ـح ـض ــارة ،وأتـبـعــه عــام
والمدرسة ،كانت العوامل األساسية التي فجرت 1871بـكـتــابــه ال ـث ـقــافــة ال ـب ــدائ ـي ــة ،إل ــى جــانــب ك ـتــاب لــويــس هـنــري
مورغان عن نظم القرابة عام ،1869وكتابه عن المجتمع القديم
( ((1ليكلرك ،ص.37 عام .1877
216
العدد Issue 9 / 33
صيف Summer 2020
حاول المستعمر ،بصرامة ،القطع مع المدرسة االنتظامات القرابية التقليدية (ص)94 ؛ األمر
القرآنية (أو ما يسمى محل ًيا «بالجا ْمع» أو الذي تمظهر في األشكال الجديدة لتنظيم
«المسيد»)؛ تلك المؤسسة التي تبني الهوية، المجال ،من انفجار القصر (إغرم) إلى النزوح
وتعيد إنتاج المجتمع فحسب (ص ،)97 وبفعل نحو الفيالج ،كما تمظهر في الهجرة نحو الجزائر
فوبيا أو خواف التنصير الذي كان عنصر مقاومة والمدن الداخلية وأوروبا فيما بعد ،إلى جانب
ميتافيزيقية بالنسبة إلى إنسان الواحة (ص)103 ؛ ظهور األجرة .وهذان العامالن زعزعا التماسك
فقد امتنع الشرفاء والمرابطون والفقهاء خاصة العائلي ،وذلك بمحاولة العمال المأجورين
عن تسجيل أطفالهم بالمدرسة الكولونيالية، االستقالل عن العائلة الممتدة ،وانتظامهم في
«المسيحية» كما كانوا يسمونها ،ويتمثلونها بابًا الشكل النووي للقرابة؛ ما يعني في آخر األمر أن
الجتثاث الهوية والمسخ (ص .)101 إن المدرسة كبيرا في دينامية العالقات
االستعمار أدى دو ًرا ً
العائلية ونسق االنتظام القرابي.
الكولونيالية – بحسب المؤلف – كان هدفها
األساسي هو الضبط والمراقبة ،فرغم أنها اتخذت يقول المسيو هاردي –1915( Keir Hardie
الحداثة شعا ًرا لها بالعقالنية والوضعية المبنيتين ،)1856وهو مدير التعليم الذي أقامته الحماية
على االنضباط والنظام والمثابرة والنفعية ،فإنها الفرنسية في المغرب بمكناس عام « :1920إننا
أغفلت أن تُن ّمي أهم سمة في العقالنية ،وهي نعرف نحن الفرنسيين ،بأن انتصار السالح ال يعني
االستقاللية والمبادرة (ص.)102 النصر الكامل :إن القوة تبني اإلمبراطوريات،
ولكنها ليست هي التي تضمن لها االستمرارية
من الكفاح المسلح إلى التمرد والدوام .إن الرؤوس تنحني أمام المدافع ،في حين
والعصيان تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في االنتقام.
يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع األبدان.
اعتمد الواحيون في قراءة الظاهرة الكولونيالية
صخبا من األولىً وإذا كانت هذه المهمة أقل
مرجعيات شبه ثابتة (القدر ،والقبيلة ،والوطن،
فإنها صعبة مثلها ،وهي تتطلب في الغالب وقتًا
واألمة) .ورغم أن الواحي يتمثل االستعمار
أطول»( .((1إن هذا الخطاب ينم عن وعي اإلدارة
بصفته ق َد ًرا ،فإ ّن ذلك لم يمنعه من مقاومته على
الكولونيالية بالصعوبات التي تعترض طريقها في
عدة جبهات ،بطرائق مختلفة :سواء بمساندة
تنفيذ سياساتها ،خاصة ما يتعلق بالمقاومة النفسية
المناطق التي سبق إليها الزحف االستعماري
والرمزية لألهالي ،فهل أ ّن نتيجة هذا الوعي هي
مثل بوذنيب (سنة ،)1907أو بإيواء الهاربين اتجاه اإلدارة االستعمارية إلى القطع مع المدرسة
شر المستعمر ،أو بخوض المعارك الطاحنة من ّ التقليدية ،باعتبارها المؤسسة الحاضنة والبانية
المختلفة مثل معركة جبل بادو (سنة .)1933 لهوية المجتمع؟
ولم يتوقف الصراع المسلح بغريس رغم التهدئة
( ((1محمد عابد الجابري ،التعليم في المغرب العربي ،دراسة
واالستسالم ،إال سنة 1936حيث تم القضاء تـحـلـيـلـيــة ن ـقــديــة ،لـسـيــاســة الـتـعـلـيــم ف ــي ال ـم ـغــرب وت ــون ــس وال ـجــزائــر
على المقاوم المتمرد زيد أوحماد الذي قاوم (الدار البيضاء :دار النشر العربية ،)1989 ،ص.17
217 بتكلا تاعجارم
مواقملا لاكشأو لوحتلا تايلآ :رامعتسالاو سيرغ ةحاو
بالمرحلة الكولونيالية .فهذه المرحلة ليست االستعمار الفرنسي بضراوة( ،((1لتكون بذلك
بمنزلة «جملة اعتراضية» في غرس من جهة؛ إذ آخر مقاومة مسلحة في المغرب كله.
خلخلت كيان المجتمع برمته ،ولكنها مع ذلك
إضافة إلى المقاومة المسلحة الشرسة ،واجه
لم تستطع تحضير اإلنسان التقليدي ،ولم تعمل
أيضا ،وقد
الواحيون االستعمار معنويًّا ورمزيًّا ً
على تحرير المستغل والمرأة والطفل ،بل إنها –
أساسا في سلوك التمرد والمعاندة، ً تجلى ذلك
على عكس ذلك تما ًما – زكّت سلطة المستبد،
حيث قابل السكان المنع والتضييق الذي
وق َّوت األبوية الخانقة ،وهذا األمر يرجع إلى
مارسته السلطات الكولونيالية بالتشبث بممارسة
سببين؛ أحدهما مرتبط بالسياسة االستعمارية
شعائرهم ،واإلصرار على أداء المناسك كالصالة
التي حاولت «نقل» مجتمع الواحة نحو العصرنة
والصوم ،حتى في أحلك الظروف (ص،)139
بالسلطة واإلدارة والقمع والمدرسة (ص،)104
كما تجلت أشكال المقاومة في رفض «الفيالج»
وثانيهما متعلق بأشكال المقاومة المختلفة التي
من طرف الفئات المحاربة واإلثنيات البدوية،
جابه بها الواحيون المشروع الكولونيالي.
وفي رفض التمدرس بالمدارس التي أنشأها
إن األهم في هذا الكتاب ،بغض النظر عن االستعمار؛ بالتحايل والرشوة ،إلى جانب التكاسل
محدوديته أو كثافته ،ليس ك ّمية المعلومات التي في تنفيذ المشاريع الكولونيالية إلى درجة جعلت
يقدمها أو نوعيتها ،بل إن وجاهته وأهميته تتمثالن أحد المسؤولين الفرنسيين يقول عنهم« :هؤالء
فيما يُثيره من تساؤالت وظواهر سوسيولوجية يتصرفون كأن األبدية أمامهم» (ص .)171 معنى
أخرى ،وكذلك في االستثمار المنهجي الذي هذا أن مقاومة االستعمار اتخذت لدى سكان
قام به المؤلف أثناء لحظة من لحظات التاريخ الواحات بوجه عام ،ولدى غرس على وجه
األساسية في تاريخ المجتمع ،أال وهي اللحظة ووطنيا بالدرجة األولى،
ًّ دينيا
الخصوص ،طاب ًعا ًّ
االستعمارية .فالظاهرة الكولونيالية ،من وجهة من دون أن تأخذ أبعا ًدا أخرى.
نظر منهجية ونظرية ،مهمة من أجل فهم وتحليل
أشكال المثاقفة بين الشعوب وتحوالتها المختلفة. خاتمة ومناقشة
من منطلق أن مهمة الباحث السوسيولوجي
إن ظاهرة االستعمار ،تتبدى ،في بادئ األمر،
هي ممارسة الكشف والتعرية Dévoilerبتعبير
واقع ًة عنيفة ،تنبني على القمع والحرب ،ولكن
بول باسكون – Paul Pasconحيث تصبح
ما يتم إغفاله عاد ًة هو البعد المعنوي والبعد
ٍ
كشف السوسيولوجيا بال دعوى إذا لم تقم بمهمة
الرمزي (السوسيولوجي واألنثروبولوجي) اللذان
خفي وكامن ،وتصحيح لكل ّ وتعري ٍة لكل ما هو
يستهدفان البنى الذهنية والمؤسسات االجتماعية،
واقع اجتماعي ُمش ّوه أو مزيف – وجريًا على
والقيم الثقافية للمجتمعات ال ُمستع َمرة .فعندما
المنوال نفسه ،يمكن القول إن المؤلف مارس
ت ُؤول سياسات القتل واإلبادة إلى الفشل ،يتوجه
معريًا
مهمة السوسيولوجي كما تصورها باسكونّ ،
المستعمر نحو آليات اجتماعية ونفسية تدميرية
قويًّا وكاش ًفا للكثير من األوهام التي التصقت
لكيان المجتمع وعمقه األنثروبولوجي وتصوراته
لذاته واآلخر والعالم ،وهو أمر ال يتأتى للمستعمر ( ((1المرجع نفسه ،ص.170
218
العدد Issue 9 / 33
صيف Summer 2020
الديانات هي أكثر ما في الحضارات من فرادة حي المعرفة والعلم في ذلك. إال بتسخير سال َ
ومقاومة»( .((1غير أن تفسير استراتيجية المقاومة ورغم التشابه الملحوظ في التحوالت العميقة
بالعقيدة والوطنية ،في مقابل االستراتيجية وأشكال المقاومة في مختلف المناطق التي
السياسية المؤطرة للفعل الكولونيالي (ص)141 شهدت االستعمار ،فإن واحة غريس األطلسية،
أمر يبدو أنه يُغفل أبعا ًدا أخرى مرتبطة بنمط العيش
ٌ كما ينتهي إلى ذلك المؤلف ،تمتاز بخصوصية
والقيم السائدة ،فقد الحظ بيار بونت Pierre مجالية وأخرى تاريخية جعلتاها مرتبطة بالوطن
مثل ،في دراسته حول شركة الحديد بتراب ً Bonte ودار اإلسالم ،وفي الوقت نفسه محتفظة بقوتها
البيضان ،ما أبان عنه البدويون المحاربون من القبلية والعرفية والقيمية.
احتقار للعمل اليدوي ،برفض العمل في الشركة تكشف الكثير من الدراسات األخرى في
التي تجعل منهم – في تمثُّلهم – عبي ًدا وفي كبيرا بين المناطق
المجاالت الصحراوية تشاب ًها ً
أسفل التراتبية االجتماعية ،لذلك ساد عندهم ال ُمستعمرة المختلفة ،سواء على مستوى
القول« :ال يعمل في منجم الحديد MIFERMA التحوالت العميقة التي أحدثها االستعمار ،أو على
الجياع»( ((1وهو أمر جعل الفرنسيين يجدون َّ إال مستوى أساليب المقاومة وأشكالها ،إال أن الطابع
صعوبات في تكييف البدويين وإدماجهم في المميز لواحة غريس هو ما جعل المؤلف يؤكد ّ
العالم الصناعي(.((1 خطاب الخصوصية واالستثناء الذي تمثله الواحة
يميل الباحث إلى تفسير ضعف التأثير االستعماري ضمن باقي الواحات المغاربية التي كانت عرضة
في أساليب السلوك المختلفة بغريس ،بالحيّز لالستعمار .فعلى مستوى اإلعراض عن الدراسة
الضيق ،وهو أمر قابل للمناقشة ،خاصة الزمني شكل من
ً بالمدرسة الحديثة – بوصف ذلك
ّ
أن بنى المجتمع تتميز ،كما يقول بروديل ،بكونها أشكال المقاومة الواضحة في مختلف المناطق–
«بطيئة التلف واالستنفاد»(((1؛ على مستوى يقول محمد عابد الجابري ،على سبيل المثال،
اإلدراكات واألفعال والتمثالت والقيم .فعندما إن اإلعراض عنها قد حدث بعدة أشكال :فـ« من
نقارن واحة غريس بالواحات الجزائرية التي عرفت مجرد عدم اإلقبال عليها ،إلى مقاطعتها بإصرار،
الظاهرة االستعمارية على نحو ثقيل وطويل األمد إلى إخفاء األوالد وتهجيرهم ،إلى التحايل
واالستعانة بالوسائط عندما يطلبون لتسجيل
القيمية
ّ ( ،)1962–1830نكتشف أن المقاومة
أوالدهم بالمدرسة الفرنسية»( ،((1ألنها مدرسة
والثقافية ظاهرة عامة ،رغم التباين الزمني الموجود
حرف وكتابة ُمهددة للذاكرة الشفوية والشخصية
بين المجالين .ورغم أن الحرب الكولونيالية قد
التقليدية ،ولروح الدين اإلسالمي ،وتحاول نزع
أخضعت المجتمع الجزائري لـ« اجتثاث ثقافي
السلطة المعرفية عن اآلباء والفقيه ،كما الحظ
( ((1بروديل ،ص.136 الباحث نفسه في دراسته .وهذا األمر يؤكد الطابع
جياع ،ال نشتغلو عند لميفيرما»:
( ((1سادت مقولة« :ماحنا ّ الديني العام للمقاومة في جل المناطق.
«Nous ne sommes pas affamés, nous ne travaillons pas
pour la MIFERMA,» Bonte, p. 139. وال غرابة في ذلك ،إذا قلنا مع بروديل« :إن
(18) Ibid., p. 137.
( ((1بروديل ،ص.83 ( ((1المرجع نفسه ،ص.25
219 بتكلا تاعجارم
مواقملا لاكشأو لوحتلا تايلآ :رامعتسالاو سيرغ ةحاو
حقيقي» كما يقول بورديو ،بسبب انتهاج اإلدارة موض َع مقارنات وتساؤالت كثيرة في الدراسات
الفرنسية سياسة السالح والعنف والتشريد( ،((2فإن السوسيولوجية واألنثروبولوجية المعاصرة،
ذلك ال يعني أن االستعمار قد أنهى كليًّا ثقافة سواء في إطار إجراء تقييم موضوعي لحصيلة
االستعمار بالمجتمعات ال ُمستعمرة ،أو من خالل المجتمع الجزائري وبناه التقليدية.
تتبع تحوالت ما بعد االستقالل وبناء الدولة
يُعد واحة غريس واالستعمار من بين أهم الكتب
المجهرية المتجهة نحو المجتمعات الواحية الوطنية ،حيث ستؤدي الدولة الوطنية والمدرسة
والتقليدية بعامة .وتصلح دراسته بذلك لتكون والهجرة ،والعولمة بعد ذلك ،الدور الكبير في
أمر يحتاج إلى
تعميق تلك التحوالت ،وهو ٌ
( ((2توفيق زروقي« ،سوسيولوجيا الظاهرة االستعمارية ،الثورة
«تنسيل» الدراسات واألبحاث ،من أجل فهمٍ
نموذجا» ،مجلة اآلداب والعلوم االجتماعية ،العدد 14
ً الجزائرية
ٍ
وتحليل أعمق لمجتمعات ما بعد االستقالل. (كانون الثاني /يناير ،)2016 ص.3
References المراجع
العربية
بروديل ،فرنان .المتوسط والعالم المتوسطي .تعريب وإيجاز مروان آبي سمرا .بيروت :دار المنتخب
العربي للدراسات والنشر والتوزيع.1993 ،
بن محمد ،قسطاني .الواحات المغربية قبل االستعمار :غريس نموذ ًجا .الرباط :منشورات المعهد
الملكي للثقافة األمازيغية.2005 ،
_______ .واحة غريس واالستعمار ،آليات التحول وأشكال المقاومة .سلسلة دراسات وأبحاث
رقم .70الرباط :منشورات المعهد الملكي للثقافة األمازيغية.2018 ،
الجابري ،محمد عابد .التعليم في المغرب العربي ،كتاب تحليلية نقدية ،لسياسة التعليم في المغرب
وتونس والجزائر .الدار البيضاء :دار النشر العربية.1989 ،
ليكلرك ،جيرار .األنثروبولوجيا واالستعمار .ترجمة جورج كتورة .ط .2بيروت :المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر والتوزيع.1990 ،
الوزان ،حسن .وصف أفريقيا .ترجمه عن الفرنسية محمد حجي ومحمد األخضر .ط .2بيروت :دار
الغرب اإلسالمي.1983 ،
220
Issue 9 / 33 العدد
Summer 2020 صيف
األجنبية
Bonte, Pierre. La montagne de fer. La SNIM (Mauritanie). Une entreprise minière
saharienne à l’heure de la mondialisation. Paris: Karthala, 2001.
L’Ancien, Pline. Histoire naturelle, Livre XXXI. Texte établi et traduit par G. Serbat.
Paris: Les belles lettres, 1972.
Skounti, Ahmed. Le sang & le sol, nomadisme et sédentarisation au Maroc, les AYT
MERGHAD du Haut–Atlas oriental. Série: Etudes, no. 33. Rabat: Institut Royal de la
Culture Amazigh, 2018.