You are on page 1of 299

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬

‫جامعة الحاج لخضر باتنة‬

‫كلية اآلداب واللغات‬

‫قسم اللغة العربية وآدابها‬

‫شعرية المطلع في القصيدة العباسية‬

‫رسالة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه العلوم في اللغة العربية وآدابها‬

‫فرع‪ :‬النقد العربي القديم‬

‫إشراف األستاذ الدكتور‪:‬‬ ‫إعداد الطالب‪:‬‬

‫محمد منصوري‬ ‫بوعالم بوعامر‬

‫لجنة المناقشة‬

‫الصفة‬ ‫الجامعة‬ ‫الرتبة‬ ‫االسم واللقب‬


‫رئيسا‬ ‫جامعة باتنة‬ ‫أ‪ .‬التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ /‬عبد السالم ضيف‬
‫مشرفا ومقر ار‬ ‫جامعة باتنة‬ ‫أ‪ .‬التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ /‬محمد منصوري‬
‫مناقشا‬ ‫جامعة باتنة‬ ‫أ‪ .‬التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ /‬الطيب بودربالة‬
‫مناقشا‬ ‫جامعة عنابة‬ ‫أ‪ .‬التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ /‬محمد العربي عيالن‬
‫جامعة قسنطينة مناقشا‬ ‫أ‪ .‬التعليم العالي‬ ‫أ‪.‬د‪ /‬الربعي بن سالمة‬
‫مناقشا‬ ‫جامعة المسيلة‬ ‫أ‪ .‬محاضر‬ ‫أ‪.‬د‪ /‬عباس بن يحيى‬

‫السنة الجامعية‪3313-3311 :‬ه‪2131-2132/‬م‬


‫بــــــــــــــــــــــــــسم اهلل الرحمـــــــــــــــــــــــن الرحيــــــــــــــــــــم‬
‫إهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداء‬

‫أمي بحر األمومة الزاخر وينبوع الحنان المتدفّق‪ ،‬ووالدي المثل والقدوة…‬
‫إلى ّ‬
‫زخات التشجيع‪ ،‬وصدق الصحبة في مضايق‬
‫إلى رفيقة الدرب أم مروان‪ ،‬شك ار على ّ‬
‫البحث ‪...‬‬

‫إلى ثمرة الفؤاد‪ :‬ولدي مروان‪ ،‬وابنتي فرح‪.‬‬

‫أختي رحمهما اهلل‪ ،‬وسائر إخوتي وأخواتي‪.‬‬


‫ّ‬ ‫إلى روحي‬

‫إلى روح الدكتور دباش عبد الحميد رحمه اهلل المشرف على مذكرتي للماجستير عسى‬
‫اهلل أن يجعل ذلك في ميزان حسناته‪.‬‬

‫الدراسة‪ ،‬أو في الحياة ‪..‬‬


‫إلى ك ّل من تتلمذت له على مقاعد ّ‬

‫أتقدم بهذا العمل المتواضع ‪.‬‬


‫ّ‬

‫بوعامر بوعالم‪‬‬
‫شــكـــــــر وعرفـــــــان‬
‫إلى كل من أسدى معروفا أوأهدى نصيحة أو أزجى دعاء‪ ...‬في سبيل إتمام هذه الدراسة‬
‫فإلى‪:‬‬

‫‪ ‬أسرت ي قسم اللغة واألدب العربي في جامعة غارداية‪ ،‬وقسم اللغة العربية وآدابها في‬
‫جامعة الحاج لخضر بباتنة أساتذة واداريين‪.‬‬
‫‪ ‬إلى أعضاء لجنة المناقشة الموقرة‪ ،‬شك ار على سيبذلون من جهد‪ ،‬ويخصصون من‬
‫سيهدون إلى صاحبها من بيان لمواضع عيوبها وخللها‪،‬‬
‫وقت لقراءة الرسالة‪ ،‬وعلى ما ُ‬
‫وارشاد إلى تدارك ما وقع فيها – والشك‪ -‬من سهو وتقصير‪ ،‬وهو ما يكون دفقة دم‬
‫جديد في أوصالها تحيا وتنتعش به‪.‬‬
‫‪ ‬إلى األصدقاء والزمالء كافة‪.‬‬
‫مــقــــــــــــــــــدمـــة‬
‫إذا‌كان‌التساؤل‌التقليدي‌عن‌بنية‌القصيدة‌العربية‌القديمة‌مشروعا‪‌،‬لما‌عليه‌ظاهر‌‬
‫‌يتخلص ‌منها ‌إلى ‌غرض ‌مقصود ‌تتلوه ‌خاتمة‪‌ ،‬فإنه ‌‪‌ -‬على ‌مشروعيته‌‬
‫بنيتها ‌من ‌مقدمة ُ‬
‫‪‌،‬ما‌لم‌يشفع‌بسؤال‌باطن‌‬
‫ُ‬ ‫اف‬
‫ومنطقيته‌‪‌-‬يبقى‌سؤال‌ظاهر‪‌،‬كل‌إجابة‌عنه‌تحوم‌حول‌الحو ّ‬
‫يكون‌بمنزلة‌تكميل‌لتلك‌اإلجابة‪‌ .‬سؤال‌الباطن‌هذا‌يتوجه‌تلقاء ‌ما‌يتضمنه‌كل‌عنصر‌في‌‬
‫متضمنات ‌سائر ‌العناصر ‌إلعطاء ‌القصيدة ‌ملمحها‌‬
‫َ‬ ‫تلك ‌البنية ‌من ‌جمالية ‌شعرية ‌تلتقي ‌ ‌و‬
‫الشعري‌المتكامل‪‌.‬‬

‫إن‌اإلجابة‌عن‌سؤال‌الشعرية‌هذا‪‌،‬من‌شأنها‌أن‌تعطي‌اإلجابة‌عن‌سؤال‌البنية‌عمقا‪‌،‬‬
‫وتضفي‌عليها‌جدوى‪‌،‬كما‌أنها‌كفيلة‌أن‌تبرر‌–‌شعريا‪‌-‬ظاهرة‌التعدد‌في‌تلك‌البنية‪‌،‬على‌‬
‫اعتبار‌أن‌الشعرية‌عالم‌خاص‪‌،‬وعامل‌جم‌ ع‌في‌استطاعته‌التأليف‌بين‌ما‌يراه‌اإلحساس‌‬
‫المجرد ‌من ‌النظرة ‌الجمالية ‌والرؤية ‌الشعرية‪‌ ،‬أشتاتا ‌متفرقة ‌وشظايا ‌أجسام ‌متنافرة ‌يستحيل‌‬
‫التئامها‪‌.‬‬

‫لقد ‌ابتعدت ‌النظريات ‌الشعرية ‌الحديثة ‌عن ‌سؤال ‌الماهية ‌والتجريد ‌في ‌مجال ‌األدب‌‬
‫والشعر‪‌،‬وذهبت‌‌تتساءل‌عن‌الخصائص‌التي‌تجعل‌من‌نص‌ما‌شعرا‪‌،‬أي‌عن‌اإلجراءات‌‬
‫والتشكيالت‌الفنية‌والتنظيم‌اللغوي‌الذي‌يرتقي‌بالنص‌إلى‌يفاع‌الشعر‪‌،‬فصار‌من‌الممكن‌‬
‫البحث ‌عن ‌الجمال ‌والشعرية ‌في ‌نصوص ‌كانت ‌في ‌معزل ‌عن ‌هذا ‌البحث‪‌ ،‬وكان ‌التفكير‌‬
‫فيها‌على‌هذا‌األساس‌خلطا‌وافتئاتا‪‌.‬‬

‫والناظر ‌في‌الدراسات‌البالغية‌والنقدية ‌القديمة‪‌،‬التي‌توجهت‌إلى‌البحث‌في‌المقومات‌‬


‫الشعرية‌للقصيدة‪‌،‬وكانت‌إحدى‌مميزات‌التراث‌النقدي‌والبديعي‌عند‌العرب‪‌،‬يالحظ‌أن‌ثمة‌‬
‫قناعة ‌غلبت‌على‌النقاد‌والبالغيين‌العرب‌القدماء‪‌ ،‬وتابعهم‌فيها‌الدراسون‌المحدثون‪‌،‬تتمثل‌‬
‫في‌أن‌المطلع‌هو‌نقطة‌ارتكاز‌القصيدة‌العربية‌القديمة‪‌،‬والمنطلق‌الذي‌تتجمع‌عندها‌الطاقة‌‬
‫الشعرية‪‌ ‌،‬وتتراكم‌الدفقة‌الشعورية‌ريثما‌تنبجس‌ممتدة‌في‌تدفقها‌إلى‌سائر‌أبيات‌القصيدة‪‌،‬‬
‫بحيث‌تش ّكل‌تلك‌النقطة‌المرجعية‌الجمالية‌األولى‌لألبيات‌الالحقة‪‌،‬والتي‌من‌الصعب‌على‌‬
‫الشاعر‌أن‌يعوض‌فيها‌ما‌فاته‌من‌شروط‌الصنعة‌الشعرية‌في‌المطلع‪‌ ،‬مهما‌بلغ‌تجويده‌‬
‫بعد‌ذلك‪‌،‬ومهما‌بلغ‌عدد‌أبيات‌القصيدة‪‌.‬‬
‫‌أ‬
‫لذلك‌سعت‌هذه‌الدراسة‌الموسومة‌بـ‌"‌شعرية‌المطلع‌في‌القصيدة‌العباسية‌"‌إلى‌توخي‌‬
‫مطلع ‌القصيد ة ‌العباسية ‌بالدراسة‪‌ ،‬في ‌محاولة ‌للوقوف ‌على ‌القيم ‌الجمالية ‌التي ‌تميز ‌بها‌‬
‫مطلع‌القصيدة‌في‌هذا‌العصر‪‌.‬في‌إشكالية‌يمكن‌صياغتها‌في‌األسئلة‌الرئيسية‌اآلتية‪‌:‬‬

‫البديعية‌التي‌يجب‌أن‌تتوفر‌للمطلع‪‌،‬حتى‌يكتسب‌نفَ َسه‌الشعري‪‌،‬‬
‫‌‬ ‫‪ .1‬ما‌هي‌القيم‌الجمالية‌و‬
‫‌قعد ‌لها ‌البديعيون ‌والنقاد ‌انطالقا‌‬
‫تلك ‌القيم ‌التي ‌انتهت ‌إلى ‌أن ‌تصبح ‌شروطا ‌ورسوما ّ‬
‫بطبيعة‌الحال‌–‌من‌استقرائهم‌للواقع‌الشعري‪‌،‬الذي‌أبدعه‌النوابغ‌من‌الشعراء؟‌‌‬

‫‪ .2‬ما ‌مدى ‌توسع ‌الشاعر ‌العباسي ‌تخصيصا ‌في ‌إثراء ‌تلك ‌القيم‪‌ ،‬وهل ‌وقف ‌حبيس ‌تلك‌‬
‫"الشروط ‌"؟ ‌أم ‌شق ‌عصا ‌الطاعة‪‌ ،‬ثائ ار ‌عليها‪‌ ،‬شاقا ‌لنفسه ‌طريقا ‌آخر‪‌ ،‬تماشيا ‌مع‌‬
‫المستجدات‌الحضارية‌والثقافية‌والفنية‌في‌ذلك‌العصر؟‌‬

‫‪ .3‬ما ‌هو ‌موقع ‌ مطلع ‌القصيدة ‌في ‌التشكيل ‌النهائي ‌للملمح ‌الشعري ‌الجمالي ‌للقصيدة‪‌،‬‬
‫بوصفها‌وحدة‌متكاملة‌متضامة؟‬

‫‪ .4‬هل ‌يمكن‌االستفادة‌من‌دراسة‌العنونة‌في‌النقد‌المعاصر‪‌،‬والتوسل ‌بتقنياتها‌في‌دراسة‌‬


‫مطلع ‌القصيدة‪‌ ،‬على ‌اعتبار ‌خلو ‌القصيدة ‌العربية ‌التراثية ‌من ‌العنوان ‌الذي ‌يضعه‌‬
‫الشاعر ‌نفسه‪‌ ،‬السيما ‌أن ‌أكثر ‌البالغيين ‌اشترطوا ‌في ‌المطلع ‌ما ‌يدل ‌على ‌غرض‌‬
‫القصيدة‌ويناسب‌غرضها؟‬

‫تلك‌هي‌جملة‌من‌األسئلة‌التي‌تحاول‌الدراسة‌اإلجابة‌عنها‪‌،‬إضافة‌إلى‌أسئلة‌تتفرع‌‬
‫منها‌تمهيدا‌أو‌توضيحا‪‌‌.‬‬

‫‌جمالية ‌شعرية‪‌ ،‬وكان‌‬


‫ّ‬ ‫ولما ‌كان ‌السعي ‌موجها ‌إلى ‌تلمس ‌ما ‌يتضمنه ‌المطلع ‌من‬
‫‌وأنفع ‌أدواتها ‌وأظهر ‌ما ‌يقع ‌عليه ‌الذوق‪‌،‬‬
‫التشكيل ‌اللغوي ‌هو ‌أول ‌عناصر ‌تلك ‌الجمالية ‌‬
‫إضافة ‌إلى ‌كون ‌" ‌براعة ‌المطلع ‌" ‌نفسها ‌مبحثا ‌بالغيا ‌بديعيا‪‌ ،‬كان ‌المنهج ‌األسلوبي ‌هو‌‬
‫المنهج‌الذي‌يفرض‌نفسه‌في‌هذه‌الحال‪‌،‬لِما‌يشتمل‌عليه‌من‌إجراءات‌تم ّكن‌الدارس‌من‌‬
‫تفكيك‌البناء‌اللغوي‪‌،‬ونقض‌النسيج‌األسلوبي‌الذي‌حاك‌منه‌الشاعر‌مطلعه‪‌‌.‬‬

‫‌ب‬
‫وقد‌قامت‌الدراسة‌على‌مدخل ‌وبابين‌وخاتمة‪‌،‬أما‌المدخل ‌فخصص ‌للعصر‌العباسي‌‬
‫وتوجهاته‌األدبية‌والنقدية‪‌،‬وهو‌ما‌يستدعي‌الحديث‌عن‌الشعرية‌تعميما‌وتوجهاتها‌في‌ذلك‌‬
‫العصر‌تخصيصا‪‌ .‬مع ‌التوسع‌أحيانا‌إلى‌الناحية‌الثقافية‌عموما‪‌ .‬فإذا ‌كان‌من‌الثابت‌أن‌‬
‫هذا‌العصر‌لم‌يشهد‌تطورا‌جذريا‌في‌بنية‌القصيدة‌العربية‌التقليدية‪‌،‬فيكفي‌أنه‌العصر‌الذي‌‬
‫ُجو ِهر ‌فيه ‌بالثورة ‌على ‌مقدمة ‌القصيدة ‌وفيها ‌المطلع‪‌ .‬كما ‌كان ‌فيه ‌أبو ‌نواس ‌الذي ‌صدع‌‬
‫بتلك‌الدعوة‪‌،‬متبرما‌ساخطا‌معبرا‌عن‌ذلك‌في‌شعره‪‌.‬‬
‫ّ‬

‫إن‌العصر‌العباسي‌‪‌ -‬كما‌هو‌معلوم‌‪‌ -‬العصر‌الذهبي‌في‌تاريخ‌العرب‌والمسلمين‌‬


‫وحضارتهم‪‌ ،‬فقد ‌تعددت ‌فيه ‌المعارف ‌والعلوم‪‌ ،‬وتالقت ‌الثقافات ‌وتالقحت‪‌ ،‬ونضجت ‌علوم‌‬
‫العربية‌وتأصلت‪‌،‬وازدهرت‌الفنون‌وترسخت‪‌.‬‬

‫إضافة ‌إلى ‌نضج ‌النقد ‌األدبي ‌وتأصله‪‌ ،‬السيما ‌النقد ‌البالغي ‌الذي ‌أعطى ‌المطلع‌‬
‫ملمحه‌الفني‪‌،‬وازدهر‌فيه‌البديع‌الذي‌على‌رأسه‌براعة‌المطلع‌أو‌االستهالل‪‌‌.‬‬

‫وهو ‌أيضا ‌العصر ‌الذي ‌ازدهر ‌فيه ‌فن ‌الغناء ‌وتنوعت ‌األلحان‪‌ ،‬وتطورت ‌أدوات‌‬
‫ى‌من‌القصائد‌مطالعها‌ومقدماتها‪‌،‬‬
‫ُ‬ ‫غن‬
‫أن‌أكثر‌ما‌ي ّ‬
‫ُ‬ ‫العزف‪‌،‬وهو‌ما‌أ‌ثّر‌في‌الشعر‪‌،‬السيما‌‬
‫اف ‌إلى ‌تجويد ‌تلك ‌األجزاء ‌من ‌القصيدة‪‌ .‬إلى‌‬
‫فكان ‌من ‌أثر ‌هذا ‌االحتفال ‌بالغناء ‌االنصر ُ‬
‫جانب‌توطّد‌علم‌العروض‌وموسيقى‌الشعر‌العربي‪‌.‬‬

‫والعصر ‌العباسي ‌هو ‌العصر ‌الذي ‌بدأت ‌تظهر ‌فيه ‌اتجاهات ‌شعرية ‌جديدة‪‌ ،‬ذات‌‬
‫موضوعات‌وأغ راض‌لها‌تأثيرها‌في‌موسيقى‌الشعر‪‌،‬وجمالياته‌بمختلف‌مظاهرها‌التركيبية‌‬
‫واإلفرادية‌والصوتية‪‌،‬كالشعر‌الشعبي‌وشعر‌التصوف‌والزهد‪‌.‬‬

‫‌كانوا ‌ينصرفون ‌انصرافا ‌كليا ‌إلى ‌فنهم‌‬


‫وهو ‌العصر ‌الذي ‌انفرد ‌بنوابغ ‌من ‌الشعراء ‌‬
‫سين‌حياتهم‌له‪‌،‬مجودين‌ومنقحين‪‌.‬متخذين‌منه‌صناعة‌حقيقية‪‌،‬ينافحون‌عن‌حياضها‌‬
‫ّ‬ ‫كر‬
‫ُم ّ‬
‫ويدافعون‌عنها‌األدعياء‌من‌الشعراء‪‌،‬ويسفّهون‌دونها‌تشقيقات‌الدخالء‌من‌النقاد‪‌.‬‬

‫‌ج‬
‫ثم ‌كان ‌الباب ‌األول ‌المعنون ‌بـ ‌" ‌المطلع ‌في ‌بنية ‌القصيدة ‌العربية ‌التقليدية ‌شعرية‌‬
‫التموقع‌"‪ ‌،‬لكون‌المطلع‌هو‌أول‌أبيات‌القصيدة‪‌،‬وكان‌موقعه‌منها‌على‌رأس‌المقدمة‌التي‌‬
‫هي‌إحدى‌البنى‌الصغرى‌التي‌تتركب‌منها‌القصيدة‌العربية‌التقليدية‪‌‌.‬وهو‌في‌عمومه‌بحث‌‬
‫في‌موقعية‌المطلع‌من‌معمار‌القصيدة‌العربية‌التقليدية‌وفي‌جمالياته‪‌،‬فإذا‌كان‌من‌المسلَّم‌‬
‫اء ‌وحدودا‌‬
‫‌البيت‌األول‌في‌القصيدة‪‌،‬فإن ‌في‌كتب‌تراثية‌أقواال‌وآر ً‬
‫ّ‬ ‫به‌اآلن‌أن‌المطلع‌هو‬
‫‌ي َّ‬
‫عبر ‌عنه‌‬ ‫تلقي ‌بنوع ‌من ‌الغموض ‌حول ‌مفهومه ‌أو ‌موقعه ‌من ‌القصيدة‪‌ ،‬خصوصا ‌عندما ُ‬
‫بصيغة‌الجمع‌"‌المطالع‌"‪‌،‬موضوعة‌في‌مقابل‌"‌المقاطع‌"‪‌.‬‬

‫وفي ‌صدر‌هذا‌الباب‌تمهيد‌في ‌ البنية‪‌،‬وتوجهات‌النقد‌الحديث‌والفكر‌الذي‌انبثق‌عنه‌‬


‫صوبها‪‌،‬وبعده‌فصل‌مخصص‌لبنية‌القصيدة‌العربية‌التقليدية‪ُ ‌،‬بحثت‌فيه‌عناصر‌تلك‌البنية‌‬
‫المتمثلة‌في‌المقدمة‌التي‌على‌رأسها‌المطلع‪‌،‬فالتخلص‪‌،‬فالختام‪‌.‬‬

‫ولما‌كان‌الجمال‌في‌الفن‌نسقا‌يتطلب‌االنسجام‌واالطراد‪‌،‬وال‌يتحمل‌التنافر‌والشذوذ‪‌،‬‬
‫ّ‬
‫وكانت‌الوحدة‌في‌الفن‌نتيجة‌لالنسجام‌واالطراد‌من‌جهة‪‌،‬وكان‌المطلع–‌بوصفه‌عضوا‌في‌‬
‫بنية‌القصيدة‪ ‌ -‬ذا‌تأثير‌ال‌يمكن‌إغفاله‌في‌محاولة‌البحث‌عن‌مظاهر‌هذه‌الوحدة‌السيما‌‬
‫‌بنيت ‌عليه ‌القصيدة ‌من ‌جهة ‌أخرى‪‌ ،‬كان ‌الحديث ‌عن‌‬
‫مع ‌اشتراط ‌داللة ‌المطلع ‌على ‌ما ُ‌‬
‫الوحدة‌الفنية‌في‌الفصل‌الثاني‌من‌الباب‌األول‪‌،‬وهو‌أمر‌يحفز‌عليه‌ما‌أشيع‌–‌و‌ما‌يزال‌‬
‫‌خلو ‌ القصيدة ‌العربية ‌القديمة ‌من ‌كل ‌مظهر ‌من ‌مظاهر ‌الوحدة‪‌ ،‬وهو ‌اعتقاد‌‬
‫يشاع ‌– ‌من ّ‌‬
‫تشجع ‌عليه ‌بعض ‌األمور ‌إذا ‌أُخذت ‌في ‌ظاهرها‪‌ .‬مثل ‌كون ‌أول ‌القصيدة ‌عادةً ‌المقدمةَ‌‬
‫الطللية‌الغزلية‌مهما‌كان‌الغرض‌األصلي‪‌.‬بيد‌أنه‌اعتقاد‌أثبتت‌بحوث‌ودراسات‌أكاديمية‌‬
‫فاله‌وجوها‌من‌الوحدة‌يمكن‌رصدها‌فيها‪‌‌.‬‬
‫أنه‌مغال‪‌،‬على‌األقل‌بعموميته‌واغ ُ‌‬

‫وهو‌فصل‌تناول‌قضية‌الوحدة‌مبسوطة‌في‌ثالث‌قضايا ‌فرعية‪‌،‬عالجت‌مسألة‌تعدد‌‬
‫األغراض‌في‌القصيدة‌العربية‌التقليدية‪‌،‬ووحدة‌البيت‪‌،‬وأخيرا‌الوحدة‌العضوية‪‌.‬‬

‫‌الشعرية‌‬
‫‌‬ ‫واستقل ‌المطلع ‌بالفصل ‌الثالث ‌مفصال ‌في ‌مسائل ‌ثالث‪‌ ،‬األولى‪‌ :‬الجمالية‬
‫‌بالغيينا ‌ونقادنا‌‬
‫ّ‬ ‫ولزومها ‌للقصيدة ‌عموما ‌والمطلع ‌خصوصا‪‌‌ .‬والثانية‪‌ :‬بحث ‌في ‌اهتمام‬

‫‌د‬
‫القدماء‌بالمطلع‪‌،‬ورصد‌لما‌خصوه‌به‌من‌شروط‌وقيم‌جمالية‌استقوها‌من‌الموروث‌الشعري‌‬
‫السابق ‌ومما ‌استجد ‌في ‌العصر ‌العباسي‪‌ .‬كل ‌ذلك ‌منظور ‌فيه ‌إلى ‌ما ‌سبق ‌من ‌جماليات‌‬
‫الشعرية‪‌‌.‬والثالثة‪‌ :‬فكرة ‌تستند‌إلى‌الدرس‌السميولوجي‌للعنوان‪‌،‬ذلك‌المبحث‌الطريف‌الذي‌‬
‫يغري‌بمحاولة‌االستفادة‌منه‌في‌درس‌مطلع‌القصيدة‌العربية‌التراثية‪‌،‬بما‌أنها‌نص‌يخلو‌من‌‬
‫العنونة‪‌،‬وبما‌أن‌للعنوان‌وظائف‌يمكن‌أن‌يضطلع‌بها‌المطلع‪‌‌.‬‬

‫‌سبقت ‌تلك ‌القضايا ‌بتمهيد ‌عرض ‌لمفهوم ‌المطلع ‌وتحديد ‌موقعه ‌من ‌القصيدة‪‌‌،‬‬
‫وقد ُ‬
‫لورود‌عبارات‌عن‌بعض‌النقاد‌والبالغيين‌القدماء‌توحي‌بوجود‌خالف‌وشبهة‌في‌االتفاق‌‬
‫حول‌ذلك‪‌،‬كما‌سبقت‌اإلشارة‪‌‌‌‌.‬‬

‫أما ‌الباب ‌الثاني ‌وعنوانه‪‌ "‌ :‬مستويات ‌الشعرية ‌في ‌مطلع ‌القصيدة ‌العباسية ‌"‪‌ ،‬فهو‌‬
‫دراسة‌لمظاهر‌الشعرية‌وتجلياتها‌في‌مطلع‌القصيدة‌العباسية‪‌،‬تتدرج‌من‌المستوى‌التركيبي‪‌،‬‬
‫الذي‌تش ّكله‌البنى‌النحوية‌المختلفة‪‌،‬والتي‌تدخل‌عليها‌إجراءات‌نحوية‌لها‌تأثير‌مباشر‌في‌‬
‫األغراض ‌البالغية‪‌ ،‬والتشيكالت ‌الجمالية‪‌ .‬ومن ‌تلك ‌اإلجراءات‪‌ :‬التصرف ‌الموضعي ‌في‌‬
‫الكم ّي ‌الذي‌يتكفل‌به‌الحذف‪‌،‬‬
‫مكونات‌الجملة‌المتمثل‌في‌تقنية‌التقديم‌والتأخير‪‌،‬والتصرف‌ ّ‬
‫إلى‌جانب‌إجراء‌نحوي‌آخر‌له‌عالقة‌قوية‌بالمقاصد‌البالغية‌وهو‌اإلسناد‌الفعلي‌واإلسناد‌‬
‫‌أن ‌الصورة ‌الشعرية‌‬
‫االسمي‪‌ ،‬وأخي ار ‌إجراء ‌تركيبي ‌بالغي ‌صرف ‌هو ‌التصوير ‌الفني‪‌ ،‬بما ّ‬
‫تركيب‌ذهني‌ونفسي‌ولغوي‌مهما‌قلّت‌العناصر‌الداخلة‌في‌تركيبه‪‌‌.‬‬

‫شير ‌فيه‌إلى‌العالقة‌الدقيقة‌بين‌التنظيم‌النحوي‌للتركيب‌‬
‫‌وبين‌يدي ‌هذا‌الباب ‌تمهيد‪‌ ،‬أ‌ُ َ‌‬
‫واألغراض‌البالغية‪‌،‬وهي‌تلك‌العالقة‌التي‌صاغ‌فيها‌عبد‌القاهر‌الجرجاني‌نظريته‌الرائدة‌‬
‫في‌النظم‪‌‌.‬‬

‫تال ‌ذلك ‌فصل ‌ثان ‌عنوانه‪‌ "‌ :‬المستوى ‌اإلفرادي ‌" ‌ ُدرست ‌فيه ‌ظواهر ‌إفرادية‪‌ ،‬عرفت‌‬
‫البالغة‌العربية‌والنقد‌العربي‌القديم‌كثيرا‌منها‪‌،‬ولو‌بطريقة‌تطبيقية‌في‌نقد‌الشعر‌والدراسات‌‬
‫القرآنية‪‌،‬وقد‌عاد‌التركيز‌عليها‌حديثا‌مع‌مناهج‌النقد‌الجديدة‌والنظريات‌الحديثة‪‌،‬كالتداولية‌‬

‫‌ه‬
‫يف‌والتنكير‪‌،‬‬
‫والسميائية‌واألسلوبية‪‌.‬من‌تلك‌الظواهر‌اللغوية‪‌:‬الموصوالت‌واإلشاريات‪‌،‬والتعر ‌‬
‫إضافة‌إلى‌ظواهر‌إفرادية‌أخرى‌خصت‌بدراسة‌مستقلة‪‌.‬‬

‫وينتهي‌الباب‌بفصل‌ثالث‌انصرف‌البحث‌فيه‌إلى‌المستوى‌الصوتي‪‌،‬الذي‌ال‌تخفى‌‬
‫‌‬
‫أهميته‌عند‌خوض‌موضوع‌يتصل‌بالشعر‌والشعرية‪‌.‬فكان‌الحديث‌عن‌الموسيقى‌الخارجية‪‌،‬‬
‫مع ‌التركيز ‌على ‌ظاهرة ‌التصريع ‌بوصفها ‌الخصوصية ‌الوحيدة ‌تقريبا ‌الفارقة ‌للمطلع ‌عن‌‬
‫سائر ‌األبيات ‌في ‌مسألة ‌الموسيقى ‌الخارجية‪‌ ،‬ثم ‌الموسيقى ‌الداخلية ‌وما ‌يعضد ‌به ‌جر ُس‌‬
‫الموسيقى‌الخارجية‌ويمدها‌به‌من‌قوة‌أثر‪‌.‬‬
‫ّ‬ ‫األصوات‌واإليقاع‌‬

‫‌خص‌‬
‫ولما ‌كان ‌للبديع ‌موقع ‌خاص ‌في ‌الشعرية ‌العربية‪‌ ،‬ومكانة ‌كبيرة ‌في ‌البالغة ُ‬
‫ّ‬
‫بالدراسة‌في‌آخر‌الفصل‪‌،‬السيما‌أنه‌الفن‌الذي‌طالما‌كان‌عرضة‌للهجوم‌بدعوى‌التكلف‌‬
‫والتصنع‪‌ .‬حتى‌علت‌األصوات‌أخيرا‌مطالبة‌بإنصافه‌واعادة‌النظر‌في‌تحديد‌قيمته‌الفنية‪‌،‬‬
‫بعد‌التأثر‌بمناهج‌الدرس‌األسلوبي‌الحديث‪‌،‬وما‌تك ّشف‌مع‌لسانيات‌النص‌وتحليل‌الخطاب‌‬
‫من‌إمكانات‌جمالية‌وخصوصيات‌نصية‌ينهض‌بها‌البديع‌أكثر‌من‌غيره‪‌.‬‬

‫وعي ‌في ‌اختيارها ‌وترتيبها ‌الجانب‌‬


‫‌ر َ‬‫‌مطالع ُ‬
‫َ‬ ‫وقد ‌تخللت ‌تلك ‌المسائل ‌والقضايا ‌دراسةُ‬
‫الفني‪‌،‬وقدرتها‌على‌توكيد‌الظاهرة‌الشعرية‌المتوخاة‪‌،‬وكان‌لمطالع‌الثالوث‌العباسي‌أبي‌تمام‌‬
‫الت‌الشعر‌وع ّزاه‌ومناته‪‌،‬الذين‌ظهرت‌على‌‬
‫ُ‌‬ ‫والبحتري‌والمتنبي‪‌،‬الذين‌جعلهم‌ابن‌األثير‌"‌‬
‫النصيب ‌األكبر‪‌ ،‬لكونهم ‌الشعراء ‌الذين ‌ذهبوا ‌في ‌اإلبداع‌‬
‫ُ‬ ‫أيديهم ‌حسناته ‌ومستحسناته ‌" ‌‬
‫الشعري‪‌،‬وتجويد‌اإلبتداءات‌كل‌مذهب‪‌،‬وجاؤوا‌في‌ذلك‌بكل‌عجيبة‌وغريبة‪‌،‬وصاروا‌مرجع‌‬
‫البالغيين‌في‌ضرب‌األمثلة‌واقامة‌الشواهد‌لبراعة‌المطلع‪‌،‬وكانوا‌القطب ‌الذي‌دارت‌عليه‌‬
‫رحى‌النقد‌دهرا‌طويال‪‌ .‬كما‌أن‌توزعهم‌على‌مختلف‌العصور‌العباسية‌الفرعية‌يتيح‌رصد‌‬
‫ة‌وتناميها‌من‌عصر‌إلى‌آخر‪‌.‬‬
‫َ‬ ‫هذه‌الظاهر‬

‫وكان ‌الميل ‌إلى ‌االكتفاء ‌بمطالع ‌قليلة ‌تُ َّ‬


‫ركز ‌الدراسة ‌عليها‪‌ ،‬سعيا ‌إلى ‌التركيز ‌بتقليل‌‬
‫المكثّر‪‌،‬وتجميع‌المشتت‌وتكثيفه‪‌،‬خصوصا‌إذا‌كانت‌تلك‌المطالع‌من‌الغنى‌والداللة ‌على‌‬

‫‌و‬
‫َّ‬
‫ة‌بحيث‌تصلح‌للنمذجة‪‌،‬بدل‌طريقة‌حشد‌األبيات‌الكثيرة‌ومراكمتها‌في‌بناء‌فوضوي‌‬
‫الظاهر‬
‫من‌شأنه‌تشتيت‌الذهن‪‌،‬واضاعة‌الخيوط‌التي‌تشده‌إلى‌الظاهرة‌المدروسة‪‌‌‌.‬‬

‫وفي‌نهاية‌الدراسة‌خاتمة‪‌ ،‬جمعت‌أشتات‌البحث‌في‌حوصلة‌تضم‌أهم‌نتائجه‌وتكثّف‌‬
‫أفكاره‌األساسية‪‌‌.‬‬

‫‌أن‌‬
‫‌جدة ‌موضوع ‌البحث‪‌ .‬صحيح ّ‬
‫وربما ‌لن ‌يكون ‌من ‌قبيل ‌االدعاء ‌اإلشارة ‌إلى ّ‬
‫المصنفات‌البالغية‌والبديعية‌التراثية‌حافلة‌بالبحث‌في‌"‌براعة‌المطلع‪‌،‬واالستهالل‌"‪‌،‬إال‌أن‌‬
‫الدراسات‌األكاديمية‌الحديثة‌للمطلع‌نادرة‌جدا‪‌ .‬فباستثناء‌مقاالت‌أو‌أجزاء‌من‌مقاالت‪‌،‬ال‌‬
‫يعرف ِ‬
‫‌كتاب ‌مخصص ‌للبحث ‌في ‌المسألة‪‌ ،‬إال ‌أن ‌يكون ‌كتاب ‌الدكتور ‌عبد ‌الحليم ‌حفني‌‬ ‫ُ‬
‫وعنوانه‌"‌مطلع‌القصيدة‌العربية‌وداللته‌النفسية‌"‪‌،‬فهو‌الكتاب‌الحاضر‌على‌طرف‌الثُّمام‌‬
‫في‌هذا‌الموضوع‪‌،‬وهو‌كتاب‌رائد‪‌،‬غير‌أن‌صاحبه‌جعل‌بوصلته‌الداللة‌النفسية‌كما‌هو‌‬
‫الت‌مغيبة‌أو‌ال‌‬
‫ّ‬ ‫ّبين‌من‌العنوان‪‌،‬ومع‌أهمية‌هذه‌الداللة‌ومركزيتها‪‌،‬إال‌أن‌غيرها‌من‌الدال‬
‫تأتي ‌إال ‌عرضا‪‌ ،‬إلى ‌جانب ‌إغفال ‌المكونات ‌الجمالية ‌للمطلع ‌والمتمثلة ‌أساسا ‌في‌‬
‫خصوصياته‌اللغوية‌واألسلوبية‪‌.‬‬

‫وقد‌يكون‌في‌سحر‌العنونة‌في‌القصيدة‌العربية‌الحديثة‪‌،‬ما‌صرف‌النيات‌عن‌البحث‌‬
‫في‌مطلع‌القصيدة‌التراثية‪‌،‬السيما‌مع‌ما‌جاءت‌به‌السميولوجيا‌من‌لفَتات‌ونظرات‌شدت‌‬
‫بها‌االهتمام‌إلى‌العنوان‪‌،‬واذا‌كان‌لكل‌قضية‌أو‌لكل‌"معنى‌نفي‌واثبات‌"‌كما‌قال‌المعري‪‌،‬‬
‫فالمنتظر ‌أن ‌تلفت ‌دراسة ‌العنوان ‌اهتمام ‌الباحثين ‌إلى ‌دراسات ‌مقارنة ‌لمطلع ‌القصيدة‌‬
‫‌قيمة ‌أفادت ‌في ‌بعض ‌جزئيات ‌هذه‌‬
‫القديمة‪‌ .‬وبالمناسبة ‌يجب ‌اإلقرار ‌بوجود ‌كتب ‌حديثة ّ‬
‫الدراسة‌ومباحثها‪‌،‬والمقصود‌بها‌تلك‌الكتب‌المخصصة‌للعنونة‌واالستهالل‌من‌وجهة‌نظر‌‬
‫سميولوجية‪‌.‬‬

‫وذكر‌المؤلفات‌السابقة‌واالمتنان‌ألصحابها‪‌،‬يدعوني‌إلى‌إزجاء‌الشكر‌لكل‌من‌كان‌‬
‫له ‌فض ُل ‌توج ٍ‬
‫يه ‌أو ‌تنبيه ‌في ‌إنجاز ‌هذه ‌الرسالة‪‌ ،‬وعلى ‌رأس ‌هؤالء ‌األستاذ ‌الدكتور ‌محمد‌‬

‫‌ز‬
‫منصوري‌الذي‌لم‌يتردد‌في‌التفضل‌باإلشراف‌على‌الرسالة‪‌،‬فله‌جزيل‌الثناء‌على‌ما‌قدمه‌‬
‫من‌توجيه‌إلى‌مسالك‌الرسالة‪‌،‬وتسديد‌إلى‌مظان‌البحث‪‌.‬‬

‫ح‌‬
‫ياض‌ثناؤه ـ ـ ـ ــا‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌تبغي‌الثناء‌على‌الحيا‌فتفو ُ‌‬
‫ُ‌‬ ‫كي‌رائحة‌الر‬
‫َ‌وَ‌ذ ُّ‌‬

‫هد‌ال ُ‌مِ‌ق ّل‌فكيف‌بابن‌كريمـة‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌تُوليه‌خيرا‌واللسان‌فصي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‌‬


‫ـح‌‬ ‫ج ُ‌‬
‫ُ‌‬

‫‌‬

‫‌ح‬
‫مـدخــــــــــــل‬

‫العصر العباسي‪:‬‬

‫التحوالت بين الفضاء الشعري واألفق النقدي‬


‫لم يكن انتقال مقاليد الحكم من أيدي األمويين إلى أيدي العباسيين‪ ،‬من البساطة‬
‫واألحادية بحيث يمكن أن يكون حديث سياسة فحسب‪ ،‬على ما يتضمنه معنى السياسة من‬
‫خطر وفاعلية في سيرورة التاريخ‪ .‬ذلك أن هذا الجانب إنما هو واحد من جوانب كثيرة‬
‫ومتنوعة‪ ،‬تماشجت وتراكمت لتشكل ذلك الموروث الحضاري الثقيل‪ ،‬المتجسد في عصر‬
‫تأبى الذاكرة الحضارية إال أن تصفه بعصر األمة الذهبي الذي تفتقت فيه أكمام ثقافتها‪،‬‬
‫ورسخت فيه شخصيتها الحضارية في تربة سقيت أول ما سقيت من منابع ثرة مختلفة‪ ،‬على‬
‫وفجرت كوامن‬
‫رأسها اإلسالم الحنيف‪ ،‬بما جاء به من قيم حررت العقل‪ ،‬وأطلقت الفكر‪ّ ،‬‬
‫اإلبداع في النفس اإلنسانية‪.‬‬

‫لذلك لم يكد يمر على بزوغ شمسه قرن ونصف من الزمن‪ ،‬حتى كان العرب والشعوب‬
‫التي اهتدت إلى اإلسالم أو استظلت بظله‪ ،‬تدخل عهدا جديدا من الحضارة في هذا العصر‪،‬‬
‫مرو ار بأزمنة سابقة كانت روافد أساسية استمد منها مادته‪ ،‬فكانت هذه الحقب كلها حلقات‬
‫يشد بعضها بعضا‪ ،‬ومراحل يأخذ بعضها برقاب بعض‪ ،‬في مسيرة قطع فيها هذا التحول‬
‫الحضاري محطات مختلفة‪ ،‬بدءا من المدينة المنورة فدمشق‪ ،‬فبغداد العاصمة السياسية‬
‫والحضارية لتلك الفترة التي قُ ّدر لها أن تكون مصبا جامعا لتلك الروافد‪ ،‬بعد مرحلة جنينية‬
‫قدر لمكة المكرمة أن تكون الرحم التي تحتويها‪.‬‬
‫ّ‬

‫ومن هنا فليس من النظر السديد والمنهج المستقيم‪ ،‬أخذ هذه األزمنة الحضارية أبعاضا‬
‫متفرقة مهما بلغت الحوادث السياسية التي وقفت فواص َل بينها شدة وتأزما‪ ،‬ومهما كانت‬
‫قساوة الظروف التي واكبت االنتقال من السابقة إلى الالحقة منها‪ ،‬ذلك أن هذا التدافع‬
‫والتغالب بينها إنما هو السطح الظاهر منها والذي هو دائما محل االصطخاب والهدير‪،‬‬
‫ووراء ذلك وتحته أعماق هادئة تتواصل فيها المسيرة الحضارية جيال بعد جيل‪.‬‬

‫ومن نافلة القول أن ثمة عوامل تضاف إلى عامل الدين الجديد‪ ،‬أدت إلى ذلك التطور‬
‫الحضاري الكبير‪ ،‬منها عامل التثاقف مع اآلخر‪ ،‬الذي جعل العصر العباسي ملتقى لثقافات‬
‫متنوعة المنازع مختلفة المشارب‪ ،‬هي حصيلة اختالف األصول اإلثنية المكونة للبنية‬

‫‪41‬‬
‫المجتمعية فيه فقد ‪ ":‬كان من أثر اختالف السكان في المملكة اإلسالمية‪ ،‬وانتسابهم ‪ -‬من‬
‫حيث أصولهم – إلى أمم مختلفة[‪ ]...‬أن انتشرت في المملكة اإلسالمية ثقافات مختلفة ألمم‬
‫مختلفة [‪ ]...‬كان هناك لقاح بين الثقافات‪ ،‬ونشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة‪ ،‬تحمل صفات‬
‫من هذه وتلك‪ ،‬وصفات جديدة لم تكن في هذه وال تلك‪ ،‬وأصبح لها طابع خاص يميزها عما‬
‫سواها‪ .‬وكما ك ان في المملكة اإلسالمية أمم مختلفة‪ ،‬اشتهرت كل أمة بميزة‪ ،‬كذلك امتازت‬
‫األمم المختلفة بميزات في العقلية‪ ،‬تبعها ميزات في الثقافة "‪.1‬‬

‫والذي يعنينا هنا‪ ،‬الثقافة األدبية التي كان تأثير الفرس فيها أظهر من تأثير غيرهم‪ ،‬بل‬
‫استحالت الثقافة الفارسية أحيانا منفذا تعبر منه الثقافات األخرى إلى الثقافة العربية‪ ،‬وحسبنا‬
‫أن نذكر هنا حكايات ( كليلة ودمنة ) ذلك األثر الخالد الذي عبر من األدب الهندي إلى‬
‫األدب العربي‪ ،‬متخذا من الفارسية وسيطا بينهما‪ .‬إضافة إلى كتب أخرى مترجمة ترجمة‬
‫مباشرة أو متأثرة بما في الثقافة واألدب الشرقيين‪ ،‬السيما ما جاء من الفرس والهند والتي‬
‫"‪ ...‬فيها من أدب شرقي فارسي أو هندي أكثر مما فيها من أثر يوناني‪ .‬ففيها ِ‬
‫الح َكم عن‬
‫رج ِمهر أكثر مما عن أفالطون وأرسطو‪ ،‬وفيها نظام الحكم الفارسي ال نظام‬
‫أردشير و ُبز ُ‬
‫الحكم اليوناني‪ ،‬وفيها تصور للعدل وطبقات الناس‪ ،‬كما يتصوره الفرس‪ ،‬وفيها توقيعات‬
‫الملوك وقصصهم مع رعيتهم على النحو الفارسي ال النحو اليوناني‪ ،‬وعلى الجملة فنفوذ‬
‫الفرس في األدب أكثر من نفوذ اليونان‪.2".....‬‬

‫كان من أثر هذه المثاقفة األدبية والحياة المدنية أن ترسخت فكرة الشاعر الصانع في‬
‫العصر العباسي‪ ،‬ونقول‪ ":‬ترسخت " ألننا ال نريد القفز على من ُعرف قبل هذا العهد من‬
‫شعراء كانوا ينصرفون إلى شعرهم انصرافا كليا‪ ،‬يهذبونه ويعيدون فيه النظر‪ ،‬غير واثقين‬

‫أحمد أمين‪ :‬ضحى اإلسالم‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بيروت‪ ،‬ط‪6002 ،4.‬م‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.436.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫السابق‪ :‬ص‪.682.‬‬

‫‪41‬‬
‫بالبديهة واالرتجال‪ ،‬وهم الشعراء الذين أُطلقت عليهم تسمية عبيد الشعر‪ ،‬ولقد كان بعضهم‬
‫يتحاشى عرض قصيدته على الناس قبل أن تمكث عنده حوال كامال يقلّب فيها وجوه الفكر‪.‬‬
‫ومن أشهر أولئك الشعراء زهير بن أبي سلمى الذي كان هو نفسه "يسمي ُك ْبر قصائده‬
‫الحوليات "‪ ،1‬إشارة إلى ذلك الجهد الكبير الذي يبذله في تنقيح شعره وتحكيكه مدة طويلة‬
‫قبل إذاعته في الناس ‪.‬‬

‫وقد أورد ابن قتيبة في مقدمته الرائدة لكتابه " الشعر والشعراء " أبياتا لشعراء سبقوا‬
‫العاملي‬
‫ّ‬ ‫الرقاع‬
‫دي بن ِّ‬
‫العصر العباسي‪ ،‬يصرحون فيها بمذهبهم هذا في فنهم‪ ،‬منهم َع ّ‬
‫وسويد بن ُك ارع ( ت‪401 .‬هـ )‪ ،‬فروى لألول قوله‪:‬‬
‫(ت‪51‬ه )‪ُ ،‬‬
‫‪2‬‬
‫اد َها‬ ‫قوم مْيَلها ِ‬
‫وسَن َ‬ ‫ٍ‬
‫وقصيدة قَ ْد بِ ُّ‬
‫َحتى أُ ِّ َ َ َ‬ ‫ت أَ ْجمعُ َش ْملَهـا‬

‫يم ثِقَافُهُ ُم َ‬
‫نآدهـَا‬ ‫ِ‬
‫َحتى ُيق َ‬ ‫وب قََناتِ ِه‬ ‫َنظَر المثَقّ ِ‬
‫ف في ُك ُع ِ‬
‫َ ُ‬
‫وللثاني‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫ُص ِادي بِها ِس ْربا ِم َن الو ْح ِ‬
‫ش ُنزَعا‬ ‫أ َ‬ ‫اب القَ َو ِافي َكأَن َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫يت بِأَ ْبو ِ‬
‫أبِ ُ‬
‫َ‬
‫فأه َج َع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫يد ْ‬‫ون ُس َح ْي ار أَ ْو ُب َع ُ‬
‫َي ُك ُ‬ ‫أُ َكالِ ُئهَا َحتى أُ َعِّر َس َب ْع َد َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬

‫اء الت َرِاقي َخ ْشَية أَ ْن تَطل َع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬


‫َوَر َ‬ ‫إِ َذا ِخ ْف ُ‬
‫ت أَ ْن تُْرَوى َعلَي َرَد ْدتُهَا‬

‫فَثَق ْفتُهَا َح ْوال َج ِريدا َو َم ْرَبعَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫َو َجش َمنِي َخ ْو ُ‬


‫ف ْاب ِن َعف َ‬
‫ان َرد َها‬

‫يع َوأَ ْس َم َع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان ِفي َن ْف ِسي َعَليهَا ِزَيـ َ‬
‫َفلَ ْم َأر إال أَ ْن أُط َ‬ ‫ـادةٌ‬ ‫َوقَ ْد َك َ‬

‫‪1‬‬
‫ابن قتيبة‪ :‬الشعر و الشعراء‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد شاكر‪ ،‬دار اآلثار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،6040 ،4.‬ج‪ ،4.‬ص‪.77.‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.78-77.‬‬
‫‪3‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،4 .‬ص‪.78.‬‬

‫‪42‬‬
‫أقوم‪ ،‬المثقف‪ ،‬الثقاف "‪ ،‬تجعل منه شاعر صنعة‬
‫بت أجمع‪ّ ،‬‬‫فألفاظ عدي بن الرقاع‪ّ " :‬‬
‫يقضي ليله في جمع مواد قصيدته كأنه ّبناء يرصف الحجر إلى الحجر‪ ،‬أو مثقف رماح ال‬
‫يفتأ يسلك قنواتها في الثقاف‪ ،‬حتى يستقيم له ما اعو ّج من ُعقدها‪ .‬كما تُظهر اكتراثه لمآخذ‬
‫النقاد الذين يعيبون عليه ما قد يشوبها من سناد‪.‬‬

‫فيخرج معاناته مع مخاض القصيدة في تلك الصورة المجازية التي‬


‫أما سويد بن كراع‪ُ ،‬‬
‫عضد فكر الصنعة في أبيات عدي‪ ،‬فهو في تطلّبه القصيدة صياد يراوغ طريدته الوحشية‪،‬‬
‫تَ ُ‬
‫يالحقها حتى الساعات المتأخرة من الليل‪ ،‬فال يطيب له النوم إال بعد إيقاعها في شراكه قبل‬
‫السحر أو ُب عيده‪ ،‬أما شعوره بجمهور المتلقين والنقاد فيتأزم ليصبح أكثر من اكتراث كما عند‬
‫خفت‪ ،‬خشية "‪ ،‬حتى ليظلف نفسه عن أن يزيد على قصيدته ما‬ ‫ُ‬ ‫السابق‪ ،‬إنه الخوف " إذا‬
‫يكون مظنة السقوط والنقد‪.‬‬

‫وأبيات سويد هذه‪ ،‬شاهد تاريخي وفني قوي لما كان للناقد أو المتلقي من سلطان على‬
‫النفوس حتى في تلك العصور المتقدمة‪ ،‬ولِما كان يتمتع به من رهبة في صدور الشعراء‪،‬‬
‫خلو الشعر العربي القديم من المطوالت‪،‬‬
‫الدارس أمام قضية ّ‬
‫َ‬ ‫وربما أوقف معنى البيت األخير‬
‫أو ِّ‬
‫شحها فيه‪ ،‬وهو ما انبنى عليه االفتقار إلى بعض الفنون الشعرية التي من جملة ما‬
‫أوضح عالقة هذا بـ" طاعة " الشعراء للنقاد‬
‫َ‬ ‫تعتمد عليه طول النفس الشعري كالمالحم‪ ،‬و‬
‫القدماء الذين ينفرون من التطويل‪ ،‬ويفضلون اإليجاز والتركيز‪ ،‬جريا مع السنة في البالغة‬
‫العربية القديمة‪ ،‬السيما ما تعلق منها بالشعر‪.‬‬

‫هذا األمر صحيح‪ ،‬غير أن الصحيح أيضا أن الصناعة األدبية عموما والشعرية‬
‫خصوصا‪ ،‬ازدادت رسوخا وشيوعا في العصر العباسي‪ ،‬بفعل ما شهده من انقالب حضاري‬
‫شامل‪ ،‬وتعقّد في حياته المدنية‪ ،‬ونسيجه االجتماعي‪ ،‬وتغير في الذوق العام‪ ،‬فصار الشعر‬
‫المنمقة‪ ،‬والثوب‬
‫ّ‬ ‫المنيف‪ ،‬والحديقة‬
‫مظه ار من مظاهر الصناعة‪َ ،‬مثله في ذلك مثل القصر ُ‬
‫ال ُمو ّشى‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫ويتصل بغلبة الصناعة على شعر هذه المرحلة‪ ،‬التفنن المذهبي وتفاوت الشاعر الواحد‬
‫في فنون القول الشعري‪ ،‬بما ال يكون من السهل معه الذهاب مذهب الذين يجازفون باختزال‬
‫مذاهب الفن الشعري في العصر العباسي في قطبية تقابلية‪ ،‬طرفها األول أهل الصنعة‬
‫والثاني أهل الطبع‪ ،‬جريا مع منطق الثنائيات الضدية الذي كثي ار ما يكون مظنة االختزال‬
‫المخ ّل‪.‬‬
‫ُ‬
‫والحق أن الدكتور محمد مصطفى أبا شوارب لم ُيبعد حين بنى كتابه (شعرية التفاوت)‬
‫على نقد هذه الفكرة ‪ ،‬يقول ‪ ":‬وربما سمح لنا ذلك كله بنفي فكرة النقاء المذهبي واإلخالص‬
‫المدرسي عند تناول شعر هذه المرحلة بالدرس والتنظير‪ ،‬و ِ‬
‫اعتقاد فكرة تعدد االتجاه‪ ،‬والتداخل‬
‫الفني أساسا لولوج عالم الشعر العباسي [‪ ]...‬واذا كان هذا االعتقاد يبدو في نظر الكثيرين‬
‫مخالفا لما درج عليه يقين أغلب الباحثين والدارسين من وجود مدارس فنية ذات مالمح ثابتة‬
‫أبرزها‪ ،‬على ا ألقل‪ ،‬مدرستا المحافظين من أهل الطبع‪ ،‬والمجددين من أهل الصنعة فإن ما‬
‫يؤكد ذلك االعتقاد‪ ،‬إضافة إلى ما طرح في الفصلين السابقين ‪ ،‬يسطع مع استقراء نصوص‬
‫هؤالء الشعراء أنفسهم "‪.1‬‬

‫ُيذكر أن الجاحظ جعل تفاوت الشاعر في فنه سببا لتفضيله وتقديمه على الشعراء‬
‫ومرد ذلك عنده أن الشعر الذي يأتي دائما على َسنن واحد‬
‫المعدودين مع أصحاب الصنعة‪ّ ،‬‬
‫جميع شعره‪،‬‬
‫ِ‬ ‫تصنع‪ ،‬وهو المفهوم من قوله ‪ ... ":‬وكذلك ُّ‬
‫كل من َجود في‬ ‫من الفخامة دليل ّ‬
‫أبيات القصيدة كلّها مستوية في‬
‫َ‬ ‫خرَج‬ ‫ووقف عند ِّ‬
‫كل بيت قاله‪ ،‬وأعاد فيه النظَر حتى ُي ِ‬

‫‪1‬محمد مصطفى أبو شوارب‪ :‬شعرية التفاوت مدخل لقراءة الشعر العباسي‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬
‫ط‪6007 ،4.‬م‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫‪1‬‬
‫الجودة " ‪ ،‬وهو قول بناه على مقولة لألصمعي يقول فيها‪ ":‬زهير بن أبي ُس ْل َمى‪ ،‬والحطيئةُ‬
‫عبيد ِّ‬
‫الشعر"‪.2‬‬ ‫وأشباههما‪ُ ،‬‬

‫أما مراوحة الشاعر بين الفخامة تارة‪ ،‬والبساطة تارة أخرى فهي دليل على الطبع‪،‬‬
‫عبر القدماء عن تفاوت شعره‬
‫الجعدي الذي ّ‬ ‫قدم النابغةَ‬
‫سالم الشاعر قياده للموقف‪ .‬لذلك ّ‬‫وا ِ‬
‫ّ‬
‫وخمار بِو ٍ‬
‫اف " يقول‪ ":‬وانما ال ّشعر المحمود كشعر‬ ‫ف بآالف ِ‬‫ط َر ٌ‬
‫بالعبارة االستعارية " ُم ْ‬
‫ٌ َ‬
‫وخمار بِو ٍ‬
‫اف‪ ،‬وقد كان يخالف‬ ‫ف بآالف ِ‬
‫ط َر ٌ‬
‫ورؤبة‪ ،‬ولذلك قالوا في شعره‪ُ :‬م ْ‬ ‫ِ‬
‫ٌ َ‬ ‫ي ُ‬ ‫الج ْعد ّ‬
‫النابغة َ‬
‫الرواة والشعراء "‪.3‬‬
‫في ذلك جميع ُّ‬

‫هذا إذا سلّمنا جدال بمقولة الطبع في الشعر‪ ،‬واال فإن للدكتور شوقي ضيف رأيا‬
‫مشهو ار خالف به هذا التقسيم المتوارث بين الطبع والصنعة‪ ،‬الذي صار في حكم القطعي‬
‫حتى إنه لم يفكر أحد في إعادة النظر فيه‪ .‬وشوقي ضيف يقر بالصنعة‪ ،‬ولكنه ينفي نفيا‬
‫صارما كفاية الطبع وحده في الفن عموما‪ ،‬وهو ما عّبر عنه بقوله ‪ ... ":‬ورأيت أن هذا‬
‫التقسيم ال يقوم على أساس صحيح‪ ،‬وما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن؟‪ .‬إن كل شعر‬
‫متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع‪ .‬وهل هناك شعر ال‬
‫ٌ‬
‫يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه وموضوعاته ومعانيه؟ "‪.4‬‬

‫ويؤكد رأيه هذا داعيا إلى تصحيح تلك الفكرة بقوله ‪ ":‬أما الفكرة التي تذهب عندنا إلى‬
‫تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة‪ ،‬والتي نرى امتدادها في العصر الحديث‬
‫فأكبر الظن أنها في حاجة إلى شيء من التصحيح‪.5"...‬‬

‫‪1‬‬
‫الجاحظ‪ :‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم محمد هارون‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪6003 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.43.‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه في الشعر العربي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،43.‬ص‪.8-7.‬‬
‫‪5‬‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.60.‬‬

‫‪45‬‬
‫وهو رأي وجيه‪ ،‬خصوصا إذا كان المقصود بالطبع االرتجا َل المطلق وعدم النظر‬
‫الفكري في عمل القصيدة‪ ،‬وهي فكرة يمكن ردها بأن الشاعر أو الفنان تعميما يمكن أن‬
‫يكون له من المهارة والدربة ما يستطيع به أن يغطي كل أثر للصنعة‪ ،‬ويوحي للمتلقي بأن‬
‫جبور عبد النور بعد‬ ‫عمله كان وليد البساطة والعفوية‪ ،‬وفي هذا السياق ِ‬
‫يرد قول الدكتور ّ‬
‫تعريفه للعفوية )‪ ،(spontanéité‬فيرى أنها كما تكون عن أصالة وطبع‪ ،‬يمكن أن‬
‫ولكن المهارة التقنية تخفي معالم هذا الجهد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تكون"‪...‬ناجمة عن جهد عميق في التنفيذ‪،‬‬
‫وتُبرز األثر في بساطة آسرة "‪.1‬‬

‫لذلك يطرح الدكتور شوقي ضيف فكرته البديلة عن الطبع والصنعة‪ ،‬في تقسيم ثالثي‬
‫فتصنع‪ ،2‬مستندا‬
‫ّ‬ ‫تابع لمراحل تاريخية‪ ،‬قطعها الشعر العربي من شعر صنعة إلى تصنيع‬
‫إلى أن هذا الشعر لم يشهد تطو ار واسعا في الموضوعات واألغراض األساسية‪ ،‬وكل ما‬
‫ظهر فيه أثر التطور إنما هو جانب " الصناعة نفسها‪ ،‬أي في الفن الخالص وما يرتبط به‬
‫من مصطلحات وتقاليد "‪.3‬‬

‫ولبشار بن ُبرد مع نقاده‪ ،‬أخبار تؤكد فكرة التفاوت في مستويات التعبير عند الشاعر‬
‫ِ‬
‫مهرويه لبشار ‪ :‬إنك تجيء بالشيء الهجين المتفاوت ‪ ،‬بينما‬ ‫الواحد‪ ،‬فقد ‪ ":‬قال خالّد بن‬
‫تقول شع ار يثير النقع ويخلع القلوب ‪ ،‬مثل قولك ‪:‬‬

‫س أَ ْو ُن ْم ِط َر الد َما‪.4‬‬
‫اب الش ْم ِ‬ ‫ِ‬
‫َهتَ ْكَنا ح َج َ‬ ‫ض ِرية‬
‫ضَبة ُم َ‬
‫إِ َذا ما َغ ِ‬
‫ض ْبَنا َغ ْ‬ ‫َ‬
‫إذ بك تقول ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫جبور عبد النور‪ :‬المعجم األدبي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،4581 ،6.‬ص‪.484.‬‬
‫‪2‬‬
‫شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه في الشعر العربي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.40.‬‬
‫‪3‬‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.7.‬‬
‫‪ 4‬في رواية ‪ ":‬أو تُ ِ‬
‫مطر ِّ‬
‫الد َما "‪ ،‬ينظر‪ :‬أبو الفرج األصفهاني‪ :‬كتاب األغاني‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪4583 ،2.‬م‪،‬‬
‫ج‪ ،3.‬ص‪.412 .‬‬

‫‪60‬‬
‫ب الخل ِفي الـزْي ِت‬
‫ص ُّ‬
‫تَ ُ‬
‫ربابةُ ربةُ البيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـت‬ ‫ََ َ َ َ ْ‬
‫ك َح َس ُن الص ـ ـ ـ ـ ْو ِت‬
‫َوِدي ٌ‬ ‫لَها ع ْشر َدجاج ٍ‬
‫ات‬ ‫َ َ ُ َ َ‬
‫فقال له بشار ‪ٍّ :‬‬
‫لكل وجهٌ وموضع‪ ،‬فالقول األول جد‪ ،‬وهذا قلته في جاريتي ربابة‪ ،‬وأنا‬
‫ال آكل البيض من السوق‪ ،‬وربابة تجمع لي البيض‪ ،‬فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع‬
‫البيض‪ ،‬فهذا عندها أحسن من " قفا نبك " ولو أنشدتها من النمط األول ما فهمتْه "‪.1‬‬

‫ومثله ما أورده الحصري من تعقب بعض الناس لشعره بسبب هذا التفاوت‪ ،‬فكان أن‬
‫أجابه بقوله ‪ ":‬إنما الشاعر المطبوع كالبحر‪ :‬مرة يقذف صدفة‪ ،‬ومرة يقذف جيفة "‪.2‬‬

‫من الواضح إذا أن هذا التفاوت عند الشاعر الواحد كان حقيقة واقعة في العصر‬
‫العباسي‪ ،‬و أنه كان من الشيوع بحيث ش ّكل ظاهرة استرعت االنتباه‪ .‬إضافة إلى كونه منحى‬
‫فنيا‪ ،‬يعمد إليه الشاعر عن وعي‪ ،‬حتى ليجادل عنه ويبرره‪ ،‬وليس مرده ضعفا في السليقة‬
‫واجباال في القريحة‪ ،‬ولكنه جنوح الشاعر العباسي – عموما ‪ -‬إلى الواقعية في التعبير‬
‫والتوجه إلى جمهور المستمعين بما يناسب مقاماتهم‪.‬‬

‫وشعر بشار في جاريته ربابة‪ ،‬يشير إلى اتجاه جديد بدأ الشعر العباسي في هذه‬
‫المرحلة يمد فيه رواقه‪ ،‬والمقصود به الشعر الشعبي‪ .‬والحق أننا لن نتحدث عن تجديد جذري‬
‫شهده العصر العباسي هنا‪ ،‬إذا عنينا أن أفق األدب العربي في العصور السابقة لم َي ْخ ُل من‬
‫بعض ومضات الشعر الشعبي وبوادره على األقل‪ ،‬بما في ذلك العصر الجاهلي‪ ،‬السيما إذا‬

‫‪1‬‬
‫بشار بن برد‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬دار سحنون‪ ،‬تونس‪/‬دار السالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪6008 ،4.‬م‪ ،‬ج‪،4.‬‬
‫ص‪.57-52 .‬‬

‫‪2‬‬
‫الحصري‪ :‬زهر اآلداب وثمر األلباب‪ ،‬شرح صالح الدين الهواري‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بيروت‪6001 ،‬م‪ ،‬ج‪،4.‬‬
‫ص‪.675.‬‬

‫‪64‬‬
‫استقرينا المعاني الجزئية في شعر الصعاليك الناطق بالثورة والسخط على بعض أنماط الحياة‬
‫االجتماعية‪ ،‬والحديث بلسان الفقراء والخلعاء‪.‬‬

‫وربما أشكل على هذا‪ ،‬رأي إيفالد فاجنر الذي أجمله بقوله ‪ ... ":‬ونظ ار ألن الشعراء –‬
‫وان لم يصدروا عن األرستقراطية ‪ -‬قد توافقوا مع إيديولوجيا ال يمكن أن تنشأ إال في‬
‫األرستقراطية فإنه ال يمكن أن يوصف الشعر العربي القديم بأنه شعر شعبي ‪.1"...‬‬

‫غير أن صاحب هذه الرأي يبقى مطالبا بمفهوم " الشعر الشعبي " عنده‪ ،‬أو عن الحد‬
‫األدنى من الخصائص الفنية والمضمونية الواجب توفرها فيه‪ .‬فإن كان يقصد به شع ار قائما‬
‫كرسوا فنهم له‪ ،‬كان في‬
‫على قصائد مخصصة وظواهر اجتماعية معقدة‪ ،‬وشعراء معروفين ّ‬
‫خلو شعر المراحل السابقة من كل أثارة منه‪،‬‬
‫ذلك رجاء موافقته عليه‪ ،‬أما إذا كان يقصد ّ‬
‫فذلك محل للخالف مشروع‪ ،‬إذ ال نعدم توارد موضوعات من الشعر الشعبي عند الشاعر‬
‫الجاهلي تأتي ولو عرضا في ثنايا القصائد‪ .‬غاية ما هناك أن الطابع القبلي كان أغلب‬
‫صوت المجتمع‬
‫ُ‬ ‫عليه‪ ،‬إذ كانت قضايا القبيلة عند الشاعر هي " قضايا الشعب "‪ ،‬وظل‬
‫األشد تعقيدا من حياة القبيلة‪ ،‬مبحوحا واالستماع إليه مؤجال إلى عصر الحق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقضاياه‬
‫يتعقد فيه نسيج المجتمع وتتأزم قضاياه أكثر‪.‬‬

‫فليس من الغلو الذهاب إلى أن " الشعر العربي دائما كان موصوال بالشعب‪ ،‬اتصل به‬
‫في العصر الجاهلي‪ .‬فقد كان الشاعر وشعره صورة لقبيلته‪ ،‬وظلت له هذه الصلة في‬
‫العصر األموي‪ ،‬وان تحولت أحيانا من الشعور القبلي إلى الشعور الجماعي‪.2" ...‬‬

‫‪1‬‬
‫إيفالد فاجنر‪ :‬أسس الشعر العربي الكالسيكي‪ ،‬الشعر العربي القديم‪،‬ترجمة‪ :‬سعيد حسن بحيري‪ ،‬مؤسسة المختار‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪ ،6008 ،4.‬ص‪.70.‬‬
‫‪2‬‬
‫شوقي ضيف‪ :‬تاريخ األدب العربي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،4571 ،6.‬ج‪ ( 1.‬العصر العباسي الثاني )‪ ،‬ص‪– 155.‬‬
‫‪.100‬‬

‫‪66‬‬
‫لذلك ال يلبث إيفالد فاجنر أن يستدرك على رأيه السابق‪ُ ،‬م ِق ار بوجود مظاهر منه حتى‬
‫ولكن هذا ال يعني أن الشاعر لم يتوجه إال إلى جمهور‬
‫ّ‬ ‫في العصر الجاهلي بالقول ‪... ":‬‬
‫أرستقراطي‪ ،‬ألن المعايير التي أُنشئت في األرستقراطية من المؤكد بوجه عام أنه قد اعترف‬
‫البدو بأنها نموذجية‪ ،‬وم ن هذه الناحية وجدت للبدوي غير المنتمي إلى الطبقة العليا إمكانية‬
‫االتحاد ( التماهي )‪ .‬وهكذا يمكن من جهة التلقي التحدث عن شعر شعبي "‪.1‬‬

‫توسم‪،‬‬
‫ومع إطاللة العصر العباسي األول‪ ،‬بدأت مالمح هذا االتجاه تتميز وقسماته تُ ّ‬
‫مع تواري صوت القبيلة الذي ميز سحناءه في العصور السابقة‪ ،‬إذ " ‪ ...‬أخذ يغلب الشعور‬
‫بالروح الجماعية ويقل الشعور بالروح القبلية "‪ ،2‬ومع مضي الزمن وظهور المجتمع الجديد‪،‬‬
‫وقيمه المجتمعية وأنماطه المستحدثة‪ ،‬وتعقد قضاياه وتأزمها وحلول العصر العباسي الثاني‬
‫"‪ ...‬نضب هذا الشعور جدا بينما ظل الشعور بالروح الجماعية حيا مشتعال "‪.3‬‬

‫كل أولئك كان إيذانا بحدوث تحول ملحوظ في الحساسية الشعرية لهذا العصر‪ ،‬كان‬
‫‪4‬‬
‫‪ ،‬فقد سئل‬ ‫من حملة لوائه بشار بن برد ( ت‪428.‬هـ ) كما رأى ذلك ‪ -‬بحق – أودنيس‬
‫‪":‬بم فقت أهل عمرك وسبقت أعل عصرك‪ ،‬في حسن معاني الشعر‪ ،‬وتهذيب ألفاظه ؟ فقال‪:‬‬
‫ألني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي‪ ،‬ويناجيني به طبعي‪ ،‬ويبعثه فكري‪ ،‬ونظرت إلى‬
‫مغارس الفطن‪ ،‬ومعادن الحقائق‪ ،‬ولطائف التشبيهات‪ ،‬فسرت إليها بفهم جيد‪ ،‬وغريزة قوية‪،‬‬
‫فأحكمت سبرها‪ ،‬وانتقيت ُح ّرها‪ ،‬و كشفت عن حقائقها‪ ،‬واحترزت من متكلفها وال واهلل ما ملك‬
‫اإلعجاب بشيء مما آتي به "‪.5‬‬ ‫قيادي قطُّ‬
‫ُ‬

‫‪1‬‬
‫إيفالد فاجنر‪ ،‬أسس الشعر العربي الكالسيكي الشعر العربي القديم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.70.‬‬
‫‪2‬‬
‫شوقي ضيف‪ :‬تاريخ األدب العربي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.100.‬‬
‫‪3‬‬
‫السابق‪ :‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫أدونيس‪ :‬ديوان الشعر العربي‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بيروت‪ ،‬ط‪4521 ،4.‬م‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.6 – 4 .‬‬
‫‪5‬‬
‫االحصري‪ :‬زهر اآلداب وثمر األلباب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.412.‬‬

‫‪63‬‬
‫التحول في سير الشعر العربي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يستخلص أدونيس من هذه اإلجابة بعض عالمات‬
‫فنا‪ ،‬فقد صار الشاعر العربي يومذاك مشغوال بهاجس كيفية التعبير‪،‬‬ ‫أن الشعر صار ًّ‬
‫منها ّ‬
‫أن‬
‫يعد يرضى بك ّل ما تُلقيه إليه بديهته‪ ،‬ومنها ّ‬
‫إضافة إلى هاجس التعبير نفسه‪ ،‬بما ّأنه لم ُ‬
‫خاصية‬
‫ّ‬ ‫أن للشعر – باعتباره ًّ‬
‫فنا ‪-‬‬ ‫الشعر صار نظ ار في الحقائق أي صار موقفا‪ ،‬ومنها ّ‬
‫وجدة‪.1‬‬
‫المستمر‪ ،‬والتطلّع إلى آفاق أكثر اتّساعا ّ‬
‫ّ‬ ‫جوهرية هي التجاوز‬

‫والالفت للنظر في إجابة بشار تصديره كل جملة تقريبا بلفظ دال على التحول " إلى‬
‫الصناعة الشعرية " كما ذكر آنفا‪ ،‬مثل (نظرت‪ ،‬أحكمت‪ ،‬انتقيت‪ ،‬كشفت ‪ ،‬احترزت) فالنظر‬
‫واإلحكام واالنتقاء واالحتراز‪ ،‬من عمل الصانع الماهر‪ ،‬وصاحب الحرفة المتخصص الذي‬
‫يثق بالمعاودة والجهد‪ ،‬وال ُي ْسلم نفسه لتلقائية الهواة ‪ ،‬ولما تسمح به الخاطرة في أول األمر‪،‬‬
‫بل هو دائم النظر في ما يأتي‪ ،‬متحفظ ال يسمح لإلعجاب ببديهته أن يتقدم صناعته‪ .‬كما‬
‫الناظر في هذه اإلجابة ‪ -‬إضافة إلى ما سبق – لفظُ " كشفت " التي ال شك أنها‬
‫َ‬ ‫يستوقف‬
‫تقع موقعا حسنا من أسماع الرمزيين الذين طالما ألحوا على أن الشعر كشف ال وصف‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫العباسي على التساؤل الذي اختاره أدونيس‬
‫وعموما قامت الرؤية الشعرية في العصر ّ‬
‫ألح على هذا العصر حول صالحية‬ ‫عنوانا لهذه المرحلة من سيرورة الشعر العربي‪ ،‬تساؤل ّ‬
‫ومشروعية استم ارره إلى ذلك العهد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الموروث الشعري‬

‫ونظرة عاجلة في قصائد بعض الشعراء‪ ،‬تنطق بمصداقية ذلك العنوان الذي وسم به‬
‫المعبرة عن هذه الوجهة طابع‬
‫ّ‬ ‫أدونيس الرؤية الشعرية في تلك الفترة‪ .‬فكثي ار ما أخذت أبياتهم‬
‫ممن حبسوا أنفسهم في مداها الذي‬
‫التقليدية‪ ،‬والعجب ّ‬
‫ّ‬ ‫االستفهام الممتزج باإلنكار على الرؤية‬
‫الطللية الغز ّلية أبرز ما‬
‫ّ‬ ‫المقدمة‬
‫ّ‬ ‫التحوالت المتالحقة‪ .‬وكانت‬
‫تغيرات و ّ‬
‫الم ّ‬
‫ضاق عن استيعاب ُ‬

‫‪1‬‬
‫أدونيس‪ :‬مقدمة للشعر العربي‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪4574 ،4.‬م‪ ،‬ص‪.1.‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ :‬ص‪.37‬‬

‫‪61‬‬
‫أثار التساؤل من بين ك ّل العناصر الم ِّ‬
‫شكلة لبنية القصيدة العربية القديمة‪ ،‬فجاءت تساؤالتهم‬ ‫ُ‬
‫بارز‬
‫طلق الثورة على هذا االلتزام الشعري بأبيات استحالت َم ْعلَما ا‬
‫تَتْرى بدءا من أبي نواس ُم ْ‬
‫في هذه السبيل مثل قوله‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫َس ِد؟‬ ‫ِ‬
‫ك ُق ْل لي َم ْن َب ُنو أ َ‬
‫الَ َدر َد ُّر َ‬ ‫أس ٍد‬ ‫ِ‬
‫الح ِّي من َ‬
‫قَالُوا َذ َكر َ ِ‬
‫ت دَي َار َ‬ ‫ْ‬
‫وقوله‪:‬‬

‫ت ِفي ِ‬ ‫أَفَ ُذو ِ‬ ‫ف الطُّلُو َل َعلَى الس َـم ِ‬


‫اع بِهَا‬ ‫ِ‬
‫‪2‬‬
‫العلم؟‬ ‫العَي ِ‬
‫ان َكأ َْن َ‬ ‫تص ُ‬

‫إن اإلنكار على السماع هنا واضح‪ ،‬واذا علمنا مقدار ما كان للسماع من عناية عند‬‫ّ‬
‫أسسوا عليه أخطر العلوم والفنون وأجلّها‪ ،‬كأصول الفقه وأصول النحو ‪-‬‬
‫القدماء – حتّى لقد ّ‬
‫ولكنها قطعا لم تكن‬
‫الضجة التي يمكن أن تثيرها في حينها‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫علمنا خطورة هذه الدعوة ومدى‬
‫فج عميق‪ ،‬فقد واكبت دعوات صارخة كلّها ثورة على القديم‪ ،‬في عصر‬
‫صيحة معزولة في ّ‬
‫مرور‬
‫ا‬ ‫تجت فيه الحياة العربية وهي تخوض ُمنقلبا نقلها من بداوة الحجاز إلى مدنية العراق‪،‬‬
‫ار ّ‬
‫بالشام الذي كان منزلة وسطى بينهما‪ ،‬ش ّكلت تطلّعا إلى الحياة الجديدة في أكناف بغداد‬
‫القائمة على أنقاض المدائن حاضرة ملوك الفرس‪ ،‬فلم تزل روح أكاسرتهم تسري في جسد‬
‫العباس‪.‬‬
‫كثير ما احتذاه خلفاء بني ّ‬
‫الم َد ّنية الجديدة‪ ،‬ونمط معيشتهم مثال وسلفا ا‬
‫َ‬
‫المستجدة‪ ،‬فلئن كان أبو‬
‫ّ‬ ‫العام الوليد في البيئة‬
‫لذلك لم تشذ الثورة النواسية عن النسق ّ‬
‫األول من دولة العباسيين‪ ،‬لقد تابعه‬
‫نواس هو األسبق واألج أر على إعالن ذلك في العصر ّ‬
‫المتنبي وهو في العصر الثالث بقوله‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫يح َقا َل ِش ْع ار ُمتَي ُم؟‬
‫ص ٍ‬‫أَ ُك ُّل فَ ِ‬ ‫المقَد ُم‬
‫يب ُ‬
‫ِ‬
‫إِ َذا َك َ‬
‫ان َم ْد ٌح فَالنس ُ‬

‫‪1‬‬
‫أبو نواس‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد المجيد الغزالي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪6003 ،4.‬م‪ .‬ص‪.11.‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ :‬ص‪.21 .‬‬

‫‪61‬‬
‫مما هو عند الشاعر‬
‫حدة ّ‬
‫فاالعتراض هو نفسه بصيغة التساؤل ذاتها‪ ،‬وان كان أق ّل ّ‬
‫حدة‬
‫أضفت على نبرة التساؤل ّ‬
‫األول‪ ،‬إذ هو عند أبي نواس ُم ْشبعٌ بشعوبيته المعهودة التي ْ‬
‫ّ‬
‫وفنية‪ ،‬في حين كان‬
‫البغضاء واالحتقار للروح العر ّبية‪ ،‬وما يتّصل بها من أنماط ثقافية ّ‬
‫المفعم عروبة الناقم على تسلّط العجم‬
‫المتنبي نابعا من واقعية شعرّية‪ ،‬وهو الشاعر ُ‬
‫ّ‬ ‫اعتراض‬
‫على العرب‪.‬‬

‫الحدة‪ ،‬وبصرف النظر عن اقتراح أبي نواس وصف‬


‫ومع ذلك االختالف في الباعث و ّ‬
‫للمقدمة بقوله‪:‬‬
‫الخمر موضوعا ّ‬
‫‪2‬‬
‫البَن ِة ال َك ْرِم‬
‫صفَاتِ َك ْ‬
‫اجع ْل ِ‬ ‫صفَةُ الطُّلُ ِ‬
‫ول َبالَ َغةُ الفَ ْدِم‬ ‫ِ‬
‫فَ ْ َ‬

‫واقتراح المتنبي مدح سيف الدولة بقوله‪:‬‬

‫الج ِمي ُل َوُي ْختَ ُم‪.3‬‬ ‫بِ ِه ُي ْب َدأُ ِّ‬ ‫ِ ِ‬


‫الذ ْك ُر َ‬ ‫ب ْاب ِن َع ْبد اهلل أ َْولَى فَِإنهُ‬
‫لَ ُح ُّ‬

‫فقد اجتمع الشاعران كالهما عند عدم القبول بالموجود واالشرئباب إلى المأمول‪ ،‬وهو‬
‫ما يعطينا ملمحا من مالمح االتّجاه الشعري في ذلك العصر‪ ،‬أال وهو الواقعية واآلنية‪ .‬فهي‬
‫المتضمنة للبعدين الزماني والمكاني‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫دعوة إلى المعايشة‬

‫عباسي الذي وجد من الواقع‬‫المقدمة الطللية دار غربة عند الشاعر ال ّ‬


‫ّ‬ ‫لقد صارت‬
‫الحضاري المثقل في بغداد والكوفة والبصرة وغيرها من الحواضر‪ ،‬ما هو كفيل بشغل وجدانه‬
‫فنية " لم تَ ُع ْد تتّصل بنمط حياته بما تحمله من قيم‬
‫وفكره‪ ،‬وصرفه عن العكوف أمام " عادة ّ‬
‫مرتبطة بالجاهلية زمانا والبادية مكانا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪6040 ،‬م‪ ،‬ج‪،3.‬‬
‫ص‪.310 .‬‬
‫‪2‬‬
‫أبو نواس‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.23 .‬‬
‫‪3‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.310 .‬‬

‫‪62‬‬
‫المقدمة‬
‫وعلى قدر ما حملت تلك األبيات من معنى االستفهام والتشكيك في سلطة هذه ّ‬
‫ومشروعيتها‪ ،‬كانت احتجاجا على الموقف السابق الذي اصطبغ بالقبول‪ 1‬والطمأنينة إلى‬
‫ّ‬
‫المقررات السابقة‪.‬‬
‫ّ‬

‫مؤسسا لمرحلة جديرة بتوقّف الناظر في منعطفات‬


‫و بعد بشار بقليل‪ ،‬جاء أبو تمام ّ‬
‫سنة "‪ ،2‬وهو ما أوقفه‬
‫الرؤية الشعرية العربية‪ ،‬فهو مأخوذ بالبدعة أي " بالخروج على ك ّل ّ‬
‫المرة‪ ،‬فقد سأله بعض أهل زمانه‪ " :‬لِ َم‬
‫المضاد أو المحافظ هذه ّ‬‫ّ‬ ‫وجها لوجه أمام التساؤل‬
‫تقول ما ال ُيفهم؟ "‪ ،‬فقال‪ " :‬ولِ َم ال تفهمان ما ُيقال؟ "‪.3‬‬

‫الرد‪ ،‬كما رأى ذلك بطرس البستاني‪،4‬‬


‫تمام على هذا ّ‬‫وليست المكابرة هي ما حمل أبا ّ‬
‫أن من‬
‫الخاصة‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫أن للشعر لغـته‬
‫بل كان دافعه إليه رؤيته الشعرية الناضجة المتمثّلة في ّ‬
‫يعدل من ذائقته‬
‫حق الشاعر تكييف اللّغة وتطويعها ألداءات جديدة‪ ،‬ومـن واجب المتلقّي أن ّ‬
‫ّ‬
‫معية لتستوعب ذلك التكييف‪.‬‬
‫الس ّ‬
‫ّ‬

‫جمدوا باللغة العربية‪ ،‬فأجادوا‬


‫تمام ذا حظوة عند أناس َ‬ ‫وبسبب ذلك لم يكن أبو ّ‬
‫ووزعوها على ُكتّابهم وشعرائهم‪،‬‬
‫"التحنيط‪ ،‬وصنع التماثيل‪ ،‬فصنعوا من ألفاظها ُنسخا جاهزة ّ‬
‫نحوي ولغوي مجتمعين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شاعر واحدا قد يصنع للّغة ما ال يصنعه ألف‬
‫ا‬ ‫أن‬
‫دون أن يدركوا ّ‬
‫يمد لأللفاظ معاني جديدة لم تكن‬
‫غوي الدقيق‪ّ ،‬‬
‫المرهف‪ ،‬وسمعه اللّ ّ‬
‫أن الشاعر بإحساسه ُ‬
‫ذلك ّ‬
‫يشدها إلى األمام "‪.5‬‬
‫الفن ّي‪ ،‬فال يسيء إلى اللّغة‪ ،‬واّنما ّ‬
‫بحسه ّ‬
‫لها‪ ،‬وقد يخرق قاعدة مدفوعا ّ‬

‫‪1‬‬
‫أدونيس‪ :‬مقدمة للشعرب العربي‪ ،‬مرجع‪ ،‬سابق‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق ‪ :‬ص‪.11‬‬
‫‪3‬‬
‫أبو القاسم اآلمدي‪ :‬الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1.‬ج‪ ،6.‬ص‪.45.‬‬
‫‪4‬‬
‫بطرس البستاني‪ :‬أدباء العرب‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪4585 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.440.‬‬
‫‪5‬‬
‫نازك المالئكة‪ :‬ديوان شظايا ورماد‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،4575 ،6.‬ص‪.40 – 5 .‬‬

‫‪67‬‬
‫يلخص ذلك كله نظرة الشاعر العباسي إلى طبيعة اإلبداع الشعري‪ ،‬والتي كانت نظرة‬
‫نفس ثوري مواكب للثورة السياسية التي صحبت قيام الدولة العباسية‪ .‬فبعيدا‬
‫مستجدة ذات َ‬
‫عن االختالف في مدى استجابة الواقع الشعري نفسه في ذلك العصر لتلك النظرة تقدما أو‬
‫تأخرا‪ ،‬بسبب دفاع النمط القديم عن كيانه‪ ،‬كانت تلك النظرة – عند النابهين من الشعراء‬
‫العباسيين على األقل – مؤسسة على أن " اإلبداع‪ ،‬أصال‪ ،‬هو خروج على المعيار وليس‬
‫التزاما به "‪.1‬‬

‫لقد آمن أولئك المناهضون للقديم كأبي نواس بأن " ‪ ...‬المعيار‪ ،‬بما هو صفة لصيقة‬
‫للمرجعية أو المحافَظة‪ ،‬ليس في الشعر والنقد وحسب‪ ،‬بل في الثقافة عموما‪ ،‬لم يكن بمنأى‬
‫عن التجاوز‪ .‬لقد حدث ذلك في االتجاهات الشعرية منذ العصر العباسي على أيدي مجموعة‬
‫من الشعراء من أمثال أبي العتاهية‪ ،‬وأبي نواس‪ ،‬وبشار بن برد وابن الرومي‪ ،‬وأضرابهم ‪...‬‬
‫وهكذا كان الشعراء الذين يمثّلون صفة المرجعية في الشعر سرعان ما يتم تجاوزهم على‬
‫أيدي الشعراء الالحقين "‪.2‬‬

‫العباسي‪ ،‬حال التململ‬


‫واذا كانت تلك هي حا َل الرؤية الشعرية في بواكير العصر ّ‬
‫تتحرك نحو الجديد وتحاول‬
‫فإن النظرية النقدية هي أيضا كانت ّ‬
‫والقلق ومحاولة التجاوز‪ّ ،‬‬
‫الخروج من اإلنشائية واالنطباعية‪ ،‬إلى تأسيس المرجعيات وتقرير األصول وترسيخ‬
‫المصطلح‪ .‬فقد صار النقد علما ًّ‬
‫وفنا ال يستغني عن الدربة والثقافة‪ " ،‬وأخذت الحركة النقدية‬
‫في التعقيد والتعمق‪ ،‬وجنحت إلى التعليل والمناقشة وبدأت تعنى بالنص األدبي أكثر "‪.3‬‬

‫‪1‬‬
‫بسام قطّوس‪ :‬اإلبداع الشعري وكسر المعيار( رؤى نقدية )‪ ،‬مجلس النشر العلمي‪ ،‬جامعة الكويت‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪،4.‬‬
‫‪6001‬م‪ ،‬ص‪.43.‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ :‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫حسن إبراهيم أحمد‪ :‬أبعاد النص النقدي عند الثعالبي مقدمة نظرية ودراسة تطبيقية‪ ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬و ازرة‬
‫الثقافة‪ ،‬دمشق‪6007 ،‬م‪ ،‬ص‪.426.‬‬

‫‪68‬‬
‫وكان من ثمرات ذلك النضج والتعمق بروز الميل إلى التخصص‪ ،‬فظهرت كتب نقدية‬
‫خاصة دون النثر‪ .‬ككتاب " طبقات فحول‬‫ّ‬ ‫وقفها أصحابها على نقد الشعر وتصنيف الشعراء‬
‫الجمحي (ت‪636.‬هـ) الذي كان " نواة لظهور ّأول مدرسة نقدية منهجية‬
‫الشعراء " البن سالّم ُ‬
‫في تاريخ النقد عند العرب‪ ،‬وكان ابن سالّم ّأول شيخ من شيوخها "‪ ،1‬وكتاب " الشعر‬
‫والشعراء " البن قتيبة (ت‪672 .‬هـ)‪.‬‬

‫الحس النقدي‬
‫ّ‬ ‫قيمة في نقد الشعر‪ ،‬تشهد بنضج‬
‫بمقدمة ّ‬
‫صدر المؤلّفان كتابيهما ّ‬
‫وقد ّ‬
‫مقدمة كتاب الشعر والشعراء التي كشف‬
‫ومواكبته للرؤية الشعرية في ذلك العصر‪ ،‬خصوصا ّ‬
‫ثم تناول أقسام الشعر من منظور اللّفظ‬
‫فيها ابن قتيبة بوضوح عن منهجه في الدراسة‪ّ ،‬‬
‫ثم ذكر عيوب الشعر مرّك از فيها على‬
‫والمعنى الذي غلب على المناحي النقدية قديما‪ّ ،‬‬
‫بأنه‬
‫األولي للشعر نفسه ّ‬
‫الجانب العروضي وتخصيصا عيوب القافية‪ ،‬بناء على تعريفهم ّ‬
‫الكالم الموزون المقفّى‪.‬‬

‫بالمقررات التقليدية من جهة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ضدّية بين االلتزام‬
‫وكما قامت الرؤية الشعرية على ثنائية ّ‬
‫ومحاولة المروق منها من جهة أخرى‪ ،‬قامت النظرية النقدية كذلك على هذا التجاذب‬
‫أن غالبها‬ ‫ِ‬
‫أهم القيم التي دار حولها النقد في تلك الحقبة يظهر لنا ّ‬
‫والصراع‪ ،‬وباستعراض ّ‬
‫حدث‪ ،‬والطبع والصنعة‪ ،‬واللّفظ والمعنى‪ ،‬وغير‬
‫الم َ‬
‫اتّخذ طابع الثنائيات المتقابلة‪ .‬مثل القديم و ُ‬
‫ذلك مما يشير إلى معترك نقدي حقيقي‪ ،‬كان ِ‬
‫صنوا للمعترك الشعري الذي رأينا بعض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مالمحه مع أبي نواس‪.‬‬

‫بعض مالمح العصر في الرؤية الشعرية والمناخ النقدي تعميما‪ ،‬فربما‬


‫َ‬ ‫واذا كانت تلك‬
‫تأثير ازدهار فن الغناء وتطوره في العصر العباسي‪،‬‬ ‫يكون مما يخص مطالع القصائد‪ُ ،‬‬

‫‪1‬‬
‫حسن عبد اهلل شرف‪ :‬النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سالّم‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪4581 ،4.‬م‪،‬‬
‫ص‪.8.‬‬

‫‪65‬‬
‫ويتجلى ذلك في دفع الشعراء إلى تجويد مقدمات قصائدهم ومطالعها‪ ،‬لكون مقدمة القصيدة‬
‫هي الجزء الذي ُيتغنى به – غالبا – ومحل الترديد والترجيع والتوقيع‪.‬‬

‫ولعلنا ال نتجافى عن الحقيقة إذا زعمنا أن كثي ار من شعراء ذلك العهد‪ ،‬كانوا يتعمدون‬
‫تجويد مطالعهم ومقدمات قصائدهم‪ ،‬وصب أكبر قدر من الطاقة الفنية فيهما‪ ،‬السيما الطاقة‬
‫َ‬
‫المغنين‪ ،‬واغواء لهم حتى يتخذوا منها مادة لغنائهم‪ ،‬وأصواتا‬
‫ّ‬ ‫الموسيقية‪ ،‬لفتا ألنظار كبار‬
‫المغني بدأ يحل بذلك‬
‫ّ‬ ‫يروجون بها تلك القصائد في المقاصف ومجالس اللهو والسمر‪ .‬وكأن‬
‫ّ‬
‫محل راوي الشاعر الذي يحمل عنه عبء نشر قصائده‪ ،‬واذاعتِها في الناس‪.‬‬

‫فإذا كان من الثابت أن الغنا ء بدأ يفسح لنفسه مساحة في العصر األموي السابق‪ ،‬فإن‬
‫أوجه تأثيره في الفن الشعري إنما ظهرت جليا في العصر العباسي‪ ،‬إذ " انتقلت موجة هذا‬
‫ُ‬
‫الغناء في أواخر العصر األموي إلى الكوفة‪ ،‬حتى إذا كان العصر العباسي األول بلغت في‬
‫صفّيت لغة الشعر وبلغت كل ما‬
‫حدة وقوة‪ ،‬فمن جهة ُ‬
‫مدن العراق كل ما كان ُينتظر لها من ّ‬
‫يمكن من رشاقة وعذوبة ونعومة [ ‪ ] ...‬ومن جهة ثانية اتسعت المالءمات الموسيقية‬
‫العروضية مع الغناء ‪.1" ...‬‬

‫ولئن كان هذا التطور مصحوبا بالعناية بابتداءات القصائد‪ ،‬والبحث في جمالياتها عند‬
‫توجههم باالعتناء صوب أجزاء‬
‫منبها لنفر منهم إلى ّ‬‫أكثر النقاد والبالغيين‪ ،‬لقد كان ذلك ّ‬
‫أخرى من القصيدة والتنقيب في جمالياتها‪ .‬كعنايتهم بجودة القطع‪ ،‬إما سعيا منهم إلى فتح‬
‫باب جديد للنظر النقدي‪ ،‬واما تضايقا من إهدار هذه الجوانب والتضحية بها في سبيل جودة‬
‫االبتداء‪ ،‬وهو الشعور الذي قد توحي به صياغة العبارة التي رواها الجاحظ عن شبيب بن‬
‫شيبة في قوله ‪ ":‬الناس موكلون بتفضيل جودة االبتداء‪ ،‬وبمدح صاحبه‪ ،‬وأنا موكل بتفضيل‬

‫‪1‬‬
‫شوقي ضيف‪ :‬تاريخ األدب العربي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ :3.‬العصر العباسي األول‪ ،‬ص‪.53.‬‬

‫‪30‬‬
‫جودة القطع‪ ،‬وبمدح صاحبه‪ .‬وحظُّ جودة القافية وان كانت كلمة واحدة‪ ،‬أرفعُ من حظ سائر‬
‫البيت "‪.1‬‬

‫وسواء أبأول القصيدة كان االحتفاء أم بآخرها‪ ،‬فإن كل ما سبق يشهد بتطور الذوق‬
‫الجمالي عند الشاعر والناقد في العصر العباسي‪ .‬وبحدوث انعطاف في الحساسية الجمالية‬
‫الشعرية‪ .‬وكان من نتائج ذلك أن انفتحت للشعرية العربية آنذاك منافذ كثيرة‪ ،‬أطلت بها على‬
‫آفاق أوسع‪ ،‬فطمحت إلى قضايا فنية لم يتسع لها مجال الرؤية الشعرية في العصور‬
‫السابقة‪.‬‬

‫فبعيدا عن التشقيقات واالشتقاقات التي تولدت عن مفهوم " الشعرية " في العصر‬
‫الحديث ‪ -‬وهو المفهوم الذي يذهب بعض الدارسين إلى تلخيصه في كونه " قوانين الخطاب‬
‫األدبي "‪ -2‬يمكن مالحظة أن نقاد العصر العباسي طرقوا مباحث‪ ،‬وخاضوا في خضم‬
‫قضايا نقدية وتنظيرية‪ ،‬هي من صميم بحوث الشعرية المعاصرة‪ ،‬ومن أدق القضايا األثيرة‬
‫عند روادها وآبائها المؤسسين‪.‬‬

‫واذا كان المجال هنا غير متسع وال مناسب لبسط هذه القضايا واالهتمامات‪ ،‬فإنه يكفي‬
‫داللة على ذلك‪ ،‬التوجهُ اللغوي والبالغي الذي تميز به النقد العربي القديم وهو يخطو‬
‫خطواته األولى نحو الظهور‪ ،‬ثم نحو التميز والتأصيل في مراحل الحقة‪ .‬فلقد كانت اللغة‬
‫والبالغة هي المنبع الذي صدرت عنه غالب المصنفات النقدية في ذلك العصر‪ .‬ومعلوم أن‬
‫ذلك هو المنزع الذي نزعت إليه الشعرية في العصر الحديث‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الجاحظ‪ :‬البيان والتبيين‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.446.‬‬
‫‪2‬‬
‫حسن ناظم‪ :‬مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في األصول والمنهج‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،4.‬‬
‫‪6003‬م‪ ،‬ص‪.44.‬‬

‫‪34‬‬
‫لقد انشغل النقاد والمنظرون المعاصرون – وما يزالون منشغلين – بالشعرية‪ ،‬متفقين‬
‫أحيانا حول قضاياها وأصولها‪ ،‬ومختلفين أحيانا حول عالقاتها وامتداداتها وتداخالتها‪ .‬ولكن‬
‫حتى في خضم ذلك االختالف يظل االتفاق قائما على أن غاية الشعرية القصوى هي‬
‫محاولة وضع اليد على ذلك اإلكسير الذي يهب الخطاب الشعري فرادته وتميزه " ‪ ...‬ال‬
‫بوصفه نصا ‪ ...‬بل بوصفه جامعا للخصائص الضرورية لكل نص أدبي ‪.1" ...‬‬

‫ومعنى ذلك أن صدر الشعرية متسع لتبني أغراض‪ ،‬واحتضان فنون خارجة عن الشعر‬
‫بمفهومه التجنيسي الموروث‪ ،‬القائم على النظرة السطحية إلى القالب الخطي والموسيقي الذي‬
‫صيغت فيه التجربة الفنية‪ .‬فالنثر الفني – بكل فنونه وأنواعه‪ -‬صار مجاال للشعرية تقلّب‬
‫الفكر في خصائصه الجمالية‪ ،‬وتؤصل لمقوماته األسلوبية‪ .‬وهو ما لم يعزب عن كثير من‬
‫النقاد والبالغيين العرب القدماء‪.‬‬

‫غير أن المرجح أن أولئك النقاد لم يبحثوا جماليات النثر الفني تحت مسمى "الشعرية"‪،‬‬
‫فمع اإلقرار بـأن" ‪ ...‬الجهود المبذولة من ِقبل النقاد العرب نحو استخالص قوانين عامة‬
‫تضبط الشعر والنثر معا كانت موجودة ‪ ...‬لكنها لم تكن مقصودة بمصطلح الشعرية‪ ،‬ألن‬
‫أصح كان ذلك‬
‫ّ‬ ‫هذا المصطلح عند العرب القدامى كان يشير إلى قوانين الشعر‪ ،‬أو بمعنى‬
‫عند أغلب النقاد العرب ‪.2" ...‬‬

‫والناتج الالزم من طرفي القضية السابقة‪ ،‬هو أن المباحث المتعلقة بمقومات النثر الفني‬
‫في تراثنا النقدي والبالغي‪ ،‬يجب أن تُلتمس تحت تسميات ومصطلحات أخرى غير الشعرية‪.‬‬
‫النظم " عند عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬الذي ‪ -‬وانطالقا من مفهوم النظم‬
‫َ‬ ‫قد تكون تلك التسمية "‬

‫‪ 1‬يوسف إسكندر‪ :‬اتجاهات الشعرية الحديثة األصول والمقوالت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪6008 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.16 .‬‬
‫امحمد العماري‪ :‬مفهوم الشعرية واتجاهاتها‪ ،‬مجلة الحكمة‪ ،‬مؤسسة كنوز الحكمة‪ ،‬األبيار‪ ،‬الجزائر‪ ،‬العدد‪6044 ،2.‬م‪،‬‬
‫‪ْ 2‬‬
‫ص‪.10 .‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ ... " -‬أحسن التنظير لقوانين الخطاب األدبي دون االقتصار على وجودها في الشعر‬
‫لوحدها بل باعتبارها قوانين مشتركة في سائر أجناس األدب‪ ،‬أي ما يقابل مصطلح‬
‫الشعرية‪.1" ...‬‬

‫بل لقد الحظ الدكتور حسن ناظم أن حازما القرطاجني كان يؤسس لمفهوم في‬
‫بمصنف كامل هو " منهاج‬ ‫ّ‬ ‫الشعرية‪ ،‬جامع لخصائص تنطبق على الخطابين كليهما‪ ،‬وذلك‬
‫عد عالمة فارقة في تاريخ النقد العربي القديم‪.‬‬
‫البلغاء وسراج األدباء "‪ ،‬ذلك الكتاب الذي ُي ّ‬
‫وكانت مالحظته تلك خالصة لقراءته نص القرطاجني الذي يقول فيه ‪ ... ":‬فما كان من‬
‫عد قوال شعريا ‪ .2" ...‬فقد‬
‫األقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو ُي ّ‬
‫ذكر الدكتور حسن ناظم صراحة أن حازما – بهذا المنحى ‪ ... " -‬ال ينفي إمكانية اشتمال‬
‫األقوال النثرية على شعرية ما‪ ،‬من خالل التخييل والمحاكاة ‪.3" ...‬‬

‫وهي قراءة مشروعة ال تتعارض مع ظاهر نص حازم‪ ،‬بل إن عنوان الكتاب نفسه‬
‫يتسع ليشمل النثر‪ ،‬ويدخله في قصدية كاتبه‪ ،‬ذلك أن هذا العنوان إنما هو " منهاج " للبلغاء‬
‫قاطبة‪ ،‬و" سراج " لألدباء كافة‪ .‬وربما كان هذا سببا في قلة ركون صاحبه إلى التنظير‬
‫العام‪ ،‬والتقليل من الشواهد الشعرية‪ ،‬وهي الظاهرة البارزة التي اشتكاها كثير من دارسي‬
‫الكتاب ومنتقديه‪ .‬زيادة على السبب األصلي في التقليل من تلك الشواهد‪ ،‬والمتمثل في أن‬
‫حازما في كتابه هذا – كما يرى الدكتور محمد الكتاني في تقديمه لكتاب " ظاهرة الشعر عند‬
‫حازم القرطاجني " ‪ -‬كان " ‪ ...‬متفلسفا أكثر منه ناقدا ألنه كان ينزع ‪ ...‬إلى األخذ‬
‫بالكليات والقوانين العامة‪ ،‬بعد أن وقف النقاد العرب قبله دون بلوغ الرؤية الشمولية لظاهرة‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ :‬ص‪.13 .‬‬
‫‪2‬‬
‫حازم القرطاجني‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد الحبيب بن الخوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،6.‬‬
‫‪4584‬م‪ ،‬ص‪.27 .‬‬
‫‪3‬‬
‫حسن ناظم‪ :‬مفاهيم الشعرية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.16 .‬‬

‫‪33‬‬
‫‪1‬‬
‫ظر إذا جعل همه إرضاء المنطق ونزع نزوع‬
‫الشعر العربي " ‪ .‬وال شك أن الناقد أو المن ّ‬
‫الفالسفة " ‪ ...‬فإن األمثلة الشعرية لم تكن لتسعفه أحيانا كثيرة "‪.2‬‬

‫و ّأيا يكن الجهاز المصطلحي الذي تناول به نقادنا القدماء النثر الفني‪ ،‬فإن النقد العربي‬
‫حيز أوسع للنثر‪ ،‬ويوجه عنايته إلى بعض‬ ‫في العصر العباسي لم يجد مناصا من إفساح ّ‬
‫فنونه‪ ،‬بعد أن فرض النثر وجوده في هذا العصر‪ ،‬لدواع حضارية وفكرية فرضها واقع‬
‫عد الوجه األنسب‬
‫التمدن المستجد " على اعتبار أن النثر بطبيعة بعض أجناسه الكتابية ُي ّ‬
‫للحضارة التي بدأت تُلقي بظاللها على المجتمع العربي منذ بزوغ اإلسالم "‪.3‬‬

‫المبرزين في فنون النثر‪ ،‬ممن ولدوا في هذا‬


‫وكان في ظهور عمالقة الكتابة الفنية‪ ،‬و ّ‬
‫ض‬‫وفر ِ‬
‫قيض للنثر بعض أسباب القوة‪ْ ،‬‬ ‫العصر‪ ،‬أو امتد بهم العمر فشبوا فيه واكتهلوا‪ ،‬ما ّ‬
‫ووجه إليه األنظار إبداعا ونقدا‪ .‬وكان من أولئك ال ُكتّاب من تجاوز منزلة المشاركة‬
‫الذات‪ّ ،‬‬
‫والمساهمة‪ ،‬ليصبح رأسا في صناعة الكتابة‪ ،‬واماما متَّبعا فيها‪ ،‬وناهج سبيل مدرسة واضحة‬
‫المعالم‪ ،‬أَثْرت وأثّرت في مسار البيان العربي‪ ،‬واتجهت بالبالغة ُمتجهات جديدة‪ ،‬تعميقا‬
‫وتجديدا‪ ،‬وكان من ْأن ِ‬
‫به هؤالء ابن المقفع‪ ،‬ثم الجاحظ‪.‬‬
‫وقد اهتدى بعض النقاد والمفكرين العرب القدماء إلى أن الحضور المتبادل للشعر‬
‫والنثر الفني أحدهما في اآلخر‪ -‬فضال على كونه أم ار محتما‪ -‬من شأنه أن يكون له عائد‬
‫فني جليل على كليهما‪ ،‬إذ يستعير النثر من الشعر حالوته وطالوته فتلين صالبته ويعذب‬
‫وتؤدته‪ ،‬فيتسق بناؤه وتتصل لُحمته‪.‬‬
‫مساغه‪ ،‬ويكتسب الشعر من النثر رزانته َ‬

‫‪ 1‬محمد الحافظ الروسي‪ :‬ظاهرة الشعر عند حازم القرطاجني‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪ ،‬المملكة المغربية‪ ،‬ط‪6008 ،4.‬م‪ ،‬ج‪،4.‬‬
‫ص‪.40 .‬‬
‫‪ 2‬محمد أديوان‪ :‬قضايا النقد األدبي عند حازم القرطاجني‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ ،‬المملكة المغربية‪6001 ،‬م‪،‬‬
‫ص‪.43.‬‬
‫عمان‪6005 ،‬م‪ ،‬ص‪.47.‬‬
‫‪ 3‬مصطفى البشير قط‪ :‬مفهوم النثر الفني وأجناسه في النقد العربي القديم‪ ،‬دار اليازوري‪ّ ،‬‬
‫‪31‬‬
‫وقد تفطنوا إلى هذه المسألة مدفوعين بحس نقدي أصيل‪ ،‬ومران أدبي طويل‪ ،‬وذلك‬
‫قرونا قبل تبلورها في ما يعرف اليوم بـ" تداخل األجناس "‪ ،‬وربما كانت عبارة أبي سليمان‬
‫المنطقي التي أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه " المقابسات " أوضح ما يحمل تلك‬
‫خف وال حال وال طاب وال تحال‪.‬‬
‫القناعة إذ يقول ‪ ... ":‬في النثر ظل من النظم ولوال ذلك ما ّ‬
‫وفي النظم ظل من النثر ولوال ذلك ما تميزت أشكاله‪ ،‬وال عذبت موارده ومصادره‪ ،‬وال‬
‫اختلفت بحوره وطرائقه‪ ،‬وال ائتلفت وصائله وعالئقه "‪ .1‬و هي العبارة التي أورد ما يشبهها‬
‫في مصنفه اآلخر " اإلمتاع والمؤانسة "‪ ،‬والتي جاء فيها أن ‪ ":‬أحسن الكالم ما رق لفظه‪،‬‬
‫ثر كأنه نظم ‪.2" ...‬‬ ‫ولطف معناه‪ ،‬وتألأل رونقه‪ ،‬وقامت صورته بين ٍ‬
‫نظم كأنه نثر‪ ،‬ون ٍ‬

‫‪1‬‬
‫أبو حيان التوحيدي‪ :‬المقابسات‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد توفيق حسين‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪4585 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.457 .‬‬
‫‪2‬‬
‫أبو حيان التوحيدي‪ :‬اإلمتاع والمؤانسة‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪6002 ،4.‬م‪ ،‬ص‪.611 .‬‬

‫‪31‬‬
‫الباب األول‬

‫المطلع في بنية القصيدة العربية التقليدية‪:‬‬

‫شعرية التموقع‬

‫تمهيد‬

‫البنية‪ :‬المفهوم والخصائص‬

‫الفصل األول‬

‫بنية القصيدة العربية التقليدية‬

‫الفصل الثاني‬

‫الوحدة في القصيدة العربية التقليدية‬

‫الفصل الثالث‬

‫المطلع‬
‫تـمهيــــــــــــــــــد‬

‫البنية المفهوم والخصائص‬


‫ُسس‬
‫كثر الحديث عن بنية القصيدة العربية التقليدية‪ ،‬تزامنا مع ازدهار المنهج الذي أ ّ‬
‫على هذا المفهوم " المنهج البنيوي "‪ ،‬والذي كان له من اإلنجازات في الغرب‪ ،‬ما سحر‬
‫ألباب كثير من جهابذة النقد األدبي في العالم العربي‪ ،‬بعد أن اقتنعوا أن هذا المنهج‬
‫"‪...‬أثبت قدرته على كشف ما لم يكن معروفا من خصائص الشكل والظاهر‪ ،‬واستطاع أن‬
‫يصل إلى العام والمشترك‪ ،‬والى ما هو علمي‪ ،‬والى ما هو منطق‪ .‬كما أثبت هذا المنهج‬
‫خصبه‪ ،‬فاعتمده الباحثون في دراسة األساطير وفي دراسة العقليات البدائية‪ ،‬كما في ميادين‬
‫عدة‪ ،‬منها ميدان النقد األدبي "‪.1‬‬

‫أن ‪ ":‬البِنية [ بكسر الباء ] و ُ‬


‫البنية [ بضمها ] ما بنيته‪،‬‬ ‫وقد جاء في لسان العرب ّ‬
‫وهو البِنى [بكسر الباء] و ُ‬
‫البنى [ بضمها ] ‪ ...‬و قال غيره [ أي ابن األعرابي ] ‪ ":‬يقال‬
‫بِنية[ بالكسر ] وهي مثل ِرشوة ورشا كأن البنية الهيئة التي بني عليها مثل ِ‬
‫المشية‪،‬‬
‫الركبة‪.2" ...‬‬
‫و ِّ‬

‫أما اصطالحا فتختلف صيغ تعريف البنية‪ ،‬لتلتقي عند مفهوم عام يتلخص في كونها‬
‫ذلك الكل المركب من مجموعة العناصر المتضايفة والمتضامة‪ ،‬التي يؤدي كل عنصر منها‬
‫َّ‬
‫للمركب‬ ‫وظيفته تبعا لموقعه‪ ،‬ويستمد مشروعية وجوده من عالقته بسائر العناصر‪ ،‬ليتحقق‬
‫انسجامه وكينونته بحيث يصح أن يطلق عليه لفظ بنية أو بناء‪ .‬وهذه هي القناعة نفسها‬
‫التي نلمسها في قول الدكتور علي مراشدة ‪ ":‬واذا ما رحنا نحاول البحث عن تعريف محدد‬
‫اجه بالعديد من التعريفات التي مهما تباينت‪ ،‬فإنا تلتقي عند كونها نظاما‬
‫للبنية‪ ،‬فإننا سنو َ‬
‫يفسر ائتالف العناصر المكونة للعمل موضع العناية "‪.3‬‬

‫والحق أن المعنى االصطالحي ظاهر العالقة بالمعنى اللغوي الذي ّبينه صاحب‬
‫اللسان‪ ،‬استنادا إلى ابن األعرابي في معنى البِنية أخذا بلغة الكسر‪ ،‬ذلك أن هذه الصيغة في‬
‫األصل هي للداللة على الهيئة‪ ،‬وبتعبير آخر " الكيفية " كما جاء في تعريف البنية عند‬

‫‪ 1‬ميىن العيد‪ :‬يف معرفة النص دراسات يف النقد األديب‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪9111 ،4.‬م‪ ،‬ص‪.44.‬‬
‫‪ 2‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪9111 ،6.‬م‪ ،‬ج‪ ،94.‬مادة ( بين )‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫عمان ‪ /‬عامل الكتاب احلديث‪ ،‬إربد‪ ،‬األرد ّن‪،‬‬
‫علي مراشدة‪ :‬بنية القصيدة اجلاهلية دراسة تطبيقية يف شعر النابغة الذبياين‪ ،‬جدارا للكتاب العاملي‪ّ ،‬‬
‫ط‪6006 ،9.‬م‪ ،‬ص‪.90.‬‬

‫‪38‬‬
‫بعض الدارسين‪ ،‬يقول الدكتور الزواوي بغوره ‪ ":‬تعني البنية الكيفية‪ ،‬التي تنتظم بها عناصر‬
‫مجموعة ما‪ ،‬أي أنها تعني مجموعة العناصر المتماسكة فيما بينها‪ ،‬بحيث يتوقف كل‬
‫عنصر على باقي العناصر األخرى‪ ،‬وبحيث يتحدد هذا العنصر بعالقته بتلك العناصر"‪.1‬‬

‫والذي يستفاد من جميع الصيغ المختلفة في تعريف البنية اصطالحا‪ ،‬إجماعها على‬
‫تقديم مقولة العالقة على مقولة الجوهر‪ ،‬بل لقد صارت العالقة هي العنصر األساسي في‬
‫تحديد معنى البنية‪ " ،‬فالبنية مجموعة العالقات القائمة بين عناصر النظام "‪ ،2‬على أن ُيفهم‬
‫أن البنية في النهاية كينونة جديدة‪ ،‬لها حقيقة مستقلة هي من التعقد بحيث ال يمكن الوقوف‬
‫بردها إلى عناصرها األولى التي تشكلت منها‪ ،‬وال التعرف عليها بمعرفة كل عنصر‬
‫عليها ّ‬
‫على ِح َدة ‪.‬‬

‫ومن ههنا وجب الحذر " من أن نخلط بينها وبين مجرد تجمع العناصر التي تتكون‬
‫منها المادة أو اآللة أو الجهاز العضوي الحي ‪ .3" ...‬ولعل من المناسب هنا االستعانة‬
‫بتمثيل الدكتور محمد مندور لهذا المعنى في دعوته إلى تحكيم الذوق في المنهج النقدي‬
‫التأثري‪ ،‬يقول ‪... ":‬فلو أن كيماويا حلل شرابا ما إلى عناصره األولية‪ ،‬وأتاك بنِسب تلك‬
‫العناصر‪ ،‬بل إننا لو افترضنا جدال أنك تعرف طعم كل عنصر من هذه العناصر المنفردة‪،‬‬
‫ثم حاولت أن تتصور أو تدرك طعم هذا الشراب المركب لما استطعت‪ ،‬وذلك ألن كل مركب‬
‫تتولد له خواص غير متوفرة في العناصر المكونة له‪ .4"...‬فكذلك البنية في النهاية كائن‬
‫مستقل عن الخصائص المنفردة للعناصر التي دخلت في تشكيله‪.‬‬

‫اغما فزع‬
‫وقد يكون من المفيد اإلشارة إلى أن البنية في العصور المتأخرة‪ ،‬استحالت ُمر َ‬
‫إليه اإلنسان الغربي تخصيصا‪ ،‬بعد أن ضج من تهاوي منظومة القيم واألشياء‪ ،‬وتفككها من‬
‫حوله‪َّ ،‬‬
‫ورد فعل " ‪ ...‬على الوضع الذري الذي ساد العالم الغربي في بداية القرن العشرين‪،‬‬
‫وهو وضع تغذى من وانعكس على تشظي المعرفة وتفرعها إلى تخصصات دقيقة متعددة تم‬

‫‪1‬الزواوي بغورة‪ :‬املنهج البنيوي حبث يف األصول واملبادئ والتطبيقات‪ ،‬دار اهلدى‪ ،‬عني مليلة‪ ،‬اجلزائر‪6009 ،‬م‪ ،‬ص‪.64 .‬‬
‫‪ 2‬حممود حجازي‪ :‬البحث اللغوي‪ ،‬مكتبة غريب‪ ،‬القاهرة‪9111 ،‬م‪ ،‬ص‪.16 – 13.‬‬
‫‪ 3‬صالح فضل ‪ :‬علم األسلوب والنظرية البنائية ‪ ،‬دار الكتاب املصري ‪ ،‬القاهرة – دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪6001 ،9.‬م‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪436.‬‬
‫‪ 4‬حممد مندور‪ :‬يف األدب والنقد‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،‬القاهرة‪9144 ،‬م‪ ،‬ص‪.4.‬‬

‫‪39‬‬
‫عزلها بعضها عن بعض لتجسد من ثم ( إن لم تُ َغ ِّذ ) مقولة الوجوديين حول عزلة اإلنسان‬
‫وانفصامه عن واقعه والعالم من حوله‪ ،‬و شعوره باإلحباط والضياع والعبثية "‪.1‬‬

‫وهو ما يجد مصداقه في قول الدكتور زكريا إبراهيم ‪ ... ":‬ربما كان السر في رواج‬
‫هذه الكلمة[‪ ]...‬هو شعور اإلنسان المعاصر بالحاجة إلى اإلمساك بوحدة الواقع ( التي كاد‬
‫التعقد أن يمزقها ) ! و الحق أن لفظ "البنية " يحمل في تضاعيفه تحقيق حلم العقل البشري‬
‫الذي طالما حاول و ضع اليد على " الموضوع " من أجل احتباسه في ِشباك نظامه العقلي‪،‬‬
‫وكأن " البنية " نفسها هي تلك " الوحدة " الجديدة التي تضمن للعقل فهم الواقع والتأكد منه‬
‫والسيطرة عليه من جهة‪ ،‬واشباع حنينه إلى النظام المفقود من جهة أخرى!‪.2"...‬‬

‫يضاف إلى األسباب الداعية إلى هذا االهتمام بالبنية‪ ،‬قيمتها العلمية في معالجة‬
‫الظواهر عموما‪ ،‬والعمل الفني تخصيصا‪ .‬إذ يتيح التركيز على بنية العمل المدروس مقدرة‬
‫تجريدية أكبر‪ ،‬لقيام الدراسات البنيوية كما معروف على عنصري اآلنية ‪، synchronie‬‬
‫والمحايثة (‪ )immanence‬اللتين هما من أهم مقوالت اللسانيات البنيوية التي نادى بها‬
‫المعاين‪،‬‬
‫َ‬ ‫ف‪ .‬دوسوسور( ‪ ) F:de Saussure‬ألن ‪ ":‬البنية شيء قائم في ذات الموضوع‬
‫وليست مفروضة عليه من الخارج "‪.3‬‬

‫عبر عنه الدكتور عبد اهلل محمد الغذامي ‪-‬‬


‫ولما كان االنسجام أو التماسك – الذي ّ‬
‫بالشمولية‪ 4‬من أهم خصائص البنية‪ ،‬كان من البداهة أن تنظر الدراسات البنيوية إلى‬
‫عناصرها نظرة وظيفية تنبني عليها عالقة كل عنصر باآلخر‪ ،‬بحيث ينتفي تصورها تجمعا‬
‫تراكميا عشوائيا ‪ ":‬فحين يدرس العلم المعاصر أية مجموعة من الظواهر‪ ،‬فهو ال يعالجها‬
‫كتكتل آلي‪ ،‬بل ككل بنيوي‪ ،‬والمهمة األساسية هي الكشف عن القوانين الداخلية لهذا النظام‬
‫سواء أكانت قوانين ثابتة أم متطورة‪ ،‬فلم يعد المثير الخارجي مدار االهتمام العلمي‪ ،‬وانما‬

‫‪ 1‬ميجان الرويلي وسعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ /‬بريوت‪ ،‬ط‪6006 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.61.‬‬
‫‪ 2‬زكريا إبراهيم‪ :‬مشكلة البنية‪ ،‬مكتبة مصر‪9110 ،‬م‪ ،‬ص‪.4.‬‬

‫‪ 3‬علي مراشدة‪ :‬بنية القصيدة اجلاهلية‪ ،‬دراسة تطبيقية يف شعر النابغة الذبياين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.01.‬‬

‫‪ 4‬عبد اهلل حممد الغ ّذامي‪ :‬اخلطيئة والتكفري من البنيوية إىل التشرحيية‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪6006 ،‬م‪ ،‬ص‪.11.‬‬

‫‪40‬‬
‫المقدمات الداخلية للتطور‪ ،‬بحيث يفضي اآلن التصور اآللي للعمليات إلى مساءلة‬
‫وظائفها"‪.1‬‬

‫‪ 1‬رومان جاكوبسون‪ :‬االجتاهات األساسية يف علم اللغة‪ ،‬ترمجة‪ :‬علي حاكم صاحل وحسن ناظم‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ /‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪6006 ،9.‬م‪ ،‬ص‪.91.‬‬

‫‪41‬‬
‫الفصل األول‬

‫بنية القصيدة العربية التقليدية‪:‬‬


‫مقدمة القصيدة – الخروج والتخلص ‪ -‬الختام‬
‫مقـــــــدمـــــة القـــصيــــــدة‬
‫من اليسير على أي دارس للقصيدة العربية التقليدية أن يلحظ أنها كانت بناء تتجمع‬
‫مطوالت القصائد التي تقوم المجموعات الشعرية‬
‫فيه أفكار شتى وأغراض متنوعة‪ ،‬وتحديدا َّ‬
‫القديمة كالمعلقات خير شاهد لها‪ ،‬بحيث يصح النظر إليها على أنها معرض لمختلف‬
‫األحاسيس التي تجيش في صدر الشاعر‪ ،‬واألفكار التي تشغل ذهنه‪ .‬وتلك قناعة تاريخية‬
‫وفنية تنطق بها معاني تلك القصيدة‪ ،‬على األقل في ظاهر معانيها وشاهد مبانيها‪.‬‬

‫واذا كان التنوع البنائي حقيقة فنية بنيت عليها القصيدة العربية التقليدية‪ ،‬فمن المشروع‬
‫محاولة إعادة تفكيك ذلك البناء في محاولة لرصد العناصر األساسية التي تشد بعضه إلى‬
‫االختالف في حساب تلك العناصر‪ .‬على أنه‬
‫َ‬ ‫بعض‪ ،‬كما أن من المشروع في مرحلة ثانية‬
‫لن يكون إال اختالفا شكليا واجرائيا‪ ،‬تبعا لطريقة عمل المحلل‪ ،‬واألداة التي يختارها في‬
‫تحليل القصيدة‪ ،‬وزاوية الرؤية التي ينظر منها إلى كل عنصر‪ ،‬وعالقته بالعنصر السابق أو‬
‫الالحق أو كليهما معا‪ .‬وهو ما من شأنه – بال شك – أن ينجم عنه اختالف في أحقية‬
‫استقالل عنصر بنفسه‪ ،‬أو إمكان سلبه ذلك الحق والحاقه بالعنصر المجاور ‪.‬‬

‫لذلك ليس من المهم التوقف كثي ار عند تقسيم ثالثي أو رباعي للقصيدة التقليدية حين‬
‫فع َل الدكتور‬
‫التوجه إلى دراستها‪ .‬فمن الدارسين من يفضل بسط بنيتها في أربعة عناصر‪ْ ،‬‬
‫محمد عزام في قوله‪ " :‬كانت القصيدة العربية القديمة تتألف في بنيتها العامة من أربعة‬
‫عناصر فنية على األقل‪ ،‬وكل عنصر منها يشكل موضوعا مستقال ضمن القصيدة الواحدة‪،‬‬
‫وهذه الموضوعات هي‪:‬‬

‫‪ .1‬المقدمة الطللية‪ :‬حيث يقف الشاعر على أطالل حبيبته واصفا‪ ،‬وقد يستوقف رفيقه‬
‫ليشاركه حزنه وأساه‪.‬‬

‫‪ .2‬الغزل والنسيب‪ :‬وفيه ينتقل الشاعر إلى رسم صورة للحبيبة النائية‪.‬‬

‫‪ .3‬وصف الرحلة‪ ،‬والراحلة‪ ،‬والصحراء‪ ،‬وما القاه الشاعر من حر الهاجرة‪ ،‬وقلة الزاد والماء‪،‬‬
‫وما تعرض له من مخاطر وأهوال في رحلته الطويلة في الصحراء‪ ،‬لينتهي إلى الغرض‪.‬‬

‫‪ .4‬الغرض من مديح أو فخر أو هجاء‪ ،‬وهو غالبا ما يكون مديحا‪ ،‬ألن تصوير هذه‬
‫المعاناة اإلنسانية في اصطحاب الرفيق‪ ،‬والعاطفية في ذكر الحبيب‪ ،‬والحياتية في وصف‬

‫‪44‬‬
‫متاعب الرحلة‪ ،‬إنما تعتبر مدخال إلى الطلب‪ ،‬ومقدمة أو " ديباجة " للغرض‪ ،‬ليستعظم‬
‫الممدوح الجهد‪ ،‬فتعظم الجائزة "‪.1‬‬

‫غير أن الوعي النقدي العربي قد استقر في عمومه على أن القسمة ثالثية‪ ،‬لذلك ليس‬
‫رأي الدكتور محمد عزام أكثر من إمعان في القسمة بفصل الغزل عن الطلل‪ ،‬وتخصيص‬
‫وصف الرحلة بالذكر‪ ،‬مع إمكان ردها إلي الغزل والطلل لكون المقصود هو ما بعدهما أي‬
‫الغرضي‪ ،‬أو توزع الشرائح‬‫المدح غالبا‪ ،‬و هذه القسمة الثالثية تعود أساسا إلى المكون َ‬
‫بمصطلح التحليل البنيوي الحديث‪ ،‬إذ يأتي على رأس القصيدة عادة المقدمة الطللية الغزلية‪،‬‬
‫ثم التخلص أو الخروج إلى الغرض المقصود‪ .‬وأخي ار الختام الذي أغفلته قسمة الدكتور عزام‪.‬‬

‫ويحسن التنبيه إلى أننا حين نطلق لفظ " المقدمة " على الجزء المتعلق بالغزل ووصف‬
‫الطلل‪ ،‬ال يكون المعنى أنها مقدمة مقصودة بالمفهوم الحديث للكتابة الفنية‪ ،‬فمن البداهة أن‬
‫الشاعر العربي القديم ‪ -‬على األقل في العصر الجاهلي ‪ -‬لم يكن يوردها بقصدية وتعمد‪،‬‬
‫بل كان يفعل ذلك مدفوعا بحكم العادة الفنية واالجتماعية‪ -‬والعادة طبيعة ثانية ‪ -‬من غير‬
‫استعجال لقريحته للتخلص منها أو شعور بأنها وسيلة لغيرها‪ ،‬فهي في وعيه جزء ال يتج أز‬
‫من بنية القصيدة‪ ،‬لذلك كثي ار ما تطول هذه المقدمات ويسترسل فيها الشاعر بما يستحوذ‬
‫على غالب أبيات القصيدة‪.‬‬

‫بل أحيانا ال يتوجه إدراك ذلك الشاعر إلى تراتب األلفاظ‪ ،‬وما يحمله من دالالت في‬
‫البيت الواحد َب ْلهَ القصيدة كلها‪ .‬وقد يؤكد هذا ما روي من تعقب عمر بن الخطاب رضي اهلل‬
‫عنه لسحيم عبد بني الحسحاس في قوله ‪:‬‬

‫للمرء َناهَيا‬ ‫َكفَى َّ‬


‫اإلسالَ ُم َ‬
‫بو ْ‬ ‫الش ْي ُ‬ ‫ديا‬
‫ت َغا َ‬
‫ع إن تَ َجهَّز َ‬
‫عميرةَ ود ْ‬
‫إذ قال له ‪ :‬لو قدمت اإلسالم على الشيب ألجزتك‪ .‬فقال له ‪ :‬ما سعرت‪ .‬وكانت به لكنة‪،‬‬
‫يريد ما شعرت‪.2‬‬

‫‪ 1‬حممد عزام ‪ :‬بناء القصيدة التقليدية‪ ،‬املوقف األديب‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ع‪ ،201.‬أكتوبر‪ ،2191 ،‬ص‪.102.‬‬
‫‪ 2‬اجلاحظ‪ :‬البيان والتبيني‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.19.‬‬

‫‪45‬‬
‫وربما يكون في هذا ما يفسر هجمة بعض الشعراء على الغرض األصلي بعدها من غير‬
‫تمهيد‪ ،‬وهو ما عابه عليهم النقاد القدماء و تعقبوه عليهم‪ .‬فالنظر إلى هذه المقدمة على أنها‬
‫شريحة متميزة عما بعدها إنما هو من وعي الناقد ال الشاعر‪.‬‬

‫وحين ينصرف التصور إلى مقدمة القصيدة العربية القديمة تَمثُل فو ار المقدمة الطللية‬
‫الغزلية‪ ،‬التي رسخت في تراثنا األدبي تقليدا فنيا ضرب بجذوره من العصر الجاهلي حتى‬
‫العصر العباسي‪ ،‬تاريخ بداية معالم الثورة على هذا الموروث كما ذكر آنفا‪ .‬ولكن حتى في‬
‫هذا العصر‪ ،‬و مع هذه الثورة التابعة للمتغيرات الحضارية والمدنية‪ ،‬ظل هذا التراث الفني‬
‫يقاوم‪ ،‬ويواجه رياح التغيير‪ ،‬حتى إن أبا نواس و هو من أشهر الثائرين يعلن استسالمه له‬
‫على م اررة و تغيظ‪ ،‬حين دعاه الخليفة إلى وصف الطلل‪ ،‬وهجر وصف الخمر‪ ،1‬فقال ‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫الخم ار‬
‫فقد طال ما أزرى به َن ْعتُك ْ‬ ‫عرك األطال َل و ِّ‬
‫الد َمن الق ْف ار‬ ‫أَع ْر ش َ‬
‫أم ـ ـ ـ ـ ـ ار‬ ‫‪3‬‬
‫أجوز له ْ‬
‫يق ذراعي أن َ‬
‫تَض ُ‬ ‫نعت الطلول ُمسلَّـ ـ ـ ـط‬
‫دعاني إلى ْ‬
‫كنت قد جشمتني مركبا َو ْع ـ ـ ـ ار‬
‫وا ْن َ‬ ‫فسمع‪ 4‬أمي َر المؤمنين و طاع ـ ـ ـ ـة‬

‫وتلك شهادة تثبت أن الصراع بين المحدثين والمحافظين كان على أشده في هذا‬
‫العصر‪ ،‬وأن المحافظين كانوا محظوظين بميل الطبقة الحاكمة إليهم‪ .‬وهو أمر مفهوم إذ‬
‫طالما كان ميل األرستقراطيين والحكام إلى اإلبقاء على األوضاع المتوارثة‪ ،‬التي يستمدون‬
‫ُّ‬
‫وصدهم عن الثورات التجديدية التي غالبا ما تكون تهديدا‬ ‫منها مشروعية وجودهم و تَميزهم‪،‬‬
‫لمصالحهم‪ ،‬و ال يدرون بم يأتي جديدها؟‪ ،‬وال أي منقلب ينقلبون بعدها؟‪ .‬كما هي شهادة‬
‫ناطقة بما كان لتلك المقدمة من سلطان وغلبة على الذوق الفني حتى في ذلك العصر‬
‫المحيل‪.‬‬
‫المتـأخر‪ ،‬الذي حل فيه القصر المنيف والحديقة الغناء محل الخيمة والطلل ُ‬
‫ولعل ابن قتيبة أن يكون أول من تحدث حديثا تفصيليا عن بنية القصيدة التقليدية‪ ،‬في‬
‫مقدمته المشهورة لكتابه ( الشعر والشعراء ) و التي جاء فيها ‪... ":‬وسمعت بعض أهل‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد احلميد هنداوي‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بريوت‪ ،‬ط‪1002 ،2.‬م‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.‬‬
‫‪.102‬‬
‫‪ 2‬أبو نواس‪ :‬الديوان‪ ،‬حتقيق‪ :‬أمحد عبد اجمليد الغزايل‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1002 ،2.‬م‪ .‬ص‪.23 .‬‬
‫أرد "‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.102 .‬‬ ‫يف العمدة البن رشيق ‪ّ " :‬‬
‫‪3‬‬

‫فسمعا ‪ ...‬وطاعةً "‪ ،‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫يف العمدة البن رشيق " ً‬
‫‪4‬‬

‫‪46‬‬
‫األدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار و ِّ‬
‫الد َمن واآلثار فبكى وشكا وخاطب‬
‫الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها‪ ،‬إذ كان نازلة العمد في‬
‫الحلول و الظعن على خالف ما عليه نازلة المدر النتقالهم من ماء إلى ماء وانتجاعهم الكأل‬
‫وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان‪ ،‬ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط‬
‫الصبابة والشوق ُليميل نحوه القلوب وليصرف إليه الوجوه و ليستدعي به إصغاء األسماع‬
‫إليه ألن التشبيب قريب من النفوس الئط بالقلوب لما قد جعل اهلل في تركيب العباد من محبة‬
‫الغزل والف النساء[‪ ]...‬فإذا علم أنه قد استوثق من اإلصغاء إليه واالستماع له عقب‬
‫وسرى الليل وحر الهجير وانضاء‬‫بإيجاب الحقوق فرحل في شعره و شكا النصب والسهر ُ‬
‫الراحلة و البعير‪ ،‬فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل وقرر عنده‬
‫ما ناله من المكاره في المسير بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماح وفضله على‬
‫األشباه وصغر في قدره الجزيل‪.1"...‬‬

‫إن مقولة ابن قتيبة هذه‪ ،‬ذات أهمية بالغة من عدة وجوه‪ ،‬أهمها اثنان‪ ،‬أولهما‪:‬التفصيل‬
‫البين ألهم مكونين من مكونات بنية القصيدة العربية‪ ،‬وهما المقدمة والتخلص منها إلى‬
‫الغرض الذي بنى الشاعر قصيدته عليه‪ ،‬وثانيهما التعليل الذي يظهر في اجتهاد ابن قتيبة‬
‫من أجل التبرير لوضع المقدمة الطللية والغزلية بين يدي الغرض األصلي‪ ،‬وهو تعليل نفسي‬
‫يلتفت إلى تحايل الشاعر من أجل إثارة األريحية في نفس المتلقي ( الممدوح )‪ ،‬واستدرار‬
‫تعاطفه مع الشاعر‪.‬‬

‫لقد بادر ابن قتيبة محاولةَ تفسير هذا التقليد وتبرير تصدير القصائد به‪ ،‬و كان في‬
‫تفسيره صاحب قراءة تحليلية تعليلية جديرة باالحترام‪ ،‬بغض النظر عن النقد الذي وجهه‬
‫بعض الدارسين المعاصرين إلى قراءته تلك‪ ،‬كالمستشرق فالتر بروانه الذي رآه تفسي ار‬
‫قاص ار‪ ،2‬وقدم تفسي ار آخر نحا فيه المنحى النفسي عند ابن قتيبة‪ ،‬غير أنه ذهب بعيدا‪،‬‬
‫بتوغله في غيابات النفس اإلنسانية‪ ،‬ليصل إلى تفسير وجودي يبعثه في نفس الشاعر‬
‫الجاهلي قلقه الماورائي وتوجسه من الموت والفناء‪ ،‬معقبا على رأي ابن قتيبة بأن الشاعر‬

‫‪ 1‬ابن قتيبة‪ :‬الشعر والشعراء‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.92 .‬‬


‫‪ 2‬فالرت براونه‪ :‬الوجودية يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬جملة املعرفة‪ ،‬دمشق‪2192 ،‬م‪ ،‬ع‪ ،4.‬ص‪.221.‬‬

‫‪47‬‬
‫الجاهلي كان جزءا من الجماعة‪ ،‬وهو ما ال يحتاج معه إلى حيلة للفت االنتباه وجلب‬
‫االهتمام ‪.‬‬

‫غير أنه من الواجب أال نغفل أن ابن قتيبة كان يتحدث عن قصيدة المدح كما هو‬
‫جلي في آخر مقولته‪ ،‬وهذه القصيدة هي رسالة بين طرفين أولهما الشاعر( المادح ) الذي‬
‫يقوم مقام الباث‪ ،‬والثاني الممدوح الذي يقوم مقام المتلقي‪ ،‬ريثما ترتد الرسالة سالكة الطريق‬
‫المعاكس فيتبادل الطرفان دوريهما‪ ،‬فيصبح الممدوح باثا والمادح متلقيا والرسالة التي يتلقاها‬
‫هي جائزة الممدوح أو رضاه‪ ،‬ولعل في هذه الرحلة االرتدادية للرسالة ما يتيح للشاعر فترة‬
‫صحو تتوضح له فيها أناه‪ ،‬وتتميز عن اآلخر الذي يدخل معه في خطاب حقيقي يستلزم –‬
‫المخاطب‪ ،‬وهو ما يعضد تفسير‬
‫ضمن ما يستلزمه الخطاب من قوانين – عنصر التأثير في َ‬
‫ابن قتيبة‪.‬‬

‫ومث َل براونه ذهب الدكتور عز الدين إسماعيل إلى نقد رأي ابن قتيبة غير متردد في‬
‫تخطيئه صراحة‪ ،‬أو إعالن عدم كفايته في أحسن األحوال‪ ،‬و ذلك في قوله ‪ ":‬ونحن نذهب‬
‫منذ البداية إلى أن تفسير ابن قتيبة ليس صحيحا أو هو – على األقل ‪ -‬ليس كافيا"‪ ،1‬وهو‬
‫يعيب على ابن قتيبة نظره إلى قطعة النسيب بوصفها ‪ ":‬أداة فنية موجهة إلى الخارج‪ ،‬إلى‬
‫قلوب المتلقين وأسماعهم " في حين يراها هو ‪ ... ":‬تعبي ار يجسم لنا ارتداد الشاعر إلى نفسه‬
‫وخلوه إليها‪ ،‬وهو بذلك يعد الجزء الذاتي في القصيدة‪ ،‬الذي يعبر فيه الشاعر عن موقفه من‬
‫الحياة والكون من حوله "‪ .2‬وهذا ليس مستغربا من الدكتور عز الدين إسماعيل الذي يجنح‬
‫إلى المقاربات النفسية في الدراسات األدبية والتي ترى نجاح مقوالتها في تحليل نفسية‬
‫صاحب النص‪ ،‬ولكنها ال تروق حتما النظريات النقدية الحديثة التي تركز على المتلقي وتعد‬
‫المؤلف في عداد األموات‪.‬‬

‫تفسيري براونه وعز الدين إسماعيل كليهما‪ ،‬اللذين رجعا فيهما إلى داء العصر‬
‫َ‬ ‫ولعل‬
‫والعبثية الوجودية‪ ،‬وغيرها من األدواء التي قاساها اإلنسان المعاصر‪ ،‬وخصوصا اإلنسان‬
‫الغربي‪ ،‬السيما بعد الحرب العالمية الثانية التي زعزعت كيانه والعالم من حوله‪ ،‬لعلهما من‬

‫‪ 1‬عز الدين إمساعيل‪ :‬روح العصر‪ ،‬دار الرائد العريب‪ ،‬بريوت‪2193 ،‬م‪ ،‬ص‪.22.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ :‬ص‪.29.‬‬

‫‪48‬‬
‫إسقاطات علم النفس الحديث التي قد ال تكون بساطة نفسية الشاعر البدوي المنعكسة من‬
‫بساطة حياته االجتماعية‪ ،‬وقلةُ انشغاله بالتأمالت الميتافيزيقية مشجعة على االقتناع بها‪.‬‬

‫وفي معرض الردود على ابن قتيبة‪ ،‬قد يكون من اإلنصاف له أن يقال‪ :‬إنه كان في‬
‫مقولته السابقة يقف موقف الواصف المفسر‪ ،‬ال موقف الداعي المؤيد‪ ،‬وهو أمر نبه عليه‬
‫الدكتور عبد الحليم حفني الذي رأى‪ ":‬أن معظم النقاد المحدثين يسوق كالم ابن قتيبة على‬
‫أنه دعوة للتمسك بهذه المقدمات أو العناصر التي تسبق موضوع القصيدة‪ ،‬مع أنه من‬
‫الواضح أنه إنما يسوق هذا كله لمجرد التعليل لتقليد وعرف شائع بين الشعراء القدماء‪ ،‬ال أنه‬
‫سمعت بعض أهل األدب‬
‫ُ‬ ‫يطلب من الشعراء أن يسيروا على هذا المنوال‪ ،‬ولذلك كان تعبيره (‬
‫يذكر ‪ 1." )...‬واذا استبان هذا األمر لم يكن من مبرر لكثير من االعتراضات‪ ،‬التي وجهها‬
‫إليه نقاد محدثون آخرون‪ ،‬يسوقون كالمه على أنه إقرار ودعوة إلى التمسك بتلك الطريقة‪.‬‬

‫وفهم الدكتور حفني لمقولة ابن قتيبة هذه وليدة قراءة مشروعة للنص الذي وردت فيه‪،‬‬
‫ْ‬
‫اللهم إال أن يعترض معترض بألفاظ وعبارات واردة بعدها‪ ،‬قد تُوهم بأن ابن قتيبة يتبنى‬
‫طريقة الشعراء القدماء في االلتزام بالمقدمة الطللية الغزلية ويحض عليها‪ ،‬منها قوله بعد‬
‫المجيد من سلك هذه األساليب‪ ،‬وعدل بين هذه األقسام‪ ،‬فلم يجعل‬
‫نصه السابق ‪ ":‬فالشاعر ُ‬
‫واحدا منها أغلب على الشعر‪ ،‬ولم يطل فيمل السامعين‪ ،‬ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى‬
‫المزيد"‪ .2‬وقوله ‪ ":‬وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه األقسام‪،‬‬
‫فيقف على منزل عامر‪ ،‬أو يبكي عند مشيد البنيان‪ ،‬ألن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر‪،‬‬
‫َ‬
‫والرسم العافي‪ ،‬أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما‪ ،‬ألن المتقدمين رحلوا على الناقة‬
‫والبعير ‪.3" ...‬‬

‫وكلتا العبارتين ال تقوم دليال حاسما على أن ابن قتيبة داعية إلى االلتزام بتلك المقدمة‪،‬‬
‫فاستجادة ابن قتيبة للشاعر الذي يسلك هذا األسلوب في العبارة األولى إنما هي مشروطة‬
‫بما بعدها‪ ،‬وهو المناسبة والمعادلة بين أجزاء القصيدة‪ ،‬بين مقدمتها وما بعدها من تخلص‬
‫إلى المدح أو الغرض المقصود عموما‪ ،‬ويكون تحرير المعنى أنه إذا كان البد على الشاعر‬
‫أن يقف موقف المقلد للقدماء في هذا االلتزام‪ ،‬فعليه باإلجادة في التنسيق بين أجزاء القصيدة‬

‫‪1‬عبد احلليم حفين‪ :‬مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪2139 ،‬م‪ ،‬ص‪.21.‬‬
‫‪ 2‬ابن قتيبة‪ :‬الشعر والشعراء‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.92.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.99 .‬‬

‫‪49‬‬
‫واحداث التناسب بينها‪ .‬كذلك العبارة الثانية يمكن حملها على أنه يجب على الشاعر أن‬
‫يتحاشى محاولة خداع الناس بتجديدات شكلية‪ ،‬تحافظ على العادة القديمة في مجملها‬
‫وتتجاوزها في تفصيالتها‪ ،‬فيصدر قصيدته بوقفة على المعمور بدل األطالل‪ ،‬ويعتبر ذلك‬
‫تجديدا‪.‬‬

‫وهو ما يفصله الدكتور إحسان عباس بقوله مصححا فهم كثير من الدارسين لكالم ابن قتيبة‬
‫‪":‬وقد فهم بعض الدارسين أن ابن قتيبة يصر على أن يظل هذا الشكل نظاماً صارماً لكل‬
‫شاعر جاهلياً كان أو إسالمياً أو محدث ًا‪ ،‬وأنه حرم على المتأخرين التحلل من ربقة هذا‬
‫النظام‪ )...( ،‬وما أرى ابن قتيبة هنا يؤكد شيئاً سوى التناسب‪ ،‬أما قوله بعد ذلك " وليس‬
‫لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه األقسام فيقف على منزل عامر أو‬
‫يبكي عند مشيد البنيان ألن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر والرسم العافي‪ )...( ،‬فليس‬
‫ثمة أوضح منه في الداللة على تحريم التقليد الشكلي المضحك‪ ،‬واحالل مواد الحضارة محل‬
‫مواد البداوة في الشعر‪.1"...‬‬
‫ويحس إحسان عباس أن ابن قتيبة‪ ،‬كان في موقفه هذا يلمز مذهب أبي نواس في دعوته‬
‫إلى التجديد‪ ،‬ألنه يراه تجديدا شكليا‪ ،‬ال يتناول العمق‪ ،‬فـ "كأن ابن قتيبة يومئ من طرف‬
‫خفي إلى أن أبا نواس لم يصنع شيئاً فنياً في دعوته‪ ،‬وان كان ألبق من غيره من المأخوذين‬
‫بمواد الحضارة‪ ،‬ألن الوقوف على الحانات بدل الوقوف على األطالل تغيير في الموضوع ال‬
‫في الطريقة الفنية"‪ ،2‬فإذا صحت هذه القراءة لموقف ابن قتيبة أمكننا القول إنه ليس من دعاة‬
‫اإللتزام بالمقدمة والمتحمسين لها‪ ،‬بل هو في نصه األول مقرر لحالة قائمة‪ ،‬وعليه فهو ليس‬
‫ضد الشاعر المتخلي عن ذلك التقليد‪ ،‬بل ضد الشاعر المتحايل المستبدل للوقفة " الحضرية"‬
‫بالوقفة " البدوية "‪.‬‬
‫أما الدكتور طه مصطفى أبو كريشة فبعد أن أكد أن ابن قتيبة إنما كان يعني قصيدة المدح‬
‫كما تقدم‪ ،‬ولما كان المدح – في الغالب ‪ -‬وسيلة استجداء و طريقا إليه‪ ،‬علل التمهيد له‬
‫بتلك المقدمة باستنكاف النفس اإلنسانية من مواجهة اآلخر بالمسألة مباشرة‪ ،‬يقول‬
‫ويخيل إلي أن السبب الداعي إلى ذلك هو أن أغلب هذا النوع من القصيد إنما ُيقصد‬
‫‪ُ ...":‬‬
‫به طلب العطاء من الممدوح‪ ،‬ويبدو أن النفس تأنف من الجهر بحقيقة ما تطلبه من أول‬

‫‪ 1‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األديب عند العرب‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2139 ،2.‬م‪ ،‬ص‪.222-221 .‬‬
‫‪ 2‬السابق‪.222 ،‬‬

‫‪50‬‬
‫األمر‪ ،‬فتحب أن تمهد لذلك بذكر أمر آخر ليس له صلة بالمدح وطلب العطاء‪ ،‬شأن كل‬
‫من يريد قضاء أمر من األمور‪ ،‬فال يتكلم فيما يريد من أمره‪ ،‬مباشرة‪ ،‬وانما يقدم لذلك‬
‫تمت بصلة إلى مأربه الحقيقي‪ ،‬ثم شيئا فشيئا يقترب من عرض حاجته‬‫بأحاديث أخرى ال ُ‬
‫التي يريد قضاءها‪.1" ...‬‬
‫قر بتقبل التعليل الذي ساقه ابن‬
‫ويقع على تعليل إليراد الغزل ال يخلو من طرافة ووجاهة‪ُ ،‬م ا‬
‫قتيبة‪ ،‬وتعليلُه هذا يعود إلى تحرر الغزل من خصوصية المناسبة‪ ،‬ذلك أن الغزل يبدو ‪... ":‬‬
‫أنه الفن الشعري الوحيد الذي يمكن أن يقال مجردا عن المناسبة التي توجهه‪ ،‬واذا نظرنا إلى‬
‫بقية أغراض الشعر وجدنا أن المناسبة تتحكم فيها‪ ،‬وهذا فضال على ما ذكره القدماء من أن‬
‫حديث الغزل أقرب شيء إلى النفوس وأحبه إلى القلب‪ ،‬فالشاعر حينئذ واثق من اإلنصات‬
‫إليه‪ ،‬ضامن لوصوله إلى ما يريد "‪. 2‬‬

‫‪ 1‬طه مصطفى أبو كريشة‪ :‬أصول النقد األديب‪ ،‬مكتبية لبنان ناشرون‪/‬الشركة املصرية العاملية للنشر‪ ،‬لوجنمان‪ ،‬ط‪ ،2.‬ص‪.424.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الخروج والتخلص‬
‫يشير هذان المصطلحان إلى المرحلة التالية للمقدمة‪ ،‬فهما ِ‬
‫المفصل أو المنعرج الذي‬
‫ينعطف منه الشاعر إلى الغرض األصلي الذي يش ّكل دافعه إلى نظم القصيدة‪ .‬ويكون‬
‫تحيل ثم تتمادى‬
‫الخروج عند ابن رشيق بـ‪ ... ":‬أن تخرج من نسيب إلى مدح أو غيره بلطف ّ‬
‫فيما خرجت إليه "‪.1‬‬

‫و إ ذا كان هذان المصطلحان يتفقان في كونهما إشعا ار مسبقا بنهاية مرحلة‪ ،‬واالنتقال‬
‫إلى مرحلة الحقة لها‪ ،‬فقد حاول ابن رشيق أن يلتمس فرقا بينهما مع إق ارره بأن " ‪ ...‬من‬
‫الناس من يسمي الخروج تخلصا وتوسال‪ .2" ...‬فيدفع هذا الرأي‪ ،‬ذاهبا إلى أنه " أولى‬
‫بالشعر بأن يسمى تخ لصا ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى ثم عاد إلى األول‬
‫وأخذ في غيره ثم رجع إلى ما كان فيه‪.3" ...‬‬

‫فالمالحظ أن الخروج والتخلص عنده يجمعهما معنى االنتقال‪ ،‬لكنه يجعل هذا االنتقال‬
‫بين المعاني في التخلص‪ ،‬وبين األغراض في الخروج‪ ،‬كما هو واضح في ذكره النسيب‬
‫والمدح‪ ،‬وهو ما فهمه سعيد األيوبي من كالم ابن رشيق‪ ،‬يقول ‪ ... ":‬وظاهر كالم ابن‬
‫ويفهم منه أن الخروج يكون من النسيب إلى غرض‬‫رشيق أنه يميز بين الخروج والتخلص‪ُ ،‬‬
‫معين مدحا كان أو هجاء أو فخ ار أو غير ذلك‪ .‬وأن التخلص يكون من معنى إلى معنى ولو‬
‫في غرض واحد "‪.4‬‬

‫ولكن سرعان ما يستدرك على هذا الفهم بسبب ما أورده ابن رشيق من أبيات للنابغة‬
‫الذبياني مثال للتخلص‪ ،‬ورد فيها االنتقال من غرض إلى آخر‪ ،‬فقد قال ابن رشيق بعد‬
‫تمثيله‪ (...":‬إنه تخلص من النسيب إلى االعتذار )‪ ،‬فأفاد أن التخلص أيضا يكون من‬
‫النسيب إلى الغرض ألن النابغة تخلص من النسيب إلى االعتذار وهو غرض مساو‬
‫للمدح"‪.5‬‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.702.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.702.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.702 .‬‬
‫‪ 4‬سعيد األيويب‪ :‬عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬مكتبة املعارف‪ ،‬الرباط‪1221 ،‬م‪ ،‬ص‪.731 – 732 .‬‬
‫‪ 5‬السابق‪ ،‬ص‪.731.‬‬

‫‪53‬‬
‫اللبس أن نعلم أن المعنى عند القدماء – حين يتحدثون عن أبواب‬
‫َ‬ ‫وربما أزال هذا‬
‫الشعر وفنونه – ُيقصد به ما تعنيه األغراض الشعرية كما هو المصطلح الغالب اليوم من‬
‫غزل ومدح وغيرهما‪ ،‬فيكون مناط الفرق بين الخروج والتخلص أن األول ال يشترط فيه‬
‫العودة إلى الغرض السابق‪ ،‬أو على األقل للشاعر أن يتمادى في الغرض اآلخر ويستقصي‬
‫فيه كما جاء في آخر تعريفه له‪ ،‬بينما ال يكون التخلص إال بالعودة إلى الغرض األول‪.‬‬

‫يفرق‬
‫ثم يجب االنتباه إلى قوله ‪ ":‬وأولى بالشعر"‪ ،‬فقد يدل هذا على أن ابن رشيق ّ‬
‫بي ن المصطلحين في الشعر فحسب‪ ،‬وربما كان بذلك مساي ار لمن ال يفرقون بينهما في سائر‬
‫فنون القول‪ ،‬ونحن نعلم أن كتابه " العمدة " موقوف على نقد الشعر وآدابه تخصيصا كما‬
‫هو ّبين من تفصيل عنوانه ‪.‬‬

‫أما ابن األثير فقد ميز بين التخلص ومصطلح آخر هو االقتضاب‪ .‬يكون األول عنده‬
‫بـ ‪ ":‬أن يأخذ مؤلف الكالم في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره‬
‫وجعل األول سببا إليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع كالمه كأنما أفرغ‬
‫إفراغا‪ ...‬أما االقتضاب فإنه ضد التخلص وذاك بأن يقطع الشاعر كالمه الذي هو فيه‬
‫ويستأنف كالما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك وال يكون للثاني عالقة باألول"‪.1‬‬

‫والضدية التي ُيقيمها ابن األثير بين التخلص واالقتضاب ال تتناول المفهوم‪ ،‬إذ المفهوم‬
‫فيهما راجع إلى أمر واحد وهو االنتقال من غرض إلى آخر‪ ،‬وانما مرجعها إلى اآللية التي‬
‫يتم بها ذلك‪ .‬وهي تحقيق الربط والتلطف عند االنتقال في األول‪ ،‬وانعدام ذلك في الثاني‪،‬‬
‫فضل ابن األثير التخلص على االقتضاب نظ ار إلى ما يبذله‬ ‫وعلى أساس هذه الحيثية‪ّ ،‬‬
‫الشاعر من جهد فني وتقنية عالية يتطلبهما واجب سد الثغرات بين المعاني وَلحم أجزاء‬
‫العمل الفني في التخلص‪ ،‬بخالف االقتضاب الذي يهجم فيه الشاعر على غرضه بطريقة‬
‫المجانية‪.‬‬
‫قائمة على البتر و ّ‬

‫‪ 1‬ابن األثري‪ :‬املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد حميي الدين عبد احلميد‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.722 .‬‬

‫‪54‬‬
‫وبمقياس الطاقة والمشقة أيضا‪ّ ،‬برر خصوصية المهارة التي يجب أن تتوفر في‬
‫الشاعر دون الكاتب في هذه المسألة‪ ،‬ألن تلك التقنية " مما يدل على حذق الشاعر وقوة‬
‫تصرفه‪ ،‬من أجل أن نطاق الكالم ي ِ‬
‫ضيق عليه ويكون متبعا للوزن والقافية فال تواتيه األلفاظ‬ ‫َ‬
‫على حسب إرادته‪ ،‬وأما الناثر فإنه مطلق العنان يمضي حيث شاء فلذلك يشق التخلص‬
‫على الشاعر أكثر مما يشق على الناثر "‪.1‬‬

‫لذلك جعل التخلص مناط الميزة اإلبداعية التي تفرد بها المحدثون عن القدماء‬
‫والمخضرمين يقول ‪ ":‬وهو[ أي االقتضاب ] مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين‪ ،‬وأما‬
‫المحدثون فإنهم تصرفوا في التخلص فأبدعوا وأظهروا منه كل غريبة "‪.2‬‬

‫وي ِرُد على هذه المعاني االستطراد‪ ،‬وهو ‪ ":‬أن يكون الشاعر آخذا في غرض من‬ ‫َ‬
‫أغراض الشعر من غزل‪ ،‬أو وصف‪ ،‬أو غيره ‪ ...‬فيستطرد منه إلى ذكر غيره بنوع من أنواع‬
‫البديع‪ ،‬ثم يعود إلى ما كان فيه‪ ،‬فإن لم يعد فهو خروج‪ .‬و أكثر ما يكون في الهجاء"‪.3‬‬

‫وبهذا المعنى يقترب من معنى التخلص‪ ،‬ويخرجان من مكونات بنية القصيدة بما أن‬
‫شرطهما العودة إلى الغرض أو المعنى السابق‪ ،‬ليبقى الخروج هو المصطلح المناسب‬
‫للمقابلة بينه وبين قسيميه في تلك البنية‪ :‬الموضوع األصلي والختام‪ .‬وقد الحظ النقاد‬
‫والبالغيون القدماء أن للشعراء ثالثة مذاهب في الخروج‪:‬‬

‫‪ .1‬الخروج المتصل بما قبله ‪ :‬وهو الذي سماه ابن األثير التخلص‪.‬‬
‫‪ .2‬الخروج المنفصل‪ ،‬والعادة أن يستعمل الشاعر فيه عبارة إنشائية في صيغة األمر‪ ،‬تصرف‬
‫وع ِّد عن ذا"‪ ،4‬و" ِّ‬
‫سل‬ ‫المستمع عن الغرض السابق و تلفته إلى الالحق‪ ،‬مثل " دع ذا "‪َ " ،‬‬
‫الهم بكذا "‪.‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬صفي الدين احللي‪ :‬شرح الكافية البديعية‪ ،‬حتقيق نسيب نشاوي‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر‪1222 ،‬م‪ ،‬ص‪.23 .‬‬
‫‪4‬‬
‫ابن رشيق القيرواني‪ :‬العمدة في محاسن لشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.212 .‬‬

‫‪55‬‬
‫‪ .3‬الطفر واالنقطاع‪ : 1‬ويقابل عند ابن األثير "االقتضاب "‪ ،‬ويسميه سعيد األيوبي الخروج‬
‫المضمر‪.2‬‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 2‬سعيد األيويب‪ :‬عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.732.‬‬

‫‪56‬‬
‫الـخـتــــــــــــــــــــــام‬
‫إذا كان الخروج هو المرحلة التي تنتهي بها المقدمة‪ ،‬فالختام هو المرحلة التي تنتهي‬
‫بها القصيدة كلها‪ .‬واذا كانت التقليد النقدي والبالغي القديم قد رصد من الشروط الفنية ما‬
‫بوا غير‬
‫ون ّ‬
‫يحقق االنسجام بين المقدمة وما يليها‪ ،‬ويجعل الخروج منها سلسا ال يش ّكل نشا از ُ‬
‫منظور في أفق انتظار المتلقي‪ ،‬فإن عنايته بالختام لم تكن أقل‪ .‬انطالقا من إدراكه ما له من‬
‫قدرة على تحقيق قانون بقاء األثر‪ ،‬الذي يشكل ضرورة ملحة الستمرار حالة التقبل عند‬
‫المتلقي‪ ،‬أو حالة الضغط بالمصطلح األسلوبي‪ ،‬والذي هو مرجع تعريف األسلوب انطالقا‬
‫طب إذ " يتجه رواد التنظير والتحليل إلى اعتبار األسلوب ضغطا مسلطا‬
‫من مصادرة المخا َ‬
‫على المتقبل بحيث ال ُيلقى الخطاب إال وقد تهيأ فيه من العناصر الضاغطة ما يزيل عن‬
‫المتقبل حرية ردود الفعل "‪.1‬‬

‫ومن التسميات التي أطلقها القدماء عليه " االنتهاء "‪ ،‬كما جاء عند ابن رشيق الذي‬
‫َيح ّده بقوله ‪ ":‬وأما االنتهاء فهو قاعدة القصيدة وآخر ما يبقى منها في األسماع‪ ،‬وسبيله أن‬
‫أحسن منه واذا كان أول الشعر مفتاحا له‬
‫ُ‬ ‫يكون ُم ْح َكما ال تمكن الزيادة عليه وال يأتي بعده‬
‫وجب أن يكون اآلخر قفال عليه "‪ .2‬إضافة إلى المقطع‪ ،‬ألنه المرحلة التي يقطع فيها‬
‫الشاعر كالمه‪.‬‬

‫والتسميات الثالث كلها تشير إلى أن أهم ميزة يجب أن تتحقق لهذا الجزء‪ ،‬هي‬
‫االكتفاء واإلقناع والرضا‪ :‬االكتفاء من الناحية الداللية والشعورية‪ ،‬بحيث يتضمن الختام آخر‬
‫ما أراد الشاعر إيصاله من المقاصد والمعاني‪ ،‬ومنتهى الطاقة الشعورية التي شحن بها‬
‫قصيدته‪ .‬واإلقناع والرضا بالنسبة إلى المتلقي الذي يجب أن يقتنع بقدرة هذه األبيات أو‬
‫البيت األخير على اإليفاء بما سبق‪ ،‬ويرضى عن اختيار الشاعر لطريقة إنهاء القصيدة‪،‬‬
‫ويحس أن آخرها كان – حقيق ًة ‪ -‬ذروةَ تناميها بحيث ال مستز َاد بعده‪ ،‬وبالتعبير المصطلحي‬
‫في نقد استجابة القارئ‪ ،‬يجب أن يكون الختام تاما مقنعا يسد على المتلقي أفق االنتظار‪،‬‬
‫وهو رأي النقاد الذين يلخص الدكتور طه أبو كريشة موقفهم من هذه القضية بقوله‪" :‬والنقاد‬

‫‪ 1‬عبد السالم املسدي‪ :‬األسلوب واألسلوبية‪ ،‬دار الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،6002 ،5.‬ص‪.26.‬‬
‫‪ 2‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.610.‬‬

‫‪85‬‬
‫يرون في هذا المجال أن على الشاعر أن ال ينهي قصيدته في موطن ال يحس فيه السامع‬
‫باالنتهاء‪ ،‬و يتطلع إلى المزيد "‪.1‬‬

‫الختام ما هو أحسن منه‪ ،‬ما يشير إلى ضرورة‬


‫َ‬ ‫يتلو‬
‫وفي اشتراط ابن رشيق أالّ َ‬
‫تضمين الشاعر ختام قصيدته آخر دفقة من الشحنة الجمالية‪ ،‬وهو مقياس– كما هو واضح–‬
‫يستحضر المتلقي‪ ،‬ويضع ذائقته الفنية في بؤرة االهتمام‪.‬‬

‫ومث َل براعة المطلع التي اتخذها البالغيون فنا بديعيا قائما بنفسه‪ ،‬يورده البديعيون في‬

‫صدر منظوماتهم البديعية‪ ،‬اتُّخذت براعةُ الختام محسنا بديعيا يختمونها به‪ْ .‬‬
‫فع َل صفي الدين‬
‫عرفه في ختام شرح الكافية بقوله ‪ ":‬هو عبارة عن أن تُختم القصيدة بأجود بيت‬ ‫ِ ِّ‬
‫الحل ّي الذي ُي ّ‬
‫يحسن السكوت عليه‪ ،‬ألنه آخر ما يبقى في األسماع‪ ،‬و ربما ُحفظ دون غيره لقرب العهد‬
‫به‪ ،‬والحذاق والنقاد يحافظون عليه‪ ،‬وأكثر مقاطع القرآن المجيد كذلك "‪ .2‬ويضرب مثاال‬
‫لذلك قول المتنبي ‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫السالم‬
‫ُ‬ ‫ك و رحمةُ اهلل‬
‫علي َ‬ ‫ُعطيت الذي لم ُيعط َخ ْلق‬
‫َ‬ ‫وأ‬

‫ويتميز الختام عن باقي أجزاء القصيدة بمهمة تقويمية‪ ،‬تتمثل في كونه مناط تدارك‬
‫الشاعر لما يمكن أن يقع له فيها من خلل‪ ،‬ومظنة ِّ‬
‫سد الثغرات‪ ،‬التي يحتمل أن تكون‬
‫ِ‬
‫وجبر ما شابها من قصور‪ .‬فعلى قدر ما يكون االنتهاء جيدا مختا ار تلَقّاه‬ ‫أصابت بناءها‪،‬‬
‫السامع "‪ ...‬بغاية القبول‪ ،‬واستلذه استلذاذا يجبر به ما وقع فيما سبقه من التقصير‪.4" ...‬‬

‫‪ 1‬طه مصطفى أبو كريشة‪ :‬أصول النقد األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.647.‬‬
‫‪ 2‬صفي الدين احللي‪ :‬شرح الكافية البديعية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.444.‬‬
‫‪3‬‬
‫أبو الطيب المتنبي‪ :‬الديوان بشرح أبي البقاء العكبري‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪0202 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪ ،52 .‬وفيه " عليك صالة ربك‬
‫والسالم "‪.‬‬
‫‪ 4‬ابن يعقوب املغريب‪ :‬شرح مواهب الفتاح على تلخيص املفتاح‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد احلميد هنداوي‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بريوت‪ ،‬ط‪6002 ،1.‬م‪،‬‬
‫ج‪ ،1.‬ص‪.746 .‬‬

‫‪85‬‬
‫والعكس صحيح‪ ،‬فربما أحبط عدم إتقان صنعة الخاتمة كل ما سلف في القصيدة من‬
‫ويرمى في الوراء‪ ،‬ويكون‬
‫إبداع‪ ،‬وذهب برونق ما بدر فيها من محاسن‪ ... " ،‬فيعمه الذم ُ‬
‫عند السامع مما ُينبذ بالعراء‪ ،‬ومن المعلوم في المذوقات أن آخر الطعم إن كان لذيذا أنسى‬
‫م اررته األولى‪ ،‬وان كان ُم ار أنسى حالوته األولى ‪.1" ...‬‬

‫ويحيل ذكر صفي الدين الحلي لمقاطع القرآن في تعريفه السابق‪ ،‬إلى عناية الدراسات‬
‫القرآنية بخواتم السور‪ ،‬إذ لم تكن أقل من عناية الدراسات البالغية والنقدية بختام القصيدة‪.‬‬
‫فقد أفرد العلماء المهتمون بتلك الدراسات‪ ،‬خواتم السور بدراسات خاصة جعلوها قسيمة‬
‫للفواتح في أنواع علوم القرآن ومباحثه كالزركشي الذي جعلها ثامنة تلك األنواع‪ ،‬يقول في‬
‫شأنها‪ ... ":‬وهي مثل الفواتح في الحسن‪ :‬ألنها آخر ما يقرع األسماع‪ ،‬فلهذا جاءت متضمنة‬
‫للمعاني البديعة‪ ،‬مع إيذان السامع بانتهاء الكالم حتى يرتفع معه تشوف النفس إلى ما ُيذكر‬
‫بعد "‪ .2‬ويقف عند شاهد لذلك من قوله تعالى‪َ ﴿:‬ه َذا َب َالغ لِ َّلن ِ‬
‫اس ﴾‪ [،‬إبراهيم‪ ،‬اآلية‪.] 80 :‬‬

‫وربما كان للدراسات القرآنية تفوق في رصد نكتة دقيقة لم تبلغ فيها شأوها البحوث‬
‫الموجهة إلى نقد الشعر وبالغته‪ ،‬على األقل من الناحية التطبيقية‪ ،‬تلك هي مالحظة‬
‫الوشائج بين المطلع والختام‪ .‬فإذا كانت القصيدة امتدادا محصو ار بين طرفين يش ّكل المطلع‬
‫أولهما‪ ،‬والختام آخرهما‪ ،‬فمن المشروع النظر في عالقة تربط بينهما‪ ،‬مهما طال االمتداد‬
‫الفاصل بينهما‪ ،‬كأن يكون الختام للمطلع " رجع صدى عليه‪ ،‬أو مقابلة لمعناه‪ ،‬أو تذكي ار به‪،‬‬
‫أو تلخيصا له ‪.3" ...‬‬

‫وقد وجدت تلك المسألة مكانها في علوم القرآن بوصفها من مباحث ما ُعرف‬
‫بعلم(المناسبة)‪ ،‬التي رتبها الزركشي نوعا ثانيا بعد ( أسباب النزول ) في كتابه ( البرهان في‬
‫علوم القرآن )‪ .‬يقول مبينا قيمتها ومعرفا إياها ‪ ":‬واعلم أن المناسبة‪ ،‬علم شريف‪ ،‬تحزر به‬
‫ويعرف به قدر القائل فيما يقول‪ ،‬والمناسبة في اللغة‪ :‬المقاربة‪ ،‬وفالن يناسب فالنا‪،‬‬
‫العقول‪ُ ،‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.745.‬‬
‫‪ 2‬الزركشي‪ :‬الربهان يف علوم القرآن‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بريوت‪6002،‬م‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.61.‬‬
‫‪ 3‬سعيد األيويب‪ :‬عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.662 .‬‬

‫‪02‬‬
‫أي يقرب منه ويشاكله‪ ،‬ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل‪ ،‬كاألخوين وابن العم ونحوه‪،‬‬
‫[‪ ]...‬وكذلك المناسبة في فواتح اآلي وخواتمها‪.1"...‬‬

‫ويبين أنواع العالقات التي يمكن أن تقوم عليها هذه المناسبة بقوله‪ ":‬ومرجعها – واهلل‬
‫معنى ما رابط بينهما‪ :‬عام أو خاص‪ ،‬عقلي أو حسي أو خيالي‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫ً‬ ‫أعلم – إلى‬
‫أنواع العالقات‪.‬أو التالزم الذهني‪ ،‬كالسبب والمسبب‪ ،‬والعلة والمعلول‪ ،‬والنظيرين‪ ،‬والضدين‪،‬‬
‫ونحوه‪ ،‬أو التالزم الخارجي‪ ،‬كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخير"‪.2‬‬

‫أما الفائدة من ذلك فهي ‪ ":‬جعل أجزاء الكالم بعضها آخذا بأعناق بعض‪ ،‬فيقوى بذلك‬
‫االرتباط‪ ،‬ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم‪ ،‬المتالئم األجزاء"‪.3‬‬

‫أداه إلى نتائج لم‬


‫وقد اجتهد الزركشي في سبيل ربط فاتحة السورة بخاتمتها اجتهادا ّ‬
‫تَخ ُل من لطافة مدخل‪ ،‬ودقة مالحظة‪ ،‬وخص الحديث في ذلك بفصل " في مناسبة فواتح‬
‫السور وخواتمها "‪ ،‬وضرب مثال لذلك سورة القصص‪ ... " ،‬وبداءتها بقصة مبدإ أمر موسى‬
‫فلن أكون ظهي ار للمجرمين ﴾ [ القصص‪ ،‬اآلية‪ ] 01 :‬وخروجه من‬ ‫ونصرته‪ ،‬وقوله‪َ ﴿ :‬‬
‫وطنه ونصرته واسعافه بالمكالمة‪ ،‬وختمها بأمر النبي صلى اهلل عليه وسلم بأالّ يكون ظهي ار‬
‫ِ‬
‫آن‬ ‫للكافرين‪ ،‬وتسليته بخروجه من مكة والوعد بعوده إليها بقوله‪ ﴿ :‬إِ َّن الذي فَ َر َ‬
‫ض َعلَ ْي َك القُ ْر َ‬
‫لَ َاُّرد َ‬
‫ك إِلَى َم َع ٍاد ﴾ [ القصص‪ ،‬اآلية‪.4] 58 :‬‬

‫ويحيل بشاهد آخر إلى الزمخشري في ربطه بين مفتتح سورة ( المؤمنون ) وختامها‪،‬‬

‫الم ْؤ ِم ُن َ‬
‫ون ﴾[ المؤمنون‪ ،‬اآلية‪ ،] 0:‬وأورد في‬ ‫حيث يقول‪ ...":‬جعل فاتحة السورة ﴿ قَ ْد أَ ْفلَ َح ُ‬
‫خاتمتها ﴿ ‪ ...‬إنه ال يفلح الكافرون ﴾ [ اآلية‪ ،] 001 :‬فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة‪.5‬‬

‫‪ 1‬الزركشي‪ :‬الربهان يف علوم القرآن‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بريوت‪6002،‬م‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.61.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬ص‪.146.‬‬
‫‪ 5‬الزخمشري‪ :‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪6002 ،1.‬م‪،‬‬
‫ج‪،4 .‬ص‪.152 .‬‬

‫‪00‬‬
‫ولعل من أكثر خواتم القصائد استجابة لما اشترطه الزركشي من حسن واكتفاء‪ ،‬إضافة‬
‫إلى مناسبة المطلع قول المتنبي في ميميته التي عاتب بها سيف الدولة‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫الد َّر إال أََّنهُ َكلِ ُم‬
‫ض ِّمن ُّ‬
‫قد ُ‬ ‫ك إالّ ّأنه ِمقَة‬
‫هذا ِعتَ ُاب َ‬

‫ص ّدر باسم اإلشارة " هذا "‪ ،‬الذي‬


‫ففضال على حسن موقع البيت من الخاتمة‪ ،‬فقد ُ‬
‫يشير إلى المعنى النهائي المحصَّل من معاني القصيدة الجزئية‪ ،‬وهو معنى العتاب الذي تال‬
‫ص ّدرت بها اآلية التي اتخذها الزركشي شاهدا لحسن‬ ‫اسم اإلشارة‪ .‬وهو اللفظ نفسه الذي ُ‬
‫الخاتمة‪َ ﴿ :‬ه َذا َب َالغ لِ َّلن ِ‬
‫اس ﴾‪ .‬كما أنها نهاية مناسبة لمطلع القصيدة المفعم بألفاظ العتاب‬
‫واللوم‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫الح َك ُم‬ ‫َ ِ‬ ‫يا أَعد َل َِّ ِ َّ‬
‫صم و َ‬
‫الخ ُ‬
‫أنت َ‬
‫صام و َ‬
‫فيك الخ ُ‬ ‫عاملتي‬
‫الناس إال في ُم َ‬ ‫ْ‬

‫وهذا يحيلنا مرة أخرى إلى مسألة الوحدة بين أجزاء القصيدة العربية التقليدية‪ ،‬ومحاولة‬
‫رصد ما توفر فيها من بعض أدوات االتساق‪ ،‬الذي تجنح إليه لسانيات النص في البحث‬
‫النصية‪ .‬مثل اإلحالة التي من وسائلها أسماء اإلشارة‪ ،‬وخصوصا المفرد منها إذا‬
‫ّ‬ ‫عن شروط‬
‫وقع هذا الموقع من نهاية القصيدة فـ" ‪ ...‬إذا كانت أسماء اإلشارة بشتى أصنافها محيلة‬
‫إحالة قبلية‪ ،‬بمعنى أنها تربط جزءا الحقا بجزء سابق ومن ثََّم تساهم في اتساق النص‪ ،‬فإن‬
‫ورقية حسن ] " اإلحالة‬
‫اسم اإلشارة المفرد يتميز بما يسميه المؤلفان [ م‪ .‬أ‪ .‬هاليداي ّ‬
‫الموسعة " أي إمكانية اإلحالة إلى جملة بأكملها أو متتالية من الجمل "‪.3‬‬

‫نخلص بعد هذا كله إلى أن النقد العربي القديم قد انتبه إلى خطورة هذه العناصر‬
‫الثالثة التي تتركب منها القصيدة‪ ،‬وأَولى َّ‬
‫كل عنصر منها من الشروط والخصائص الفنية‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ما يجعله عضوا فاعال وحيا في بنيتها‪ ،‬غير قاصر عنايته على عنصر دون آخر‪ .‬وذلك ما‬
‫توجزه عبارة القاضي الجرجاني التي يقول فيها ‪ ":‬والشاعر الحاذق يجتهد في تحسين‬

‫‪1‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان بشرح العكبري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.314 .‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.300 .‬‬
‫‪ 3‬حممد خطايب‪ :‬لسانيات النص مدخل إىل انسجام اخلطاب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب – بريوت‪ ،‬ط‪ ، 6002 ،6.‬ص‪.11.‬‬

‫‪00‬‬
‫االستهالل والتخلص وبعدهما الخاتمة‪ ،‬فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور‪،‬‬
‫وتستميلهم إلى اإلصغاء "‪.1‬‬

‫القاضي الجرجاني – ربما بوحي من القضاء الذي تواله‪ ،‬والوساطة التي‬ ‫ولم ِ‬
‫يفت‬
‫َ‬
‫انتهجها للحكم بين المتنبي وخصومه – أن يوظف المقارنة والموازنة‪ ،‬إحدى أهم آليات الحكم‬
‫والمفاضلة‪ ،‬وهو يتحدث في الفرق بين القدماء والمحدثين في العناية بهذه المفاصل من‬
‫القصيدة فيقول‪ ،‬متخذا البحتري من المحدثين أنموذجا للمقارنة بينهم وبين القدماء ‪ ... ":‬ولم‬
‫تكن األوائل تخصها بفضل مراعاة‪ ،‬وقد احتذى البحتري على مثالهم إال في االستهالل‪ ،‬فإنه‬
‫عني به فاتفقت له فيه محاسن ‪.2" ...‬‬

‫‪ 1‬القاضي اجلرجاين‪ :‬الوساطة بني املتنيب وخصومه‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد أبو الفضل إبراهيم وعلي حممد البجاوي‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪6002‬م‪ ،‬ص‪.51.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪03‬‬
‫الفصـــــل الثـــاني‬

‫الوحـــــدة في القصيدة العربيــــة التقليديـة‪:‬‬

‫تعدد األغراض ووحدة القصيدة‬

‫وحدة البيت ووحدة القصيدة‬

‫الوحدة العضوية‬
‫تعدد األغراض ووحدة القصيدة‬
‫الحديث عن بنية القصيدة العربية يقود إلى الحديث عن الوحدة فيها‪ ،‬السيما أننا رأينا‬
‫أن الشمولية أو التماسك شرط أساسي في تحقق كينونة البنية‪ .‬واال كانت تجميعا عشوائيا‬
‫لعناصر ال رابط بينها إال الوجود المتزامن في حيز مكاني واحد‪ ،‬من غير عالقة وظيفية أو‬
‫نسبة تفاعلية توحدها‪ .‬يضاف إلى ذلك أن المطلع جزء من المقدمة التي هي نفسها جزء من‬
‫القصيدة‪ ،‬وهو ما يجعل الحديث عنها محاولة لتلمس مناسبة المطلع لموضعه‪ ،‬وتنقيبا عن‬
‫قيمه الجمالية‪ ،‬وحمولته العاطفية والمضمونية‪ ،‬وابراز مدى تواشج ذلك كله مع عموم‬
‫العناصر الم َشكلة للوحدة في القصيدة‪.‬‬

‫وقبل الخوض في هذه المسألة وما يتفرع منها‪ ،‬نذكر أن حازما القرطاجني أشار إلى‬
‫نوعين من القصائد ناظ ار إليها من الزاوية الغرضية فقال ‪ ":‬والقصائد منها بسيطة ومنها‬
‫مركبة‪ .‬والبسيطة مثل القصائد التي تكون مدحا صرفا أو رثاء صرفا‪ .‬والمركبة هي التي‬
‫يشتمل الكالم فيها على غرضين مثل أن تكون مشتملة على نسيب ومديح "‪.1‬‬

‫ومن الحق القول‪ :‬إن ظاهر القصيدة القديمة ( المركبة ) الم َّ‬
‫صدرة بالمقدمة الطللية‬
‫الغزلية ال يساعد على االقتناع بوجود وحدة فيها‪ .‬وواضح أن الوحدة المقصودة هنا هي ما‬
‫يسمى في النقد الحديث " الوحدة الموضوعية "‪ ،‬التي من مقاييسها القدرة على الخروج من‬
‫النص بفكرة عامة واحدة تعبر عن مغزاه اإلجمالي‪.‬‬

‫والى أرسطو تنسب أولية الدعوة إلى هذا النوع من الوحدة‪ ،‬ويشرحها بقوله ‪ ":‬إن وحدة‬
‫الخرافة ال تنشأ‪ ،‬كما يزعم البعض‪ ،‬عن كون موضوعها شخصا واحدا‪ ،‬ألن حياة الشخص‬
‫الواحد تنطوي على ما ال حد له من األحداث التي ال تكون وحدة‪ .‬كذلك الشخص الواحد‬
‫يمكن أن ينجز أفعاال ال تكون فعال واحدا [‪ ]...‬وكما في سائر فنون المحاكاة تنشأ وحدة‬
‫المحاكاة من وحدة الموضوع كذلك في الخرافة‪ ،‬ألنها محاكاة فعل‪ ،‬يجب أن يكون الفعل‬
‫واحدا و تاما "‪.2‬‬

‫القرطاجن‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد احلبيب بن اخلوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1891 ،2.‬م‪ ،‬ص‪.303.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 1‬حازم‬
‫‪ 2‬أرسطوطاليس‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ترمجة وحتقيق‪ :‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬مكتبة النهضة املصرية‪ ،‬القاهرة‪1893 ،‬م‪ ،‬ص‪.29 - 22 .‬‬

‫‪66‬‬
‫غرضي‪،‬‬
‫غير أن انتفاء هذه الوحدة يكون صحيحا إذا بنينا حكمنا هذا على أساس َ‬
‫ينظر فيه إلى الموضوع أو الشرائح التي تشتمل عليها تلك القصيدة‪ ،‬وأغفلنا زوايا نظر أخرى‬
‫يمكن أن تتخذ وشائج تشد تلك الشرائح‪ ،‬وتجعلها لبنات تتجاور وتتالحم في مركزية بنائية‬
‫واحدة‪.‬‬

‫واذا استندنا إلى أن الشعر أساسا هو رؤية خاصة بالشاعر‪ ،‬يتأسس عليها موقفه من‬
‫العالم‪ ،‬ونظرته إلى الحياة‪ ،‬وأن خصوصيتها من القوة والحضور بحيث تتجاوز إطار‬
‫العالقات المنظورة‪ ،‬والنسب المألوفة بين األشياء‪ ،‬إلى اختراع عالقات جديدة بينها‪ ،‬أمكننا‬
‫أن نقتنع أن معطيات الحس األولي تستحيل مادة أولية‪ ،‬في وسع الشاعر أن يستحدث منها‬
‫عالما متجانسا وموحدا من الموضوعات والصور والعالقات قائما في إدراكه وفكره‪ ،‬مهما‬
‫بدت متنافرة ومتباعدة في عالم األشياء الخارجية المفارقة لعالم النفس الداخلي‪.‬‬

‫لذلك نكون مخطئين حتما إذا اعتقدنا أن أبيات القصيدة العربية القديمة خلت من كل‬
‫مظاهر الوحدة‪ ،‬فما أكثر الزوايا التي يمكن من خاللها النظر إلى التماسك والترابط بين‬
‫أجزاء العمل الفني عامة والقصيدة خاصة‪.‬‬

‫إن التماسك في القصيدة يمكن أن َيعتاض عن هذه الوحدة الموضوعية بالوحدة‬


‫الشعورية أو الوجدانية‪ ،‬التي يمكن بها الجمع بين معان‪ ،‬بل بين موضوعات يحكم الناظر‬
‫بتباعدها وتناثرها إذا عرضها على المحك المنطقي والفكري‪ ،‬ولكنه سرعان ما يسلم بانتظامها‬
‫في سيرورة نفسية واحدة عندما يخضعها للمقاربة العاطفية‪ .‬فكثي ار ما يرى الشاعر الجاهلي‬
‫في األطالل الخربة الموحشة فراغه النفسي بسبب موت أحد أقاربه أو ظعن حبيبته‪ ،‬والتي‬
‫يستطرد إلى ِذكرها بعد المقدمة الطللية المؤدية إلى الغزل‪ ،‬باعتبار الطلل هو البعد المكاني‬
‫المعادل للبعد الزماني حيث تقيم ذكرى ِوصال المحبوبة المهاجرة‪.‬‬

‫وبناء على ذلك‪ ،‬وبتوفر جوانب من تلك القيم‪ ،‬والتصورات في القصيدة‪ ،‬يصبح في‬
‫اإلمكان الحديث عن أنماط من الوحدة بعيدا عن وحدة الموضوع‪ ... " ،‬فالوحدة تتحقق إذا لم‬

‫‪67‬‬
‫يشعر الذوق بالبعد والقطيعة بين الفكرة والفكرة‪ ،‬أو الصورة والصورة‪ ،‬ويستوي في ذلك أن‬
‫يكون الموضوع واحدا أو تتعدد الموضوعات "‪.1‬‬

‫ويشير طه مصطفى أبو كريشة إلى تقديم الرمزيين الوحدة الشعورية على الوحدة‬
‫الفكرية الظاهرية بقوله‪..." :‬إال أنه نقل عن النقد الغربي أن فيه من يستسيغ االنتقال في‬
‫القصيدة من فكرة إلى فكرة على أساس اإلحساس‪ ،‬والشعور النفسي‪ ،‬مع ضعف الرابطة‬
‫المنطقية بين الفكـرتين‪ ،‬وذلك قصدا إلى إثارة عنصر المفاجأة‪ ،‬وهؤالء هم الرمزيون"‪ ،2‬ويعلل‬
‫ذلك بإسراف الرمزية في الخيال "‪.3‬‬

‫واذا كان الشعر هو ذلك الوارد الغريب الذي يزور األشياء فيزيلها عن مواضعاتها‪،‬‬
‫وينزع األلفة عنها‪ ،‬فلن يكون هذا األمر من باب التجوز والمسامحة فيه‪ ،‬بل يكون عندئذ من‬
‫ألزم األشياء في طبيعته‪ ،‬وأخص الخصائص في ماهيته‪.‬‬

‫‪ 1‬طه مصطفى أبو كريشة‪ :‬أصول النقد األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.224.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.229 .‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫وحدة البيت ووحدة القصيدة‬
‫أساسية‪ ،‬من أجل ذلك‬
‫ّ‬ ‫وخطية‬
‫ّ‬ ‫يش ّكل البيت في القصيدة العربية القديمة وحدة صوتية‬
‫النظرّية القديمة على ضرورة أن يكون مكتفيا بذاته‪ ،‬وذلك ال يتحقّق له إال باستقالله‬
‫رّكزت ّ‬
‫بنائيا ومعنويا عن سائر أبيات القصيدة‪ .‬ومن هنا جاءت فكرة " بيت القصيد "‪ ،‬أي البيت‬
‫المشتمل على الغرض األساسي لل ّشاعر‪ ،‬وهو ما لن يكون – نظرّيا ‪ -‬إالّ والبيت في معزل‬
‫عن األبيات األخرى‪.‬‬

‫وحدة البيت هذه هي التي أشار إليها ابن خلدون بقوله متحدثا عن صناعة الشعر‬
‫ووجه تعلمه ‪ ... ":‬وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كالم وحده مستقل عما‬
‫قبله وما بعده‪ .‬واذا أُفرد كان تاما في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على‬
‫إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته ثم يستأنف في البيت اآلخر كالما آخر كذلك "‪.1‬‬

‫من الواضح أن ابن خلدون يشير إلى إحدى أهم الخصائص في طبيعة الشعر العربي‪،‬‬
‫ومعمارية القصيدة العربية التقليدية‪ ،‬المتمثلة " ‪ ...‬في البيت الشعري المستقل ببنائه ومعناه‪،‬‬
‫وكأن صناعة البيت الشعري تقوم على العناية الدقيقة ببناء البيت وايفائه نصيبه من الجهد‬
‫والرعاية‪ ،‬واإلحكام حتى يصير مكتفيا بذاته ال يحتاج إلى غيره من األبيات األخرى ‪.2" ...‬‬

‫تأسس على هذه‬


‫النقدي‪ ،‬الذي ّ‬
‫يئيةَ في الحكم ّ‬
‫لقد استدعت هذه الوحدةُ النظرةَ التجز ّ‬
‫مما‬
‫االستقاللية‪ .‬فصرنا نسمع بقولهم " أفخر بيت "‪ ،‬و" أغزل بيت "‪ ،‬و" أشجع بيت "‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫يوحي بقيام البيت كيانا َغ َر ًّ‬
‫ضيا يمكن بتره عن جسم القصيدة ليكون طرفا في المقاربة بينه‬
‫يعبر عن الغرض ال ّشعري نفسه في قصيدة أخرى‪.‬‬
‫أي بيت ّ‬
‫وبين ّ‬

‫النقّاد القدماء إلى رفض ارتباطه بما يلحقه‬


‫كما دفعت مركزّية البيت ال ّشعري كثي ار من ّ‬
‫وسموه تضمينا‪.‬‬
‫وعدوا ذلك من عيوب القافية ّ‬ ‫من أبيات‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬ابن خلدون‪ :‬املقدمة‪ ، ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪0222 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.062.‬‬


‫‪ 2‬حممد مشبال‪ :‬البالغة ومقولة اجلنس األديب‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬اجمللد‪ ،02 :‬العدد‪،1 :‬‬
‫يوليو‪ /‬سبتمرب‪0221 ،‬م‪ ،‬ص‪.77.‬‬

‫‪70‬‬
‫بأن من النقّاد القدماء من كان‬
‫النقدية العر ّبية‪ ،‬ما يشهد ّ‬
‫المدونة األدبية و ّ‬
‫ّ‬ ‫أن في‬
‫غير ّ‬
‫يتمتع بنظرة أ كثر رحابة وشمولية‪ ،‬نظرة فيها بعض التحرر من ضيق البيت الواحد إلى سعة‬
‫التشتيتية من‬
‫ّ‬ ‫تشده إلى أبيات أخرى‪ ،‬على األقل إلى األبيات األقرب إليه‪ .‬فليست تلك النظرة‬
‫النقدي الموروث‪ .‬وفي‬ ‫للمنجز ّ‬
‫َ‬ ‫الشمولية بين النقاد القدماء كما يتصور بعض المتلقّين‬
‫الشعراء أنفسهم من كا ن يشاطر النقاد النظر الموسع إلى ارتباطات األبيات في جسم‬
‫بأنه "‪ ...‬ليس له‬
‫شعر ابنه عقبة ّ‬
‫الع ّجاج َ‬
‫بن َ‬‫القصيدة‪ .‬فها هو الجاحظ يورد وصف ُرؤبة ِ‬
‫قران "‪.1‬‬

‫ويقصد انعدام الموافقة والتناسب بين األبيات‪ .‬ومثلُه ما حكاه من قول عمر بن لَ َجإ‬
‫ألني أقول البيت وأخاه‪ ،‬وأنت تقول‬
‫وبم ذلك؟ قال‪ّ :‬‬
‫لبعض الشعراء ‪ ":‬أنا أشعر منك قال‪َ :‬‬
‫عمه "‪ .2‬والى هذا ذهب أبو هالل العسكري بقوله ‪ " :‬وينبغي أن تجعل كالمك‬
‫البيت وابن ّ‬
‫أطرُاره‪ ،‬وتكون‬
‫مشتبها ّأوله بآخره‪ ،‬ومطابقا هاديه لعجزه‪ ،‬وال تتخالف أطرافه‪ ،‬وال تتنافر َ‬
‫الكلمة منه موضوعة مع أختها‪ ،‬ومقرونة بلِ ْف ِقها…"‪.3‬‬

‫إن القراءة المزدوجة لمقولة ابن خلدون في مسألة وحدة البيت من جهة‪ ،‬ومقولة الجاحظ‬
‫ّ‬
‫والعسكري من جهة أخرى‪ ،‬تُفضي بنا إلى التسليم بوجود رؤيتين مختلفتين في تلك المسألة‪:‬‬
‫خفية مع سائر‬
‫عالئقية ظاهرة أو ّ‬
‫ّ‬ ‫تصر على دخوله في‬
‫تتبنى استقاللية البيت‪ ،‬وأخرى ّ‬
‫رؤية ّ‬
‫مبنيا‬
‫الناس من يستحسن ال ّشعر ّ‬
‫األبيات‪ .‬وهذا االختالف يسلّم به ابن رشيق بقوله ‪ ":‬ومن ّ‬
‫بعضه على بعض‪ ،‬وأنا أستحسن أن يكون ك ّل بيت قائما بنفسه‪ ،‬ال يحتاج إلى ما قبله وال‬
‫إلى ما بعده‪ ،‬وما سوى ذلك فهو عندي تقصير إالّ في مواضع معروفة مثل الحكايات وما‬
‫فإن بناء اللّفظ على اللّفظ أجود هنالك من جهة السرد‪.4" ...‬‬
‫شاكلها‪ّ ،‬‬

‫ويبدو أن ابن خلدون نفسه ‪ -‬باستخدامه للفظ " ‪ ...‬كأنه ‪ - " ...‬أحس بأن ما ذهب‬
‫إليه ليس أكثر من قراءة شخصية‪ ،‬من المشروع مناقشتها والتعقيب عليها‪ .‬وكذلك ابن رشيق‬

‫‪ 1‬اجلاحظ‪ :‬البيان والتبيني‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.022.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.026 .‬‬
‫‪ 3‬أبو هالل العسكري‪ ،‬كتاب الصناعتني املطبعة العصرية‪ ،‬بريوت‪1811 ،‬م‪ ،‬ص‪.100 – 101 .‬‬
‫‪ 4‬ابن رشيق‪ :‬العمدة قي حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.007 .‬‬

‫‪71‬‬
‫يعبر عن رأي شخصي ويكشف عن استحسان ذاتي‪ ،‬كما يظهر من عبارة " وأنا‬ ‫ّإنما كان ّ‬
‫أن بعض مؤرخي النقد العربي المعاصرين – حين‬ ‫أستحسن"‪ " ،‬وهو عندي "‪ .‬وهذا يؤ ّكد ّ‬
‫للنص‬
‫ّ‬ ‫أحادي‬
‫ّ‬ ‫تلق‬
‫يصرون على قيام ذلك النقد على وحدة البيت المطلقة ‪ّ -‬إنما ينطلقون من ّ‬
‫ّ‬
‫تبين‬
‫النقدي فقد ّ‬
‫النص ّ‬
‫ّ‬ ‫فأما من ناحية‬
‫قدي القديم‪ ،‬ولمفهوم الوحدة نفسها من ناحية أخرى‪ّ .‬‬
‫الن ّ‬
‫ّ‬
‫النظر إلى البيت على ّأنه وحدة مستقلّة كان مذهب فريق واحد من القدماء‪ ،‬كابن خلدون‬
‫أن ّ‬‫ّ‬
‫الداعي إلى تحقيق نوع من التضام‪ ،‬والتداعي‬
‫وابن رشيق‪ .‬في مقابل مذهب الفريق الثاني ّ‬
‫بين أبيات القصيدة الواحدة‪.‬‬

‫األول‪ ،‬وأخرجه من الئحة العيوب‬


‫إن ابن األثير اغتفر التضمين الذي كرهه الفريق ّ‬
‫بل ّ‬
‫بالنثر الذي ترتبط فيه الجمل بعضها ببعض‪ ،‬يقول‪ ... ":‬إن‬
‫التي ُيرمى بها ال ّشاعر‪ ،‬قياسا ّ‬
‫األول على الثاني فليس ذلك بسبب يوجب عيبا‪ ،‬إذ ال فرق‬ ‫كان سبب عيبه أن يعلّق البيت ّ‬
‫بين البيتين من ال ّشعر في تعلّق أحدهما باآلخر؛ وبين الفقرتين من الكالم المنثور في تعلّق‬
‫معنى‪ ،‬والكالم المسجوع‬
‫ألن الشعر هو ك ّل لفظ موزون مقفّى د ّل على ً‬ ‫إحداهما باألخرى؛ ّ‬
‫هو‪ :‬ك ّل لفظ مقفّى د ّل على معنى‪ ،‬فالفرق بينهما يقع في الوزن ال غير "‪ .1‬وهذا دليل على‬
‫األحادية التي طبعت نظرة بعض الدارسين المعاصرين بإهمالهم رؤية الفريق الثاني وتعميم‬
‫الرؤية األولى المخالفة‪.‬‬

‫وقد ال حظ إيفالد فاجنر هذا الغرض من التضمين‪ ،‬المتمثل في إيجاد الرابط بين‬
‫األبيات التي تجمعها فكرة جزئية واحدة ‪ -‬أو " البنية الصغرى " كما سماها ‪ -‬على األقل‬
‫في القصيدة‪ .‬فهو يرى أن التضمين وسيلة نحوية استخدمت " إلنشاء أوجه الربط في البنية‬
‫الصغرى‪ ،‬فبواسطة الجمل الطويلة يستطيع المرء أن يتخطى حدود البيت‪ ،‬وهكذا تُجمل عدة‬
‫أبيات في وحدة فكرية "‪.2‬‬

‫كما أشار إلى ما ُذكر آنفا من ثورة بعض الشعراء موقف العروضيين من التضمين‬
‫وتصنيفه مع العيوب‪ ،‬والى اغتفار بعض النقاد أنفسهم ذلك‪ ،‬ودفاعهم أحيانا عنه وتبريره كما‬

‫‪ 1‬ابن األثري‪ :‬املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.000 .‬‬
‫‪ 2‬إيفالد فاجنر‪ :‬أسس الشعر العريب الكالسيكي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.002.‬‬

‫‪72‬‬
‫مر مع ابن األثير‪ ،‬يقول‪ ":‬وفي الواقع أنكر نقاد األدب فيما بعد هذا التضمين‬
‫) ‪ ) Enjambement‬إنكا ار شديدا‪ .‬وسواء أكان تحريم التضمين اختالقا متأخ ار للنقاد أو‬
‫عرفا ضمنيا للشعراء العرب القدامى فإن القصائد المترجمة في الفصول السابقة تبين أمثلة ال‬
‫حصر لها لم يحافظ فيها الشعراء على تحريم التضمين ‪.1" ...‬‬

‫فإذا كان في تراثنا النقدي‪ ،‬بل وفي مراجعات الشعراء أنفسهم ِ‬


‫بعضهم بعضا‪ ،‬ما ينطق‬
‫بالتفطن إلى ضرورة إحداث " نوع " من الترابط بين األبيات‪ -‬ليس لزاما أن يكون ترابطا‬
‫خلو القصيدة‬
‫منطقيا وفكريا‪ -‬صحت المقولة الداعية إلى إعادة النظر في ما ُيزعم من ّ‬
‫العربية التقليدية من كل مظاهر الوحدة‪ ..." ،‬فوحدة البيت التي شغف بها الشاعر العربي‬
‫واستأثرت بصناعة النقد والبالغة‪ ،‬ال تنفي أن يكون الشعر العربي قد حرص على توفير‬
‫ألوان من الوحدة التي ال تشبه تلك التي دعا إليها النقاد الرومانسيون‪.2" ...‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬وألن تلك الوحدة كانت" ‪ ...‬أكثر عمقا من تلك التي استوقفت ابن قتيبة وابن‬
‫طباطبا وحازما القرطاجني "‪ . 3‬فإن وحدة البيت تظل – في الغالب األعم –" ‪ ...‬األصل‬
‫والمعيار في صناعة الشاعر والناقد معا "‪.4‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ :‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬حممد مشبال‪ :‬البالغة ومقولة اجلنس األديب‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71.‬‬
‫‪3‬السابق‪ :‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪4‬السابق‪ :‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫الــــــوحــــــدة العضــــــويــــــــة‬
‫انتهت الوحدة العضوية إلى أن تكون من أكثر القضايا النقدية إلحاحا في نقدنا العربي‬
‫الحديث‪ .‬وكان أكثر الدعاة إليها في العالم العربي األدباء والنقاد المتأثرون بالمنازع‬
‫البين إلى دعوتهم‬
‫الرومانسية والرمزية‪ ،‬والمتضلعون من الثقافات الغربية‪ ،‬التي كانت سبيلهم ّ‬
‫المتحمسة تلك‪.‬‬

‫عض يضم أجزاءه‪ ،‬وسبيلها أن يشعر‬‫وأساس هذه الوحدة هو قيام النص على نسق ُمت ّ‬
‫قارئ النص بتنامي مضامينه شيئا فشيئا فيؤدي السابق منها إلى الالحق‪ ،‬بما ال يمكن معه‬
‫التصرف في تراتُ ّبيتها دون فساد في المعنى العام‪ .‬و ُيعزى إلى أرسطو أيضا سبق الدعوة‬
‫إلى هذه الوحدة‪ ،‬التي يرى تحققها بـ‪ ... ":‬أن تُؤلَّف األجزاء بحيث إذا نقل أو بتر جزء انفرط‬
‫عقد الكل وتزعزع‪ ،‬ألن ما يمكن أن يضاف دون نتيجة ملموسة ال يكون جزءا من الكل "‪.1‬‬
‫أوهي ‪ -‬كما يبسط معناها الدكتور محمد مندور ‪ " -‬بناء القصيدة بناء هندسيا بحيث تخرج‬
‫من بين يدي الشاعر كالكائن العضوي الذي ال يمكن نقل جزء منه مكان جزء آخر "‪.2‬‬

‫وفي المنجز النقدي العربي القديم‪ ،‬تستوقف الباحث عبارات البن طباطبا يقرأها بعض‬
‫الدارسين على أنها من هذا القبيل‪ ،‬يقول فيها ‪ ":‬وأحسن الشعر ما ينتظم فيه القول انتظاما‬
‫يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله‪ ،‬فإن قُدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل‬
‫الرسائل والخطب إذا نقض تأليفها‪ .‬فإن الشعر إذا أسس تأسيس فصول الرسائل القائمة‬
‫بأنفسها [ ‪ ] ...‬لم يحسن نظمه بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة في اشتباه أولها‬
‫بآخرها نسجا وحسنا وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف "‪.3‬‬

‫ففي هذا النص من اصطالحات دعاة الوحدة العضوية‪ ،‬ما يغري بالذهاب إلى أن‬
‫صاحبه يفهم هذه الوحدة كما هي في النقد الحديث مثل " االنتظام‪ ،‬والنظم واالشتباه "‪.‬‬

‫‪ 1‬أرسطوطاليس‪ :‬فن الشعر مرجع سابق‪ ،‬ص‪.62.‬‬


‫‪ 2‬حممد مندور‪ :‬النقد والنقاد املعاصرون‪ ،‬دار هنضة مصر‪6002 ،‬م‪ ،‬ص‪.00.‬‬
‫‪ 3‬ابن طباطبا‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد العزيز بن ناصر املانع‪ ،‬احتاد الكتّاب العرب‪ ،‬دمشق‪6002 ،‬م‪ ،‬ص‪.612.‬‬

‫‪75‬‬
‫إلى جانب اصطالحات تدخل في صلب دعوات تطرحها لسانيات النص بوصفها‬
‫صدر به الدكتور عبد المالك مرتاض‬
‫آليات تحقق للنص عنصر الربط‪ ،‬مثل " النسج " الذي ّ‬
‫النساج وأدواته‪ ،‬يقول ‪ ":‬فالنص إذن نسج‪ ،‬وهو‬ ‫تعريفا له قائما على مقارنة طريفة بصناعة ّ‬
‫مكون من مواد تشبه أدوات النساج‪ :‬فالخيط‪ ،‬في تمثلنا‪ ،‬يقابل مادة الحبر‪ ،‬والخالل قد يقابل‬
‫َّ‬
‫أداة القلم‪ ،‬والكتاب قد يقابل هيئة النسج‪ ،‬ومنتجات المنسج قد تشاكه‪ ،‬من بعض الوجوه‪،‬‬
‫النساخة قبل اختراع المطبعة )‪ ،‬والنساج ( أو النساجة ) وهو الصَّناع‬
‫منتجات المطبعة ( أو ّ‬
‫يبدع فيما ينسج‪ ،‬وهو يرّكب الخيوط بعضها فوق بعض‪ ،‬كما يبدع في التنسيق بين األلوان‪،‬‬
‫وفي الدقة في الحبك والحياكة‪ :‬مثله مثل الذي يكتب كالما وهو يبدع فيما يكتب حين يركب‬
‫الحروف بعضها فوق بعض‪ ،‬وينسج لغة الكالم بعضها من حول بعض ‪.1" ...‬‬

‫المتصور في األذهان والحادث في الخواطر‬


‫َّ‬ ‫وهو يرى أن " النسج " أدل على المفهوم‬
‫من " النص "‪ِ ،‬لما في األول من داللة على الربط ال تتوفر في مادة (نصص) التي يجدها‬
‫شحيحة من حيث المعاني اللغوية التي تحتملها‪ ،‬والتي ال تساعد الباحث على ربط أحدها‬
‫بالمدلول االصطالحي للنص ذلك ‪ ... ":‬أن النص كان يعني في العربية القديمة‪ :‬الرفع‬
‫واإلظهار بالمعنى الحسي‪ ،‬والرفع واإلسناد ( نسبة الحديث إلى صاحبه ) بالمعنى المجرد‪،‬‬
‫واستخراج أقصى ما في اإلنسان أو الحيوان أو الشيء من قوة كامنة لإلفادة منها ‪.2"...‬‬

‫ثم يبني على ذلك تساؤله عن مصداقية تحويل هذا اللفظ عن معناه اللغوي السابق إلى‬
‫معناه االصطالحي المتداول اليوم قائال ‪ ":‬فأين موقع النص األدبي بالمفهوم الجاري عليه‬
‫‪3‬‬
‫خلو هذا‬
‫االستعمال المعاصر بالقياس إلى ما ذكرتْه المعاجم العربية ؟‪ . " ...‬ليصل إلى ّ‬
‫المصطلح من المناسبة الداللية لما يطلق عليه اليوم‪ ،‬يقول ‪ ":‬ولوما أن النص مصطلح‬

‫‪ 1‬عبد املالك مرتاض‪ :‬نظرية النص األديب‪ ،‬دار هومه‪ ،‬اجلزائر‪6002 ،‬م‪ ،‬ص‪.22-22.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.22.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫متداول اليوم بين العرب لما كان له في أصل الوضع اللغوي أي داللة اشتقاقية قاطعة‪،‬‬
‫متالئمة مع الوظيفة التي ينهض بها في حضن اإلبداع‪ ،‬بل في حضن ما قبل اإلبداع‪.1"...‬‬

‫وحتى يعضد رأيه السابق يعقد مقارنة بين لفظ النص في العربية‪ ،‬وما يقابله في اللغات‬
‫األوروبية الحديثة‪ ،‬فيشير إلى اتجاه غالب تلك اللغات إلى الداللة على مفهوم " النص " في‬
‫العربية‪ ،‬بما يمكن أن تُترجم إليه كلمة " النسج " العربية‪ ،‬وهو " ‪ " Texte‬في الفرنسة‪،‬‬
‫و"‪ "Texto‬في اإلسبانية‪ ،‬و" ‪ " Text‬في اإلنجليزية‪ .2‬إضافة إلى ألفاظ أخرى ضمها الجهاز‬
‫المصطلحي في مقولة ابن طباطبا السابقة مثل " االتساق" الذي يجعله محمد خطابي ترجمة‬
‫للفظ "‪.3"Cohésion‬‬

‫كما تحيلنا عبارة ابن طباطبا التي نصها " ‪ ...‬فإن قُدم بيت على بيت دخله الخلل"‬
‫على أحد الشروط التي وضعها العقاد لتحقيق الوحدة العضوية في تفكيكه لمرثية أحمد شوقي‬
‫في الزعيم مصطفى كامل‪.4‬‬

‫لكن قضية الوحدة العضوية‪ ،‬أعقد من أن تكون مصطلحات كثي ار ما تختلف دالالتها‬
‫حسب االستعمال‪ ،‬خصوصا مع اختالف بيئات مستعمليها وتباعد الزمن بينهم‪ .‬من أجل‬
‫حمل هذا النص وأشباهه ما ال يحتمل‪ ،‬بإسقاط النظرة‬
‫ذلك رأى الدكتور محمد مصايف أالّ ُي ّ‬
‫المعاصرة للوحدة العضوية عليه‪ .‬فابن طباطبا – ومثله ابن رشيق ‪ ": -‬لم يقصدا‪ ،‬في واقع‬
‫األمر‪ ،‬غير وحدة الشكل‪ ،‬التي هي غير الوحدة العضوية "‪.5‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السايق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪3‬حممد خطايب‪ :‬لسانيات النص مدخل إىل انسجام اخلطاب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪/‬بريوت‪ ،‬ط‪6002 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.12 .‬‬
‫‪ 4‬عباس حممود العقاد وعبد القادر املازين‪ :‬الديوان يف األدب والنقد‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1000 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.162 .‬‬
‫‪5‬حممد مصايف‪ :‬مجاعة الديوان يف النقد‪ ،‬دار البعث‪ ،‬قسنطينة‪1022 ،‬م‪ ،‬ص‪.682.‬‬

‫‪77‬‬
‫وهو رأي أسَّسه على أن ابن طباطبا إنما كان يدعو إلى إحداث نوع من التناسب بين‬
‫أجزاء القصيدة التي سبق الحديث عنها‪ ،‬من مقدمة وخروج واختتام‪ ،‬فهو يرى أن" ‪ ...‬للشعر‬
‫فصوال كفصول الرسائل ‪ ،‬فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كالمه – على تصرفه في فنونه –‬
‫صلة لطيفة‪ ،‬فيتخلص من الغزل إلى المديح‪ ،‬ومن المديح إلى الشكوى [‪ ]...‬بألطف تخلص‬
‫وأحسن حكاية بال انفصال للمعنى الثاني عما قبله "‪.1‬‬

‫يدعُ إلى‬
‫ويمكن أن يفهم من رأي الدكتور محمد مصايف أنه إذا كان ابن طباطبا لم ْ‬
‫وحدة الموضوع فمن باب األولى أنه ال يدعو إلى الوحدة العضوية‪ ،‬فكأن األولى الممر‬
‫الوحيد إلى الثانية‪ .‬يقول تعقيبا على نص ابن طباطبا ‪ ... ":‬فابن طباطبا ال يشترط توحيد‬
‫الموضوع والمشاعر‪ ،‬وانما يطالب بحسن الربط بين الموضوعات المختلفة التي يمكن‬
‫للقصيدة أن تتألف منها‪ ،‬وبحسن التخلص من موضوع إلى آخر يقاربه من حيث المعنى "‪.2‬‬

‫واذا كان عدم اشتراط ابن طباطبا وحدة الموضوع أم ار ّبينا ال يمكن رده‪ ،‬أو توجيه‬
‫قراءته وجهة أخرى‪ ،‬فإن عدم اشتراطه وحدة المشاعر ال يقطع به ظاهر نصه‪ .‬إال على‬
‫تصور هذه الوحدة نتيجة الزمة لوحدة الموضوع‪ ،‬وهو أمر يقبل األخذ والرد‪ ،‬وقد تقدم أن‬
‫وحدة الشعور قد تؤلف بين أشتات الموضوعات المختلفة‪ ،‬والصور المتباينة‪ ،‬في ما يمكن أن‬
‫نطلق عليه الشعور التأليفي‪.‬‬

‫واذا كانت وحدة الشعور شرطا أساسيا للوحدة العضوية‪ ،‬فمن المشروع التفكير في‬
‫إعادة قراءة نص ابن طباطبا السابق‪ ،‬وما يماثله من نصوص تراثية أخرى‪ ،‬منظو ار إليها‬
‫بمرايا مسطحة تضمن القراءة الموضوعية الواقعية‪ ،‬بعيدا عن المرايا المحدبة وتضخيمها‬
‫الغرور من جهة‪ ،‬وعن المرايا المقعرة وتقزيمها المخل من جهة أخرى‪.‬‬

‫‪ 1‬ابن طباطبا‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.0 .‬‬


‫‪ 2‬حممد مصايف‪ :‬مجاعة الديوان يف النقد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.682.‬‬

‫‪78‬‬
‫أما النقد العربي الحديث فقد رصد الدكتور محمد مصايف وعيه هذه القضية في ثالث‬
‫‪1‬‬
‫عبر عن إعجابه بالسعة التي يجدها الشاعر‬
‫مراحل‪ ،‬كان من روادها نجيب الحداد ‪ ،‬الذي ّ‬
‫الغربي في قواعد النظم التي تتيح له أن يربط البيت السابق بالبيت الالحق لفظا ومعنى‪.‬‬

‫ففي استطاعته أن يجعل الفاعل في نهاية البيت األول‪ ،‬والمفعول في بداية البيت‬
‫الثاني‪ .‬وهو ما يساهم في ترابط األبيات‪ ،‬ويجعلها في تناسق مستمر‪ ،‬في حين يتحرج‬
‫ضيق عليه فيه‪ .‬لكون هذا السلوك الذي سماه العروضيون العرب‬ ‫وي ّ‬‫الشاعر العربي من هذا‪ُ ،‬‬
‫تضمينا معدودا مع عيوب القافية‪ .‬على أنه قد سبقت اإلشارة إلى أن ابن األثير لم ير بأسا‬
‫من ذلك‪ ،‬قياسا على ترابط الفقر في النثر‪ ،‬وهو رأي يدل على أن في مدونتنا النقدية القديمة‬
‫آراء ذ ات صبغة تقدمية وثورية جريئة‪ ،‬وأن النظرية النقدية العربية كانت تتطور بما يصل‬
‫أحيانا إلى الخروج على المقررات‪ ،‬والى التعقيب واعادة التقويم في مسائل ال تحتاج فيها إلى‬
‫كشوفات النقد الغربي الحديث‪ ،‬ومنها هذه المسألة ‪.‬‬

‫الشاعر خليل مطران‪ ،‬الذي وصف مذهبه في شعره في مقدمة جعلها‬


‫ُ‬ ‫وتال نجيبا الحداد‬
‫بين يدي ديوانه بقوله ‪ ":‬هذا شعر ليس ناظمه بعبده‪ ،‬وال تحمله ضرورات الوزن والقافية على‬
‫غير قصده‪ ،‬يقال فيه المعنى الصحيح في اللفظ الفصيح‪ ،‬وال ينظر قائله إلى جمال البيت‬
‫المفرد ولو أنكر جاره وشاتم أخاه‪ ،‬ودابر المطلع‪ ،‬وقاطع المقطع‪ ،‬وخالف الختام‪ .‬بل ينظر‬
‫إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه‪ ،‬والى جملة القصيدة في تركيبها وفي تناسق معانيها‬
‫و توافقها "‪ .2‬فواضح ما في هذا الوصف من مالمسة على األقل لمفهوم الوحدة العضوية‬
‫وان كان في عبارات ذات نفس شاعري مقتضب‪.‬‬

‫الحداد ثم مطران كان إحساسا وميال‪ ،‬أكثر منه دعوة‬


‫ونستطيع القول إن األمر عند ّ‬
‫عقدية قائمة على المحاجة الفكرية والتنظير األكاديمي‪ .‬فكان البد من انتظار اكتمال‬
‫الصورة في المرحلة الثالثة مع مجيء جماعة الديوان ( العقاد وعبد الرحمن شكري وعبد‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.482 .‬‬
‫‪ 2‬ديوان اخلليل‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1022 ،2.‬م‪ ،‬ص‪.0 – 8.‬‬

‫‪79‬‬
‫القادر المازني )‪ ،‬التي أخذ معها ذلك الميل الطابع الدعوي القائم على الروح العقدي‬
‫واالنتماء المدرسي‪.‬‬

‫وكان جنوح عبد الرحمن شكري إليها مؤسسا على موقف له نقدي لطريقة قراءة‬
‫الجمهور للشعر‪ .‬إذ رأى أنها قراءة تجزيئية انتقائية‪ ،‬يلتقط بها القارئ ما يناسب ذوقه‬
‫ومستواه‪ ،‬غير مبال بالسبب الذي دفع الشاعر إلى نظم القصيدة‪ .‬ومن الطبيعي أن يكون‬
‫ذلك السبب أو األسباب قيمة داللية موزعة على األبيات كلها فال يمكن الوقوف عليه إال‬
‫بقراءة القصيدة من أولها إلى آخرها‪ ،‬لذلك كانت قيمة البيت في الصلة التي تربط معناه‬
‫بموضوع القصيدة كلها‪ .‬فاألبيات عبارة عن معان جزئية‪ ،‬والقصيدة في مبناها العام هي‬
‫المغزى النهائي الذي يجب أن تتأدى إليه تلك المعاني‪.1‬‬

‫أما العقاد فالصلة الجامعة بين األبيات عنده هي " خاطر أو خواطر متجانسة "‪ ،‬في‬
‫مقابل المعنى الكلي عند شكري‪ ،2‬تماشيا مع ميله المعروف إلى معطيات علم النفس في‬
‫النقد األدبي‪ ،‬ويختار شريكه المازني تسمية " الصلة " أو " الحقيقة " تعبي ار عن ذلك الرابط‪،‬‬
‫وسواء أمعنى كليا كانت التسمية أم خواطر متجانسة أم صلة وحقيقة‪ ،‬فإن عصبة الديوان‬
‫تلتقي عند الدعوة إلى ضرورة أخذ القصيدة كالّ متكامال‪ ،‬ونسيجا موصول اللحمة والسدى‪،‬‬
‫ليكون ذا وحدة عضوية‪.‬‬

‫وقد اجتهد العقاد في تحديد معنى هذه الوحدة‪ ،‬بوضع بعض الخصائص الالزمة لها‬
‫والتي منها‪ :‬طول النفس الشعري‪ ،‬وصالحية القصيدة للعنونة والتسمية‪ ،‬واستعصاء أبياتها‬
‫على التقديم والتأخير‪ ،‬واشتمالها على الخاطر المؤلف‪.3‬‬

‫ومن المعلوم أن الخصيصة األولى هي محصلة عمل تطبيقي‪ ،‬وصل إليه العقاد من‬
‫قيمة لشعر ابن الرومي الذي يراه من الشعراء العرب القليلين الذين تتوفر هذه الوحدة‬
‫دراسة ّ‬

‫‪ 1‬حممد مصايف‪ :‬مجاعة الديوان يف النقد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.688 – 682 .‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.600 .‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ص‪.200.‬‬

‫‪80‬‬
‫لقصائدهم‪ .1‬وهذا الشاعر معروف بمطوالته التي يستقصي فيها األوصاف الدقيقة‪ ،‬ويلح‬
‫على التفصيالت‪ ،‬ويولّد المعنى إلى الحدود القصوى‪ ،‬وهو ما يساعد على التركيز على‬
‫المعنى الكلي‪ ،‬وتناميه شيئا فشيئا بما يجعل الوحدة العضوية أكثر وضوحا‪.‬‬

‫ولكن يبدو أن هذه الرحلة التي استنفدتها قضية الوحدة العضوية‪ ،‬وهي تسير سيرها‬
‫نحو التطور لم تكن كافية‪ .‬فقد رأى بعض الدارسين أن النقد العربي الحديث لم يخ ُل من‬
‫غموض في فهم هذه الوحدة‪ ،‬على األقل عند النقاد األكثر تحمسا لها‪ ،‬كالعقاد الذي واجه‬
‫فهمه لها نقدا حادا من محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس‪ ،‬اللذين سلكا العقاد فيما سمياه‬
‫( المدرسة القديمة )‪ ،‬مؤكدين أن مفهوم الوحدة العضوية غير واضح في ذهنه‪.2‬‬

‫ومهما يكن من أمر هذه النزعة الهجومية التي قوبل بها فهم العقاد‪ ،‬ودو ِافعها الحقيقية‬
‫يردها محمد مصايف إلى أمور أعمق وأشمل من االختالف في‬
‫عند الناقدين السابقين‪ ،‬والتي ّ‬
‫مفهوم الوحدة العضوية‪ ،‬تتصل بالفروق الجوهرية بين جيلين واختالف رؤيوي إيديولوجي عند‬
‫كليهما حول تصور الرسالة التي يجب أن يبشر بها األدب والشعر‪ ،‬والعالقة بين الصياغة‬
‫والمضمون‪ ،‬وتسخير الشعر للمضمون االجتماعي‪ ،3‬فإن الرأي الغالب هو أن العقاد وشريكيه‬
‫التميز‬
‫في جماعة الديوان عموما‪ ،‬لم يكن لهم تصور عن الوحدة العضوية مكتمل وواضح ّ‬
‫عن وحدة الموضوع لذلك فإن ‪ ... ":‬الوحدة الفنية التي كانت في ذهن العقاد حين قال هذا‬
‫الكالم هي وحدة الموضوع‪ ،‬وحدة المعنى‪ ،‬وحدة العنوان‪ ،‬ال أقل وال أكثر "‪.4‬‬

‫وغموض هذا المفهوم في النقد العربي الحديث‪ ،‬أشار إليه أيضا الدكتور محمد مندور‬
‫قائال ‪ ":‬والواقع أن ( وحدة القصيدة ) لها قصة طويلة في أدبنا العربي‪ ،‬قديمه وحديثه كما أن‬
‫مفهومها قد ظل غامضا لزمن طويل‪ .‬إذ نالحظ أنه قد قُصد بها أحيانا كثيرة في نقدنا‬

‫‪ 1‬عباس حممود العقاد‪ :‬ابن الرومي حياته من شعره‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بريوت‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.626 .‬‬
‫‪ 2‬حممود أمني العامل وعبد العظيم أنيس‪ :‬يف الثقافة املصرية‪ ،‬دار الفكر اجلديد‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1022 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.22.‬‬
‫‪ 3‬حممد مصايف‪ :‬مجاعة الديوان يف النقد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.202 – 202.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬ص‪.202.‬‬

‫‪81‬‬
‫الحديث إلى ( وحدة الغرض) "‪ .1‬ومكمن هذا الغموض هو أن وحدة الغرض هذه "‪ ...‬أخذت‬
‫تختلط بعد ذلك عند العقاد وغيره من نقادنا المحدثين بما سموه (الوحدة العضوية)"‪.2‬‬

‫إال أن اعتراض محمد مندور لم يكن على سوء فهم النقاد المعاصرين لتلك الوحدة‬
‫والتباسها عليهم‪ ،‬بقدر ما كان موجها إلى مطالبة أولئك النقاد ‪ -‬ومنهم العقاد ‪ -‬بتوفير‬
‫الوحدة العضوية في القصيدة ولو كانت غنائية‪ ،‬في حين أن طبيعة هذا الضرب من الشعر‬
‫يمكن االكتفاء فيه بوحدة الغرض ( أو الوحدة الموضوعية )‪ ،‬لقيامه على توارد الخواطر‪،‬‬
‫وتداعي األحاسيس‪ ،‬حسب ما ينتاب الشاعر من تصورات وأفكار‪ ،‬فالدعوة إلى الوحدة‬
‫العضوية " سليمة من ناحية الفلسفة الجمالية ولكنها ال تكاد تُتصور في الشعر الغنائي‬
‫الخالص الذي يقوم على تداعي المشاعر والخواطر في غير نسق وضعي محدد ‪.3" ...‬‬

‫تصور في الشعر الموضوعي ذي‬ ‫العضوية يمكن أن تُ ّ‬


‫ّ‬ ‫أن الوحدة‬
‫وفي المقابل يرى ّ‬
‫الطابع الواقعي القائم على قصة قصيرة أو دراما سريعة‪ 4.‬وان كان في الشعر العربي القديم‬
‫– وهو غنائي في سواده األعظم – اتجاه يجنح أصحابه إلى شعر الفكرة أو الروية‪ ،‬وهم من‬
‫عناهم الجاحظ بقوله ‪ ":‬ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حوال ك ِريتا‪،‬‬
‫وزمنا طويال‪ ،‬يردد فيها نظره‪ ،‬ويجيل فيها عقله‪ ،‬ويقلّب فيها رأيه‪ ،‬اتهاما لعقله‪ ،‬وتتبعا على‬
‫نفسه‪ ،‬فيجعل عقله زماما على رأيه‪ ،‬ورأيه عيا ار على شعره‪ ،‬إشفاقا على أدبه‪ ،‬واح ار از لما‬
‫خوله اهلل تعالى من نعمته‪ .‬وكانوا يسمون تلك القصائد‪ :‬الحوليات‪ ،‬والمقلَّدات‪ ،‬والمنقَّحات‪،‬‬
‫والمحكمات‪ ،‬ليصير قائلها فحال خنذيذا‪ ،‬وشاع ار مفلقا "‪.5‬‬

‫على أن هذا االتجاه إنما غلب على الشعراء الذين يتوجهون – عادة – بالمطوالت من‬
‫القصائد إلى غير ذواتهم‪ ،‬بل يقصدون بها ممدوحا يرجون عنده جاها أو نواال‪ .‬لتبقى رؤية‬

‫‪ 1‬حممد مندور‪ :‬النقد والنقاد املعاصرون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.80.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.00.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪5‬اجلاحظ‪ :‬البيان والتبيني‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،6 .‬ص‪.0 .‬‬

‫‪82‬‬
‫مندور هذه تؤكد قناعة ال تخلو من سداد ووجاهة‪ ،‬وهي أن محاولة فرض الوحدة العضوية‬
‫على القصيدة الغنائية – وهي شعر وجدان قائم على التلقائية واطالق العنان للمشاعر –‬
‫ضرب من التكلّف ينافي العفوية الضرورية لصدق التجربة ال ّشعرّية في تلك القصيدة‪،‬‬
‫وتعمل‪ ،‬يفضي بها إلى أن تصبح قصيدة فكر قائمة‪ ،‬على التأمل‬ ‫ويتجافى بها إلى افتعال ّ‬
‫يتهيأ للفكر تحقيق تلك‬
‫والقصدية التي ُيؤجل بسببها الوجدان‪ ،‬ويحكم تدفق المشاعر ريثما ّ‬
‫الوحدة‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الفصــــــــــــــل الثـــالث‬
‫المطلـــــــــــع‬

‫تمهيد‪ :‬المطلع المفهوم والموقع‬


‫المطلع والجمالية الشعرية‬
‫المطلع في التراث البالغي والنقد العربي القديم‬
‫المطلع في ضوء الدرس السميولوجي للعنوان‬
‫تمهيـــــــــــــــــــــد‬

‫المطلع‪ :‬المفهوم والموقع‬


‫استقرت الرؤية النقدية والتصنيف البنيوي ألجزاء القصيدة العربية التقليدية على حصر‬
‫المطلع في البيت األول‪ .‬واذاً فال حاجة إلى الوقوف طويال عند ظاهرة الغموض التي‬
‫الحظها الدكتور عبد الحليم حفني محقا‪ ،‬في محاوالت تحديد بعض القدماء للمطلع‪ .‬فقد‬
‫الحظ أن ‪ ... ":‬النقاد القدماء لم يتفقوا على تسمية معينة للبدء الذي تبدأ به القصيدة‪ ،‬بل‬
‫يتضح اختالفهم في هذا "‪.1‬‬

‫وقد استند في ذلك إلى نص صريح البن رشيق‪ ،‬يشير إلى أن " ‪ ...‬أهل المعرفة‬
‫بالشعر ونقده يختلفون في مدلول المطلع‪ ،‬فبعضهم يرى أنه ليس البيت األول‪ ،‬بل وال البيت‬
‫الكامل‪ ،‬وانما هو أول البيت فقط [ ‪ ،] ...‬وبعضهم يرى أن المطلع ال يراد به أول البيت‪،‬‬
‫وانما يراد به أول كالم مبني على كالم مبني على كالم سابق ومرتبط به‪ ،‬فنهاية الكالم‬
‫السابق تسمى فصال‪ ،‬وبداية الكالم الالحق والمبني عليه تسمى مطلعا‪ ،‬كما أن الكالم‬
‫الالحق نفسه يسمى وصال "‪.2‬‬

‫وبالرجوع إلى كتاب العمدة البن رشيق‪ ،‬نجد النص على هذا االختالف بقوله ‪ ":‬اختلف‬
‫أهل المعرفة في المقاطع والمطالع ‪ ...‬فقال بعضهم هي الفصول والوصول بعينها فالمقاطع‬
‫أواخر الفصول والمطالع أوائل الوصول [ ‪ ] ...‬وقال غيرهم المقاطع منقطع األبيات وهي‬
‫القوافي والمطالع أوائل األبيات‪.3" ...‬‬

‫وغاية ما يقال هنا أن المطلع بالمفهوم االصطالحي – وال مشاحة في المصطلح –‬


‫انتهى أخي ار في األذهان أنه البيت األول دون غيره‪ ،‬وغالب الشروط البالغية التي خص بها‬
‫تنطق بذلك خصوصا التصريع الذي يجمع صوتيا بين شطريه‪ ،‬غير متجاهلين أن بعض‬
‫القصائد تخلو منه و لكن على قلة‪.‬‬

‫وهي القناعة نفسها التي انتهى إليها الدارسون المحدثون‪ ،‬كما ّبين الدكتور حفني في‬
‫يخلص " ‪ ...‬إلى أن‬‫ختام تعليقه على الغموض الوارد في تحديد القدماء للمطلع إذ ْ‬

‫‪ 1‬عبد احلليم حفين‪ :‬مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،7891 ،‬ص‪.77.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ :‬ص‪.71-77.‬‬
‫‪ 3‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.781.‬‬

‫‪86‬‬
‫الدارسين‪ ،‬وان كانوا لم يتعرضوا صراحة للتفريق بين المطلع والمقدمة أو غيرهما‪ ،‬ولم يحددوا‬
‫مفهوم هذه األلفاظ في استخدامهم إياها‪ ،‬إال أن أسلوب استخدامهم إياها يوحي بأنه أصبح‬
‫في حكم الواضح لديهم‪ ،‬أو المتعارف عليه بينهم‪ ،‬أن المطلع تقصد به الداللة على البيت‬
‫األول من القصيدة‪ ،‬وأن المقدمة تقصد بها الداللة على كل العناصر السابقة للموضوع "‪.1‬‬

‫غير أن هذا التحديد ال يعني أن ظالل المطلع ال تمتد إلى ما بعده من أبيات‪ ،‬السيما‬
‫البيت الذي يتلوه‪ ،‬بل يفهم من الشروط الفنية والمعنوية التي وضعها النقاد والبالغيون‬
‫القدماء‪ ،‬أن للمطلع امتدادات تنال األبيات الالحقة‪ ،‬وتتفاوت قوتها ووضوحها تبعا لقرب‬
‫البيت من المطلع وبعده عنه‪ ،‬فقد" ‪ ...‬أوجب النقاد أن يكون البيت الثاني في المطلع مناسبا‬
‫لألول في حسنه وتابعا له في معناه وتكون األبيات األخرى مقابلة لهما على جهة من جهات‬
‫التقابل كاالقتضاء والتفسير والمحاكاة وغير ذلك من األشياء التي تقتضي ذكر شيء بعد‬
‫شيء آخر وهكذا حتى نهاية الفصل‪ .‬واذا كان األمر على عكس ما ذكر غض ذلك من‬
‫بهاء المبدإ وحسن الطليعة "‪.2‬‬

‫‪ 1‬عبد احلليم حفين‪ :‬مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71.‬‬
‫‪ 2‬سعيد األيويب‪ :‬عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.112 .‬‬

‫‪87‬‬
‫المطلـــع والجماليـــة الشعريـــة‬
‫حسان لسعه زنبور فجاء أباه يبكي‪ ،‬فقال له‪ :‬مالك؟ فقال‪:‬‬‫" يروى أن عبد الرحمن بن ّ‬
‫لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة‪ .‬قال‪ :‬قلت واهلل الشعر"‪.1‬‬
‫تدل قصة حسان هذه مع ولده‪ ،‬على أن الشعرية عند المتقدمين من شعراء العرب‬
‫أنفسهم‪ ،‬إنما كانت تعني فرادة التعبير المتجسدة هنا في جمالية التصوير تخصيصا‪ .‬إذ ليس‬
‫في عبارة عبد الرحمن من مقومات اللغة الشعرية‪ ،‬وعناصرها المعقدة والمتعددة إال الصورة‬
‫الفنية القائمة علي التشبيه‪ .‬على أن التصوير أخي ار هو الركن الشديد الذي تتأسس عليه تلك‬
‫اللغة‪ ،‬وهو أول ما يرد الذهن عند إرادة الحديث عنها‪.‬‬
‫واذاً أدرك الشاعر العربي القديم أن " التجربة الشعرية في أساسها تجربة لغة‪ ،‬فالشعر‬
‫هو االستخدام الفني للطاقات الحسية والعقلية والنفسية والصوتية للغة‪ .‬ولغة الشعر هي‬
‫الوجود الشعري الذي يتحقق في اللغة انفعاال وصوتا موسيقيا وفك ار‪.2" ...‬‬
‫وقد ظل الوعي النقدي العربي يؤمن بأن " ‪ ...‬ما يكسب الشعر أسلوبا وكيفية أجود‬
‫إنما هو صفته الخاصة وجرسه‪ ،‬أي اللغة ‪ .3" ...‬حتى بعد أن سار الزمن سيره فوضعت‬
‫األصول‪ ،‬وتوضحت الحدود‪ ،‬وتعقدت الصناعة الشعرية في العصور الالحقة‪ ،‬وترسخت‬
‫ماهيتها بكل ما فيها من مميزات وخواص‪ ،‬على رأسها الخاصة الموسيقية المتمثلة في الوزن‬
‫والقافية‪.‬‬
‫النقّاد والمنظّرين العرب القدماء‪ ،‬طبيعة اللغة العربية‬
‫رسخ هذه القناعة عند ّ‬
‫وكان مما ّ‬
‫نفسها‪ ،‬فهي لغة تستهوي السمع وتستجمع حساسيته عندها‪ ،‬مما يجعلها لغة شاعرة كما‬
‫وصفها العقاد‪ ،‬جاعال هذا الوصف عنوانا لكتاب قائم بذاته رائد في موضوعه‪ ،‬لم يتردد عن‬
‫الجزم فيه بأن ‪ ":‬اللغة الشاعرة هي اللغة العربية‪ .‬وليس في اللغات التي نعرفها‪ ،‬أو نعرف‬
‫شيئا كافيا عن أدبها‪ ،‬لغة واحدة توصف بأنها لغة شاعرة غير لغة الضاد‪ ،‬أو لغة األعراب‪،‬‬

‫‪ 1‬املربد‪ :‬الكامل‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد أمحد الدايل‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،4004 ،4.‬ج‪ ،1.‬ص‪.244.‬‬
‫‪ 2‬السعيد الورقي‪ :‬لغة الشعر العريب احلديث مقوماهتا الفنية وطاقاها اإلبداعية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1894 ،2.‬ص‪.5.‬‬
‫‪ 3‬ماثيو أرنولد‪ :‬دراسة الشعر ‪ ،‬ضمن كتاب‪ :‬النقد‪ ،‬أسس النقد األديب احلدث‪ ،‬تبويب مارك شورد وآخرين‪ ،‬ترمجة هيفاء هاشم‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪ ،4002‬ص‪.226.‬‬

‫‪89‬‬
‫أو اللغة العربية"‪.1‬‬
‫وهو لذلك ليس مقتنعا بمقولة " اللغة الشعرية" وصفا بصيغة النسب إلى المصدر‪ .‬بل‬
‫يرى أن ما يوفي حق العربية من هذه الناحية هو وصفها بصيغة اسم الفاعل‪ ،‬بكل ما تشير‬
‫إليه هذه الصيغة من فاعلية وايجابية‪ .‬فيؤكد أنه ال يعني " ‪ ...‬باللغة الشاعرة ما يوصف‬
‫أحيانا باللغة الشعرية‪ ،‬فإن الكلمة قد تكون شعرية صالحة للنظم في موقعها من السمع‪ ،‬لكنها‬
‫ال تكون مع ذلك جارية مجرى الشعر في نشأتها ووزنها واشتقاقها‪ ،‬بل تكون كأنها الطعام‬
‫الذي يصلح لتركيب البنية ولكنه ليس هو في ذاته هو البنية الحية وليس باللحم والدم الذي‬
‫تتركب منه أجسام األحياء "‪.2‬‬
‫وكان قبل هذا قد ّبين الفرق – كما يراه – بين اللغة الشعرية واللغة الشاعرة‪ ،‬حين ّبين‬
‫أن مستخدمي الوصف األول يعنون أن العربية " لغة يكثر فيها الشعر والشعراء‪ ،‬وأنها لغة‬
‫مقبولة في السمع يستريح إليها السامع كما يستريح إلى النظم المرتل والكلم الموزون‪ ،‬كما‬
‫يقصدون بها أنها لغة يتالقى فيها تعبير الحقيق ة وتعبير المجاز على نحو ال يعهد له نظير‬
‫في سائر اللغات [ ‪ ] ...‬أما الحقيقة هنا فهي أكبر من قول القائلين إن اللغة العربية لغة‬
‫شعرية النفرادها بفن العروض المحكم أو جمال وقعها في األسماع‪ ،‬فإنها لغة شاعرة وال‬
‫يكفي أن يقال عنها إنها لغة شعر أو لغة شعرية‪ .‬وجملة الفرق بين الوصفين أن اللغة‬
‫الشاعرة تصنع مادة الشعر وتماثله في قوامه وبنيانه‪ ،‬إذ كان قوامها الوزن والحركة‪ ،‬وليس‬
‫لفن العروض وال للفن الموسيقي كله قوام غيرها "‪.3‬‬
‫حيز الوجود‬
‫فاللغة العربية عند العقاد أكبر من أن تكون طاقات شعرية مجردة‪ ،‬كامنة في ّ‬
‫بالقوة‪ ،‬مفتقرة إلى عبقرية شاعر متميز يخرجها إلى حيز الوجود بالفعل‪ ،‬في شكل قصيدة‬
‫رائعة أو قصة رائقة‪ ،‬أو أي جنس أدبي آخر يش ّكل ذلك الوسيط الجمالي الذي تعبر به اللغة‬
‫إلى كينونة فنية متعينة‪ .‬فهي في ذاتها كيان شاعر لقيامها على عبقرية التناغم في الوزن‬
‫والحركة‪ ،‬وهو ما يجعلها تتماهى مع الشعر نفسه لكونهما من آكد عناصر ماهيته‪.‬‬

‫‪ 1‬العقاد‪ :‬اللغة الشاعرة‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،4004 ،‬ص‪.2.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع السابق‪.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ص‪.4.‬‬

‫‪90‬‬
‫ومعلوم أن المقصود باللغة في الدراسات النقدية الحديثة‪ ،‬يتجاوز مفهوم اللغة التقليدي‪،‬‬
‫المحصور في أصواتها ومفرداتها المدونة في المعاجم‪ ،‬وال ما يمكن أن يتولد من تأليف تلك‬
‫األصوات والمفردات من جمل أو تراكيب‪ .‬بل هي اللغة الشعرية تخصيصا‪ ،‬التي هي كائن‬
‫أشد تعقيدا يتركب من كل اآلليات أو اإلجراءات التي تجسدها وتجعلها منج از قابال للتلقي‪.‬‬
‫وبهذا المفهوم تكون اللغة مضمونا جامعا لكثير من القضايا‪ ،‬والقيم الفنية التي ال‬
‫تنتظمها اللغة بمفهومها التقليدي أو ( النفعي)‪ ،‬بحيث تصبح تلك القضايا والقيم عناصر‬
‫تشترك في تشخيص هده اللغة‪ " .‬فالصورة الشعرية بمكوناتها وأبعادها جانب من اللغة‬
‫الشعرية‪ ،‬والصورة الموسيقية بأنغامها وايقاعاتها وأطرها التركيبية والتشكيلية جانب من اللغة‬
‫الشعرية‪ ،‬والتجربة البشرية كموقف إنساني‪ -‬على أي نحو كان – جانب من اللغة الشعرية"‪.1‬‬
‫ص‬
‫الن ّ‬
‫يميز ّ‬
‫العباسي تحديدا هو العصر الذي ازدهر فيه الوعي النقدي بما ّ‬
‫والعصر ّ‬
‫الشعري‪ ،‬ويمنعه من التماهي مع أجناس أدبية أخرى أخذت تتبلور في تلك الفترة‪ ،‬وشرعت‬
‫ونقدا‪ ،‬وتنتقص من سلطته التي تمتّع بها زمنا‬
‫إبداعا ً‬
‫ً‬ ‫تهز العرش الذي ترّبع عليه ال ّشعر‬
‫ّ‬
‫النوعية التي تدخل في‬‫تخل من بعض قيم اللّغة ّ‬‫فنونا نثرية لم ْ‬
‫غير يسير‪ .‬ونعني بذلك ً‬
‫الترسل‪.‬‬
‫صميم البنية ال ّشعرية‪ ،‬ومن تلك الفنون المقامة و ّ‬
‫الحد من تسلّل هذه الفنون المستحدثة إلى حمى ال ّشعر ‪ -‬بسبب‬
‫ّ‬ ‫ولع ّل محاولة‬
‫يتفرد بها ذلك الجنس المتعالي المحسود ‪-‬‬
‫استجدائها لبعض الخصائص األسلوبية التي ّ‬
‫النقّاد العرب القدماء إلى تعميق البحث في اللّغة‬
‫كانت من جملة األسباب التي دفعت ّ‬
‫وتتأصل بها‪ ،‬فال تخرج من بنية الشعر إلى بنية فنون‬
‫ّ‬ ‫تخصها‬
‫ّ‬ ‫ال ّشعرية‪ ،‬والتأصيل ألسلوبية‬
‫تتسبب في التماهي‪ ،‬وازالة الحدود‬
‫أخرى‪ ،‬إالّ على سبيل اإلعارة اإلجرائية والجزئية‪ ،‬بحيث ال ّ‬
‫النوعي بين األجناس األدبية‪.‬‬ ‫المفضية إلى التمييع ّ‬
‫ولكن يبدو أن االهتمام بشعرية الشاعر في النقد العربي القديم‪ ،‬كان أوفر حظا من‬
‫كونه نقدنا القديم عن الشاعر‪ ،‬أكثر نضجا من‬
‫شعرية القصيدة نفسها‪ ،‬ذلك أن التصور الذي ّ‬
‫األول ‪ -‬باعتباره‬
‫المتقدمة التي تش ّكلت عن ّ‬
‫ّ‬ ‫كونه عن الشعر نفسه‪ .‬فالمقوالت‬
‫الوعي الذي ّ‬

‫‪ 1‬السعيد الورقي‪ :‬لغة الشعر العريب احلديث مقوماهتا الفنية وطاقاهتا اإلبداعية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.5 .‬‬

‫‪91‬‬
‫تأسس حول الثاني – باعتباره نصا‪-‬‬‫مما ّ‬‫وتقدمية ّ‬
‫ناصا‪ -‬أ ْشكل بالشعرية وأكثر خصوصية ّ‬
‫من مقوالت ابتدائية اتّصفت غالبا بالتبسيط والتسطيح‪ .‬فمفهوم الشعر لم يكد يخرج كثي ار عن‬
‫تصور للشعر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مفهوم الوزن والقافية كما هو معلوم من ج ّل التعريفات التي حاولت تقديم‬
‫يتميز به عن النثر‪ .‬لذلك كان الهيكل الخارجي للشعر‪ ،‬وهو الوزن‬
‫حده بما ّ‬
‫سعيا منها إلى ّ‬
‫تحدد نقطة‬
‫ألنه العالمة األولى التي ّ‬
‫والقافية " ‪ ...‬القاسم المشترك في هذه التعريفات‪ّ ،‬‬
‫‪1‬‬
‫الدال على تلك المقوالت‬
‫االفتراق بينهما " ‪ ،‬فصارت عبارة " الكالم الموزون المقفّى " العنوان ّ‬
‫مهما اختلفت صيغ التّعبير عنها‪.‬‬
‫النقدية العربية بفضل‬
‫التطور الذي نال الرؤية ّ‬
‫ّ‬ ‫ومع ذلك ال يمكن إغفال بعض مالمح‬
‫فن ال ّشعر"‬
‫التثاقف والتناص مع الرؤى الوافدة عن طريق الترجمة‪ ،‬خصوصا بعد نقل كتاب " ّ‬
‫الفن‬
‫ألرسطو‪ ،‬وكذلك بفعل التنامي ال ّذاتي الذي تدفع إليه السيرورة الطّبيعية في حركة الفكر و ّ‬
‫النقّاد والمف ّكرين والفالسفة العرب‬
‫أن بعض ّ‬‫ك ّ‬ ‫وما يتّصل بهما من دراسات‪ .‬فما من ش ّ‬
‫حد بها ال ّشعر أي الوزن والقافية‪ ،‬فأضافوا‬
‫يطمئنوا إلى تلك الثنائية التي ي ّ‬
‫ّ‬ ‫والمسلمين القدماء لم‬
‫إليهما ضميمات أخرى تد ّل داللة واضحة على المحاوالت الماضية قدما في تعميق الوعي بالشعر‬
‫وما يتّصل به من بواعث وخصائص‪.‬‬
‫النقدية في تعريف ال ّشعر‪ ،‬وتحريرها من ضيق‬ ‫فمن الذين عنوا بتوسيع مجال الرؤية ّ‬
‫الوزن والقافية ابن رشيق القيرواني (ت‪654 .‬هـ)‪ ،‬الذي ّنبه إلى عدم كفاية الوزن والقافية‬
‫الستحقاق صفة ال ّشاعر‪ ... " ،‬فإذا لم يكن عند ال ّشاعر توليد معنى وال اختراعه‪ ،‬أو‬
‫مما أطاله‬
‫استظراف لفظ أو ابتداعه‪ ،‬أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني‪ ،‬أو نقص ّ‬
‫سواه من األلفاظ‪ ،‬أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر‪ ،‬كان اسم ال ّشاعر عليه مجا از ال‬
‫حقيقة‪ ،‬ولم يكن له إالّ فضل الوزن‪ ،‬وليس بفضل عندي مع التّقصير"‪.2‬‬
‫حده بأنه‬
‫حده للشعر حين ّ‬
‫كما أضاف الجرجاني (ت‪614 .‬هـ) عنصر القصد في ّ‬
‫‪3‬‬
‫النية واالنصراف القلبي إلى نظم ال ّشعر‪،‬‬
‫"كالم مقفّى موزون على سبيل القصد" ‪ ،‬ويعني به ّ‬

‫‪ 1‬مصطفى طه أبو كريشة‪ :‬أصول النقد األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.4.‬‬


‫‪ 2‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.104.‬‬
‫‪ 3‬الشريف اجلرجاين‪ :‬كتاب التعريفات‪ ،‬حتقيق إبراهيم األبياري‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1889 ،4.‬م‪ ،‬ص‪.126.‬‬

‫‪92‬‬
‫مشير بذلك إلى المعاناة التي يقصى – بانعدامها‪ -‬الكالم الذي اتّفق له الوزن والقافية صدفة‬
‫ًا‬
‫ويخرج من دائرة ال ّشعر‪ ،‬كمنظومات بعض العلوم والفنون التي يقصد بها تسهيل حفظ‬
‫أن القصد قيد يخرج نحو قوله تعالى‪  :‬الذي أ ْنقض ظ ْهرك ورف ْعنا لك‬ ‫القواعد‪ ،‬إذ ّبين ّ‬
‫ذ ْكرك‪ [ ‬الشرح‪ ،‬اآلية‪ ،] 64 :‬فإيقاع اآليتين يلتقي مع بحر مجزوء الرمل‪ ،‬إالّ ّأنهما كالم‬
‫حد ال ّشعر النعدام القصد‪.1‬‬
‫خارج عن ّ‬
‫نموا وعمقا مع ابن خلدون (ت‪606 .‬هـ) الذي تفطّن إلى بعد آخر‬
‫وتزداد هذه الرؤية ًّ‬
‫ال يمكن إغفاله عند الحديث عن طبيعة ال ّشعر‪ ،‬ذلك هو عنصر التأثير في المتلقّي‪ ،‬عند ما‬
‫المفصل بأج ازء متّفقة‬
‫ّ‬ ‫المبني على االستعارة واألوصاف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بأنه " الكالم البليغ‬
‫عرف ال ّشعر ّ‬
‫ّ‬
‫عما قبله وبعده‪ ،‬الجاري على‬
‫في الوزن والروي‪ ،‬مستق ّل ك ّل جزء منها في غرضه ومقصده ّ‬
‫‪2‬‬
‫النفوس‪ ،‬كما يد ّل‬
‫أساليب العرب المخصوصة به " ‪ .‬والمقصود بقوله " البليغ" المؤثّر في ّ‬
‫يغا ‪ [ ‬النساء‪ ،‬اآلية‪ ،] 46 :‬هذا إلى‬
‫على ذلك قوله تعالى‪  :‬فق ْل له ْم في أنفسه ْم ق ْوالً بل ً‬
‫جانب ما أثرى به تعريفه من قيام الشعر أساسا على الخيال المفهوم من عبارة " االستعارة‬
‫أيضا عند الجرجاني وهو يورد‬
‫واألوصاف "‪ ،‬والوظيفة التأثيرية في الشعر تبرز بوضوح ً‬
‫فيبين ّأنه " قياس مؤلَّف من الم َّ‬
‫خيالت‪ ،‬والغرض منه انفعال‬ ‫مفهوم ال ّشعر عند المناطقة‪ّ ،‬‬
‫النفس بالترغيب والتنفير… "‪.3‬‬
‫ّ‬
‫النقّاد العرب‬
‫ومع تقادم مقولة ابن خلدون فهي ال تعدم مقاربة مع ما يراه بعض كبار ّ‬
‫المقيد بالوزن والقافية‪،‬‬
‫أن ال ّشعر هو " الكالم ّ‬
‫في العصر الحديث مثل طه حسين الذي يرى ّ‬
‫الفني"‪ ،4‬وأحمد الشايب في قوله ‪ ":‬هو الكالم الموزون المقفّى الذي‬
‫والذي يقصد به الجمال ّ‬
‫يصور العاطفة‪ ،‬وتصوير العاطفة يقتضي التأثير العاطفي في الغير بنفس الدرجة‪ ،‬فإذا خال‬
‫ّ‬
‫نظما‪ ،‬واذا وجد التأثير ولم توجد الصورة‬
‫الكالم الموزون المقفّى من هذا التأثير كان ً‬
‫الموسيقية المؤلّفة من الوزن والقافية كان نث ار أدبيا"‪.5‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬ابن خلدون‪ :‬املقدمة‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪4000 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.422.‬‬
‫‪ 3‬الشريف اجلرجاين‪ :‬التعريفات‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.109.‬‬
‫‪ 4‬طه حسني‪ :‬يف األدب اجلاهلي‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1868 ،12.‬م‪ ،‬ص‪.212-214.‬‬
‫‪ 5‬أمحد الشايب‪ :‬أصول النقد األديب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1824 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.488-489.‬‬

‫‪93‬‬
‫وال يخفى من كالم ابن خلدون والجرجاني ما في النظرية العربية القديمة من تطلّع إلى‬
‫حدد به جاكوبسون أدبية األدب أو‬
‫المتلقّي‪ ،‬أحد طرفي عناصر الحدث االتّصالي الذي ّ‬
‫شعريته‪ ،‬في هيكلته لذلك الحدث القائم على مرسل ومستقبل‪ ،‬هما طرفا االتّصال‪ ،‬وبينهما‬
‫معينة تجعل الرسالة في متناول اإلدراك‪،‬‬
‫رسالة لها سياقها‪ ،‬ووسيلة انتقال‪ ،‬وتحكمها شفرة ّ‬
‫تتوجه الرسالة بالتركيز نحو ذاتها طلبا للوظيفة الجمالية‪.1‬‬
‫وذلك حين ّ‬
‫أن هذا االهتمام بالمتلقّي لم يكن يصل في عمقه إلى المستوى الذي‬ ‫ولن نجادل في ّ‬
‫متميزة في نقدنا القديم‪ ،‬إالّ ّأنه لفتة ّأولية رائدة من ابن خلدون‬
‫ّ‬ ‫يقوم فيه بنفسه ظاهرة‬
‫تنبهوا إلى المستقبل الذي أسست عليه أحدث النظريات كنظرية‬
‫ممن ّ‬
‫والجرجاني وغيرهما‪ّ ،‬‬
‫النقدية المؤسِّسة لما‬
‫االستقبال (‪ ،)Théorie de la réception‬وقامت تناصره المناهج ّ‬
‫إحالل سلطة القارئ مح ّل سلطة‬
‫الداعية إلى ْ‬
‫بعد البنيوية كالتفكيكية‪ ،‬وما جاراها من الرؤى ّ‬
‫النص‪ ،‬بعد قيام هذه بدورها على أنقاض المؤلِّف المعدود مع األموات عند هذه االتّجاهات‪.‬‬
‫ّ‬
‫تصورهم عن ال ّشاعر نفسه‬
‫ّ‬ ‫المهمة لمفهوم الشعر عند القدماء يبقى‬
‫ّ‬ ‫مع هذه اإلضافات‬
‫النقدي العربي والهضم‬
‫أوضح وأعمق كما ذكرنا سابقا‪ ،‬لذلك كان من اإلجحاف بالتراث ّ‬
‫تم في إطاره‪ ،‬أن نكتفي بتلك التعريفات التي حاولوا أن يجلوا بها تمثّلهم للشعر‬
‫للمنجز الذي َّ‬
‫تصورهم عن ال ّشاعر الذي يقوم من ال ّشعر مقام‬ ‫ّ‬ ‫قر في‬
‫وال ّشعرية‪ ،‬دون اإللمام بما است ّ‬
‫النقّاد‬
‫يعبر طه مصطفى أبو كريشة عن هذه القناعة بقوله‪ّ ..." :‬إننا نظلم ّ‬ ‫المرسل أو الباث‪ّ .‬‬
‫يكمله من اهتدائهم إلى معرفة‬ ‫العرب إذا اكتفينا بما ذكروه في تعريف ال ّشعر‪ ،‬ولم ننظر فيما ّ‬
‫المقصود باسم ال ّشاعر"‪.2‬‬
‫النقد‬
‫مكانا واسعا في فضاء القضايا التي طرحها ّ‬ ‫ً‬ ‫فلقد احتل الحديث عن الشاعر‬
‫النظرة السريالية المندهشة التي أحاطت بال ّشاعر في‬
‫السهل اكتشاف ّ‬
‫العربي القديم‪ ،‬ومن ّ‬
‫تتجمع كلّها في‬
‫ّ‬ ‫ص بأوصاف تهويلية كثيرة‬ ‫التّقليد العربي‪ ،‬إذ اعتبر كائنا فوق العادة‪ ،‬وخ ّ‬
‫سيان في ذلك شخصه‬ ‫ك عن ك ّل ما له اتّصال بال ّشاعر‪ّ ،‬‬
‫ميز التي ال تنف ّ‬
‫صفة الفرادة والتّ ّ‬
‫تتوهج فيه تجلّيات تلك ال ّذات المتعالية‪ .‬وهو ما ذهب‬
‫كذات مبدعة خالّقة‪ ،‬وابداعه كموضوع ّ‬

‫‪ 1‬ميجان الرويلي وسعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪2.‬ن ‪4004‬م‪ ،‬ص‪.64 .‬‬
‫‪ 2‬مصطفى طه أبو كريشة‪ :‬أصول النقد األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.5.‬‬

‫‪94‬‬
‫ألنه يشعر بما ال يشعر به‬
‫إليه ابن رشيق في تعليل إطالق لفظ ال ّشاعر عليه وذلك " ّ‬
‫غيره"‪.1‬‬
‫متفوقا " يتجاوز اآلخرين بما يمتلكه من قدرات تم ِّكنه من‬
‫استحال ال ّشاعر إذاً كائنا ّ‬
‫رؤية ما ال يرون‪ ،‬بل ّإنه قادر في نظرهم دائما‪ ،‬على خلق عوالم أخرى تظ ّل م َّ‬
‫حجبة مت ّكتمة‬
‫للحس‪ ،2" ...‬وهذا ما دفعهم إلى أن يصلوا بين ال ّشاعر وعالم‬
‫ّ‬ ‫على نفسها غير منكشفة‬
‫روبا من القول الم ِّ‬
‫فن‪ ،‬ال‬ ‫الجن يوحي إلى متبوعه ض ً‬
‫ّ‬ ‫الغيب‪ .‬فجعلوا لك ّل شاعر تابعا من‬
‫المتفردة‪ " ،‬فالشاعر يتلقى معرفته مثل‬
‫ّ‬ ‫يستطيعها سواه من البشر المحرومين من هذه الصلة‬
‫جن [ كذا ]‬
‫الكاهن‪ ،‬متنبئ القبيلة‪ ،‬من خالل إلهام متجاوز البشر‪ ،‬وللشاعر شيطان أو ّ‬
‫يلهمه معرفته "‪.3‬‬
‫الزوابع )‬
‫وعن هذه الرؤية صدر ابن شهيد (ت‪664.‬هـ) في كتابه ( رسالة التّوابع و ّ‬
‫الجن في صحبة تابعه زهير بن نمير‪ ،‬ليحادث بعض توابع الشعراء‬
‫الذي سافر فيه إلى بالد ّ‬
‫ثم ينال إجازتهم‪ ،‬فكان في جملة من لقي‬
‫الفحول والكتّاب النابهين‪ ،‬فيسمعهم ويسمع منهم ّ‬
‫المتنبي‪ ،4‬ولعلّه لن يخرج‬
‫ّ‬ ‫هناك عتيبة بن نوفل تابع امرئ القيس‪ ،‬وحارثة بن المغلِّس تابع‬
‫سنة العرب في تهانيهم‪ ،‬فقد أشار إلى ّأنهم لم يكونوا‬‫السياق ما ذكره ابن رشيق من ّ‬‫عن هذا ّ‬
‫يهنئون" إالّ بغالم يولـد‪ ،‬أو شاعر ينبغ فيهم‪ ،‬أو فرس تنتج "‪.5‬‬
‫ّ‬
‫بأن‬
‫إن ربط نبوغ ال ّشاعر بحدث الوالدة في هذا التّقليد االجتماعي يد ّل على إحساس ّ‬
‫ّ‬
‫التفجر من ينابيع خفية‪ ،‬كحدث الميالد نفسه‬
‫النبوغ ال ّشعري أمر خارق‪ ،‬قائم على االنبثاق و ّ‬
‫متمنع في ق ارره المكين‪.‬‬
‫الذي هو انبثاق للحياة من عالم مستور ّ‬
‫التصور ما فيه من بعد ميطافيزيقي غيبي‪ ،‬فلقد التقت شعوب‬
‫ّ‬ ‫ولن يقلّل من قيمة هذا‬
‫عموما‪ ،‬فهؤالء الصينيون‬
‫ً‬ ‫كثيرة في ال ّشرق والغرب حول هذا التّفسير الميثولوجي لألدب‬
‫الدرجات حتّى ليقارب‬
‫يقدسونه ويرفعون من شأنه إلى أسمى ّ‬
‫" ‪ ...‬كانوا أكثر من سواهم ّ‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.104.‬‬
‫‪ 2‬حممد لطفي اليوسفي‪ :‬الشعر والشعرية‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا‪-‬تونس‪1884 ،‬م‪ ،‬ص‪.41.‬‬
‫‪ 3‬إيفالد فاجنر‪ :‬أسس الشعر العريب الكالسيكي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 22 .‬‬
‫‪ 4‬ابن شهيد‪ :‬رسالة التوابع والزوابع‪ ،‬درس و ومنتخبات‪ :‬فؤاد إفرام البستاين‪ ،‬الروائع‪ ،‬ج‪ ،52.‬ط‪4.‬ن ‪1894‬م‪ ،‬ص‪.262-259 .‬‬
‫‪ 5‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.104.‬‬

‫‪95‬‬
‫بالدين‪ ،‬ومن هنا نجم إجاللهم للكتّاب والشعراء‪ ،‬ونظرتهم إليهم على ّأنهم‬
‫تعلّقهم به إيمانهم ّ‬
‫السماء‪ ،1"...‬وكذلك اعتقد اليونان‪ ،‬وبعدهم‬
‫الناس العاديين و ّ‬
‫حكماء جاؤوا األرض صلة بين ّ‬
‫أن ال ّشعر فيض تتجلى به أمام شعرائهم اآللهة‪.‬‬
‫الالّتين ّ‬
‫عب ار عنها‬
‫النظرة تتّسق ومرحلة البداية الطفولية لألمم التي قام ال ّشعر م ّ‬
‫أن هذه ّ‬
‫الحق ّ‬
‫و ّ‬
‫دون النثر‪ ،‬لما في تلك المرحلة من سذاجة يتّسع لها صدر الشعر في عفويته وتهويماته‬
‫األمة التي‬
‫النثر‪ ،‬الملتزم غالبا برصانة الفّكر وواقعيته‪ ،‬والذي يحت ّل موقعه في ّ‬
‫أكثر من ّ‬
‫وشبت عن طور البدايات األولى‪.‬‬
‫الرقي الحضاري‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫متقدمة في‬
‫قطعت أشواطا ّ‬
‫النقد‬
‫النظرة المثالية ال تعني انعدام المعادل العقالني‪ ،‬الذي عالج به ّ‬
‫أن هذه ّ‬ ‫غير ّ‬
‫محمد لطفي اليوسفي‪ " :‬والثابت لدينا‬
‫العربي القديم الظّاهرة األدبية وعلى رأسها ال ّشعر‪ .‬يقول ّ‬
‫توجه‬
‫تسنى لها أن تتعايش مع نظرة أخرى ّ‬
‫الضاربة بجذورها في الميثولوجية‪ّ ،‬‬
‫النظرة ّ‬
‫أن هذه ّ‬
‫ّ‬
‫توجها عقليا ذا طابع تنظيري الفت‪ ،‬إذ اعتبروا ال ّشاعر صاحب صناعة مدارها‬
‫أصحابها ّ‬
‫اللّغة"‪.2‬‬

‫تبناها‬
‫وتستوقفنا هنا كلمة " صناعة "‪ ،‬فداللتها واضحة على الوجهة الوضعية التي ّ‬
‫النقدي العربي في تقويمه لل ّشعر‪ ،‬فقد صار الشعر صناعة‪ ،‬والصناعة " حرفة‬‫الدرس ّ‬ ‫ّ‬
‫‪3‬‬
‫يلم بها‬
‫ّ‬ ‫أن‬ ‫على‬ ‫‪...‬‬ ‫"‬ ‫المتدرب‬ ‫مل‬ ‫ح‬ ‫وت‬ ‫التخصص‪،‬‬
‫و‬ ‫الممارسة‬ ‫تقتضي‬ ‫الحرفة‬
‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫الصانع "‬
‫‪4‬‬
‫أن أبا هالل‬
‫ويراعيها في نظمه لتكون صناعته مقبولة عند المتلقي ‪ ، " ...‬ونذكر هنا ّ‬
‫الصناعتين "‬
‫سمى كتابه ال ّشهير " كتاب ّ‬
‫النحو عندما ّ‬‫العسكري (ت‪495 .‬هـ) نحا هذا ّ‬
‫ويعني بذلك ال ّشعر والكتـابة‪ ،‬وهـذا ما نعثر عليه في قول ابن سالّم الجمحي (ت‪641 .‬هـ)‬
‫الذي نقله عنه ابن رشيق " ولل ّشـعر صناعة‪ ،‬وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم‬
‫الصناعات "‪.5‬‬
‫و ّ‬

‫‪ 1‬جبور عبد النور‪ :‬املعجم األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.420.‬‬


‫‪ 2‬حممد لطفي اليوسفي‪ ،‬الشعر والشعرية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.44.‬‬
‫‪ 3‬لسان العرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬مادة صنع‪.‬‬
‫‪ 4‬خليل املوسى‪ :‬مجاليات الشعرية‪ ،‬منشورات احتاد الكتّاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،4009 ،‬ص‪.91.‬‬
‫‪ 5‬ابن سالّم اجلمحي‪ :‬طبقات فحول الشعراء‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممود حممد شاكر‪ ،‬دار املدين‪ ،‬جدة‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ج‪ ،1.‬ص‪.5.‬‬

‫‪96‬‬
‫وقد الحظ ابن خلدون نزول كثير من شعر العلماء والفقهاء عن مستوى اللّغة ال ّشعرية‪،‬‬
‫يسمى الجملة‬
‫بسبب غلبة مصطلحاتهم وعباراتهم على ألسنتهم‪ .‬وهو ما يجعلهم يقعون فيما ّ‬
‫الدالالت اإليحائية‬
‫النثرّية‪ ،‬ذات الداللة التقريرية البعيدة عن اإلشارات واللّمحات‪ ،‬أو ّ‬
‫الضرورية لل ّشعر‪ .‬يقول ابن خلدون في هذا السياق ‪ ":‬وأخبرني صاحبنا الفضل أبو القاسم‬
‫العباس بن شعيب‬
‫يوما صاحبنا أبا ّ‬
‫بالدولة المرينية قال ‪ ":‬ذاكرت ً‬
‫بن رضوان كاتب العالمة ّ‬
‫كاتب السلطان أبى الحسن ‪ -‬وكان المقدم في البصر باللّسان لعهده ‪ -‬فأنشدته مطلع قصيدة‬
‫النحوي ولم أنسبها له وهو هذا‪:‬‬ ‫ابن ّ‬
‫لَمْْأ َدرْْح ينَْْ َو قَف تْْب األ َط الَلْْْْْْ َم اْالفَر قْْب َي نَْْ َج د يد هَاْ َو البَال يْ‬
‫فقال لي على البديهة‪ :‬هذا شعر فقيه‪ .‬فقلت له ومن أين لك ذلك؟ فقال‪ :‬من قوله‪ :‬ما‬
‫الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كالم العرب‪ .‬فقلت له هلل أبوك ّإنه ابن‬
‫النحوي"‪.1‬‬
‫ّ‬
‫يشير بذلك إلى افتقار عبارة " ما الفرق؟ " إلى إشعاع ال ّشعرية وايحائها‪ ،‬لكونها مبتذلة‬
‫يتبادلها – عادة ‪ -‬الفقهاء وطالّبهم في بحث المسائل والتّمييز بين األحكام والعقائد‪ ،‬وغير‬
‫مما تصلح فيه هذه العبارة التعليمية المستهلكة‪.‬‬
‫ذلك ّ‬
‫النقّاد العرب القدماء إذاً فرادة اللّغة التي يجنح إليها ال ّشاعر‪ ،‬واّنما اهتدوا‬
‫لم يغب عن ّ‬
‫النص ال ّشعري‪ ،‬واستقراء دقيق لطبيعة عناصرها التي‬ ‫ّ‬ ‫إلى ذلك من عملية تشريح واعية لبنية‬
‫أن اللّغة ال ّشعرية‬
‫المتميز‪ ،‬فالحظوا من دراستهم للغة القصيدة العربية ّ‬
‫ّ‬ ‫تتراتب إلقامة كيانها‬
‫مدعو‬
‫ّ‬ ‫النحو‪ .‬فال ّشاعر‬
‫المدونة في كتب اللّغة و ّ‬
‫َّ‬ ‫تجسدها القواعد‬
‫انتهاك للّغة المعيارية‪ ،‬التي ّ‬
‫التصرف فيها‬
‫ّ‬ ‫ومقرراتها‪ ،‬والى‬
‫بحكم الوظيفة األدبية الخالصة إلى الخروج عن مألوف اللّغة ّ‬
‫تصرفا عميقا يصل إلى درجة خلق لغوي جديد‪ ،‬ال يقوم إالّ على‬
‫ّ‬ ‫بما ينال جميع مستوياتها‬
‫أنقاض المعيار أو المقياس الذي خضعت له اللّغة العادية‪ " ،‬فتحطيم اللّغة المعيارية أمر‬
‫الزم‪ ،‬ومن دونه لن يكون هناك شعر"‪.2‬‬

‫‪ 1‬ابن خلدون‪ :‬املقدمة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.426.‬‬


‫‪ 2‬موخاروفسكي‪ ،‬يان‪ :‬اللغة املعيارية واللغة الشعرية‪ ،‬ترمجة‪ :‬ألفت الرويب‪ ،‬فصول‪ ،‬جملد‪ ،5 :‬العدد‪ ،1.‬أكتوبر‪1894 ،‬م‪ ،‬ص‪.41.‬‬

‫‪97‬‬
‫هذا االنتهاك إجراء تتّخذه اللّغة ال ّشعرية على مستوى اللّغة المعيارية‪ ،‬وهو ما لم يغفله‬
‫عبر عنه‬
‫وتدبر‪ ،‬كابن رشد الذي ّ‬
‫الفالسفة والمنظّرون العرب القدماء‪ ،‬بل نظروا فيه بوعي ّ‬
‫فن ال ّشعر ) ألرسطو‪ .‬ويعني به‬
‫بمصطلح " التغييرات "‪ ،‬وذلك في شرحه لكتاب ( ّ‬
‫العادية) إلخراجها في لبوس األقاويل‬
‫التحويالت التي يلحقها ال ّشاعر باألقوال الحقيقية ( ّ‬
‫الصوتي‪ ،‬والتركيبي والداللي يقول ‪ ":‬قال [أي أرسطو]‪:‬‬
‫ال ّشعرّية‪ ،‬بحيث ينال التغيير الجانب ّ‬
‫مغي ار عن القول الحقيقي من حيث توضع فيه األسماء متوافقة‬ ‫والقول ّإنما يكون مختلفا‪ ،‬أي َّ‬
‫في الموازنة والمقدار‪ ،‬وباألسماء الغريبة‪ ،‬وبغير ذلك من أنواع التغيير "‪.1‬‬
‫األول‪ ،‬بل ساق نماذج من ال ّشعر‬
‫حد شرح قول المعلّم ّ‬
‫ولم يقف ابن رشد عند ّ‬
‫عامة في ال ّشعر‪ ،‬فضرب مثال قول القائل‪:‬‬
‫أن هذه المسألة ّ‬
‫العربي في إشارة إلى ّ‬
‫‪2‬‬
‫ومسَّح باأل ْركان م ْن هو ماسح‬ ‫ول َّما قض ْينا م ْن مًنى ك َّل حاجة‬
‫ي األ ب اط ح‬
‫ت ب أ ْعن اق الم ط ِّ‬
‫وس ال ْ‬ ‫طراف األ ح اد يث ب ْي نن ا‬
‫أخ ْذن ا ب أ ْ‬
‫وعقَّب على هذا بقوله‪ّ " :‬إنما صار شع ار من قبل ّأنه استعمل قوله‪ :‬أخذنا بأطراف األحاديث‬

‫تحدثنا ومشينا‪ ، 3‬يشير بذلك إلى ما فيه‬


‫بيننا‪ ،‬وسالت بأعناق المط ّي األباطح‪ ،‬بدل قوله‪ّ :‬‬
‫من استعارة األطراف للحديث‪ ،‬وسيالن األباطح باألعناق‪ ،‬وهو مجاز مغيِّر للمعاني‬
‫المحركة وجدتها بهذه الحال‪ ،‬وما عدا من هذه‬
‫ِّ‬ ‫تأملت األشعار‬ ‫ثم يقول ‪ ":‬وأنت إذا ّ‬
‫الحقيقية‪ّ .‬‬
‫التغييرات فليس فيه من معنى ال ّشعرية إالّ الوزن فقط"‪ .4‬وهذه العبارة األخيرة تعود بنا إلى‬
‫النقّاد والمف ّكرين القدماء إلى الوقوف عند حدود القالب الثنائي‪،‬‬
‫مسألة عدم اطمئنان بعض ّ‬
‫المتمثّل في الوزن والقافية كما رأينا عند ابن خلدون والجرجاني‪.‬‬

‫تم بها التغييرات فيذكر ّأنها تكون‬


‫ويمضي ابن رشد إلى بيان العمليات اإلجرائية التي ت ّ‬
‫" بالموازنة والموافقة واإلبدال والتشبيه‪ ،‬وبالجملة بإخراج القول غير مخرج العادة مثل القلب‬

‫‪ 1‬أرسطوطاليس‪ :‬فن الشعر‪ ،‬ترمجة وحتقيق‪ :‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.444.‬‬
‫‪2‬‬
‫ينسب هذان البيتان لكثري عزة‪ ،‬ويزيد بن الطثرية‪ ،‬عقبة بن كعب بن زهري‪ ،‬انظر الشعر والشعراء‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪26.‬‬
‫‪3‬‬
‫أرسطوطاليس‪ :‬فن الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.666 .‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ :‬ص‪.442.‬‬

‫‪98‬‬
‫السلب ومن‬
‫والحذف والزيادة والنقصان والتّقديم والتأخير وتغيير القول من اإليجاب إلى ّ‬
‫سمى‬
‫السلب إلى اإليجاب‪ ،‬وبالجملة من المقابل إلى المقابل‪ ،‬وبالجملة بجميع األنواع التي ت ّ‬
‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫النقدية العربية‬
‫تتفرع عنه صفة التخييل التي طرقتها المباحث ّ‬ ‫مجاز " ‪ .‬وهذا الطّرح ّ‬
‫ًا‬ ‫عندنا‬
‫المتنوعة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النقّاد المجاز والتشبيه بفروعهما وتجلّياتهما‬
‫كثير‪ ،‬عند تناول ّ‬
‫القديمة ًا‬
‫النابغة الذبياني‪:‬‬
‫السلب قول ّ‬
‫ويسوق مثال للتغيير من اإليجاب إلى ّ‬
‫ب ه َّن ف لول م ْن قراع الك ت ائ ب‬ ‫وال ع ْي ب ف يه ْم غ ْير أ َّن سيوفه ْم‬

‫فإنه أوجب لهم الفضائل بنفي العيوب‪ ،‬واستثنى منها ما ليس بعيب على جهة تسمية‬
‫" ّ‬
‫للمتنبي هو ‪ ":‬فيك الخصام وأنت الخصم‬
‫ّ‬ ‫ضده "‪ ، 2‬ويؤ ّكد هذا عجز بيت‬
‫الشيء باسم ّ‬
‫والحكم "‪ ،3‬ويجعل ذلك من التغييرات اللّذيذة التي جمعت األضداد في شيء واحد‪ ،‬وفي‬
‫المتنبي نظائر لهذه التغييرات أشد تغريبا في الخروج عن اللّغة المعيارية وهو ما جعله‬
‫ّ‬ ‫شعر‬
‫عرضة لنقمة بعض اللّغويين‪ ،‬والبالغيين المحافظين في عصره وما تاله كما سنرى عند‬
‫دراسة بعض مطالعه‪.‬‬
‫فرق الشكالنيون في حلقة براغ وتخصيصا جان موخاروفسكي‬ ‫وفي العصر الحديث‪ّ ،‬‬
‫)‪ (J. Mokarovsky‬بين اللّغة الشعرية‪ ،‬واللّغة المعيارية أو القياسية ‪(Langage‬‬
‫ألن لهذه اللّغة‬
‫نوعا خاصًّا من اللّغة المعيارية‪ّ ،‬‬
‫أن اللّغة الشعرية ليست ً‬
‫فبين " ّ‬
‫)‪ّ Standard‬‬
‫أن لها‬‫الخاص‪ ،‬كما ّ‬
‫ّ‬ ‫الخاص على المستوى المعجمي والتركيبي‪ ،‬ولها مصطلحها‬ ‫ّ‬ ‫نظامها‬
‫تسمى بالضرورات ال ّشعرية"‪.4‬‬
‫النحوية التي يمكن أن ّ‬
‫بعض الصيغ ّ‬
‫شدد على وعي اإلشارة‬
‫وا ّن لغة الشعر – كما يرى صاحبا كتاب ( نظرّية األدب ) ‪ -‬ت ّ‬
‫النظر إليه‬
‫الصوتي للكلمة " وقد وضعت جميع أنواع الصنعة لتلفت ّ‬‫الرمز ّ‬
‫ذاتها‪ ،‬وعلى ّ‬
‫‪5‬‬
‫النثر حيث اللّغة المعيارية‬
‫مكررة " ‪ .‬وهي – وان وجدت في ّ‬
‫السجع وأنماط صوتية ّ‬
‫كالوزن و ّ‬

‫‪ 1‬السابق‪ :‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ :‬ص‪.444 .‬‬
‫‪ 3‬صدره‪ :‬يا أعدل الناس إال يف معامليت‪.‬‬
‫‪ 4‬رمضان الصباغ‪ :‬العالقة بني اجلمال واألخالق يف جمال الفن‪ ،‬عامل الفكر‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬اجمللد ‪ ،16‬ع‪،1.‬‬
‫سبتمرب‪1889 ،‬م‪ ،‬ص‪.142.‬‬
‫‪ 5‬رونيه ويليك وأوستني وارين‪ :‬نظرية األدب‪ ،‬ترمجة‪ :‬حميي الدين صبحي‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪1896 ،‬م‪ ،‬ص‪.44.‬‬

‫‪99‬‬
‫كمًّيا منها في ال ّشعر‪ ،‬كما ّأنها فيه أكثر تنظيما من أجل " وضعنا قس ار في حالة‬
‫فإنها أق ّل ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫من الوعي واالنتباه "‪.1‬‬
‫النثر‪ ،2‬أي‬
‫أن الشعر يخدم الكلمات وال يستخدمها كما يستخدمها ّ‬ ‫أن سارتر يرى ّ‬ ‫بل ّ‬
‫الخاص في ال ّشعر يشحن الكلمات بطاقات جديدة تخلع عليها كينونة‬ ‫ّ‬ ‫أن التنظيم اللّغوي‬
‫ّ‬
‫المقررة لها في اللّغة العادية‪ ،‬والتي‬
‫َّ‬ ‫أخرى وتمنحها استقاللية متفلّتة من مصاحبة المعاني‬
‫أن ال ّشعراء " قوم يترفّعون‬
‫غالبا ما يجد النثر نفسه مشدودا إليها‪ ،‬ومن هنا يشير سارتر إلى ّ‬
‫باللّغة عن أن تكون نفعية "‪.3‬‬
‫للنفعية كما أشار سارتر‬
‫تتغي اللّغة عند الشكالنيين على أساس تجاوزها ّ‬
‫ّ‬ ‫وبناء عليه‬
‫من ناحية‪ ،‬وعلى اعتبار ّأنه ال مضمون من ورائها من ناحية أخرى‪ .‬بل هي في ذاتها‬
‫حق الناص نفسه أن يعترض على ما انتهى إليه‬
‫المضمون الوحيد المتجسِّد بحيث ليس من ّ‬
‫النص‪ ،‬طالما ّأنه وصل إلى ذلك من استقرائه للهيكل اللّغوي الذي قام‬
‫ّ‬ ‫فهم القارئ أو محلّل‬
‫النص‪ ،‬ومراقبته لبنيته اللّسانية وكيفية تراتب عناصرها وما بينها من عالقات ونسب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عليه‬
‫كل هذه الخصائص جعلت من الشاعر كائنا عارفا‪ ،‬ومن صناعته الشعرية ضربا من‬
‫"المعرفة المتميزة‪ ،‬التي تبدع وتجسد ما تبدعه في هذا الشكل‪ .‬إنه نوع من الوعي الذي يدرك‬
‫الوجود الطبيعي واإلنساني إدراكا خاصا‪ ،‬يختلف فيه عن أشكال الوعي األخرى ‪.4" ...‬‬
‫واذا بات من المحقق تع ّذر الوصول إلى تعريف الشعر تعريفا اصطالحيا نهائيا مقنعا‬
‫يحسن السكوت عليه‪ ،‬شأنه في ذلك شأن كل الفنون وما يتصل بها من قضايا وقيم‪ ،‬مما يقع‬
‫تحت اإلحساس ويتمنع على التحديد‪ ،‬ويقع في دائرة األشياء التي قال عنها إسحاق‬
‫الموصلي ‪ ":‬إن من األشياء أشياء تحيط بها المعرفة‪ ،‬وال تؤديها الصفة "‪ ،5‬فليس من‬
‫المستحيل الوقوف على ما يميز الشعرية بوصفها نوعا من المعرفة كما سبقت اإلشارة‪ ،‬أو‬

‫السابق‪ ،‬ص‪.64.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬جان بول سارتر‪ :‬ما األدب؟‪ ،‬ترمجة‪ :‬حممد غنيمي هالل‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪1894 ،‬م‪ ،‬ص‪.6.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 4‬عبد اهلل العشي‪ :‬أسئلة الشعرية حبث يف آلية اإلبداع الشعرية‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪ ،4008 ،1.‬ص‪.115.‬‬
‫‪ 5‬اآلمدي‪ :‬املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،،‬ج‪ ،1.‬ص‪.414.‬‬

‫‪100‬‬
‫فصله الدكتور عبد اهلل العشي في اآلتي‪: 1‬‬
‫رؤية من أخص خصائصها ما ّ‬

‫‪ .1‬الكشف‪ :‬فالرؤية الشعرية رؤية كاشفة ال واصفة‪ ،‬تتعمق أسرار الكون والنفس‪،‬‬
‫اف الوصف والتقرير‪.‬‬
‫غير مكتفية بالوقوف عند حو ّ‬
‫‪ .6‬التجاوز‪ :‬ولعل من ألزم ما يترتب على خصيصة الكشف في الرؤية الشعرية‪،‬‬
‫خصيصة التجاوز‪ ،‬فعلى قدر حظ تلك الرؤية من أصالة في كشف الخفايا واستبطان‬
‫األسرار‪ ،‬يكون حظها من تجاوز ما استقر في األذهان والمدارك من معطيات الحس‪،‬‬
‫وظواهر األشياء‪ .‬بكل ما يتضمنه التجاوز من أبعاد أو مجاالت إبداعية أو ثقافية أو‬
‫غير ذلك‪.‬‬
‫‪ .4‬العذرية‪ :‬إن الشاعر الحق هو ذلك الكائن الذي يقف دائما أمام الكون مشدوها‬
‫يجيل شاعريته في أنحائه‪ ،‬فال يزال يرى في صفحاته الطريف الذي ال يخلق مع كثرة‬
‫التداول‪ ،‬ويرد منه المناهل التي ال تأسن مع شدة الزحام وتتابع الورد‪.‬‬
‫‪ .6‬التحويلية‪ :‬ليست القصيدة أشبه بمرآة مستوية تنعكس عليها معطيات الحس‪،‬‬
‫فتبدو على صفحاتها كما هي في الواقع‪ .‬بل إنها أشبه بثقاف تسلك فيه الطبيعة في‬
‫مادتها األولية بكل عناصرها‪ ،‬فال تخرج منه إال وقد ش ّذبت وهذبت مصطبغة برؤية‬
‫الشاعر الخاصة‪ .‬إن نزعة كهذه ال يكون معها مقيل وال مبيت لعبارة " ليس في اإلمكان‬
‫أبدع مما كان "‪ ،‬وما يشبهها من العبارات الوقوفية التسليمية‪ .‬ذلك أن " إمكانات "‬
‫الشاعر الملهم قادرة على إعادة إبداع العالم وتشكيله‪ ،‬بما أوتي من آليات على رأسها‬
‫آلية التحويل هذه‪.‬‬
‫ئي إال على أنه‬
‫‪ .5‬الشمولية ‪ :‬ال تتناول القصيدة ذات الرؤية الشمولية الجز َّ‬
‫وبناء على هذا يجب على الشاعر‬
‫أنموذج للكلي‪ ،‬أو قالب يتسع لصب الكوني فيه‪ً .‬‬
‫– بعبارة ستانلي هايمن ‪ -‬السعي إلى تحويل " ‪ ...‬آالمه الذاتية الخاصة إلى شيء‬
‫خصيب غريب‪ ،‬شيء كوني عام "‪.2‬‬

‫‪ 1‬عبد اهلل العشي‪ :‬أسئلة الشعرية‪ ،‬حبث يف آلية اإلبداع الشعري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.122-112.‬‬
‫‪2‬ستانلي هامين‪ :‬النقد األديب ومدارسه احلديثة‪ ،‬نقال عن حممد علي كندي‪ :‬الرمز والقناع يف الشعر العريب احلديث‪ ( ،‬السياب ونازك‬
‫والبيايت )‪ ،‬دار الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪4002 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.61.‬‬

‫‪101‬‬
‫‪ .4‬النبوئية أو المستقبلية ‪ :‬إن وعي الماضي وعيا أصيال ومباشرا‪ ،‬واالستغراق‬
‫في الحاضر‪ ،‬وتفاعل تجاربهما في وجدان الشاعر وفكره‪ ،‬كفيالن بإكسابه قدرة على‬
‫االستشراف‪ .‬فيصبح قاد ار على السفر صوب المستقبل‪ ،‬أو على ( استعجال ) المستقبل‬
‫ليحصل أمامه قبل اآلخرين‪ ،‬ذلك أن هذا المستقبل إنما هو – في صورته العامة‪ ،‬بعيدا‬
‫عن التمظهرات الجزئية – وليد التفاعل بين تجارب الماضي والحاضر‪ .‬وال شك أن‬
‫للتجاوز والكشف عالقةً في تغذية هذه النبوئية‪ ،‬بما أن التفلت من الزمن الراهن بعد من‬
‫‪1‬‬
‫أبعاد التجاوز‪ ،‬وبما أن الكشف غوص على الخبايا المتسترة في رحم األيام‪.‬‬
‫‪ .7‬الصوفية ‪ :‬إذا كانت صورة التصوف في اإلالهيات ذوبان المتأله في ذات‬
‫معبوده‪ ،‬فإن صورته في التجربة الشعرية ذوبان الشاعر في موضوعه وتماهيه معه‪،‬‬
‫حتى ليصبحان كيانا واحد ال ذات فيه وال موضوع‪ ،‬وبذلك فقط يهب الموضوع الشاعر‬
‫متمنع‪.‬‬
‫قصي ّ‬‫ّ‬ ‫روحه‪ ،‬ويقع منه على كل‬
‫‪ .6‬التراجيدية ‪ :‬إن سعي الشاعر إلى تلمس األفضل واألجمل واألكمل في هذه‬
‫الحياة‪ ،‬وهيمانه في كل واد بحثا عن المعرفة‪ ،‬رحلة شاقة ال يعود معها إال بإحساس‬
‫مض باأللم والخيبة‪ ،‬طالما أن الدافع له إلى ذلك إحساس مرهف‪ ،‬ونفس كبيرة شغوف‬‫م ّ‬
‫لجوج‪ ،‬ال ترى لرحلتها في سبيل ذلك نهاية‪ ،‬وال تجد في كل ما نالته من ضالتها التي‬
‫تنشدها مقنعا‪.‬‬
‫‪ .9‬التفتيت والترتيب ‪ :‬إذا كان جوهر الشعر الحق إبداعا‪ ،‬فمادة اإلبداع هذا هو‬
‫مصنعا مش ّكال‪ ،‬فهو أمام الشاعر‬
‫ّ‬ ‫الكون‪ ،‬وفي مركزيته النفس البشرية‪ .‬فمهما بدا الكون‬
‫الف ّذ الساخط الرافض ليس أكثر من مادة أولية قابلة إلعادة التصنيع‪ .‬واذا كان من أخص‬
‫خصائص الشعرية التحويل‪ ،‬فعلى الشاعر أن يسلط ملكاته على تلك المادة‪ :‬على الكون‬
‫ليحوله‪ ،‬وال شك أنه ال مندوحة له في سعيه إلى ذلك عن تفتيت‬
‫بكل ما فيه ومن فيه ّ‬
‫الكون واعادة ترتيب أجزائه‪ ،‬ليحوله إلى ما يستجيب لرؤاه وتصوراته‪ .‬ولن يعدم عندئذ من‬
‫اآلليات ما يسعفه بذلك‪ ،‬ولعل أمضى ما يجد من تلك اآلليات الخيال‪ 2‬الذي يم ّكنه من‬
‫صياغة العالم كما يشاء‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد اهلل العشي‪ :‬أسئلة الشعرية‪ ،‬حبث يف آلية اإلبداع الشعري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.146.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.124.‬‬

‫‪102‬‬
‫واذا كانت هذه الجمالية الشعرية في رؤيتها ولغتها ومضامينها عامة‪ ،‬ال تخص‬
‫جزءا دون آخر من القصيدة‪ ،‬فتشارك األبيات كلها المطلع فيها‪ ،‬فإن لهذا دون غيره‬
‫خصوصيات جمالية أخرى‪ ،‬أسهب النقاد والبالغيون العرب القدماء في بيانها واإللحاح‬
‫عليها‪ ،‬وأبدعوا في ذلك‪ ،‬وخصوا المطلع بدراسات وافية‪ ،‬وقرروا له من الشروط الفنية ما‬
‫جعله يتصدر كل حديث في الدرس البالغي والنقدي القديم‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫المطلع في التراث البالغي والنقد العربي القديم‬
‫بديعيا يسهم‬
‫ّ‬ ‫النقّاد والبالغيين القدماء بالمطلع إلى اعتبار إجادته مقياسا‬
‫وصل اهتمام ّ‬
‫األول في ك ّل الكتب‬
‫جمالية القصيدة‪ .‬وال أد ّل على ذلك من إحاللهم البراعةَ فيه المحل ّ‬
‫ّ‬ ‫في‬
‫األول والمنظّر‬
‫المؤسس ّ‬
‫ّ‬ ‫البديعية التي عالجوا فيها أنواع البديع‪ ،‬كابن المعتز ( ت‪692 .‬هـ)‬
‫ّ‬
‫الفن في كتابه ( البديع )‪ ،‬وأبي هالل العسكري ( ت‪593 .‬هـ) في‬
‫المصطلحي األسبق لهذا ّ‬
‫البديعية)‪ ،‬وغيرهم‬
‫ّ‬ ‫الدين الحلّي(ت‪037 .‬هـ) في شرح ( الكافية‬
‫كتاب (الصناعتين)‪ ،‬وصفي ّ‬
‫كثير‪.‬‬

‫المجردة إلى قيمة المطلع ال ّشعرّية‪ ،‬بل وضعوا‬


‫ّ‬ ‫هذا ولم يكتف أولئك البالغيون باإلشارة‬
‫الفنّية‪ ،‬وتطبعه بميسم الشعرية‪ .‬جاعلين ذلك رأس الفنون‬ ‫شروطا ومعايير تحقّق له ميزته ّ‬
‫تفرعت عنه (براعة االستهالل)‪ 1‬في‬
‫البديعية بما أطلقوا عليه (براعة المطلع)‪ .‬ولم يلبث أن ّ‬
‫ّ‬
‫البديعية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الصنعة‬
‫النثر بال ّشعر في هذه ّ‬
‫النثر‪ ،‬على سبيل اإلعارة والحاق ّ‬
‫النظم و ّ‬
‫ّ‬

‫إن ارتقاء عناية القدماء بالمطلع إلى المؤلفات المؤسسة والرائدة في البالغة العربية‪،‬‬
‫ككتاب البديع البن المعتز يؤكد أنه " أخذ موقعه من اهتمام النقاد منذ مرحلة باكرة‪ ،‬حيث‬
‫عدوا البراعة في اختيار لفظه وحسن نظمه وصياغته وتواشجه مع غرض القصيدة مناطا‬
‫ّ‬
‫القتدار ا لشاعر‪ ،‬ودليال على تمكن شاعريته‪ ،‬وطفقوا يشيرون من خالل استقراء النصوص‬
‫إلى بعض المعايير التي ت ْسلم إلى حسن المطلع أو قبحه‪ ،‬وجعلوا له فنونا من اإلبداع ترد‬
‫عندهم في حسن االبتداء وبراعة المطلع‪ ،‬وبراعة االستهالل بما يتضمنه البحث البالغي‬
‫الخالص "‪.2‬‬

‫ولعل ضياء ال دين بن األثير من أوضح القدماء عبارة‪ ،‬وأكثرهم تصريحا بإلحاق‬

‫صناعة النثر بالشعر في هذه المسألة‪ .‬وليس ذلك بمستنكر على رجل جعل َو ْكده نصرةَ‬
‫الكتابة‪ ،‬وانصافَها ممن بقوا سائرين على نهج البالغة العربية القديمة المحتفية بالشعر على‬
‫حساب الفنون النثرية‪ ،‬حتى إنه ليعم بمصطلح (المطلع) وما يجب له من شروط الصناعتين‬
‫معا‪ ،‬فيقول ‪ ":‬وأما األركان التي ال بد من إيداعها في كل كتاب بالغي فخمسة‪ :‬األول أن‬

‫‪ 1‬صفي الدين احللي‪ :‬شرح الكافية البديعية‪ ،‬حتقيق‪ :‬نسيب نشاوي‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر‪9191 ،‬م‪ ،‬ص‪.75.‬‬
‫‪ 2‬أمحد سعد حممد‪ :‬نظرية البالغة العربية دراسة يف األصول املعرفية‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪9001 ،9.‬م‪ ،‬ص‪.951.‬‬

‫‪105‬‬
‫يكون مطلع الكتاب علي جدة ورشاقة فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع أو أن يكون‬
‫مبنيا على مقصد الكتاب ولهذا باب يسمى باب المبادئ واالفتتاحات فليح َذ حذوه وهذا الركن‬
‫يشترك فيه الكاتب والشاعر‪.1" ...‬‬

‫وليس مستبعدا أن يكون ابن األثير‪ ،‬مدفوعا إلى ذلك بما عرف عنه من نزعة نقدية‪،‬‬
‫ميالة إلى التقريب بين الشعر والنثر‪ ،‬وذلك أنه صاحب طريقة في الكتابة " تعتمد في أساسها‬
‫‪2‬‬
‫كثي ار على حل المنظوم "‪.‬‬

‫الخاص بالمطلع الذي يتّصل بالشعر مصطلحا‬


‫ّ‬ ‫غير أن ما يعنينا هنا‪ ،‬هو المقياس‬
‫بأنها " عبارة عن سهولة‬
‫الدين الحلي براعة المطلع ّ‬
‫حد به صفي ّ‬‫وخصائص‪ ،‬فمن ذلك ما ّ‬
‫وتجنب الحشو‪ ،‬وتناسب القسمين وأن‬
‫ّ‬ ‫وصحة السبك‪ ،‬ووضوح المعنى ورقّة التشبيب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اللّفظ‬
‫‪3‬‬
‫المتفرعة عنه قائال‬
‫ّ‬ ‫االستهالل‬ ‫اعة‬‫ر‬‫لب‬ ‫ه‬
‫ر‬ ‫ذك‬ ‫بعد‬ ‫يردف‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ال يكون البيت متعلّقا بما بعده "‬
‫النظم أن يكون المطلع داالّ على ما بنيت القصيدة عليه من غرض ال ّشاعر"‪.4‬‬
‫"وشرطه في ّ‬

‫والى هذا ذهب ابن حجة الحموي ( ت‪750 .‬هـ ) بقوله ‪ ":‬اعلم ّأنه اتّفق علماء البديع‬
‫أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهاللها‪ ،‬وأن ال يتجافى‬‫على ّ‬
‫السماع‪ ،‬وطَ ْرق‬
‫الرقّة‪ ،‬وأن يكون التشبيب بنسيبها مرقصا عند ّ‬‫بجنوب األلفاظ عن مضاجع ّ‬
‫الح ْزن‪ ،‬ومطلعها مع اجتناب الحشو‪ ،‬ليس له تعلّق‬
‫بالسالمة من تج ّشم َ‬
‫السهولة متكفّال لها ّ‬
‫ّ‬
‫األول أجنبيا من‬
‫الناظم في تناسب قسميه بحيث ال يكون شطره ّ‬ ‫بما بعده‪ ،‬وشرطوا أن يجتهد ّ‬
‫شطره الثاني "‪.5‬‬

‫أن البديعيين لم يتركوا جانبا‬


‫الحلي ‪ -‬يرى ّ‬
‫ّ‬ ‫المتأمل في مقولة ابن حجة ‪ -‬ومثلها مقولة‬
‫و ّ‬
‫فنّية‪ ،‬يستوي‬
‫من جوانب المطلع إالّ أحاطوه بجملة خصائص وشروط‪ ،‬غدت فيما بعد تقاليد ّ‬
‫العالقي أو الترابطي‪.‬‬
‫في ذلك جانبه اللّفظي وجانبه المعنوي‪ ،‬والجانب َ‬

‫‪ 1‬ابن األثري‪ :‬املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.95.‬‬
‫‪ 2‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األديب عند العرب‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪9191 ،7.‬م‪ ،‬ص‪.715.‬‬
‫‪ 3‬صفي الدين احللي‪ :‬شرح الكافية البديعية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.75 .‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫احلموي‪ :‬خزانة األدب وغاية األرب‪ ،‬دار ومكتبة اهلالل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪9119 ،9.‬م‪ ،‬ص‪.91.‬‬
‫ابن حجة َ‬
‫‪106‬‬
‫أن غالب‬
‫خاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫السالسة‪،‬‬
‫الرقّة و ّ‬
‫فأما الجانب اللّفظي فيظهر في سهولة اللّفظ و ّ‬‫ّ‬
‫الطللية الغز ّلية‪ ،‬إلى جانب سالمة السبك وهو‬
‫ّ‬ ‫المقدمة‬
‫ّ‬ ‫المطالع القديمة كانت على رأس‬
‫غوية من التنافر والتداخل بين‬
‫الصياغة اللّ ّ‬
‫ّ‬ ‫التركيبية من األلفاظ‪ ،‬ويعني خلو‬
‫ّ‬ ‫احية‬
‫الن ّ‬
‫ّ‬
‫أما الجانب المعنوي فيتمثّل في وضوح المعنى بالبعد عن الغموض وااللتواء‬
‫عناصرها‪ .‬و ّ‬
‫قسمي المطلع بأن يكون العجز منتميا‬
‫ْ‬ ‫توخاة‪ ،‬وتناسب‬ ‫وتجنب الحشو الناشز عن المعاني الم ّ‬
‫ّ‬
‫إلى حقل داللي مالئم للصدر‪ ،‬واال جاء أجنبيا مبتو ار عنه‪.‬‬

‫الجمالية بينهما‪ ،‬بحيث‬


‫ّ‬ ‫توزع القيمة‬
‫كما يجب أن يراعي الشاعر توازن المصراعين في ّ‬
‫النسق التوزيعي‪ ،‬تحت ّل بموجبه القيم ال ّشعرّية مكانها من‬
‫همه إلى نوع من ّ‬
‫يصرف ال ّشاعر ّ‬
‫فني‬
‫المطلع كلّه بشطريه‪ ،‬فال مجال للمركزّية الشطرّية التي ال تفسر إالّ على ّأنها خلل ّ‬
‫يذهب بنصف الطاقة ال ّشعرّية للمطلع‪.‬‬

‫الدين بن أبي اإلصبع لمطلع معلّقة امرئ القيس‬


‫لذلك حكى ابن حجة انتقاص زكي ّ‬
‫على شهرته وهو‪:‬‬

‫ب َس ْقط الل َوى َب ْي َن الدخول فَ َح ْومل‬ ‫قفَا َن ْبك م ْن ذ ْكرى َحب ٍ‬


‫يب َو َم ْنزل‬ ‫َ‬
‫النابغة الذبياني من ناحية تناسب القسمين في قوله‪:‬‬
‫بائية ّ‬
‫مفضال عليه ّ‬

‫َولَْي ٍل أقَاسيه َبطيئ ال َك َواكب‬ ‫كليني لهَ ٍّم َيا أ َم ْي َم َة َناصب‬

‫تقدمه وكثرة معانيه متفاوت‬


‫فبيت امرئ القيس كما يقول ابن أبي اإلصبع‪ ..." :‬على ّ‬
‫السبك‪ ،‬وكثرة المعاني‪ ،‬وليس‬
‫ألن صدر البيت جمع بين عذوبة اللّفظ‪ ،‬وسهولة ّ‬ ‫القسمين ًّ‬
‫جدا‪ّ ،‬‬
‫النابغة أفضل‪ ،‬من جهة مالئمة‬
‫في الشطر الثاني شيء من ذلك‪ ،‬وعلى هذا التّقدير مطلع ّ‬
‫ألفاظه‪ ،‬وتناسب قسميه‪ ،‬وان كان مطلع امرئ القيس أكثر معان "‪.1‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.90.‬‬

‫‪107‬‬
‫وهو ما جعله يذهب إلى أن سبب ال ّشهرة التي حظي بها مطلع امرئ القيس ّإنما هو‬
‫صدره الذي وقف فيه واستوقف‪ ،‬وبكى واستبكى‪ ،‬وذكر الحبيب والمنزل‪ ،‬في حين لم يكن‬
‫لعجزه تلك الغ ازرة والكثافة‪.‬‬

‫العالقية‪ ،‬فالمقصود بها داللته على ما بنيت القصيدة عليه من‬


‫ّ‬ ‫أما صفة المطلع‬‫وّ‬
‫السابق‪ ،‬فيجب أن يكون‬
‫الدين الحلّي في كالمه ّ‬
‫عبر عن ذلك صفي ّ‬ ‫غرض ال ّشاعر‪ ،‬كما ّ‬
‫تتضمنه القصيدة‪ ،‬وهو ما نعثر عليه كذلك في عبارة‬
‫ّ‬ ‫في المطلع ما يد ّل على الغرض الذي‬
‫تمهيدية‪ ،‬والتمهيد يكون " بذكر ما‬
‫ّ‬ ‫أن للمطلع وظيفة‬
‫البن طباطبا ( ت‪566 .‬هـ )‪ ،‬فهو يرى ّ‬
‫‪1‬‬
‫توسط العبارة عنه "‪.‬‬‫السامع له أي معنى يساق القول فيه‪ ،‬قبل استتمامه‪ ،‬وقبل ّ‬ ‫يعلم ّ‬
‫الخفي الذي هو أبلغ من التصريح‪ ،‬وهذا الحكم‬
‫ّ‬ ‫ويفضل أن يكون ذلك على سبيل التعريض‬
‫ّإنما استقاه من أكثر مطالع القصائد العر ّبية القديمة التي اتّخذت طابع الداللة اإليحائية أو‬
‫اإلشارّية على الغرض الذي يرمي إليه ال ّشاعر‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫تمام الطّائي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أبي‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫قو‬ ‫لذلك‬ ‫ا‬ ‫شاهد‬
‫ً‬ ‫الدين الحلي‬
‫ويسوق صفي ّ‬
‫‪3‬‬
‫‪...............................‬‬ ‫اء م َن الكتب‬
‫َص َدق إ ْنَب ً‬
‫الس ْيف أ ْ‬

‫الطيب في‬
‫فهو مطلع يشير إلى بناء القصيدة على الفتح والتحريض على الحرب‪ ،‬وقو َل أبي ّ‬
‫مدح أبي شجاع المعروف بالمجنون‪ ،‬واالعتذار إليه بسبب العجز عن مكافأته بمثل معروفه‪:‬‬

‫‪.4............................‬‬ ‫ال َمال‬


‫ك ت ْهديهَا َو َ‬
‫الَ َخْي َل ع ْن َد َ‬

‫اللية المشروطة في المطلع ‪ -‬ولو على سبيل اإليحاء واإلشارة ‪-‬‬‫الد ّ‬


‫إن هذه الميزة ّ‬
‫ّ‬
‫بأن المطلع لم يكن كما يعتقد البعض‪ ،‬مبتو ار عن بناء القصيدة القديمة‬
‫تحملنا على االقتناع ّ‬
‫إيحائية بسائر أبياتها‪ ،‬وهذا األمر يتّصل بما سبقت‬
‫ّ‬ ‫داللية‬
‫العام‪ ،‬بل هو في عالقة ّ‬
‫وسياقها ّ‬
‫عموما من‬
‫ً‬ ‫اإلشارة إليه من وجاهة القول بوجود نوع من الوحدة بين البيت الشعري وما يليه‬

‫‪ 1‬ابن طباطبا‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.91.‬‬


‫‪ 2‬صفي الدين احللي‪ :‬خزانة األدب وغاية األرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.79.‬‬
‫‪ 3‬عجزه‪ :‬يف حده احلد بني اجلِد واللعب‪.‬‬
‫فليسعد النطق إن مل ِ‬
‫تسعد احلال‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ 4‬عجزه‪:‬‬

‫‪108‬‬
‫مؤسسة على الجانب الفكري المنطقي‪ ،‬وهذا يعود‬ ‫أبيات القصيدة‪ ،‬وحدة ليس لزاما أن تكون ّ‬
‫بنا إلى المقاربة السيمولوجية في اهتمامها بالعنوان الذي يقوم المطلع مقامه في اعتباره داالًّ‬
‫مدلوله القصيدة‪.‬‬

‫كما أن في المقومات الفنية السابقة المشروطة للمطلع‪ ،‬قيما نصية الفتة تستجيب‬
‫لبعض أطروحات لسانيات النص في العصور المتأخرة‪ .‬فلقد نادت لسانيات النص‬
‫بـ"االتساق" الذي يوفر للنص او الخطاب تماسكه وترابطه‪ .‬واالعتماد في ذلك على الجانب‬
‫اللفظي أو الوسائل اللغوية‪ ،1‬حيث تتوفر الحروف واألدوات التي من شأنها شد خيوط البنية‬
‫النصية بعضها إلى بعض‪ .‬ودعت إلى "االنسجام" الذي هو " الخطاب غير المتاقض في‬
‫ذاته أو بواسطة غيره (المتلقي)‪ ،‬بذلك يكون الخطاب المنسجم هو الخطاب الحامل لمعنى‬
‫من جهة‪ ،‬وغير المتناقض من جهة أخرى ‪ .2" ...‬واالنسجام في غالب األحيان هو حظ‬
‫المتلقي من النص الذي يجب أن يسبر أغواره‪ ،‬وبغوص في عالقاته الخفية‪ 3‬بحثا عن‬
‫مكامن التالقي والتالحم بين عناصره‪.‬‬

‫الداللية‬
‫ّ‬ ‫المعنوية في المطلع‪ ،‬مع وظيفته‬
‫ّ‬ ‫فظية و‬
‫أن تلك القيم اللّ ّ‬
‫وال يغيب عن األذهان ّ‬
‫أن المطلع إذا استجمع القيم ال ّشعرّية‬‫تجتمع لتحقيق عنصر آخر مهم يتّصل بالتلقّي‪ ،‬ذلك ّ‬
‫المرجو‪ .‬وهنا تظهر الوظيفة‬
‫ّ‬ ‫السابقة حظي باستحسان المتلقّي‪ ،‬ووجد عنده االستقبال‬
‫السامع بغير ما‬
‫اإليحائية للمطلع‪ ،‬إذ يجب أن ال يتنافى مع الغرض المقصود‪ ،‬أو يوحي إلى ّ‬
‫أراد ال ّشاعر‪ ،‬لذلك عيب على جرير قوله في مطلع قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان‪:‬‬

‫ك بالرَواح‬
‫ص ْحـب َ‬
‫َعشيةَ َهم َ‬ ‫صاح‬
‫ك َغ ْير َ‬
‫صحو أ َْم ف َؤاد َ‬
‫أَتَ ْ‬
‫‪4‬‬
‫الرمة‬
‫ّ‬ ‫ذي‬ ‫على‬ ‫رد‬
‫ّ‬ ‫كما‬ ‫‪،‬‬ ‫فغضب عبد الملك بن مروان وصاح به‪ ":‬بل فؤادك يا بن الفاعلة "‬
‫قوله في أحد مطالعه‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫محمد خطابي‪ :‬لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.3 .‬‬
‫‪2‬‬
‫جمال بندحمان‪ :‬األنساق الذهنية في الخطاب الشعري التشعب واالنسجام‪ ،‬دار رؤية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪6711 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.11 .‬‬
‫‪3‬‬
‫محمد خطابي‪ :‬لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.2.‬‬
‫‪ 4‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.919.‬‬

‫‪109‬‬
‫َكأَنه م ْـن كلًى َم ْفري ٍة َس َرب‬ ‫ك م ْنهَا الد ْمع َي ْن َسكب‬
‫َما َبال َع ْين َ‬

‫وكان عبد الملك ال يمسك دمعه لعلّة في عينيه فقال له‪ " :‬وما سؤالك عن هذا يا جاهل؟"‪.1‬‬

‫ولكنهما جريا على عادة العرب في‬


‫أن ال ّشاعرين لم يقصدا اإلساءة إلى الخليفة‪ّ ،‬‬
‫واضح ّ‬
‫كأنه يريد بذلك تأديبهما‬
‫النفس بطريق التّجريد‪ ،‬لكن عبد الملك أخذهما بظاهر اللّفظ ّ‬
‫خطاب ّ‬
‫اجه به‬
‫وتوجيههما إلى اللّباقة في التّعبير‪ ،‬خصوصا في المطلع الذي هو ّأول ما يو َ‬
‫عر إلى االحتراز من تلك المزالق‪ ،‬السيما في المطالع‬
‫المخاطَب‪ ،‬لذلك دعا ابن طباطبا الشا َ‬
‫التي هي مفاتيح الكالم يقول ‪ ":‬و ينبغي للشاعر االحتراز في أشعاره ومفتتح أقواله مما‬
‫يتطير به أو يستجفى من الكالم والمخاطبات كذكر البكاء‪ ،‬ووصف إقفار الديار وتشتت‬
‫ضمن المدائح أو التهاني‪،‬‬
‫األالّف‪ ،‬ونعي الشباب‪ ،‬وذم الزمان‪ ،‬السيما في القصائد التي ت ّ‬
‫ويستعمل هذه المعاني في المراثي‪ ،‬ووصف الخطوب الحادثة‪ ،‬فإن الكالم إذا كان مؤسسا‬
‫على هذا المثال تطير منه سامعه‪ ،‬و إن كان يعلم أن الشاعر إنما يخاطب نفسه دون‬
‫الممدوح‪.2"...‬‬

‫إن إباحة الفصل بين فنون القول التي تناسب المراثي والخطوب‪ ،‬دون المدائح والتهاني‬
‫خصوصا في االبتداءات‪ ،‬دعوة صريحة إلى ربط المطلع والمقدمة عموما بالبنية الغرضية‬
‫لسائر القصيدة‪.‬‬

‫بل إن ابن طباطبا ليذهب بعيدا في دعوته هذه‪ ،‬حين ينصح لل ّشاعر بتكييف األسلوب‬
‫يتأدى نقيضه إلى الفهم‪ ،‬مقترحا عليه وسائل إجرائية‪،‬‬
‫إذا أراد التعبير عن معنى يمكن أن ّ‬
‫مر له [ أي ال ّشاعر ] معنى‬ ‫تتناول األداة النحوية المساعدة له على ذلك ‪ ،‬يقول ‪ ":‬إذا ّ‬
‫يستبشع اللّفظ به‪ ،‬لطف في الكناية عنه‪ ،‬وأج ّل المخاطَب عن استقباله بما يتك ّـرهه منه‪،‬‬
‫ظ عن كـاف الخطاب إلى ياء اإلضافة إلى نفسه‪ ،‬إن لم ينـكر ال ّشعر‪ ،‬أو احتال‬
‫وعدل اللَف َ‬
‫َ‬
‫مما ذممناه‪ ،‬ويوقف به على أرب نفسه ولطف فهمه ‪.3" ...‬‬‫في ذلك بما يحترز به ّ‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.919.‬‬
‫‪ 2‬عيار ابن طباطبا‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.901 .‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ص‪.905.‬‬

‫‪110‬‬
‫وقد جمع حازم القرطاجني شروط المطلع اللفظية والمعنوية في قوله ‪ ":‬ومحاشاة مطالع‬
‫األبيات من كل ما يكره من جهتي المسموعات والمفهومات مستحبة ألنها أول ما يقرع‬
‫السمع‪ .‬فهي رائد ما بعدها إلى القلب‪ .‬فإذا قبلتها النفس تحركت لقبول ما بعدها‪ ،‬وان لم‬
‫تقبلها كانت خليقة أن تنقبض عما بعدها‪ .‬وعلى نحو ما يشترط فيها من جهة المسموع‬
‫يشترط فيها من جهة المفهوم‪.1‬‬

‫وهو الشرط الذي أوجبه تارة أخرى‪ ،‬مؤكدا ما سبق من وجوب داللة المطلع على‬
‫الغرض الرئيسي بقوله ‪ ":‬ويجب أن تكون المبادئ جزلة‪ ،‬حسنة المسموع والمفهوم‪ ،‬دالة على‬
‫غرض الكالم‪ ،‬وجيزة‪ ،‬تامة "‪.2‬‬

‫ومن هنا فإن ارتباط القصيدة بمطلعها هو ارتباط حيوي‪ ،‬إذ " يتعلق مصير القصيدة‬
‫بمطلعها‪ ،‬فبقدر ما يكون المطلع ناجحا فنيا‪ ،‬تكون القصيدة ناجحة ‪ ،3"...‬وان األمر لكذلك‬
‫حين نعلم أن المطلع بهذه السلطة‪ ،‬يتنزل من نفس القارئ وحساسية القراءة منزلة القاطرة‬
‫التي تقوده في وهاد القصيدة وقممها‪ ،‬بل أكثر من ذلك " بحيث يستطيع المطلع أن يوجه‬
‫القصيدة‪ ،‬بل حتى الحالة النفسية للشاعر " النص والنفس معا"‪.4‬‬

‫جحة الحموي بفضيلة الشعراء المولّدين‪ ،‬وتفوقهم في تجويد المطالع‪،‬‬


‫نوه ابن ّ‬‫وقد ّ‬
‫أقر بحاجته إلى مدونة أشعارهم لالستشهاد له منها‪ ،‬وكأنما أحس بحاجته‬
‫وحسن االبتداء‪ ،‬و ّ‬
‫أيضا إلى تبرير ذلك‪ ،‬فصرح بأن" ‪ ...‬االستشهاد بكالم المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس‬
‫فيه نقص "‪.5‬‬

‫يبين أن صالحية شعر المولدين ألن يكون مرجعية استشهاد‪ ،‬إنما هي في‬ ‫غير أنه ّ‬
‫يعدها ستة‪،‬‬
‫علوم البالغة الثالثة‪ :‬المعاني‪ ،‬والبيان‪ ،‬والبديع‪ ،‬من بين سائر علوم األدب التي ّ‬
‫" وذلك أنك إذا نظرت في الكالم العربي‪ ،‬إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ‪،‬‬

‫‪ 1‬حازم القرطاجين‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.991.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.507 .‬‬
‫‪ 3‬عبد اهلل العشي‪ :‬أسئلة الشعرية‪ ،‬حبث يف آلية اإلبداع الشعري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.91.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 5‬ابن حجة احلموي‪ :‬خزانة األدب وغاية األرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.95.‬‬

‫‪111‬‬
‫وهو علم اللغة‪ ،‬واما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه‪ ،‬وهو علم التصريف‪ ،‬واما‬
‫أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكالم المركب بحسب اختالف أواخر الكلم‪ ،‬وهو علم‬
‫العربية‪ ،‬واما أن تبحث عن مطابقة الكالم لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي‪ ،‬وهو علم‬
‫وخفاء بحسب الداللة العقلية‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫المعاني‪ ،‬واما أن تبحث عن طرق داللة الكالم إيضاحا‬
‫علم البيان‪ ،‬واما أن تبحث عن وجوه تحسين الكالم‪ ،‬وهو علم البديع " ‪.1‬‬

‫ثم يوزع تلك العلوم على مرجعياتها في االستشهاد فيقول ‪ ":‬فالعلوم الثالثة األ َول‪،‬‬
‫المعتبر فيها ضبط ألفاظهم‪ ،‬والعلوم الثالثة‬
‫َ‬ ‫يستشهد عليها بكالم العرب‪ ،‬نظما ونثرا‪ ،‬ألن‬
‫األخيرة يستشهد عليها بكالم العرب وغيرهم‪ ،‬ألنها راجعة إلى المعاني‪ ،‬وال فرق في ذلك بين‬
‫‪2‬‬
‫جني في إجازة‬
‫العرب وغيرهم‪ ،‬إذا كان الرجوع إلى العقل" ‪ .‬ويقوي موقفه بمذهب ابن ّ‬
‫االستشهاد بالمولدين في المعاني‪ ،‬كما يستشهد بالقدماء في األلفاظ‪.‬‬

‫جني يرى أن " المعاني يتناهبها المولدون كما يتناهبها المتقدمون"‪.3‬‬


‫ومعلوم أن ابن ّ‬
‫وقد دافع عن استشهاده بكالم المتنبي في كتابه (المحتسب) بحماس فقال ‪ ":‬وال تقل ما يقوله‬
‫َمن ضعفت نحيزته‪ ،‬ورّكت طريقته‪ :‬هذا شاعر محدث‪ ،‬وباألمس كان معنا‪ ،‬فكيف يجوز أن‬
‫يحتج به في كتاب اهلل (عز وجل)؟ فإن المعاني ال يرفعها تقدم‪ ،‬وال يزري بها تأخر ‪.4" ...‬‬

‫كل تلك القيم الفنية التي استخلصها البالغيون من استقراء مطالع النوابغ والنابهين من‬
‫الشعراء‪ ،‬تتلخص في كونها توازنا يدخل في صميم الصناعة الشعرية‪ .‬وبتتبع كالم البلغاء‬
‫والنقاد يفهم أن التوازن تقنية يطالب بها الشاعر في مستويات مختلفة من القصيدة‪ ،‬منها‬
‫جزي البيت أي صدره وعجزه‪ ،‬ويكون‬
‫مستوى البيت الواحد‪ ،‬وعندئذ يكون التوازن مطلوبا بين أ‬
‫الحديث في ذلك موجها‪ -‬أول ما يوجه‪ -‬إلى المطلع‪ ،‬أما ما هي قيم هذا التناسب وما‬
‫مقاييسه؟‪ ،‬فإضافة إلى التصريع‪ ،5‬وهو بعد موسيقي‪ ،‬يأتي مقياس المعنى‪ ،‬وهو بعد داللي‪.‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬ابن جين‪ :‬اخلصائص‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد علي النجار‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪9001 ،9.‬م‪ ،‬ص‪.19.‬‬
‫‪ 4‬ابن جين‪ :‬احملتسب يف تبيني وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها‪ ،‬حتقيق‪ :‬علي النجدي ناصف وآخرين‪ ،‬القاهرة‪9001 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.959.‬‬
‫‪ 5‬موضع التوسع يف التصريع هو اجلزء املخصص للموسيقى اخلارجية‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫كم ّي‪ ،‬يتصل بكثافة المعاني التي‬
‫والزوايا التي ينظر منها إلى المعنى منها ما هو ّ‬
‫يجب أن تتوزع بعدل على مصراعي المطلع‪ ،‬كما مر في نقد ابن أبي اإلصبع لمطلع معلقة‬
‫امرئ القيس‪ ،‬ومنها ما هو نوعي أو غرضي‪ ،‬يتعلق بالدالالت أو األغراض التي تنتمي إليها‬
‫المعاني من غزل ورثاء وغير ذلك‪.‬‬

‫غير أنه من الممكن أن يطالَب الشاعر بهذا التناسب النوعي أو الغرضي في سائر‬
‫أبيات القصيدة‪ .‬من ذلك ما يروى عن مراجعة سيف الدولة لشاعره أبي الطيب المتنبي في‬
‫بيتين من ميميته الشهيرة في وصف معركة الحدث‪ ،‬هما قوله ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫وهو نائم‬
‫َكأَن َك في َج ْفن الردى ْ‬ ‫ت وما في الموت َشك لو ٍ‬
‫اقف‬ ‫َْ‬ ‫َوقَ ْف َ َ‬
‫ك َباسـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫ووجه َك وضاح وثغر َ‬ ‫بك األبطال َك ْل َمى هزيمـ ـ ـ ـ ـةً‬
‫تَمر َ‬

‫فقد روى الواحدي أن سيف الدولة أنكر عليه تطبيق عجزي البيتين على صدريهما وقال له‪:‬‬
‫كان ينبغي أن تقول‪:‬‬

‫ووجهك وضاح وثغرك باسـم‬ ‫وقفت وما في الموت شك لواقف‬

‫كأنك في جفن الردى وهو نائم‬ ‫تمر بك األبطال كلمى هزيم ـة‬

‫قال ‪ :‬وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله‪:‬‬


‫‪2‬‬
‫ذات َخ ْل َخال‬
‫ولم أَتََبط ْن َكاعًبا َ‬ ‫أركب جوادا لل ـ ّذ ٍة‬
‫ْ‬ ‫كأن َي لم‬
‫ّ‬

‫يلي كري َكرةً َب ْع َد إ ْجفَـال‬


‫ل َخ َ‬ ‫ولم أَق ْل‬
‫َولَ ْم أَ ْسَبإ الزق الروي ْ‬

‫‪1‬‬
‫أبو الطيب المتنبي‪ :‬الديوان بشرح العكبري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،5.‬ص‪.570-572 .‬‬
‫‪2‬‬
‫امرؤ القيس بن حجر‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.145 .‬‬

‫‪113‬‬
‫قال‪ :‬ووجه الكالم في البيتين ‪ -‬على ما قاله العلماء بالشعر‪ -‬أن يكون عجز البيت‬
‫األول مع الثاني وعجز الثاني مع األول ليستقيم الكالم فيكون ركوب الخيل مع األمر للخيل‬
‫بالكر‪ ،‬ويكون سباء الخمر مع تبطن الكاعب‪.‬‬

‫فقال أبو الطيب‪ :‬أدام اهلل عز موالنا سيف الدولة‪ ،‬إن صح أن الذي استدرك على‬
‫امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا‪ ،‬وموالنا يعرف أن‬
‫الب ّزاز معرفةَ الحائك ألن البزاز يعرف جملته‪ ،‬والحائك يعرف جملته‬
‫الثوب ال يعرفه َ‬
‫الغزلية إلى الثوبية‪ ،‬وانما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلدة الركوب‬
‫وتفصيله‪ ،‬ألنه أخرجه من ْ‬
‫للصيد‪ ،‬وقرن السماحة في شراء الخمر لألضياف بالشجاعة في منازلة األعداء‪ ،‬وأنا لما‬
‫ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى لتجانسه‪ ،‬ولما كان وجه المنهزم ال يخلو من‬
‫أن يكون َعبوسا‪ ،‬وعينه من أن تكون باكية قلت‪ :‬ووجهك وضاح وثغرك باسم‪ ،‬ألجمع بين‬
‫األضداد في المعنى‪ .‬فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينا ار من دنانير الصالت‪،‬‬
‫وفيها خمسمائة دينار"‪.1‬‬

‫مصوبا ما ذهب إليه المتنبي في بناء بيتيه فيقول ‪ ":‬وال تطبيق بين‬
‫ّ‬ ‫ويعلق الواحدي‬
‫الصدر والعجز أحسن من بيتي المتنبي ألن قوله‪ :‬كأنك في جفن الردى وهو نائم‪ ،‬هو معنى‬
‫قوله‪ :‬وقفت وما في الموت شك لواقف‪ ،‬فال َم ْعدل لهذا العجز عن هذا الصدر ألن النائم إذا‬
‫أطبق جفنه أحاط بما تحته‪ ،‬وكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق الجفن بما‬
‫يتضم نه من جميع جهاته‪ ،‬وجعله نائما لسالمته من الهالك ألنه لم يبصره‪ ،‬وغفل عنه بالنوم‬
‫ولم يهلك "‪.2‬‬

‫فالمالحظ أن سيف الدولة عاب على شاعره عدم التناسب في التركيب بين الصدر‬
‫وعجزه في البيتين السابقين‪ ،‬أو ما يمكن أن نصطلح على تسميته بتطبيق عجزي البيتين‬
‫على صدريهما‪ ،‬كما فعل ذلك راوي الخبر‪.‬‬

‫‪ 1‬الواحدي‪ :‬شرح ديوان املتنيب‪ ،‬دار األصالة‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪ ،9001 ،9.‬ص‪.770 – 711.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.770.‬‬

‫‪114‬‬
‫والى جانب ما يحمله هذا الخبر من قيمة مصطلحية تتعلق بالتناسب‪ ،‬يؤكد تحول النقد‬
‫في العصر العباسي إلى صناعة كسائر الصناعات‪ ،‬مالحقا بذلك الشعر نفسه‪ .‬وذلك واضح‬
‫تصنع بمصطلح‬
‫ّ‬ ‫في االستعارات التي استخدمها المتنبي مثل ( البزاز‪ ،‬الحائك)‪ ،‬بل إلى‬
‫الدكتور شوقي ضيف‪ ،‬الذي سلك المتنبي مع شعرائه‪.1‬‬

‫يضاف إلى ذلك اكتساب الشاعر العباسي شخصيته النقدية التي تميزه عن الشعراء‬
‫السابقين‪ ،‬فالمتنبي – مع حسن اعتذاره وتخلصه من الحرج – لم يقبل اعتراض سيف الدولة‬
‫على قوله‪ ،‬مع كونه أمي ار صاحب سلطان‪ .‬فلم يغير موقع العجزين من الصدرين‪ ،‬بل دافع‬
‫عن فنه وفن امرئ القيس‪ ،‬كاشفا عن مكمن التناسب بين كل بيت وعجزه‪ ،‬بخالف مواقف‬
‫بعض الشعراء من العصور السابقة‪ ،‬كالفرزدق مثال الذي أذعن لنقد عبد اهلل بن أبي إسحاق‬
‫حين تعقبه في جره لفظ ( رير ) في قوله ‪:‬‬

‫احف تزجى مخها رير‬


‫على زو َ‬ ‫على َعمائمنا يلقى وأ َْرحلنا‬

‫فصيرها( على زواحف نزجيها محاسير)‪ ،2‬مع ما عرف به الفرزدق من قوة عارضة ومضاء‬ ‫ّ‬
‫شكيمة‪ ،‬وقبله النابغة الذبياني الذي احتيل لتنبيهه إلى اإلقواء في قوله‪:‬‬

‫ك َخب َرَنا الغداف األَ ْس َود‬


‫َوبذا َ‬ ‫الب َوارح أَن ر ْحلَتََنا َغ ًدا‬
‫َزَع َم َ‬

‫خبرنا ) ( تَْنعاب ) وأضافه إلى ما بعده ليجره فيخرج من اإلقواء‪ ،3‬وهو الشاعر‬
‫فاستبدل بـ( ّ‬
‫المهيب المح ّكم بين الشعراء‪.‬‬

‫كل أولئك يؤكد تحول الشاعر العباسي – في كثير من األحيان – إلى فنان قوي‬
‫الشخصية شديد المراس‪ ،‬صاحب موقف فني ينافح عنه ويبرره وال يتنازل عنه بسهولة للنقاد‪.‬‬

‫‪ 1‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.505 .‬‬
‫‪ 2‬عبد القادر بن عمر البغدادي‪ :‬خزانة األدب ولب لباب لسان العرب‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد السالم حممد هارون‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪9115 ،1.‬م‪،‬‬
‫ج‪ ،9.‬ص‪.959.‬‬
‫‪ 3‬حممد بن عمران املرزباين‪ :‬املوشح يف مآخذ العلماء على الشعراء‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد حسني مشس الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪9117 ،9.‬م‪،‬‬
‫ص‪.79 .‬‬

‫‪115‬‬
‫وقد مر بنا نظير هذا مع بشار بن برد وبعض نقاد شعره‪ .1‬وكذلك البحتري الذي تصدى‬
‫قلوبهم بدعة المنطق في العصر العباسي‪ ،‬فحاولوا ( َمنطَقة ) الصناعة‬
‫للنقاد الذين شغفت َ‬
‫الشعرية بحق أحيانا‪ ،‬وبغير حق في أحيان أكثر‪ ،‬فرد على مماحكاتهم بتبرم قائال‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫في الش ْعر ي ْل َغى َع ْن ص ْدقه َكذب ْه‬ ‫ود َم ْنطقك ـ ْـم‬
‫ونا حد َ‬
‫َكل ْفتم َ‬

‫الفنية‬
‫النكير على إخالل ال ّشاعر بشروطه ّ‬ ‫واذاً كانت عناية القدماء بالمطلع فائقة‪ ،‬و ّ‬
‫لتأنق‬
‫شديدا‪ ،‬ال يشفع له معه تجويده لسائر أجزاء القصيدة وأبياتها‪ ،‬مهما بلغت درجتها من ا ّ‬
‫واالجتهاد‪.‬‬

‫أما الدرس النقدي الحديث‪ ،‬فقد تنبه ونبه إلى خطر االستهالل عموما‪ ،‬ومحله من‬
‫عملية تلقي النص‪ ،‬انطالقا من قناعة مؤداها أنه " في عموم التجربة النقدية مع أي نص‬
‫إبداعي‪ ،‬ال يمكن الوقوف كليا على خصائص العمل الفني وقيمه إال من خالل المعرفة‬
‫المفتاح‬
‫َ‬ ‫الدقيقة ألجزاء ذلك العمل وعناصره‪ ،‬واالستهالل من أهم هذه العناصر إن لم يكن‬
‫لها كلها "‪.3‬‬

‫وهو أمر ال يجد علته في كون االستهالل أول ما يواجهه المتلقي فحسب‪ ،‬كما هي‬
‫العبارة الغالبة على تعليل النقاد والبالغيين القدماء‪ ،‬أو بعبارة أخرى " ال باعتباره بدء الكالم‪،‬‬
‫كما يقول عنه أرسطو أو ألنه " ما من شيء يحدث فيما بعد في النص إال وله نواة في‬
‫االستهالل " كما يقال عنه‪ .‬وانما هو هذا كله‪ ،‬مضافا إليه أنه العنصر األكثر خطورة‪ ،‬فهو‬
‫أشبه ما يكون ( النواة المخصبة )‪ ،‬وتلك التي ستتحول خالل العملية اإلبداعية إلى جنين‬
‫ومن ثَم إلى كيان كامل له رأس و ٍ‬
‫أيد وقوام وأحشاء‪ ،‬واذا ما احتوت هذه النواة المخصبة على‬ ‫ّ‬
‫تشويه ما انعكس ذلك جليا في تفاصيل كيانها الالحقة‪ ،‬والزمها التشويه حتى والدتها‬
‫الجديدة"‪.4‬‬

‫‪ 1‬انظر الصفحة ‪97-91 :‬من هذه الدراسة‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫البحتري‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪6773 ،6.‬م‪ ،‬ج‪ ، 1.‬ص‪.654 .‬‬
‫‪ 3‬ياسني نصري‪ :‬االستهالل فن البدايات يف النص األديب‪ ،‬دار نينوى‪ ،‬دمشق‪9001 ،‬م‪ ،‬ص‪.95-99.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬ص‪.95.‬‬

‫‪116‬‬
‫ويجمع الدكتور أحمد سعد محمد بين المبدع والمتلقي كليهما‪ ،‬في بيان أهمية المطلع‬
‫في عبارة له يقول فيها ‪ ":‬إن مطالع الكالم كانت وما تزال مثار معاناة للمبدع‪ ،‬ومثار نظر‬
‫للمتلقين فهي للمبدع بمثابة الرحم الذي تتوالد فيه معاني النص‪ ،‬ومحاولة الوصول إليها تشبه‬
‫لحظة المخاض بكل ما تحمله هذه اللحظة من قلق وتوتر‪ ،‬يعانيه المبدع حتى يصل عمله‬
‫األدبي إلى لحظة الميالد‪ .‬ومطالع الكالم من جهة أخرى أول ما يصل إلى أذن السامع‪،‬‬
‫وتقع عليه عين القارئ‪ ،‬إذ إنها بمثابة المفتاح الذي يلج به إلى عوالم النص‪ ،‬فينفتح من‬
‫خاللها على آفاقه الرحبة‪ ،‬ويسهل له سبر أغواره‪ ،‬وفهم مراميه "‪.1‬‬

‫‪ 1‬أمحد سعد حممد‪ :‬نظرية البالغة العربية‪ ،‬دراسة يف األصول املعرفية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.951 .‬‬

‫‪117‬‬
‫المطلع في ضوء الدراسة السميولوجية للعنوان‬
‫الحديث عن االستهالل في النقد الحديث يستدعي الحديث عن إسهام الدرس‬
‫السميولوجي‪ ،‬والمغاليق التي فتحها في هذه المسألة‪ .‬وتحديدا اتجاهه إلى االهتمام بالعنوان‬
‫والتركيز من ثم على أداته المتمثلة في العنونة التي تنتمي " بوصفها اآللية المنتجة للعنوان‬
‫بمستوياته‪ :‬الرئيسي‪ ،‬الفرعي‪ ،‬الثانوي ‪...‬إلى فضاء " النصية المتوازية " ‪Paratextualité‬‬
‫وهذه األخيرة وحدة من جملة وحدات نصية تش ّكل مؤسسة التعالي النصي‬
‫‪ ،Intertextualité‬الماورائية النصية‬ ‫التناصية‬ ‫‪ Transtextualié‬وهي‪:‬‬
‫النصية‬ ‫الجامعية‬ ‫‪،Hypertextualité‬‬ ‫النصية‬ ‫االتساعية‬ ‫‪،Metatextualité‬‬
‫‪.1" ... Architexetualité‬‬

‫ظهر الدرس السميولوجي بوصفه ذلك العلم الذي موضوعه دراسة حياة العالمات في‬
‫المجتمع‪ ،‬حسب تحديد دوسوسور‪ ": ،‬والذي أداه إلى هذا التصور اعتباره اللغة نظاما من‬
‫العالمات قبل كل شيء "‪ ،2‬ليتخذه بعد ذلك الدرس النقدي إجراء منهجيا يتناول به النص‬
‫بوصفه بنية لسانية واشارية منغلقة على ذاتها‪ ،‬ال تحيل إلى شيء خارجها‪ .‬وانما المطلوب‬
‫الوقوف على الداللة بواسطة استنطاق الدال بوصفه إشارة‪ ،‬حتى يبوح بمدلوله بوصفه مشا ار‬
‫إليه ‪ ،‬بحيث يكون المعنى محصو ار في ثنائية الحضور الذي يجسده الدال الماثل في النص‪،‬‬
‫والغياب المتمثل في المدلول الذي يسعى المتلقي إلى الوصول إليه‪.‬‬

‫خلو القصيدة العر ّبية القديمة من العنوان كان أحد األسباب التي جعلت المطلع‬
‫ولع ّل ّ‬
‫الدراسات‬
‫الناقد معا‪ ،‬وهو ما أحلّه مح ّل العنونة في ّ‬
‫يستقطب ج ّل اهتمام المبدع و ّ‬
‫أن السيمولوجيا احتفت بالعنوان الذي رأت فيه مصطلحا إجرائيا حاسما‬ ‫السيمولوجية‪ .‬فمعلوم ّ‬
‫بد منه للولوج إلى مغاليق بنيته المعقّدة‪ ،‬كما ّأنه يتيح‬
‫النص األدبي‪ ،‬ومفتاحا ال ّ‬
‫ّ‬ ‫في مقاربة‬
‫الرمزّية‪ ،‬باعتباره داال مدلوله النص‪،‬‬
‫الداللية و ّ‬
‫ّ‬ ‫ص للوصول إلى سبر أبعاده‬
‫الن ّ‬
‫تفكيك جسد ّ‬
‫وعالمة تهدي إلى مجاهله‪ ،‬و" كون " العنوان " عالمة‪ ،‬يعني تضطلعه [ كذا ] بدور "الدليل"‬
‫دليل القارئ إلى النص سواء على المستوى اإلشاري أو التأويلي ‪ ...‬وفي هذه النقطة تتفاقم‬

‫‪ 1‬خالد حسني حسني‪ :‬يف نظرية العنوان مغامرة تأويلية يف شؤون العتبة النصية‪ ،‬دار التكوين‪ ،‬دمشق‪ ،7002 ،‬ص‪.53.‬‬
‫‪ 2‬عبد السالم املسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.752.‬‬

‫‪119‬‬
‫إستراتيجية العنوان السيميائية في كونه َم ْعلما للنص ُيستدل به عليه‪ ،‬وهو بهذه الوظيفة لم‬
‫طي‬
‫يعد تكملة أو إضافة كما يظن المهووسون [ كذا ] بالقضايا الكبرى‪ ،‬يظل " النص " ّ‬
‫المجهول إلى أن يعلن عنه بالعنوان "‪.1‬‬

‫وليس بعيدا أن يكون النقاد والبالغيون العرب القدماء – وهم يخصون مطالع القصائد‬
‫بكل ذلك االحتفاء‪ ،‬وينزلونه تلك المنزلة – قد تملّكهم اإلحساس بتلك الحاجة التي يلبيها‬
‫العنوان‪ ،‬عند االنصراف إلى محاولة ركوب النص وخوض لُججه‪ ،‬وداعبهم التشوف إلى ما‬
‫ٍ‬
‫بخاف أن " النقاد العرب قد‬ ‫يقوم مقام العنوان‪ ،‬فوجدوا في المطلع البدل والعوض‪ .‬فليس‬
‫فطنوا إلى أن المطلع يقف بإزاء (عنوان القصيدة) الذي شهرت به الكتب والرسائل والقصائد‬
‫في عهود الحقة‪ ،‬فكانوا في معرض التعريف بالشاعر والترجمة له‪ ،‬ال يذكرون القصيدة‬
‫كلها‪ ،‬اكتفاء بداللة المطلع عليها "‪.2‬‬

‫ومع أن حجم العنوان ال يكاد يذكر ‪ -‬عادة – قياسا بحجم بنية النص‪ ،‬إال أنه يتمتع‬
‫بغنى جهازه الوظيفي وتنوعه ‪ ... ":‬وذلك نظ ار للوظائف األساسية (المرجعية واإلفهامية‬
‫والتناصية) التي تربطه بهذا األخير و بالقارئ "‪.3‬‬

‫وال تخفى – مما ما تقدم – أهمية العنوان القرائية لدى المناهج القائمة على نظريات‬
‫القراءة أو االستقبال‪ ،‬وتحديدا إسهامه في رسم أفق االنتظار أو التوقع عند القارئ‪ ،‬والذي‬
‫يعمل على توجيه استقباله للنص وتلقيه‪ ،‬والتفاعل معه‪ ،‬فهو " العالمة اللغوية التي تتقدم‬
‫النص وتعلوه‪ ،‬ويجد القارئ فيها ما يدعوه للقراءة والتأمل‪ ،‬ويطرح من خاللها على نفسه‬
‫أسئلة تتعلق بما هو آت والمبني على ترسبات الماضي‪ ،‬ويصنع لنفسه منها أفقا للتوقع"‪.4‬‬

‫ومن هنا ُنظر إلى العنوان على أنه واحد من آكد ما اصطُلح على تسميته " العتبات‬
‫عرف عادة بأنها " المرفقات النصية المحيطة بالنص التي تُعد مفاتيح إجرائية‬
‫النصية " التي تُ ّ‬

‫‪ 1‬خالد حسني حسني‪ :‬يف نظرية العنوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.53 .‬‬
‫‪ 2‬أمحد سعد حممد‪ :‬نظرية البالغة العربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.721 .‬‬
‫‪ 3‬مجيل محداوي‪ :‬السيميوطيقا والعنونة‪ ،‬عامل الفكر‪ ،‬اجمللد‪ ،73 :‬ع‪ ،5.‬يناير‪ /‬مارس‪7992 ،‬م‪ ،‬ص‪.29 .‬‬
‫‪4‬‬
‫عمان – عامل الكتب احلديث‪ ،‬إربد‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪،7002 ،7.‬‬
‫أمحد مداس‪ :‬لسانيات النص حنو منهج لتحليل اخلطاب الشعري‪ ،‬جدارا للكتاب‪ّ ،‬‬
‫ص‪.10.‬‬

‫‪120‬‬
‫أساسية يستخدمها الباحث الستكشاف أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها‪ ،‬أي‬
‫المتن وتكمله وتتمه"‪.1‬‬
‫َ‬ ‫المداخل التي تتخلل النص‬

‫هذه العتبات هي ما يمكن أن يسمى أيضا " لوازم النص " ‪ ،PARATEXTE‬على‬
‫أساس أن النص " ال يظهر عاريا بل ترافقه دائما مجموعة من اللوازم المساعدة التي تحيطه‪،‬‬
‫القراء‪ .‬فلوازم النص هي ما يجعل النص‬
‫وتعرفه وتسهّل استقباله واستهالكه لدى جمهور ّ‬
‫ّ‬
‫‪2‬‬
‫كتابا بنظر الجمهور" ‪.‬‬

‫والسيما الرواية ‪ -‬أكثر‬ ‫وقد كانت األبحاث الموجهة إلى النصوص السردية –‬
‫الدراسات النقدية إلحاحا على تطلّب هذه التقنية وتعمدها بالدراسة والتحليل‪ ،‬ذلك أن" الرواية‬
‫بوصفها نصا سرديا ينبثق من أفكار عميقة ورؤى خاصة ومواقف فلسفية تتشكل في ظل‬
‫رؤية موضوعية وفنية ذات امتدادات شديدة التنوع واالختالف‪ ،‬يجسدها حرص الروائي على‬
‫إظهارها بالصورة المثلى والتشكيل الفني األمثل‪ ،‬بما تنطوي عليه الصورة الروائية والتشكيل‬
‫الفني من تقانات سردية خاصة وآليات متنوعة تعمل على تشكيلها جماليا [ ‪ ] ...‬ومن‬
‫التقانات التي يحرص الروائي على إبرازها وتفعيل أدواتها عادة هي العتبات النصية ‪.3"...‬‬

‫واذا كان االتفاق على أهمية هذه التقنية المصاحبة للمتن النصي معقودا من حيث‬
‫المبدأ‪ ،‬فإن االعتقاد بضرورة االختالف والتنوع في صياغتها وحجمها قائم من حيث‬
‫التفصيل‪ .‬تبعا لطبيعة النص الذي تحيط به‪ ،‬ولقناعة صاحبه أيضا‪ ،‬فهذه العتبات " تتعدد‬
‫وتتنوع بحسب وعي الكاتب ألهميتها وضرورتها وقوة حضورها وتأثيرها في سياق المتن‬
‫النصي من جهة‪ ،‬وبحسب حاجة المدون الروائي ‪.4" ...‬‬

‫ويفصله‪ ،‬بقوله ‪ ":‬ليست لوازم النص عناصر‬


‫ّ‬ ‫وهو ما يؤكده الدكتور لطيف زيتوني‬
‫ثابتة بل متغيرة بتغير العصر والنوع األدبي وثقافة الكاتب وتطور أساليب النشر‪ .‬فقد كان‬

‫‪ 1‬خليل شكري هياس‪ :‬فاعلية العتبات يف قراءة النص الروائي ( صخرة اجلوالن لعلي عقلة عرسان) أمنوذجا‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪ ،7003‬ص‪.799.‬‬
‫‪ 2‬لطيف زيتوين‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،7007 ،7.‬ص ‪.710-759.‬‬
‫‪ 3‬حممد صابر عبيد‪ ،‬وسوسن البيايت‪ :‬مجاليات التشكيل الروائي‪ ،‬دار احلوار‪ ،‬الالذقية‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪ ،7002 ،7.‬ص‪.52.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫الكتاب في الماضي مخطوطا بسيطا‪ ،‬ثم أحيط بالحواشي والتعليقات‪ ،‬ثم صار كتابا مطبوعا‪،‬‬
‫ثم ظهرت على غالفه وفي داخله عناصر جديدة‪ :‬اسم الكاتب والعنوان والعنوان الفرعي ونوع‬
‫النص واسم دار النشر وعنوانها وتاريخ النشر واإلهداء والمقدمة وعناوين الفصول وفهارس‬
‫الموضوعات واألعالم والمراجع والمالحق إلخ‪.1" ..‬‬

‫والحواشي والتعليقات كان لها قسط وافر في مصنفات التراث العربي واإلسالمي‪ ،‬فكثيرة‬
‫هي الكتب القديمة التي تضخمت مادتها‪ ،‬بفعل تراكم الحواشي والتعليقات والملخصات‪ ،‬حول‬
‫ضمنها إياها مصنفوها‪.‬‬
‫ما اشتملت عليه من مادة أصلية ّ‬
‫فإنه لم يعدم‬
‫واذا كان الباحث السميولوجي قد عدم العنوان في القصيدة العر ّبية القديمة‪ّ ،‬‬
‫تيسر له الولوج إلى عالم القصيدة‪ .‬وقد‬ ‫المطلع المتضمن للكلمات األولى أو المفاتيح التي ّ‬
‫ّنبه جون كوين إلى أن الكلمات األولى في القصيدة‪ ،‬تتكفل لها بما يتكفل به العنوان للمقال‬
‫فـ" إذا كان كل مقال نثري علمي أو أدبي يحتاج بالضرورة إلى حمل عنوان‪ ،‬فإن القصيدة‬
‫وحدها هي التي تسمح لنفسها بعدم حمله مع أننا في هذه الحالة نضطر إلى تمييزها من‬
‫خالل كلماتها األولى‪ ،‬وما تفعله القصيدة ليس إهماال وليس تدلال‪ ،‬فإذا كانت القصيدة تلغي‬
‫عبر عنها بالعنوان "‪.2‬‬
‫العنوان فألنها ال تتضمن – كما سنرى – هذه الفكرة التركيبية التي ُي ّ‬

‫وهو المفهوم نفسه الذي وجده جميل حمداوي في قراءته للنص السابق حيث يقول ‪...":‬‬
‫ويؤكد كوهن على أن النثر – علميا كان أم أدبيا – يتوفر دائما على العنوان‪ ،‬أي إن العنونة‬
‫المنطقية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ألن النثر قائم على الوصل والقواعد‬
‫ص النثري كيفما كان نوعه‪ّ ،‬‬‫الن ّ‬
‫من سمات ّ‬
‫بينما ال ّشعر يمكن أن يستغني عن العنوان ما دام يستند إلى الالّانسجام ويفتقر إلى الفكرة‬
‫ص المبعثر وبالتالي قد يكون مطلع القصيدة عنو ًانا "‪.3‬‬
‫الن ّ‬
‫توحد شتات ّ‬
‫التركيبية التي ّ‬
‫ّ‬

‫أما الدكتور عبده بدوي فيسلك الطريق المعاكس في النظر إلى هذه المسألة‪ ،‬فينظر‬
‫إلى العنوان من زاوية المطلع وهو في مقام تحليل بعض القصائد من الشعر العربي الحديث‬

‫‪ 1‬لطيف زيتوين‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.710.‬‬


‫‪ 2‬جون كوين‪ :‬بناء لغة الشعر‪ ،‬ترمجة‪ :‬أمحد درويش‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪7995 ،5.‬م‪ ،‬ص‪.795.‬‬
‫‪ 3‬مجيل محداوي‪ :‬السيميوطيقا والعنونة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.92.‬‬

‫‪122‬‬
‫فيرى أنه " قد يحل العنوان محل ما يسمى المطلع في الشعر الحديث ويقدم ترجمة لما‬
‫ستقوله "‪.1‬‬

‫واذاً يقوم المط لع عتبة مهمة على مدخل النص الشعري‪ ،‬وقد ال يسبقه زمنيا في هذا‬
‫إال مناسبة القصيدة‪ ،‬سواء أمنصوصا عليها كانت‪ ،‬أم معلومة ضمنا عند القارئ‪ .‬إال أن‬
‫المناسبة تضعف عن المطلع بسبب عدم نصيتها‪ ،‬فالمناسبة إنما هي معطى سياقي أو‬
‫ومقامي‪ ،‬يرتبط بمحيطات النص التاريخية‪ ،‬أو النفسية‪ ،‬أو أي معطى خارجي بعيد عن بنية‬
‫النص نفسه‪.‬‬

‫واذا كان مطلع القصيدة العربية القديمة يطرح هذه المقارنة والمقاربة بينه وبين العنوان‬
‫خلو تلك القصيدة من العنوان‪ ،‬فإن اتجاه القصيدة العربية الحديثة إلى العنونة ألسباب‬
‫بسبب ّ‬
‫منها التثاقف مع اآلخر‪ ،‬والتأثر باألجناس األدبية األخرى‪ ،‬من شأنه أن يصرف النظر عن‬
‫المطلع‪ ،‬ويحصر النظر إليه سميولوجيا في القصيدة القديمة‪ ،‬أو على األقل سيجد في‬
‫القصيدة الحديثة منافسا له يشطر االهتمام مناصفة بينه وبينه‪.‬‬

‫غير أن عنونة القصيدة عند الدكتور الغذامي بدعة حديثة‪ ،‬قلّد فيها الشعراء العرب‬
‫اء الغرب‪ .‬والمسألة لديه أكثر من عدم حاجة القصيدة إلى العنوان كما رأى كوين‪ ،‬إذ‬
‫شعر َ‬
‫يرى أن العنوان حصيلة الفراغ من القصيدة‪ ،‬يولد بعدها ويكون تبعا لها ‪ ":‬فالعنوان في‬
‫القصيدة – أية قصيدة – هو آخر ما يكتب منها‪ ،‬والقصيدة ال تولد من عنوانها‪ ،‬وانما‬
‫العنوان هو الذي يتولد منها‪ ،‬وما من شاعر حق إال ويكون العنوان عنده هو آخر الحركات‪.‬‬
‫وهو بذلك عمل عقلي‪ .‬وكثي ار ما يكون اقتباسا محرفا إلحدى جمل القصيدة‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫(ال شاعرية) العنوان فإنه هو أول ما يداهم البصيرة "‪.2‬‬

‫‪ 1‬عبده بدوي‪ :‬دراسات يف النص الشعري العصر احلديث‪ ،‬دار قباء‪ ،‬القاهرة‪7992 ،‬م‪ ،‬ص‪.55.‬‬
‫‪ 2‬عبد اهلل حممد الغذامي‪ :‬اخلطيئة والتكفري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.755.‬‬

‫‪123‬‬
‫ويحتاط لما قد يكون اعتراضا ببعض القصائد من المدونة العربية القديمة التي ُوضعت‬
‫لها عبارات توحي بأنها عناوين بقوله ‪ ":‬وقد مضى العرف الشعري عندنا لخمسة عشر قرنا‬
‫أو تزيد دون أن يقلد القصائد عناوين‪ ،‬ومن النادر أن تحدد هوية القصيدة بعنوان‪ ،‬واذا حدث‬
‫ذلك فإن العنوان حينئذ يكون صوتيا – ال دالليا – كأن يقال المية العرب‪ ،‬المية العجم‪،‬‬
‫سينية البحتري‪...‬إلخ وهذا أقرب إلى روح الشعر‪ ،‬لما يحمله من إشارة صوتية هي من صميم‬
‫الصياغة الشعرية "‪.1‬‬

‫والحق أن تراثنا األدبي ال يخلو من قصائد أطلق عليها القدماء تسميات ال تتصل‬
‫بالجانب الصوتي‪ ،‬كما ذهب إليه الدكتور الغذامي‪ .‬وانما لها حيثيات مختلفة‪ ،‬من جملتها‬
‫الحيثية الداللية‪ ،‬التي نفى وجودها في عبارته السابقة‪ .‬كفراقية ابن ُزريق التي تستند تسميتها‬
‫إلى بعد داللي واضح‪ ،‬إضافة إلى زوايا نظر مختلفة قيمية أو تأثيرية نفسية أو غير ذلك‬
‫ُينظر إليها عند تسمية قصائد أخرى‪ ،‬كاليتيمة والدامغة وغيرهما‪ .‬ولكن غاية ما يقال هنا أنه‬
‫استثناء لقصائد قليلة‪ ،‬قياسا بغالب القصائد التي بقيت غفال من العنونة في األدب العربي‬
‫القديم‪ ،‬كما أن تلك التسميات – وهو أقوى ما يعضد رأي الغذامي ‪ -‬هي في الغالب من‬
‫إضافات النقاد وجمهور المتلقين‪ ،‬ولواحق تلصق بالقصيدة بعد سيرورتها في الناس وليست‬
‫من عمل الشعراء أنفسهم‪.‬‬

‫على أنه يجب اإلقرار بأن وضع المطلع في مقابل العنوان في الدرس السميولوجي ال‬
‫يخلو من إشكال منهجي‪ ،‬يتلخص في كون العنوان من العتبات النصية أو من مداخل‬
‫النص‪ ،‬أي أنه ليس جزءا من بنية النص‪ ،‬وكثي ار ما يكون حصيلة تأمل الحقة بعد الفراغ من‬
‫كتابة النص كما ذهب إلى ذلك الغذامي‪ ،‬فـ" الوظيفة اإلحالية ال تقود البتة إلى افتقاد العنوان‬
‫الستقالله الذاتي ‪ .2" ...‬كذلك الشأن إذا ُنظر إليه موضوعا بإزاء " العالمة "‪ ،‬فـ" العالمة‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬خالد حسني حسني‪ :‬يف نظرية العنوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.53 .‬‬

‫‪124‬‬
‫بوصفها سمة‪ ،‬تتباين عن الموسوم‪ ،‬فالعالقة البروتوكولية بين النص والعنوان ال تحد من‬
‫استقاللهما من حيث البناء والداللة ‪.1" ...‬‬

‫في حين أن المطلع جزء من المتن النصي‪ ،‬وهو ما يجعله داال وفي الوقت نفسه‬
‫مدلوال‪ ،‬أو ‪ -‬على األقل ‪ -‬جزءا من المدلول‪ ،‬أي سيكون مسندا ومسندا إليه بتعبير جون‬
‫كوين في تحديده عالقة العنوان بالنص الذي يحيل إليه‪.‬‬

‫لكن هذا ال يقلل من اإلغراء بمحاولة نقل تجربة المقاربة السيميولوجية للعنوان إلى‬
‫المطلع‪ ،‬بالنظر إلى أن الوظيفة الداللية إنما هي إحدى وظائف العنونة وليست َّ‬
‫كل الوظائف‬
‫المنوطة بها‪ ،‬وال شك أن منها ما يستطيع المطلع أن يضطلع به‪ .‬ومن هنا تظل المقارنة بينه‬
‫وبين العنوان‪ ،‬والتفكير في فتح باب على المطلع للدرس السميولوجي وغيره من المناهج‬
‫الحديثة طموحا مشروعا‪.‬‬

‫مبر من هنة ُرمي بها العنوان‪ ،‬تتمثل في كونه نصا يولد‬


‫وفي المقابل سيكون المطلع ّأ‬
‫ويفرغ له بعد‬
‫خارج اللحظة الشعرية‪ ،‬لكونه ُيستحدث عادة بعد الفراغ من العملية اإلبداعية‪ُ ،‬‬
‫ويتوسل إليه بتفعيل الوعي‬
‫زوال التوتر االنفعالي‪ ،‬والشحن العاطفي الضروري لتلك اللحظة‪ُ ،‬‬
‫يصر عليها تارة‬
‫المناقض لها‪ ،‬وهو ما ذهب إليه الدكتور الغذامي في مقولته السابقة‪ ،‬والتي ّ‬
‫أخرى فيصف العنوان بأنه" عمل غير شعري‪ ،‬جاء في حالة غير شعرية‪ ،‬وهو قيد للتجربة‬
‫فرض عليها ظلما وتعسفا "‪ .2‬بصرف النظر عمن يخالفه الرأي ويرى أن العنوان " يحمل من‬
‫الشعرية ما يجعله نصا مستقال بذاته كما يحمل إضافة إلى معانيه الذاتية معاني ودالالت‬
‫النص الذي ِ‬
‫يسمه‪ ،‬إذ يحتاج الباحث عن شعرية النص أن يجدها في العنوان أوال "‪.3‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ :‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬اخلطيئة والتكفري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.753 .‬‬
‫‪3‬عبد القادر رحيم‪ :‬علم العنونة‪ ،‬دار التكوين‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪7070 ،7.‬م‪ ،‬ص‪.22.‬‬

‫‪125‬‬
‫الباب الثاني‬

‫مستويات الشعرية في مطلع القصيدة العباسية‪:‬‬

‫دراسة تطبيقية‬

‫الفصل األول‬

‫المستوى التركيبي‬

‫الفصل الثاني‬

‫المستوى الصرفي‬

‫الفصل الثالث‬

‫المستوى الصوتي‬
‫الفصــل األول‬

‫المســـتوى التركيبــي‬

‫تمهيد‪ :‬التركيب معطى نحوي وعمق بالغي‬


‫التصرف الموضعي والكمي‪( :‬التقديم والتأخير‪-‬الحذف)‬
‫اإلسناد الفعلي واإلسناد االسمي‬
‫الصور‬
‫تمهيـــــــــــــــــد‬

‫التركيب معطى نحوي وعمق بالغي‬


‫ال شك أن الشعرية ‪ -‬بوصفها قيمة جمالية مركبة – معطى نهائي‪ ،‬ال تتبدى مالمحه‬
‫إال في الصورة الكلية التي يتفاعل فيها كل ملمح مع الملمح المجاور‪ ،‬غير أن البيئة‬
‫وجهت العصر العباسي‪ ،‬والمدنية التي طبعته‪ ،‬وجعلت الشاعر العباسي‬ ‫الحضارية التي ّ‬
‫صانعا حقيقيا‪ ،‬يواجه من الناقد صانعا آخر‪ ،‬تحملنا على االعتقاد أن ذلك الشاعر كان يرى‬
‫نساجا‪ُ ،‬يسلّط جميع ما ُوهب من عبقرية خيال ورهافة حس على كل خيط يقيم به لحمة‬ ‫نفسه ّ‬
‫اء ال يرصف في معماره لبنة إال بعد أن يروزها ويعرف مقدار تناسقها‬
‫أبياته وسداها‪ ،‬أو ّبن ً‬
‫مع ما عداها من لبنات‪ ،‬وحسبنا محاورة المتنبي لسيف الدولة حين عاب علي تطبيق عجزي‬
‫بيتين له مع صدريهما‪.1‬‬

‫ومن األمور الثابتة بالبداهة أن األلفاظ المفردة ليست محل اإلفادة‪ ،‬سواء أباللغة‬
‫القياسية تعلق األمر‪ ،‬أم باللغة الشعرية التي هي انتهاك لها وخروج عن سننها‪ ،‬فالغاية من‬
‫وضع تلك المفردات هي أن تُسلك في تراكيب تكون هي الناقلة لغرض المتكلم إلى السامع‪.‬‬
‫وترتيب المفردات في التراكيب ينتقل بها إلى مستوى آخر من مستويات المعنى هو المعاني‬
‫كم متراكم ال رابط بين عناصره ‪ ،‬وتظل‬
‫النحوية‪ ،‬التي بدونها " تكون الكلمات عبارة عن ّ‬
‫‪2‬‬
‫المعاني الموضوعة إزاءها على استقاللها وتجردها في الذهن "‪.‬‬

‫أسس عبد القاهر الجرجاني نظريته في النظم التي كانت منعطفا‬ ‫على هذه الفكرة ّ‬
‫حاسما وخطي ار في تاريخ البالغة والنقد العربيين‪.‬‬

‫حدا للنظم‪ ،‬فارقا بينه‬


‫فقد أقام الجرجاني نظريته على مفهوم معاني النحو‪ ،‬الذي جعله ّ‬
‫توخي معاني‬
‫وبين مفهوم المعاني المعجمية‪ ،‬بقوله‪ ... ":‬وذلك أن النظم‪ ،‬كما ّبيّنا ‪ ،‬إنما هو ّ‬
‫النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه‪ ،‬والعمل بقوانينه وأصوله‪ ،‬وليست معاني النحو معاني ألفاظ‬
‫‪.3" ...‬‬

‫‪ 1‬انظر الصفحة ‪ 401‬من هذه الدراسة‪.‬‬


‫‪ 2‬حسن طبل‪ :‬املعىن يف البالغة العربية‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪4191.‬م‪ ،‬ص‪.53.‬‬
‫‪ 3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممود حممد شاكر‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ 3005 ،3.‬ص‪.133 .‬‬

‫‪129‬‬
‫فمعاني النحو تلك‪ ،‬هي المستوى الثاني بعد المعاني المعجمية المتضمنة في األلفاظ‬
‫المفردة‪ ،‬واذا كانت هذه تجد تفسيرها في " مقابلها اإلشاري الذي ُيختزن إزاءها في ذهن الفرد‬
‫أو في باطن المعجم "‪ ،1‬فإن األولى ال تتوضح إال في التراكيب‪.‬‬

‫لقد كان لمفهوم النظم أثر خالق في البالغة والنقد العربيين‪ ،‬بل كان ‪ -‬مع مجمل‬
‫أعمال الجرجاني ‪ -‬إيذانا بدخول البالغة العربية مرحلة جديدة من االزدهار والحيوية‪،‬‬
‫فغالب الدارسين المحدثين يجعلون ذلك عنوانا لهذه المرحلة ِف َ‬
‫عل الدكتور شوقي ضيف في‬
‫تقسيمه لتطور هذا العلم‪.2‬‬

‫ومجال الحديث في هذا طويل‪ ،‬أجريت فيه دراسات أكاديمية مستفيضة‪ ،‬ولكن يمكن‬
‫اختصار تأثير النظم الذي رسخه الجرجاني في إحداثه عالقة تفاعلية بين النحو والبالغة‪ ،‬إذ‬
‫فتح للنحو مجاال واسعا في الدرس البالغي‪ ،‬بتوظيف المعاني النحوية من أجل الكشف عن‬
‫مقاصد المتكلم المختلفة باختالف معاني األلفاظ الوظيفية في داخل التركيب‪ ،‬وبذلك أتاحت‬
‫وس َمتها به طبيعته‬
‫هذه النظرية للنحو فاعلية وحيوية تنأى به عن صيغته الجامدة التي َ‬
‫التلقينية النمطية القائمة على المعيارية الصارمة‪.‬‬

‫هذا الفهم العبقري للنحو يجعل منه أداة حركية خالقة‪ ،‬نابضة بالحياة على قدر‬
‫ديناميكية المعاني التي تتضمنها والتي ما هي " ‪ ...‬إال األلوان النفيسة المتباينة‪ ،‬التي‬
‫ندركها من عالقات الكالم بعضه ببعض‪ ،‬ومن استخدام الشاعر للغة استخداما‪ ،‬يجعل من‬
‫ارتباط بعضها ببعض نسيجا حيا متشعبا من الصور والمشاعر "‪.3‬‬

‫كما أتاحت للدرس البالغي والنقدي االستفادة من علم النحو‪ ،‬ذلك العلم األصيل والركن‬
‫الشديد الذي تأوي إليه الثقافة العربية‪ .‬فإذا علمنا أن المناهج النقدية المعاصرة القائمة على‬
‫وجدتها من اللسانيات كالبنيوية واألسلوبية‪ ،‬علمنا مقدار‬
‫المعطيات النصية تستمد كينونتها ّ‬
‫أهمية هذا الجانب وغنى تراثنا النقدي العربي واإلسالمي‬

‫‪ 1‬حسن طبل‪ :‬املعىن يف البالغة العربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.1.‬‬


‫‪ 2‬شوقي ضيف‪ :‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪4111 ،40.‬م‪ ،‬ص‪.460.‬‬
‫‪ 3‬حممد كرمي الكواز‪ ،‬البالغة والنقد املصطلح والنشأة والتجديد‪ ،‬مؤسسة االنتشار العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3006 ،4.‬ص‪.533.‬‬

‫‪130‬‬
‫وأصالته وصالحيته لمعايشة الواقع النقدي المستجد‪ ،‬بما يمنحنا الثقة بأصالتنا في هذا‬
‫المضمار‪ ،‬والمقدرة على اقتحامه غير متخوفين ذوبان شخصيتنا الثقافية وهويتنا الحضارية ‪.‬‬

‫المستند إلى ما فيه من بنى نحوية كفيل بتخليص النقد من االنطباعية‬


‫َ‬ ‫إن نقد النص‬
‫والذاتية‪ ،‬واالنتقال به إلى النصية بكل ما تتميز به من موضوعية ومحايثة وآنية‪ ،‬و بكل ما‬
‫تختص به من حيوية ُيمده النحو بها‪ ،‬فـ " من المعروف أن حيوية النحو في القديم نبعت من‬
‫أنه علم نصي‪ ،‬وغير خاف أنه نشأ في حضن القرآن الكريم‪ ،‬ومن أن النحاة القدماء لم يوقفوا‬
‫دراستهم على الجانب النظري فحسب‪ ،‬بل تخطوا ذلك إلى الجانب التطبيقي‪ ،‬وقد اتخذوا‬
‫القرآن الكريم والشعر القديم و شعر معاصريهم – أحيانا ‪ -‬مادة خصبة للتطبيق‪ ،‬ومن هنا‬
‫وجدت في خزانة التراث عشرات الكتب لشرح القرآن وتفسيره ة إعرابه‪ ،‬وشرح مختارات‬
‫الشعر‪ ،‬ودواوين بعض الشعراء شرحا يقوم في جانب كبير منه على فهم العالقات النحوية‪،‬‬
‫ولذلك استطاعت الدراسات النحوية القديمة أن تحيا وتتخطى إلينا القرون واألجيال"‪.1‬‬

‫واإللحاح على ضرورة العودة إلى هذه النظرية اللطيفة‪ ،‬التي تفتقت عنها عبقرية‬
‫الجرجاني في هذه المسألة‪ - ،‬زيادة على عظيم جدواها في الدرس النقدي‪ ،‬وما تتضمنه من‬
‫لمعطيات تراثية صالحة للحياة والنماء في‬ ‫مسعى تأصيلي – إنما هو مواكبة وتحيين‬
‫عصرنا‪ ،‬وذلك أنها تلتقي و" ‪ ...‬الدعوة الجديدة في النقد األدبي التي تحاول جاهدة توجيه‬
‫النقد في األدب العربي وجهة لغوية عن طريق النقد التطبيقي استنادا إلى أن العمل األدبي‬
‫فن لغوي في المقام األول‪ ،‬ولذلك ينبغي الدخول إلى النص األدبي بغية تحليله من بابه‬
‫المالئم وهو اللغة بكل مستوياتها وأبعادها التي يستخدمها العمل األدبي في تكوين شكله‬
‫الفني "‪.2‬‬

‫يوسع آفاق النقد‪ ،‬الذي يجب أالّ تحاصر بحدود التشبيه‬


‫لقد أراد عبد القاهر أن ّ‬
‫والمجاز‪ ،‬وما يتعلق بهما " ‪ ...‬فهذه من موضوعات النقد‪ .‬ومن أساسيات نقد الشعر لكنها‬
‫تظل ناقصة أيما نقص إن لم تربط باللسانيات [‪ ]...‬واألبعاد اللسانية هي المتعلقة بالجملة‪،‬‬

‫‪ 1‬حممد محاسة عبد اللطيف‪ :‬فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر‪ ،‬جملة دراسات عربية وإسالمية‪ ،‬مكتبة الزهراء‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.439.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.451 .‬‬

‫‪131‬‬
‫ترتيبا وتقديما وتأخي ار وتوكيدا‪ ،‬ثم هي المتعلقة بعلم داللة الجملة على المعنى الشعري أو‬
‫األدبي‪ ،‬وهو ال يتحدد وال يعرف إال من خالل تلك األبعاد "‪.1‬‬

‫ولمعاني النحو هذه آليات عديدة تُسهم في إثراء المعنى الشعري‪ ،‬وربما كان على رأسها‬
‫آلية التوليد‪ ،‬أو قابلية التوسع والتجدد‪ ،‬فهي معان ليس " من الممكن حصرها وتحديدها‬
‫بحيث يمكن التقعيد لها‪ ،‬بل هي معان كثيرة متجددة مع تجدد اإلبداع األدبي نفسه "‪.2‬‬

‫وهي قراءة مهمة لنص الجرجاني الذي جاء فيه ‪ ":‬واذ قد عرفت أن مدار أمر النظم‬
‫على معاني النحو‪ ،‬وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه‪ ،‬فاعلم أن الفروق‬
‫والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها‪ ،‬ونهاية ال تجد لها ازديادا بعدها "‪.3‬‬

‫ويفرق الدكتور محمد عبد اللطيف تفريقا مهما بين المعنى النحوي والصيغة النحوية‬
‫التي ما هي إال قالب البنية التجريدية الثابتة ( الفعل‪+‬الفاعل )‪( ،‬المبتدأ‪+‬الخبر) والتي هي‬
‫قائمة مغلقة يمكن حصرها وتصنيفها ‪ ،‬ومع قيمة هذه الصيغ التعليمية (‪)didactique‬‬
‫حين يكون المراد تمييز التراكيب الصحيحة من غيرها ‪ ،‬تبقى أن الفاعلية البالغية والنصية‬
‫للمعاني النحوية التي تحملها تلك الصيغ وليست للصيغ نفسها‪.4‬‬

‫ويزداد هذا النص وقراءته السابقة أهمية إذا أخذا في ضوء نظرية النحو التوليدي‬
‫التحويلي (‪ )Grammaire générative et transformationnelle‬ومبادئه التي‬
‫نادى بها نوام شومسكي (‪ )N.chomesky‬والقائمة على الميزة اإلبداعية في اللغة‪ ،‬انطالقا‬
‫من فكرة التراكيب الالنهائية المستندة إلى القواعد المحدودة‪ .‬يقول الدكتور عاطف فضل ‪-‬‬
‫بعد حديثه عن العناصر أو األطر التي تُستخدم للربط بين الجمل في نظرية تشومسكي ‪-‬‬

‫‪ 1‬حممد رضا مبارك‪ :‬مفهوم النقد من األسلوبية إىل حتليل اخلطاب‪ ،‬فصول‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬ع‪ ،63 .‬خريف ‪ 3001‬شتاء‪،3003‬‬
‫ص‪.440.‬‬
‫‪ 2‬حممد محاسة عبد اللطيف‪ :‬فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪،451 .‬‬
‫‪ 3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.93 .‬‬
‫‪ 4‬حممد محاسة عبد اللطيف‪ :‬فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.411.‬‬

‫‪132‬‬
‫‪":‬ومن المناسب أن نذكر أن ما جاء به تشومسكي له جذور في ثراثنا اللغوي‪ ،‬وخير من‬
‫اإلمام عبد القاهر الجرجاني "‪.1‬‬
‫ُ‬ ‫يمثل هذا‬

‫لقد أدرك النقاد والبالغيون القدماء خطورة التركيب القائم على المهارة الفنية في نظم‬
‫الكلم‪ ،‬ورصف بعضها إلى بعض‪ .‬وهو ما يكفل نقلها من درجة الصفر إلى أعلى درجات‬
‫الشعرية‪ ،‬حسب مهارة الشاعر وما يتمتع به من تمكن في الصناعة الشعرية‪ ،‬مهارة تخلع‬
‫على العبارة لبوسا جديدا "‪ ...‬وذاك أنه يحدث عنه من فوائد التأليفات واالمتزاجات ما يخيل‬
‫للسامع أن هذه األلفاظ ليست تلك التي كانت مفردة "‪.2‬‬

‫وهو ما يعطي التركيب في العبارة الشعرية ميزة ليست للتركيب في غيرها‪ ،‬فـ" المنزلة‬
‫التي يحظى بها التركيب في الشعر ال تدانيها في األهمية منزلته في سائر أجناس الكالم‬
‫وأفنانه‪ .‬فبينما تظل التراكيب في معظم المنثور‪ ،‬مجرد أداة في خدمة المعنى‪ ،‬نجدها في‬
‫أكثر المنظوم‪ ،‬تسعى إلى أن تكون الغاية واألداة‪ ،‬طالما أن الشاعر ال يهمه أن يتكلم أكثر‬
‫مما يهمه أن يقول كالما جميال يعلق بالقلوب ويعطفها عليه "‪.3‬‬

‫إنه إذا كانت القصيدة بناء ذا مغاليق محكمة الرتاج‪ ،‬فإن من أهم األبواب الموصلة‬
‫إلى أفنيته ودهاليزه وزواياه " ‪ ...‬الباب الذي يكشف لنا كيف يتم هذا التركيب‪ ،‬أي تركيب‬
‫وحدات البناء الفني للقصيدة "‪.4‬‬

‫ومن المعلوم أن التفكير النحوي العربي تأسس على أن التركيب الذي تتضام بموجبه‬
‫الكلم نوعان‪ :‬تركيب إسنادي أقل عناصره طرفان مسند ومسند إليه‪ ،‬يجمع بينهما اإلسناد‬
‫عبر عنه بالجملة االسمية‪ ،‬واما‬
‫الذي هو نسبة ذهنية تربطهما‪ .‬وهذا التركيب إما اسمي ُي ّ‬
‫فعلي يعبر عنه بالجملة الفعلية‪ .‬وتركيب غير إسنادي‪ ،‬تتراكب فيه الكلم من غير حاجة إلى‬
‫عالقة إسنادية‪ .‬كالتركيب اإلضافي‪ ،‬والتركيب الوصفي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫عمان‪ ،‬ط‪ ،3003 ،4.‬ص‪.95.‬‬ ‫عاطف فضل‪ :‬مقدمة يف اللسانيات‪ ،‬دار الرازي‪ّ ،‬‬
‫‪ 2‬ابن األثري‪ :‬املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.411.‬‬
‫‪ 3‬حسني الواد‪ :‬املتنيب والتجربة اجلمالية عند العرب‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،3001 ،3.‬ص‪.431.‬‬
‫‪ 4‬حممد محاسة عبد اللطيف‪:‬فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.414.‬‬

‫‪133‬‬
‫وقد كان عبد القاهر الجرجاني ‪ -‬وهو يمثّل لمعاني النحو من سورة الفاتحة ‪ ،1-‬يرصد‬
‫في الوقت نفسه غالب األوجه التي يمكن أن يقع بها تركيب األلفاظ في النحو العربي‪،‬‬
‫وتتحدد العالقة بين أنواع المرّكبات‪ :‬فمنها التركيب اإلسنادي بقسميه‪ :‬االسمي بين المبتدإ‬
‫والخبر في قوله تعالى‪ :‬الحم ُد ِ‬
‫لل‪ ،‬والفعلي في قوله‪ِ :‬إي َ‬
‫اك َنع ُب ُد‪ .‬والتركيب اإلضافي في قوله‪:‬‬ ‫َ‬
‫يم‪ ،‬والتركيب الوصلي في قوله "‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ط ال ُمستَق َ‬‫ين‪ ،‬والتركيب الوصفي في قوله‪ :‬الص َار َ‬ ‫َرب العالم َ‬
‫ت َعلَي ِهم "‪.‬‬
‫ين أَن َعم َ‬ ‫ِ‬
‫الذ َ‬

‫واذ قد تقرر ذلك فليس من المجدي – عمليا وال بالغيا – الخوض في البحث عن أي‬
‫الجملتين هي األصل‪ :‬الفعلية أم االسمية ؟‪ ،‬فمن الثابت بالغيا أن كل واحدة منهما تسد ثغرة‬
‫ال تقوم فيها األخرى مقامها‪ ،‬ولذلك فكل واحدة أصل في سياقها الذي يستدعي استخدامها‬
‫حسب إرادة المتكلم‪ ،‬ومقتضيات المقام‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.135-133.‬‬

‫‪134‬‬
‫(التقديم والتأخير‪-‬الحذف)‬ ‫التصرف الموضعي والكمي‪:‬‬
‫إذا كان الغرض التركيبي محوجا للمتكلم إلى أن يجمع األلفاظ بعضها إلى بعض‬
‫ويؤلف بينها في نظم مستقيم يكفل له تبليغ المخاطب رسالته على أكمل وجه‪ ،‬فإنه محوج له‬
‫نجمة شيئا فشيئا يتلو أحدها اآلخر‪ ،‬تبعا للطبيعة الخطية‬
‫أيضا إلى أن ينطق بهذه األلفاظ ُم ّ‬
‫(‪ ) linéaire‬لسلسلة الكالم ( ‪ .) chaîne parlée‬وألن الدليل اللغوي محكوم بجريانه في‬
‫النطق بها‬
‫َ‬ ‫الزمن‪ 1‬بسبب طبيعته السمعية‪ ،‬تُسلك األلفاظ في نظام تعاقبي يجعل من المتعذر‬
‫جملة واحدة‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن أصل الترتيب في الجملة االسمية أن يسبق المبتدأ ويليه الخبر‪ ،‬وفي‬
‫الفعلية أن يسبق الفعل ويليه الفاعل‪ ،‬أو نائبه في الجملة المبنية لغير الفاعل‪ ،‬ثم المفعول إن‬
‫كان الفعل متعديا‪ .‬وبذلك تعطي هذه القسمة الثنائية في العربية المسند والمسند إليه كليهما‬
‫حق الحلول في الرتبة األولى‪.‬‬

‫قارا‪ ،‬وال أنموذجا ُمقولَبا جامدا‬


‫غير أن بناء الجملة في العربية على هذا الترتيب ليس ّ‬
‫ال يقبل التغيير‪ .‬فمواقع الكلمات " ‪ ...‬في الجملة عظيمة المرونة كما هي شديدة الحساسية‬
‫وأي تغيير فيها يحدث تغييرات جوهرية في تشكيل المعاني وأحوالها وصورها وظاللها "‪.2‬‬

‫ومن أبرز ظواهر المرونة في العربية ظاهرة التقديم والتأخير‪ ،‬التي هي من الفرادة‬
‫األسلوبية‪ ،‬والقدرة على تصوير المعاني القائمة في الصدور‪ ،‬بحيث تصبح" اللغة صورة‬
‫فكرية‪ ،‬سمعية‪ ،‬بصرية في آن واحد"‪.3‬‬

‫‪1‬‬
‫‪FERDINAND DE SAUSSURE : COURS DE LINGUISTIQUE GENERALE, Edition‬‬
‫‪TALANTIKIT Béjaïa 2002 P. 106: " le signifiant, étant de nature auditive, se déroule dans le‬‬
‫‪temps seul...".‬‬
‫‪ 2‬حممد حممد أبو موسى‪ :‬دالالت الرتاكيب دراسة بالغية‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪4002 ،3.‬م‪ ،‬ص‪.671.‬‬
‫‪3‬ابتسام أمحد محدان‪ :‬احلذف والتقدمي والتأخري يف ديوان النابغة الذبياين ‪ ،‬دار طالس‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪6994 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.24.‬‬
‫‪136‬‬
‫وتصرف المتكلم في ترتيب عناصر الجملة‪ ،‬وتحويله عن األصل ال يكون اعتباطا‪ .‬بل‬
‫يعد الترتيب‬
‫يتم ذلك وفق التراتبية القائمة في النفس‪ ،‬يقول الدكتور خليل أحمد عمايرة ‪ّ ":‬‬
‫من أبرز عناصر التحويل وأكثرها وضوحا‪ ،‬ألن المتكلم يعمد إلى مورفيم حقه التأخير فيما‬
‫جاء عن العرب فيقدمه‪ ،‬أو إلى ما حقه التقديم فيؤخره طلبا إلظهار ترتيب المعاني‪ ،‬في‬
‫النفس "‪.1‬‬
‫واضافة إلى داللة ذلك على العالقة التبعية التي تعكس ما في نفس المتكلم‪ ،‬فإنه من‬
‫جهة أخرى دليل على قدراته‪ ،‬وتمكنه من ناصية التعبير والتصرف في الكالم(‪ )parole‬الذي‬
‫هو ميدان للعبقرية الفردية‪ ،‬بعدم تقيده بمقررات اللغة (‪ .)langue‬فالتقديم في مستوى الكالم‬
‫فيسخرها‬
‫ّ‬ ‫يمثل " ‪ ...‬قدرات إبانة أو طاقات تعبيرية يديرها المتكلم ِ‬
‫اللقن إدارة حية وواعية‪،‬‬
‫تسخي ار منضبطا لإلبانة عن معانيه ومقاصده ‪.2" ...‬‬

‫واذا كان التوتر العاطفي من أهم مقومات العبارة الشعرية‪ ،‬فإن التقديم والتأخير من‬
‫اآلليات التي تكسب " ‪ ...‬التركيب الدقة في تصوير مواطن الشحن العاطفي وتطور‬
‫المعنى‪.3" ...‬‬

‫ويحسن التفريق بين ضربين من التقديم والتأخير‪ ،‬األول نمطي خال من أي ميزة فنية‪،‬‬
‫حسان ( الرتبة المحفوظة ) أي البنية األصلية التي يحفظها‬
‫يندرج فيما سماه الدكتور تمام ّ‬
‫التنميط النحوي‪ .4‬والمقصود هنا تحديدا تلك األلفاظ واألدوات التي أُعطيت حق التصدر وان‬
‫كانت متأخرة في التقدير اإلعرابي‪ ،‬مثل أدوات الشرط واالستفهام‪ .‬والثاني إبداعي‪ ،‬يميل إليه‬

‫‪ 1‬خليل أمحد عمايرة‪ :‬يف حنو اللغة وتراكيبها منهج وتطبيق‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬جدة‪ ،‬ط‪6992 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.99.‬‬
‫‪ 2‬حممد حممد أبو موسى‪ :‬دالالت الرتاكيب دراسة بالغية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.671.‬‬
‫‪ 3‬ابتسام أمحد محدان‪ :‬احلذف والتقدمي والتأخري يف ديوان النابغة الذبياين ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.24 .‬‬
‫‪ 4‬متام حسان‪ :‬اللغة العربية معناها ومبناها‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪4001 ،2.‬م‪ ،‬ص‪.407.‬‬
‫‪137‬‬
‫المتكلم تحقيقا لمطالب جمالية وغايات بالغية‪ ،‬يسلك في ما يسمى " الرتبة غير المحفوظة"‪،‬‬
‫أي الخارجة عن المألوف النحوي‪.1‬‬

‫ويمكن أن ُيلحق باألول ما يكون وليد تناسي الترتيب األصلي لعناصر القول‪ ،‬واحداث‬
‫ترتيب آخر له بنيته العميقة الجديدة‪ ،‬كأن ُيجعل الخبر مبتدأ إذا استوفى الشروط والمسوغات‬
‫التي تسمح بذلك‪ ،‬ويجعل المبتدأ خب ار‪ .‬والثاني يكون مع مراعاة الترتيب األصلي في التقدير‪،‬‬
‫بحيث ال يظهر إال على مستوى البنية السطحية (‪.) structure de surface‬‬

‫ويلزم من هذا أن الضرب األول إجباري‪ ،‬بما أنه يتصل بالبنية العميقة‪ .‬في حين يكون‬
‫الثاني اختياريا لكونه تحويال على مستوى السطح أو الكالم ( ‪ ،) la parole‬كما هو عند‬
‫دوسوسور‪ .‬لذلك كان هذا الضرب هو مقصد البالغيين حين يتوجهون إلى دراسة التقديم‬
‫والتأخير‪ ،‬بخالف األول الذي هو مبحث نحوي ِ‬
‫ص ْرف‪.‬‬

‫فكون المتكلم يجنح إلى تقديم عنصر وتأخير عنصر آخر مختا ار غير مدفوع بنمط‬
‫قاعدي محفوظ سلفا‪ ،‬دليل على حاجة بالغية في نفسه يريد إيصالها إلى المستمع‪ ،‬يقول‬
‫الدكتور حسن طبل ‪ ":‬أما البالغيون ( في بحثهم لظاهرة التقديم والتأخير) فقد اقتصر نظرهم‬
‫على النمط الثاني فحسب من هذين النمطين‪ ،‬فالنماذج التي ُعني البالغيون ببحث تلك‬
‫الظاهرة والتنويه بمزيتها فيها تنتمي جميعها إلى ما يسمى بالرتبة غير المحفوظة لدى النحاة‬
‫[‪ ]...‬فهذا اللون من الرتبة هو الذي ال يحتمه نظام اللغة‪ ،‬بل يجيز للمتكلم حرية الخروج‬
‫عليه بتقديم ما رتبته التأخير أو العكس‪ ،‬أي أن الرتبة في هذا اللون هي مجال من مجاالت‬
‫التخير النحوي الموجب للمزية في نظر البالغيين "‪.2‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬حسن طبل‪ :‬املعىن يف البالغة العربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.671.‬‬
‫‪138‬‬
‫واذا كان االنزياح بمفهومه العام هو المظهر الفني للشعرية‪ ،‬فـ" االنزياحات التركيبية في‬
‫الفن الشعري تتمثل أكثر شيء في التقديم والتأخير "‪ .1‬وهو ما يطلق عليه جون كوين‬
‫"القلب"‪.2‬‬
‫قلق العبارة‬
‫الجوال‪ ،‬الكثير الترحال – ُ‬ ‫ِ‬
‫ولقد عرف عن المتنبي – وهو الشاعر القلق ّ‬
‫فيجري " ‪ ...‬كالمه على مجرى‬ ‫الشعرية‪ ،‬وسفره في ُمركباتها يبعثر أجزاءها يمينا وشماال‪ُ ،‬‬
‫تركيبي غريب أثار بين القدماء خصومة استمرت بعده زمنا "‪ ،3‬يفعل ذلك غير عابئ بأن‬
‫يكون تغريب الترتيب في مطلع القصيدة الذي تتوق له األسماع‪ ،‬وتترصده األذواق‪ .‬يقول‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫َن تُ ْس ِع َدا و َّ‬
‫الد ْمعُ أَ ْشفَاهُ َسا ِج ُم ْه‬ ‫بِأ ْ‬
‫وفَاؤ ُكما َكالرْب ِع أَ ْشجاه ِ‬
‫طاس ُم ْه‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ َ ّ‬
‫َ‬

‫لقد بلغ انتهاك الترتيب في هذا المطلع أقصاه‪ ،‬حتّى خرج عن أصول القواعد ا ّلنحوية‬
‫واذا صح زعم جون كوين أن الشعراء الفرنسيين أطاعوا مقولة فيكتور هوجو ‪ ":‬اتركوا النحو‬
‫في سالم "‪ ،5‬فالمتنبي ال يريد للنحو أن يظفر معه بسالم‪ ،‬وال للنحاة أن يؤولوا معه بصلح‪.‬‬

‫النحوية من الجوازات المستقبحة‪ ،‬وذلك‬


‫الناحية ّ‬
‫النحاة تركيب هذا البيت من ّ‬
‫لذلك اعتبر ّ‬
‫ألن هذا‬
‫كالربع " عن المبتدأ " وفاؤكما " قبل تمامه‪ّ .‬‬
‫بالجار والمجرور " ّ‬
‫ّ‬ ‫المتنبي أخبر‬
‫ّ‬ ‫ألن‬
‫ّ‬
‫المبتدأ تعلّق به الجار والمجرور اآلخر في بداية العجز وهو قوله‪ " :‬بأن تسعدا " واألصل‪:‬‬
‫بناء على قاعدة‪:‬‬
‫كالربع‪ "...‬وال يجوز اإلخبار عن المبتدإ قبل تمامه ً‬
‫"وفاؤكما بأن تسعدا ّ‬

‫‪ 1‬أمحد حممد ويس‪ :‬االنزياح من منظور الدراسات األسلوبية‪ ،‬املسسسة ااجامعية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪4002 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.644.‬‬
‫‪ 2‬جون كوين‪ :‬بنية لغة الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.462-463.‬‬
‫‪ 3‬حسني الواد‪ :‬املتنيب والتجربة ااجمالية عند العرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.622.‬‬
‫‪ 4‬أبو الطيب المتنبي‪ :‬الديوان بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫‪0202‬م‪ ،‬ج‪ ،3 .‬ص‪.303 .‬‬
‫‪ 5‬جون كوين‪ :‬بناء لغة الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.466.‬‬
‫‪139‬‬
‫تصوره " والمبتدأ محكوم عليه وخبره حكم‪ ،‬والحكم ال يكون مع‬
‫"الحكم على ال ّشيء فرع من ّ‬
‫النقصان‪.‬‬
‫ّ‬

‫مقررات اللّغة القياسية المحكومة بالنمطية‪،‬‬


‫النحوي هو من ّ‬
‫أن هذا التأصيل ّ‬
‫غير ّ‬
‫ورد على تشقيقاتهم مبديا فهما‬
‫وبكونها مرجع المناطقة الذين اعترض على طريقتهم البحتري‪ّ ،‬‬
‫أصيال ورائدا للصناعة الشعرية‪ ،‬محتجا عليهم بمذهب الفحول من الشعراء العرب الذين لم‬
‫يكونوا يأبهون لمنطقهم‪ ،‬كامرئ القيس‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ِ ِِ ِ ‪1‬‬
‫لغى َع ْن ص ْدقه َكذ ُب ْه‬ ‫الش ْع ِر ُي َ‬ ‫ِفي ِّ‬ ‫ود َم ْن ِط ِق ُكـ ْـم‬ ‫َكلَّ ْفتُ ُـم َ‬
‫ونا ُح ُـد َ‬
‫وعهُ َو َما َسَببـُـ ـ ـ ْـه‬ ‫ق َما َن ُ‬ ‫ولَ ْم َي ُك ْن ُذو القُرو ِح َي ْلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهَ ُج بِال ـ ـ َـم ْن ِط ِ‬
‫َ‬
‫َولَ ْي َس بِاله ْذ ِر طُِّوَل ْ‬ ‫ِ‬ ‫و ِّ‬
‫ط ُبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـه‬
‫ت ُخ َ‬ ‫الش ْع ُر لَ ْم ٌح تَ ْكفي إِ َش َارتُــهُ‬ ‫َ‬

‫تطورت‬‫أما اللّغة ال ّشعرية فهي خلق لغوي جديد إفرادا وتركيبا‪ ،‬وعلى هذا األساس ّ‬‫وّ‬
‫فتحررت من‬
‫النقدية الحديثة‪ ،‬السيما األسلوبية‪ّ ،‬‬
‫الضرورات ال ّشعرية مع المدارس ّ‬‫النظرة إلى ّ‬‫ّ‬
‫فنيا أسلوبيا يدخل في جوهر لغة ال ّشعر المباينة‬
‫نظرة االستقباح والتحفّظ‪ ،‬واعتُبرت ُمعطًى ّ‬
‫المتقدمين من غير‬
‫ّ‬ ‫أدل على ذلك من ورودها في بعض أشعار‬
‫للغة الخطابات األخرى‪ ،‬وال ّ‬
‫فالضرورة ال ّشعرية " ضرب من ضروب التّوليد في‬
‫ّ‬ ‫ملحة يدعو إليها الوزن والقافية‪.‬‬
‫حاجة ّ‬
‫اللّغة يثري بها ال ّشاعر اللّغة وينحو بها نحوا جديدا "‪ ،2‬ولهذا صار من اإلجحاف اعتبارها‬
‫تقصي ار من ال ّشاعر وعدم كفاءة بل هي " على عكس ذلك من مظاهر اقتدار ال ّشاعر‬
‫ونشاطه الخالّق "‪.3‬‬

‫‪ 1‬البحتري‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.452 .‬‬


‫‪ 2‬السيد إبراهيم حممد‪ :‬الضرورة الشعرية دراسة أسلوبية‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪6994 ،4.‬م‪ ،‬ص‪.19.‬‬
‫‪ 3‬السلبق‪.141 ،‬‬
‫‪140‬‬
‫كما أن ذلك السلوك اللغوي‪ ،‬دليل على قوة شخصية‪ ،‬وحرصه على التفرد والتميز‪،‬‬
‫وعلى قدر خروجه على المقرر اللغوي‪ ،‬وشدة إغرابه تكون قوة شخصيته‪ ،‬يقول ابن جني‪:‬‬
‫"‪ ...‬فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها‪ ،‬وانخراق األصول بها‪،‬‬
‫فاعلم أن ذلك على ما ِ‬
‫جشمه منه وان د ّل من وجه على جوره وتعسفه‪ ،‬فإنه من وجه آخر‬
‫وتخمطه‪ ،‬وليس بقاطع دليل على ضعف لغته‪ ،‬وال قصوره عن اختياره الوجه‬
‫ّ‬ ‫مؤذن بصياله‬
‫ْ‬
‫الجموح بال لجام‪ ،‬ووارد الحرب‬
‫الناطق بفصاحته‪ .‬بل مثله في ذلك عندي مثل ُمجري َ‬
‫الضروس حاس ار من غير احتشام "‪.1‬‬

‫ويبدو أنه إلى جانب طائفة النقاد اللغويين المتنطعين‪ ،‬الذين ُيحصون على الشعراء كل‬
‫صغيرة وكبيرة‪ُ ،‬وجدت طائفة من النقاد اضطرتهم واقعية هذا التصرف‪ ،‬وكثرة الجنوح إليه‪،‬‬
‫إلى أن يذعنوا للشعراء‪ ،‬ويعطوهم سلطة األمراء على لغة الشعر‪ ،‬وهم حقا " أمراء الكالم‪،‬‬
‫يمدون المقصور‪ ،‬ويقدمون ويؤخرون‪ ،‬ويومئون ويشيرون‪ ،‬ويختلسون‬
‫يقصرون الممدود‪ ،‬وال ّ‬
‫ويعيرون ويستعيرون "‪.2‬‬

‫يترتب على هذا ( الترخيص ) األسلوبي‪ ،‬إعادة النظر في التسرع إلى تخطئة األساليب‬
‫والتراكيب التي وردت عن الشعراء القدماء في غير لبوسها القاعدي " ‪ ...‬وأن نحسن الظن‬
‫بالشعراء الكبار فال ننظر إلى شعرهم بمعيار التصويب والتخطئة – وبخاصة الشعراء‬
‫المتقدمون – بل ينبغي أن نحاول استكشاف أسرار التراكيب لديهم حتى تلك التي تبدو على‬
‫أنها من ‪ -‬وجهة نظرنا – مخالفات نحوية يرتكبونها في شعرهم‪ ،‬إنهم يعمدون إليها عمدا‬
‫غير غافلين عنها‪ ،‬ووراءها معنى متساوق مع المعنى الشعري للقصيدة ‪ ،3" ...‬هذا إن لم‬

‫‪ 1‬ابن جين‪ :‬اخلصائص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.212 – 212.‬‬


‫‪ 2‬ابن فارس‪ :‬الصاحيب يف فقه اللغة ومسائلها وسنن العرب يف كالمها‪ ،‬حتقيق‪ :‬عمر فاروق الطباع‪ ،‬دار مكتبة املعارف‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪6993 ،6.‬م‪،‬‬
‫ص‪.417.‬‬
‫‪ 3‬حممد محاسة عبد اللطيف‪ ،‬فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.637.‬‬
‫‪141‬‬
‫يجب النظر في إمكان طردها في أقيسة َّ‬
‫يرخص بها للشعراء الالحقين التوسع في مد حدود‬
‫اللغة الشعرية‪.‬‬

‫النحاة المحافظين يكون التقديم والتأخير في المطلع السابق‬‫تشدد ّ‬


‫وهكذا فبعيدا عن ّ‬
‫الربع‬
‫المتنبي من خليليه اللّذين أبطآ عليه في مساعدته بالبكاء على َّ‬
‫ّ‬ ‫مناسبا للتّشويق الذي يشكوه‬
‫أخ ار عنه اإلنجاز‪.‬‬
‫فقدما إليه الوعد و ّ‬
‫ّ‬

‫وهذا التوزيع الغريب لعناصر القول في البيت يحدث في صورته النهائية انعطافا‬
‫وحركة شديدة التأثير في السمع‪ ،‬تشبه بعض المقطوعات من الموسيقى الحديثة ‪ ،1‬التي يميل‬
‫مؤلفوها إلى االنعطاف الشديد باألذن صوب النغمات الصادمة والمفاجئة‪.‬‬

‫كثير من شعراء القرن‬


‫وقد رأى الدكتور شوقي ضيف أنها تقنية يشارك المتنبي َء فيها ٌ‬
‫قدم في البيت وأخر حتى أحدث‬
‫الرابع تحديدا‪ .‬يقول تعليقا على تركيب المطلع السابق ‪ ":‬فقد ّ‬
‫الخلل المقصود‪ ،‬وانه لخلل غريب يكشف جانبا من المهنة عند شعراء القرن الرابع‪ ،‬إذ كانوا‬
‫يلجؤون إلى مثل هذا االرتباك في ترتيب ألفاظ البيت فيحدثون هذا الخلل الذي يمكن أن‬
‫نسمي موسيقاه باسم " الموسيقى ذات النشاز "‪.2‬‬

‫لكن المتنبي وشعراء ذلك القرن المتأخر من العصر العباسي‪ ،‬إنما كانوا يسيرون على‬
‫طريقة اختطها لهم شعراء متقدمون من ذلك العصر‪ .‬على رأسهم أبو تمام الذي ذهب كل‬
‫مذهب في بعثرة عناصر القول في البيت‪ ،‬غير مكترث " ‪ ...‬بمقتضيات البنية اللغوية‬

‫‪ 1‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.320 .‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.326.‬‬
‫‪142‬‬
‫فيفصل مثال بستة أبيات بين المبتدإ والخبر‪ ،‬أو بين المشبه والمشبه به ‪ ،1" ...‬وهو مما‬
‫ُيجهد ُّ‬
‫الشراح في استخراج معاني أبياته ومقاصده‪ ،‬حتى إنهم ليجنحون إلى تأويل أبياته‬
‫وتفسيرها بما قد ال يسمح به ظاهر العبارة‪.‬‬

‫من ذلك قوله في أحد المطالع‪:‬‬


‫َو َك َفى َعلَى ُرْزئِي بِذا َ‬ ‫ت َح ِم َ‬
‫‪2‬‬
‫هيدا‬
‫ك َش َ‬ ‫يدا‬ ‫الجميع لَقَ ْد َع َف ْو َ‬
‫ِ‬ ‫طَل َل‬
‫فقد ذهب اآلمدي إلى أن في المطلع قلبا معيبا‪ ،‬لتصوره أن المعنى " وكفى بأنه مضى‬
‫مضي الطلل حميدا قد ولّى‬
‫ّ‬ ‫ئت "‪ ،‬ويرى هذا المعنى فاسدا‪ ،‬ألن‬
‫حميدا‪ ،‬شاهدا على أني ُرز ُ‬
‫مشاهدا معلوما‪ ،‬وال تصلح إقامة المنقضي شاهدا على ما لم‬
‫َ‬ ‫وانقضى‪ ،‬ورزؤه هو ما يزال‬
‫ينقض بعد‪ ،‬وانما الصحيح هو العكس‪ ،‬بحيث تكون مرزئته شاهدا على حمده للطلل‪ .‬فيكون‬
‫الترتيب الصحيح بناء على هذا هو " وكفى برزئي شاهدا على أنه مضى حميدا "‪ .3‬ويلزم‬
‫من هذا أن " رزئي " هو فاعل " كفى " على زيادة حرف الجر الباء‪.‬‬

‫يرجح ما ذهب إليه اآلمدي‪ ،‬ويوحي بأنه يفتئت على الشاعر‪.‬‬‫لكن ظاهر العبارة ال ّ‬
‫الفهم كثير من ُش ّراح شعر أبي تمام‪ ،‬منهم الخطيب التبريزي الذي يقول‬
‫لذلك رد عليه هذا َ‬
‫عفوت محمودا لِما كنا نجد ممن كان يسكنك من المساعدة‪ ،‬وكفى‬
‫َ‬ ‫في شرح المطلع ‪ ":‬أي‬
‫بعفُِّوك‪ ،‬أي ُعفُّوك يكفي من أن أستشهد على رزئي فيك بفراق أهلك‬ ‫على رزئي شاهدا ُ‬
‫‪4‬‬
‫العفُّو المفهوم من السياق هو فاعل‬
‫‪ . "...‬وعلى هذا التخريج يكون " ذاك " المشار به إلى ُ‬
‫"يكفي " على زيادة الباء‪ .‬واذا صح هذا فـ" ال قلب في نظم الكالم‪ ،‬وال فساد بين أجزائه ‪...‬‬

‫‪ 1‬السيد حممد ديب‪ :‬الغموض يف شعر أيب متام‪ ،‬دار الطباعة احملمدية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،6999 ،6.‬ص‪.72.‬‬
‫‪ 2‬أبو تمام‪ :‬الديوان بشرح الخطيب التبريزي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1811 ،5.‬م‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.205 .‬‬
‫‪ 3‬أبو القاسم اآلمدي‪ :‬املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.467 .‬‬
‫‪ 4‬أبو متام‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.202 .‬‬
‫‪143‬‬
‫وأن المعنى ال يتجاوز إرادة أبي تمام في اتخاذ حال الطلل شاهدا على حاله‪ ،‬وان تم ذلك في‬
‫صورة من التعبير القلق المضطرب"‪.1‬‬

‫البيت‪ ،‬وكشف عن المعنى الذي فهمه في غير معرض‬‫َ‬ ‫قدم قراءته‬


‫ولو أن اآلمدي ّ‬
‫العيب والطعن على أبي تمام‪ ،‬ونافح عن الشاعر مق ار بحقه في الذهاب إلى مثل هذه‬
‫المعاني الدقيقة والغريبة‪ ،‬لكنا ربما أمام ناقد أكثر بص ار بالرؤية الشعرية‪ ،‬ينقّب في مستوى‬
‫آخر من الشعرية يمكن أن نطلق عليه " شعرية المعنى "‪ ،‬التي ال شك أن التغريب من أهم‬
‫خصائصها‪ .‬لكن اآلمدي يح ّكم هنا تشقيقات المناطقة‪ ،‬إضافة إلى صدوره غير الخفي عن‬
‫عمود الشعر العربي وتقاليده في المعاني‪.‬‬

‫أصح هذا التقدير أو ذاك‪ ،‬فإن أبا تمام في شعره‪ ،‬وتطلبه المعاني الغريبة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وسواء‬
‫المحرضة على القراءة الغريبة كقراءة اآلمدي السابقة‪ ،‬يبقى مؤسسا لما سماه أدونيس "شعرية‬
‫ّ‬
‫الكتابة "‪ ،‬وهي الطريقة التي استحدثها الشعراء المحدثون في العصر العباسي‪ ،‬في مقابل‬
‫"الشعرية الشفوية " البسيطة الموروثة عن الجاهلية‪ .‬ومن أبرز ركائز هذه الشعرية الجديدة‬
‫غموض المعاني ودقتها‪.2‬‬

‫على أن التقديم والتأخير عند المتنبي قد ال يبلغ ذلك المبلغ من االزياح والشذوذ‪،‬‬
‫فيكتفي منه بتغييرات موضعية مألوفة‪ .‬ومع ذلك يخرج البيت في الذروة من الصناعة‬
‫الشعرية‪ ،‬ومطلع ميميته الطائرة الصيت من هذا القبيل‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫الع َزائِ ُم‬ ‫ِ‬ ‫علَى قَ ْد ِر أ ْ ِ‬
‫الع ْزِم تَأْتي َ‬
‫‪3‬‬
‫الم َك ِارُم‬
‫وتَأْتي علَى قَ ْد ِر الكرام َ‬ ‫َهل َ‬

‫‪ 1‬السيد حممد ديب‪ :‬الغموض يف شعر أيب متام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.72.‬‬
‫‪2‬أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،4000 ،3.‬ص‪.22-23 .‬‬
‫‪ 3‬المتنبي‪ :‬الديوان بشرح العكبري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.311 .‬‬
‫‪144‬‬
‫المتفجرة من هذه القصيدة‪ ،‬ويحشدها قبل أن تُبسط‬‫ّ‬ ‫مطلع يستجمع ك ّل الطّاقة ال ّشعرية‬
‫على سائر األبيات‪ ،‬وقد توفّرت له جميع ال ّشروط المطلعية التي ّنبه إليها البالغيون القدماء‬
‫حجة‪ .‬وهو ما جعل أكثر أصحاب الكتب البديعية‬ ‫الدين الحلي وابن ّ‬
‫كما رأينا عند صفي ّ‬
‫يسوقونه أنموذجا لبراعة االستهالل‪ ،‬السيما تناسب القسمين الذي لم ُيوفق إليه امرؤ القيس‬
‫في مطلع معلّقته حسب رأي ابن أبي اإلصبع ‪.‬‬

‫النسبة الجمالية‪ ،‬المرتبطة‬


‫توزع ّ‬
‫المتنبي هذا مكافئ لصدره من حيث ّ‬
‫ّ‬ ‫فعجز مطلع‬
‫بكثافة المعاني‪ ،‬التي ارتكز عليها ابن أبي اإلصبع في نقده لمطلع امرئ القيس‪ ،‬ومن حيث‬
‫توزع األصناف اللّغوية المستخدمة فيهما‪ ،‬فالمرّكب الفعلي " تأتي العزائم " يقابله مثله في‬
‫ّ‬
‫مكرر في ك ّل قسم‪،‬‬
‫"تأتي المكارم "‪ ،‬والمرّكب غير اإلسنادي (الجار والمجرور) " على قدر " ّ‬
‫ثم دخولهما في عالقة اإلضافة التي تحيلهما إلى مرّكبين آخرين " على قدر أهل‪ ،"...‬و"على‬
‫ّ‬
‫األول بعنصر ثان (مضاف ثان)‪ ،‬هو " أهل "‪ ،‬ليدخل في العالقة‬ ‫قدر الكرام‪ " ...‬مع زيادة ّ‬
‫أن‬
‫نفسها مع " العزم "‪ .‬وهكذا يكون مرّكبا مزدوجا‪ ،‬ولكن هذا ال ُيخ ّل بالتّناسب بسبب ّ‬
‫أما المرّكب‬
‫األول إلى اسم مقترن باأللف والالّم‪ّ ،‬‬
‫المرّكب اإلضافي في العجز أضيف جزؤه ّ‬
‫مجرد منها " أهل " فكان التّعويض بإلحاقه إلى المقترن‬
‫األول فأضيف إلى اسم ّ‬
‫في ال ّشطر ّ‬
‫بها‪ " :‬العزم "‪.‬‬

‫العجز أكثر انسجاما‬


‫أن ُ‬ ‫أما عن البنية التّركيبية وتموضع عناصرها فيها‪ ،‬فنالحظ ّ‬
‫ّ‬
‫النحوي) للجملة العربية‪ ،‬ويتّضح ذلك بتقويض بنية المطلع‬
‫القاعدي ( ّ‬
‫ّ‬ ‫وتماشيا مع التّرتيب‬
‫ثم إعادة بنائها على َسنن الجملة النمطية‪ ،‬حسب قاعدة المسند فالمسند إليه في‬
‫التركيبية ّ‬
‫الجملة الفعلية‪ ،‬والمسند إليه فالمسند في الجملة االسمية‪ ،‬فيكون الترتيب األصلي هكذا "تأتي‬
‫العزائم على قدر أهل العزم‪ ،‬وتأتي المكارم على قدر الكرام "‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫نحول‬
‫ولتسهيل معرفة التموضع األصلي وما أصابه من تغيير في البنية الجديدة‪ّ ،‬‬
‫عناصر هذا التّركيب إلى بنية رقمية بحيث يأخذ ك ّل عنصر لساني ‪ -‬منظو ار إليه في ترتيبه‬
‫الرياضية‪ ،‬فيكون الحاصل هكذا‪:‬‬‫اإلسنادي (الجملة)– مقابله من األرقام في البنية ّ‬

‫(تأتي) (العزائم) (على قدر أهل العزم) و(تأتي) (المكارم) (على قدر الكرام)‬

‫‪3‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬

‫أما البنية التركيبية الجديدة في المطلع فهذا حاصلها‪:‬‬


‫ّ‬
‫(على قدر أهل العزم) (تأتي) (العزائم) و(تأتي) (على قدر الكرام) (المكارم)‪.‬‬
‫‪0‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪3‬‬

‫نالحظ انتقال البنية األصلية من ال ّشكل (‪ )3 .0 .0( ،)3 .0 .0‬إلى ال ّشكل‪:‬‬


‫األول‬
‫تقدم فيه العنصر الثالث على ّ‬
‫الصدر فقد ّ‬
‫فأما ّ‬‫(‪ّ ، )0 .3 .0( ،)0 .0 .3‬‬
‫األول على ترتيبه‬
‫أما العجز فقد بقي فيه العنصر ّ‬
‫والثاني الباقيين على ترتيبهما األصلي‪ ،‬و ّ‬
‫في حين تبادل العنصران الثاني والثالث موقعيهما‪ ،‬هذا إذا نظرنا إلى التّرتيب الجديد بإزاء‬
‫ولكننا إذا رّكزنا على العنصر الثّالث في التّرتيب الجديد رأينا ّأنه‬
‫التّرتيب األصلي عموما‪ّ ،‬‬
‫األول‬
‫متوسطا بين ّ‬‫ّ‬ ‫الصدر ليكون ثانيا في العجز‬
‫األول الذي احتلّه في ّ‬
‫انتقل من المح ّل ّ‬
‫والثّاني‪.‬‬

‫ألن استعادة‬
‫الصدر‪ّ ،‬‬
‫ذلك كلّه يجعل العجز أقرب إلى البنية اإلسنادية األصلية من ّ‬
‫األول‪ ،‬يحوج إلى تأخير العنصر الثالث بمنزلتين‪ ،‬حسب بنية المطلع‬
‫هذه البنية في القسم ّ‬
‫المستجدة‪ ،‬بينما يمكن ذلك في القسم الثاني بتأخيره بمنزلة واحدة فقط‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪146‬‬
‫للصدر يناسب عظمة الحدث‬ ‫ُبعد هذا العنصر عن محلّه بمرحلتين في التّركيب الجديد ّ‬
‫يفسره بقوله‬ ‫النصر على الروم‪ ،‬وينطق بفرادة م ِ‬
‫همته‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫وبعد ّ‬
‫الدولة ُ‬
‫حدثه سيف ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫المتمثّل في ّ‬
‫في بيت الحق‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫ض ِارُم‬ ‫ف َّ ِ‬ ‫ُي َكلِّ ُ‬
‫الخ َ‬
‫وش َ‬‫الج ُي ُ‬
‫ت َع ْنهُ ُ‬
‫َوقَ ْد َع َج َز ْ‬ ‫ش َه َّمهُ‬
‫الج ْي َ‬
‫الد ْولَة َ‬ ‫ف َس ْي ُ‬

‫وقصرت دون بلوغ أربه‪،‬‬


‫ّ‬ ‫همة األمير الهمام‬
‫فإذا عجزت الجيوش الكثيرة عن الرقي إلى ّ‬
‫بد‬
‫فال عجب أن يعجز التّركيب اللّغوي التّقليدي الخاضع للقواعد حين التّعبير عن ذلك‪ .‬فال ّ‬
‫األول الذي‬
‫إذاً من خلخلته واخراجه في نظم جديد يتّسع للمقصود‪ ،‬خصوصا في ال ّشطر ّ‬
‫يسبق إلى قرع األذن‪ ،‬ليعود بعد ذلك إلى االنتظام في ال ّشطر الثاني ولكن بالتّدريج‪ :‬يزحزح‬
‫حيزه األصلي وال تُحلّه فيه مباشرة‪،‬‬
‫تقربه من ّ‬
‫المتجول بدرجة واحدة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫المتحرك أو‬
‫ّ‬ ‫العنصر‬
‫قررها البديعيون‬
‫تجنبا لطفرة مفاجئة تحدث فجوة في بنية المطلع‪ ،‬وتُخ ّل بقاعدة التّناسب التي ّ‬
‫ّ‬
‫بين قسميه‪.‬‬

‫ويعلق الدكتور حلمي مرزوق على النمط التركيبي في هذا البيت‪ ،‬نافيا أن يكون ذلك‬
‫اعتباطا أو بدافع الوزن‪ ،‬فيقول ‪ ":‬وال يقال إن التقديم هنا جاء من أجل الوزن‪ ،‬ألن هذه‬
‫التهمة إذا جازت في وسط القصيدة ‪ ،‬ال تجوز‪ -‬قط ‪ -‬في مستهلها‪ ،‬ألن الشاعر يكون في‬
‫سعة من أمره في أول القصيدة‪ ،‬وكان في وسعه أن يعدل إلى ما يشاء من القوافي‪ ،‬وانما‬
‫التعليل الحق أن ذلك من عمل اإلحساس الفني البالغ عند الشاعر[‪ ]...‬فالمتنبي يصدر عن‬
‫إحساس بالعزم بالغ العمق‪ ،‬واال كيف تفسر هذا النصر‪ ،‬وسيف الدولة في قلة قليلة إزاء هذه‬
‫الكثرة الكاثرة من الروم‪ ،‬اللهم إال بالعزم و الهمة واالجتراء‪ ،‬وبجميع ما شابه ذلك من‬
‫الخصال التي تعوض الناس عن العدة و العتاد "‪.2‬‬

‫‪ 1‬المتنبي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.318 .‬‬


‫‪ 2‬حلمي مرزوق‪ :‬يف فلسفة البالغة العربية علم البيان‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬مصر‪4002 ،‬م‪ ،‬ص‪.32.‬‬
‫‪147‬‬
‫المتأمل‬
‫ّ‬ ‫يضاف إلى ما في المطلع من خصوصية في البنية التركيبية التي تستوقف‬
‫فلما كان موضوعها‬‫فيه‪ ،‬ما فيه من داللة على الغرض الذي بنى عليه ال ّشاعر قصيدته‪ّ ،‬‬
‫تضمن مطلعها ألفاظا موحية بذلك‪ ،‬كالعزائم والمكارم ومناسبتها ألقدار‬
‫ّ‬ ‫الحرب والفتح‪،‬‬
‫المقدمة التقليدية القائمة على الغزل ووصف األطالل‪ ،‬ومناسبة المطلع‬
‫أصحابها‪ ،‬بعيدا عن ّ‬
‫أهم ما تواضع عليه البالغيون القدماء فيما‬
‫لموضوع القصيدة وايحاؤه بغرض ال ّشاعر من ّ‬
‫سموه " براعة المطلع "‪.1‬‬
‫ّ‬

‫وشاعر حماسة وحرب كالمتنبي‪ ،‬ال يخلو التقديم والتأخير عنده من نزعة الهجوم على‬
‫األعداء والخصوم‪ .‬فالرسائل التي يوجهها ملك الروم إلى سيف الدولة ليست رسائل في‬
‫حقيقتها‪ ،‬فهي ليست كمعهود الرسائل بين الملوك في سلمهم وحربهم‪ ،‬بل هي بمنزلة الدروع‬
‫يسوف يها ويشغل سيف الدولة‪ ،‬ويؤجل صولته عليه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ِ ‪2‬‬
‫َي ُرُّد بِهَا َع ْن َن ْف ِس ِه َوُي َشاغ ُل‬ ‫الر َسائِ ُل‬
‫وم َه ِذي َّ‬ ‫ُد ُروعٌ لِ َم ْل ِك ُّ‬
‫الر ِ‬
‫كل ذلك في أسلوب قصر طافح بالسخرية واالستخفاف‪.‬‬

‫وكظاهرة التقديم والتأخير‪ ،‬تمنح ظاهرة الحذف المتكلم حق التصرف في التركيب‬


‫تتمان على المستوى التركيبي‪.‬‬
‫القاعدي‪ ،‬فالظاهرتان تلتقيان في كونهما عمليتين إجرائيتين ّ‬
‫وتفترقان في أن التقديم والتأخير تصرف موضعي يتناول تراتبية العناصر في هيكلة الجملة‪،‬‬
‫الكمية‪ ،‬بحيث يتم بواسطته‬
‫أما الحذف فهو تصرف في المستوى نفسه‪ ،‬ولكن من الناحية ّ‬
‫تقليل التكثيف اللغوي في الجملة‪ .‬أو بتعبير آخر " إذا كان التقديم والتأخير يعتمد على‬
‫ترتيب األلفاظ داخل النص فإن الحذف يعتمد على الحضور والغياب للعناصر اللغوية [ ‪]...‬‬

‫‪ 1‬صفي الدين احللي‪ :‬شرح الكافية البديعية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.27.‬‬


‫‪ 2‬المتنبي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.114 .‬‬
‫‪148‬‬
‫أي أنه غياب اللفظ دون المعنى‪ ،‬وبمعنى آخر إنه يغيب عن البنية السطحية دون البنية‬
‫العميقة "‪.1‬‬

‫وقد تنبه عبد القاهر الجرجاني إلى أن الحذف يكون أحيانا إجراء توجيهيا‪ ،‬وحيلة‬
‫استباقية يلجأ إليها المتكلم لحمل السامع على الوقوع على المعنى المراد رأسا‪ِّ ،‬‬
‫وسد الباب‬
‫أمام ما قد يتبادر إلى ذهنه من أوهام تهيم به في وديان ٍ‬
‫معان غير مقصودة‪ ،‬قبل االنتهاء‬
‫إلى المعنى المراد‪ " .‬وذاك أن من حذق الشاعر أن ُيوِقع المعنى في نفس السامع إيقاعا‬
‫يمنعه به من أن يتوهم في بدء األمر شيئا غير المراد‪ ،‬ثم ينصرف إلى المراد "‪.2‬‬

‫ولتوضيح الفكرة يسوق قول البحتري‪:‬‬


‫ِ‪3‬‬
‫ظم‬ ‫وسورِة أيام ْ‬
‫حززَن إلى الع ْ‬ ‫َ‬ ‫ام ِل َح ِاد ٍث‬ ‫ِ‬
‫ذدت عني م ْن تَ َح ُ‬
‫َو َك ْم َ‬
‫اللحم إلى العظم "‪ ،‬ثم‬
‫َ‬ ‫فيفسر معناه على حذف مفعول به للفعل " حززن‪ ،‬واألصل " حززن‬
‫يدرس ما تولد في بنية معناه بسبب هذا الحذف‪ ،‬فيقول‪ ... ":‬ومعلوم أنه لو أظهر المفعول‬
‫فقال‪ ،‬وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم لجاز أن يقع في وهم السامع – إلى أن يجيء إلى‬
‫قوله‪" :‬إلى العظم"‪ -‬أن الحز كان في بعض اللحم دون كله‪ ،‬وأنه قطع ما يلي الجلد‪ ،‬ولم‬
‫ينته إلى ما يلي العظم‪ .‬فلما كان كذلك ترك ذكر اللحم‪ ،‬وأسقطه من اللفظ ُليبرئ السامع من‬
‫هذا الوهم‪ ،‬ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف الفهم‪ ،‬ويتصور في نفسه من أول األمر‬
‫يرده إال العظم "‪.4‬‬
‫أن الحز مضى في اللحم حتى لم ّ‬

‫‪1‬‬
‫عمان‪ /‬عامل‬
‫سامي حممد عبابنة‪ :‬التفكري األسلويب رؤية معاصرة يف الرتاث النقدي والبالغي يف ضوء علم األسلوب احلديث‪،‬جدارا للكتاب العاملي‪ّ ،‬‬
‫الكتب احلديث‪ ،‬إربد‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪4007 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.404.‬‬
‫‪ 2‬عبد القاهر ااجرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.674.‬‬
‫‪ 3‬الديوان‪ ،‬صدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.418 .‬‬
‫‪ 4‬عبد القاهر ااجرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصد سابق‪ ،‬ص‪. 172.‬‬
‫‪149‬‬
‫وكان ابن جني قد اختص هذه الظاهرة في العربية بتسمية طريفة وهي " شجاعة‬
‫العربية "‪ ،‬وسلك فيها إلى جانب الحذف‪ ،‬الزيادة‪ ،‬والتقديم‪ ،‬والتأخير‪ ،‬والحمل على المعنى‪،‬‬
‫والتحريف‪.1‬‬

‫وبين احتفاء العرب به قائال ‪ ":‬هو ج ّل مقصود العرب‬


‫فسماه االختصار‪ّ ،‬‬
‫أما السيوطي ّ‬
‫وعليه مبنى أكثر كالمهم "‪.2‬‬

‫إن الحذف في كالم العرب هو وجه من وجوه االقتصاد اللغوي‪ ،‬القائم على أن خير‬
‫وجه بلغاء العرب جانبا عظيما من اهتمامهم إلى تخير‬
‫الكالم ما قل ودل‪ ": ،‬من أجل ذلك ّ‬
‫األلفاظ واحكام نسجها‪ ،‬بمقدار ما تؤدي صور المعاني وتضعها في نفس السامع الموضع‬
‫الالئق بها من اإلعجاب والقبول"‪.3‬‬

‫وبناء على ذلك فغير الزم لصحة الكالم وجودته‪ ،‬وضع صورة لفظية لكل جزء من‬
‫معناه التركيبي النهائي " بل مدار حسن البيان على أن تصير صور المعاني في نفس‬
‫المخاطب بحالها التي كانت عليها في نفس المتحدث بها‪ ،‬وسواء بعد هذا أكانت األلفاظ‬
‫مفصلة على قدر المعاني في الكثرة والقلة‪ ،‬أم كانت المعاني فوق ما تدل عليه األلفاظ‬
‫بحسب أوضاعها اللغوية "‪.4‬‬

‫‪ 1‬ابن جين‪ :‬اخلصائص‪ ،‬مصدر سابق‪.222 ،‬‬


‫‪ 2‬جالل الدين السيوطي‪ :‬األشباه والنظائر يف النحو‪ ،‬حتقيق حممد عبد القادر الفاضلي‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪6999 ،6.‬م‪ ،‬ج‪،6.‬‬
‫ص‪.39.‬‬
‫‪ 3‬حممد اخلضر حسني‪ :‬بالغة القرآن‪ ،‬الدار احلسينية للكتاب‪ ،‬القاهرة‪6997 ،‬م‪ ،‬ص‪.76-70.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬ص‪.76 .‬‬
‫‪150‬‬
‫وقد انبنى على هذا التوجه في كالم العرب‪ ،‬أحد أهم أعمدة البالغة العربية القديمة‬
‫إنهاء‬
‫ُ‬ ‫وهو اإليجاز‪ ،‬ومن وجوهه إيجاز الحذف‪ ،‬فمن قناعتهم بأن المطلوب من المتكلم‬
‫المعنى الذي في خاطره إلى المستمع ‪ ... ":‬نشأ فن اإليجاز بوجه عام‪ ،‬وكان للحذف في‬
‫كالمهم مجال ذهب فيه علماء النحو والبيان كل مذهب‪ ،‬وتقلبوا في كل شعبة من‬
‫شعابه ‪.1" ...‬‬

‫وبدهي أن مثل هذا اإلجراء يتطلب الثقة‪ :‬ثقة المتكلم بقدرة السامع على ملء الفراغ‬
‫َ‬
‫الذي يخلفه الحذف في الكالم‪ .‬ويزداد توارد الحذف طردا وعكسا تبعا لحجم هذه الثقة‪ ،‬فكلما‬
‫زادت هذه الثقة زاد الحذف‪ ،‬وكلما قلّت تجافى عنه المتكلم وأق ّل منه في كالمه‪ .‬إضافة إلى‬
‫االطمئنان إلى داللة الهيئات والمقام‪ ،‬ففي كالم العرب يكون االعتماد " ‪ ...‬على ثقافة‬
‫السامع وما يغني غناء األلفاظ من أحوال ولو كانت خارجة عن مقتضيات الكلم وهيئة‬
‫تأليفها‪ .‬فاطّراح كثير من األلفاظ مع القصد إلى إفادة مدلوالتها اللغوية‪ ،‬ال يمس بفصاحة‬
‫الكالم وال يقدح في بالغته‪ ،‬ما دام الكالم منسوجا على المنوال الذي ينسج عليه الفصحاء‪،‬‬
‫وما دامت المعاني التي يراد نقشها في نفس المخاطب سالمة من أن تصل إلى النفس‬
‫مختلة الهيئة‪ ،‬أو مبتورة بعض األجزاء "‪.2‬‬

‫عد الحذف من االنزياحات التركيبية‪َ ،‬مثله مثل التقديم والتأخير‪ ،‬طالما أن‬
‫ومن الممكن ّ‬
‫الحذف ظاهرة تناسبية ال تُرصد إال في داخل سلسلة القول أو شبكة العالقات القائمة بين‬
‫عناصر الكالم‪ ،‬والتي تحوج إقامتها إلى تقدير المحذوفات‪ .‬غاية من هناك من فرق بينهما‬
‫أن الحذف انزياح كمي‪ ،‬والتقديم والتأخير انزياح موقعي‪.‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.74.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫واذا كان لكل انزياح أصل أو نمط يتخذ من العدول عنه صفته االنزياحية‪ ،‬فإن هذا‬
‫األصل بالنسبة إلى الحذف هو ِّ‬
‫الذ ْكر‪ .‬وهنا يجب له ما يجب ألي إجراء أسلوبي من ضرورة‬
‫تبرر العدول به عن األصل‪ " .‬فالحذف انحراف عن األصل‬ ‫اشتماله على فضيلة أسلوبية ّ‬
‫أي انحراف‪ ،‬ولكنه االنحراف الذي يثري الداللة‪ ،‬ويكون له من‬
‫الذي هو الذكر‪ ،‬وليس هو َّ‬
‫األثر على المتلقي ما ال يكون للتركيب حال الذكر"‪.1‬‬

‫وكما كان من لوازم الحذف ‪ -‬من حيثية كونه انزياحا ‪ -‬أصل ينزاح عنه‪ ،‬كان من‬
‫لوازمه ‪ -‬من حيثية ملء الف ارغ الذي تركه ‪ -‬التقدير‪ ": ،‬وال خالف بين النحاة في إقرار‬
‫الحذف من حيث المبدأ‪ ،‬وال في ضرورة تقديره‪ ،‬للوصول إلى المعنى‪ ،‬أو لغير ذلك من‬
‫المقدر‬
‫مقتضيات الصيغ والتراكيب‪ ،‬ولكنهم قد يختلفون في بعض المواضع‪ ،‬أو في ّ‬
‫المحذوف‪ ،‬أومقداره "‪.2‬‬

‫يالحظ أن للحذف في المطلع نكتة قد ال تكون له في أثناء‬‫وعلى ذكر التقدير َ‬


‫القصيدة‪ ،‬ذلك ألن المحذوف في األبيات الالحقة قد ُيسهّل من عملية تقديره في المعنى ما‬
‫سبق من أبيات‪ ،‬تمثل مرجعية في مالحقة المعنى وملء الفراغ الذي ولّده الحذف‪ ،‬على‬
‫بادر به المستمع‪ ،‬فيتطلب عندئذ أصالة‬
‫خالفه في المطلع الذي هو رأس القصيدة وأول ما ُي َ‬
‫فن عند الشاعر وعبقرية إحساس ودقة فهم عند المتلقي‪ ،‬تم ّكنه من الخوض في التقديرات‬
‫واختيار األنسب منها‪ .‬وهو ما يكسب الحذف في المطلع غرائبية تركيبية‪ ،‬ويفتح المجال‬
‫واسعا في التفاضل عند التقدير‪.‬‬

‫‪ 1‬سامي حممد عبابنة‪ :‬التفكري األسلويب رؤية معاصرة يف الرتاث النقدي والبالغي يف ضوء علم األسلوب احلديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.401.‬‬
‫‪ 2‬عبد ااجليل يوسف بدا‪ :‬الظواهر النحوية والصرفية يف شعر املتنيب‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪4001 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.29.‬‬
‫‪152‬‬
‫والتقدير ما هو إال محاولة لمالحقة المعاني وربط الغائب منها بالحاضر‪ ،‬وهنا تتفاضل‬
‫قدرات المستمع في تقدير المحذوفات تبعا لمواهبه وثقافته‪ ،‬أما إذا كنا أمام نص أدبي فإننا‬
‫عندئذ في معرض البحث عن شعرية التقدير عند دارس النص‪ ،‬في مقابل شعرية الحذف‬
‫عند مبدعه‪.‬‬

‫ي القول هنا إن الناقد أو الشارح وهو يالحق المعاني في متاهات التقدير‪ ،‬تتعلق به‬
‫فحر ّ‬
‫تبعات ال تقل عن تبعات صاحب النص نفسه‪ .‬فالمطلوب أن تكون َّ‬
‫المقدرات في مستوى‬
‫المذكورات من حيث قوة الشعرية‪ .‬ومن هنا كان التقدير مضما ار تختلف فيه وجوه التقدير‬
‫اقع فيه الحذف‪.‬‬
‫وتتفاوت‪ ،‬فيكون أقربها إلى القبول أشكلها بمستوى شعرية مجمل النص الو ِ‬

‫فإذا أُخذ مثال مطلع المتنبي‪:‬‬


‫يك تَ ْج ِد ُ‬
‫ضى أ َْم أل َْم ٍر ِف َ‬
‫بِ َما َم َ‬ ‫ت َيا ِع ُ‬ ‫يد بِأََّي ِة َح ٍ‬
‫ِع ٌ‬
‫‪1‬‬
‫يد‬ ‫يد‬ ‫ال ُع ْد َ‬
‫إما باسم‬
‫عيد " خب ار عن مبتدإ محذوف‪ ،‬يكون تقديره ّ‬ ‫الناحية اإلسنادية اعتبار "‬ ‫أمكن من ّ‬
‫تؤيده‬
‫ضمير المخاطب أي " أنت عيد "‪ .‬وهذا التخريج األخير ّ‬ ‫ِ‬ ‫إشارة أي " هذا عيد "‪ ،2‬أو‬
‫النداء ما هو‬
‫النداء " يا عيد "‪ ،‬و ّ‬
‫صيغة المخاطب في سائر البيت " عدت‪ ،‬فيك "‪ ،‬إلى جانب ّ‬
‫فإن تقديره باسم اإلشارة هنا أبلغ وأكثر اتّساقا مع بنية‬
‫إالّ وجه من المخاطبة‪ .‬ومع ذلك ّ‬
‫المؤسسة على العموم واإلبهام الذي تناسبه أسماء اإلشارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫البيت‬

‫زيادة على ذلك يقتضي تقدير اسم اإلشارة تقدير تابع له‪ ،‬هو بدل من اسم اإلشارة‪ ،‬أو‬
‫معرفا بـ(أل) على ما هي عليه قاعدة تابع اسم‬
‫بد أن يكون ّ‬ ‫عطف بيان له‪ .‬هذا التّابع ال ّ‬
‫اإلشارة‪ ،‬وعندئذ يمكن تقديره بلفظ اليوم أي " هذا اليوم عيد " وهو الظاهر‪ ،‬ويمكن أن يكون‬

‫‪ 1‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪38 .‬‬


‫‪ 2‬اليازجيان‪ :‬العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ج‪ ،4.‬ص‪.391.‬‬
‫‪153‬‬
‫أدق إشارة وأكثر تجاوبا‬
‫المقدر هو العيد " هذا العيد عيد " ‪ ،‬وهذا التّقدير أبلغ داللة و ّ‬ ‫اللّفظ ّ‬
‫يؤدي المعنى‬
‫معرفا بها ّ‬
‫مجرداً من (أل) بعد تقديره ّ‬ ‫أن إيراد " عيد " ّ‬ ‫مع مراد ال ّشاعر‪ ،‬ذلك ّ‬
‫عرف إلى ما ي ِ‬
‫نكر‪ ،‬وما يتبع‬ ‫مما َي ِ‬
‫ُ‬ ‫الدنيا مع ال ّشاعر ّ‬ ‫تبدل أحوال ّ‬ ‫المشار إليه سابقا‪ ،‬أي سرعة ّ‬
‫المتنبي وشعره‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مميزة لحياة‬ ‫حاد باغتراب كان عالمة ّ‬ ‫ذلك من شعور ّ‬
‫‪1‬‬
‫ال إِ َّال لِ َخالِ ِق ِه ُح ْك َـما‬
‫َوالَ قَابِـ ً‬ ‫ب َال ُم ْستَ ْع ِظ ًـما َغ ْي َر َن ْف ِس ِه‬
‫تَ َغ َّر َ‬

‫وكذلك قوله‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫َه َكـ َذا َه َكـ َذا َوِاالَّ فَـ َـال َال‬ ‫الم َعالِي َف ْلَي ْعلُ َو ْن َم ْن تَ َعالَى‬
‫ذي َ‬
‫ِ‬
‫الناحية اإلعرابية الجار والمجرور " هكذا "‪ ،‬يجوز أن يكون نائب مفعول مطلق‬ ‫فمن ّ‬
‫علوا هكذا"‪ ،‬أو‬
‫الصفة مقام المصدر المحذوف‪ ،‬أي " فليعلون ّ‬
‫عامله " فليعلون "‪ ،‬على إقامة ّ‬
‫أن يكون عامله محذوفا استغناء بالسابق أي " هكذا فليعلون "‪ .‬كما يجوز أن يكون خب ار عن‬
‫محذوف أي " هكذا المعالي "‪ .3‬والى جانب تقدير هذه المحذوفات التي يتعلّق بها الجار‬
‫النافية‪،‬‬
‫والمجرور " هكذا "‪ ،‬حذف المنفي وال ّشرط بعد إن ال ّشرطية التي أدغمت نونها في ال ّ‬
‫الزائدة للتّوكيد‪ ،‬كذلك حذف المشار إليه بعد " كذا "‪.‬‬
‫وحذف جواب ال ّشرط بعد ال الثّانية ّ‬

‫التأمل والتّأويل‪ ،‬لما فيها من محذوفات‬


‫بنية تركيبية معقّدة محوجة إلى كثير من ّ‬
‫المتنبي على أكثر أبياته عموما‪ ،‬ومطالعه‬
‫ّ‬ ‫ومتعلّقات كثي ار ما كانت مسحة ُيضفيها‬
‫النظر فيما وراء‬
‫وكأنه يقصد قصدا إلى التّهويل على المستمع ودفعه إلى ّ‬
‫خصوصا‪ّ ،‬‬
‫المطلع من معنى أو قصد‪ .‬ولع ّل هذا التّعنيت كان مبعث راحة عند ال ّشاعر الذي أشار‬
‫صراحة إلى ذلك بقوله‪:‬‬

‫‪ 1‬الديوان بشرح العكبري‪ ،‬مصدر سابق ج‪ ،2.‬ص‪.101 .‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.132 .‬‬
‫‪ 3‬اليازجيان‪ :‬العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.424.‬‬
‫‪154‬‬
‫‪1‬‬ ‫ق ج َّراها وي ْختَ ِ‬
‫ص ُم‬ ‫ام ِم ْل َء ُجفُونِي َع ْن َش َو ِارِد َها‬
‫الخ ْل ُ َ َ َ َ‬
‫َوَي ْسهَ ُر َ‬ ‫أََن ُ‬

‫وقد يقترن حذف ما كان يجب ذكره‪ ،‬بإثبات ما كان يجب حذفه‪ ،‬في ثنائية تضادية‬
‫توحي بالكثير‪ ،‬كإثبات ألف الضمير " أنا " في الوصل‪:‬‬
‫ِِ ‪2‬‬
‫الم َعالم‬
‫ك َ‬ ‫َعلِ ْم ُ‬
‫ت بما بي ْبين تل َ‬ ‫وقت اللَّو ِ‬
‫ائم‬ ‫كنت َ‬
‫إن ُ‬ ‫ِِ‬
‫أنا الئمي ْ‬
‫ففيه حذف " لوم" المضاف إلى اللوائم‪ ،‬وحذف جواب الشرط اكتفاء بالدليل عليه من الكالم‬
‫السابق‪ ،‬في المقابل إثبات ألف " أنا " في الوصل‪.‬‬

‫ولضمير المتكلم حضور الفت في شعر المتنبي يناسب تعاظمه ِ‬


‫وك ْبره‪ ،‬واثبات ألف‬
‫"أنا" التي من الواجب إسقاطها في الوصل ُيحدث مدا غير متوقع‪ ،‬يالئم تضخم األنا عنده‪.‬‬

‫وحذف العامل في نائب المفعول المطلق " بعض " له وقع خاص‪ ،‬وأكثر ما استخدم‬
‫في مواضع الغزل والحب‪ ،‬أو مواجهة الع ّذال عموما الذين يلومون الشاعر في حبه أو‬
‫مدحه‪ ،‬كقول البحتري‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫اء بِالم ْحم ِ‬
‫ود‬ ‫لَ ْيس َذ ُّم الوفَ ِ‬ ‫تاب والتَّ ْفنِ ِيد‬ ‫بعض هذا ِ‬
‫الع ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫‪4‬‬
‫وقد يكون امرؤ القيس من أوائل الذين لفتوا أنظار الشعراء لجمالية هذا الحذف في قوله ‪:‬‬
‫َج ِملي‬
‫ص ْرِمي فَأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوِا ْن ُك ْنت قَ ْد أ َْزَم ْعت َ‬ ‫ض َه َذا التَّ ـ َـدلُّ ِل‬ ‫ِ‬
‫أَفَاط َم َم ْهالً َب ْع َ‬
‫فهل غبط البحتري ام أر القيس وأَ ْكَبر هذا التركيب‪ ،‬ورغب به عن موقعه من المعلقة‪ ،‬فنقله‬
‫إلى مطلع قصيدته حيث يجد المكان األكثر مناسبة لظهور جماليته؟‪ ،‬فالتشابه قريب‪،‬‬
‫والتطابق حتى في المضاف إليه " هذا " بعد " بعض "‪.‬‬

‫‪ 1‬الديوان بشرح العكبري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.361 .‬‬


‫‪ 2‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.660 .‬‬
‫‪ 3‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.341 .‬‬
‫‪ 4‬امرؤ القيس‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.37.‬‬
‫‪155‬‬
‫صدرون قصائدهم بمطالع توحي بمعان تتطلب‬ ‫في ّ‬ ‫وأحيانا يبالغ الشعراء في التغريب‪ُ ،‬‬
‫تقدير محذوف قبل أول كلمة في المطلع‪ ،‬يقول أبو تمام‪:1‬‬
‫ت ِم ْن َك َّ‬
‫الن َوى َما تُ َح ِاولُ ْه‬ ‫لَقَ ْد َبلَ َغ ْ‬ ‫ف ِ‬
‫آهلُ ْه‬ ‫الرْبع ِ‬
‫الذي َخ َّ‬ ‫أج ْل أَُّيهَا َّ ُ‬
‫َ‬
‫ولكن التصدير بحرف الجواب " أجل " ينبئ بأن الشاعر كان في حوار‬ ‫فالحذف غير ظاهر‪ّ ،‬‬
‫الربع‪ ،‬وأن بداية القصيدة بدأت في وجدانه قبل مطلعها‪ ،‬فالتصدير بهذا الحرف‬
‫مسبق مع َّ‬
‫"‪ ...‬ال يمكن أن يكون إال على كالم متقدم‪ ،‬ألن " أجل " في معنى نعم‪ ،‬وال معنى لقولك‬
‫هذه الكلمة إال وقد سبقها كالم من غيرك‪ ،‬فكأنه ادعى أن الربع كلمه وشكا إليه فقال له‪:‬‬
‫أجل أيها الربع "‪.2‬‬

‫َج ْل " أحسن من " َن َعمْ " في التصديق‪ ،3‬فإن الطلل – في خيال الشاعر‬
‫واذا كان " أ َ‬
‫‪ -‬كان في حال شرح وتفصيل لحاله‪ ،‬فما كان من هذا إال أن يتجاوب معه ويصدقّه‪.‬‬

‫أو يسترسلون في الحذف‪ ،‬فيتواتر ويتراكب ويتكثف في شطر واحد كقول المتنبي‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫ألهلِه َو َشفَـى أََّنـى َو َما كـرَبا‬ ‫الرْب ِع َما َو َجَبا‬
‫ضى في َّ‬
‫َد ْمعٌ َج َرى فَقَ َ‬
‫المقدر بالجار والمجرور ( لي) أي " لي دمع "‪ ،‬وحذف عامل الحال‬ ‫الدمع ّ‬ ‫ففيه حذف خبر ّ‬
‫" ّأنى"‪ ،‬ومفعول " شفى "‪ ،‬وخبر الفعل الناقص " كرب "‪ .‬واذا ربطنا مظهر الحذف بتكرار‬
‫السرعة‬
‫أن هذا الحذف مناسب للحركة و ّ‬‫األلف الدالّة على الجريان واالنطالق‪ ،‬علمنا ّ‬
‫خصوصا مع حذف خبر " كرب " الدال على المقاربة‪ ،‬تخفيف يالئم هذه الداللة‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو متام‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.664.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬مادة أجل‪.‬‬
‫‪ 4‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪.108 ،1.‬‬
‫‪156‬‬
‫أو يحذفون ما ال ُمستاغ لحذفه عند النحويين المحافظين‪ ،‬كحذف المتنبي " يا " النداء‬
‫من قوله‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َهذي َب َرْزت لََنا فَ ِه ْجت َر َ‬
‫‪1‬‬
‫يسا‬
‫ثَُّم ْانثََن ْيت َو َما َشفَ ْيت َنس َ‬ ‫سيسا‬
‫رض بحذف عالمة النداء من هذي‪ ،‬وهو غير جائز عند النحويين حتى ذكر‬ ‫" فإنه لم َي َ‬
‫الرسيس والنسيس‪ ،‬فأخذ بطرفي الثقل والبرد "‪ .2‬وبصرف النظر عن المفارقة في جعل‬
‫الحذف أحد أسباب حصول الثقل‪ ،‬مع أن األصل فيه كونه للتخفيف‪ ،‬فإن حذف " يا " وهي‬
‫الوحيدة من أدوات النداء الجائز حذفها في غير هذا الموضع‪ ،‬قد يشير إلى قرب الحبيبة من‬
‫قلب الشاعر‪ ،‬لكون هذه األداة موضوعة أصال لنداء البعيد‪ ،‬ويناسب هذا المعنى اإلشارة‬
‫بـ"ذي" الموضوعة للمشار إليه القريب‪.‬‬

‫الب ْرزة "‪ ،‬اسم مرة من الفعل‬


‫أما أبو العالء المعري فذهب إلى أن المحذوف هو " َ‬
‫" برزت " بعدها‪ُ ،‬حذفت بعد اسم اإلشارة وليس " يا "‪ ،‬والتقدير‪ " :‬هذه البرزةَ برزت لنا"‪.3‬‬
‫وبذلك تصبح " هذي " نائب مفعول مطلق مقدما على عامله‪ ،‬ويحتمل هذا التقدير أن‬
‫سبب له بداية‬
‫المخاطَبة تعودت البروز له‪ ،‬ولكن بروزها هذه المرة لم يكن كسابق العهد‪ ،‬فقد ّ‬
‫ق له إال حشاشةً من روح حين غادرت‪.‬‬ ‫هوى لم ُي ْب ِ‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ج‪ ،4 .‬ص‪.183 .‬‬


‫‪ 2‬يوسف البديعي‪ :‬الصبح املنيب عن حيثية املتنيب‪ ،‬حتقيق‪ :‬مصطفى السقا وحممد شتا‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪6992 ،3.‬م‪ ،‬ص‪.300.‬‬
‫‪ 3‬املتنيب‪ :‬الديوان ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.693.‬‬
‫‪157‬‬
‫اإلسناد الفعلي واإلسناد االسمي‬
‫االسم المسند من حيث الوظيفة‪ ،‬فكل منهما يثبت معناه لما ُيسند إليه‪.‬‬
‫َ‬ ‫يشبه الفع ُل‬
‫ولكنهما بفترقان بعد ذلك في أمرين‪ ،‬أولهما " أن االسم المسند قد يتخلى عن تلك الوظيفة‪،‬‬
‫وذلك حين يشغل موقع المسند إليه فتجرد صيغته للداللة على الشخص أو الذات [ ‪ ] ...‬أما‬
‫الفعل فإنه ال يفارق وظيفته تلك‪ ،‬فهو ال يشغل موقع المسند إليه بحال ‪.1" ...‬‬

‫مكرس لوصف الحدث فحسب‪ ،‬وهو الفرق الذي يلحظه‬ ‫ومعنى هذا أن اإلسناد بالفعل ّ‬
‫المستشرق "رايت" ‪ Wright‬بين الجملة الفعلية والجملة االسمية‪ ،‬فاألولى تصف حدثا‪ ،‬أما‬
‫الثانية فتصف شخصا أو شيئا‪ ،‬ويكون ترتيب الكلمات بطريقة تحقق ذلك‪ ،‬إال إذا كانت‬
‫هناك رغبة في تأكيد قسم من أقسام الجملة‪ ،‬فإن هذا يكفي ألن يكون سببا للتغيير في مواقع‬
‫الكلم‪.2‬‬

‫وثانيهما أنه ‪ -‬كما يفترق اإلسناد بالفعل عنه باالسم من حيث طبيعة الموصوف إذا‬
‫كان ذاتا أو معنى ‪ -‬يفترق عنه من حيث الثبات والتجدد‪ .‬فالشتمال الفعل على داللة الزمن‬
‫اشتماال أصليا‪ ،‬كان الوصف به مرتبطا بالحدوث والتجدد‪ ،‬ولتجرد االسم منها – إال بالتبعية‬
‫للفعل أحيانا – كان داال على ثبات المعنى واستق ارره‪ .‬فاالسم وضع أصال من أجل " ‪ ...‬أن‬
‫ُي َثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا بعد شيء‪ ،‬أما الفعل فموضوعه‬
‫ِ‬
‫المثبت به شيئا بعد شيء "‪.3‬‬ ‫على أنه يقتضي تجدد المعنى‬

‫وهو ما يؤكده فخر الدين الرازي بقوله ‪ ":‬االسم له داللة على الحقيقة دون زمانها ‪...‬‬
‫وأما الفعل فله داللة على الحقيقة وزمانها "‪ ،4‬فالطغرائي في مطلع الميته‬

‫العطَ ِل‬ ‫وحلية الفَ ْ ِ ِ‬


‫ِ‬ ‫ص َانتْنِي َع ِن الخطَل‬
‫ضل زَانتْني لدى َ‬ ‫ْي َ‬
‫الر ِ‬
‫أصالةُ َّأ‬
‫َ‬

‫يجعل أول الصدر والعجز اسما ‪ " :‬أصالة‪ ،‬حلية "‪ ،‬ويجعل الخبر المسند إليهما مركبين‬
‫وعلو همته‪ ،‬رغم أنف‬
‫فعليين ‪ ":‬صانتني‪ ،‬زانتني "‪ ،‬وهو ما يقوم بمعنى ثباته على عزة نفسه ّ‬

‫‪ 1‬حسن طبل‪ :‬املعىن يف البالغة العربية‪ ،‬مرجع سابق‪ :‬ص‪.04.‬‬


‫‪ 2‬نفال عن‪ :‬عز الدين حممد الكردي‪ :‬التقدمي و التأخري يف القرآن الكرمي‪ ،‬دار املعرفة بريوت‪ ،‬ط‪7442 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.53.‬‬
‫‪ 3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.120 .‬‬
‫‪ 4‬فخر الدين الرازي‪ :‬هنابة اإلجياز يف دراية اإلعجاز‪ ،‬حتقيق‪ :‬فكري شيخ أمني‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬ط‪1153 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.131.‬‬

‫‪159‬‬
‫المجن ونقلته من دست الو ازرة إلى السجن‪ ،‬وذلك ما يحمله‬
‫ّ‬ ‫الحوادث‪ ،‬التي قلبت له ظهر‬
‫معنى البيت التالي‪:‬‬

‫س ِفي الطَّ َف ِل‬ ‫الشمس أر َْد الض َحى َك َّ‬


‫الش ْم ِ‬ ‫َّ‬
‫َو ْ ُ َ‬ ‫ير َو َم ْج ِدي أَ َّوال َش َررٌ‬
‫َم ْج ِدي أَ ِخ ا‬

‫وعلوا في الطلوٌ والغروب‪.‬‬


‫إذ الشمس هي الشمس جماال ّ‬
‫ومن األغراض المعروفة تقليديا لإلسناد االسمي الذي يكون خبر المبتدإ فيه تركيبا‬
‫توكيد النسبة وتقويتها كقول المتنبي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫فعليا‪،‬‬

‫َوَاز َل َع ْن َك إِلى أَ ْع َدائِ َ‬ ‫الم ْج ُد ُعوِف َي إَ ْذ ُعوِف َ‬


‫‪1‬‬
‫ك األَلَ ُم‬ ‫يت وال َك َرُم‬ ‫َ‬
‫فغرض التقوية يتحقق بنسبة الحدث مرتين إلى المجد‪ ،‬مرة بكون " المجد " مبتدأ أسندت‬
‫المعافاة إليه بإسنادها إلى ضميره المستتر العائد إليه من الفعل " عوفي "‪ ،‬ثم أسندت إليه‬
‫مرة ثانية لكون التركيب " عوفي " خب ار عنه‪.‬‬

‫وكذلك قوله‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫ال‬ ‫َّب ِر َزموا الَ ِ‬
‫الج َما َ‬ ‫َو ُح ْس َن الص ْ‬ ‫اء لَ ْي َس ُه ُم ْارتِ َحاالَ‬ ‫ِ‬
‫َبقَائي َش َ‬

‫مرة إلى ضميره المستتر العائد إليه من الفعل" شاء"‪،‬‬‫مرتين‪ّ :‬‬


‫وقعت نسبة المشيئة إلى البقاء ّ‬
‫للضمير على سبيل التقوية والتّوكيد‪.‬‬
‫ثم إليه هو نفسه‪ ،‬بوصفه مرجعا ّ‬ ‫ّ‬
‫واستخدم ال ّشاعر " ليس " الذي هو فعل‪ ،‬مكان " ال " حرف النفي العاطف‪ ،‬إذ األصل‬
‫ضمير المنفصل بعد ليس وحقه‬ ‫أن يقول " بقائي شاء ال هم‪ ." ...‬وهذا واضح من وقوٌ ال ّ‬
‫أن ال ّشاعر أخرج الفعل " ليس" من الفعلية إلى‬
‫بالضمير فيقال " ليسوا "‪ .‬والزم هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫االتّصال‬
‫الحرفية‪ ،‬فوضعه موضع " ال " على سبيل التّضمين‪ ،3‬الذي وقع كثي ار في الكالم الفصيح‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.373 .‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.222 .‬‬
‫‪ 3‬قال ابن هشام يف توضيح مفهومه عند النحاة ‪ ":‬قد يُشربون لفظا معىن لفظ فيعطونه حكمه ‪" ...‬انظر مغين اللبيب عن كتب األعاريب‪ ،‬املكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬صيدا – بريوت‪ ،1111 ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.211.‬‬

‫‪160‬‬
‫النحاة كلمة تد ّل على معنى مقترن بزمان‪ ،‬واالسم كلمة تد ّل على معنى‬
‫يعرفه ّ‬
‫والفعل كما ّ‬
‫للربط‪.‬‬
‫أما الحرف فال يد ّل على معنى في ذاته واّنما هو ّ‬
‫الزمان‪ّ ،‬‬
‫مجرد من ّ‬
‫ّ‬
‫الربط في هذا الموضع فقد ذهب الراحلون بالحبيبة ولم يبق للفعل داللة‬
‫وال حاجة إلى ّ‬
‫يسره‪ ،‬حتّى " ليس" هو أصال‬‫على الحدث‪ ،‬فبعد رحيل المحبوبة ال يتوقّع ال ّشاعر حدوث ما ّ‬
‫فعل جامد والجمود انقطاٌ‪ .‬من هنا ح ّل الفعل الدا ّل على ذلك كلّه مح ّل الحرف غير الدا ّل‪،‬‬
‫وجاز أن يقابل الحرف " ال " في ال ّشطر الثّاني‪ .‬ومنه قوله‪:‬‬

‫الدمع ب ْيَنهما ع ِ‬ ‫الح ْزُن ُي ْقلِ ُ‬


‫ق والتَّ َجمل َي ْرَدٌُ‬
‫َو َّ ْ ُ َ ُ َ َ‬
‫‪1‬‬
‫طيعُ‬
‫ص ٌّي َ‬ ‫ُ‬

‫وقد تكون لمواجهة ال مستمع بالتركيب االسمي‪ ،‬وتوكيده عند القدماء في االفتتاح‪،‬‬
‫شعرية تجد نصي ار لها من المحدثين أنفسهم‪ ،‬كبشار بن برد ِ‬
‫إمامهم‪ ،‬في مفتتح قصيدته الذي‬
‫يقول فيه‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫جاح في التَّْب ِك ِ‬
‫ير‬ ‫ك َّ‬
‫الن َ‬ ‫َّ‬
‫إن ذا َ‬ ‫اله ِج ِ‬
‫ير‬ ‫صاجبي ْقب َل َ‬
‫َّ‬ ‫َبك ار‬

‫فقد أورد صاحب األغاني أن خلفا األحمر قال لبشار‪ ":‬لو قلت يا أبا معاذ مكان" إن‬
‫ذاك النجاح في التبكير"‪ ": ،‬ب ّك ار فالنجاح في التبكير " كان أحسن‪ ،‬فقال بشار‪َ :‬بنيتُها أعرابية‬
‫وحشية‪ ،‬فقلت ‪ ":‬إن ذاك النجاح " كما يقول األعراب البديون‪ ،‬ولو قلت ‪ ":‬بك ار فالنجاح "‬
‫الكالم وال يدخل في معنى القصيدة‪ ،‬فقام خلَف‬
‫َ‬ ‫كان هذا من كالم المولدين وال يشبه ذلك‬
‫فقبل بين عينيه "‪.3‬‬
‫ّ‬

‫َوْقفة أخرى من وقفات الحوار النقدي بين بشار والمعقبين على شعره‪ ،‬تكشف عن‬
‫لطافة مدخل ودقة مالحظة وحس بالغي رفيع‪ ،‬وعلم بمذاهب الفصحاء في كالمهم‪ ،‬فهم قد‬
‫أسس عليه خلَف األحمر تركيبه المقترح بديال‬
‫يخرجون بالخطاب عن مقتضى الظاهر الذي ّ‬
‫من قول بشار‪ ،‬إذ ظاهر الحال يقتضي تجريد العبارة في العجز من المؤكدات بما أن ضرب‬

‫‪1‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.262 .‬‬
‫‪2‬‬
‫بشار ين برد‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬دار سحنون‪ ،‬تونس‪ /‬دار السالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪2002 ،2.‬م‪،‬ج‪ ،3.‬ص‪.‬‬
‫‪.221‬‬
‫‪ 3‬أبو الفرج األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1.‬ج‪ ،5.‬ص‪.150.‬‬

‫‪161‬‬
‫إن " مرتقيا به إلى الضرب الطلبي ومعلال ذلك‬
‫صدره بر " ّ‬
‫الخبر فيه ابتدائي‪ ،‬بيد أن بشا ار ّ‬
‫بأنه السلوك اللغوي عند األعراب ومألوف لغتهم " الوحشية "‪.‬‬

‫إضافة إلى ما في باإلشارة بر " ذاك " المجردة من الم البعد‪ ،‬من تخصيص وتوجيه‬
‫نجاح " معهود عند المخاطبين غير بعيد من أنفسهم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عناية إلى "‬

‫وال يخفى ما في هذا التوجه األسلوبي من خطابية تتوقد معها جذوة النبر‪ ،‬ولكنها‬
‫الخطابية التي يتطلبها الموقف الشعري‪ .‬في مقابل الهمس الذي تحمس في الدعوة إليه حديثا‬
‫الدكتور محمد مندور‪ .1‬فالشاعر العربي – غالبا – ما كان يهمس ويجهر‪ ،‬هاديه في ذلك‬
‫وحي الموقف ورائده الوجدان‪ ،‬وربما جمع في البيت الواحد النبرتين معا‪ .‬كما فعل جميل بثينة‬
‫في قوله‪:‬‬

‫الحب‬ ‫ُن َسائِلُ ُك ْم َه ْل َي ْقتُ ُل َّ‬


‫الر ُج َل ُ‬ ‫َأال أيهَا الن َّو ُام َوْي َح ُك ُم ُهبوا‬

‫فقوله " ‪ ...‬أال أيها النوام ويحكم هبوا " " ‪ ...‬أعرابي في شملة‪ ،‬ثم أدركه اللين وضراعة‬
‫الحب فقال‪ :‬نسائلكم هل يقتل الرجل الحب "‪ .2‬هذا وقد كان للروح اإلنشادية المناسبة‬
‫للشفوية في القصيدة العربية القديمة دور فعال في استدعاء الجهر وتغليبه‪.‬‬

‫وللدارس النحوي خيارات في تحديد نوٌ التركيب‪ ،‬عندما يتوجه إلى تقدير ما ُحذف من‬
‫عناصر اإلسناد في الجملة‪ ،‬غير أن للداللة المناسبة لغرض الشاعر وموقفه ورؤيته‬
‫األفضليةَ والمصداقية‪ .‬فله في تقدير المحذوف من قول المتنبي‪:‬‬

‫ِف َراق َو َم ْن فَ َارْق ُ‬


‫ِ‪3‬‬
‫ت َخ ْي ُر ُمَي َّمم‬
‫َوأ ٌَّم َو َم ْن َي َّم ْم ُ‬ ‫ت َغ ْي ُر ُم َذ َّمِم‬

‫أن يجعل قوله‪ ":‬فراق " خب ار عن مبتدإ محذوف‪ ،‬ويجوز رفعه بإضمار فعل‪ ،‬أي حدث‬
‫فراق‪ ،4‬والوجه األول أدل على حياة المتنبي وتقلقلها ومالزمته لفراق كل من أحب‪ ،‬لما يدل‬

‫‪ 1‬حممد مندور‪ :‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،7440 ،‬ص‪.33 .‬‬
‫‪ 2‬أبو علي القايل‪ :‬كتاب األمايل‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا – بريوت‪7440 ،‬م‪ ،‬ص‪.355.‬‬
‫‪3‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.231 .‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫عليه بناء الجملة االسمية من استقرار في الحدث وعدم انقطاٌ‪ .‬وقريب من الوجه األول‬
‫محذوف الخبر أي " لي فراق "‪.1‬‬
‫َ‬ ‫تقديره مبتدأ‬

‫وبحثا عن اإلشارات اللطيفة والمعاني الدقيقة‪ ،‬يجنح الشاعر العباسي إلى استخدام‬
‫تراكيب إسنادية هي من اللغات أو اللهجات النادرة‪ ،‬مع أنه في مندوحة عنها‪ ،‬لوال المعاني‬
‫واإلشارات المقصودة التي ال تظهر إالّ بتوظيف تلك اللهجات‪.‬‬

‫ففي وسع ِد ْعبِل الخزاعي القائل‪:‬‬

‫النطَقَ ِ‬
‫ائح ُع ْج ُم اللَّ ْف ِظ َو َّ‬ ‫الزفَر ِ‬ ‫تَ َجاوْب َن ِ‬
‫نان و َّ َ‬
‫‪2‬‬
‫ات‬ ‫نو ُ‬ ‫ات‬ ‫بأإل ْر ِ‬ ‫َ‬
‫فيكون التركيب االسمي بدل‬
‫َ‬ ‫تغيير موقع المصراعين‪ ،‬بأن ُي ِح ّل الصدر محل العجز والعكس‪،‬‬
‫التركيب الفعلي‪:‬‬

‫نان والزفر ِ‬
‫ات‬ ‫باإلر ِ‬ ‫نوائح ع ْجم اللفظ والنطَ ِ‬
‫تجاوبن ْ‬ ‫قات‬ ‫ُ ُ‬

‫وبذلك يجتنب مشكل لغة " أكلوني البراغيث "‪ ،‬ولكن النحويين لم يعدموا الحيل لتخريج‬
‫هذه اللغة‪ ،‬فمن ذلك جعل " نوائح " بدل من الضمير (نون النسوة) كما هو غالب توجيهات‬
‫النحويين لهذا التركيب‪ .‬أو نوائح خبر عن مبتدأ محذوف تقديره "هن" بتقدير سؤال سائل‪:‬‬
‫حاور للشاعر يبادله‬‫"من هن هؤالء الالء تجاوبن؟ "‪ ،‬وهذا أنسب لكونه يبعث على تخييل ُم ٍ‬
‫تجاوب َن "‪.‬‬
‫ْ‬ ‫التعبير عنه بر "‬
‫َ‬ ‫الكالم‪ ،‬ويخفف عنه شدة الحزن‪ ،‬وهو ما يالئم وضعه الذي بدأ‬

‫ويشبهه في اإليحاء بعنصر المحاورة بالمضمرات والمحذوفات قول أبي العالء المعري‪:‬‬

‫َعفَاف َوا ْق َدام َو َح ْزم َوَنائِ ر ر ُل‬ ‫يل الم ْج ِد ما أََنا فَ ِ‬


‫اع ُل‬ ‫َ َ‬
‫أَ َال في سبِ ِ‬
‫َ‬

‫حذف في الشطرين‪ ،‬فالتقدير في الصدر " ما أنا فاعل إياه "‪ ،‬أو " فاعله "على اإلضافة‬
‫اللفظية‪ ،‬ففيه حذف فضلة‪ .‬والتقدير في العجز " الذي أنا فاعله عفاف ‪ " ...‬ففيه حذف‬
‫عمدة في الكالم‪ ،‬هو المبتدأ المخبر عنه بقوله‪":‬عفاف"‪ .‬أسلوب سؤال وجواب يحمل تقنية‬

‫‪ 1‬اليازجيان‪ :‬العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.575.‬‬
‫‪2‬‬
‫دعبل بن علي الخزاعي‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪2992 ،2.‬م‪ ،‬ص‪.37 .‬‬

‫‪163‬‬
‫المحاورة‪ ،‬ولكنه سؤال من النفس والرد منها‪ ،‬وقد يكون لعمى الشاعر‪ ،‬وهو أحد محبسيه أثر‬
‫في هذا‪ ،‬فهوال يرى غير نفسه‪.‬‬

‫واإلسناد الفعلي إذا كان الفعل فيه مضارعا‪ ،‬أدى معنى التجدد واالستمرار‪ .‬ففي مرثية‬
‫أم سيف الدولة للمتنبي والتي أولها‪:‬‬

‫ون بِال ِقتال‬


‫ِ‪1‬‬
‫الم ُن ُ‬
‫َوتَ ْقتُلَُنا َ‬ ‫الم ْش َرِفّيةَ و َ‬
‫العوالي‬ ‫ِ‬
‫ُنعد َ‬
‫اٌ األزلي بين اإلنسان والموت‪ ،‬ولكن ال حيلة لإلنسان معه‪.‬‬
‫يحمل المضارٌ هنا الصر َ‬
‫لعدوه اإلنسان‪ ،‬ما استطاٌ من قوة ورباط خيل‪ ،‬ليدفع صولته‬‫عد ّ‬
‫يستطيع هذا اإلنسان أن ُي ّ‬
‫ولكن الموت غالب يغتال النفوس بال دعوة إلى قتال‪.‬‬
‫عنه‪ّ .‬‬

‫‪1‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.2 .‬‬

‫‪164‬‬
‫الصــــــــــــــــــــــور‬
‫استطاع عبد القاهر الجرجاني أن يتجاوز القصور‪ ،‬الذي طبع بعض ما تركه‬
‫البالغيون العرب القدماء من دراسات عندما " ‪ ...‬أحال البنى البالغية إلى تراكيب نحوية‬
‫تحتمل هذه الظواهر البالغية "‪.1‬‬

‫ففي مجال الصور مثال‪ ،‬اتصفت الدراسات السابقة لعبد القاهر بالتجزيئية‪ ،‬وعدم‬
‫وضوح الرؤية‪ ،‬فيما يتصل بالعالقة بين البنى النحوية والعبارة اللفظية التي تصاغ فيها كل‬
‫صورة‪ ..." ،‬فقد كان غريبا أن يغيب عن البالغيين – مثال – الربط بين االستعارة وبنية‬
‫الحذف‪ ،‬أو بين التشبيه وبنية ِّ‬
‫الذكر ‪.2" ...‬‬

‫واذا كان التصوير من حيث الصناعة تركيبا أق ّل عناصره طرفان‪ :‬مشبه ومشبه به‪،‬‬
‫بناء على أن التشبيه البليغ هو من أبسط الصور تأليفا في البالغة العربية‪ ،‬فإنه من حيث‬
‫ٍ‬
‫بداية إلى تأزم‬ ‫النشاط النفسي توتر‪ .‬والتوتر يقتضي مرحلية ينتقل فيها الشعور من طور‬
‫ٍ‬
‫وتالش‪.‬‬ ‫فانفراج‬

‫وعليه فإن أليق مواضع القصيدة بالتصوير األبيات الالحقة للمطلع‪ ،‬إذا تصورنا‬
‫ترجم فنيا بكل عناصر البناء الشعري‪ ،‬بما في ذلك الصور‪.‬‬ ‫القصيدة تناميا لتوترات شعرية‪ ،‬ت َ‬
‫ويقتضي ذلك صعوبةَ توقع الصورة في المطلع لكونه نقطة البداية‪ ،‬ونقطة البداية ال تقوى‬
‫على احتواء التوتر‪ .‬فتلك اللحظة ذاتها إنما هي لحظة تجميع الشاعر ألنفاسه من أجل‬
‫لجة القصيدة‪ ،‬ومجازفته بإطالق العنان لمخيلته في المطلع قد تورطه في إهدار‬
‫الغوص في ّ‬
‫النفَس الجمالي‪ ،‬قبل أن يقطع شوطا بعيدا في عملية تخلّق القصيدة‪.‬‬

‫حبر كثير من شعراء العصر العباسي قصائدهم بمطالع َب َغتوا بها المتلقي‬‫ومع ذلك ّ‬
‫بروائع الصور كقول أبي الطيب‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫ـش ع َّـدةٌ للبِ َـر ِاز‬
‫الع ْي ِ‬ ‫َّ‬ ‫َك ِف ِرْن ِدي ِف ِرْند َس ْي ِفي الج َر ِاز‬
‫لَـذة َ‬

‫‪1‬‬
‫محمد عبد المطلب‪ :‬البالغة العربية قراءة أخرى‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬بيروت‪/‬الشركة المصرية العالمية للنشر‪ ،‬لونجمان‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫ط‪1991 ،1 .‬م‪ ،‬ص‪.02-19 .‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.11 .‬‬
‫‪ 3‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2 .‬ص‪.371 .‬‬

‫‪166‬‬
‫يسمى‬
‫الصورة‪ ،‬فيما ّ‬
‫والتشبيه هنا على غير وجهه المألوف‪ ،‬مبني على قلب طرفي ّ‬
‫التّشبيه المقلوب‪ ،‬أو ما سماه ابن جني " غلبة الفروع على األصول "‪ ،‬وعده من فصول‬
‫العربية الطريفة‪ ،1‬وهو " الطرد والعكس " بعبارة ابن األثير‪.2‬‬
‫المتنبي‬
‫ّ‬ ‫ثم إعادة الترتيب الذي يمارسه‬
‫التصرف والتّفكيك‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مظهر آخر من مظاهر‬
‫السيف‬ ‫ِ‬
‫فالمشبه هنا هو ّ‬
‫ّ‬ ‫السيف يشبه فرنده هو ال عكس‪،‬‬‫على مستوى اللّغة القياسية‪ .‬ففرْند ّ‬
‫المشبه به هو ال ّشاعر‪ ،‬فهو المرجع أو المحال إليه‪ .‬وامعانا في هذا المعنى أضاف إلى‬
‫و ّ‬
‫المشبه به (فرندي) الذي هو في األصل المشبه‪ ،‬فاجتمع مع قلب طرفي‬
‫ّ‬ ‫فقدم‬
‫القلب التّقديم‪ّ ،‬‬
‫الصورة قلب التّركيب اإلسنادي " كفرندي فرند سيفي "‪ " ،‬مسند ‪/‬خبر‪ ،‬مسند إليه‪/‬مبتدأ "‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأحيانا يبلغ التكثيف البياني في المطلع عند الشعراء العباسيين درجة يتشبع فيها‬
‫الشطران بالصور‪ ،‬ويصبح المستمع أمام لوحة بصرية مشبعة باأللوان والظالل‪ ،‬يقول‬
‫ابن الرومي‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫اح َورَّمان‬ ‫ِفي ِه َّن َن ْو َع ِ‬
‫ان تفَّ ٌ‬ ‫ان َوكثَْبان‬
‫صٌ‬ ‫ص َل أَ ْغ َ‬
‫الو ْ‬
‫ك َ‬ ‫ت لَ َ‬
‫َجَن ْ‬
‫أْ‬

‫ففي هذا المطلع تتوارد خمس استعارات‪ :‬إذ استعار الشاعر األغصان للقدود‪ ،‬والكثبان‬
‫لألعجاز‪ ،‬والتفاح للخدود‪ ،‬والرمان للنهود‪ ،‬إضافة إلى استعارة الجني للوصل‪ .‬واذا كان ال‬
‫بأس من الصورة من حيث المبدأ‪ ،‬بل ذلك هو المطلوب من حيث كان الشعر أساسا تصوي ار‬
‫وتخييال‪ ،‬ومن حيث كانت االستعارات من أرقى أدوات الخيال‪ ،‬فإن االعتراض قد يطرح من‬
‫حيث كثرة هذه الصور وتواليها‪ ،‬وورودها متراكبة بعضها فوق بعض‪ ،‬وهو ما ي ْسلم إلى‬
‫الغموض‪ ،‬والى غلبة المستعار منه على المستعار له في ذهن المستمع وخياله‪.‬‬

‫فالمجاز إنما يحسن إذا اكتنفته وجوه من التعبيرات الحقيقية تخفف من غلَوائه‪ ،‬وتكون‬
‫كالخلفية‪ ،‬في حين تكون المجازات كالبؤرة‪ .‬السيما أن غالب الصور في هذا البيت من جنس‬
‫واحد وهو االستعارة التصريحية‪ ،‬ويهيمن عليها حقل داللي يتصل بالفواكه التي هي من‬

‫‪ 1‬ابن جين‪ :‬اخلصائص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.241 .‬‬


‫‪ 2‬ابن األثري‪ :‬املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.401 .‬‬
‫‪ 3‬ابن الرومي‪ :‬الديوان‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد األمري علي مهنا‪ ،‬دار ومكتبة اهلالل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪3991 ،2.‬م‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.371 .‬‬

‫‪167‬‬
‫جملة الطعام الذي اشتهر ابن الرومي بنهمه وشرهه إليه‪ ،‬ووصفه لصنوف مختلفة منه في‬
‫شعره‪ ،‬حتى غدا جزء كبير من شعره وصفةَ تحضير حقيقية لعدد من المآكل‪ ،‬وصورة‬
‫واضحة لـ( المطبخ العباسي )‪ .‬ولعل هذا ما جعل أبا بكر الصولي يقول‪ – :‬وقد ذكروا عنده‬
‫هذه القصيدة – "هذه دار البطيخ‪ ،‬فاقرءوا تشبيهاتها تعلموا ذلك! فضحك جميع من حضر"‪.1‬‬

‫وما أشبه هذا التركيب التصويري المستثقل بقول الوأواء الدمشقي‪:‬‬

‫بالبرِد‬ ‫ِ‬
‫وعضت على العَّناب َ‬
‫ّ‬ ‫وردا‬
‫ْ‬ ‫ت‬
‫وسقَ ْ‬
‫س َ‬‫مطرت لؤلؤا ِم ْن َن ْر ِج ٍ‬
‫ْ‬ ‫وأَ‬

‫لكن األمر هناك أشد‪ ،‬لكون هذا التحشيد البياني واقعا في المطلع‪ ،‬وهو ما يؤكد تعمد شعراء‬
‫هذا العهد افتتاح قصائدهم بمطالع صادمة‪.‬‬

‫وللربيعيات والزهريات في شعر هؤالء مجال ذو سعة للتصوير‪ ،‬ولعل رائية أبي تمام‬
‫تحل في الصدر من ذلك‪ .‬ففي مطلعها يتراءى الدهر في حواشيه الرقيقة‪ ،‬وهي تتمرمر‪،‬‬
‫والثرى يخرج حليا من نبات يتكسر لرطوبته‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫َو َغ َدا الثََّرى ِفي َح ْليِ ِه َّ‬
‫يتكســر‬ ‫الد ْه ِر فَ ْه ِي تَ َم ْرَمر‬ ‫ت حو ِ‬
‫اشي َّ‬
‫َرقّ ْ َ َ‬
‫واستعارة رقة الحواشي للدهر مظهر من مظاهر غضارة العيش‪ ،‬التي غرق فيها المجتمع‬
‫العباسي‪ ،‬وانعكاس من ذلك على التصوير الفني في الشعر‪ .‬فالدهر عند شعراء العربية في‬
‫العادة هو مرادف القسوة والمصيبة‪ ،‬وربما أذ َكر هذا بقوله في المدح‪:‬‬

‫ت ِفي أََّنه ب ْرد‪.3‬‬ ‫بكفَّ َ‬


‫يك ما َم َارْي َ‬ ‫الح ْلِم لَ ْو أَ َّن ِح ْل َمه‬
‫ق حواشي ِ‬
‫َرقي ِ َ‬
‫فالتقليد الغالب في وصف ِ‬
‫الحلم عند فحول الجاهلية‪ ،‬ومن جرى مجراهم من الشعراء‬
‫اإلسالميين‪ ،‬هو تمثيله بالجبال كقول الفرزدق‪:‬‬

‫َوتَ َخالَنا ِجنا إِ َذا َما َن ْجهَل‪.1‬‬ ‫أَ ْح َالمَنا تَ ِزن ال ِجَبا َل َرَزَانة‬

‫‪ 1‬احلصري‪ :‬زهر اآلداب ومثر األلباب‪ ،‬مصدر سابق‪ :‬ج‪ ،3.‬ص‪.110.‬‬


‫‪ 2‬الديوان بشرح اخلطيب التربيزي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.393 .‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.11 .‬‬

‫‪168‬‬
‫وفي تصوير أبي تمام لمباهج الربيع‪ ،‬حيوية وحركية امتازت بها تلك الطائفة من‬
‫الشعراء‪ ،‬الذين تَ َش ّكل من مجمل خصائص شعرهم المذهب الشامي‪ ،2‬ومنهم معاصره‬
‫البحتري الذي ي ْشكل أحيانا تمييز أسلوبه عن أسلوب أبي تمام في هذه المعاني وصياغتها‪،‬‬
‫كما في قوله‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫أن َيتَ َكلَّ َما‬ ‫ِم َن الح ْس ِن َحتَّى َك َ‬
‫اد ْ‬
‫طلق ي ْختال ض ِ‬
‫احكا‬ ‫َ‬ ‫الربِيع ال ْ َ‬
‫ك َّ‬‫أَتَا َ‬

‫وال يبعد عنه ابن المعتز في قوله‪:‬‬


‫‪4‬‬
‫ق َعَلى ِ‬
‫الج ْس ِر َب ْرد َّ‬
‫الس َح ْر‬ ‫وَر َّ‬ ‫الربِيع بِ ِط ِ‬
‫يب الب َك ْر‬ ‫ك َّ‬‫أَتَا َ‬
‫َ‬
‫فالتطابق ظاهر حتى في استخدام الفعل " أتى "‪ ،‬واس ِ‬
‫ناده إلى ضمير المخاطب المفرد‪.‬‬
‫وفي استخدام الفعل " أتى " دون " جاء " نكتة لطيفة‪ ،‬أشار إليها الدكتور فاضل صالح‬
‫السامرائي بعد استقراء لمواضع ورودهما في القرآن الكريم‪ ،‬فاستبان له " أن القرآن الكريم‪،‬‬
‫أشق مما تستعمل له ( أتى) "‪.5‬‬
‫يستعمل المجيء لما فيه صعوبة ومشقة‪ ،‬أو لما هو صعب و ّ‬

‫واستشهد لذلك بآيات مما ورد فيها المجيء‪ ،‬وبعض مشتقاته منها قوله تعالى ‪ ﴿:‬فإ َذا‬
‫بالح ِ‬
‫ق ﴾ [ ق‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الموت َ‬‫ت َس ْك َرة َ‬
‫اء ْ‬
‫اء أَ ْمرَنا َوفَ َار التنور ﴾ [ المؤمنون‪ ،‬اآلية‪َ ﴿ ،] 02:‬و َج َ‬ ‫َج َ‬
‫اآلية‪ ﴿ ،] 19 :‬لَقَ ْد ِج ْئ َ‬
‫ت َش ْيئا إِ ْم ار ﴾ [ الكهف‪ ،‬اآلية ‪.] 11‬‬

‫ويتضح الفرق مع اآليات التي وقع فيه التكرار‪ ،‬وكان االختالف باللفظين السابقين‬

‫اها نوِد َ‬
‫ي ‪﴾...‬‬ ‫اءها نوِد َ‬
‫ي ‪ [ ﴾ ...‬النمل‪ ،‬اآلية‪ ،]8 :‬وقوله‪َ ﴿:‬فلَما أَتَ َ‬ ‫كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬فلَما َج َ‬
‫[ القصص‪ ،‬اآلية ‪ ،] 02‬فيفسر ذلك بقوله‪ ... ":‬ذلك أن ما قطعه موسى على نفسه في‬
‫النمل أصعب مما في القصص‪ ،‬فقد قطع في النمل على نفسه أن يأتيهم بخبر أو شهاب‬
‫َقبس‪ ،‬في حين ترجى ذلك في القصص‪ .‬والقطع أشق وأصعب من الترجي‪ .‬وأنه قطع في‬

‫‪ 1‬الفرزدق‪ :‬الديوان‪ ،‬دار بريوت‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪3914 ،‬م‪ ،‬ح‪ ،2.‬ص‪.357 .‬‬
‫‪ 2‬عمر ّفروخ‪ :‬تاريخ األدب العريب‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2006 ،7.‬م‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.42.‬‬
‫‪ 3‬البحرتي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.347 .‬‬
‫‪ 4‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬صنعة أيب بكر حممد بن حيىي الصويل‪ ،‬حتقيق‪ :‬يونس أمحد السامرائي‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪3997 ،3 .‬م‪ ،‬ص‪.326 .‬‬
‫‪5‬‬
‫عمان‪ ،‬ط‪2009 ،5.‬م‪ ،‬ص‪.93.‬‬ ‫فاضل صاحل السامرائي‪ :‬ملسات بيانية يف نصوص من التنزيل‪ ،‬دار عمار‪ّ ،‬‬
‫‪169‬‬
‫النمل‪ ،‬أن يأتيهم بشهاب قبس‪ ،‬أي بشعلة من النار ساطعة مقبوسة من النار التي رآها في‬
‫حين أنه ترجى في القص ص أن يأتيهم بجمرة من النار‪ ،‬واألولى أصعب‪ ،‬ثم إن المهمة التي‬
‫ستوكل إليه في النمل‪ ،‬أصعب وأشق مما في القصص‪ ،‬فإنه طلب إليه في النمل‪ ،‬أن يبلغ‬
‫فرعون وقومه رسالة ربه‪ ،‬في حين طلب إليه في القصص‪ ،‬أن يبلغ فرعون ومأله‪ ،‬وتبليغ‬
‫القوم أوسع وأصعب من تبليغ المإل ‪.1" ...‬‬

‫وفعال فقد أشار الراغب األصفهاني إلى أن اإلتيان " مجيء بسهولة‪ ،‬ومنه قيل للسيل‬
‫ي ‪.2" ...‬‬ ‫المار على وجهه‪ :‬أَتِ ُّي وأ ِ‬
‫َتاو ٌّ‬ ‫ّ‬

‫يقصر المتنبي عن متقدمي هذا العصر في وصف سحر الربيع‪ ،‬بل ربما كانت‬ ‫ولم ّ‬
‫بوان اللوحةَ الفنية الخالدة ضمن الربيعيات‪ .‬ويبدو أن الشاعر جمع‬ ‫ِ‬
‫نونيته في وصف شعب ّ‬
‫كل طاقته الشعرية في سبيل إخراجها ذلك المخرج العبقري‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫يع ِم َـن َّ‬
‫الزَم ِ‬
‫ان‬ ‫بِ َم ْن ِزلَ ِـة َّ‬
‫الربِ ِ‬ ‫الم َغانِي‬ ‫ِّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َم َغاني الش ْعب طيبا في َ‬
‫فالصورة ال ّشعرية تبرز بوصفها العنصر األساسي في بنية هذا المطلع‪ ،‬وطرفا هذه‬
‫ّ‬
‫بوان) قياسا بغيره من األمكنة هو بمنزلة‬ ‫ِ‬
‫الزمني‪( ،‬فش ْعب ّ‬
‫الحيز المكاني والبعد ّ‬
‫الصورة هما ّ‬
‫ّ‬
‫الزمان هو المرجع أو‬
‫الزمان‪ ،‬و ّ‬
‫السنة‪ .‬المكان هنا يعانق ّ‬
‫الربيع) قياسا بغيره من فصول ّ‬
‫( ّ‬
‫مشبها‪.‬‬
‫مشبها به والثاني ّ‬
‫األول ّ‬
‫بالنسبة إلى المكان‪ ،‬باعتبار ّ‬
‫موضع اإلحالة ّ‬

‫السكون ‪/‬‬
‫الزمان – كما هو معلوم ‪ -‬حركة وانتقال‪ ،‬والمكان ثبات واستقرار (المكان= ّ‬
‫وّ‬
‫المتحول في أسر المكان الثابت‪ .‬ولن يكون‬
‫ّ‬ ‫الزمن‬
‫فكأنها محاولة إليقاع ّ‬
‫الزمان= الحركة)‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الزمن ما ال يبلغه هو من نفسه‪.‬‬
‫المتنبي الذي يريد أن يبلغ من ّ‬
‫ّ‬ ‫هذا عجيبا من‬
‫‪4‬‬
‫َما لَ ْي َس َيْبلغه في َن ْف ِس ِه َّ‬
‫الزَمن‬ ‫َن يَبلِّ َغنِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ ِريد م ْن َزَمني َذا أ ْ‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.91 – 97.‬‬


‫‪ 2‬الراغب األصفهاين‪ :‬مفردات ألفاظ القرآن‪ ،‬حتقيق‪ :‬مصطفى بن العدوي‪ ،‬مكتبة فياض‪ ،‬املنصورة‪ ،‬مصر‪2009 ،‬م‪ ،‬ص‪.29.‬‬
‫‪ 3‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.252 .‬‬
‫‪4‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪ .004 .‬وفي رواية " ‪ ...‬من نفسه "‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫مقدسا‪ ،‬بل هي خطّة آنية‬‫الزمان بالمكان ليست حلفا ّ‬
‫المتنبي على ّ‬
‫ّ‬ ‫أن استعانة‬
‫غير ّ‬
‫الزمان‬ ‫ظرفية‪ ،‬ال تد ّل على ّأنه ر ٍ‬
‫اض عن المكان‪ ،‬فهو حرب عليهما معا‪ .‬حتّى لو برز إليه ّ‬
‫في هيئة شخص لقتله‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫ضب َشـعر م ْفرِق ِه حس ِ‬ ‫الزَمان إِلَ َّي َش ْخصا‬
‫ولَ ْو َب َرَز َّ‬
‫امي‬ ‫َ‬ ‫َل َخ َّ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫بالسفر‬
‫السكون‪ ،‬وهو ال يستريح إالّ ّ‬
‫ألن المكان هو اإلقامة و ّ‬
‫فعدو له أيضا ّ‬
‫أما المكان ّ‬
‫وّ‬
‫والحركة‪.‬‬
‫ِ‪2‬‬
‫ـير بِالَ لِثَام‬ ‫ِ‬
‫ـي َوالهَج َ‬
‫ِ‬
‫َوَو ْجه َ‬ ‫َذ َرانِي َوالفَـالَةَ بِالَ َدِليـ ـ ٍـل‬

‫ـاخ ِة َوالمقَـ ِـام‬ ‫وأ َْت َـعب بِ ِ‬


‫اإلَن َ‬ ‫َ‬ ‫َستَ ِريـح بِ ِذي َو َه ـ َذا‬
‫فَِإِّنـي أ ْ‬

‫للزمان‪ ،‬فكالهما فضاء متّسع ال يعرف ّأوله من آخره‪،‬‬


‫وما الفالة إالّ المرادف المنظور ّ‬
‫ألنه مكان‪.‬‬
‫المتنبي ّ‬
‫ّ‬ ‫حتّى الوطن استغنى عنه‬
‫‪3‬‬
‫إِلَى َبلَد َسافَ ْـرت َع ْنه ِإَّياب‬ ‫ال َي ْستَِف ُّزنِي‬ ‫طِ‬
‫ان َ‬ ‫َغنِ ٌّي َع ِن األ َْو َ‬

‫الزمان على الحركة والتن ّقل‪ ،‬ورآه‬


‫الثبات واالستقرار‪ ،‬ونافس ّ‬
‫َ‬ ‫المتنبي إذا في المكان‬
‫ّ‬ ‫كره‬
‫الصورة البيانية التي يشتمل عليها المطلع‪.‬‬
‫نظي ار له فيهما‪ .‬حتّى سعى إلى تقييده بالمكان في ّ‬

‫يحلّل الدكتور أحمد طعمة حلبي جمال التصوير في هذا المطلع بقوله ‪ ... ":‬بداية‬
‫يماثل بين المنازل – منازل ِ‬
‫الشعب – وفصل الربيع‪ ،‬وهذه المماثلة كافية ألن تضع المتلقي‬
‫في جو هذا الجمال الذي يتمتع به هذا الشعب‪ .‬فكما أن الربيع يتفوق على غيره من فصول‬
‫السنة بالمناظر الخالبة واألجواء البهيجة‪ ،‬كذلك هي حال هذا الشعب‪ ،‬فهو متفوق على غيره‬
‫من المنازل بجماله األخاذ ومناظره التي تبهر العيون وتبهج النفوس "‪.4‬‬

‫‪1‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.44 .‬‬
‫‪2‬‬
‫الساق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.140 .‬‬
‫‪3‬‬
‫الساق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.191.‬‬
‫‪ 4‬أمحد طعمة حليب‪ :‬املفاهيم اجلمالية يف الشعر العباسي‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪2006 ،‬م‪ ،‬ص‪.14.‬‬

‫‪171‬‬
‫وكثرة تصوير جمال الربيع في الشعر العباسي‪ ،‬من أوجه التحول التي شهدتها بيئة هذا‬
‫الشعر‪ ،‬بما في ذلك البيئة الطبيعية‪ .‬فقد ترعرع شعراء هذا المنزع في حواضر وأرياف لم‬
‫قدر للشعراء السابقين أن يسكونها‪ ،‬أو على األقل لم يكتب لمن زارها منهم االستقرار أمدا‬
‫يّ‬
‫يسمح له بتأمل جماليات هذا الفصل‪.‬‬

‫وكما ظهر هذا التحول في وصف جماليات البيئة الجديدة‪ ،‬ظهر في وصف جماليات‬
‫المرأة‪ ،‬التي تظهر صورتها النمطية في مظهر مهاة أو ظبية‪ ،‬تجوب الفيافي‪ ،‬مقتاتة مما‬
‫تخرجه من نبات‪ .‬ولكنه لم يكن تحوال سلسال سهال‪ ،‬بل كان في صحبته تأزم ظاهر‪ ،‬انتهى‬
‫إلى يكون هو والتحول شيئا واحدا‪.‬‬

‫الج ْهم من البادية إلى الحاضرة‪ ،‬نقل معه تلك الصورة‪ :‬صورة‬
‫لذلك حين انتقل علي بن َ‬
‫المهاة المشيرة إلى المرأة الجميلة‪ .‬غير أنها اآلن ال ترتع في الصحراء بين الكثبان‪ ،‬بل‬
‫تتجول بين معالم المدنية الصاخبة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫اله َوى ِم ْن َح ْيث أَ ْد ِري َوَال أَ ْد ِري‬
‫َج ْلب َن َ‬ ‫صافة َوال ِج ْس ِر‬
‫الر َ‬
‫المهَا َب ْي َن ُّ‬
‫عيون َ‬
‫ففي هذا المطلع الذي هو من الشهرة بمكان‪ ،‬يبرز التناقض بين الصورة البدوية النمطية في‬
‫المدنية‪ (:‬الرصافة‪ ،‬الجسر)‪ .‬وهو التناقض نفسه بين انشداد‬
‫تشبيه المرأة بالمهاة‪ ،‬وألفاظ َ‬
‫الشاعر العباسي إلى الموروث الفني من جهة‪ ،‬ومحاولة التفلت منه من جهة أخرى‪.‬‬

‫تناقض يبلغ من الشدة والتأزم درجة توليد مشاهد كرنفالية في الذهن‪ ،‬فمنظر المهاة‬
‫وهي بين الرصافة والجسر – إذا وضعناه في صورة مشهدية – يستحضر إلى الذهن تلك‬
‫الفصول من المعارض الترفيهية ( الكرنفال‪ ،‬أو السرك )‪ ،‬حيث تستجلب حيوانات وكائنات‬
‫نادرة لعرضها في أماكن ليست بيئتها في األصل‪ .‬وطباق السلب " أدري‪ ،‬وال أدري " دليل‬
‫لفظي ومعنوي على شدة اصطخاب الشعور بالتحول المؤلم‪ ،‬والتناقض الصارخ في نفس ابن‬
‫الجهم‪ ،‬وترجمةٌ بديعية للحيرة التي تموج في وجدانه‪.‬‬
‫ْ‬

‫‪ 1‬علي بن اجلهم‪ :‬الديوان‪ ،‬خليل مردم بك‪ ،‬دار صادر بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪3996 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.315 .‬‬

‫‪172‬‬
‫وربما كان من هذا السياق‪ ،‬القصة التي رواها محيي الدين بن عربي – إن صحت ‪-‬‬
‫في محاضرة األبرار‪ ،‬عن أول لقاء بين علي بن الجهم وممدوحه الخليفة المتوكل‪ ،‬وكانت‬
‫ثمرته القصيدة التي منها المطلع‪ ،‬قال ‪ ":‬حكى لنا بعض األدباء‪ ،‬عن ابن الجهم‪ ،‬وكان بدويا‬
‫جافيا‪ ،‬لما قدم على المتوكل‪ ،‬وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها يخاطب الخليفة‪:‬‬

‫وب‬ ‫س ِفي ِق َر ِ‬
‫اع الخط ـ ِ‬ ‫و َكالتَّْي ِ‬
‫َ‬
‫ت َكال َك ْل ِب ِفي ِحفَ ِ‬
‫اظ َك للوِّد‬ ‫أَ ْن َ‬

‫وب‬ ‫الد َال َكثِير َّ‬


‫الذن ِ‬ ‫ِم ْن ِكَب ِار ِّ‬ ‫الد ْل ِو َال َع ِد ْمَنا َ‬
‫ك َد ْل ـ ـ ـوا‬ ‫ت َك َّ‬
‫أَ ْن َ‬
‫َ‬
‫فعرف المتوكل قوته ورقة مقصده وخشونة لفظه‪ ،‬وعرف أنه ما رأى سوى ما شبهه به‬
‫لعدم المخالطة ومالزمة البادية‪ ،‬فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان حسن‬
‫يتخلله نسيم لطيف يغذي األرواح‪ ،‬والجسر قريب منه‪ ،‬وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به‪،‬‬
‫وكان يركب في أكثر األوقات فيخرج إلى محالت بغداد فيرى حركة الناس ولطافة الحضر‬
‫ويرجع إلى بيته‪ ،‬فأقام ستة أشهر على ذلك واألدباء والفضالء يتعاهدون مجالسته‬
‫ومحاضرته‪ ،‬فاستدعاه الخليفة بعد هذه المدة‪ ،‬لينشده‪ ،‬فحضر‪ ،‬وأنشد‪:‬‬

‫جلبن الهوى من حيث أدري وال أدري‬ ‫عيون المها بين الرصافة والجسر‬

‫فقال المتوكل‪ :‬لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة "‪.1‬‬

‫يعز وجودها في شعر المحدثين‪،‬‬


‫وتشكيل الصورة من األشتات المتناقضة‪ ،‬طريقة ال ّ‬
‫ومطالعهم تحديدا‪ .‬ففي قول المتنبي‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫َمطٌَر تَ ِزيد بِ ِه الخدود محوَال‬ ‫الخلِيط َر ِح َ‬
‫يال‬ ‫ِفي َ‬
‫الخ ِّد أَ ْن َع َزَم َ‬

‫تعبير عن الدمع في غ ازرته بالمطر‪ ،‬غير أنه مطر ال يؤدي إلى الخصب‪ ،‬بل نتيجته ازدياد‬
‫وتعمل فني في‬
‫ّ‬ ‫الم ْحل‪ ،‬أي شحوب الخدود وذهاب نضرتها‪ .‬تناقض بين السبب و َّ‬
‫المسبب‪،‬‬ ‫َ‬
‫استغالل طاقة المتناقضات في صدم المتلقي‪ ،‬ووضعه أمام مركب تصويري غير مألوف‪.‬‬

‫‪ 1‬حميي الدين بن عريب‪ :‬حماضرة األبرار ومسامرة األخيار‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪،‬ط‪2005 ،2.‬م‪ ،‬ج‪2.‬ص‪.1.‬‬
‫‪ 2‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،1 ،‬ص‪.212 .‬‬

‫‪173‬‬
‫وفي كثير من األحيان يستخدم أولئك الشعراء األنماط التصويرية التقليدية‪ ،‬ومع ذلك ال‬
‫تكون خالية من شحن عاطفي خاص باهتماماتهم وقضايا عصرهم‪ ،‬وما استجد فيه من أفكار‬
‫وهواجس وأدواء‪.‬‬

‫فما من جديد من حيث بناء الصورة في قول المتنبي‪:‬‬

‫ير َجالَبَِبـا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫الجانِ َحات َغ َـو ِارَبا‬ ‫بِأَبِي ُّ‬
‫الالبِ َسـات م َن َ‬
‫‪1‬‬
‫الح ِر ِ‬ ‫الشموس َ‬

‫ومع ذلك كان حضور الصورة في هذا المطلع قويا‪ .‬فهؤالء النسوة الالئي يهون على الشاعر‬
‫المتناول من‬
‫َ‬ ‫افتداؤهن بأبيه بمنزلة الشموس في الجمال من جهة‪ ،‬وفي الرفعة والبعد عن‬
‫ّ‬
‫مسميات البالغيين دليل على اإلعجاب من‬
‫جهة أخرى‪ .‬فهذه االستعارة التصريحية حسب ّ‬
‫هن بعيدا كما‬
‫ناره جنوح ّ‬
‫العلو‪ ،‬هذا اليأس يذكي َ‬
‫جهة الجمال‪ ،‬وعلى اليأس من جهة البعد و ّ‬
‫تبتعد ال ّشمس عند الغروب‪.‬‬

‫المشبه به‬
‫ّ‬ ‫وفي االستعارة ترشيح‪ ،‬وتجريد في الوقت نفسه‪ .‬إذ جمعت بين أحد مالئمات‬
‫النساء " وهو " الالّبسات جالببا " وهذا‬
‫" الشمس " وهو " غواربا "‪ ،‬وأحد مالئمات المشبه " ّ‬
‫المشبه‪ ،‬ولكن التجريد أيضا‬
‫ّ‬ ‫المشبه به وينفي‬
‫ّ‬ ‫ما يجعلها استعارة مطلقة‪ ،2‬والتّرشيح يثبت‬
‫ِ‬
‫اآلخر‪ ،‬وبناء على‬ ‫المشبه به‪ ،‬فك ّل واحد منهما موجود بذاته منفي بوجود‬
‫ّ‬ ‫المشبه وينفي‬
‫ّ‬ ‫يثبت‬
‫ولكنه انتفاء قائم على التماهي ووحدة وجود‬
‫النساء والعكس‪ّ ،‬‬ ‫ذلك تنتفي الشمس بوجود ّ‬
‫بد من نفي ك ّل‬
‫هن ال ّشمس نفسها‪ .‬واذا كان األمر كذلك فال ّ‬
‫فالنساء الجميالت ّ‬
‫بينهما‪ّ ،‬‬
‫يفرق بينهما‪.‬‬
‫َع َرض ّ‬
‫أن أولئك‬
‫أن ال ّشمس هي كذلك الحقيقة المنشودة في ك ّل زمان ومكان‪ ،‬وكما ّ‬ ‫غير ّ‬
‫جالبيبهن‬
‫ّ‬ ‫وهن في‬
‫حسنهن‪ ،‬الذي ال يمكن أن ينكر حتّى ّ‬‫ّ‬ ‫الّنساء الجميالت باقيات على‬
‫الحريرية‪ ،‬فكذلك الحقيقة الخالدة ال يمكن أن تنطمس‪ ،‬أو تشتبه بما يالبسها أحيانا من عوالق‬
‫الزيف والباطل‪.‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.322 .‬‬


‫‪2‬‬
‫خلوها من مالئماهتما‪.‬كما يكون اإلطالق‬
‫الرتشيح يف االستعارة هو ذكر أحد مالئمات املشبه به‪ ،‬والتجريد ذكر أحد مالئمات املشبه‪ ،‬واإلطالق ّ‬
‫باجتماع الرتشيح والتجريد‪ .‬ينظر‪ :‬البالغة الواضحة لعلي اجلارم ومصطفى أمني‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬وهران‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.93-90 .‬‬

‫‪174‬‬
‫واذا كانت استعارة ال ّشمس للمرأة الحسناء أم ار مألوفا‪ ،‬وصورة تقليدية في الغزل‪،‬‬
‫أن ال ّشمس ال‬‫للرجوع تارة أخرى‪ ،‬كما ّ‬
‫النسوة ّ‬
‫التجدد‪ ،‬ومعاودة أولئك ّ‬
‫ّ‬ ‫فالمست ِج ّد هنا هو قصد‬
‫العام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصرفية في المطلع ال تتخلّف عن البناء‬
‫تغرب إالّ ريثما تشرق من جديد‪ .‬والبنية ّ‬
‫سالمتهن بعد الفراق‪ ،‬خصوصا‬
‫ّ‬ ‫السالم (الجانحات‪ ،‬الالّبسات) إشارة إلى تمّني‬
‫المؤنث ّ‬
‫ّ‬ ‫فجمع‬
‫إذا ربطنا هذه اإلشارة بالباء المتعلّقة بفعل التفدية المحذوف في ّأول البيت " بأبي "‪ .‬فهو‬
‫السالم تتواصل في البيت‬
‫المؤنث ّ‬
‫ّ‬ ‫السوء‪ ،‬فصيغة جمع‬
‫لهن من المكروه و ّ‬
‫يفديهن بأبيه وقاية ّ‬
‫ّ‬
‫الالّحق‪:‬‬

‫الن ِ‬ ‫الناهـب ِ‬ ‫ِ‬


‫ـاهَبا‬ ‫ـات َّ‬ ‫َو َج َـناتـ ِه َّن َّ َ َ‬ ‫الم ْن ِه َـبات عـقولَ َـنا َوقـل َ‬
‫وبَنا‬

‫وقد ال يذهب بعض الشعراء العباسيين في الخروج عن مألوف العادة عند فحول‬
‫الشعراء السابقين ذهابا بعيدا‪ ،‬فإذا أحس أحدهم بخروجه عن ذلك المألوف‪ ،‬مال إلى‬
‫استغالل الصورة للتقليل من حدة ذلك الخروج أو لتعليله‪ .‬ففي قول ابن المعتز‪:‬‬
‫‪1‬‬ ‫در اللَّْي ِل م ْن ِ‬
‫تظر‬ ‫إِِّني لَِب ِ‬
‫دري َوَب ِ‬ ‫النهَار‪ ،‬فَأَ ْي َن اللَّْيل َو َّ‬
‫السهَر‬ ‫طَا َل َّ‬

‫عدول عن مذاهب الشعراء القدماء في تعبيرهم عن الليل‪ ،‬إذ كانت العادة في بالغة الشعر‬
‫أن الليل‬
‫العربي القديم‪ ،‬ومواضعاته الراسخة‪ ،‬وتقاليده المتوارثة في الموضوعات والمعاني‪ّ ،‬‬
‫هو باعث الشكوى في نفوس الشعراء‪ ،‬وحاملهم على الضجر‪ ،‬والتشوف إلى الصبح‪ ،‬الذي‬
‫يبلغ التأزم النفسي عندهم إلى أن يتخذوه مالذا يستنصرونه على نقيضه الليل‪ .‬منذ أن سن‬
‫لهم ذلك الملك الضلّيل امرؤ القيس‪ ،‬صاحب األوليات والسوابق في فن الشعر‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫وم لَِي ْبتَلِـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫َعلَ َّي بِأَ ْنو ِ‬
‫اع الهم ِ‬ ‫َولَْي ٍل َك َم ْو ِج َ‬
‫الب ْح ِر أَ ْر َخى سدولَه‬

‫اء ب َك ْل َكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِل‬


‫از َوَن َ‬
‫ف أَ ْع َج ا‬
‫َوأَ ْرَد َ‬ ‫فَق ْلت لَه لَ َّما تَ َمطَّى بِص ْلبِ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـه‬

‫صَباح ِم ْن َ‬
‫ك َبأَ ْمثَـَ ِل‬ ‫بِص ْب ٍح وما ِ‬
‫اإل ْ‬ ‫ََ‬ ‫أَ َال أَُّيهَا اللَّْيل الطَّ ِويل أَ َال ْان َج ِل‬

‫‪ 1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.130 .‬‬


‫‪2‬‬
‫امرؤ القيس‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.49-48 .‬‬

‫‪175‬‬
‫بل صار تشكيهم إياه معنى مضافا أحيانا إلى المطالع‪ ،‬كما فعل النابغة الذبياني في‬
‫مطلع له مشهور‪:‬‬

‫يء ال َكو ِ‬
‫يه ب ِط ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِكلِينِي لِهم يا أميم َة َن ِ‬
‫اك ِب‬ ‫َولَْي ٍل أقَاس َ‬ ‫اص ِب‬
‫‪1‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫حتى أحمد شوقي في العصر الحديث‪ ،‬انضم إلى الثائرين على الليل المتبرمين منه‪ ،‬مشتقا‬
‫نسبيا مستخدما معنى بيت الشاعر السابق‪:‬‬
‫له من اسم النابغة نعتا َ‬
‫‪2‬‬
‫يه ِذ ْك َراك ْم َوت ْحيِ َينا‬
‫ت ِميتَنا ِف ِ‬ ‫ونابغي َكأَ َّن الح ْشر ِ‬
‫آخره‬ ‫َ َ‬
‫وكأنما أحس ابن المعتز بذلك‪ ،‬فحاول تسويغ ضجره من النهار وترقبه الليل برجاء نوم‬
‫الرقيب كما في البيت التالي‪:‬‬

‫َخ َال حبِ ِ‬ ‫الرِق ِ‬


‫يبي لي َحتَّى َب َدا الس َ‬
‫َّحر‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫يب َوقَ ْد‬ ‫َيا طو َل َشوِقي إِلَى َن ْوِم َّ‬

‫واذا وجد هؤالء الشعراء فرصة للتهويل في الصورة اغتنموها‪ ،‬فأخرجوا معانيهم في‬
‫ويشدهه‪ ،‬يقول المتنبي‪:‬‬
‫َ‬ ‫يهول عليه‬
‫صور توحي إلى المستمع بكل ما من شأنه أن ّ‬
‫‪3‬‬
‫لِ َو ْح ِشَّي ٍة الَ َما لِ َو ْح ِشَّي ٍة َش ْنف‬ ‫اد ٍة رِف َع الس ْ‬
‫َّجف‬ ‫لِ ِجِّنَّي ٍة أ َْم َغ َ‬
‫جنية‪ .‬واستعارة " الجنية " للمرأة الجميلة يذكر‬‫فهذه المرأة في حسنها المتفرد‪ ،‬وجمالها الباهر ّ‬
‫ببحث البالغيين في تشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين في قوله تعالى ﴿ طَ ْلعهَا َكأََّنه‬
‫الشي ِ‬
‫اط ِ‬
‫ين﴾ [ الصافات‪ ،‬اآلية ‪ ] 24‬عند من ذهب إلى أن الشياطين في اآلية‬ ‫رؤوس َّ َ‬
‫مقصود به َم َردة الجن‪ ،‬فكيف يستقيم التشبيه بشيء غير مرئي‪ ،‬مع أن األصل في التشبيه –‬
‫ومثله االستعارة‪ -‬تقريب الصورة إلى الذهن‪ ،‬وهو ما يقتضي وقوع المشبه به تحت متناول‬
‫إحدى الحواس على األقل‪.‬‬

‫‪ 1‬النابغة الذبياين‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.9 .‬‬
‫‪2‬‬
‫أحمد شوقي‪ :‬الشوقيات‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ج‪ ،0.‬ص‪.121 .‬‬
‫‪3‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.080 .‬‬

‫‪176‬‬
‫يعلق صاحب البحر المحيط في التفسير وهو يفسر اآلية السابقة ‪ ... ":‬شبه بما اشتهر‬
‫في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها‪ ،‬وان كانت غير مرئية‪ ،‬ولذلك يصورون‬
‫الشيطان في أقبح الصور‪ .‬واذا أروا أشعث منتفش الشعر قالوا‪ :‬كأنه وجه شيطان‪ ،‬وكأن‬
‫رأسه رأس شيطان ‪.1" ...‬‬
‫ولهذا المذهب في التصوير‪ ،‬نماذج وشواهد من كالم العرب‪ .‬من ذلك قول امرئ‬
‫القيس‪:‬‬
‫ِ‪2‬‬
‫ق َكأَ ْنَيا ِب أَ ْغ َوال‬
‫ونةٌ زْر ٌ‬
‫َو َم ْسن َ‬ ‫اج ِعي‬
‫ض ِ‬ ‫ِ‬
‫أََي ْقتلني َوال َم ْش َرِف ُّي م َ‬
‫يشبه النبال بأنياب األغوال التي لم يسبق ألحد أن رآها‪ ،‬اطمئنانا إلى ما استقر في‬
‫فهو ّ‬
‫جو يشيع الرهبة في النفس عند ذكر هذا اللفظ‪.‬‬
‫وخيم على أحاسيسها‪ ،‬من ّ‬
‫النفس البشرية ّ‬
‫الناجمة عن أسلوب الحوار والجدل المبني على‬‫كما أن البيت مشبع بعنصر الحركة ّ‬
‫لجنية أم غادة‪...‬؟ "‪ ،‬واجابة عنه في ّأول العجز‪ " :‬لوحشية‪ ،3"...‬ثم‬
‫سؤال في الصدر‪ّ " :‬‬
‫لجنية شنف "‪.‬‬
‫حجة االعتراض‪ " :‬ما ّ‬
‫بالنفي "‪...‬ال‪ ،" ...‬وتقديم ّ‬
‫االعتراض على اإلجابة ّ‬
‫وب ْلَبلَة في‬
‫بتقطع َ‬
‫ٍ‬ ‫السريعة يوحي‬
‫إن تقطيع البيت إلى هذه العبارات الحوارية المتتابعة و ّ‬
‫ّ‬
‫سيرورة التفكير عند الشاعر من ناحية‪ ،‬وبتوتّر في إحساسه من ناحية أخرى‪ ،‬إلى جانب ما‬
‫أضفاه من حركية‪ .‬وذلك كلّه منسجم مع االندهاش والمبالغة في تعظيم هذا الحسن الذي‬
‫ويحير العقول‪.‬‬
‫يملك العيون والقلوب ّ‬

‫وكما أحسن الشعراء العباسيون في وضع يد المتلقي على مكامن الجمال في الربيعيات‬
‫والغزليات ابتداء بالمطلع‪ ،‬فعلوا ذلك في توجيه حسه إلى مواطن القبح والبشاعة في‬
‫الهجائيات‪ .‬فابن الرومي في قوله‪:‬‬

‫‪ 1‬أبو حيان األندلسي الغرناطي‪ :‬البحر احمليط يف التفسري‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪2005 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.307.‬‬
‫‪ 2‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪342 .‬‬
‫‪3‬‬
‫يحتمل قوله ‪ ":‬لوحشية " أن يكون استفهاما كاألول‪ ،‬ويحتمل أن يكون جوابا لنفسه‪ ،‬أي بل لوحشية‪ ،‬ينظر‪ :‬العرف الطيب‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.001 .‬‬

‫‪177‬‬
‫لِ ْلحرْيثِ ِّي أَبِي َب ْك ٍر َغَب ْ‬
‫‪1‬‬
‫ب‬ ‫َولَه قَ ْرَن ِ‬
‫ان أَ ْيضا َوَذَن ْ‬ ‫ب‬

‫يتجاوز بالصورة هنا الشعريةَ بمفهومها المعجمي‪ ،‬ليشرف بالمستمع على منظر صورة‬
‫كاريكاتورية حقيقية‪ ،‬يكون للبصر منها حظ أوفر من األذن في القدرة على وضع المتلقي‬
‫المهجو‪ ،‬وما بلغته صورته من المسخ والتشويه‬
‫ّ‬ ‫أمام المشهد‪ ،‬ونقل موقف الشاعر من هذا‬
‫في خياله‪.‬‬

‫ولئن كان ابن الرومي أحد أشهر الشعراء العرب المكثرين في فن الهجاء‪ ،‬لقد كان من‬
‫أشدهم – إن لم يكن أشدهم – إيغاال في معانيه‪ ،‬واغرابا في صوره‪ ،‬حتى أشبه تصويره‬
‫الحاد وقدرته البارعة‬
‫ّ‬ ‫طرائق رسامي الكاريكاتور في العصر الحديث‪ ... " ،‬فقد أعده مزاجه‬
‫في لمح الدقائق والعيوب الجسمانية لضرب من الهجاء يمكن أن نسميه " الهجاء الساخر "‬
‫هجويه عبثا الذعا يشبه عبث أصحاب (الصور الكاريكاتورية)‪ ،‬فهو يقف‬
‫بم ّ‬
‫إذ كان يعبث َ‬
‫كبرها ويظهرها في أوسع صورة لها‪ ،‬حتى ليثير الضحك واإلشفاق‬
‫عند نواحي الضعف وي ّ‬
‫على من يتناوله منهم إذ يصنع بهم صنيع أصحاب ( الصور الكاريكاتورية ) فهم يضعون‬
‫رأسا كبي ار على جسم صغير‪ ،‬أو يخالفون في أعضاء الجسم فيرّكبونها عليه تارة بالطول‬
‫وتارة بالعرض‪ ،‬وهو تركيب مضحك في كل صوره وهيئاته‪ ،‬وكذلك كان ابن الرومي يتناول‬
‫من يهجوه فيشوهه تشويها غريبا‪ ،‬مستخدما ما يمتاز به من بعض النقائص الجسدية "‪.2‬‬

‫ويطول الحديث في معرض التمثيل لهذه التقنية في شعر ابن الرومي‪ ،‬والتي يضع‬
‫السامع أو قل المشاهد أمامها من أول بيت في القصيدة‪ ،‬من ذلك قوله في هجاء ذي اللحية‬
‫الطويلة‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫ِ‬
‫للحمير‬ ‫فالمخالي معروفةٌ‬
‫َ‬ ‫ض‬
‫إن تط ْل لحيةٌ عليك وتَعر ْ‬

‫ذاري حمار‪ ،‬والفرق هو عدم جدواها في عدم اشتمالها‬ ‫ِ‬


‫فهذه اللحية في طولها مخالة على ع َ‬
‫على الشعير!‪:‬‬

‫‪ 1‬ابن الرومي‪ :‬الديوان مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3 .‬ص‪.109 .‬‬


‫‪ 2‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.231 – 232.‬‬
‫‪ 3‬ابن الرومي‪ :‬الديوان مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.12 .‬‬

‫‪178‬‬
‫ِ‬
‫شعير‬ ‫ق اهلل في عذاريك ِمخـ ـ ـ ـ ـ ــالة ولكنها ِ‬
‫بغير‬ ‫َعلّ َ‬

‫وهذا المسلك في تنفير المستمعين من صورة المهجو منذ أول بيت في القصيدة‪ ،‬ال‬
‫يترك مكانا للمقدمة الغزلية الطللية الحاملة لمعنى الحب والجمال‪ ،‬مع أن ابن الرومي ي ِق ّر‬
‫أهجياته تصيدا لألذان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أنه يستغلها أحيانا في‬
‫‪1‬‬
‫أقدم في أوائلها النسيب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫ّ‬ ‫ألم َتر أنني قبل األهاجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬

‫هجائي محرقا يكوي القلوبا‬ ‫لِتخرق في المسامع ثم يتل ـو‬

‫وضحك البيض تتبعه نحيبا‬ ‫كصاعقة أتت في إثر غيث‬

‫فهذه المقدمة ليست إال وسيلة لجلب األسماع‪ ،‬ونوعا من المفاجأة غير السارة‪ ،‬كمن‬
‫تفاجئه صاعقة حارقة بينما كان يتمتع قبلها بغيث نافع‪.‬‬

‫وقد تأثر أبو الطيب المتنبي بهذا االتجاه عند ابن الرومي‪ ،‬إذ ال تعوزه هذه‬
‫للمهجو‪ .‬وربما لم تبلغ‬
‫ّ‬ ‫"الكاريكاتورية " في كثير من األحيان‪ ،‬وال ذلك التصوير المحقر‬
‫مهجو في تاريخ الهجاء العربي ما بلغته صورة كافور اإلخشيدي من مسخ وتشويه‬
‫ّ‬ ‫صورة‬
‫المهجو‬
‫ّ‬ ‫بـ"ريشة " المتنبي القاسية‪ .‬والمعهود في غالب هجاء المتنبي أن يذهب في تحقير‬
‫وتصغيره حتى يمسح كينونته اإلنسانية مسحا‪ ،‬بل حتى ينفي وجوده المطلق‪ .‬والمرجح أن‬
‫ذلك هو الوجه المقابل لتضخم األنا عند المتنبي‪ ،‬حتى ال يرى إال أقزاما من حوله‪ ،‬أو ال‬
‫يعبر عن هذا المعنى خير تعبير قوله في ابن َك َرَّوس وكان أعور‪:‬‬
‫يرى غيره البتة‪ .‬وقد ّ‬
‫‪2‬‬
‫صِ‬
‫ير‬ ‫ف الب ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَيا ْبن َكرَّو ٍ ِ‬
‫ص َ َ‬ ‫َوِا ْن تَ ْف َخ ْر فََيا ن ْ‬ ‫ف أَ ْع َمى‬
‫ص َ‬
‫س َيا ن ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫فهذا الرجل ال هو مع العميا ن باعتبار عينه الصحيحة‪ ،‬وال هو مع البصراء باعتبار عينه‬
‫العوراء!‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.081-082 .‬‬
‫‪2‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.144 .‬‬

‫‪179‬‬
‫وفي االتجاه المعاكس كثي ار ما يرد مطلع القصيدة العباسية ِخ ْلوا من أي أداة تصويرية‬
‫نمطية معروفة أو يكاد‪ .‬ومع ذلك ال يكون مفتق ار للجذب واالستحواذ على حساسية المتلقي‪،‬‬
‫ولعل أكثر ما يقع ذلك في مطالع الزهديات‪ .‬يقول أبو العتاهية‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫الم ِ‬
‫جالس‬ ‫َّ‬
‫كأنهم ْلم َي ْجلسوا في َ‬ ‫الدو ِار ِ‬
‫س‬ ‫أه ِل الق ِ‬
‫بور َّ‬ ‫الم َعلى ْ‬
‫َس ٌ‬
‫فليس في البيت تصوير‪ ،‬إذا استثنينا العجز الذي ليس فيه من أدوات التصوير إال‬
‫حرف التشبيه " َكأَ َّن"‪ ،‬وواضح أنها ال تحمل هنا التشبيه بوظيفته التخييلية العالية‪ ،‬ومع ذلك‬
‫يحس المستمع بالمعنى الذي أراد الشاعر إنهاءه إليه‪ ،‬ويعيش اللحظة الشعورية التي يزج به‬
‫فيها‪ .‬وربما كان غرض القصيدة العام وهو الزهد البديل الذي يعتاض به الشاعر عن الصورة‬
‫أو الخيال لشد انتباه المتلقي وأسر شعوره‪.‬‬

‫والمعروف أن أبا العتاهية من الشعراء الذين يجتنبون التأنق في فنهم‪ ،‬ويسلكون ذلك‬

‫األسلوب المصطلح على تسميته بـ‪ " :‬السهل الممتنع "‪ ،‬وهو األسلوب الذي تتضمن اإلشارةَ‬
‫إليه إجابة أبي عمرو بن العالء عن سؤال‪ " :‬أي بيت تقوله العرب أشعر؟ فقال‪ :‬البيت الذي‬
‫خدش أنفه بظفر كلب أهون عليه من‬
‫سولت له نفسه أن يقول مثله‪ ،‬وألن ي َ‬
‫إذا سمعه سامعه ّ‬
‫أن يقول مثله "‪.2‬‬

‫يبين به أبو عمرو طبيعة هذا األسلوب الجامع بين‬


‫تعبير طريف في قالب تصويري‪ّ ،‬‬
‫سهولة التلقي‪ ،‬وصعوبة اإلبداع أو اإلنشاء إال على الموهوبين‪ .‬وانما تتأتى صعوبته من‬
‫المجازفة بمحاولة منح التعبير الدارج خصيصة فنية‪ ،‬واالرتقاء به من حضيض الشعبية إلى‬
‫يفاع التعبير الفني‪ ،‬وهو ما يتطلب موهبة فنية أصيلة‪ ،‬ويمتنع إال عن صاحب العبقرية‬
‫الخالقة‪ .‬في حين أن األسلوب المقابل القائم على التأنق والتصنع‪ ،‬ال يكلف صاحبه إال‬
‫تياض بآدابهم حتى تستقيم له‬
‫ع إلى الفحول من الشعراء أو النابهين من الكتّاب‪ ،‬واالر َ‬ ‫الرجو َ‬
‫طريقة النظم أو اإلنشاء‪ ،‬ويتملّك ناصية البيان بما يجده مسبقا في تراث أولئك األدباء الذين‬
‫نهجوا له السبيل وأوضحوا له المحجة‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو العتاهية‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪2004 ،‬م‪ ،‬ص‪.396 .‬‬
‫‪ 2‬ابن عبد ربه‪ :‬العقد الفريد‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،3911،‬ج‪ ،5.‬ص‪.125.‬‬

‫‪180‬‬
‫وقد نازع أبا العتاهية الشاعريةَ معاصره مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني‪،‬‬
‫عائبا عليه هذه الطريقة في النظم بقوله له ‪ ":‬واهلل لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك‪:‬‬

‫لك‬
‫والملك ال شريك ْ‬ ‫لك‬
‫الحمد والنعمة ْ‬

‫لََّب ْي َك إِ َّن الم ْل َ‬


‫ك لَ ْك‬

‫لقلت في اليوم عشرة آالف بيت‪ ،‬ولكني أقول‪:‬‬

‫كأنه أج ٌل يسعى إلى أمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـل‬


‫ّ‬ ‫م ٍ‬
‫وف على مهَج في يوم ذي َرَهج‬

‫كالموت مستع ِجال يأتي على مهَـل‬ ‫ينال بالرف ِ‬


‫ق ما يعيا الرجال ب ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬

‫ويجعل الهام تيجان القنـا ُّ‬


‫الذبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل‬ ‫نفوس‪ 1‬الناكثين به‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫السيوف َ‬
‫َ‬ ‫يكسو‬

‫وأنت وابنك ركنا ذلك الجبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل‬ ‫هلل من هاشم في أرضه جبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل‬

‫أقل مثل قولك‪ :‬كأنه أجل يسعى‬


‫فقال له أبو العتاهية‪ ":‬قل مثل قولي‪ :‬الحمد هلل والنعمة لك‪ْ ،‬‬
‫إلى أمل"‪.2‬‬

‫ُّ‬
‫ورد أبي العتاهية في هذه المحاورة مقنع‪ ،‬وذو وجاهة ّبينة‪ ،‬ذلك أنه إذا كان هذا‬
‫األسلوب سهال من جهة التلقي‪ ،‬فإنه ممتنع من جهة اإلبداع‪ ،‬إال عن الموهوبين ذوي‬
‫القرائح‪ ،‬والمواهب الفذة‪ .‬ولذلك ال يلزم منه أن صاحب األسلوب المتصنع يسهل عليه النسج‬
‫على منواله‪ ،‬وذلك راجع إلى كون األساليب حصيلة استعدادات فطرية‪ ،‬وبنى ثقافية معقدة‬
‫تتصل بشخصية المبدع نفسه‪ ،‬بل ربما كان صاحب السهل الممتنع أقدر على اإلبداع‬
‫باألسلوب المتصنع من صاحب هذا األسلوب على توخي السهولة‪ .‬نظ ار إلى كون السهل‬
‫الممتنع أقرب إلى السجايا والطبائع‪ ،‬بخالف األسلوب المقابل الذي يمكن اكتسابه بالدربة‬
‫والثقافة‪.‬‬

‫‪ 1‬يف الديوان‪ :‬دماء بدل نفوس‬


‫‪ 2‬األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.10-29‬‬

‫‪181‬‬
‫ويبدو أن مغاالة المتأخرين في توخي فنون البديع‪ ،‬وخروجهم بذلك عن جمالية الطبع‬
‫وأسر البديهة‪ ،‬جعل لهذا األسلوب أنصا ار يدعون إليه جهارا‪ ،‬كزين الدين بن عمر الوردي‬
‫‪1‬‬
‫(ت‪ )149 .‬في قوله‪:‬‬

‫لنظمك كل سهل ذي امتناع‬ ‫فاختر‬


‫ْ‬ ‫ظ َم الشعر‬
‫أحببت ن ْ‬
‫َ‬ ‫إذا‬

‫غير أن إصرار بعض الشعراء على ركوب هذه الطريقة‪ ،‬واطالقهم العنان لالرتجال‪،‬‬
‫ورطهم في استهالل قصائدهم بمطالع باردة في جمل نثرية جافة‪ ،‬ليس عليها ميسم الشعرية‪،‬‬
‫ّ‬
‫إال ما كان من وزن وقافية ال يقدران على سد ذلك العجز الفني في التصوير‪ ،‬وربما جنت‬
‫تلك المطالع على ما بعدها من أبيات قد تفوقها شعرية‪ ،‬من ذلك قول أبي العتاهية نفسه‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫بن ِ‬
‫وهب‬ ‫ِ‬ ‫مات واهلل سعيد بن َو ْه ِب‬
‫رحم اهلل سعيد َ‬

‫وعموما فإن االستحواذ على المستمع‪ ،‬وقوة التأثير فيه‪ ،‬والقدرة على إحاطته بالجو‬
‫النفسي الذي يريد الشاعر نقله إليه‪ ،‬وعلى تجسيد المعاني‪ ،‬بغير اللجوء إلى أدوات التصوير‬
‫التقليدية‪ ،‬ميزة اتصف بها كثير من شعراء العصر العباسي كالبحتري في بعض أبيات‬
‫سينيته‪ ،‬ومنها قوله في الجزء الذي يصف فيه الجدارية على إيوان الكسرى – وهو من أروع‬
‫ما في القصيدة وأحفلها بخصيصة التجسيد – ‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫يداي بلمس‬
‫تتقراهم َ‬
‫َّ‬ ‫تيابي حتى‬
‫يغتلي فيهم ار َ‬
‫ومثله قول أبي الحسن األنباري في تائيته التي مطلعها‪:‬‬

‫لحق تلك إحدى المعجز ِ‬


‫ات‬ ‫ِ‬
‫الممات‬ ‫عل ٌّو في الحياة وفي‬

‫‪ 1‬ابن حجة احلموي‪ :‬خزانة األدب وغاية األرب‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ج‪ ،3.‬ص‪.57.‬‬
‫‪2‬‬
‫أبو العتاهية‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.21 .‬‬
‫‪ 3‬البحرتي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.392 .‬‬

‫‪182‬‬
‫فهذا البيت وبيت البحتري قبله‪ ،‬ليس فيه من تراكيب الصور التقليدية شيء ذو بال‪.‬‬
‫اللهم إال ما يمكن أن يجرى كاستعارة في لفظ " ع ّلو "‪ ،‬وهو من المجازات الدارجة التي‬
‫تنوسيت مجازيتها حتى اقتربت من الحقائق‪.‬‬

‫وهذا النوع من المجاز الذي ذهبت بمجازيته كثرة االستعمال والشيوع‪ ،‬حتى أصبحت‬
‫عبارته كأنها مواضعة أخرى على الحقيقة‪ ،‬أشار إليه الزمخشري وهو يشرح الصورة الواردة‬
‫ين ﴾ [ الصافات‪ ،‬اآلية ‪ ،] 08‬فذكر أن‬ ‫الي ِم ِ‬
‫في قوله تعالى‪ ﴿ :‬قَالوا إَِّنك ْم ك ْنت ْم تَْأت َوَنَنا َع ِن َ‬
‫(اليمين) " استعيرت لجهة الخير وجانبه‪ ،‬فقيل‪ :‬أتاه عن اليمين‪ ،‬أي‪ :‬من قبل الخير وناحيته‪،‬‬
‫فصده عنه وأضله [ ‪ ] ...‬فإن قلت‪ :‬قولهم‪ :‬أتاه من جهة الخير وناحيته‪ ،‬مجاز في نفسه‪،‬‬
‫ّ‬
‫فكيف جعلت اليمين مجا از عن المجاز؟ قلت‪ :‬من المجاز ما غلب في االستعمال حتى لحق‬
‫بالحقائق‪ ،‬وهذا من ذاك ‪.1" ...‬‬

‫وقد ذهب إلى ذلك يحيى بن حمزة العلوي‪ ،‬بل زاد على الزمخشري الحالة المعاكسة‪،‬‬
‫أي إمكان انتقال الحقيقة إلى ساحة المجاز‪ ،‬والسبيل إلى ذلك عنده هو أيضا كثرة االستعمال‬
‫أو قلته‪ :‬فإذا ق ّل استعمال اللفظ على الحقيقة كان ذلك عامل ندرة فيه يقوى مع الزمن‪،‬‬
‫فيجعله يقع من اآلذان ثم األذهان موقع التعبيرات المستطرفة المستجدة‪ ،‬فيرتفع إلى درجة‬
‫األخيلة والمجازات‪ ،‬والعكس‪ :‬إذا كثر استعماله على المجاز وشاع دورانه على األلسنة‬
‫أخلقت ديباجته مع األيام‪ ،‬وزال رونقه وبليت طرافته‪ ،‬ونزل إلى ساحة العبارات المستهلكة‬
‫التعمل في‬
‫المأخوذة على أنها حقائق‪ .‬ولم تعد طاقته المجازية واضحة إال بكثير من التأمل و ّ‬
‫التفكير والتأصيل‪.‬‬

‫عب ار عن هذه الفكرة وممثّال لها ‪ ":‬الحقيقة قد تكون مجازا‪ ،‬والمجاز قد يصير‬ ‫يقول م ّ‬
‫حقيقة‪ ،‬أما صيرورة الحقيقة مجا از فألن الحقيقة إذا ق ّل استعمالها صارت مجا از عرفيا‪ .‬ومثاله‬
‫إطالق لفظ الدابة على الدودة والنملة‪ ،‬فإنه لما تعورف في إطالقه على ذوات األربع حتى‬

‫‪ 1‬الزخمشري‪ :‬الكشاف‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.12.‬‬

‫‪183‬‬
‫صار حقيقة فيه فصار إطالقه على النملة مجا از باإلضافة إلى الحقيقة العرفية وقد كانت‬
‫حقيقته في أول وضعه على كل ما يدب من الحيوانات "‪.1‬‬

‫والعكس‪ ،‬فيمكن أن ينتقل المجاز إلى دائرة الحقيقة‪ ،‬وذلك تبعا لكثرة استعماله وتوارده‬
‫في الخطاب فـ " المجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة عرفية‪ .‬ومثاله قولنا الغائط‪ ،‬فإنه كان‬
‫مجا از في قضاء الحاجة‪ ،‬وحقيقته المطمئن من األرض ثم تعورف هذا المجاز وكثر حتى‬
‫صار حقيقة سابقة للفهم "‪.2‬‬

‫أحدث ما يطرحه الدرس‬


‫جدير بالذكر هنا‪ ،‬أن هذه الفكرة في تراثنا البالغي تلتقي و َ‬
‫اللغوي الحديث في بحثه العالقة بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬فال شك أن تلك الفكرة هي المضمون‬
‫الصريح في عبارة ستيفن أولمان التي يلخص فيها اللغة بأنها " قاموس من المجازات التي‬
‫فقدت مجازيتها بالتدريج"‪.3‬‬

‫‪ 1‬حيىي بن محزة العلوي‪ ،‬الطراز املتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،2002 ،3.‬ج‪،3.‬ص‪.54.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬ستيفن أوملان‪ :‬دور الكلمة يف اللغة‪ ،‬ترمجة‪ :‬كمال بشر‪ ،‬دار غريب‪ ،‬القاهرة‪3997 ،‬م‪ ،‬ص‪.91.‬‬

‫‪184‬‬
‫الفصــــل الثانــــي‬

‫المستـــــوى اإلفـــــرادي‬

‫الضمائر والمبهمات‬

‫التعريف والتنكير‬

‫ظواهر إفرادية أخرى‬


‫الضمائر والمبهمات‬
‫توجه الدرس التداولي (‪ )pragmatique‬إلى دراسة تلك األلفاظ التي ال تكفي هي‬
‫في ذاتها لتوضيح المقصود بها‪ ،‬بل تحتاج إلى السياق الذي قيلت فيه‪ ،‬ومرجع سابق‬
‫(‪ ) référence‬تحيل إليه‪ .‬فـ‪ ":‬في كل اللغات كلمات وتعبيرات تعتمد اعتمادا تاما على‬
‫السياق الذي تستخدم فيه وال يستطاع إنتاجها أو تفسيرها بمعزل عنه‪ .1"...‬ومن تلك األلفاظ‬
‫في العربية الضمير‪ ،‬والمبهم الذي يعنون به عادة اسم اإلشارة‪ ،2‬والموصول‪.3‬‬

‫وتأتي خصوصية هذا النوع من األسماء في غموض داللته على مسماه‪ ،‬إال بقرائن‬
‫مصاحبة له‪ ،‬كقرينة الخطاب والحضور في الضمير‪ ،‬والمشار إليه والصلة مع اسم اإلشارة‬
‫يعين مسماه بنفسه‪ ،‬من غير حاجة إلى قرينة‬
‫والموصول‪ .‬وهذا بخالف االسم الظاهر الذي ّ‬
‫خارجة عن ذاته‪.‬‬

‫تقصده‪ ،‬فإنه ال بأس بنسبة من‬


‫واذا كان اإلبهام من العيوب التي ال ينبغي للشاعر ّ‬
‫الغموض تشغل وجدان المتلقي‪ ،‬وتجعله يقترب من اللحظة الشعورية التي عاناها المبدع‬
‫تعمد الشاعر الوضوح في شعره‪ ،‬وتكلفه وسائ َل إيضاحه‬
‫لحظة مخاض قصيدته‪ .‬ذلك أن ّ‬
‫عمل مضاد للشعرية‪ ،‬فـ" الشعر نقيض الوضوح الذي يجعل من القصيدة سطحا بال عمق‪،‬‬
‫الشعر كذلك‪ ،‬نقيض اإلبهام الذي يجعل من القصيدة كهفا مغلقا "‪.4‬‬

‫مسمى اإلبهام نفسه‪ ،‬بحث البالغيون في بعض اآليات من القرآن الكريم‪،‬‬


‫َّ‬ ‫وتحت‬
‫الذين‬ ‫ِ‬
‫مبينين األسباب الداعية إليه‪ .‬ومنها‪:‬االستغناء ببيانه في موضع آخر‪ ،‬كقوله‪ ﴿ :‬ص َارطَ َ‬
‫ين أ َْن َع َم اهللُ َعلَي ِه ْم ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫ت َعلَي ِه ْم ﴾[الفاتحة‪ ،‬اآلية ‪ ،]6‬فإنه ّ‬
‫مبين في قوله‪َ ﴿ :‬م َع الذ َ‬ ‫أ َْن َع ْم َ‬
‫ِِ‬ ‫ِّد ِيقين و ُّ ِ‬
‫ين﴾ [ النساء‪ .] 66 :‬أن يتعين الشتهاره‪ ،‬كقوله‪:‬‬ ‫الشهَداء َوالصَّالح َ‬ ‫ِّ‬
‫يئين َوالص َ َ‬‫النبِ َ‬ ‫َّ‬

‫الجَّنةَ﴾[البقرة‪ ،‬اآلية ‪ ،]53‬ولم يقل‪ّ " :‬‬


‫حواء " ألنه ليس له‬ ‫ك َ‬ ‫ت َوَزْو ُج َ‬
‫اس ُك ْن أ َْن َ‬
‫آد ُم ْ‬
‫﴿ َوقُ ْلَنا يا َ‬
‫اهيم ِفي رب ِ‬
‫ِّه﴾ [البقرة‪ ،‬اآلية ‪ ]838‬والمراد نمروذ لشهرة‬ ‫غيرها‪﴿ .‬أَلَم تَر إلى الذي ح َّ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫اج إ ْب َر َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬

‫‪ 1‬حممود حنلة‪ :‬االجتاه التداويل يف البحث اللغوي املعاصر‪ ،‬ضمن كتاب يف اللغة واألدب‪ ،‬تأليف جمموعة من األساتذة‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪3002 ،‬م‪ ،‬ص‪.372.‬‬
‫‪2‬‬
‫أبو العباس المبرد‪ :‬المقتضب‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد الخالق عضيمة‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪8272 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،5.‬ص‪.761 .‬‬
‫‪3‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،5.‬ص‪.761 .‬‬
‫‪ 4‬أدونيس‪ :‬مقدمة للشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.331 .‬‬

‫‪781‬‬
‫قصد التستر عليه‪ ،‬ليكون أبلغ في استعطافه‪ ،‬نحو ﴿ َو ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫المرسل إليه ‪ُ ...‬‬ ‫َ‬ ‫ذلك‪ ،‬ألنه‬
‫الحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا﴾ ‪[ ...‬البقرة‪ ،‬اآلية ‪ ]822‬اآلية‪ ،‬هو األخنس بن شريق‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬
‫َم ْن ُي ْع ِج ُب َك قَ ْولُهُ في َ‬
‫تعيينه كبير فائدة‪ ،‬نحو ﴿أو كالذي َم َّر َعلى‬ ‫بعد وحسن إسالمه‪.‬أالّ يكون في‬ ‫أسلم ُ‬
‫﴾ [ األعراف‪ .] 765 :‬التنبيه على العموم‪ ،‬وأنه‬ ‫اسأَْلهُ ْم َع ِن القَ ْرَي ِة‬ ‫ٍ‬
‫قَ ْرية﴾[البقرة‪َ ﴿ ،]823 :‬و ْ‬
‫ِم ْن َب ْيتِ ِه ُمهَا ِج ًار﴾ [ النساء‪،] 722 :‬‬ ‫غير خاص‪ ،‬بخالف ما لو ُعّين‪ ،‬نحو ﴿ َو َم ْن َي ْخ ُرْج‬
‫ض ِل﴾‪ [،‬النور‪﴿ ] 88 :‬و ِ‬
‫الذي‬ ‫أُولُوا الفَ ْ‬ ‫تعظيمه بالوصف الكامل دون االسم‪ ،‬نحو ﴿َ ال َيأْتَ ِل‬
‫َ‬
‫احبِ ِه ﴾ [ التوبة‪ ،] 22 :‬والمراد‬ ‫ق بِ ِه﴾ [الزمر‪ ﴿ ]55 :‬إِ ْذ يقُو ُل لِص ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ص َّد َ‬ ‫اء بِالص ْ‬
‫ِّد ِ‬
‫ق َو َ‬ ‫َج َ‬
‫ِّديق في الكل‪ ،‬تحقيره بالوصف الناقص‪ ،‬نحو ﴿ِ إِ َّن َشانَِئ َك ُه َو األ َْبتَُر﴾ [ الكوثر‪.1] 5 :‬‬ ‫الص ِّ‬

‫فإذا تقرر هذا بوصفه أم ار تدعو إليه حاجات في نفس المتكلم من جهة‪ ،‬وتقوم عليه‬
‫طبيعة الفن نفسه من جهة أخرى‪ ،‬أمكن التساؤل عن المواضع التي تتحمل الغموض من‬
‫وعم إذا كان المطلع مناسبا لذلك؟‪ .‬السيما أنه مدخل القصيدة‪ ،‬وهو ما يجعله أحد‬
‫القصيدة‪ّ ،‬‬
‫أهم المرجعيات التي ُيفزع إليها في محاولة فهم ما غمض من سائر األبيات‪ ،‬وال يكاد يسبقه‬
‫من تلك المرجعيات إال مناسبة القصيدة – إن وجدت – وعلى فرض وجودها فهي معطى‬
‫غير نصي‪ ،‬وضميمة جزئية قد ال يكون لها أثر في المساعدة على كسر حدة الغموض في‬
‫القصيدة وتقريبه إلى النسبة المقبولة‪ .‬فإذا تراكب الغموض واشتد في المطلع لم يجد من‬
‫معمياته‪ .‬بخالف األبيات‬
‫السوابق النصية‪ ،‬والعتبات ما يعمل على فك طالسمه والتقليل من ّ‬
‫الالحقة التي يقوم هو مرجعية لها في ذلك‪.‬‬

‫والمؤكد أن الشعراء الذين خرجوا عن عمود الشعر العربي القائم ‪ -‬في جملة ما يقوم‬
‫عليه ‪ -‬على الوضوح‪ ،‬لم يكونوا ينكصون عن الغموض في مطالع قصائدهم‪ ،‬حتى تلك‬
‫المدائح التي كانوا يضربون بها أكباد اإلبل إلى ممدوحيهم لكي يفوزوا بجوائزهم‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫أبو تمام‪ ،‬الذي استهل إحدى مدائحه لعبد اهلل بن طاهر بقوله‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫ك السؤ َل طالِ ُب ْه‬
‫فَ َع ْزًما فَ ِق ْد ًما أ َْد َر َ‬ ‫احبه‬
‫وصو ْ‬ ‫ه َّن عو ِادي ي ٍ‬
‫وسف َ‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ ََ‬

‫‪ 1‬جالل الدين السيوطي‪ :‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.273-277.‬‬
‫‪ 2‬أبو متام‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.332 .‬‬

‫‪788‬‬
‫البيت أبو سعيد الضرير وأبو العميثل األعرابي‪ ،‬وكانا‬‫َ‬ ‫وقد عاب على أبي تمام هذا‬
‫ولم ال‬
‫على خزانة األدب لعبد اهلل بن طاهر بخراسان‪ ،‬وقاال له‪َ :‬لم ال تقول ما ُيفهم؟ فقال‪َ :‬‬
‫تفهمان ما يقال؟‪.1‬‬

‫وكذلك اآلمدي نفسه‪ ،‬الذي جعل هذا المطلع من معايب الشاعر‪ .‬وذهب يحلله مبينا‬
‫هن "‪،‬‬
‫سبب الطعن فيه‪ ،‬بما يعود أساسا إلى غموضه‪ ،‬فيقول ‪ ":‬إنما جعله رديئا قوله‪ّ " :‬‬
‫جر لهن ذكر بعد‪ .‬ثم قال " عوادي يوسف "‪ ،‬ومعناه‬ ‫فابتدأ بالكناية عن النساء‪ ،‬ولم َي ِ‬
‫صوارف‪ ،‬يقال‪ :‬عداني عنك كذا أي صرفني‪ ،‬أراد‪ :‬هن صوارف يوسف‪ ،‬وصواحبه‪،‬‬
‫وصوارف ههنا لفظة ليست قائمة بنفسها‪ ،‬ألنه ُيحتاج أن ُيعلم صوارفه عن ماذا ‪.2" ...‬‬

‫وال يكتفي بتبيين مواضع الغموض وعناصره‪ ،‬بل يقترح بدائل ترجع كلها إلى محاولة‬
‫تحقيق الوضوح‪ ،‬فيقول ‪ ... ":‬واللفظة القائمة بنفسها أن لو قال ‪ ":‬فواتن يوسف "‪ ،‬أو‬

‫"شواغف يوسف"‪ ،‬أو نحو ذلك‪ .‬وكأنه أراد‪ :‬صوارف يوسف عن تقاه‪ ،‬أو عن هداه‪.‬‬
‫أو عن صميم عزمه حتى هم بالمعصية ‪ ...‬فتصير جملة معنى البيت‪ :‬هن صوارف يوسف‬
‫طالبه‪ .‬وهذا كالم ال يالئم بعضه بعضا‪ ،‬وال يتشابه‪ .‬وانما كانت‬
‫البعد ُ‬
‫َ‬ ‫فاعزم‪ ،‬فقديما أدرك‬
‫ألفاظه ومعانيه تتشابه لو قال‪:‬‬

‫طالبه‬ ‫يوسف وصو ِ‬


‫ٍ‬ ‫هن عو ِادي‬
‫يعدونك مطلب أنت ُ‬
‫ّ‬ ‫فال‬ ‫به‬
‫اح ْ‬ ‫ّ‬

‫يعدونك العزم فيما تطالبه " أي ال يتجاوزك ‪.3...‬‬


‫ّ‬ ‫أو " فال‬

‫رد أبي تمام على الرجلين‪ ،‬واجابته الماكرة تؤكد ضرورة توفر شعرية ٍّ‬
‫تلق عند‬ ‫إن ّ‬
‫القارئ‪ ،‬إن لم يكن من المنطق أن تكون أساسا للمطالبة بضرورة لحاق القارئ بالشاعر في‬
‫الشعرية‪ ،‬فإنها تصلح أساسا لمفهوم " الكفاءة األدبية "‪ ،‬الذي نادى به" ‪ ...‬الناقد األمريكي‬
‫جوناثان كولر وحاول إشاعته كأساس لشعرية بنيوية ‪ ...‬فهو يحاول (قياسا) أن يوجد نظرية‬

‫‪ 1‬اآلمدي‪ :‬املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.31.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.37 .‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ص‪.33 .‬‬

‫‪786‬‬
‫لألدب تقوم مقام القدرة‪/‬الكفاءة عند تشومسكي بالنسبة للغة‪ ،‬وتكون األدائية هي األعمال‬
‫األدبية المختلفة التي ال يتسنى لها الظهور أو الفهم إال إذا تمتع القارئ أو الناقد‬
‫بالقدرة‪/‬الكفاءة األدبية "‪.1‬‬

‫كفاءة من ذلك القبيل كفيلة بإعانة القارئ على فك شفرة النص الشعري‪،‬‬
‫وبدونها"‪...‬تتحول األنواع األدبية إلى طالسم عند القارئ حتى لو كتبت بلغته األم‪ .‬فالقصيدة‬
‫عند من لم يكتسب القدرة األدبية تُْربك القارئ ليس ألنه ال يفهم اللغة وانما ألنه ال يدرك وال‬
‫يملك القدرة‪/‬الكفاءة األدبية التي تساعده على قراءة القصيدة كـ " أدب "‪ ،‬أي هو لم يتمكن من‬
‫" نحو" األدب‪ ،‬النحو الذي يؤسس النظام األدبي بنية ومعنى "‪.2‬‬

‫وليس هذا ببعيد عن مفهوم السياق الذي يشكل أحد عناصر الحدث االتصالي الستة‬
‫عند جاكوبسون‪ ،‬ويقصد به " ‪ ...‬الطاقة المرجعية التي يجري القول من فوقها‪ ،‬فتكشل خلفية‬
‫للرسالة تم ّكن المتلقي من تفسير المقولة وفهمها‪ ...‬والمرء الذي ال يعرف الشعر النبطي مثال‬
‫ال يستطيع فهم قصيدة نبطية‪ ،‬حتى وان استمع إليها ألف مرة‪ ،‬ألنه ال يملك (سياق) هذه‬
‫القصيدة‪ ،‬وهو الشعر النبطي كتقليد أدبي متميز "‪.3‬‬

‫ومنذ القديم الحظ النقاد و ُش ّراح الدواوين‪ ،‬ميل المتنبي إلى اإلكثار من أسماء اإلشارة‬
‫تخصيصا‪ ،‬حتى لقد رصد القاضي الجرجاني توارد اسم اإلشارة " ذا " عنده مجردا من " ها "‬
‫التنبيه‪ ،‬بصرف النظر عن وجهة نظره في تضعيف ذلك االستعمال‪ ،‬واقصائه من أسلوبية‬
‫الشعر‪ِّ ،‬‬
‫وعده من التكلف يقول ‪ " :‬وهو أكثر الشعراء استعماال لـ" ذا " التي هي لإلشارة‪،‬‬
‫وهي ضعيفة في صنعة الشعر‪ ،‬دالة على التكلف‪ ،‬وربما وافقت موضعا يليق بها‪ ،‬فاكتست‬
‫قبوال‪ .4"...‬يقول في مطلع إحدى مراثيه‪:‬‬

‫‪ 1‬ميجان الرويلي وسعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.303.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬عبد اهلل حممد الغذامي‪ :‬اخلطيئة والتكفري من البنيوية إىل التشرحيية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.30.‬‬
‫‪ 4‬القاضي اجلرجاين‪ :‬الوساطة بني املتنيب وخصومه‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.33.‬‬

‫‪762‬‬
‫‪1‬‬
‫ك الِذي ُيْبلِي‬
‫ضنِي َك َذا َ‬
‫َو َه َذا الِذي ُي ْ‬ ‫الرْم ِل َما بِكَ ِفي َّ‬
‫الرْم ِل‬ ‫ق َّ‬‫بَِنا ِم ْن َك فَ ْو َ‬

‫الدولة‪ .‬فيه توالي المبهمات‬


‫مطلع القصيدة التي رثى بها أبا الهيجاء‪ ،‬ولد صغيـر لسيف ّ‬
‫من المشيرات " هذا‪ ،‬ذاك‪ ،" ،‬والموصوالت " ما " و" الذي" مكر ار‪ .‬إضافة إلى الضمائر‬
‫البارزة " بنا‪ ،‬منك‪ ،‬بك‪ ،‬ذاك " والمستترة منها في " يضني‪ ،‬ويبلي "‪ .‬لتستحضر في النفس‬
‫الموت وغموض معناه ومآله‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫ـب‬ ‫ف في َّ‬
‫الش َجـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫إالّ على َج َش ٍب و ُ‬
‫الخ ْل ُ‬ ‫اس َحتَّى ال اتِّ َ‬
‫فاق لَهُ ْم‬ ‫ف َّ‬
‫الن ُ‬ ‫تَ َخالَ َ‬
‫طـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـب‬ ‫الع َ‬
‫جسم المرء في َ‬
‫شرك َ‬
‫وقيل تَ َ‬ ‫ص ن ْف ُس المرء س ـ ـ ــالمةً‬
‫فقي َل تَ ْخلُ ُ‬

‫لقد حذف ال ّشاعر المشار إليهما بعد ذكر اسمي اإلشارة والتّقدير‪ " :‬هذا الحزن "‪،‬‬
‫"وذاك الموت"‪ .‬اسم اإلشارة هنا هو الحاضر والمشار إليه هو الغائب‪ ،‬الحزن والموت غائبان‬
‫لكنهما حاضران باإلشارة والوصف‪ :‬اإلشارة إليهما بهذا‪ ،‬وذاك‪ ،‬ووصفهما‬
‫بوصفهما دالّين‪ّ ،‬‬
‫الصفة مقام الموصوف واالستغناء عن البدل‬‫ّ‬ ‫بالموصول "الذي"‪ ،‬فهو من باب إقامة‬
‫المشارليه) بالمبدل منه ( اسم اإلشارة )‪.‬‬
‫ا‬ ‫(‬

‫الداللة هنا بالتّبعية في االتّجاهين التّابعية والمتبوعية‪ ،‬فالحزن (الغائب) المشار إليه‬
‫إ ًذا ّ‬
‫بهذا تابع السم اإلشارة (بدل منه)‪ ،‬وهو في الوقت نفسه متبوع بصفته " الذي يضني "‪،‬‬
‫والموت أيضا الغائب بين " كذاك " و" الذي " تابع لذاك بالبدلية ومتبوع للذي بالوصفية‪.‬‬

‫الحزن والموت تابعان ومتبوعان في وقت واحد‪ :‬يتبعان اإلنسان في الحيـاة‪ ،‬ويتبعهما‬
‫ثم إلى البلى‪ .‬غائبان بالذات حاضران بالمتبوع والتابع‪ ،‬وحاضران أيضا‬
‫هو إلى الضنى ّ‬
‫بح َدثيهما " يضني " و" يبلي "‪.‬‬
‫َ‬

‫الشاعر على استخدام تلك األلفاظ المبهمة تحاشيا‬


‫َ‬ ‫وربما حملت اللياقة وأدب السياسة‬
‫عزى المتنبي عضد‬ ‫محارم الملوك واألمراء وأزواجهم‪ .‬فحين ّ‬
‫َ‬ ‫للحرج من التصريح بأسماء‬
‫الدولة بعمته اكتفى بقوله‪:‬‬

‫‪ 1‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.12 .‬‬


‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.66-63 .‬‬

‫‪767‬‬
‫ِ‪1‬‬
‫هذا الذي أثََّر في قلبه‬ ‫ك ُم َع ًّزى بِ ِه‬
‫الم ْل ُ‬ ‫ِ‬
‫آخ ُر ما َ‬
‫فأشار بـ"هذا"‪ ،‬ولم يذكر أنها عمته فضال على عدم ذكرها باسمها‪.‬‬

‫جدير بالذكر هنا أن للحديث عن نساء القصر آدابا يحسن بالشاعر االلتزام بها‪ ،‬واال‬
‫ووصف‬ ‫ِ‬
‫وجد الرقيب له بالمرصاد‪ .‬لذلك عيب على المتنبي وصفه َّأم سيف الدولة بالجمال‪ُ ،‬‬
‫بأنه مذهب " غير مختار"‪ 2‬وذلك حين قال في رثائها‪:‬‬
‫ِ‪3‬‬
‫المكفَّن بالجمال‬ ‫صالةُ اهلل ِ‬
‫الوجه ُ‬
‫على ْ‬ ‫خالقنا َحنوطٌ‬

‫فكنى عن‬
‫أخت سيف الدولة الكبرى‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫على أن المتنبي تحاشى هذا المزلق في رثائه‬
‫اسمها " خولة " بـ " فعلة " فقال‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫ديار ب ْك ٍر ولم تَخلَ ْع ولم تَ َه ِب‬ ‫ركائبها‬
‫ُ‬ ‫كأن فعلةَ لم تمأل‬
‫ّ‬

‫الشعر‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫غموض‬ ‫وتناسب اإلشاريات والمضمرات والموصوالت وما يتولد منها من‬
‫الصوفي‪ ،‬فللشعراء المتصوفين تركيبات نحوية غريبة‪ ،‬وجمل استفهامية وحوارية‪ ،‬مادة السؤال‬
‫معا الضمائر‪ .‬ولهم تراكيب يستخدمون فيها تقنية التبديالت الموضعية بين هذه‬
‫والجواب فيها ً‬
‫األلفاظ بما يناسب عقائد التماهي والحلول‪ ،‬ففي مطالع قصائد للحالّج نجد قوله‪:‬‬
‫‪5‬‬
‫أنت‬
‫لت‪َ :‬م ْن أنت؟ قال‪َ :‬‬
‫فق ُ‬ ‫أيت ربي ِ‬
‫بعين قلبي‬ ‫ر ُ‬

‫وقوله‪:‬‬
‫‪6‬‬
‫نحن روحان َحلَْلَنا َب َدنـا‬ ‫َهوى أنا‬
‫وم ْن أ ْ‬
‫َهوى َ‬
‫أنا َم ْن أ ْ‬

‫‪1‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.872 .‬‬
‫‪ 2‬ابن وكيع‪ :‬املنصف للسارق واملسروق منه‪ ،‬حتقيق عمر خليفة بن إدريس‪ ،‬منشورات جامعة قاريونس‪ ،‬بنغازي‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ط‪ ،3111 ،3.‬ج‪،3.‬‬
‫ص‪.333.‬‬
‫‪3‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،5.‬ص‪.78 .‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.33 .‬‬
‫‪ 5‬احلالّج‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪3113 ،3.‬م‪ ،‬ص‪.332 .‬‬
‫‪ 6‬السابق‪.353 ،‬‬

‫‪768‬‬
‫ويضعون هذه الضمائر في تركيبات نحوية شاذة أو نادرة‪ ،‬كإدخال أدوات النداء على‬
‫الضمائر‪ .‬والنداء أحد وجوه الخطاب الذي غالبا ما يتصدر الغزليات والصوفيات‪ ،‬مشحونا‬
‫بالتودد واالستعطاف واالعتذار‪ ،‬كما في قوله‪:‬‬

‫عن ْفرط ُس ٍقم َ‬


‫‪1‬‬
‫وضَنى‬ ‫إن كتابي – يا أنا ‪-‬‬
‫ّ‬

‫وقد أشار الدكتور شوقي ضيف إلى العبارة الصوفية الطافحة بهذه التركيبات المعقدة‬
‫التي تتداخل فيها الجو ّار والمجرورات والمبهمات‪ .‬ويرجع سبب تأتّي تلك الصعوبات إلى‬
‫بعد ألداء أفكارهم‬
‫عبارة المتصوفين من الشعراء بأن " ‪ ...‬اللغة لم تكن قد اتسعت ُ‬
‫‪2‬‬
‫تعسر التركيب في بعض‬
‫ومعانيهم" ‪ .‬مؤكدا تأثر المتنبي بلغتهم‪ ،‬ذاهبا إلى أن ذلك سبب ّ‬
‫شعره‪ ..."،‬فالمتنبي حين عدل بشعره إلى العبارة الصوفية كان قد أسلم هذا الشعر إلى‬
‫صعوبات في التركيب "‪.3‬‬

‫أما أوضح آثار لغة المتصوفة في شعر المتنبي فهي" ‪ ...‬كل ما يميز تعبير المتصوفة‬
‫من انحرافات والتواءات كأن ُيكثر من الضمائر أومن أسماء اإلشارة أو من حروف النداء أو‬
‫من التصغير فيبعث في التعبير حاال غريبة من التعقيد "‪.4‬‬

‫ولكن بعض الشعراء يغالون في التعمية بمغاالتهم في توظيف هذه األلفاظ‪ ،‬إلى درجة‬
‫التساؤل والدهشة ‪ ،‬كقول ديك الجن‪:‬‬

‫ف الهَلوك إذ َب َغما‬
‫كأنها ما كأنه خلَ ُل الخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلة َوْق ُ‬

‫أمسك فواهلل ما ظننتك تتم البيت إال وقد‬


‫ْ‬ ‫روي أن دعبال قال له حين أنشده شعره هذا‪":‬‬
‫تخبطك الشيطان من‬
‫ُغشي عليك أو تشكيت فكيك ولكأنك في جهنم تخاطب الزبانية أو ّ‬
‫المس "‪.5‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.352 .‬‬


‫‪ 2‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.233 .‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 5‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.317.‬‬

‫‪765‬‬
‫والحق أن دعبال لم يغ ُل في رد فعله‪ ،‬وهو يستمع إلى هذا البيت الذي جمع كل ما‬
‫ٍ‬
‫إضمار‪ .‬ويحار الدارس ويدهش في بحثه‬ ‫بهام‬
‫ك منه المسامع‪ ،‬معاظلةً وسوء تركيب وا َ‬ ‫تست ّ‬
‫ْ‬
‫عن العلة التي تحمل الشاعر أو المتكلم عموما على ركوب مثل هذه األساليب‪ .‬وقد يعييه‬
‫األمر وهو يقلب وجوه الفكر فيها‪ ،‬ويعرضها على أكثر مناهج الدراسة حداثة‪ ،‬وأطرفها‬
‫مداخل‪ ،‬وأوسعها حيلة في التبرير والتعليل‪ .‬ويتساءل إن كان الدافع إلى هذا التغر ِ‬
‫يب في‬
‫العبارة هو ميل الشاعر – والشاعر العباسي تحديدا – إلى تحقيق عنصر المفاجأة والتهويل‬
‫ندية‪ ،‬فيحاول أن‬
‫على المتلقي‪ ،‬السيما إذا أوجس الشاعر في نفسه خيفة من متلق يرى فيه ّ‬
‫يبدره بما يردعه في مطلع القصيدة‪ ،‬كما هو موقف ديك الجن مع دعبل‪ ،‬وهو من هو‬
‫شاعريةً ولدادة خصومة‪ ،‬وذلك ما فسر به ابن رشيق دافع صاحب البيت " الذي أراد أن‬
‫يهول عليه ويقرع سمعه عسى أن يروعه ‪.1" ...‬‬
‫ّ‬
‫خف استهجانه هذا البيت‪ ،‬فانتصر لموقف دعبل‬ ‫ومهما كان الدافع‪ ،‬فإن ابن رشيق لم ي ِ‬
‫ُ‬
‫وبين وجوه القبح فيه‪ ،‬فقال‪ ":‬ولعمري ما ظلمه دعبل ولقد أبعد مسافة الكالم وخالف العادة‬
‫ّ‬
‫وهذا البيت قبيح من جهات‪ :‬منها إضمار ما لم ُيذكر قب ُل وال جرت العادة بمثله فيعذر وال‬
‫كثر استعماله فيشتهر مع إحالة تشبيه على تشبيه وثقل تجانسه الذي هو حشو فارغ ولو‬
‫طرح من البيت لكان أحزم واستدعى قافيته ال لشيء إال لفساد المعنى واستحالة التشبيه "‪.2‬‬

‫ويحاول أن يتصور المعنى‪ ،‬ليرى أي مناسبة بينه وبين ذلك التركيب اللفظي الغريب‬
‫الذي سلكه إليه الشاعر فيقول‪ ":‬ومعنى البيت أن عشيقته كأنها في ِجيدها وعينها الغزال‬
‫الذي كأنه بين نبات الخلة سوار الجارية الحسنة المشي المتهالكة فيه – وقيل الهلوك البغي‬
‫الفاجرة – فما هذا كله؟ وأي شيء تحته؟ "‪.3‬‬

‫‪ 1‬السايق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪762‬‬
‫وقد ذكر ابن رشيق أن هذا البيت هو ابتداء قصيدة‪ ،‬ولكن ال يوجد في ديوان الشاعر‬
‫فسد شهيته عن إتمام‬
‫شيء بعده‪ ،‬فهل السبب هو ذلك النقد القاسي الذي قذفه به دعبل‪ّ ،‬‬
‫القصيدة؟‪.‬‬

‫واإلظهار الذي هو نقيض اإلضمار يشارك أحيانا نقيضه في الداللة على التفخيم‬
‫والتعاظم‪ ،‬وللمتنبي في كليهما مضمار‪ .‬فمن إظهاره في موضع اإلضمار قوله‪:‬‬

‫ووْقـعُ فَ َعالِ ِه فَ ْو َ‬
‫ِ‪1‬‬ ‫ملُوم ُكما َيج ّل َع ِن الم ِ‬
‫ق ال َكـالَم‬ ‫َ‬ ‫الم‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫المتنبي عن نفسه هنا باالسم الظاهر الذي يعود عليه ضمير الغائب المستتر‬ ‫ّ‬ ‫فحديث‬
‫حد‬
‫النظير لألنا المتكلّم الذي بلغ ّ‬
‫في " يج ّل "‪ ،‬والبارز في " فعاله "‪ ،‬قد يبدو ّأنه المقابل و ّ‬
‫أن التغييب‬
‫المتعمق في هذه المسألة‪ ،‬يدرك ّ‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫لتضخم في حديث ال ّشاعر عن ذاته‪ .‬غير ّ‬
‫ّ‬ ‫ا‬
‫لمظهَر‪ ،‬هو الوجه اآلخر لذلك اإلحساس بالعظمة‬
‫(الحديث بضمير الغائب)‪ ،‬وهو األصل ل ُ‬
‫التفرد‪.‬‬
‫و ّ‬
‫فملومكما اسم ظاهر ح ّل مح ّل ضمير المتكلّم ( أنا )‪ ،‬والمضمرات ّإنما تستخدم طلبا‬
‫لإليجاز ودفعا لاللتباس‪ ،‬يقول ابن يعيش ‪":‬واّنما أُتي بالمضمرات لضرب من اإليجاز‪،‬‬
‫ألنك تستغني بالحرف الواحد عن االسم‬ ‫فأما اإليجاز فظاهر ّ‬
‫واحت ار از من اإللباس [كذا]‪ّ .‬‬
‫فألن األسماء الظاهرة كثيرة‬
‫ّ‬ ‫أما اإللباس‬
‫بكماله‪ ،‬فيكون ذلك الحرف كجزء من االسم‪ ،‬و ّ‬
‫االشتراك‪.2"...‬‬

‫التفرد المقصود في‬


‫واإليجاز ليس مطلوبا هنا‪ ،‬وال هو منـاسب لغرض التفخيم ومعنى ّ‬
‫أن االلتباس غير وارد‬
‫هذا المطلع‪ .‬فالتّفخيم زيادة في المعنى تقتضي زيادة في المبنى‪ ،‬كما ّ‬
‫الصفات واألسماء الظّاهرة التي‬
‫الناس‪ ،‬حتّى في ّ‬‫بالنسبة إلى رجل ال يرى له شبيها بين ّ‬ ‫ّ‬
‫التفوق تنطق به أبيات كثيرة لل ّشاعر‬
‫بالتميز بل ّ‬
‫ّ‬ ‫ُيفترض فيها االشتراك والعموم‪ .‬وهذا ال ّشعور‬
‫تطرفا قوله‪:‬‬
‫لع ّل أكثـر ّ‬

‫‪1‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ .2.‬ص‪.728 .‬‬
‫‪2‬‬
‫املفصل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪3003 ،3.‬م‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪..313 .‬‬
‫ابن يعيش‪ :‬شرح ّ‬
‫‪763‬‬
‫‪1‬‬
‫َح ٌد ِمثْلِي‬
‫َح ٌد فَ ْوِقي َوالَ أ َ‬
‫فَ َما أ َ‬ ‫ك تَ ْشبِي ِهي بِ َما َو َكأََّنهُ‬
‫ط َع ْن َ‬ ‫أِ‬
‫َم ْ‬

‫الضمير ال يصلح أن‬


‫إلى جانب ذلك أضيف االسم " ملوم " إلى ضمير االثنين‪ ،‬و ّ‬
‫حد التّعريف الذي هو وظيفة نحوية‬
‫يكون مضافا‪ .‬واإلضافة في هذا الموضع ال تقف عند ّ‬
‫ينبه‬
‫فالمتنبي ّ‬
‫ّ‬ ‫السابقة وظيفة التّفخيم‪،‬‬
‫(إذا كان المضاف إليه معرفة)‪ ،‬بل تتّصل بالوظيفة ّ‬
‫كبر الجرم الذي ارتكباه بلومهما من هو أج ّل من اللّوم‪ ،‬وأفعاله‬
‫صاحبيه اللّذين يلومانه إلى َ‬
‫فوق كالم المعترضين والمعقّبين‪ ،‬فلزمتهما تبعات ذلك كما يلزم المضاف المضاف إليه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،5.‬ص‪.767 .‬‬

‫‪766‬‬
‫التعريف والتنكير‬
‫إذا كان التوجه النفسي والفكري عند المتلقي أحد أهم مرجعيات التقديم والتأخير‪ ،‬فكذلك‬
‫التعريف والتنكير‪ .‬وال يخفى ما بين هذين البابين من تداخل‪ ،‬فمن الطبيعي أن ُيستقبل‬
‫فيقدم له في الكالم‪ ،‬في حين يؤخر له ما ينكر‪ .‬لهذا كان األصل في‬
‫المستمع بما يعرف ُ‬
‫المبتدإ التعريف وفي الخبر التنكير‪ ،‬على أساس أن األول قد استقر ‪ -‬من حيث ذاته‪ -‬في‬
‫ذهن المستمع‪ ،‬وتحققت ماهيته في نفسه‪ ،‬ليأتي بعد ذلك الخبر صفة جديدة لذلك المبتدأ‬
‫يفترض أن المتلقي كان يجهلها‪ ،‬فيستفيد بذكرها معرفة جديدة بالمبتدإ‪.‬‬

‫لذلك جمع الزمخشري بين اآلليتين (التعريف والتنكير)‪ ،‬و(التقديم والتأخير) عند دراسته‬
‫اء إَِناثا‬ ‫ما ي َشاء يه ِ‬ ‫ات واأل َْر ِ‬ ‫ك السَّماو ِ‬ ‫البالغية لقوله تعالى ‪ ﴿:‬لِلَّ ِه ٌم ْل ُ‬
‫ب ل َم ْن َي َش ُ‬‫َ َ ُ ََ ُ‬ ‫ق‬‫ض َي ْخلُ ُ‬ ‫ََ‬
‫يم قَ ِد ٌير﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء َعقيما إَِّنهُ َعل ٌ‬
‫َي َش ُ‬ ‫ور أ َْو ُي َّزِّو ُجهُ ْم ُذ ْك َرانا َوِاَناثا َوَي ْج َع ُل َم ْن‬ ‫ُّ‬
‫اء الذ ُك َ‬
‫ويه ِ‬
‫ب ل َم ْن َي َش ُ‬
‫ََ َ ُ‬
‫[الشورى‪ ،‬اآلية ‪.]05-94‬‬

‫فقد تقدم ذكر اإلناث في اآلية‪ ،‬مع أن ُعرف أكثر الجاهليين كان ينكر ميالد األنثى‬
‫ويكرهه‪ .‬وتأخر ذكر الذكور‪ ،‬الذين كان العربي الجاهلي يعتز بميالدهم‪ ،‬ويراهم ع از له في‬
‫حياته‪ ،‬وذك ار له بعد موته‪.‬‬

‫معرفا‪ ،‬ما يعيد الترتيب التفاضلي‬


‫غير أن في إيراد لفظ اإلناث من ّك ار‪ ،‬ولفظ الذكور ّ‬
‫أخرهم [أي‬
‫الذي جرى عليه العرف العربي في الجاهلية بين الجنسين‪ ،‬يقول ‪ ... ":‬فلما ّ‬
‫الذكور] لذلك‪ [،‬أي لكره الجاهليين اإلناث‪ ،‬وليكون هذا اللفظ تاليا للبالء المذكور سابقا‪]1‬‬
‫تدارك تأخيرهم‪ ،‬وهم أحقّاء بالتقديم بتعريفهم‪ ،‬ألن التعريف تنويه وتشهير‪ ،‬كأنه قال‪ :‬ويهب‬
‫لمن يشاء الفرسان األعالم المذكورين الذين ال يخفون عليكم ‪.2" ...‬‬

‫لما ُج ّرد اللفظان كالهما من التعريف‪ ،‬انتظما في الترتيب على األصل في ذلك‬ ‫لذلك ّ‬
‫العرف‪ ،‬وذلك قوله تعالى بعد ذلك ‪﴿:‬أ َْو ُي َّزِّو ُجهُ ْم ُذ ْك َرانا َوِاَناثا﴾‪ .‬فكأن التعريف في "الذكور"‬
‫كان تعويضا له عن تأخيره‪ ،‬وعديال للتقديم الذي هو من حقه‪.‬‬

‫ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ بِ َما قَ َّذ َم ْ‬


‫ت أ َْي ِدي ِه ْم فَِإنَّ ِ‬ ‫في قوله تعالى قبل ذلك ‪﴿:‬وِا ْن تُ ِ‬ ‫‪1‬‬
‫ور﴾ [ س‪ .‬الشورى‪ ،‬آ‪.]94 .‬‬
‫ان َكفُ ٌ‬
‫اإل ْن َس َ‬ ‫َ‬
‫‪ 2‬الزخمشري‪ :‬تفسري الكشاف‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.711.‬‬

‫‪198‬‬
‫ولما كان للتعريف والتنكير هذه األهمية الداللية والبالغية‪ ،‬التي تتقاطع أحيانا مع‬
‫التقديم والتأخير‪ ،‬بحث العلماء والبالغيون هذه اآللية في القرآن الكريم‪ ،‬وحاولوا الوصول إلى‬
‫مختلف الدالالت الطارئة على اللفظ بين تنكيره وتعريفه‪ .‬فمنها في مجال التنكير‪":‬إرادة النوع‪،‬‬
‫ص ِارِه ْم ِغ َش َاوةٌ [البقرة‪ ]7 :‬أي نوع غريب من‬ ‫ِ‬
‫َه َذا ذ ْكٌر [ص‪ ]94 :‬أي نوع من الذكر‪َ ،‬و َعلَى أَ ْب َ‬
‫ص‬‫الغشاوة ال يتعارفه الناس‪ ،‬بحيث غطى ما ال يغطيه شيء من الغشاوات‪َ .‬ولَتَ ِج َدَّنهُ ْم أَ ْح َر َ‬
‫الن ِ‬
‫اس َعلَى َحَياة [البقرة‪ ]49 :‬أي نوع منها‪ ،‬وهو االزدياد في المستقبل‪ ،‬ألن الحرص ال‬ ‫َّ‬
‫‪1‬‬
‫يكون على الماضي وال على الحاضر‪...‬‬

‫واضافة إلى إرادة النوع التي هي أحد أشهر أغراضه‪ِ ،‬‬


‫يرد التنكير لمعان أخرى منها‪:‬‬
‫ويعرف‪ ،‬نحو‪ :‬فَ ْأ َذ ُنوا بِ َح ْرب [البقرة‪ ،]974 :‬أي‬
‫ّ‬ ‫عين‬ ‫التعظيم‪ :‬بمعنى أنه أعظم من أن ُي ّ‬
‫أي حرب ‪ ...‬والتكثير‪ :‬نحو أئِ َّن لََنا َألَ ْجار [الشعراء‪ ،]94 :‬أي واف ار جزيال‪....‬‬‫بحرب ّ‬
‫عرف‪ ،‬نحو‪ :‬إِ ْن َنظُ ُّن إِ َّال َ‬
‫ظنا [الجاثية‪،‬‬ ‫والتحقير بمعنى انحطاط شأنه إلى حد ال يمكن أن ُي ّ‬
‫الل أَ ْكَب ُر [التوبة‪ ]79 ،‬أي‬ ‫‪ ،]29‬أي ظنا حقي ار ال يعبأ به‪ .‬والتقليل‪ ،‬نحو‪ :‬وِرضوان ِمن ِ‬
‫َ َْ ٌ َ‬ ‫ُ‬
‫رضوان قليل منه أكبر من الجنات‪ ...‬وقصد العموم‪ ،‬بأن كانت في سياق النفي‪ ،‬نحو‪َ :‬ال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رْيب ِف ِ‬
‫الم ْش ِرك َ‬
‫ين‬ ‫الشرط‪ ،‬نحو وا ْن أَ َح ٌد م َن ُ‬ ‫ث [البقرة‪ .]447 :‬أو‬ ‫[البقرة‪ ،]9 :‬فَ َال َرفَ َ‬ ‫يه‬ ‫َ َ‬
‫‪2‬‬
‫ور﴾ [ الفرقان‪.]94 :‬‬ ‫السَّم ِ‬
‫اء َماء طَهُ ا‬ ‫[التوبة‪ .]9 :‬أو االمتنان‪ ،‬نحو‪َ ﴿ :‬وأ َْن َزْلَنا ِم َن‬ ‫ك‬
‫استَ َج َار َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬

‫العلَمية‪،‬‬
‫وأما التعريف فمن طرقه‪ :‬اإلضمار‪ ،‬في مقام التكلم أو الخطاب أو الغيبة‪ .‬و َ‬
‫ويكون التعرف بها في مقامات منها‪ :‬إحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به‪،‬‬
‫َح ٌد﴾ [اإلخالص‪ ،]4 :‬و﴿ ُم َح َّم ٌد َر ُسو ُل اللَ ِه﴾ [ الفتح‪ ،]94 :‬أو لتعظيم أو‬
‫نحو ﴿ ُق ْل ُه َو اللَهُ أ َ‬
‫إهانة‪ ،‬حيث َعلَ ُمه يقتضي ذلك‪ ،‬فمن التعظيم ذكر يعقوب بلقبه إسرائيل‪ ،‬لِ َما فيه من المدح‬

‫‪1‬‬
‫جالل الدين السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.090 .‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.651 – 655.‬‬

‫‪199‬‬
‫ت َي َدا أَبِي لَهَب﴾‬ ‫والتعظيم بكونه صفوة الل‪ ،‬أو َس ِر ّ‬
‫ي الل ‪ ...‬ومن اإلهانة قوله ﴿تََّب ْ‬
‫‪1‬‬
‫[المسد‪...]4‬‬

‫ويقع التعريف بوسيلة حسية‪ ،‬لعل أشهرها‪ :‬اإلشارة " لتمييزه أكمل تمييز بإحضاره في‬
‫ين ِم ْن ُدونِ ِه﴾ [ لقمان‪،]44 ،‬‬ ‫ق اللَّ ِه فَأَرونِي ما َذا َخلَ َ ِ‬
‫ق الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حسا‪ ،‬نحو ﴿ َه َذا َخ ْل ُ‬
‫ذهن السامع ّ‬
‫وللتعريض بغباوة السامع حتى إنه ال يتميز له الشيء إال بإشارة الحس‪ .‬ولبيان حاله في‬
‫ِ‬
‫ولقصد‬ ‫فيؤتى في األول بنحو " هذا "‪ ،‬وفي الثاني بنحو " ذلك " و" أولئك "‪.‬‬ ‫القرب والبعد ُ‬
‫َه َذا ا ِلذي َب َع َ‬
‫ث‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َه َذا الذي َي ْذ ُك ُر آلهَتَ ُك ْم﴾ [األنبياء‪ ،]29 ،‬و﴿أ َ‬
‫تحقيره بالقرب‪ ،‬كقول الكفار‪﴿ :‬أ َ‬
‫الكتَاب الَ رْيب ِف ِ‬
‫يه﴾ [البقرة‪،‬‬ ‫ك ِ‬ ‫اللَهُ َر ُسوال﴾ [الفرقان‪ ... ]94 ،‬أو تعظيمه بالبعد‪ ،‬نحو ﴿ َذلِ َ‬
‫ُ َ َ‬
‫‪ ]9‬ذهابا إلى ُبعد درجته‪.2"...‬‬

‫كما يقع التعريف بالموصولية‪... " ،‬لكراهة ذكره بخاص اسمه‪ ،‬إما َست ار عليه‪ ،‬أو‬
‫ونحوها موصولة بما صدر منه من فعل أو قول‪ ،‬نحو‬‫ِ‬ ‫إهانة له أو لغير ذلك‪ ،‬فيؤتى بالذي‪،‬‬
‫يه أُف لَ ُك َما﴾ [األحقاف‪ ،]47 ،‬وكقوله تعالى ﴿ َوَرَاوَدتْهُ التِي ُه َو ِفي‬ ‫الذي قَا َل لِوالِ َد ِ‬
‫َ‬
‫﴿و ِ‬
‫َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َب ْيتِهَا﴾[يوسف‪ .]92 ،‬وقد يكون إلرادته‬
‫اموا‬
‫استَقَ ُ‬ ‫العموم‪ ،‬نحو ﴿إِ َّن الذ َ‬
‫ين قَالُوا َرُّبَنا اللهُ ثَُّم ْ‬ ‫َ‬
‫اه ُدوا ِف َينا لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا﴾ [العنكبوت‪]94 ،‬‬
‫ين َج َ‬
‫ِ‬
‫فصلت‪ ] 25 ،‬اآلية‪ ،‬ونحو ﴿ َوالذ َ‬ ‫‪ّ [ ﴾...‬‬
‫‪ ...‬واأللف والالم لإلشارة إلى معهود خارجي أو ذهني أو حضوري‪ .‬ولالستغراق حقيقة أو‬
‫مجازا‪ ،‬أو لتعريف الماهية ‪ ...‬وباإلضافة لكونها أخصر طريق‪ ،‬ولتعظيم المضاف‪.3"...‬‬

‫عرف في صدر المطلع المقدرة على لفت نظر الدارس‪ ،‬لكون‬ ‫الم ّ‬
‫واذا لم تكن لالسم ُ‬
‫التعريف هو األصل في المبتدإ حسب القاعدة النحوية‪ ،‬فإن الحالة المعاكسة – أي وروده‬
‫نكرة ‪ -‬لها القدرة الكافية على استيقاف الفكر واعمال النظر‪ .‬لكون هذه الحالة انزياحا‬
‫صريحا عن تلك القاعدة‪ ،‬وال يختلف األمر عند تقدير النكرة خب ار مقدما‪ ،‬إذ إنه ال يخرج‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.097 .‬‬
‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪ .655 – 651 .‬وينظر‪ :‬مفتاح العلوم للسكاكي‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد احلميد هنداوي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪0222 ،7.‬م‪،‬‬
‫‪.054-052‬‬

‫‪200‬‬
‫عن كونه انزياحا موضعيا على خالف األصل في تقدم المبتدإ‪ ،‬وفي الحالين يكون أول ما‬
‫السمع نكرة ‪.‬‬
‫َ‬ ‫يطرق‬

‫بدا من الوقوف عند ابتداءات كثيرة لشعراء العهد العباسي‪،‬‬


‫من هنا ال يجد الدارس ّ‬
‫تمام‪:‬‬
‫حلّت النكرات في الصدر منها‪ .‬من ذلك قول أبي ّ‬
‫‪1‬‬
‫ص ْب ِره اإل ْل َم ُ‬
‫ام‬ ‫َّ‬
‫َك ْم َحل ُع ْق َدةَ َ‬ ‫ِد َم ٌن أَلَ َّم بِهَا فَقَا َل َسالَ ُم‬

‫فقد أبدى أبو القاسم اآلمدي إعجابه بهذا المطلع بقوله ‪ ":‬هذا المصراع األول في غاية‬
‫الجودة والبراعة والحسن والصحة والحالوة‪ ،‬وعجز البيت أيضا جيد بالغ "‪.2‬‬

‫يفصل اآلمدي جزئياتها‪ ،‬ولم يعلّل استحقاق‬


‫واذا كانت هذه العبارة مقتضبة مجملة‪ ،‬لم ّ‬
‫صدر به‬
‫المن ّكر الذي ّ‬ ‫ِ‬
‫هذا المطلع لكل ذلك الثناء‪ ،‬فيمكننا نحن أن نبدأ بلفظ " د َم ٌن " ُ‬
‫مطلعه‪ .‬ومن حيث الموقع اإلعرابي لهذا اللفظ يمكن تقديره بعدة أوجه من أظهرها أنه خبر‬
‫ومسوغ االبتداء‬
‫ّ‬ ‫عن مبتدإ محذوف تقديره مثال‪ " :‬هذه " أو " تلك "‪ ،‬كما يمكن إعرابه مبتدأ‬
‫ألم بها "‪ ،‬والخبر محذوف تقديره " هاجتْه " أو " َش َجتْه " أو "‬
‫به وصفه بالجملة بعده‪ّ " :‬‬
‫أحزنته "‪ ،‬أو ما يشبه ذلك‪ ،‬وهذا الوجه أوقع وأبلغ لِما في تنكير " ِدمن " من تعظيم وتهويل‪.‬‬
‫إضافة إلى عناصر جمالية أخرى في هذا البيت‪ .‬وقوله‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫آمالِي َوِاِّني لَ ُم ْف ِط ـ ـ ُـر‪.‬‬
‫ص ْم َن َ‬
‫ِ‬
‫بِه ُ‬ ‫ادهُ لَ ْي َس َي ْفتُُر‬
‫الح َشا تَْرَد ُ‬ ‫ِ‬
‫َشجا في َ‬

‫وكذلك كان التعظيم والتهويل مراد البحتري من التنكير في قوله‪ ،‬يرثي الخليفة المتوكل‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫الد ْه ِر َج ْيشا تُ َغ ِاوُرْه‬
‫وف َّ‬
‫ص ُر ُ‬
‫ت ُ‬
‫اد ْ‬
‫َو َع َ‬ ‫ق َداثِ ُرْه‬
‫َخلَ َ‬ ‫م َحل على القَاطُ ِ‬
‫ول أ ْ‬ ‫َ‬

‫‪1‬‬
‫أبو تمام‪ :‬الديوان بشرح الخطيب التبريزي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبده عزام‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪9559 ،0 .‬م‪ ،‬ج‪ ،2 .‬ص‪.‬‬
‫‪.405‬‬
‫‪ 2‬اآلمدي‪ :‬املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.447 .‬‬
‫‪3‬‬
‫أبو تمام‪ :‬الديوان مصدر سابق‪ ،‬ج‪.79 ،9.‬‬
‫‪4‬‬
‫البحتري‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪9550 ،9.‬م‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.09.‬‬

‫‪201‬‬
‫فمع أن المح ّل الذي اغتيل فيه الخليفة المتوكل معروف‪ ،‬وهو قصر اللؤلؤة في‬
‫الجعفري‪ ،1‬اجت أز الشاعر عن ذكر العلَم الدال عليه بلفظ دال على الجنس في صيغة التنكير‬
‫ق دائرة التنكير بوصفه " على القاطول "‪ .‬وذلك التنكير مناسب تماما‬ ‫" َم َح ّل "‪ ،‬وان كان َّ‬
‫ضي َ‬
‫لهول المقام المتمثل في مصرع خليفة المسلمين المنعم على الشاعر‪ ،‬في مؤامرة خسيسة‪ ،‬زاد‬
‫من هول فاجعتها أن أحد الرؤوس المدبر لها هو ابن الخليفة المغتال وولي عهده‪ .‬وال يخرج‬
‫عن هذا الغرض من التنكير‪ ،‬قول المتنبي‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫اب‬ ‫َفَي ْخ َفى بِتَْب ِ‬
‫ييض القُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُمنى ُك َّن لِي أ َّ‬
‫رون َشَب ُ‬ ‫اب‬
‫ض ُ‬‫اض خ َ‬
‫البَي َ‬
‫َن َ‬

‫خضاب "‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أن البياض‬
‫يجوز إعراب " ُمنى " خب ار مقدم عن المصدر المؤول بعده " ّ‬
‫كما ذهب إليه اليازجيان‪ .3‬ويجوز العكس‪ ،‬فتكون " منى " مبتدأ‪ ،‬والمصدر المؤول بعدها‬
‫‪4‬‬
‫كن لي "‪ .‬وقد ال‬
‫ومسوغ االبتداء بها وصفها بالجملة " ّ‬
‫ّ‬ ‫‪،‬‬ ‫قدره أبو البقاء العكبري‬
‫خبرا‪ ،‬كما ّ‬
‫يحدث االختالف بين هذين التقديرين فرقا عند المتلقي‪ ،‬السيما غير المتضلع من أسرار‬
‫التقديم والتأخير واإلسناد في التركيب‪.‬‬

‫غير أن األمر يختلف عند الشاعر الذي يكون التقدير الثاني أكثر وفاقا لحالته النفسية‪،‬‬
‫ذلك أن همه إنما هو محصور في األمنية التي رانت على قلبه أيام شبابه‪ ،‬وهي تمني أن‬
‫يكون الشيب ليس أكثر من صبغ أبيض فيمكنه أن يخضب به سواد شعره هربا من الشبيبة‬
‫وما تدل عليه من طيش ونزق‪ ،‬إلى المشيب الدال على الوقار‪ .‬واذا حلّت تلك األمنية ذلك‬
‫المحل من نفسه‪ ،‬وعمرت شبابه‪ ،‬بل تكررت حتى صارت " ُمنى "‪ ،‬فأولى بها أن تُ ّنزل في‬
‫الصدر من تركيب المسند إليه والمسند‪ .‬فيجتمع لها من التعظيم التنكير والتقديم‪ .‬ومن ذلك‬
‫قوله أيضا‪:‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.444 .‬‬
‫‪ 3‬اليازجيان‪ :‬العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.260.‬‬
‫‪ 4‬املتنيب‪ :‬الديوان بشرح العكربي‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ج‪،7.‬ص‪.755.‬‬

‫‪202‬‬
‫‪1‬‬
‫ك ِفي َندى َوَوغى بِ َح ُار‬
‫ط ُر َ‬
‫َوقَ ْ‬ ‫ص ُار‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ط َوا ُل قَنا تُطَاع ُنهَا ق َ‬

‫فالقنا التي ُكتب عليها أن تطاعن سيف الدولة قصيرة مهما كانت في ذاتها طويلة‪،‬‬
‫ألنها هنا أمام َملِك ُهمام ال َغناء لها معه‪ ،‬وال ِقَبل لمن يحملونها به‪ .‬وتنكيرها أدل على‬
‫العموم‪ ،‬والمعروف عن فن المدح عند‬
‫ُ‬ ‫معنى التعظيم المراد للمدوح‪ ،‬ألن داللتها عند ذلك‬
‫المتنبي تعظيم خصوم الممدوح وأعدائه‪ ،‬ألن ذلك أظهر لقدرته وجرأته‪.‬‬

‫مطالع يستخدم فيها تقنية التنكير‪ ،‬داللة على التعظيم والتفخيم منها‪:‬‬
‫َ‬ ‫وله عديد‬

‫ات ِ‬
‫ص َو َانهَا‬ ‫ان ال ِهَب ُ‬ ‫إِ َذا ُن ِش َر ْ‬ ‫ون ِح َس َانهَا‬
‫ت َك َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ثياب َكريم َما َي ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ألهلِه َو َشفَـى أََّنـى َو َما كـرَبا‬ ‫الرْب ِع َما َو َجَبا‬
‫ضى في َّ‬ ‫َد ْمعٌ َج َرى فَقَ َ‬ ‫‪-‬‬
‫لمِم‬ ‫ِ ِ ِّ‬ ‫تشِم‬‫ف أَلَ َّم بِ ْأر ِسي َغ ْير م ْح ِ‬
‫َح َس ُن ف ْعال م ْنهُ بال َ‬
‫َّيف أ ْ‬‫والس ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ض ْي ٌ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫صوفاتِهَا‬ ‫ات َب ِع ُ‬
‫يد َم ْو ُ‬
‫الصفَ ِ‬‫َدانِي ِّ‬ ‫مت َذواتِها‬‫محاسنه ُح ِر ُ‬
‫ُ‬ ‫ب‬‫ِس ْر ٌ‬ ‫‪-‬‬
‫بِ َ ِ‬ ‫جاريةٌ ما لِ َق ْلبِها ُرو ُح‬
‫القلَ ِب م ْن ُحِّبهَا تََب ِار ُ‬
‫يح‬ ‫‪-‬‬
‫ام‬ ‫و ُعمر ِمثْ ُل ما تَه ُ ِّ‬ ‫ِّ ِ‬
‫ب اللَئ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ٌْ‬ ‫الم َد ُام‬
‫اد َما تُ َسليه ُ‬
‫‪ -‬فُ َؤ ٌ‬

‫صرف فيها‬
‫وابتداءات المتنبي باألسماء المن ّكرة غير قليلة‪ ،‬بل له منها نماذج ُي ّ‬
‫األغراض المختلفة غير مقتصر على التعظيم أو التهويل‪ ،‬فمما يريد به التقليل قوله‪:‬‬
‫‪2‬‬ ‫َي الظَّ ِ‬
‫اعَن ِ‬ ‫َفلَ ْم أ َْد ِر أ َّ‬ ‫ت َي ْوَم َوَّد ُعوا‬
‫ُح َشا َشةُ َن ْفس َوَّد َع ْ‬
‫ين أُ َشيِّعُ‬
‫فالوزن يتسع إلضافة " نفس " إلى ياء المتكلم‪ ،‬لتصبح " حشاشة نفسي "‪ ،‬وبذلك تكون‬
‫"حشاشة " معرفة على األصل في المبتدإ‪ ،‬وان كانت مبتدأ‪ 3‬حتى في حال تنكيرها هذه‪،‬‬
‫وذلك إلضافتها إلى نكرة مثلها‪ ،‬وهو ما يتسق ومعنى التقليل الذي تتضمنه " حشاشة "‪.‬‬

‫ومن التحقير قوله‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.455 .‬‬
‫‪2‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.920 .‬‬
‫‪ 3‬السابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.026 .‬‬

‫‪203‬‬
‫إِ ْن قَاتَلُوا َج ُب ُنوا أ َْو َح َّدثُوا َش ُج ُعوا‬ ‫اس َي ْن ِخ ِدعُ‬ ‫يري بِأَ ْكثَ ِر َه َذا َّ‬
‫الن ِ‬
‫‪1‬‬
‫َغ ِ‬

‫تتعرف‬
‫والمعروف عند النحاة أن " غير " من األلفاظ الموغلة في اإلبهام والتنكير‪ ،‬فال ّ‬
‫ولو بإضافتها إلى المعارف‪ 2‬كما هي هنا‪ .‬وهكذا كل من كانت هذه صفته‪ :‬االنخداع بظاهر‬
‫سلوك الناس‪ ،‬حقير‪ .‬واذا كان حقي ار فهو قطعا غير المتنبي‪.‬‬

‫ومن اإلبهام والعموم قوله‪:‬‬

‫ك تَ ْج ِد ُ‬
‫ضى أ َْم بأمر ِفي َ‬
‫بِ َما َم َ‬ ‫ت َيا ِع ُ‬
‫يد بِأََّي ِة َحال ُع ْد َ‬
‫ِع ٌ‬
‫‪3‬‬
‫يد‬ ‫يد‬

‫الناس كلّما حال عليهم الحول‪ ،‬واختلفت‬


‫يردده ّ‬
‫سار هذا المطلع عبر العصور مسار األمثال‪ّ ،‬‬
‫عليهم المناسبات واألعياد‪ .‬وهو على رأس داليته المشهورة التي هجا بها كافور اإلخشيدي‬
‫عند تسلّله من مصر سنة (‪205‬هـ)‪.‬‬

‫النكرة مرادفة اإلبهام والعموم ك ّل األعياد ‪ -‬بناء‬


‫" عيد‪ ،‬حال‪ ،‬أمر‪ ،‬تجديد " نكرات‪ ،‬و ّ‬
‫على هذا ‪ -‬سواء في إدراك ال ّشاعر واحساسه‪ ،‬والحال هي الحال‪ :‬حال اليأس والقلق والهرب‬
‫ثم رحيل‪ ،‬وكذلك‬
‫ثم رحيل‪ .‬ولقاء بكافور‪ّ ،‬‬‫الدولة‪ّ ،‬‬
‫المستمر‪ ،‬لقاء بسيف ّ‬
‫ّ‬ ‫الترحل‬
‫والوشايات و ّ‬
‫بأية حال عدت؟ "‬
‫شأنه مع من لقيهم قبلهما وبعدهما‪ ،‬حتّى االستفهام يزيده عموما وابهاما " ّ‬
‫النهاية‬
‫كأنها استشراف من ال ّشاعر لقرب ّ‬
‫و"أم ألمر فيك تجديد؟ "‪ .‬هذه المساءلة عن الجديد ّ‬
‫خر صريعا قبل أن تكتحل‬ ‫التي كانت فاجعة بعد أربع سنوات من نظم هذه القصيدة‪ ،‬إذ ّ‬
‫المتنبي ‪ -‬ال يكون‬
‫ّ‬ ‫أن الجديد – عند نفس كبيرة كنفس‬
‫عيناه بذلك الجديد المنتظر‪ .‬على ّ‬
‫ئب إلى غيره‪.‬‬
‫جديدا إالّ ريثما تشر ّ‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪.994 ،9.‬‬
‫‪2‬‬
‫السراج‪ :‬األصول يف النحو‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد احلسني الفتلي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪7256 ،7.‬م‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.762 .‬‬
‫ابن ّ‬
‫‪3‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان بشرح العكبري‪ ،‬وفي رواية‪ " :‬ألمر "‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫ظـــواهر إفراديـــة أخـــرى‬
‫أعالم نسوية ومكانية‬

‫استطاع النابهون من الشعراء أن يفرضوا على مدى تاريخ الشعر العربي‪ ،‬أعالما‬
‫نسوية بثّوا فيها شحنة شعرية غزلية‪ .‬كان منها ليلى ولُبنى وفاطمة وهند‪ ،‬وغيرهن من عرائس‬
‫الشعر العربي‪.‬‬

‫وقد كانت هذه األعالم حجر الزاوية‪ ،‬والبؤرة في جمالية خطاب المؤنث‪ ،‬الذي جرى‬
‫العرف بين الشعراء العرب على تضمينه كل معاني التلطف والتظرف والتحبب‪ ،‬في مقدمة‬
‫القصيدة وفي سائر أجزائها‪ .‬وكانوا يوظفون في سبيل ذلك أساليب طافحة بالشعرية والعذوبة‬
‫من أشهرها الترخيم‪ ،‬العادة الموروثة عن الشعراء منذ الجاهلية‪ ،‬يقول امرؤ القيس‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫َج ِملي‬
‫ص ْرِمي فَأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوِا ْن ُك ْنت قَ ْد أ َْزَم ْعت َ‬ ‫ض َه َذا التَّ ـ َـدلُّ ِل‬ ‫ِ‬
‫أَفَاط َم َم ْهالً َب ْع َ‬

‫ويقول جميل بثينة‪:‬‬

‫و ُخ ِذي بِحظِّ ِك ِمن َك ِر ٍيم و ِ‬


‫اص ِل‬ ‫َس ِج ِحي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ثين إَِّنك قَ ْد َملَ ْكت فَأ ْ‬
‫أ َُب َ‬

‫ويبلغ من تمسك القدماء بعادة الترخيم وتعمد طلبه‪ ،‬أن يحتالوا له‪ ،‬إذا لم يسعفهم‬
‫الوزن بذلك‪ ،‬كما فعل النابغة الذبياني في قوله‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫يئ ال َكو ِ‬ ‫ٍ ِ ِ ِ‬ ‫ِكلِينِي لِه ٍّم يا أُم ْيم َة َن ِ‬
‫اص ِب‬
‫اكب‬ ‫َولَْيل أُقَاسيه َبط ِ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ضمها لكونها علما‬
‫فقد علّل الخليل بن أحمد الفراهيدي‪ ،‬فتح التاء من " أُميمةَ " – والظاهر ّ‬
‫يرخم هنا‪ ،‬بسبب‬
‫مفردا منادى‪ -‬بأن " من عادة العرب أن تنادي المؤنث بالترخيم‪ ،‬فلما لم ّ‬

‫‪ 1‬امرؤ القيس‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.73 .‬‬


‫‪ 2‬النابغة الذبياين‪ :‬الديوان دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.9 .‬‬

‫‪206‬‬
‫الوزن‪ ،‬أجراها على لفظها مرخمة‪ ،‬وأتى بها بالفتح "‪ .1‬وعلى هذا التفسير يكون النابغة اختار‬
‫الفتح على لغة من ينتظر‪ ،‬بوصفه علَما مشع ار بالترخيم‪ ،‬ألن الضم وهي لغة من ينتظر‪ ،‬قد‬
‫تلتبس بضمة المنادى األصلية‪.‬‬

‫ويشتد نكير النقاد على الشعراء الذين ُيخلّون بهذه الجمالية عند مناداة المؤنث‪ ،‬كأن‬
‫يوردوا أعالما مستبشعة اللفظ‪ ،‬خشنة األصوات‪ .‬فقد روى حماد الراوية أن جعفر بن أبي‬
‫عينيته التي منها قوله‪:‬‬
‫جعفر المنصور استنشده لجرير‪ ،‬فأنشده ّ‬

‫َهالَّ َه ِزْئ ِت بِ َغ ْي ِرَنا َيا َبـ ـ ـ ـ ـ ـ ْوَزعُ‬


‫‪2‬‬
‫صا‬
‫الع َ‬
‫ت َعلَى َ‬
‫َوتَقُو ُل َب ْوَزعُ قَ ْد َدَب ْب َ‬

‫فطلب منه أن يعيد إنشاد البيت‪ ،‬فلما فعل سأله " بوزع‪ ،‬أي شيء هو؟ "‪ ،‬فقال له ‪ ":‬اسم‬
‫ون ِف ٌّي من العباس بن عبد‬‫امرأة "‪ ،‬فقال ‪ ":‬امرأة اسمها بوزع! هو بريء من اهلل ورسوله َ‬
‫المطلب إن كانت بوزع إال ُغوال من الغيالن! تركتني واهلل يا هذا ال أنام الليلةَ من فزع بوزع"‪،‬‬
‫وج ّر برجله حتى أخرج من بين يديه‬ ‫فصفعت قفاه حتى لم ِ‬
‫يدر أين هو‪ُ ،‬‬ ‫وأمر به غلمانه ُ‬
‫مسحوبا‪.3‬‬

‫أما أبو نواس فكما دعا إلى نسيان ليلى وهند‪ ،‬واستبدال الخمر بهما‪ ،‬دعا أيضا إلى‬
‫احترام تلك القاعدة الجمالية عند مناداة تلك المعشوقة التي يرى فيها لياله ولُْبناه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫َسمائِها‬
‫َح َس َن أ ْ‬
‫َو َس ِّمهَا أ ْ‬ ‫الخ ْم ِر بِآالئِها‬
‫أَثْ ِن َعلَى َ‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 2‬جرير بن عطية‪ :‬الديوان بشرح إيليا احلاوي‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪/‬مكتبة املدرسة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1991 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.614 .‬‬
‫‪ 3‬أبو الفرج األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.39-39 .‬‬
‫‪ 4‬أبو نواس‪ :‬الديوان حتقيق‪ :‬أمحد عبد اجمليد الغزايل‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1007 ،1 .‬م‪ ،‬ص‪.70 .‬‬

‫‪207‬‬
‫وال يخفى مقدار إغراق أبي نواس في هذا المعنى‪ ،‬حتى أوفى بالخمر على حدود التأليه‪،‬‬
‫الح ْسَنى فَ ْاد ُعوهُ بِهَا ﴾ [األعراف‪،]081 ،‬‬ ‫ِ‬
‫اء ُ‬‫األس َم ُ‬
‫متناصا في ذلك مع قوله تعالى ﴿ َوهلل ْ‬
‫ومع قول عنترة بن شداد‪:‬‬

‫َس ْمح ُم َخالَقَتِي إِ َذا لَ ْم أُظلَِم‬ ‫مت فَِإَّننِي‬


‫أَثْ ِن علَ َّي بِما علِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬

‫كما استطاعوا ‪ -‬وربما بنسبة ال تقل كثي ار ‪ -‬أن يخلّدوا أعالما مكانية حفلت بها‬
‫مطالعهم‪ ،‬وكان القترانها بأسماء أولئك النسوة أثر في ذلك‪ ،‬خصوصا أن أكثر هذا التالقي‬
‫العلَم النسوي والعلم المكاني كان يتم في المقدمة الغزلية الطللية‪ ،‬حيث ال يكون المكان‬
‫بين َ‬
‫إال ذريعة إلى ذكر المرأة‪ .‬وقد تكون تلك األمكنة أجناسا‪ ،‬غير أن استخدام الشعراء لها ارتقى‬
‫وحومل وبرقة ثَهمد"‪ .‬ولقد‬ ‫بها ليجعل لها قوة حضور األعالم‪ ،‬من ذلك " ِس ْقط اللوى و َّ‬
‫الدخول َ‬
‫المكان شعريةً عبقرية‪ ،‬الحقة لشعرية َعلَم المرأة إن لم تكن‬
‫َ‬ ‫أكسب هذا التوجه من الشعراء‬
‫مثلها تماما‪.‬‬

‫تعود الشعراء العرب على التباري في توظيف المكان‪ ،‬واستخالص كل‬ ‫فكان أن ّ‬
‫محتوياته من تلك الشعرية التي استقرت في األنفس على مر الزمان‪ ،‬وبفعل اختالف الشعراء‬
‫على معجم جغرافي غني من المضارب واألطالل‪ ،‬والمرابع والمصايف‪ .‬السيما في المطلع‬
‫الذي هو رأس المقدمة الغزلية الطللية‪ ،‬التي هي معرض ذلك في األصل‪ .‬كما أنه معقد‬
‫األمل في جلب اهتمام المستمع من أول وهلة‪.‬‬

‫وشنف الشعراء‬
‫لذلك كثر تناص الشعراء الالحقين مع السابقين في هذه األعالم‪ّ ،‬‬
‫َسَير قصائدهم‪ ،‬مع أن غالبها –‬
‫العباسيون اآلذان بمثل تلك األعالم يوردونها في مطالع أ ْ‬
‫خصوصا المكانية منها ‪ -‬لم يعد له مكان في عيش ساكنة البيئة الحضرية‪ .‬كأسماء األودية‬
‫والشعاب والجبال‪ ،‬وغيرها من معالم تضاريس البادية‪ ،‬وكأنما غبط أولئك الشعراء المتأخرون‬
‫أخاذة‪.‬‬
‫من سبقوهم على ما في تلك األعالم من شحنة شعرية‪ ،‬ومسحة جمالية ّ‬

‫‪208‬‬
‫وللتناص في عمومه جماليته‪ ،‬المتمثلة في استحضار شعرية النص الغائب ونفثِها في‬
‫كونه قيمة مضافة إلى جمالية‬
‫النص الحاضر‪ .‬غير أن ذلك مشروط بأن ال يتجاوز ذلك َ‬
‫النص الجديد‪ ،‬وهنا يقع على عاتق الشاعر المتناص مع غيره عبء إنقاذ نصه من خطر‬
‫الوقوع في النمطية اآللية المجردة من كل قيمة شعرية أو فنية‪ .‬فبتعبير جاكوبسون في جهاز‬
‫االتصال المعروف به‪ ،‬يكون المطلع المتناص به مع غيره بمنزلة الرسالة‪ ،‬أمام النص األول‬
‫المتمثل في التراث الشعري المش ّكل لما ُيعرف بـ " السياق " في ذلك الجهاز‪ ،‬فعملية التناص‬
‫هذه " ‪ ...‬تحمل خطورة كبيرة على مصير (الرسالة)‪ ،‬وذلك ألن السياق أكبر وأضخم من‬
‫الرسالة‪ .‬وهو أسبق منها إلى الوجود‪ ،‬وأمكن في النفوس‪ ،‬بينما هي وليدة يافعة‪ ،‬مهددة‬
‫بالسقوط في أحضان السياق‪ ،‬الذي يتحول عطفه عليها إلى ابتالع كامل لها "‪.1‬‬

‫وتزداد هذه الخطورة إذا علمنا أن للتناص في المطلع خصوصية في عملية التلقي‬
‫ليست له في األبيات الالحقة‪ .‬ذلك أن المطلع هو عتبة دخول المتلقي إلى النص الشعري‪،‬‬
‫ولذلك يكون سمعه مرهفا‪ ،‬وجميع أدوات االستقبال عنده من ذكاء ومشاعر وفكر وذاكرة‬
‫وغيرها‪ ،‬في أشد حاالت التيقظ والجاهزية للتوظيف‪ ،‬خصوصا الذاكرة التي هي أهم آلية‬
‫ُيكشف بها التناص وتُرصد بها مواطنه‪.‬‬

‫ومع ذلك أقدم بعض النابهين من الشعراء العباسيين الذين طالما استهدفوا لسهام النقد‬
‫والتجريح‪ ،‬واالتهام بالسرقة على هذا األمر غير هيابين‪ .‬وربما كان الباعث على عدم‬
‫االكتراث عندهم أن هذا التقاطع مع الشعراء السابقين في تلك األعالم إنما هو في المطلع‬
‫الذي هو بدوره جزء من المقدمة الغزلية الطللية‪ ،‬وهذه في الغالب عادة فنية وسلوك نمطي‬
‫في بناء القصيدة العربية التقليدية‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد اهلل حممد الغذامي‪ ،‬اخلطيئة والتكفري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.11.‬‬

‫‪209‬‬
‫واذا كان األمر كذلك فليس عليهم أن يتخوفوا تهمة السرقة‪ ،‬إال أن يرميهم بها من ال‬
‫المقرر‬
‫علم له بتقاليد الشعرية العربية‪ ،‬أو من يريد الخروج عن عمودها‪ ،‬إنه ركون إلى ذلك َّ‬
‫بحسبه‪ ،‬وال يظهر التفوق في " ‪...‬‬
‫في الشعرية العربية القديمة التي ال تكمن القيمة الفنية َ‬
‫عبر عنه‪ ،‬بل في طريقة التعبير‪ ،‬خصوصا أن الشاعر الجاهلي [ومن يقلده أو يتناص‬ ‫الم َّ‬
‫ُ‬
‫معه في هذه الحالة] كان يقول إجماال‪ ،‬ما يعرفه السامع مسبقا ‪ .1" ...‬لذلك نجد أبا تمام‬
‫يفتتح إحدى دالياته بقوله‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫َعَّنت لََنا َب ْي َن اللِّوى فَ َزُروِد‬ ‫َي سوالِ ٍ‬
‫ف َو ُخ ُدوِد‬ ‫ت أ ُّ َ َ‬
‫َرَْي َ‬
‫أ َأ‬

‫فمنذ أن نطق امرؤ القيس بلفظ " اللوى " في مطلع معلقته الشهير‪ ،‬خلب ألباب‬
‫الشعراء الالحقين‪ .‬فاستنوا بسنته‪ ،‬يتحينون الفرصة إليراده في مطالع قصائدهم‪ ،‬حتى ش ّكل‬
‫مطلع معلقته مرجعية لذاكرة المتلقي‪ ،‬واحالة تعود إليها كلما وجد ذكر " اللوى " في شعر‬
‫اسم جنس‪ .‬ومثله البحتري في قوله‪:‬‬
‫الالحقين‪ ،‬يستوي في ذلك من استخدمه َعلَما بعينه أو َ‬
‫‪3‬‬
‫المتََّيِم تَ ْسفَـ ـ ِح‬
‫َمتَى تََرهُ َع ْي ُن ُ‬ ‫وضح‬ ‫الد ُخ ِ‬
‫ول فَتُ ِ‬ ‫لَهَا َم ْن ِزل َب ْي َن َّ‬

‫فـ " الدخول " و" توضح " من أشهر ما حواه " أطلس " امرئ القيس في معلقته‪ ،‬حتى الحالة‬
‫الشعورية عند معاينتهما واحدة عند الشاعرين‪ :‬حالة البكاء وذرف الدموع السجام‪ .‬ومنه قوله‬
‫أيضا مستخدما اسم " سعاد " التي خلّدها كعب ابن زهير في الميته‪:‬‬
‫َِّ ‪1‬‬
‫ت َولَ ْم تَتَ َكلم‬
‫اسأَ ْل َوا ْن َو َج َم ْ‬
‫َو ْ‬ ‫اه ُد ِم ْن ُس َع َ‬
‫اد َف َسلِّم‬ ‫هذي المع ِ‬
‫ََ‬ ‫َ‬

‫‪ 1‬أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.4.‬‬


‫‪ 2‬أبو متام‪ :‬الديوان مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1 .‬ص‪.73‬‬
‫‪ 3‬البحرتي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.140 .‬‬

‫‪210‬‬
‫وتلك األماكن القيسية ماثلة في أذهان الشعراء العباسيين‪ ،‬وهم في معرض المفاضلة‬
‫بينها وبين األماكن في بيئتهم أيضا‪ .‬ولو وضعوها في الكفة المرجوحة من تلك الموازنة‪.‬‬
‫علي بن الجهم‪:‬‬
‫يقول ّ‬
‫َزْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـزِل‪2‬‬ ‫اح فَبِ ْرَك ِة‬
‫ض ٍ‬ ‫إِلَى قَ ْ‬
‫ص ِر َو َّ‬ ‫اب ال َك ْرِخ ِم ْن ُمتََنـ ـ ـ َّـزٍه‬
‫َسقَى اهللُ َب َ‬

‫ق ُم َع ـ ـ ـ ـ ـ َّـذ ِل‬
‫ان و َم ْأوى ُك ِّل ِخ ْر ٍ‬
‫ح َس ِ َ َ‬
‫ِ‬ ‫مس َرُح الـ‬ ‫ال ِ‬
‫القَي ِ‬
‫ان َو ْ‬ ‫ب أَ ْذَي ِ‬ ‫ِ‬
‫َم َساح ُ‬
‫وَال أَوجه اللَّ َّذ ِ‬
‫ات َع ْنهَا بِ َم ْعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـزِل‬ ‫ِ‬
‫َ ُُْ‬ ‫الغيث أَ ْهلُهَـ ـ ـ ــا‬
‫َ‬ ‫َمَن ِاز ُل َال َي ْستَتْبعُ‬
‫ول َف َح ْو َم ِل‬ ‫ص َر َع ْن ِذ ْك ِر َّ‬
‫الد ُخ ِ‬
‫َألَ ْق َ‬ ‫ام َأَر القَ ْي ِ‬
‫س َحلّهَـ ـ ــا‬ ‫َمَن ِاز ُل لَ ْو أَ ّن ْ‬
‫ُيذكر أن الباقالّني عاب على امرئ القيس جنوحه إلى اإلسهاب في ذكر كل هذه‬
‫األماكن في مطلع معلقته‪ ،‬والبيت التالي‪ ،‬فزعم أن في " ‪ ...‬البيتين ما ال يفيد‪ ،‬من ذكر هذه‬
‫المواضع‪ ،‬وتسمية هذه األماكن من " َّ‬
‫الد ُخول " و" حومل " و" توضح " و" المقراة " و" سقط‬
‫اللوى "‪ ،‬وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا‪ .‬وهذا التطويل إذا لم ُي ِفد كان ضربا‬
‫العي "‪.3‬‬
‫من ّ‬
‫ولسنا نرى وجها صالحا لهذا الطعن‪ ،‬اللهم إالّ حاجة الباقالني لتحطيم النص الشعري‬
‫في سبيل بيان تفوق النص القرآني عليه‪ ،‬فقد كان في موقف المقارنة بين النصين‪ ،‬ولم يكن‬
‫محتاجا إلى هذا الحيف على فن امرئ القيس هنا‪ .‬فالنص القرآني في الذروة من الفصاحة‬
‫والبالغة‪ ،‬وفي أعلى مراتب اإلعجاز من غير حاجة إلى إثبات ذلك بتوهين نصوص مقابلة‪.‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.167 .‬‬


‫‪2‬‬
‫علي بن الجهم‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬خليل مردم بك‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪0991 ،2.‬م‪ ،‬ص‪.091 .‬‬
‫‪ 3‬حممد بن الطيب الباقالين‪ :‬إعجاز القرآن‪ ،‬حتقيق‪ :‬عماد الدين أمحد حيدر‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،6.‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.134.‬‬

‫‪211‬‬
‫والحق أن تعديد امرئ القيس لهذه األعالم المكانية أحد نقاط القوة البالغية والشعورية‬
‫في مقدمة معلقته‪ ،‬ومن أدل األشياء على الحالة النفسية التي هيمنت عليه‪ ،‬وهو بين تلك‬
‫المعالم التي تحوي آثار ِ‬
‫أحّبته‪ ،‬حتى ولهت نفسه‪ ،‬وشرع يتتبعها أث ار بعد أثر ويذكر مواضعها‬
‫اسما بعد اسم‪.‬‬

‫الزمان وألفاظه‬

‫إذا كانت ألفاظ المكان في مطالع القصيدة العربية قد استمدت قوة حضورها وشعريتها‬
‫مما كان للمقدمة الطللية الغزلية من سلطان قديم على الفن الشعري عند العرب‪ ،‬فإن ألفاظ‬
‫الزمان بدأت تنافسها في التموقع على قمة هرم البناء الشعري في العصر العباسي‪ ،‬بفعل‬
‫التحول الحضاري الذي شهده هذا العصر‪ ،‬والذي أشاعت فيه المدنية االستقرار‪ ،‬واتجه فيه‬
‫اإلنسان العربي إلى اتخاذ المساكن المشيدة‪ ،‬وتفنن في إنشاء الدور والقصور والحدائق‬
‫المقام لكثير من العرب في بالد جديدة أكسبها اهلل جماال طبيعيا فاتنا‪ ،‬إضافة‬‫الغناء‪ .‬وطاب ُ‬
‫ّ‬
‫إلى الشعراء من أبناء تلك البلدان أنفسهم‪.‬‬

‫هذا إلى جانب ما يتطلبه االنصراف إلى المدح من ضرورة اإلقامة حيث قصر‬
‫الممدوح‪ ،‬وهو ما يدفع الشاعر – عادة – إلى القبول بالمكان ظاه ار على األقل‪ .‬على خالف‬
‫ما كان عليه األمر في الجاهلية‪ ،‬يوم كانت ضرورات العيش البدوي تقتضي الترحل من‬
‫مكان إلى آخر طلبا للماء والكإل‪ ،‬فتنتقل القبيلة بين المضارب وفي هوادجها حبائب الشاعر‬
‫الذي يدفعه الحنين إلى الربط بين الحبيبة والطلل الدارس‪.‬‬

‫ومن هنا بدأ الزمان يمأل على الشاعر العباسي إحساسه‪ ،‬كما مأل المكان إحساس‬
‫الشعراء السابقين‪ ،‬وكان للربيعيات والزهريات في البيئة العباسية المتحضرة والفاتنة‪،‬‬
‫البين بين الفصول والذي تظهر معه مباهج فصل الربيع‪ ،‬وما يرتبط بذلك من‬
‫ولالختالف ّ‬

‫‪212‬‬
‫مجالس غناء وشرب‪ ،‬أثَر في تصدير كثير من أولئك الشعراء قصائدهم بألفاظ الزمان التي‬
‫يكثر معها ترديد أسما بعض األشهر الربيعية المعتدلة‪.‬‬

‫المالحظ أن أكثر ميل الشاعر إنما هو إلى أسماء الشهور غير العربية كالسريانية‪،‬‬
‫و َ‬
‫لما لها من وقع موسيقي جديد وطريف لم تأنسه األذن العربية من قبل‪ .‬وهو مظهر من‬
‫مظاهر تحديث الشعرية العربية في هذا المجال‪ .‬إلى جانب تأثير الثقافات األجنبية‪ ،‬فصرنا‬
‫نجد في قاموس الشاعر العباسي ألفاظا من قبيل " آذار " و" نيسان "‪ .‬يضاف إلى ذلك إيراد‬
‫َّحر " و " الفجر "‪ ،‬وغيرها من ألفاظ تلتقي والعلَم‬
‫ألفاظ زمانية تمثل أجزاء من اليوم كـ " الس َ‬
‫المؤنث في الرقة والعذوبة‪ ،‬وتذكر بما لهذا من شعرية رائقة‪ ،‬خصوصا أنها كثي ار ما اتُّخذت‬
‫هي نفسها أعالما على النساء‪ .‬ومحصَّل هذا كله أن الزمان عند الشاعر العباسي هو‬
‫المعادل للمكان عند الشاعر الجاهلي‪.‬‬

‫وشدة إحساس الشاعر العباسي بالزمان‪ ،‬و حرصه على تتبع لذاته واغتنامها في أيامه‪،‬‬
‫ومباردته ُمتَعه فيها حتى ال تضيع عليه واحدة منها‪ ،‬تجعل شاع ار كأبي نواس ال يرضى‬
‫مجملة‪ ،‬بل يذهب إلى ف ّكها إلى أيام متفرقة‪ ،‬كأن ك ّل يوم منها عمر عاشه قائم‬
‫بذكر المدة َ‬
‫بنفسه‪ ،‬مغرقا فيه بكل حواسه وفكره‪ ،‬وليس في شعره أطرف تعبي ار عن هذا من قوله‪:‬‬

‫ويوما لَه يوم التَّرُّح ِل َخ ِ‬ ‫ِ‬


‫أَقَ ْمَنا بِه َي ْو ًما َوَي ْو َم ْي ِن َب ْع َدهُ‬
‫‪1‬‬
‫ام ُس‬ ‫َ َْ ً ُ َْ ُ َ‬
‫وهو القائل‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫اء َوقَ ْد أَتَى آ َذ ُار‬ ‫ضى ِّ‬
‫الشتَ ُ‬ ‫َو َم َ‬ ‫ق األ ْش َج ُار‬
‫ان َوأ َْوَر َ‬ ‫اب َّ‬
‫الزَم ُ‬ ‫ط َ‬
‫َ‬

‫‪1‬‬
‫أبو نواس‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.99 .‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.515 .‬‬

‫‪213‬‬
‫ومن ذلك قول ابن المعتز‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫ف َعلَى ال ِج ْس ِر َب ْرُد َّ‬
‫الس َح ْر‬ ‫وَر َّ‬
‫َ‬ ‫ص ْو ِب ُ‬
‫الب َك ْر‬ ‫الربِيعُ بِ َ‬
‫ك َّ‬‫أَتَا َ‬

‫التصغير‬

‫ليس التصغير ببعيد عن العلم النسوي أو المكاني من حيث احتواؤه على تلك الطاقة‬
‫الشعرية والمسحة الجمالية‪ .‬ذلك أن من أهم أغراضه – كما هو معلوم – التحبيب أو‬
‫التعطّف‪ ،2‬شأنه في ذلك شأن صيغ وأساليب معروفة في اللغة العربية‪ ،‬مثل الترخيم‪ .‬وهو‬

‫معنى يزداد رقة ولطفا إذا َرِد َ‬


‫ف للتعجب‪ ،‬يقول المتنبي‪:‬‬

‫َع َج ِب‬ ‫ُح ْي ِسَنها ُم ْقلَةً‬


‫‪3‬‬
‫الحةُ ْلم أ ْ‬
‫الم َ‬
‫َولَ ْوال َ‬ ‫َأيا َما أ َ‬

‫وقد كان المتنبي أكثر الشعراء العباسيين حفوال بالتصغير‪ ،‬في مطالع القصائد وفي‬
‫الدارس التغاضي عنها‪ ،‬وهو ما‬
‫َ‬ ‫سائر األبيات‪ .‬حتى غدا ذلك ظاهرة أسلوبية عنده ال يمكن‬
‫السابقين الذين‬
‫المعري من ّ‬
‫ّ‬ ‫يؤكده تنبه القدماء والمحدثين إليها في شعره‪ ،‬وكان أبو العالء‬
‫تعمد الشاعر ذلك واسرافه فيه في " رسالة الغفران " بقوله‪:‬‬
‫انتبهوا إلى ذلك‪ ،‬فأشار إلى ّ‬
‫المتنبي ] مولعا بالتّصغير‪ ،‬ال يقنع من ذلك بخلسة المغير‪ .4" ....‬من‬
‫ّ‬ ‫الرجل [‬
‫"‪...‬فقد كان ّ‬
‫ذلك قوله‪:‬‬

‫َحزُمهُ ْم َو ْغ ُد‬
‫َعلَ ُمهُ ْم فَ ْدم َوأ َ‬
‫فَأ ْ‬ ‫ُهْيلَهُ‬
‫ان أ َ‬ ‫أَ ُذ ُّم إِلَى َه َذا َّ‬
‫الزَم ِ‬

‫‪ 1‬ابن املعتز‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.114 .‬‬


‫‪ 2‬جالل الدين السيوطي‪ :‬مهع اهلوامع يف شرح مجع اجلوامع‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد العال سامل مكرم‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬القاهرة‪1001 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.170.‬‬
‫‪ 3‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.163 .‬‬
‫‪ 4‬أبو العالء املعري‪ :‬رسالة الغفران‪ ،‬دار بريوت‪ ،‬بريوت‪1990 ،‬م‪ ،‬ص‪.197.‬‬

‫‪214‬‬
‫وقوله‪:‬‬

‫ي ِفي ِه ْم َب ِاق ُل‬


‫َن يحسب ال ِه ْن ِد َّ‬
‫أْ‬ ‫ص ٍر َي َّد ِعي‬
‫ُهْي ِل َع ْ‬
‫ِ‬
‫َم ْن لي بِفَ ْهِم أ َ‬

‫وقوله‪:‬‬

‫ض ِعيف يقَ ِاوينِي قَ ِ‬


‫صير ُيطَ ِاو ُل‬ ‫ض ْبنِي ُش َوْي ِعر‬
‫ت ِ‬
‫أ َِفي ُك ِّل َي ْوٍم تَ ْح َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬

‫واذا أراد المتنبي أن يفضي إلى المستمع بمعنى استقر في نفسه‪ ،‬ورأى التصغير كفيال‬
‫بتبليغه‪ ،‬سواء في ذلك التحقير وغيره من المعاني التي تؤديها صيغته‪ ،‬لم يستنكف أن يجابه‬
‫المتلقي بالتصغير في مطلع القصيدة‪ .‬ولو كانت ملحقة بأسماء تتركب من أصوات تسبب‬
‫ثقال في اللفظ عند اقترانها بهذه الصيغة‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫طة بالتَـنادي‬
‫المنو َ‬
‫لَُي ْيـَلـتَُنا َ‬ ‫ُح ِاد‬ ‫ِ‬
‫ـاد ّأم ُس َـداس في أ َ‬
‫ُح ُ‬‫أَ‬

‫وعلو‬ ‫ِ‬
‫السلبي والحتمي‪ ،‬لما يراه من كَبر نفسه ّ‬
‫المتنبي هو المقابل ّ‬
‫ّ‬ ‫وتصغير اآلخر عند‬
‫وسمو طموحه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫همته‬
‫ّ‬
‫ط ِاو ُل‬
‫المتَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تُ َحقِّ ُر ِع ْن ِدي ِه َّمتِي ُك َّل َم ْ‬
‫طلَ ٍب‬
‫الم َدى ُ‬
‫ص ُر في َع ْيني َ‬
‫َوَي ْق ُ‬

‫الزيادة في‬
‫ص ُدق عليها مقولة الصرفيين " ّ‬ ‫لذلك فصيغة التصغير بهذا المعنى‪ ،‬ال تَ ْ‬
‫أن‬
‫أن التّصغير زيادة في البناء حقيقة‪ ،‬إالّ ّ‬
‫الزيادة في المعنى "‪ .‬فمع ّ‬‫المبنى دليل على ّ‬
‫أن الحقير ناقص‬‫النقيض للمعنى‪ ،‬كما ّ‬
‫المراد هو التّقليل والتّحقير‪ ،‬فالمبنى هنا هو المقابل و ّ‬
‫الناس التافهين الذين هجاهم بصغر هممهم وأقدارهم‬
‫الفضل وان كان زائد ال ّشكل‪ ،‬كأولئك ّ‬
‫وان كانت لهم جثت ضخمة‪.‬‬

‫‪ 1‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.757 .‬‬

‫‪215‬‬
‫وللشاعر تمثيل طريف لهذه المفارقة بين زيادة اللفظ ونقصان المعنى المستفاد منه‪،‬‬
‫ضمنه قولَه‪:‬‬
‫وهو ما ّ‬
‫‪1‬‬
‫وف أَُن ْي ِس ِ‬
‫يان‬ ‫لَه ياءي حر ِ‬
‫ُ َ َ ْ ُُ‬ ‫ان ْابَنا َع ُد ٍّو َكاثََراهُ‬
‫َو َك َ‬

‫وقد وقف المعاصرون عند الظاهرة أيضا‪ ،‬محاولين تفسيرها‪ ،‬وتقديم تعليالت لها‪ ،‬من‬
‫هؤالء العقاد الذي من البداهة أن ينحو في تفسيره الظاهرة نحوا نفسيا‪ ،‬بما أنه من المؤمنين‬
‫الصادقين بقيمة هذا المنهج في التعامل مع شعراء ذوي منازع نفسية معقدة‪ ،‬وقلق ما ورائي‪.‬‬
‫فيرى أن حامل المتنبي على ذلك الشعور بالعظمة أو بعبارة أخرى تضخم األنا‪،‬‬
‫يقول‪":‬وأظهر مظاهر شعوره بالعظمة في سمات شعره المبالغة في التهويل والتضخيم من‬
‫جهة‪ .‬و هذا الولع بالتصغير من جهة أخرى "‪.2‬‬

‫لكن الدكتور شوقي ضيف ُيعقّب على هذا التفسير بأنه قاصر‪ ،‬ال يستوفي تفصيالت‬
‫هذه الظاهرة كلها‪ .‬ولذلك يقدم تفسي ار آخر رجع فيه إلى معجم المتصوفة‪ ،‬يعلل به به جنوح‬
‫المتنبي إلى التصغير وظواهر لغوية أخرى تجد مكانها في هذا التفسير نفسه حسب رأيه‪،‬‬
‫يقول ‪ ":‬و الحق أن تفسير العقاد ال يطرد في أمثلة الظاهرة‪ ،‬و لذلك كان ال يصلح تفسي ار‬
‫لها‪ ،‬وكنا نرى أن من األقرب أن نعلل لها بتصنع المتنبي ألساليب المتصوفة‪ ،‬إذ نراها تقترن‬
‫بظواهر أخرى من شارات عباراتهم التي اقترضها منهم كظاهرة أسماء اإلشارة‪.3"...‬‬

‫وقد أحس شوقي ضيف بصعوبة اإلقناع بهذا التفسير‪ ،‬وغموض العالقة التي يمكن أن‬
‫عبر عنه بصيغة إشكالية استفهامية‬
‫تقوم بين ظاهرة التصغير ولغة المتصوفة‪ ،‬إحساسا ّ‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،9.‬ص‪.210 .‬‬
‫‪ 2‬عباس حممود العقاد‪ :‬مطالعات يف الكتب واحلياة‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا بريوت‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬ص‪.109 .‬‬
‫‪ 3‬شوقي ضيف‪ :‬الفن ومذاهبه يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪.711 ،‬‬

‫‪216‬‬
‫أعقبها بالجواب فقال ‪ ":‬ولكن كيف نربط بين هذا التصغير وأسلوب المتصوفة؟‪ ،‬إن الربط‬
‫بينهما يكاد يكون غير واضح "‪.1‬‬

‫لذلك اكتفى بتفسير الظاهرة تفسي ار اقترانيا‪ ،‬قرن فيه توارد هذه الظاهرة عند المتنبي‬
‫بظواهر أسلوبية أخرى‪ ،‬كاإلكثار من المبهمات واإلشاريات وأدوات المخاطبة والنداء‪ ،‬التي‬
‫من السهل االقتناع بأنها من صميم بنية اللغة الصوفية‪ .‬لما في المنزع الصوفي من غيبيات‬
‫و تجرد ومكاشفات ومناجيات وحلول أحيانا‪ ،‬وما يشبه ذلك من مقامات تتطلب تلك‬
‫األساليب والصيغ ‪.‬‬

‫بل يفترض أن المتنبي هو الذي فتح للمتصوفة الذين جاؤوا بعده ‪ -‬كابن الفارض ‪-‬‬
‫باب التأثر بهذا األسلوب‪ ،‬الذي وجدوه مقترنا عنده بما سبق أن استقر في معجم أسالفهم‬
‫‪":‬فقد اعتُبر أسلوب المتنبي أسلوبا صوفيا وأخذ يقلده المتصوفة وكأنهم أحسوا أن التصغير‬
‫إحدى شارات هذا األسلوب ومميزاته "‪.2‬‬

‫ومع أن التفسير النفسي القائم على تعاظم المتنبي‪ ،‬هو األقرب إلى التفسير الصحيح‪،‬‬
‫بال حاجة إلى اإلمعان في التأويل‪ ،‬إال أن تأثر المتنبي بمشارب الصوفية والفالسفة أمر ّبين‬
‫ال يمكن إنكاره‪ ،‬وهو ما يجعل لرأي الدكتور شوقي ضيف حظا ال بأس به من المعقولية‬
‫والقبول‪.‬‬

‫ومن الناحية النحوية ُيالحظ أن المتنبي به كلَف إلى إدخال التصغير على ما هو مثار‬
‫خالف بين المذاهب النحوية‪ ،‬وجدل بين النحاة كتصغير " أفعل" التعجب " وكأنه كان‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫يقصد قصدا أن يكون " ‪ ...‬شعره مسرحا للمدارسة واالختالف وتعارض اآلراء بين علماء‬
‫النحو والتصريف "‪ ،1‬فيصدق قوله ‪:‬‬
‫‪2‬‬ ‫ق ج َّراها وي ْختَ ِ‬
‫ص ُم‬ ‫ام ِم ْل َء ُجفُونِي َع ْن َش َو ِارِدها‬
‫الخ ْل ُ َ َ َ َ‬
‫َوَي ْسهَ ُر َ‬ ‫أََن ُ‬

‫صيغة النسب‬

‫وقرب شبه في البنية اللفظية لحضور‬


‫َ‬ ‫ومث ُل التصغير حضو ار في شعر المتصوفة‪،‬‬
‫حرف الياء‪ ،‬صيغةُ النسب‪ .‬فهي كثيرة الدوران في شعر المتصوفين‪ ،‬الذين يتلذذون‬
‫ويتشرفون بنسبة ذواتهم واضافتها إلى الذات اإللهية‪ ،‬وما يتصل بها من أسماء وصفات‬
‫نورانية وروحانية‪ ،‬يقول الحالج‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫الرو ِح َدَّيان َعلِ ْيم‬
‫ي ُّ‬‫ص َم ِد ُّ‬
‫َ‬ ‫َّميم‬ ‫َه ْي َكلِ ُّي ال ِج ْسِم ُن ِ‬
‫وري الص ْ‬

‫أحرف الجواب‬

‫لم يستحسن اآلمدي من البحتري ورود حرف الجواب " َن َع ْم " في قوله‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫َهلِيهَا‬ ‫َن َع ْم وَن ْسأَلُهَا َع ْن َب ْع ِ‬
‫ض أْ‬ ‫َ‬ ‫الد ِار ِم ْن لَْيلَى ُن َحيِّيهَا‬
‫ِميلُوا إلى َّ‬

‫وزعم أن هذا " بيت رديء‪ ،‬لقوله " َن َع ْم " وليس بالمعنى إليها حاجة‪ ،‬فجاء بها حشوا‪،‬‬
‫ومن الحشو ما ال يقبح‪ ،‬و" نعم " ههنا قبيحة ‪ .5...‬وشمل بهذا الحكم شاع ار سابقا‪ ،‬تردد هذا‬

‫‪ 1‬عبد اجلليل يوسف بدا‪ :‬الظواهر النحوية والصرفية يف شعر املتنيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.146.‬‬
‫‪2‬‬
‫المتنبي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.313 .‬‬
‫‪3‬‬
‫الحالج‪ :‬الديوان مصدر سابق‪ ،‬ص‪.052 .‬‬
‫‪4‬‬
‫البحتري‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.39 .‬‬
‫‪5‬اآلمدي‪ :‬املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.661.‬‬

‫‪218‬‬
‫الحرف كثي ار في ابتداءاته وهو ُك ّثير‪ ،‬يقول‪":‬وقد أولع بها ُكثّير بن عبد الرحمن في ابتداءاته‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬

‫أِ‬
‫قفار‬
‫ون ُ‬ ‫َن َع ْم دارسات قد َعفَ َ‬ ‫بالخ ِريق ُ‬
‫ديار‬ ‫َم ْن أ ُِّم َع ْم ٍرو َ‬

‫وقال‪:‬‬

‫الم َغانِي قَ ْد َد َر ْس َن َم َواثِ ُل‬


‫َن َع ْم َو َ‬ ‫ت َسائِ ُل‬
‫ب أ َْم أ َْن َ‬
‫الرْك ُ‬
‫أِ‬
‫َم ْن آل َسلمى َّ‬

‫وقال‪:‬‬

‫اح َزألَّ ْ‬
‫ت َحمولُها‬ ‫لما ْ‬
‫ت ّ‬‫َن َع ْم َوثََن ْ‬ ‫َج َّد َرحيِلُها‬
‫ك لَْيلَى إِ ْذ أ َ‬
‫َهاج َ‬
‫أ َ‬

‫وقال‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫ت ِم ْن َحْب ِل القَ ِر ِ‬
‫ين قَ ِر ُ‬
‫ين "‬ ‫َك َما ْانَب َّ‬ ‫ين‬ ‫ِ‬
‫أََبائَنة ُس ْع َدى َن َع ْم َستَِب ُ‬

‫غير أنه يستثني هذا البيت األخير‪ ،‬ولكن ليس باالستحسان بل بصالحية ورود " َن َعم "‬
‫فيه قياسا باألبيات األخرى وذلك ألن " إسقاطها من الجميع يحسن‪ ،‬وال يحتاج االستفهام فيها‬
‫إلى جواب‪ ،‬إال هذا البيت فإن االستفهام فيه يقتضي أن يكون " نعم " جوابا له‪ ،‬ومع هذا‬
‫ولكثير استفهامات ال جواب لها على عادات الشعراء‬
‫ّ‬ ‫فليس لها حالوة وال حسن‪.‬‬
‫المحسنين"‪.2‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.667 – 661.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.667 .‬‬

‫‪219‬‬
‫واضح أن اآلمدي يحتكم في هذا إلى صرامة المنطق‪ ،‬الذي يقتضي أن يكون لكل‬
‫سؤال جواب‪ .‬فال يتصدر حرف الجواب‪ ،‬إال ما كان جوابا لسؤال ظاهر من قبل‪ .‬وما أكثر‬
‫ما يكون الحكم المنطقي جافا خشنا‪ ،‬ليس له لمسة من فن وال مسحة من شعر‪.‬‬

‫الوقع الحسن‬
‫َ‬ ‫وما زال الشعراء يستعذبون البدء بأحرف الجواب‪ ،‬بعد البحتري ويقع ذلك‬
‫من األسماع‪ ،‬فمما جاء في هذا من شعر أبي فراس الحمداني قوله‪:‬‬
‫‪1‬‬ ‫ونه َّن وج ِ‬
‫امـ ُل‬ ‫َوَذلِ َ‬ ‫الخ َمائِ ُل‬
‫الو ِادَي ْي ِن َ‬ ‫َن َع ْم تِْل َ‬
‫ك َشاء ُد َ ُ َ َ‬ ‫ك َب ْي َن َ‬
‫مر أن حرف الجواب حتى ولو كان أول لفظ في المطلع‪ ،‬قد يكون جوابا عن سؤال‬
‫وقد ّ‬
‫ومؤشر محاورٍة نفسية سابقة لنظم القصيدة تحمل من المضامين‬
‫َ‬ ‫مضمر في نفس الشاعر‪،‬‬
‫والمشاعر ما تحمل‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو فراس احلمداين‪ :‬الديوان‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1001 ،1 .‬م‪ ،‬ص‪.161 .‬‬

‫‪220‬‬
‫الفصــــل الثـــــــالث‬

‫المستــــوى الصـــــوتي‬

‫الموسيقى الخارجية‬

‫الموسيقى الداخلية‬

‫البديع‬
‫المــــوسـيــــــــــقى الخـــارجـيـــــة‬
‫يبدو أن الشاعر العباسي لم يكن يحرص – وهو يسعى سعيه إلى االستقالل بشخصيته‬
‫الفنية‪ ،‬واالختالف عن اآلخر – على النفوذ من حدود المقررات العروضية الموروثة‪ ،‬إلى‬
‫آفاق موسيقية جديدة‪ .‬على األقل في شكل دعوة عامة تشكل خروجا جماعيا عليها‪ ،‬وتؤسس‬
‫لمشروع نظري مكتمل الرؤية وواضح األبعاد‪ .‬كما لم يحفظ شعرهم نفسه تشكيات من‬
‫الموروث الموسيقي مثل تلك التشكيات من المقدمة التقليدية‪ ،‬التي جاهر بها أبو نواس في‬
‫سخرية وتبرم‪.‬‬

‫غير أن هذه النظرة تصلح حكما عاما ال تنتفي معه المحاوالت الخاصة‪ ،‬والمبادرات‬
‫الشخصية التي كان بعض الشعراء من أصحاب حس المغامرة‪ ،‬وهواة التجريب يخرجون بها‬
‫على الناس من حين إلى آخر‪ .‬يحمل عليها – إضافة إلى هذه الدوافع الشخصية ‪-‬‬
‫مستجدات ثقافية ونضج أغراض واتجاهات شعرية حديثة‪ ،‬كشعر الزهد والتصوف واالتجاه‬
‫الشعبي‪ ،‬وما يشبهها من فنون شعرية تتطلب تصرفات عملية على المادة الموسيقية القديمة‪.‬‬

‫وربما كان أسبق محاوالت التجديد في موسيقى الشعر العربي في هذا العهد‪ ،‬تلك‬
‫الكسور العروضية التي أُثرت عن بعض كبار الشعراء العباسيين‪ ،‬وهي كسور يبدو أنها‬
‫كانت متعمدة‪ ،‬خصوصا أنها كانت تقع في بحور سهلة النظم واضحة النغم‪ .‬وانما يفعل‬
‫الشاعر ذلك إيذانا بضرورة البدء في التغيير‪ ،‬وكس ار للرتابة في مجتمع بدأ يضجر من إيقاع‬
‫المدنية الممل من جهة‪ ،‬وايمانا من الشاعر العباسي بحرية الفن في الخرق والخلق من جهة‬
‫أخرى‪ .‬وحتى إن لم تكن متعمدة فقد كان بعض الشعراء إذا ُنبه عليها لم يرتدع عنها ولم‬
‫يصلحها‪ ،‬بل كان يدافع عن خروجه ويبرره‪ ،‬كأبي العتاهية الذي عرفت عنه هذه الكسور‪.‬‬
‫فكان إذا سئل هل تعرف العروض؟ يقول ‪ ":‬أنا أكبر من العروض‪ ،‬وله أوزان ال تدخل في‬
‫العروض "‪.1‬‬

‫‪ 1‬أبو الفرج األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4 .‬ص‪.51.‬‬

‫‪223‬‬
‫إن القارئ ليتساءل حقا عما يجعل شاع ار نابها كأبي العتاهية‪ ،‬ينظم في بحر سهل‬
‫المأخذ واضح النوطة‪ ،‬كثير االستعمال عند المحدثين‪ ،‬كبحر الخفيف َفيج َشم فيه كس ار‬
‫عروضيا يمثل نشا از بينا في البيت‪ .‬وذلك قوله‪:1‬‬

‫اط ِئ في يوِم ِ‬
‫الح َس ِ‬
‫اب‬ ‫الخ ِ‬
‫ف َ‬‫َم ْوِق َ‬ ‫ف اهللَ واتْ ُر ِك َّ‬
‫الزْه َو َوا ْذ ُك ْر‬ ‫فَ َخ ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ويزيد التساؤ َل مشروعيةً أن إصالح الخلل سهل‪ ،‬حتى على المبتدإ في صناعة الشعر‪،‬‬
‫يوم الحساب"‬
‫وعلى من يملك أدنى إحساس موسيقي‪ ،‬فما أسهل أن يقول ‪ ":‬موقف الخاطئين َ‬
‫حتى يستقيم له الوزن‪.‬‬

‫وقد أدى البناء التراكمي لتلك الكسور إلى محاولة الوقوع على أوزان جديدة‪ ،‬ساعد‬
‫العروضي الفذ الخليل بن أحمد الفراهيدي‪ .‬وذلك بأن وضع لها‬
‫ُّ‬ ‫اء العباسيين عليها‬
‫الشعر َ‬
‫هدته عقليته الرياضية إلى ضم المكونات األساسية الدنيا لألوزان‬
‫قواعد احتمالية‪ ،‬بعد أن َ‬
‫العربية في الدوائر العروضية المعروفة‪ ،‬فنبه الناظرين إلى بحور لم ينظم عليها الشعراء‬
‫السابقون أو لم يصل إلى الخلَف ما نظموه عليها‪.‬‬

‫لقد لجأ الخليل إلى آلية " التباديل والتوافيق الرياضية في وضع عروض الشعر‪ ،‬إذ‬
‫جعل أوزانه تدور في خمس دوائر أو بعبارة أدق تدور أجزاؤها من األسباب واألوتاد‪ ،‬فإذا هو‬
‫يحصي األوزان التي استخدمها العرب واضعا لها ألقابها ويحصي أو يستنبط أوزانا أخرى‬
‫مهملة لم يستخدموها في أشعارهم‪ ،‬كي ينفذ منها الشاعر العباسي إلى ما يريد من تجديد في‬
‫أوزان الشعر وبحوره "‪.2‬‬

‫إن عمل الخليل ذلك على قدر ما هو تقنين وتقعيد لموسيقى الشعر العربي‪ ،‬هو أيضا‬
‫توسعة على الشعراء الالحقين‪ ،‬واعتراف بحقهم في اإلبداع‪ ،‬ضمن أوسع دائرة من اإلمكانات‬
‫المتاحة عند تحويل تلك المادة األولية من األسباب واألوتاد‪ .‬فإذا بالشاعر العباسي يحاول "‬

‫‪ 1‬أبو العتاهية‪ :‬الديوان‪ ،‬شرح‪ :‬جميد طراد‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪4004 ،‬م‪ ،‬ص‪.15.‬‬
‫‪ 2‬شوقي ضيف‪ :‬تاريخ األدب العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪591 .‬‬

‫‪224‬‬
‫النفوذ إلى أوزان جديدة‪ ،‬واذا هو يكتشف وزنين سجلهما الخليل بن أحمد حين وضع نظرية‬
‫العروض‪ ،‬هما وزنا المضارع والمقتضب ‪.1" ...‬‬

‫وقد وعى الجيل الالحق ما أراده الخليل‪ ،‬فلم يقفوا عند ما رسمه لهم من بحور‬
‫مستعملة‪ .‬بل سعوا إلى التجريب والتقليب في ذلك التراث‪ ،‬فخرج منه تلميذه األخفش بوزن‬
‫المتدارك‪ ،‬على فرض أن الخليل لم يعرفه قبله‪.‬‬

‫ويصل األمر ببعض هواة التجريب‪ ،‬والمستقصين فيه إلى أن ُيغربوا في البحث‬
‫والتنقيب حتى يقعوا على أشكال فريدة من التراكيب العروضية‪ .‬في داللة على طواعية المادة‬
‫التي تركها الخليل‪ ،‬واستجابتها للتشكيل الجديد‪ ،‬واعادة الصياغة‪.‬‬

‫يذكر صاحب األغاني – في هذا المجال – عبد اهلل بن هارون العروضي‪ ،‬أحد‬
‫تالمذة الخليل‪ ،‬وُرزينا العروضي الذي تقفى أثره‪ ،‬فيقول ‪ ":‬هو عبد اهلل بن هارون بن‬
‫َّميدع‪ ،‬مولى قريش‪ ،‬من أهل البصرة‪ .‬وأخذ العروض من الخليل بن أحمد‪ ،‬فكان مقدما‬ ‫الس َ‬
‫فيه‪ .‬وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أوالدهم‪ ،‬وكان يمدحهم كثيرا‪ ،‬فأكثر شعره فيهم‪.‬‬
‫وهو مقل جدا‪ .‬وكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره‪ ،‬ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه‬
‫فيه ُرَزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة‪ ،‬وجعل أكثر شعره من هذا الجنس‪.2"...‬‬

‫أو يركب بعضهم الصعب في بناء قوافيهم على الروي النادر‪ ،‬يقول المتنبي‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫ـش ُع َّـدةٌ للبِ َـر ِاز‬
‫الع ْي ِ‬ ‫َّ‬ ‫الج َر ِاز‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫لَـذةُ َ‬ ‫َكف ِرْندي ف ِرْن ُد َس ْيفي ُ‬

‫فالروي (الزاي) يجعل القافية من تلك القوافي النادرة في االستعمال التي يسميها العروضيون‬

‫النفُر)‪ ،4‬وهو أمر يتماشى وذلك التغريب في بناء الصورة‪ ،‬والتقديم والتأخير على مستوى‬
‫( ُّ‬
‫اإلسناد في الجملة‪ .‬غير أن هذا التصرف المزدوج‪ ،‬والروي النفور لم يسببا ثقال على السمع‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.594.‬‬
‫‪ 2‬أبو الفرج األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪ ،6 .‬ص‪.510.‬‬
‫‪ 3‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.573.‬‬
‫‪ 4‬حممد سعيد إسرب وحممد أبوعلي‪ :‬اخلليل معجم يف علم العروض‪ ،‬ط‪ ،5.‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.96.‬‬

‫‪225‬‬
‫ردفة باأللف‪ ،‬في التخفيف من ِح َّدة‬
‫الم َ‬
‫أو نشازا‪ ،‬لتضافر موسيقى بحر الخفيف مع القافية ُ‬
‫ذلك‪.‬‬

‫فع َل أبي العتاهية‪ ،‬في قوله‬


‫ويجنح بعضهم إلى توخي البحور القليلة‪ ،‬القلقة الموسيقى‪ْ ،‬‬
‫من بحر المديد‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫َما بِهَذا ُيؤِذ ُن َّ‬
‫الزَم ُن‬ ‫َس َك ٌن َي ْبقَى لَهُ َس َك ُن‬

‫شئت أخبرتك‬
‫َ‬ ‫روى األصفهاني أن س ْلما الخاسر سئل من أشعر الناس؟ فقال لسائله‪ ":‬إن‬
‫أحسنت‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫بأشعر الجن واإلنس‪ ،‬فقال إنما أسألك عن اإلنس‪ ،‬فإن زدتني الجن فقد‬
‫أشعرهم الذي يقول‪ ،‬وذكر المطلع السابق‪.2‬‬

‫غير أن الشاعر هنا استطاع إن يعالج نبو وزن المديد بالزحافات والعلل‪ ،‬فأدخل الخبن‬
‫على (فاعالتن) في أول الصدر فصارت (فعالتن)‪ ،‬والخبن والحذف عليها في العروض‬
‫فعلن)‪ .‬وبذلك سلِست موسيقاه‪ ،‬واقتربت من موسيقى بحر المتدارك‬
‫والضرب‪ ،‬فصارت ( ِ‬
‫العذبة‪.‬‬

‫ويالحظ أنه لم َي ُع ْد إلى مزاحفة (فاعالتن) األولى بالخبن في أول ثالثة أبيات متتابعة‬
‫بعد المطلع وهي قوله‪:‬‬

‫ق لَ ِسـ ـ ـ ـ ـ ُـن‬ ‫عن بِالها َن ِ‬


‫اط ٌ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َن ْح ُن في َد ٍار ُي َخب ُرَنـ ـ ـ ــا‬

‫زن‬ ‫الم ِر ٍ ِ‬ ‫َد ُار ُسوٍء لَ ْم َي ُد ْم فَ ـ ـ ـ َرٌح‬


‫ئ فيهَا َوال َح ـ ـ ـ ـ ــَ ُ‬ ‫ْ‬
‫لَم تَ ُغ ْل ِفيها بِ ِه ِ‬
‫الفتَ ـ ـ ـ ـ ـ ُـن‬ ‫َح ًدا‬ ‫ما َنرى ِمن أ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َهلهَا أ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫وكأن عنايته بتلطيف الموسيقى بهذا النوع من الزحاف كانت منصبة على المطلع أوالً‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو العتاهية‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.366 .‬‬


‫‪ 2‬األصفهاين‪ :‬األغاين‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.54.‬‬

‫‪226‬‬
‫وهذه التغييرات في البنية الوزنية الموروثة‪ ،‬والمسماة عروضيا بالزحافات والعلل‪ ،‬متنفس‬
‫للشاعر‪ ،‬استغله الشاعر العباسي‪ ،‬ومد حدوده إلى أقصى الدرجات‪ ،‬مواجها بذاك للنمطية‬
‫العروضية القديمة‪ .‬فالوزن الشعري " ممثَّال ببحوره الستة عشر لم يكن على االطراد اآللي أو‬
‫التوالي الكمي لعناصر الوزن عبر مسافات زمنية ال تنفك تتواتر باآللية نفسها‪ ،‬وانما تجري‬
‫في أحيان كثيرة انزياحات عروضية عن الوزن األصلي من حذف واضافة داخل تفعيالت‬
‫البيت نسميها زحافا أو علة "‪.1‬‬

‫والشاعر العباسي ‪ -‬إذ يفعل ذلك – يكون مدفوعا بحس موسيقي‪ ،‬وجمالي أصيل‪،‬‬
‫بحيث تضفي تلك الزحافات والعلل في الغالب سالسة وقبوال على موسيقى البيت‪ ،‬السيما مع‬
‫بعد‪ ،‬كما في مطلع أبي‬‫البحور النادرة ذات الموسيقى التي لم تصقلها العادة والممارسة ُ‬
‫العتاهية‪ .‬وعند ذلك ال يجد المستمع " ‪ ...‬إخالال بموسيقية البيت أو انتظامه‪ ،‬وانما يكون‬
‫في أغلب األحيان ذا أبعاد جمالية موسيقية‪ ،‬تتصل بتدفق الوزن وطوله وتنوعه وخصائص‬
‫التشكيل فيه"‪.2‬‬

‫ولهذا كان الزحاف مظنة زلل األقدام‪ ،‬ال يثبت على أرضه‪ ،‬وال يفلح فيه إال الشاعر‬
‫الموهوب ذو األذن الشعرية األصيلة‪ .‬وهو من الحساسية والدقة والخصوصية‪ ،‬بحيث قال فيه‬
‫األصمعي ‪ ":‬الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه ال ُيقدم عليها إال فقيه "‪.3‬‬

‫الدارس أن يق أر في كثير من تصرفات الشعراء العباسيين في الزحافات والعلل‬


‫َ‬ ‫ويمكن‬
‫التي تدخل تفعيالت بحورهم‪ ،‬تأويالت واسقاطات فكرية أو شعورية‪ ،‬تنم عنها تلك التوجهات‬
‫العروضية كما في قول المتنبي‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫ط ِوي ُل‬
‫ين َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫العاشق َ‬
‫ط َوا ٌل َولَ ْيـ ُل َ‬ ‫ين ُش ُكو ُل‬
‫لََيال َّي َب ْع َد الظاعـن َ‬

‫‪ 1‬أمحد مبارك اخلطيب‪ :‬االنزياح الشعري عند املتنيب قراءة يف الرتاث النقدي عند العرب‪ ،‬دار احلوار‪ ،‬الالذقية‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪4009 ،5.‬م‪ .‬ص‪.543 .‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.544.‬‬
‫‪ 3‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،5.‬ص‪.541.‬‬
‫‪ 4‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3 .‬ص‪.91 .‬‬

‫‪227‬‬
‫فهو مطلع غزلي تقليدي فيه شكوى الليالي‪ ،‬التي تزداد طوال وثقال على نفوس العشاق‬
‫بعد رحيل أحبابهم‪ ،‬وهو من بحر الطويل الثالث ذي الضرب المحذوف‪ ،‬أي (فعولن)‬
‫المحولة عن (مفاعيلن) بعد إسقاط السبب الخفيف (‪ )0/‬منها‪( :‬مفاعيلن) = (مفاعي) =‬
‫(فعولن)‪ .‬وبذلك تتماثل من حيث الوزن مع (فعولن) الجزء األول من بحر الطويل‪ ،‬كما‬
‫تتماثل الليالي في طولها وثقلها على الشاعر‪ ،‬محدثة موسيقى تُشيع اإلحساس بالرتابة والملل‬
‫في النفس‪ ،‬أما (فعولن) الجزء الثالث ف َشبهها بها أبعد‪ ،‬بسبب لزوم القبض لها أي حذف‬
‫الخامس الساكن‪ ،‬وهو زحاف الزم لها مع هذا الضرب المحذوف‪ ،‬وهو ما يسميه‬
‫وجوبا‪ ،‬بخالف (فعولن) األولى التي قد‬
‫ً‬ ‫العروضيون االعتماد‪ 1‬فتصبح على الشكل (فعول)‬
‫تسلم من القبض فتتماثل مع الضرب‪:‬‬

‫ين طَ ِويلُ ْو‬ ‫ِِ‬ ‫ِط َوالُ ْن َولَْي ُل ْل َعـ ـ ـ ـا‬ ‫ِِ‬
‫شق َ‬ ‫ين ُش ُكولُو‬
‫عن َ‬ ‫ظظَا‬
‫ي َب ْع َد ْ‬
‫اليـ َ‬
‫لََي ْ‬

‫‪0/0//‬‬ ‫‪/0//‬‬ ‫‪0/0/0// 0/0//‬‬ ‫‪0/0//‬‬ ‫‪/0// 0/0/0// 0/0//‬‬

‫فعولن‬ ‫فعول‬ ‫مفاعيلن‬ ‫فعولن‬ ‫فعولن‬ ‫فعول‬ ‫فعولن مفاعيلن‬

‫وهكذا تشبه موسيقى أول الصدر والعجز الجزء األخير من البيت‪ ،‬كما تتشابه تلك‬
‫الليالي‪ .‬أما لزوم الجزء الثالث القبض (فعول) إجباريا فيزيد من اإلحساس بالرتابة والتكرار‬
‫الذي يتحالف مع الليالي في إضفاء الشعور بالثقل والضجر‪ ،‬اللذين يموجان في أعماق‬
‫الشاعر‪ .‬كما أن الردف المالزم لهذا الضرب يولد امتدادا في الصوت‪ ،‬فيه انسجام مع طول‬
‫الليالي‪ ،‬ونوع من التعويض عما ذهب من التفعيلة األخيرة‪ ،‬بعد سقوط السبب الخفيف من‬
‫آخرها‪.‬‬

‫ُيذكر أن الدكتور طه حسين عد القصيدة التي ُمستَهَلها هذا المطلع من روائع ما نظم‬
‫‪2‬‬
‫نفس ملحمي وقدرة تصويرية فائقة‪ ،‬وحركية‬ ‫المتنبي في سيف الدولة ‪ .‬لما تميزت به من َ‬
‫أضفت عليها حيوية تذكر برائعته في وصف معركة الحدث‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫املؤسسة الوطنية للفنون املطبعية‪ ،‬الرغاية‪ ،‬اجلزائر‪5959 ،‬م‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫الشعر‪ّ ،‬‬
‫مصطفى حركات‪ :‬قواعد ّ‬
‫‪ 2‬طه حسني‪ :‬مع املتنيب‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،54.‬ص‪.435 .‬‬

‫‪228‬‬
‫ولعل من أسباب ذلك فيما يخص المطلع ‪ -‬إضافة إلى حالوة موسيقاه وداللتها ‪ -‬غناه‬
‫بقيم بالغية منها " التفسير بعد اإلبهام "‪ ،‬الذي عده ابن األثير مع الصناعة المعنوية‪ ،‬ورتبه‬
‫سابعا في أنواعها األحد عشر‪ .‬وبين الغرض من استعماله بقوله ‪ ":‬اعلم أن هذا النوع ال‬
‫ُيعمد إلى استعماله إال لضرب من المبالغة‪ ،‬فإذا جيء به في كالم فإنما ُيفعل ذلك لتفخيم‬
‫المبهم واعظامه‪.1" ...‬‬
‫َ‬ ‫أمر‬

‫وهو في هذا المطلع وارد في قوله " ِطوال " فإنما هو تفسير لقوله " شكول "‪ ،‬الذي‬
‫أجمل به تشابه الليالي ففخمها في نفوس المستمعين‪ ،‬وشوقهم إلى معرفة تفسير ذلك؛ إلى‬
‫جانب ما في قوله‪ " :‬وليل العاشقين طويل " من ضرب للمثل مشهور في الصنعة البديعية‪،‬‬
‫وما أكثر ما برز فيه المتنبي‪ ،‬وسارت بسببه أبياته في الناس‪.‬‬

‫وما قيل عن المديد مع أبي العتاهية‪ ،‬قد يقال عن المنسرح مع أبي فراس الحمداني في‬
‫قوله‪:‬‬
‫‪2‬‬ ‫ِ‬
‫آخ ُرَها ُم ْزِع ٌج َوأ ًَّولُهَا‬ ‫َح ِملُهَا‬
‫اد أ ْ‬
‫َيا َح ْس َرةً َما أَ َك ُ‬

‫ويشكو هذا البحر ‪ -‬وال شك ‪ -‬من اضطراب موسيقاه وامكان التباسها بأوزان أخرى‪،‬‬
‫فاعالت في شكلها‬
‫ُ‬ ‫الت( أو‬
‫إضافة إلى اشتماله على تفعيلة تنتهي بمتحرك وهي مفعو ُ‬
‫المطوي )‪ ،‬وهو االضطراب الذي أشار إليه حازم القرطاجني بقوله ‪ ":‬فأما المنسرح ففي‬
‫اطراد الكالم عليه بعض اضطراب وتقلقل‪ ،‬وان كان الكالم فيه جزال "‪.3‬‬

‫ومع ذلك فللدكتور شكري عياد تعقيب على تهجم الدكتور عبد اهلل الطيب المجذوب‬
‫على المنسرح‪ ،‬مبديا دهشته من اللغة التي وسمت ذلك التهجم حتى استمد فيها من قاموس‬
‫ألفاظ " القذف "‪ ،‬مصنفا ذلك في قائمة ما نستطيع أن نطلق عليه (العداء الشخصي) البعيد‬
‫عن الموضوعية المحايدة‪ ،‬الكفيلة بكسب األتباع والمناصرين‪ .‬فبعد أن ثمن له صدق‬
‫إحساسه بالخصائص الموسيقية لألوزان‪ ،‬في غالب األحيان استدرك عليه قائال إن ‪... ":‬‬

‫‪ 1‬ابن األثري‪ :‬املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.44.‬‬
‫‪ 2‬أبو فراس احلمداين‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪.475 ،‬‬
‫‪ 3‬حازم القرطاجين‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.465 .‬‬

‫‪229‬‬
‫تصويره لخصائص بعض األوزان يحمل ذلك الطابع الشخصي حتى إن المرء ليدهش حين‬
‫يرجع إلى ذوقه أو قراءاته يستفتيها في صحة ما يقرؤه من أحكام‪ .‬من ذلك قوله عن المنسرح‬
‫إن فيه لونا جنسيا‪ ،‬بحيث يمكن تصويره بصورة المتكسر أو المغني المخنث "‪.1‬‬

‫وساق الدكتور عياد أمثلة من المدونة الشعرية العربية‪ ،‬يدافع فيها عن " فحولة " هذا‬
‫البحر‪ ،‬تتضمن أغراضا شعرية حماسية رجولية‪ ،‬كمقطعة رواها أبو تمام في " حماسته "‬
‫لرجل من ِحمير في وقعة كانت لبني عبد مناة وكلب على ِح ْمير‪ .‬وقد اضطر شكري عياد‬
‫إلى تبرير إيراده إياها كاملة بما يناسب حاجته إلى نفي التكسر والتخنث معنى وموسيقى عن‬
‫المنسرح‪ ،‬منبها إلى االنتقائية التي طبعت اختيارات الدكتور المجذوب وهو ي ِ‬
‫صم المنسرح‬ ‫َ‬
‫بذلك‪ .‬وهو ما يجردها من القدرة على اإلقناع‪ ،‬ومشي ار إلى أبي الطيب المتنبي الذي نظم في‬
‫هذا البحر سبعة من المئة من مجموع أبيات قصائده ومقطعاته‪ ،‬وهو شاعر الفحولة‬
‫والرجولة‪ ،2" ...‬وهذا حق يؤيده فيه حازم القرطاجني الذي ذكر في المقولة السابقة أن في‬
‫هذا البحر جزالة‪.‬‬

‫على أنه ال مشاحة في انصراف الشعراء عن النظم في هذا البحر‪ ،‬ألشياء منها‪ :‬عدم‬
‫وضوحية موسيقاه‪ ،‬بسبب تداخلها مع موسيقى بحور مشابهة له في التفعيالت‪ ،‬كالرجز‬
‫والسريع‪.‬‬

‫وفي المقابل يرد التساؤل عن قدرة البحور المشهورة على االستمرار في عطائها‬
‫الموسيقي‪ ،‬أفلم تبلغ األذن العربية درجة التشبع منها باصطالح األسلوبيين‪ ،‬وحق لها البحث‬
‫عن آفاق موسيقية جديدة؟‪ .‬لقد تساءلت نازك المالئكة عن األوزان العربية التقليدية في شكلها‬
‫األساسي الذي بناها عليه الخليل قائلة ‪ ":‬ألم تصدأ لطول ما المستها األقالم والشفاه منذ‬
‫سنين وسنين؟ ألم تألفها أسماعنا‪ ،‬وترددها شفاهنا‪ ،‬وتعلكها أقالمنا‪ ،‬حتى مجتها؟ "‪.3‬‬

‫‪ 1‬شكري حممد عياد‪ :‬موسيقى الشعر العريب‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪5965 ،5.‬م‪ ،‬ص‪.59.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪.40 – 59 ،‬‬
‫‪ 3‬نازك املالئكة‪ :‬ديوان شظايا ورماد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.5 .‬‬

‫‪230‬‬
‫ونحن إذا نظرنا مثال في إحدى روائع الشعر العربي‪ ،‬التي نظمت على الخفيف أحد ألذ‬
‫البحور موسيقى‪ ،‬وهي سينية البحتري‪ ،‬وجدنا جماليتها الموسيقية متأتية من مسيقاها الداخلية‬
‫أكثر‪ ،‬السيما ميزة الصفير الناجمة عن توارد الصاد والزاي التي قلما يخلو بيت من أحدهما‬
‫أو كليهما‪ ،‬فضال على السين الذي هو روي الزم لنهاية كل بيت‪ .‬فقد استطاع البحتري بهذه‬
‫الموسيقى أن يجنبها النمطية المعهودة من ألفة األذن للخفيف‪ ،‬خصوصا في العصور‬
‫المتأخرة‪ ،‬مع ازدهار فن الغناء واتخاذه موسيقى مفضلة في المديح النبوي‪.‬‬

‫ومن أجل إ ثبات الذات قد يسلك الشاعر العباسي غير سبيل المخالفة‪ ،‬فيعمد إلى‬
‫القواعد العروضية المتبعة‪ ،‬ويمعن في التمسك بها والزيادة عليها والتفنن في صور إيرادها‪.‬‬
‫وقد تكون طريقة " لزوم ما ال يلزم " التي ُعرف بها أبو العالء المعري ونظم عليها ديوانا‬
‫ضخما أحد أظهر معالم تلك السبيل‪ ،‬وهذه الطريقة إنما هي نوع من تحدي الشعراء المحدثين‬
‫للفحول إذا نظرنا إليها من جهة تغالب األجيال ومحاوالت التميز‪.‬‬

‫غير أننا إذا نظرنا إليها من الناحية الفنية‪ ،‬رأيناها محاولة لتطلب قوة األثر الموسيقي‪،‬‬
‫ودعمه بالتزام صوت إضافي قبل الروي‪ .‬فكأن الشاعر العباسي – ممثَّال هنا بأبي العالء‬
‫المعري – لم يعد يثق بقدرة نمط واحد من اإليقاع على المساهمة في لفت سمع المتلقي‪ ،‬من‬
‫أجل تمهيد السبيل إليصال الرسالة‪ ،‬فذهب يقلب القافية وجها لبطن حتى يستخرج كل‬
‫طاقاتها النغمية الموجودة بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل‪.‬‬

‫نظمه‬
‫وليس من اإلبعاد الذهاب إلى أن المعري‪ ،‬وهو يضيف إلى لزوم ما ال يلزم َ‬
‫قصائد ومقطعات شتى بروي واحد‪ ،‬تختلف صوره حركةً وسكونا‪ ،‬وتتنوع القوافي التي يوجد‬
‫وغير ذلك‪ ،‬إنما كان يدفعه إلى ذلك إحساسه الفني بأن موسيقى‬
‫فيها إطالقا وتقييدا ووصال َ‬
‫قافية ما‪ ،‬قد تكون أقدر من أخرى على حمل المحتوى الفكري‪ ،‬ونقل الشحن العاطفي إلى‬
‫المستمع‪ ،‬وأنسب لموضوع دون آخر‪ .‬السيما أن غالب موضوعات لزومياته تجري في و ٍاد‬
‫واحد تقريبا وهو التأمل في الوجود والنفس اإلنسانية وأخالقها‪.‬‬

‫إنه السعي إلى استقصاء البحث عن أكبر قدر من اإلمكانات الموسيقية‪ ،‬التي تتيحها‬
‫القافية في إيقاعاتها المختلفة‪ ،‬ويسمح بها الروي في توزعاته المتباينة على الحركات الثالث‪:‬‬

‫‪231‬‬
‫الضمة والفتحة والكسرة‪ ،‬وعلى السكون‪ ،‬وتبدالت مواقعه عند تنويع القافية أحيانا بحسب‬
‫وضعه من سائر حروفها‪ ،‬وما يتولد عن ذلك من إشباع بالواو أو األلف‪ ،‬أو الكسرة تبعا‬
‫لتلك الحركات‪ .‬وما يحدثه ذلك – بالضرورة – من تنويع في الوقفة النغمية للبيت‪.‬‬

‫لذلك نراه يخوض في شعاب التجريب الموسيقي‪ ،‬ويترك ألذن المستمع جمالية تلقي‬
‫شعره‪ ،‬بناء على الحالة النفسية التي تهيمن عليه‪ ،‬والتي تستطرف ‪ -‬بناء على ذلك ‪ -‬نوطة‬
‫دون أخرى‪.‬‬

‫وهو ما يحيل إلى حازم القرطاجني ومحاولته الرائدة لدراسة العالقة بين المعنى الشعري‬
‫والموسيقى التي تحتويه‪ .‬إذ كان من أهم ما تفتقت عنه عبقريته في دراسة عروض الشعر‬
‫العربي " ‪ ...‬البحث في عالقة األغراض باألوزان‪ ،‬أو بأسلوب آخر في األوزان من حيث‬
‫هي مخيلة لألغراض "‪.1‬‬

‫واذا لم يكن للمطلع خصوصية في مسألة الموسيقى الخارجية‪ ،‬لكون القصيدة العربية‬
‫العمودية موحدة األبيات من حيث الوزن والقافية‪ ،‬يشترك في ذلك المطلع وغيره من األبيات‪،‬‬
‫قياسا باألشكال التجديدية في بناء القصيدة العربية الالحقة‪ ،‬كالموشحة التي ينفرد فيها‬
‫المطلع أو المذهب بقافية تخالف قوافي األدوار‪ ،‬فإن الميزة الوحيدة المتبقية للمطلع من هذه‬
‫الناحية هي التصريع ‪.‬‬

‫فمعلوم أن التصريع من أظهر ما يتميز به المطلع من خصوصيات تفرقه عن سائر‬


‫أبيات القصيدة‪ ،‬وهي خصوصية موسيقية بالدرجة األولى‪ .‬والتصريع " ‪...‬عبارة عن استواء‬
‫آخر جزء في صدر البيت‪ ،‬وآخر جزء في عجزه في الوزن والروي واإلعراب وهو أليق ما‬
‫يكون بمطالع القصائد‪ ،‬وفي وسطها ربما تمجه األذواق واألسماع ‪.2" ...‬‬

‫‪ 1‬حممد احلافظ الروسي‪ :‬ظاهرة الشعر عند حازم القرطاجين‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الربط‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪4005 ،5.‬م‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.750.‬‬
‫‪ 2‬ابن حجة احلموي‪ :‬خزانة األدب وغاية األرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.475.‬‬

‫‪232‬‬
‫هذا االستواء ليس إال تماثال موسيقيا بين نهاية الصدر والعجز‪ ،‬وهو ما من شأنه أن‬
‫ي أثرها فيه‪ .‬بحيث يستمر رجع رنينها في األذن‬
‫يرسخ النوطة الموسيقية في السمع‪ ،‬و ُيقو َ‬
‫مهما توالت صدور األبيات الالحقة المجردة منها‪.‬‬

‫أما ابن منظور فيعرفه‪ ،‬مضيفا إلى تعريفه تبري ار وظيفيا للتصريع بقوله ‪ " :‬التصريع‬
‫في الشعر‪ :‬تقفية المصراع األول مأخوذ من مصراع الباب‪ ،‬وهما مصراعان‪ ،‬وانما وقع‬
‫التصريع في الشعر ليدل على أن صاحبه مبتدئ إما قصة واما قصيدة‪ ،‬كما أن " إما " إنما‬
‫ابتدئ بها في قولك‪ :‬ضربت إما زيدا واما عم ار ليعلم أن المتكلم شاك"‪.1‬‬

‫ويبي ن التغيير الالزم من التصريع والذي يلحق العروض‪ ،‬متمثال في نقص أو زيادة‬
‫تنالها تبعا للضرب ممثال لذلك بقوله ‪ ":‬فمما العروض فيه أكثر حروفا من الضرب َفنقَص‬
‫في التصريع حتى لحق بالضرب قول امرئ القيس‪:‬‬

‫سيب يمانِي‬
‫كخط َزبور في َع ِ‬
‫َ‬ ‫من طلل أبصرتُه فشجاني‬‫ِ‬
‫ل ْ‬

‫فقوله‪ :‬شجاني فعولن‪ ،‬وقوله‪ :‬يماني فعولن‪ ،‬والبيت من الطويل وعروضه المعروف إنما هو‬
‫مفاعلن‪ .‬ومما زيد في عروضه حتى ساوى الضرب قول امرئ القيس‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫العصر الخالي‬
‫ُ‬ ‫وهل ينعمن من كان في‬ ‫أال انعم صباحا أيها الطل ُل البالي‬

‫وصرع البيت من الشعر‪ :‬جعل عروضه كضربه "‪.3‬‬

‫وقد أشار ابن منظور إلى وظيفة بنيوية نوعية مهمة للتصريع‪ ،‬وهي تنبيه المتلقي إلى‬
‫أن الشاعر يبتدئ قصيدة‪ ،‬وهو ما سبقه إليه ابن رشيق بعبارة أكثر وضوحا بقوله‪ ":‬وسبب‬
‫التصريع مبادرة الشاعر القافية‪ ،‬ليعلم في أول وهلة أنه أخذ في كالم موزون غير منثور‪،‬‬

‫‪ 1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬مادة صرع‪.‬‬


‫من "‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪2‬‬
‫يف الديوان‪" :‬ع ْم "‪ ،‬و " وهل يَع ْ‬
‫‪3‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة صرع‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫ولذلك وقع في أول الشعر "‪ 1.‬ومعنى قوله هذا أن للتصريع وظيفة (توجيهية تجنيسية)‪ ،‬توجه‬
‫ذهن المتلقي ووجدانه إلى أن الرسالة التي سيتلقاها من جنس الموزون ال المنثور‪ .‬لذلك وقع‬
‫التصريع في أول القصيدة‪.‬‬

‫ولكن يبدو أن للتصريع وظيفة أخرى إضافة إلى ما سبق‪ ،‬وهي اإلشعار باالنتقال من‬
‫معنى إلى آخر في القصيدة نفسها‪ ،‬وهو ما يفهم من عبارة " مبتدئ قصة "‪ ،‬ولذلك لم يشترط‬
‫ابن منظور كونه في البيت األول‪.‬‬

‫وهو ما كان ابن رشيق صاحب سبق إليه أيضا‪ ،‬وتفصيل في قوله ‪ ... ":‬وربما صرع‬
‫الشاعر في غير االبتداء وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة أو من وصف شيء إلى وصف‬
‫شيء آخر‪ ،‬فيأتي حينئذ بالتصريع إخبا ار بذلك وتنبيها عليه "‪.2‬‬

‫ويذهب سعيد األيوبي إلى أن من وظائف التصريع في غير البيت األول – وهو من‬
‫النفس الشعري‪ ،‬وذلك بالعودة إلى تقوية النوطة‬
‫تجديد َ‬
‫َ‬ ‫تجديد للمطلع ‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫الناحية الموسيقية‬
‫الموسيقية‪ ،‬التي يكون التباعد عن المطلع مظنة إضعافها وزوال تأثيرها‪ .‬إضافة إلى قدرته‬
‫على أن يكون عنصر ربط‪ُ ،‬يقوي التماسك والتالحم بين األفكار والمعاني‪ ،‬بقوله ‪ ":‬والنقد‬
‫الحديث يسمي التصريع في غير البيت األول (تجديد المطلع) وكأن الشاعر يبدأ قصيدته‬
‫بداية جديدة أو يعطف األجزاء على بعضها عطفا متينا ويوحد بين معانيها وأفكارها‪.3" ...‬‬

‫ابن رشيق ال يستكره التصريع في غير االبتداء‪ ،‬كما فعل ابن‬ ‫ُّ‬
‫وربما جعل ذلك كله َ‬
‫حجة في تعريفه السابق‪ .‬بل هو عنده " ‪ ...‬دليل على قوة الطبع وكثرة المادة إال أنه إذا كثر‬
‫في القصيدة دل على التكلف "‪.4‬‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،5.‬ص‪.516.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ :‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬سعيد األيويب‪ :‬عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.531 .‬‬
‫‪ 4‬ابن رشيق‪ :‬العمدة‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.517 .‬‬

‫‪234‬‬
‫لكن ابن رشيق يستثني من شرط عدم اإلكثار المتقدمين من الشعراء‪ ،‬ثقة منه بسالمة‬
‫يع امرئ القيس ثالثةَ أبيات‬
‫طبعهم‪ ،‬وصفاء سليقتهم‪ ،‬وبراءتهم من التكلف‪ ،‬فلم َير عيبا تصر َ‬
‫متتالية من رائيته التي مطلعها‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫أتمر‬
‫ويعدو على المرء ما َي ْ‬ ‫بن عمرو كأني َخ ِم ْر‬ ‫ِ‬
‫أحار َ‬

‫وهذه األبيات هي‪:‬‬

‫وماذا عليك بأن تنتظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـر‬ ‫تروح من الحي أم تبتك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـر‬

‫ـدر‬
‫أم القلب في إثرهم منح ْ‬ ‫خيامهم أم ع ُشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـر‬
‫ُ‬ ‫أمرٌخ‬
‫‪2‬‬
‫وفيمن أقام من الحي ه ـ ـ ـ ْـر‬ ‫بين الخليط ُّ‬
‫الشطُ ْر‬ ‫وشاقك ُ‬

‫ويظهر أن شعراء البديع من المحدثين أنفسهم كانوا مع هذا الذوق‪ ،‬فلم يطلقوا العنان‬
‫ألنفسهم في مضمار التصريع‪ .‬مع ما ُعرفوا به من شغف بالبديع‪ ،‬ومع اعترافهم بسحره الذي‬
‫أخذ بألبابهم‪ ،‬كأبي تمام القائل‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫بيت الش ْعر حين ُيصرع‬
‫ك ُ‬ ‫يروق َ‬ ‫الج ْدوى بجدوى وانما‬
‫وتقفو إلى َ‬

‫وتعريف ابن منظور التصريع بالتقفية‪ ،‬يحيل إلى مصطلح آخر قد يوهم بأنه مرادف‬
‫له‪ ،‬غير أن ابن رشيق يردف تعريف التصريع بتعريف للتقفية‪ ،‬يهدي إلى التفريق بينهما‪ ،‬بعد‬
‫علمه‬
‫تنبيهه على كونه موضع إشكال وتداخل يقول‪ ":‬هذا باب ُيشكل على كثير من الناس ُ‬
‫[‪ ]...‬فأما التصريع فهو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه تنقص بنقصه وتزيد‬
‫بزيادته [ ‪ ] ...‬والتقفية أن يتساوى الجزءان من غير نقص وال زيادة فال يتبع العروض‬
‫الضرب في شيء إال في السجع خاصة مثال ذلك قوله [ يعني ام أر القيس ]‬

‫فح ْو َم ِل‬ ‫بس ْق ِط اللوى بين َّ‬


‫الد ُخول َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومنزل‬ ‫ٍ‬
‫حبيب‬ ‫قفا ِ‬
‫نبك من ذكرى‬

‫‪ 1‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.509 .‬‬


‫ِأم الظاعنون هبا يف الشطُر‬ ‫هر‬
‫السابق‪ :‬املوضوع نفسه‪ .‬والبيت الثالث يف الديوان هو‪ :‬وفيمن أقام من احلي ْ‬
‫‪2‬‬

‫‪ 3‬أبو متام ‪ :‬الديوان مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.344.‬‬

‫‪235‬‬
‫فهما جميعا مفاعلن‪ ،‬إال أن العروض مقفى مثل الضرب فكل ما لم يختلف عروض بيته‬
‫األول مع سائر أعاريض أبيات القصيدة إال في السجع فقط فهو مقفى "‪.1‬‬

‫وهو الفرق الذي يلخصه الخطيب التبريزي بقوله ‪ ":‬والفرق بين المصرع والمقفى أن‬
‫ويجعل آخر النصف من البيت كآخر البيت أجمع‪،‬‬ ‫التصريع هو أن يقسم البيت نصفين‪ُ ،‬‬
‫وتُغير العروض للضرب ‪ ...‬والمقفى مماثلة الضرب من غير تغيير‪.2" ...‬‬

‫وذلك ما درج عليه المعاصرون في تعريف المصطلحين والتفريق بينهما‪ ،‬فالتصريع‬


‫عندهم هم أيضا " أن يجعل الشاعر العروض والضرب متشابهين في القافية في البيت‬
‫المصرع على أن يكون عروض البيت فيه تابعة لضربه تنقص بنقصه وتزيد بزيادته ‪،3" ...‬‬
‫أما التقفية فهي " أن يتساوى العروض والضرب من غير نقص وال زيادة فال يتبع العروض‬
‫الضرب في شيء إال في السجع خاصة "‪.4‬‬

‫أما البديعيون فال يأخذون بهذا التفريق في جهازهم المصطلحي والمفهومي‪ ،‬الذي‬
‫يكتفون فيه بمصطلح التصريع‪ ،‬داال على ما تدل عليه التقفية والتصريع كالهما عند‬
‫العروضيين‪ .‬وهو ما تحمله الضميمة التي أضافها صفي الدين الحلي إلى تعريفه السابق‬
‫عتبر فيه قاعدة العروضيين في الفرق بين المصرع والمقفى‬
‫للتصريع بقوله ‪ ... ":‬وال تُ َ‬
‫باصطالحهم "‪.5‬‬

‫وا ًذا يوافق العروضيون أصحاب البديع في حد التصريع‪ ،‬القائم على موافقة العروض‬
‫الضرب في الوزن والقافية‪ .‬ويخالفونهم بعد ذلك في مسألة التفريق بينه وبين التقفية‪ .‬ومناط‬
‫َ‬
‫التفريق بينهما هو مآل العروض بالزيادة أو النقص بعد مساواتها بالضرب‪.‬‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدرسابق‪ ،‬ص‪.516.‬‬


‫‪ 2‬اخلطيب التربيزي‪ :‬الكايف يف العروض والقوايف‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪4003 ،5.‬م‪ ،‬ص‪.57.‬‬
‫‪ 3‬حممد سعيد إسرب وحممد أبو علي‪ :‬اخلليل معجم يف علم العروض‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.44.‬‬
‫‪ 4‬السابق‪ ،‬ص‪.47.‬‬
‫‪ 5‬صفي الدين احللي‪ :‬شرح الكافية البديعية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.555.‬‬

‫‪236‬‬
‫للمعنيين‪ ،‬أن العروضيين يشترطون‬
‫َ‬ ‫فمما يفهم من النماذج التي يمثل كل فريق بها‬
‫للتصريع تبعية تُلحق العروض بالضرب‪ ،‬وتؤدي إلى حدوث تغيير كمي في العروض بزيادة‬
‫أو نقص يخرجها عن االستعمال المطرد لها في الواقع الشعري‪ ،‬فإذا وقعت الموافقة بين‬
‫العروض والضرب من غير زيادة أو نقص‪ ،‬سموها " تقفية "‪.‬‬

‫وقد نجم هذا االختالف عند الفريقين‪ ،‬من اكتفاء البديعيين بالنظرة األفقية الجزئية التي‬
‫تمتد من آخر الصدر حتى آخر العجز‪ .‬أما العروضيون فإنما يصدرون من تصور يعتمد‬
‫المن ظار العمودي الكلي‪ ،‬أي إلى ما ينتظمه العمود النازل من أعاريض تتتابع نزوال من‬
‫عروض المطلع حتى آخر معمار ذلك العمود عند عروض البيت األخير‪ .‬فما كان من‬
‫المطالع ذا عروض موافقة لما بعدها من أعاريض ‪ -‬إال في السجع ‪ -‬كان مقفى‪ .‬وما كان‬
‫منها ذا عروض مخالفة لسائر األعاريض زيادة أو نقصا‪ ،‬كان مصرعا‪.‬‬

‫هذا على اعتبار أن األصل واألكثر في التصريع أن يكون في المطلع كما يستحب‬
‫البديعيون‪ ،‬وهو ما صرح به ابن حجة في تعريفه السابق‪ ،‬ويعضده عليه ابن سنان الخفاجي‬
‫الذي يقول ‪ ":‬والذي أراه أن التصريع يحسن في أول القصيدة [‪ ]...‬فإذا ما تكرر التصريع‬
‫في القصيدة فلست أراه مختا ار "‪.1‬‬

‫فإذا صرع الشاعر في أثناء القصيدة فإنما ذلك ‪ -‬مثلما نبه إلى ذلك ابن رشيق آنفا ‪-‬‬
‫على نية الدخول في منعطف فكري أو شعوري جديد‪ ،‬فكأننا – والحال هذه – أمام قصيدة‬
‫جديدة بمطلع مصرع خاص بها‪.‬‬

‫وقد ذهب الخفاجي يجادل عن استحباب التقليل من التصريع‪ ،‬واالكتفاء منه بالمطلع‬
‫جهد المستطاع‪ ،‬بأسلوب حواري وقالب تمثيلي‪ .‬يقول ‪ ":‬فإن قال قائل‪ :‬كيف يكون التصريع‬
‫وغيره من األصناف التي أشرتم إليها حسنا إذا قل‪ ،‬وان كثر لم يكن حسنا؟ قيل له‪ :‬هذا غير‬

‫‪1‬‬
‫عمان‪ ،‬ط‪4006 ،5.‬م‪ ،‬ص‪.555 .‬‬
‫ابن سنان اخلفاجي‪ :‬سر الفصاحة‪ ،‬حتقيق‪ :‬داود غطاشة الشوابكة‪ ،‬دار الفكر‪ّ ،‬‬
‫‪237‬‬
‫مستنكر وال مستطرف‪ ،‬وله أشباه كثيرة‪ ،‬فإن الخا َل يحسن في بعض الوجوه‪ ،‬ولو كان في‬
‫ذلك الوجه عدة ِخيالن لكان قبيحا [‪ ]...‬والعلة فيه أنه إنما كان حسنا باإلضافة إلى غيره"‪.1‬‬

‫معنى هذا أن الدعوة إلى التقليل من التصريع‪ ،‬هدفها المحافظة على الخصيصة‬
‫وخلو غالب األبيات منها‪ ،‬أما كثرة‬ ‫الموسيقية للتصريع‪ ،‬التي إنما تبرزها كقيمة متميزة ُندرتُها ُ‬
‫عب ُر عنه في الدرس األسلوبي‬‫تواردها فإنها خليقة بإذهاب رونقها وطمس بريقها‪ ،‬وذلك ما ُي َّ‬
‫الحديث بـ " التشبع " "‪ " La Saturation‬والتي فحواها أن " الخاصية األسلوبية هي بمثابة‬
‫المادة المنحلة‪ ،‬والنص بمثابة السائل‪ ،‬فإذا تكررت السمة األسلوبية باطراد تشبع النص فلم‬
‫يعد يطيق إبرازها كعالمة مميزة ‪.2" ...‬‬
‫ُ‬

‫وترتب على عدم تفريق البديعيين بين المفهومين تقليلهم من قيمة التصريع الفنية‪،‬‬
‫والتشكيك في ميزته البديعية‪ .‬حتى لتُشتم رائحة اإلكراه والقسر عند بعضهم وهو يخصص له‬
‫فع َل ابن حجة الحموي الذي يقول بعد تعريفه السابق للتصريع‪ ،‬والتمثيل‬
‫حي از في بديعياته‪ْ ،‬‬
‫له‪ ...":‬وعلى كل تقدير‪ ،‬ليس في نوع التصريع كبير أمر حتى ُيعد من أنواع البديع‪ ،‬ولكن‬
‫القوم كلما تغالوا في الرخص رغبوا في الكثرة "‪.3‬‬

‫ولكن إذا أخذنا بقاعدة االنحراف أو العدول عن المألوف‪ ،‬التي يؤسس األسلوبيون‬
‫عليها تمييزهم للعبارة الفنية أو الشعرية من المألوف منها‪ ،‬كان التصريع (بشروط‬
‫العروضيين) ذا قيمة فنية بديعية‪ .‬بما أن التفعيلة التي في آخر الصدر تُتجاوز بها دائرة‬
‫االستعمال النمطي‪ ،‬عند تغييرها بالزيادة أو النقصان‪.‬‬

‫وتبقى اإلشارة إلى الحالة المعاكسة‪ ،‬وهي خلو المطلع من التصريع‪ .‬ففي مطلع إحدى‬
‫روائع أبي نواس نجد قوله‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫بِهَا أَثٌَر ِم ْنهُ ْم َج ِد ٌ‬
‫يد َوَد ِار ُس‬ ‫َّ‬
‫وها َوأ َْدلَ ُجوا‬ ‫َوَد ِار َن َد َ‬
‫امى َعطلُ َ‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬عبد السالم املسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.549 .‬‬
‫‪ 3‬ابن حجة احلموي‪ :‬خزانة األدب وغاية األرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.475.‬‬
‫‪ 4‬أبو نواس‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.49.‬‬

‫‪238‬‬
‫فنالحظ أن غياب التصريع ال يحمل على الشعور بابتداء قصيدة جديدة‪ ،‬كأنه يصل‬
‫هذه المقطعة بما قبلها‪ ،‬مريدا البقاء في حلقة مفرغة من حالة السكر‪ ،‬ال ُيدرى أين طرفاها‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫الغ ْنم إال أن ُيتَ ْعتِ َعنِي ُّ‬
‫الس ْك ُر‬ ‫َو َما ُ‬ ‫صاحيا‬
‫ً‬ ‫اني‬
‫أن تر َ‬
‫الغ ْب ُن إال ْ‬
‫فَ َما َ‬

‫واسقاط التصريع في مطلع القصيدة‪ ،‬وما يثيره من إحساس بارتباطها بالنص السابق‪،‬‬
‫فكرة تشجع على التساؤل عن مدى ما كان سيصل إليه األمر لو استمرت محاوالت التحلل‬
‫منه وتغييبه‪ ،‬وتنامت جيال بعد جيل حتى تستحيل ظاهرة قائمة بنفسها‪ .‬أكنا سنصل – مثال‬
‫– إلى توجه النقد العربي القديم إلى البحث عن وحدة أشمل وأوسع دائرة من وحدة الموضوع‬
‫في القصيدة الواحدة‪ ،‬إلى ما ُيسمى " وحدة الديوان "؟‪ ،‬السيما عند الشعراء المعروفين بدوران‬
‫قصائدهم على محور نفسي أو مزاجي واحد كشعراء الخمريات والتصوف والزهد‪.‬‬

‫ففي مجال الدراسات القرآنية‪ُ ،‬وجد من العلماء والدارسين من أجال فكره وأعمل اجتهاده‬
‫في موضوع ترتيب سور القرآن الكريم‪ .‬وهو ما أدى إلى محاولة الوقوف على أسرار االرتباط‬
‫بين السابق من بعض السور والالحق منها‪ ،‬والى نكتة دقيقة جدا لها شبه بمسألة ترك‬
‫التصريع في المطلع‪ ،‬تتمثل هذه النكتة في ترك البسملة بين سورتي األنفال والتوبة‪.‬‬

‫فقد ذكر الحافظ جالل الدين السيوطي أن ابن عباس – رضي اهلل عنهما – استشكل‬
‫الفصل بين سورة األع ارف من جهة‪ ،‬وسورتي يونس وهود " وقد كان يظهر في بادئ الرأي ‪:‬‬
‫كل في اشتمالها على قصص األنبياء‪،‬‬ ‫أن المناسب إيالء األعراف بيونس وهود‪ ،‬الشتراك ٍّ‬
‫َ‬
‫وأنها مكية النزول‪ ،‬خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال‪ ،‬وعدوا السابعة يونس‬
‫[‪ ]...‬ففي فصلها من األعراف بسورتين هما األنفال وبراءة فصل للنظير عن سائر نظائره‪،‬‬
‫هذا مع قصر سورة األنفال‪ ،‬بالنسبة إلى األعراف وبراءة "‪.2‬‬

‫وهو ما دفع ابن عباس إلى أن يسأل الخليفة عثمان بن عفان – رضي اهلل عنه – " ما‬
‫حملكم على أن عمدتم إلى األنفال وهي من المثاني‪ .‬والى براءة وهي من المئين‪ ،‬ففرقتم‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.44 .‬‬
‫‪ 2‬احلافظ جالل الدين السيوطي‪ :‬أسرار ترتيب القرآن‪ ،‬دراسة وحتقيق عبد القادر أمحد عطا‪ ،‬دار بوسالمة‪ ،‬تونس‪5953 ،‬م‪ ،‬ص‪.503.‬‬

‫‪239‬‬
‫ب ينهما‪ ،‬ولم تكتبوا بينهما سطر بسم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال‬
‫عثمان‪ :‬كان رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – ينزل عليه السور ذوات العدد‪ ،‬فكان إذا‬
‫نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب‪ ،‬فيقول ضعوا هؤالء اآليات في السورة التي يذكر‬
‫فيها كذا وكذ ا‪ ،‬وكانت األنفال من أوائل ما نزل‪ ،‬وكانت براءة من آخر القرآن نزوال‪ ،‬وكانت‬
‫قصتها شبيهة بقصتها‪ ،‬فظننت أنها منها‪ ،‬فقُبض رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – ولم‬
‫يبين لنا أنها منها‪ ،‬فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم اهلل الرحمن‬
‫الرحيم"‪.1‬‬

‫وا ًذا يكون ا لمفهوم من هذا التفسير أن ترك البسملة بين السورتين‪ ،‬عالمة على ترابط‬
‫نصي بينهما‪ .‬يمكن أن يحمل علية عدم الفصل بتصريع المطلع بين السابق من القصائد‬
‫والالحق منها‪.‬‬

‫ويتصل بهذا السياق ما ذهب إليه الزركشي في مناسبة فاتحة السور بخاتمة التي قبلها‪،‬‬
‫يقول‪ ":‬ومن أس ارره مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها‪ ،‬حتى إن منها ما َيظهر تعلقها به‬
‫ش﴾‬ ‫﴿إليالَ ِ‬
‫ف قَُرْي ٍ‬ ‫ول ﴾ [ الفيل‪ ،‬اآلية ‪ِ ،] 5‬‬ ‫لفظا كما قيل في‪َ ﴿ :‬فجعلَهم َكع ٍ‬
‫ف مأ ُك ٍ‬
‫ص َ‬ ‫َ َ ُْ َ ْ‬
‫‪2‬‬
‫لما ختم سورة النساء آم ار بالتوحيد والعدل بين العباد‪ ،‬أكد‬ ‫[قريش‪ ،‬اآلية‪ .] 1‬وفي الكواشي‬
‫العقُوِد﴾[المائدة‪ ،‬اآلية ‪.3" ]1:‬‬ ‫ِ‬
‫آم ُنوا أَ ْوفُوا بِ ُ‬ ‫ذلك بقوله‪َ﴿ :‬يأَ أَُّيهَا الذ َ‬
‫ين َ‬
‫واذا كان المسدي يرى أن العدول الجزئي لصاحب النص عن ظاهرة أسلوبية بنى‬
‫عليها غالب نصه‪ ،‬كظاهرة السجع مثال‪ ،‬يصبح هو في نفسه خصيصة أسلوبية‪ ،4‬فكذلك‬
‫ٍ‬
‫انتظار للمستمع الذي تعود أن تتلقى أذنه‬ ‫أفق‬
‫خلو المطلع من التصريع‪ .‬لكونه في األصل َ‬
‫المطلع مصرعا‪.‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.504 – 503.‬‬


‫‪ 2‬هو أمحد بن يوسف بن حسن بن رافع موفق الدين الكواشي املوصلي الشافعي‪ ،‬تويف سنة ‪650‬هـ‪ ،‬وله كتابان يف التفسري أحدمها التبصرة والثاين‬
‫التلخيص‪ ،‬ذكرمها صاحب كشف الظنون‪.‬‬
‫‪ 3‬الزركشي‪ :‬الربهان يف علوم القرآن‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بريوت‪4006 ،‬م‪ ،.‬ج‪ ،5.‬ص‪.534.‬‬
‫‪ 4‬عبد السالم املسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.530 .‬‬

‫‪240‬‬
‫ك التصريع صورة مضادة‪ ،‬تتمثل في مبالغة بعض الشعراء في تصريع‬ ‫وتقابل تر َ‬
‫المطلع‪ ،‬حتى االلتزام بما ال يلزم‪ ،‬كما في مطلع المية العجم للطُّ َغرائي‪:‬‬

‫ط ِل‬
‫الع َ‬ ‫وح ْليةُ الفَ ْ ِ ِ‬
‫ِ‬ ‫ص َانتْنِي َع ِن َ‬
‫ضل َزَانتْني لَ َدى َ‬ ‫طل‬
‫الخ َ‬ ‫ْي َ‬
‫الر ِ‬
‫َصالةُ أ‬
‫أ َ‬

‫فلم يكتف الطغرائي بالتصريع حتى سبق صوت الالم (الروي) بالطاء‪ ،‬التي كررها في‬
‫طرفي التصريع‪ ،‬ملتزما بما ال يلزم من هذا اللون البديعي‪ .‬إضافة إلى سبق الطاء بالخاء‬
‫والعين وهما من حروف الحلق‪ ،‬وما توارد من حروف إطباق أخرى في حشو البيت " الصاد"‬
‫مرتين‪ ،‬و"الضاد" مرة واحدة ‪ ،‬كما أنها جميعا من حروف الشدة‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫المــــوسيـــــقـى الـــداخليــــــة‬
‫التشكيل الصوتي وسيلة الستغالل طاقة الصوت الموسيقية‪ ،‬والتي هي إحدى أكثر‬
‫العناصر الفنية فاعلية في بناء جمالية القصيدة‪ .‬ذلك هو مضمون عبارة الشكالني البولوني‬
‫فرانسيزيك سيدلكي التي تتلخص في أن‪ ":‬التنظيم النمطي للبيت تنظيما محكما‪ ،‬ينتزع الطبقة‬
‫الصوتية للغة من الهمود غير المتشكل الذي هو خاصية الخطاب العادي "‪.1‬‬

‫على أن من الواجب الحذر من أن يتأدى من هذا‪ ،‬االعتقاد بقدرة الصوت على إحداث‬
‫جمالية شعرية بمعزل عن الداللة‪ .‬فالشكالنيون أنفسهم رجعوا عن هذه العقيدة " بعد فترة من‬
‫اإلعجاب بالتناغم الخالص [‪ ]...‬إن البنية المصوتة في لغة ما تدرك [‪ ]...‬بوصفها نسقا من‬
‫التعارضات الفونيمية تستخدم لتمييز الدالالت اللفظية "‪ ،2‬فالمحتوى الداللي هو في األخير‬
‫مناط الحكم على ما في البنية الصوتية من نسبة فنية صحيحة بينها وبينه‪.‬‬

‫ويشبه هذا االعتقاد في الخطإ‪ ،‬أن ُينظر إلى عمل الموسيقى الداخلية معزوال عن عمل‬
‫الموسيقى الخارجية‪ .‬فتلك سذاجة في التصور‪ ،‬ونظرة تشتيتية مضرة‪ ،‬إذ األصل أن‬
‫الموسيقى تعمل عملها وسط تناغم سمفوني‪ ،‬وتفاعل وظيفي‪ ،‬وتناسب موضعي‪ ،‬ووحدة‬
‫عضوية بين مستوييها الداخلي والخارجي‪ .‬ومن الممكن ببساطة مالحظة ذلك في قول أبي‬
‫الطيب‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫ام‬
‫الربا وأ ْنت الغم ُ‬
‫ت ُّ‬‫ن ْح ُن ن ْب ُ‬ ‫أ ْين أ ْزم ْعـت أُّيهـذا الهُم ُ‬
‫ام‬

‫مطلع قصيدة نظمها يمدح بها سيف الدولة وقد عزم على الرحيل عن أنطاكية‪ ،‬وفيه‬
‫تتعانق موسيقى الخفيف مع اإليقاع المتردد من صوت الميم‪ ،‬الذي يتكرر خمس مرات‬
‫(أزمعت‪ ،‬الهمام‪ ،‬الغمام)‪ ،‬تجتمع اثنتان منها في الجزء األخير (فاعالتن)‪:‬‬

‫ام ْو‬
‫ت ْلغم ُ‬ ‫ُرب ْى وأ ْنـ‬ ‫ت ْر‬
‫ن ْح ُن ن ْب ُ‬ ‫ام ْو‬
‫ذ ْلهُم ُ‬ ‫أ ْين أ ْزم ْعـ ت أ ْي ُيه ْا‬

‫‪0/0//0/ 0// 0//‬‬ ‫‪0 /0/ /0/‬‬ ‫‪0/0//0/ 0//0// 0/0//0/‬‬

‫‪ 1‬فيكتور إبرليخ‪ :‬الشكالنية الروسي‪ ،‬ترمجة‪ :‬الويل حممد‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪-‬بريوت‪،‬ط‪0222 ،1.‬م‪ ،‬ص‪.47.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.47 .‬‬
‫‪ 3‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،3 .‬ص‪.373 .‬‬

‫‪242‬‬
‫فاعالتن‬ ‫متفعلن‬ ‫فاعالتن‬ ‫فاعالتن‬ ‫فاعالتن متفعلن‬

‫كما تتوارد الهمزة أربع مرات‪ :‬ثالثا بالتواتر في صدور الكلمات الثالث األولى من‬
‫الشطر األول " أين‪ ،‬أزمعت‪ ،‬أيهذا "‪ ،‬والمرة الرابعة في الشطر الثاني " أنت "‪ .‬وتتكرر النون‬
‫خمس مرات‪ " :‬أين‪ ،‬نحن‪ ،‬نبت‪ ،‬أنت " بطريقة معاكسة لتوزيع الهمزة‪ ،‬إذ تتردد في العجز‬
‫أربع مرات‪ِ ،‬‬
‫وترد مرة واحدة في الصدر‪ .‬وبذلك يتحقق لتفعيالت البيت الست إيقاع منسجم‬
‫عن تكرار الصوتين وتبادلهما في طريقة التوزيع والتركيز‪ .‬ويسترعي األذن هنا أن هذه‬
‫األصوات موزعة على نواحي الجهاز الصوتي من أقصاه إلى أدناه‪ :‬فالهمزة من الحلق‪،‬‬
‫والنون من الثنيتين واللسان‪ ،‬والميم من الشفتين‪.‬‬

‫وقوله‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫بِأ ْن تُ ْس ِعدا و َّ‬
‫الد ْمعُ أ ْشفاهُ سا ِج ُم ْه‬ ‫وفاؤ ُكما كالرْب ِع أ ْشجاه ِ‬
‫طاس ُم ْه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫تتميز البنية الشعرية في هذا المطلع بموسيقى داخلية‪ ،‬أبرز قيمها اإليقاع المستفاد من تكرار‬
‫الحرفين المهموسين (السين‪ ،‬والشين) بطريقة تعاقبية في كال الشطرين‪ :‬الشطر األول‬
‫(ش‪+‬س)‪ ،‬والثاني (س ‪ +‬ش ‪ +‬س)‪ .‬الخطاب هنا للخليلين على طريقة الشعراء قديما في‬
‫الخلة رقة باعتبارها صداقة‪ ،‬يتنزل لها الخطاب إلى مرتبة المناجاة التي‬
‫المطالع غالبا‪ ،‬و ُ‬
‫يصلح لها الهمس‪ .‬كما أن السين حرف صفير والشين صفته التفشي‪ ،‬والصفير والتفشي هما‬
‫الربع المهجور أو الطلل‪.‬‬
‫صوت الريح التي تخفق في َّ‬

‫ويتواصل اإليقاع من الناحية الصرفية مع أفعل التفضيل ‪ :‬أشجاه " و" أشفاه "‪ ،‬في‬
‫الموضع نفسه من البنية العروضية في كل شطر‪ ،‬إذ هما في محل التفعيلة الثالثة ( فعولن)‪.‬‬
‫وهذا ما لم يتفطن إليه ابن خالويه اللغوي الذي كان ي ُؤم بالط سيف الدولة مع جملة العلماء‬
‫واألدباء‪ ،‬فقد استدرك على أبي الطيب حين إنشاده هذا المطلع ورد عليه قوله " أشفاه " ظنا‬
‫منه أنه أراد الفعل الماضي‪ ،2‬وهو ثالثي مجرد يتعدى بنفسه دون همزة‪ ،‬فيقال‪ :‬شفاه‪ .‬ولو‬

‫‪1‬السابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.303.‬‬


‫‪2‬السابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.303 .‬‬

‫‪243‬‬
‫أرهف ابن خالويه سمعه إلى الناحية اإليقاعية بين الشطرين‪ ،‬القائمة على التناظر الموضعي‬
‫بين اللفظين لتفادى ذلك التوهم‪.‬‬

‫الربع" و" َّ‬


‫الدمع"‪ ،‬حيث يحافظ صوت العين على رتبته‬ ‫وهذا اإليقاع يظهر أيضا في" َّ‬
‫في الصدر والعجز بالنسبة إلى الحركات المتقدمة عليه‪ ،‬فهو ثامن المتحركات في البنية‬
‫العروضية‪ ،‬واألول في التفعيلة الثالثة في الشطرين‪:‬‬

‫بِأ ْن تُ ْسـ ِعد ْا و ْددمـ ـ عُ أ ْشفا ه س ِ‬


‫اج ُم ْه‬ ‫ِـع أ ْشج ْا ه ط ِ‬
‫اس ُم ْه‬ ‫اؤ ُكما ك ْررْبـ‬
‫وف ُ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫‪0//0// 0/0// 0/0/0//‬‬ ‫‪0/0//‬‬ ‫‪0//0//‬‬ ‫‪0/0//‬‬ ‫‪0/0/0// /0//‬‬

‫مفاعلن‬ ‫مفاعيلن فعولن‬ ‫فعولن‬ ‫مفاعلن‬ ‫فعولن‬ ‫فعول مفاعيلن‬

‫ولما تناوب الحرفان السين والشين المهموسان على حشو البيت‪ ،‬لم تنته القافية بالروي‬
‫مباشرة‪ .‬بل ختمت بهاء الوصل المهموسة هي كذلك لينتهي البيت بالهمس‪ ،‬ولم يكن الوزن‬
‫ليسمح بها إال ساكنة‪ ،‬ليكون سكون هاء الوصل – وهو من الموسيقى الخارجية‪ -‬والهمس‬
‫عنصر من الموسيقى الداخلية‪ -‬عونا على إحداث بنية موسيقية متكاملة‪.‬‬

‫والمتنبي يستحث رفيقيه على أن ِيفيا بما وعداه به من مساعدة على البكاء بين يدي‬
‫أطالل الحبيبة‪ ،‬وقريب من هذا المعنى ما ورد في مطلع معلقة امرئ القيس‪ ،‬و هو من القيم‬
‫التي حاز بها امرؤ القيس قصب السبق‪ ،‬وقُدم فيهل على سائر الشعراء‪ُ ،‬منزال منزلة اإلمام‬
‫المتبع فيها‪.‬‬

‫بيد أن الباقالني لم ُيؤخذ بسحر هذا الحكم النقدي بصياغته اآلسرة‪ ،‬وتراثيته‪ .‬فعن له‬
‫أن يتعقب الشاعر عائبا عليه ما جعله النقاد مزايا وحسنات‪ ،‬يقول ‪ ":‬الذين يتعصبون له أو‬
‫يدعون محاسن الشعر‪ ،‬يقولون‪ :‬هذا من البديع‪ ،‬ألنه وقف واستوقف‪ ،‬وبكى واستبكى‪ ،‬وذكر‬
‫العهد والمنزل والحبيب‪ ،‬وتوجع‪ ،‬واستوجع‪ ،‬كله في بيت‪ ،‬ونحو ذلك [‪ ]...‬تأمل أرشدك اهلل‪،‬‬

‫‪244‬‬
‫وانظر هداك اهلل أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرا‪ ،‬وال تقدم به‬
‫صانعا‪ .‬وفي لفظه ومعناه خلل "‪.1‬‬

‫بعد ذلك يقف الباقالني موقف ناقد النقد‪ ،‬فيبسط رأيه في أول معاني المطلع مقلبا إياه‬
‫ظه ار لبطن‪ .‬لينتهي إلى أن ذلك المعنى من بيت امرئ القيس إلى المساوئ أقرب منه إلى‬
‫المحامد‪ ،‬وعلة ذلك " أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب‪ ،‬وذكراه ال تقتضي بكاء الخلِي‪،‬‬
‫وانما يصح طلب اإلسعاد في مثل هذا‪ ،‬على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة ُبرحائه‪،‬‬
‫فأما أن يبكي على حبيب صديقه‪ ،‬وعشيق رفيقه فأمر محال "‪.2‬‬

‫واضح أن الباقالني يسلك في تعقبه هذا المعنى على امرئ القيس‪ ،‬مسلكا تحليليا‬
‫يستخدمه اليوم النقاد المقتنعون بإسقاط معطيات علم النفس على الممارسة النقدية‪ .‬إذ يرى‬
‫أن الشاعر قد أبعد وأحال في مطالبته رفيقيه بالبكاء معه‪ ،‬على طلل حبيب ال يشاركانه‬
‫إحساسه به‪ ،‬وهو من البداهة بمكان في مجال سيكولوجيا الدوافع في علم النفس الحديث‪.‬‬

‫غير أن هذا – على ما فيه من بريق ظاهر – من الممكن جدا أ ن ُيرد على الباقالني‪،‬‬
‫بما يقره علم النفس أيضا‪ ،‬وبما جاءت شواهده في قصص المتَّيمين‪ ،‬وما حفل به شعرهم‬
‫وشعر المتصوفة‪ ،‬من تلك المواجد التي تأخذ بقلب المحب ونفسه َّ‬
‫كل مأخذ فإذا به‬ ‫ِ‬ ‫العذري‬
‫يغرق في غرام المحبوب‪ ،‬واذا به أخي ار ُيسقط نظرته إليه على كل من حوله فيعتقد أن الناس‬
‫جميعا يحبون َّ‬
‫حبه‪.‬‬

‫من جهة أخرى لن ُيعجز الناظر أن يالحظ أن الباقالني كان في موقع الموازنة بين‬
‫نص بشري هو معلقة امرئ القيس‪ ،‬ونص إلهي معجز هو القرآن الكريم‪ ،‬فال غرابة في أن‬
‫نجد " ‪ ...‬المؤلف انطلق من نقطة مبدئية استهدفت تحطيم النص الشعري لصالح الخطاب‬
‫القرآني "‪.3‬‬

‫‪ 1‬حممد بن الطيب الباقالين‪ :‬إعجاز القرآن‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.143.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.143-143 .‬‬
‫‪ 3‬حممد عبد املطلب‪ :‬البالغة العربية قراءة أخرى‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬بريوت‪ /‬الشركة العاملية للنشر‪ ،‬لوجنمان‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪1994 .‬م‪ ،‬ص‪.04.‬‬

‫‪245‬‬
‫بصرف النظر عن ذلك كله‪ ،‬فالظاهر أن المتنبئ في مطلعه السابق سيكون أقرب إلى‬
‫مرضاة الباقالني‪ ،‬الذي استدرك فصحح معنى امرئ القيس‪ ،‬بشرط أن يكون طلبه البكاء‬
‫"إسعادا " من رفيقيه له‪ ،‬ورقةً لحاله هو ال لطلل المحبوب‪.‬‬

‫والحديث عن الهمس وتقنياته وحروفه ذو شجون في نقدنا العربي الحديث‪ ،‬إذ طالما‬
‫رميت القصيدة العربية القديمة بعلو نبرتها الخطابية‪ ،‬وهو ما يجعلها قريبة من الخطبة‪ ،‬بعيدة‬
‫عن رقة الشعرية وحنوها‪ .‬ذلك ما جعل الدكتور محمد مندور يركز على هذا المفهوم ويطوره‬
‫ليصبح عنده دعوة فنية جاهر بها في كتابه المؤسِّس " في الميزان الجديد "‪.‬‬

‫ويعرفه مبينا وظيفته ومصدره بأنه ‪ ":‬إحساس بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك‬
‫العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد‪ ،‬وهذا في الغالب ال يكون من الشاعر عن‬
‫‪1‬‬
‫وعي بما يفعل‪ ،‬وانما هي غريزته المستنيرة ما تزال به حتى يقع على ما يريد "‪.‬‬

‫ولكن إذا لم يكن الشعر المهموس هو الخطابة في ضجيجها وصخب نبرتها‪ ،‬فليس‬
‫هو أيضا الضعف‪ ،‬يقول ‪ ":‬الهمس في الشعر ليس معناه الضعف‪ ،‬فالشاعر القوي هو الذي‬
‫يهمس فتحس صوته خارجا من أعماق نفسه في نغمات حارة‪ ،‬ولكنه غير الخطابة التي‬
‫تغلب على شعرنا فتفسده ‪.2" ...‬‬

‫ولسنا نرى حاجة إلى نفي الضعف عن الشعر أو الفن عموما‪ ،‬فما أكثر ما كان‬
‫الضعف البشري مادة صالحة في صناعة الفن‪ ،‬وأداة فعالة في كشف خبايا النفس البشرية‪.‬‬
‫بل إن أنبل أغراض الشعر وأحرها وأصدقها كان منشؤه الضعف كالرثاء والغزل‪.‬‬

‫غير أنه ال مناص من موافقته كل الموافقة في توكيد فنية شعر الهمس‪ ،‬وأنه يجب أال‬
‫ُي فهم أنه كأل مباح ألدعياء الشعر‪ ،‬والمتسترين باالرتجالية والمجانية على ضعف صناعتهم‬

‫‪ 1‬حممد مندور‪ :‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،‬القاهرة‪0227 ،‬م‪ ،‬ص‪.33.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫الشعرية‪ ،‬فـ"‪...‬الهمس ليس معناه االرتجال فيتغنى الطبع في غير جهد وال إحكام‬
‫صناعة‪.1"...،‬‬

‫اء على الذات‪ ،‬وهو من أخطر ما قد‬


‫كما أنه ليس بالضرورة هروبية من اآلخر وانطو ً‬
‫يؤديه إلى الفهم مصطلح " الهمس " نفسه‪ ،‬فاألديب الهامس ذو الحس اإلنساني السليم‬
‫"يحدثك عن أي شيء يهمس به فيثير فؤادك‪ ،‬ولو كان موضوع حديثه مالبسات ال تمت‬
‫إليك بسبب "‪.2‬‬

‫ومع كل ما قيل عن شعرنا القديم‪ ،‬فهو لم يعدم شعرية الهمس‪ ،‬فشعر الغزل غالبا‪،‬‬
‫والزهديات وشعر التصوف طافح بهذه الروح‪ ،‬وللبحتري سينيته الذائعة التي مطلعها‬
‫‪3‬‬
‫س‬ ‫وترفَّ ْع ُ‬
‫ت ع ْن جدا ُك ِّل ِج ْب ِ‬ ‫ت ن ْف ِسي ع َّما ُيدِّن ُس ن ْف ِسي‬
‫ص ْن ُ‬
‫ُ‬

‫ي سمعه وقلبه‪ ،‬منذ اللحظة الشعورية األولى‬


‫إن المستمع ال يملك إال أن يهب البحتر َّ‬
‫التي تنطلق من هذا المطلع‪ ،‬حتى نهاية القصيدة‪ ،‬فال يزال يسمع البحتري وهو يهمس له‬
‫بأحاسيسه ويبوح له بهواجسه‪.‬‬

‫وبهذه الروح استطاع الشاعر أن يتخلص " ‪ ...‬من تلك اللهجة الخطابية التي سيطرت‬
‫على قصائده‪ ،‬بما فيها من جلبة وضجيج‪ ،‬حتى تحول عنده إلى همس حزين يبثه من خالل‬
‫الشكوى‪ ،‬ويبوح بها بهذه الصراحة لعله يتخفف من بعض آالمها وتداعياتها الثقيلة "‪.4‬‬

‫لقد اجتمع في المطلع من حروف الهمس‪ :‬الصاد‪ ،‬والتاء‪ ،‬والفاء‪ ،‬والسين‪ ،‬وتكررت‬
‫الفاء ثالث مرات‪ ،‬والسين أربع مرات‪.‬‬

‫وفي دراسة أسلوبية قيمة لهذه السينية أشار محمد الهادي الطرابلسي إلى الصفير الذي‬
‫هو مبدأ المطلع ومنتهاه‪ " ،‬فمنه كان البدء واليه كان االنتهاء‪ ،‬وقد سمعناه في حشو الصدر‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.190 .‬‬
‫‪ 4‬عبد اهلل التطاوي‪ :‬تقاطعات احلركة الشعرية بني املوروث والفردي مدخل إىل فن املعارضة‪ ،‬الدار املصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪0224 ،1.‬م‪،‬‬
‫ص‪.133.‬‬

‫‪247‬‬
‫أيضا ‪ ،1" ...‬وهو صفة تعاون عليها مع صوت السين المكرر صوت الصاد في أول‬
‫الصدر‪ ،‬والصاد حرف إطباق يكسب الصفير غلظة‪ ،‬في حين كان السين حرف انفتاح‬
‫يضفي على الصفير رقة وعذوبة‪ ،‬فاجتمعت بذلك للصفير الطبقتان الغالظة والرقة‪.‬‬

‫والمالحظ أن الشاعر جنح إلى اإلظهار في موضع اإلضمار في قوله ‪ ":‬نفسي " إذ‬
‫كان األصل النحوي أن يقول ‪":‬عما يدنسها" لتقدم ذكرها مظهرة قبل ذلك‪ .‬وانما فعل ذلك‬
‫إمعانا في تكرير صوت السين‪ ،‬زيادة على طلب التصريع‪.‬‬

‫حشد الشاعر كل هذه القيم الموسيقية والنفسية في هذا المطلع‪ ،‬فكان ذلك إعالنا‬
‫مطلعيا بما بعد هذه البداية من جمالية شعرية‪ ،‬استطاع الشاعر أن ينميها ويوزعها على‬
‫أبيات قصيدته من أولها حتى آخرها‪.‬‬

‫وألبي العتاهية مبادئ يهمس فيها بالتحية ألهل القبور‪ ،‬بما يناسب هدوء تلك المساكن‬
‫الموحشة كقوله‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫كأَّنهُم ل ْم ي ْجلِ ُسوا ِفي المجالِ ِ‬
‫س‬ ‫الدو ِار ِ‬
‫س‬ ‫الم على أ ْه ِل القُُب ِ‬
‫ور َّ‬ ‫س ٌ‬
‫ُ‬
‫وابن الرومي مشهود له بالبراعة في الهمس للعينين‪ ،‬وتحضيضهما على بذل الدموع‬
‫بمطالع يعزف فيها ألحانا شجية‪ ،‬ذات أصوات معبرة‪ ،‬وهو الشاعر اليائس السوداوي‪ ،‬والقانط‬
‫المتشائم‪ ،‬واألب الثاكل‪ .‬وله في هذا داليته الحزينة التي صدرها بمطلع يذكر بمطالع‬
‫الخنساء‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫ف ُجودا فق ْد أ ْودى ن ِظ ُيرُكما ِع ْن ِدي‬ ‫اؤ ُكما ي ْش ِفي وِا ْن كان ال ُي ْج ِدي‬
‫ُبك ُ‬

‫بيت تشيع من صوت الكاف فيه حشرجةُ الموت‪ ،‬وصدى نشيج‪ ،‬وبحة بكاء‪.‬‬

‫وقد يهمس الشاعر العباسي في مطالع قصائد تنتمي إلى أغراض شعرية تتطلب‬
‫الحركية والصوت والجهد‪ ،‬كابن الرومي القائل في مطلع إحدى طردياته‪:‬‬

‫‪ 1‬حممد اهلادي الطرابلسي‪ :‬حتاليل أسلوبية‪ ،‬عامل الكتاب‪ ،‬تونس‪0223 ،‬م‪ ،‬ص‪.77.‬‬
‫‪ 2‬أبو العتاهية‪ :‬الديوان مصدر سابق‪ ،‬ص‪.193 .‬‬
‫‪3‬‬
‫ابن الرومي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.141 .‬‬

‫‪248‬‬
‫‪1‬‬
‫اب فوَّدعا‬ ‫زم ًانا طوى شرخ َّ‬
‫الشب ِ‬
‫ْ‬ ‫بك ْيت فل ْم تتْ ُر ْك لِع ْينِك م ْدمعا‬

‫العين والشين والخاء أصوات ذات موسيقى جنائزية‪ ،‬يشيع منها البكاء والنشيج‪ .‬وليس‬
‫هذا اإلحساس محتاجا إلى تصدير المطلع بلفظ‪ " :‬بكيت " الناطق بذلك‪.‬‬

‫وفي القصيدة مشهد للشمس وهي تغرب‪ ،‬طافح باألسى‪ ،‬يشبه مشهد المناحة‪ .‬الشمس‬
‫فيه ليست في حال غروب‪ ،‬بل في حال احتضار‪ ،‬و ُّ‬
‫النوار المائل نحوها ُع َّود يزورنها زيارة‬
‫اآليس المودع‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫ق الغ ْربِ ِّي وْر ًسا ُمذ ْعذعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫على األُفُ ِ‬ ‫صِ‬
‫يل ونفَّضـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫ت شمس األ ِ‬
‫ـت‬ ‫إذا رَّنق ْ ْ ُ‬

‫وش َّول ب ِاقي ُع ْم ِرها فتش ْعشع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫الد ْنيا لِت ْق ِ‬
‫ضي ن ْحبه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ووَّدع ِت ُّ‬

‫ضرعا‬ ‫ت خدا إِلى األ ْر ِ‬


‫ضأ ْ‬ ‫وق ْد وضع ْ‬ ‫والحظ ِت ُّ‬
‫النوار و ْهي م ِريض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ‬

‫تو َّجع ِم ْن أ ْوصابِ ِه ما تو َّجعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ت ُع َّوادهُ ع ْي ُن ُم ْدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف‬


‫كما الحظ ْ‬

‫الش ِج ِّي لِت ْدمع ـ ـ ـ ـ ــا‬


‫ت ع ْي ُن َّ‬
‫اغرْورق ْ‬
‫كما ْ‬ ‫ور ت ْخض ُّل بِ َّ‬
‫الندى‬ ‫الن ِ‬
‫ون َّ‬ ‫وظلَّ ْ‬
‫ت ُع ُي ُ‬
‫ظا ِمن َّ‬
‫الش ْج ِو ُخ َّشع ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ظن أ ْلحا ً‬
‫وي ْلح ْ‬ ‫ور إِليها رواني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫ص ًا‬ ‫ِ‬
‫ُيراعينها ُ‬

‫كأَّنهُما ِخالَّ صفاء توَّدع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ق عل ْي ِهم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وبَّين إِ ْغضاء ِ‬


‫الف ار ِ‬ ‫ُ‬

‫لقد مهد الشاعر لهذا المشهد بمقدمة بكى فيها شبابه المتصرم‪ ،‬وما كان يقضيه من‬
‫لهو مع أقرانه‪ ،‬وفي هذا الجمع بين البكائيات والطرديات يلوح سؤال عن مدى تأثير ذلك‬
‫الجمع بين األغراض المختلفة في أسلوبية القصيدة‪ ،‬ومدى قدرة الشاعر ومهارته في اختيار‬
‫المفردات والتراكيب المالئمة لكل غرض‪ ،‬مع االحتفاظ بوحدة االنطباع التي يمكن أن يخرج‬
‫بها المتلقي‪ .‬أو على األقل االنسجام بين أبنية اللغة المستعملة في معمار القصيدة‪ ،‬حتى ال‬
‫يخرج القارئ برؤية مشوشة واحساس ضبابي بما يريد الشاعر اإلفضاء به‪.‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ج‪ ،7 .‬ص‪.117 .‬‬


‫‪2‬‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.111 .‬‬

‫‪249‬‬
‫سؤال تتفرع عنه عمليا أسئلة أخرى مثل‪ :‬أي أغراض تلك القصيدة ستُكتب له الغلبة‬
‫في ترك بصمته األسلوبية في نفس القارئ وذهنه؟‪ ،‬أهو الغرض الذي كان من حظه المطلع‬
‫ومقدمة القصيدة‪ ،‬فاستمد أحقية الغلبة من طرقه باب المتلقي أوال‪ ،‬أم الغرض الذي كان‬
‫خاتمة القصيدة‪ ،‬فاستمد تلك األحقية من كونه آخر ما علِق بالنفس والوجدان؟‪ .‬أم إن‬
‫الشاعر المفلق الموهوب هو الذي يستطيع أن يمزج مكونات القصيدة الغرضية كلها في‬
‫سيرورة وجدانية واحدة‪ ،‬وبنية أسلوبية متجانسة‪ ،‬غير تارك حدودا بينها‪ ،‬منتظ ار أن تقع‬
‫قصيدته على مستمع في عبقريته يمتلك شعرية التلقي‪ ،‬فيخرج من قراءته القصيدة بنظرة‬
‫شاملة موحدة‪ ،‬بعيدا عن النظرة التشتيتية المتأتية من قراءة السطح الظاهر؟‪.‬‬

‫إننا هنا في مجال الحديث عما يمكن أن نسميه " أسلوبية الغرض الشعري "‪ ،‬فمما ال‬
‫شك فيه أن الغرض الشعري يشكل " أحد مكونات الشعر العربي سواء بوصفه (موضوعا)‬
‫يعالجه الشاعر‪ ،‬أو(شكال أدبيا) له تقاليده ومقوماته األسلوبية‪ .‬والغرض الشعري بهذا المعنى‬
‫ذو تأثير واضح في الصياغة اللغوية ‪.1" ...‬‬

‫والجدير بالذكر أن النقد العربي القديم لم ُيغفل أثر الغرض الشعري في التشكيل اللغوي‬
‫واألسلوبي للقصيدة عموما وللمطلع خصوصا‪ ،‬فليس الغرض الشعري مجرد موضوع أو نوع‬
‫معزول عن إطاره الشكلي‪ ،‬بل هو فاعلية شعرية تؤثر في الصياغة اللغوية‪ ،‬وتفرض‬
‫ملتزما بمقومات فنية قارة‪.‬‬
‫ً‬ ‫خصوصية أسلوبية تنتهي إلى أن تصبح تقليدا‬

‫فالرثاء مثال له تقاليده األسلوبية وأعرافه البالغية التي تميزه عن المدح أو الهجاء‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى تقدم األغراض الشعرية للشاعر قائمة بمجموعة من االختيارات األسلوبية التي‬
‫ركنا أصيال من أركان الشعر بحيث ال‬‫تحدد لكل غرض بنيته اللغوية الخاصة‪ .‬وهي تقوم ً‬
‫تتوفر في األجناس النثرية‪ ،‬لذلك كان الغرض الشعري هدفا مفضال عند النقاد والبالغيين‬
‫العرب‪ ،‬في محاولة استجالء القيم النوعية لكل غرض شعري‪ ،‬بما في ذلك المطلع‪ ،‬بل إن‬
‫هذه المسألة فيه آكد وألزم ‪.‬‬

‫‪ 1‬حممد مشبال‪ :‬البالغة ومقولة اجلنس األديب‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬مرجع سابق‪ .‬ص‪.72.‬‬

‫‪250‬‬
‫وال تقل الناحية المضمونية (الموضوع) عن الناحية الشكلية‪ ،‬في القدرة على منح‬
‫الغرض الشعري سلطة التوجيه األسلوبي في القصيدة‪ ،‬فإذا" ‪ ...‬تجاوزنا عما يفرضه الغرض‬
‫أحضرنا الغرض‬
‫الشعري باعتباره (شكال أدبيا) من سمات أسلوبية ضبطها القدماء[‪ ]...‬و ْ‬
‫بوصفه موضوعا‪ ،‬فإننا نجد لموضوعات الشعر العربي تأثي ار في الصياغة اللغوية‬
‫المختارة‪.1" ...‬‬

‫وأسلوبية الغرض الشعري هذه تصلح محتكما ُيفزع إليه ضد مماحكات النقاد‬
‫وتشقيقاتهم‪ ،‬أولئك النقاد الذين يأخذهم التمحل والتقحم أحيانا كل مأخذ‪ ،‬ويحملهم على تعقب‬
‫أبيات من قصائد في أغراض عريقة استقلت بكيانها الموضوعي واألسلوبي‪ ،‬مثل الرثاء‬
‫والغزل‪ ،‬ومع ذلك غيبوا هذا المقياس‪ ،‬الفني وذهبوا يعيبونها على الشعراء تحكيما لتواضعات‬
‫اجتماعية أو مقررات خلقية بعيدة عن الفن والحس الشعري‪.‬‬

‫فقد روى أبو القاسم اآلمدي أن مما عيب على أبي تمام قوله في الرثاء‪:‬‬

‫فليس لِعين ل ْم ي ِف ْ‬ ‫ب وْلي ْفد ِح األ ِم ُر‬ ‫كذا ف ْلي ِج َّل الخ ْ‬
‫‪2‬‬
‫اؤها ُع ْذ ُر‬
‫ضمُ‬ ‫طُ‬

‫وذلك ألن ظاهر اللفظ يوهم أن الشاعر يتمنى أن يعظم الخطب على المصابين‪ ،‬ويشتد ما‬
‫بهم من بالء‪ .‬وليس هذا الرأي إال فضل تمحل ال ُينظر فيه إلى أنه رثاء‪ ،‬ومن طبيعة لغة‬
‫هذا الفن وأسلوبه المبالغة في التفجع واإلشارة إلى ِعظم المصيبة‪ ،‬وما يتبع ذلك من استدرار‬
‫الدمع ومطالبة العين بأال تستبقي شيئا منه ألحد بعد الفقيد‪.‬‬

‫فأسلوب األمر في المطلع‪ ،‬يمكن أن يؤخذ على أنه إنشاء وضع موضع الخبر‬
‫وقبل أبي تمام أبدع الشعراء العرب في البكائيات‪،‬‬
‫الواصف للحدث غير المتضمن للتمني‪ْ .‬‬
‫والمبالغة في تعظيم الرزء‪ ،‬ونداء العينين واستحثاثهما على ذرف الدموع الغزيرة‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫الخنساء في مطالعها ومقدمات قصائدها المعروفة‪ ،‬ومثله في هذا أبو فراس الحمداني القائل‪:‬‬
‫ِ‪1‬‬ ‫ِ‬
‫التعنيف والفند‬ ‫المصاب ِ‬
‫عن‬ ‫جل ُ‬
‫َّ‬ ‫بالح ْزِن ال أُوصيك بالجل ِد‬
‫أُوصيك ُ‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ص‪.‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬أبو متام‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.49 .‬‬

‫‪251‬‬
‫لذلك لم ير اآلمدي ما يعاب هنا على أبي تمام‪.2‬‬

‫وكما تقترب أسلوبية الغزل من أسلوبية الرثاء والتفجع في أشياء كثيرة‪ ،‬تقترب منها في‬
‫طابع المأساوية هذا‪ ،‬وفي تمني زيادة الجوى واللوعة كما في قول المتنبي‪:‬‬

‫الرشِإ األغ ِّن ِّ‬ ‫ِ‬


‫ك التَّْب ِر ُ‬
‫جلالً كما بِي ف ْلي ُ‬
‫‪3‬‬
‫يح‬
‫الش ُ‬ ‫اء ذا َّ‬
‫أغ ذ ُ‬ ‫يح‬

‫والموسيقى الداخلية ال ِتقل أبدا عن الموسيقى الخارجية في القدرة على البوح‬


‫باألحاسيس والمشاعر‪ ،‬بل في تجسيد رؤية الشاعر‪ ،‬وبيان موقفه‪ .‬وكثي ار ما وردت المطالع‬
‫حافلة بهذا الشحن ‪ ،‬متكفلة بوضع السامع أمام الذات الشاعرة في أوضح تجلياتها‪ ،‬يقول‬
‫المتنبي‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫ت والب ِدي ُل ِذ ْكراها‬
‫لِم ْـن نأ ْ‬ ‫ْأوِه بديـ ٌل ِم ْن ق ْولتِي واها‬

‫التوجع والتعجب حالتان تثيران النفس وتنبعان من األعماق‪ .‬والفونيمات في البنية‬


‫الصوتية ألوه وواها تفيان بذلك‪ ،‬فالهمز والهاء من أقصى الحلق والواو من (الشفتين) وبذلك‬
‫يشترك طرفا الجهاز المصوت في الكشف عن الحالتين‪ ،‬كما أن الشفة من أدق األعضاء‬
‫تعبي ار بالمالمح وأكثرها استعماال في الكشف عن الحاالت الخاصة (اشمئزاز‪ ،‬تألم‪،‬‬
‫اندهاش‪ .)...‬يؤكد هذا وقوع الواو ساكنة في " ْأوه " فتخرج بتقارب الشفتين وتقلصهما‪ ،‬وهي‬
‫في "واها" مفتوحة تنجم عن انبساطهما وتباعدهما‪ ،‬فإذا كانت حالتا التوجع والتعجب‬
‫مختلفتين متعاقبتين على نفس الشاعر فإن مصدرهما واحد هو الحبيبة‪ ،‬واذا كانت طريقتا‬
‫خروج الواو الساكنة والواو المفتوحة مختلفتين (انضمام وتقارب) = (انبساط وتباعد)‬
‫فمصدرهما أيضا واحد هو الشفة‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو فراس احلمداين‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.73 .‬‬


‫‪ 2‬أبو القاسم اآلمدي‪ :‬املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.742 .‬‬

‫‪ 3‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.073 .‬‬


‫‪ 4‬السابق‪ ،‬ج‪ ،7.‬ص‪.093 .‬‬

‫‪252‬‬
‫والواو والهاء كذلك صوتان هوائيان‪ ،‬والتوجع واالندهاش احتقان داخلي في النفس أو‬
‫القلب‪ُ ،‬يحتاج معه إلى التنفيس واالنطالق والهواء ضرورة ملحة لذلك‪ ،‬وهو الوسط المالئم‬
‫له‪ .‬وليس بعيدا عن هذا البيت في دالالته قوله‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫وم ْن بِ ِج ْس ِمي وحالِي ِع ْندهُ سق ُم‬ ‫وا ح َّـر ق ْلـباهُ ِم َّم ْن ق ْل ُـبهُ شبِ ُم‬

‫مطلع إحدى الروائع التي تظلم فيها المتنبي من سيف الدولة ‪ ،‬وشكا إليه فيها ما يحس‬
‫به من حيف وتهاون بمنزلته‪.‬‬

‫أول هذا المطلع حرف الندبة " وا " وهو حرف شفوي هوائي‪ ،‬والشفة من أشد أعضاء‬
‫اإلنسان حساسية‪ ،‬وقد كان المتنبي في هذه القصيدة في أقصى درجات توقد اإلحساس‪:‬‬
‫اإلحساس بجفاء األمير‪ ،‬وكيد الحساد والوشاة الذين أوقعوا بينهما‪ ،‬وأما هوائية الصوت فال‬
‫شك أن الشاعر كان في أشد الحاجة إلى هواء يبرد به حر قلبه الذي يشكوه‪ ،‬وهذا ما تعينه‬
‫عليه األلف التي وصلها بالقلب "قلباه" أي ألف الندبة‪ ،‬وهي حرف هوائي أيضا‪ .‬واألصل "‬
‫قلبي" بياء المتكلم أو ياء الشخص كما يسميها بعض النحويين‪ ،‬لكنها حذفت‪ ،‬وتعليل ذلك‬
‫في النحو التقليدي التقاء الساكنين (سكونها وسكون ألف الندبة)‪ ،‬لكن يمكن أن يكون ذلك‬
‫إشارة إلى ذوبان شخص المتكلم الذي تعبر عنه تلك الياء تحت لهب حر الفؤاد‪ ،‬وهذا ما‬
‫يناسبه سقم جسمه في عجز البيت‪ ،‬وما السقم إال نار تأكل الجسم‪.‬‬

‫وصحيح أن " وا " حرف ثنائي للندبة لكن أول جزئيه " الواو " يذكر بأشهر واو في‬
‫النحو العربي أي واو عطف النسق‪ ،‬هذه اللفتة توحي بأن الشاعر إنما ينسق كالمه أو‬
‫يعطفه على كالم آخر غير ُمص َّرح به‪ ،‬مدلول بغير دال ملفوظ لكنه مرموز إليه‪ ،‬فما في‬
‫ُّ‬
‫يصب فيها ألمه وعتابه‪ ،‬بل‬ ‫قلب المتنبي المحترق أكثر من أن تحصره هذه القصيدة التي‬
‫اللغة نفسها تقف عاجزة إزاء ذلك‪.‬‬

‫تأتي بعد ذلك هاء السكت المتصلة بقلب الشاعر‪ " :‬قلباه " هذه الهاء حقها أن تكون‬
‫في الوقف‪ ،‬ويلزمها لذلك السكون‪ .‬لكنه جاء بها هنا في الوصل وهو من الضرورات‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ج‪ ،3.‬ص‪.330 .‬‬

‫‪253‬‬
‫الشعرية‪ ،‬من أجل ذلك حركها‪ ،‬وله في تحريكها خياران‪ :‬إما تحريكها بالكسر الذي هو‬
‫األصل في تحريك الساكن‪ ،‬واما تحريكها بالضم على التشبيه بهاء الضمير‪.1‬‬

‫وهذا الذي مال إليه الشاعر‪ ،‬وذاك يتضمن مقاربة داللية طريفة‪ ،‬فالمتنبي كما تبين‬
‫يشعر بحر أذاب شخصه‪ ،‬والذوبان غياب ف ْلتُشبه – تبعا لذلك ‪ -‬هذه الهاء هاء الغائب‪.‬‬
‫قلبهُ " بعد ذلك‪ :‬أي قلب األمير‬
‫فضال عن المقاربة الصوتية بينها وبين الهاء في قوله " ُ‬
‫الذي تغير عنه لسعاية الوشاة‪ ،‬فغاب هو أيضا غياب محبة وعهد‪.‬‬

‫سبقت اإلشارة إلى أن هذه الهاء تكون في الوقف أي في آخر الكالم‪ ،‬لكنه أتى بها في‬
‫الوصل‪ ،‬فهو ال يريد لما كان بينه وبين ممدوحه من سابق ألفة واتصال أن يقف‪ .‬الوقف‬
‫نفسه يجب أن يتحول إلى وصل‪ ،‬بل إن حياة المتنبي كلها تواصل ُمطَّـرد‪ ،‬وكل ما يظهر أنه‬
‫موقف منها يتحول إلى وصالت أو منعطفات‪.‬‬

‫والعالقات بين الوحدات الدالة ترتكز على الضدية بين " الحر والشبم بمعنى البارد‪،‬‬
‫والقلب والجسم "‪ ،‬القلب بوصفه مستودع المشاعر والروحانيات والجسم بوصفه الهيكل‬
‫المادي الواقع تحت الحواس " الحر ‪ +‬البرد " = االستحالة والعدم‪ ،‬وهي الحالة التي يشعر‬
‫المتنبي أنه صار إليها بعد جفوة سيف الدولة‪ ،‬أما القلب والجسم فهي حالة الغياب‬
‫والحضور‪ :‬غياب القلب الذائب تحت الحر الذي غابت معه ياء المتكلم وحضور الجسم‬
‫فقط‪ ،‬بيد أنه الجسم المحطم تحت ثقل السقم والهم‪ ،‬لذلك ال بأس بإضافته إلى الياء التي‬
‫حضرت اآلن حضور الذات المشتكية المتألمة‪.‬‬

‫وهذا المطلع خال من األفعال خلوا فسح المجال واسعا أمام األسماء " حر‪ ،‬قلب‪ ،‬من‪،‬‬
‫شبم‪ ،‬جسمي‪ "...‬التي تحمل الداللة على استقرار الحدث‪ :‬استقرار الحر في قلب الشاعر‬
‫والبرودة والجفاء في قلب األمير الجافي‪ ،‬واستقرار المرض في الجسم المنهك‪ .‬وهي موزعة‬
‫توزيعا نسقيا عادال‪ :‬خمسة في الصدر "حر‪ ،‬قلباه‪ ،‬من‪ ،‬قلبه‪ ،‬شبم" ومثلها في العجز " من‪،‬‬

‫‪ 1‬اليازجيان‪ :‬العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.117.‬‬

‫‪254‬‬
‫جسمي‪ ،‬حالي‪ ،‬عنده‪ ،‬سقم "‪ .‬مع تكرار "من" االسم الموصول الدال على األمير‪ ،‬ليكون‬
‫مركز الوحدات األخرى طالما أنه مركز الشكوى واأللم‪.‬‬

‫والعكس ربما وضع الشاعر العباسي المستمع أمام حشد من األفعال المتالحقة‪،‬‬
‫المتعاطفة‪ ،‬تتخللها هاء الوصل الساكنة‪ ،‬في إيقاع الفت بين الحركة والسكون‪ ،‬كقول بشار‬
‫بن برد‪:‬‬

‫ِ‬ ‫جفا ِوُّده ف ْازوَّر أو م َّل ص ِ‬


‫وأ ْزرى بِه أ ْن ال يزال ُيع ُ‬
‫‪1‬‬
‫اتب ْه‬ ‫اح ُب ْه‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫حشد الشاعر ستة أفعال‪ :‬ثالثة في الصدر ومثلها في العجز‪ ،‬وهو ما أضفى على‬
‫البيت حركية وديناميكية متعادلة القوى بين المصراعين‪ ،‬لتنتهي تلك الحركية بهاء الوصل‬
‫الساكنة فجأة في الصدر‪ ،‬وتستأنف الحركة عنفوانها من جديد في العجز بثالثة أفعال أيضا‪،‬‬
‫فتوقفها الهاء تارة أخرى‪ .‬إيقاع يصنعه التناوب بين الحركة والسكون‪ :‬حركة فسكون فحركة‬
‫فسكون‪.‬‬

‫كما يرد ما يشبه هذا اإليقاع بالتوزيع المتناسب بين الصدر والعجز‪ ،‬ولكن بين عناصر‬
‫نحوية مختلفة في البناء منها المركب ومنها المفرد‪ ،‬مثاله قول المتنبي‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫حب ما ل ْم ي ْبق ِمِّني وما ب ِقي‬
‫ولِ ْل ِّ‬ ‫لِع ْين ْي ِك ما ي ْلقى الفُؤاد وما ل ِقي‬

‫المركب اإلضافي" عينيك " يتموضع أوال في صدر المطلع‪ ،‬ويقابله المركب من الجار‬
‫ومجروره " للحب " في أول العجز‪ ،‬وبالمثل االسم المفرد الموصول " ما " حيث يحتالن‬
‫المرتبة الثانية من الشطرين‪ ،‬ثم تتواتر األفعال " يلقى‪ ،‬يبق "‪ِ " ،‬لقي‪ِ ،‬بقي " بالتناظر في‬
‫المصراعين كذلك‪ ،‬والمالحظ أنه لما كانت ألف " يلقى " محذوفة صوتيا (في النطق) بسبب‬
‫التقاء الساكنين‪ ،‬ولم يكن هذا االلتقاء واردا مع ( يبقى ) لتحرك ما بعده‪ ،‬جيء بالفعل الحقا‬
‫فحذفت األلف من الفعل عالمة على الجزم به‪ ،‬فتساوى الفعالن في األداء‬
‫لحرف الجزم "ل ْم"‪ُ ،‬‬
‫الصوتي كما تساويا في الموقع‪.‬‬

‫‪ 1‬بشار بن برد‪ :‬الديوان‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد الطاهر بن عاشور‪ ،‬دار سحنون‪ ،‬تونس‪ /‬دار السالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪0227 ،1.‬م‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.303.‬‬
‫‪ 2‬املتنيب‪ ،‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.323 .‬‬

‫‪255‬‬
‫وهذا االنصراف إلى الموازنة مالحظ كذلك في الجار والمجرور " للحب "‪ ،‬فلما كان‬
‫مقابله في الصدر‪ " :‬عينيك " مضافا وهو ليس كذلك‪ُ ،‬عوض عن ذلك بإدخال األلف والالم‬
‫التي هي هنا النظير والمقابل لإلضافة‪ .‬هذا النسق والمعادلة في الترتيب والتوزيع تشير إلى‬
‫العناية الدقيقة التي تميز بها المتنبي غالبا ‪ -‬ومثله غالب الشعراء العباسيين ‪ -‬في هندسة‬
‫خصوصا‪ ،‬هندسة لغوية تكاد تكون سمة مميزة لفنه‪.‬‬
‫ً‬ ‫عموما ومطالعه‬
‫ً‬ ‫أبياته‬

‫وفي سبيل تحقيق نغم موسيقي‪ ،‬يكون نقل الحركات وابدال الحروف كما في قول‬
‫البحتري‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫يج ْد‬ ‫ِ‬ ‫ف ِفي ِ‬
‫ُم ْخلِ ٌ‬
‫ال فل ْم ُ‬
‫ص ً‬‫سيل و ْ‬ ‫الذي وع ْد‬

‫ياء‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إذ األصل " ُسئل " فنقلت الكسرة من الهمزة إلى السين‪ ،‬وأُبدلت الهمزة بعد تسكينها ً‬

‫وللتكرار نصيبه في إحداث اإليقاع‪ ،‬بل هو أحد أشهر وسائله استخداما وقدرة على‬
‫التأثير في األذن‪ ،‬وايحاء باألجواء النفسية المخيمة على الشاعر وموقفه‪ .‬فالمتنبي وهو‬
‫يقول‪:‬‬

‫ق على أرق و ِم ْثلِي يأْر ُ‬


‫‪2‬‬
‫ق‬ ‫وج ًوى ي ِز ُ‬
‫يد وع ْبرةٌ تترْقر ُ‬ ‫ق‬ ‫أر ٌ‬

‫يعزف لحنا يشيع منه اإلحساس بالتشوش والقلق‪ ،‬الذي يناسبه تكرار صوت القاف على‬
‫المستوى الكلمي في " أرق "‪ ،‬والحرفي حين تتناوب وتتردد مع صوت الراء في " تترقرق "‪.‬‬

‫غير أن يوسف البديعي لم يرقه ابتداء المتنبي مخاطبة ملِك بمثل هذا المطلع‪ ،‬وما فيه‬
‫من أصوات‪ ،‬وعلق على ذلك بقوله‪ ":‬وهو ُبرْقية العقرب أشبه منه بافتتاح كالم في مخاطبة‬
‫ملك ‪ .3" ...‬وربما كان هذا الرأي صحيحا استنادا إلى أدب مخاطبة الملوك‪ ،‬لكن ال غبار‬
‫علي حسن الموسيقى المترتبة على التكرار الكلِمي في " أرق "‪ ،‬والصوتي المتأتي من صوت‬
‫" القاف "‪ ،‬والتناوب في النطق بين الراء والقاف في " تترقرق "‪.‬‬

‫‪ 1‬البحرتي‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.02.‬‬


‫‪ 2‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،0.‬ص‪.330 .‬‬
‫‪ 3‬يوسف البديعي‪ :‬الصبح املنيب عن حيثية املتنيب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.322.‬‬

‫‪256‬‬
‫على أنه ال بد من اإلقرار بأن الشعراء العباسيين يهجمون على المستمع أحيانا‬
‫بمطالع‪ ،‬يحار الناظر في تراكيب ألفاظها‪ ،‬وغرابة جرسها‪ ،‬وخشونة موسيقاها‪ ،‬ويعييه األمر‬
‫وهو يحتال لتبرير ذلك السلوك فنيا‪ ،‬ويضيق ذرعه بالتأويالت‪ ،‬السيما إذا كان ذلك في‬
‫ِ‬
‫وحذره من المزالق‪ ،‬فما الذي يدفع أبا تمام مثال‬ ‫المطالع التي تكون موضع عناية الشاعر‬
‫إلى أن يلفق بعض األصوات يصنع بها مطلعا يقول فيه‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫ك ْم ت ْع ِذلُون وأ ْنتُ ُم ُسجرائي‬ ‫الغلو ِ‬
‫اء‬ ‫ق ْدك اتَّ ْ‬
‫ئب أربيت في ُ‬

‫وقد ال يكون االنطباع الذي يتركه هذا المطلع من حيث موسيقى األصوات‪ ،‬أفضل من‬
‫االنطباع الذي تركه بيت ديك الجن الذي عابه عليه دعبل‪ ،‬من حيث المعاظلة في ألفاظه‬
‫والغموض في إحاالته‪ ،2‬فالحيثيتان مختلفتان ولكن االنطباع واحد وهو الشعور باالستغراب‬
‫"وزاد هذه األلفاظ هجنة أنها ابتداء قصيدة "‪.3‬‬

‫وربما جاءت رواية أسرفت " بدل " أربيت " في غير الديوان‪ ،4‬محاولة للتقليل من‬
‫نشاز هذه الموسيقى‪ ،‬السيما وأن أشد األلفاظ نبوا ونشو از في الحس الموسيقي وهما " قدك‬
‫واتئب " يقعان في وحدة نغمية أو تفعيلة واحدة‪ ،‬تقع هي أيضا في مستهل المطلع‪ ،‬فلو أنه‬
‫اء كفيال بأن يفثأ من حدة ذلك‬
‫حيل بينهما‪ ،‬بتشتيتهما على مختلف الوحدات‪ ،‬لكان ذلك إجر ً‬
‫التنافر والقرقعة الصادمة لألذن‪ ،‬وقد يكون من جهة أخرى وسيلة إلساغة ما بقي من تركيب‬
‫موسيقي في البيت على صعوبة‪ .‬ثم هل كان أبو تمام يعجز عن أن يستبدل بـ " سجرائي "‬
‫جلسائي‪ ،‬أو خلطائي القريبتين منها في الحقل الداللي؟‪ .‬ربما يدخل هذا في جرأة الشاعر‬
‫العباسي على محاوالت التجريب في الموسيقى الداخلية‪ ،‬والبحث عن فتح آفاق نغمية جديدة‬
‫لألذن الشعرية‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو متام‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.02.‬‬


‫‪ 2‬انظر الصفحة ‪ 021‬من هذه الدراسة‪.‬‬
‫‪3‬اآلمدي‪ :‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.321.‬‬
‫‪ 4‬يوسف البديعي‪ :‬الصبح املنيب عن حيثية املتنيب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪. 323.‬‬

‫‪257‬‬
‫البديـــــــــــــــــــــــع‬
‫يسهم البديع في إثراء بنية الموسيقى الداخلية‪ ،‬واحداث إيقاعات تَلَ ُّذها األسماع‪،‬‬
‫وتستريح إليها النفوس‪ .‬تستوي في ذلك المحسنات اللفظية وما لها من سحر على األذن‬
‫مباشرة‪ ،‬والمحسنات المعنوية وما لها من إيقاع يتجاوز السطوح فينفذ األلفاظَ وصوال إلى ما‬
‫تحتويه من معان وأفكار تتداعى إلى الذهن‪ ،‬وتتوارد في النفس بأواصر من التطابقات‬
‫عمق اإلحساس بالمشاعر في النص‪ ،‬ويلقي بإيحاءاته‬
‫رجعا موسيقيا ُي ّ‬
‫والتقابالت‪ ،‬محدثة ْ‬
‫وظالله عند قراءته‪.‬‬

‫غير أنه لم يستهدف عنصر من عناصر هذه الموسيقى في تاريخ البالغة العربية‬
‫لتعمل‪ ،‬وهو ما ترتب‬
‫أس ما ُرمي به التكلف وا ّ‬
‫لحمالت التشويه كما استهدف البديع‪ .‬وكان ر َ‬
‫عليه تزييف قيمته الفنية‪ ،‬واتهام الجانحين إليه بالعجز الفكري الذي يلجأ صاحبه إلى تمويهه‬
‫بالطالء الخارجي‪ ،‬وتغطيته بزخرف من القول‪.‬‬

‫وفي كثير من األحيان كانت تلك االتهامات – مع األسف – صادرة عن شعوبية‬


‫وعنصرية ظاهرة العداوة للثقافة العربية عموما‪ ،‬ومنطلقة من توجهات إثنولوجية ِ‬
‫غير مخلصة‬
‫للعلم‪ ،‬السيما وأن أكثر القائلين بتلك التهم مستشرقون راجت دراساتهم عن العربية وعلومها‬
‫وثقافاتها في أشد فترات الصدام بين الشرق والغرب‪.‬‬

‫كما أن من أولئك مثقفين عربا‪ ،‬أُشربوا في نفوسهم ثقافة الغرب ولم يبالوا أن يعلنوا‬
‫وتنكرهم للموروث الثقافي العربي ومنه الموروث البالغي‪.‬‬
‫َ‬ ‫صراحة إعجابهم بتوجهاته المريبة‪،‬‬
‫غير‬
‫وفي أحسن األحوال نجد قوما من هؤالء العرب يرددون تلك األطروحات بحسن نية‪َ ،‬‬
‫واقفين على مراميها الدعائية ومحتوياتها اإليديولوجية‪.‬‬

‫والحق أن الدارس للنصوص األدبية – ًّأيا يكن هذا الدارس‪ ،‬ومهما تكن نوازعه‪ ،-‬إذا‬
‫نظر في النص نظرة تفريقية‪ ،‬مصابة بذلك الداء العياء المتمثل في تحويل القراءة ِ‬
‫مجز ار‬
‫ُيسلخ فيه شكل النص عن مضمونه‪ ،‬وتُدق فيه األسافين بين اللغة ومحتواها‪ ،‬ال بد أن‬
‫المبتسر‪ ،‬والذي يكون الشكل عموما‬
‫بادي الرأي – إلى ذلك الحكم المتعسف و َ‬
‫َ‬ ‫سيصل –‬
‫والبديع خصوصا ضحيته األولى‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫الدارس الناظر في دعوى شكالنية البديع وعبثيته‪ ،‬إال أن يتساءل‪ :‬أي‬
‫َ‬ ‫إنه ال يسع‬
‫عبثية دفعت بالمذهب البديعي في العصر العباسي إلى التنامي‪ ،‬حتى بات يتوخاه المنشئون‬
‫فيغربون فيه‬
‫فيتولد منه فن أصيل قائم بنفسه في النثر كالمقامة‪ .‬ويعمد إليه الشعراء ُ‬
‫ويبدعون‪ ،‬وال يتورعون عن أن يحشدوا في البيت الواحد منه أنواعا وأشكاال؟‪ .‬ليست العبثية‬
‫قادرة على تفسير ظاهرة فنية انتشرت هذا االنتشار مع المحدثين والمولدين في ذلك العصر‪.‬‬

‫إنه تفسير سطحي س اذج ليس له أي حظ من اإلقناع‪ ،‬وأولى منه وأقرب إلى القبول‪،‬‬
‫الذهاب إلى أن ذلك النمط في النظم واإلنشاء إنما هو وليد تحوالت العصر العباسي الثقافية‬
‫والفكرية‪ ،‬والمتغيرات الفنية التي شهدها‪ .‬والتي منها حديث المفاضالت بين الصناعتين‬
‫الكتابة والشعر‪ ،‬وتعصب كل فريق لفن دون آخر‪ ،‬ومنها حوار األجناس واألنواع‪ ،‬ومحاولة‬
‫تقربه من الشعر‬
‫النثر اكتساح مساحة أكبر‪ ،‬وما قد يتطلبه ذلك من توسله بوسائل شعرية ّ‬
‫ِ‬
‫الجنس الذي كتبت له الهيمنة على البالغة العربية أحقابا‪ ،‬ولو مرحليا ريثما يكتسب األنصار‬
‫فيستقل بكيانه‪.‬‬

‫ولقد أتى على الثقافة العربية حين من الدهر‪ ،‬اتُّخذ الشعر فيه "وسيلة " للتزيد من‬
‫المعارف العامة و"وعاء" لها‪ ،‬ونظر إليه الرواة وعلماء العربية على أنه "معجم" للشواهد‬
‫النحوية واللغوية‪ .‬وهو ما من شأنه أن يوهي حبل الشعرية فيه‪ ،‬ويساعد على الفصل بين‬
‫ظ بعد‬
‫المضمون المعرفي المقصود‪ ،‬والصياغة اللغوية والفنية التي لن يكون لها كبير ح ّ‬
‫الظفر بالمطلوب‪.‬‬

‫التفطن إلى هذا المنزلق الفني‪ ،‬فأبدى خيبته من طلب علم الشعر‬
‫ُ‬ ‫ولم يفت الجاحظَ‬
‫عند أصحاب هذا االتجاه‪ ،‬كاألصمعي الذي وجده ال يحسن من الشعر إال غريبه‪ ،‬واألخفش‬
‫الذي ليس له منه إال إعرُابه‪ ،‬وأبي عبيدة الذي ال يعنيه منه إال ما تضمن أخبا ار أو أياما أو‬
‫أنسابا‪ .‬فلم يظفر بضالّته إال عند النابهين من طبقة ال ُكتّاب‪ ،‬كالحسن بن وهب ومحمد بن‬
‫عبد الملك الزيات‪.1‬‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ :‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.621 .‬‬

‫‪260‬‬
‫فلعل ذلك كله حمل الشعراء العباسيين على أن يدافعوا عن صناعتهم وينفوا عنها‬
‫َّ‬
‫الد َخل‪ ،‬ويعملوا جاهدين على استصفاء الشعر مما يريده أولئك العلماء والمثقفون المتوسلون‬
‫إلحاحهم على اللغة الشعرية‪ ،‬وما‬
‫ُ‬ ‫به إلى غايات غير فنية‪ .‬فكان من جملة وسائل دفاعهم‬
‫تتميز به من جمالية بديعية‪.‬‬

‫ويؤكد سذاجةَ تلك النظرة الدونية إلى البديع‪ ،‬وتهافتَها ما توصلت إليه مناهج النقد‬
‫صبة على لغة النص‪ ،‬من نتائج وقناعات قوية لم تعد معها تلك النظرة النمطية‬
‫المن ّ‬
‫الحديثة ْ‬
‫إلى البديع قادرة على الصمود واالستمرار في الحياة‪ .‬فمع تلك النتائج والقناعات قلّت‬
‫البديع لغوا من زخرف القول‪ ،‬أو طالء خارجيا يش ّكل قيمة‬
‫َ‬ ‫األصوات التي يرى أصحابها‬
‫الدرس البديعي الحديث‬
‫إن ّ‬‫مضافة إلى المعنى‪ ،‬وحتى ذلك القليل منها صائر إلى خفوت‪ّ .‬‬
‫تطور التطبيقات البنيوية على‬
‫المتأثر باألسلوبيات‪ ،‬يرفض مثل هذا الطّرح‪ ،‬خصوصا مع ّ‬
‫النصوص‪ ،‬والعناية بالهيكل اللّغوي وتالشي المسافة المفتعلة بين ال ّشكل والمضمون‪.‬‬
‫ّ‬

‫تقدم لسانيات النص‪ ،‬وعلم تحليل الخطاب بتصوراتهما‪ ،‬واجراءاتهما في‬


‫وواكب ذلك ّ‬
‫تناول النص والخطاب وتحليلهما‪ ،‬والنظر في مكوناتهما‪ .‬فرأت فيه لسانيات النص أداة من‬
‫الممكن جدا توظيفها في حبك النص‪ ،‬وتحقيق االتساق واالنسجام بين أجزائه‪ ،‬والربط بين‬
‫مكوناته وبذلك " أصبح للبديع أفق جديد من منظور اللسانيات النصية‪ ،‬وهو فاعلية البديع‬
‫في ( ربط أجزاء النص )‪.1" ...‬‬

‫أن البديع عنصر من صميم البنية اللّغوية‪ ،‬والوسائل األسلوبية المرِاد بها‬
‫ومحصل هذا ّ‬
‫مفرقا بين البديع والبيان‬
‫محمد أمين ّ‬‫الدكتور فوزي ّ‬ ‫النص نفسه‪ .‬يقول ّ‬
‫ّ‬ ‫تركيز االهتمام على‬
‫في هذه المسألة ‪ ":‬البديع – فيما أرى‪ -‬حركة معاكسة لحركة البيان‪ ،‬فالبيان يريد أن يصل‬
‫النص نفسه‪ ،‬فاصال بينه‬
‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬بينما يريد البديع أن يحصر القارئ في‬ ‫ّ‬ ‫القارئَ بموضوع‬
‫وبين موضوعه‪ ،‬البديع يتّخذ من اللّغة وسيلة وغاية‪ ،‬بينما اللّغة في البيان – مهما لفتت إلى‬

‫‪ 1‬مجيل عبد اجمليد‪ :‬البديع بني البالغة العربية واللسانيات النصية‪ :‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪6991 ،‬م‪ ،‬ص‪.7.‬‬

‫‪261‬‬
‫النص بينما‬
‫ّ‬ ‫نفسها‪ -‬ال تعدو أن تكون وسيلة [‪ ]...‬الحركة في البديع حركة متّجهة إلى داخل‬
‫هي في البيان حركة متّجهة إلى الخارج "‪.1‬‬

‫إن البيان بما أنه توضيح للمعنى‪ ،‬أي محاولة للكشف عن المضمون وايضاحه‪ ،‬يكون‬
‫ارتباطه بذلك المعنى ال بالنص الذي هو فيه‪ ،‬أي هو وسيلة إليصال المعنى إلى ذهن‬
‫تبق حاجة إليه‪ ،‬بخالف‬
‫المستمع ال أكثر‪ .‬حتى إذا أمكن إيصاله بغير الصور البيانية لم َ‬
‫البديع الذي يرتبط بالنص الراهن‪ ،‬فيصبح بذلك ذا قيمة أنطولوجية لذلك النص‪ ،‬وركنا شديدا‬
‫من أركان النصية‪.‬‬

‫لحا‪ ،‬لتجاوز ذلك الحكم‬ ‫النصية أم ار ُم ّ‬


‫ّ‬ ‫النظر في قيمة البديع‬
‫لذلك صارت إعادة ّ‬
‫ال‬
‫النصوص التّراثية‪ ،‬حيث ال ُيرى البديع إ ّ‬‫النمطي الحاضر في أكثر األحيان عند دراسة ّ‬
‫ّ‬
‫وكأن العملية اإلبداعية‬
‫ّ‬ ‫تكلّفا‪ ،‬أو لمسات تزينية على حواف المعنى في أحسن األحوال‪" .‬‬
‫مراحل متعاقبة يتلو بعضها بعضا "‪.2‬‬

‫وإلعادة النظر في قيمة البديع الفنية عائد جمالي ال يمكن إنكاره عموما‪ ،‬ولها على‬
‫الخصوص بالنسبة إلى تاريخ بالغتنا أكبر األثر في إعادة تثمين فنون كاملة‪ ،‬ارتبط وجودها‬
‫وكينونتها بفن البديع‪ .‬وفي االعتراف بشرعية وجود هذه الفنون‪ ،‬وحقِّها في إعادة التثمين‬
‫والتصنيف‪ ،‬والبحث عما تتضمنه من قيم جمالية وخصوصية نصية‪ ،‬ودالالت ثقافية‬
‫جنت عليها تلك النظرة وجعلتها مثال لالفتعال والتكلف‪ ،‬والمقامة‬
‫وتاريخية ونفسية‪ ،‬بعد أن َ‬
‫خير مثال شاهد لذلك‪.‬‬

‫مصنف مخصص للبديع وصل‬ ‫َّ‬ ‫المعتز في مقدمة كتابه " البديع " ‪ِ -‬‬
‫أول‬ ‫ّ‬ ‫أصل ابن‬
‫لقد ّ‬
‫البديع فرده إلى أسلوب القرآن الكريم‪ ،‬وكالم الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكالم‬
‫َ‬ ‫إلينا‪-‬‬
‫المحدثون بدعا في هذا‪،‬‬
‫َ‬ ‫الصحابة رضي اهلل عنهم‪ ،‬واألعراب وأشعار المتقدمين‪ .‬فلم يكن‬

‫‪ 1‬فوزي حممد أمني‪ :‬البديع ودوائر االغرتاب يف أدب مصر اإلسالمية‪ ،‬ضمن كتاب‪ :‬يف اللغة واألدب‪ ،‬تأليف خنبة من األساتذة‪ ،‬دار الوفاء‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪2002 ،‬م‪ ،‬ص‪.276.‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬ص‪.272.‬‬

‫‪262‬‬
‫غاية ما لهم من تميز أنه " كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم بهذا االسم فأعرب عنه ودل‬
‫عليه ‪.1" ...‬‬

‫وال يفوته ‪ -‬وهو يذكر طائفة من أولئك المحدثين الذاهبين مذهب البديع ‪ -‬أن يخص أحد‬
‫أئمة هذا المذهب وهو أبو تمام الذي " ‪ُ ...‬شعف به حتى غلب عليه وتفرع فيه وأكثر منه‬
‫فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض "‪.2‬‬

‫أسيرها‬
‫واذا ُذكر أبو تمام وامامته لهذه الطريقة‪َ ،‬مثَلت له عدة أبيات ومطالع‪ ،‬لعل ْ‬
‫وأدلها على القضية قوله‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫الح ُّد َب ْي َن ال ِج ِّد َواللَّ ِع ِب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫في َح ِّده َ‬ ‫اء ِم َن ال ُكتُ ِب‬
‫ق أ َْنَب ً‬
‫َص َد ُ‬
‫فأ ْ‬
‫الس َّْي ُ‬

‫وفي محاولة منه لتوكيد ذلك الرباط المطلعي بين العلمين المكاني والنسوي‪ ،‬يظهر‬
‫أبوتمام أحيانا حريصا " ‪ ...‬عند ذكره ألسماء المواضع على اشتقاق كلمة أو كلمتين تتجانس‬
‫مع هذا الموضع‪ ،‬أو يشتق التجنيس من اسم المرأة التي يتغزل بها في بدء القصائد "‪.4‬‬
‫ِ‪5‬‬ ‫علَ ْي ِه وسم ِمن األََّي ِام و ِ‬
‫الق ـ ـ ـ َـدم‬ ‫الرْب ِع َم ْن َس ْلمى بِ ِذي َسلَِم‬
‫َسلِّ ْم َعلَى َّ‬
‫َ‬ ‫َ َ ٌْ َ‬

‫والقصيدة الصوفية في غالب تجلياتها األسلوبية‪ ،‬معمار أقيم صرحه من لبنات بديعية‪،‬‬
‫فالطباق والمقابلة والتورية‪ ،‬وكذلك الجناس والسجع وما تؤديه هذه الفنون من دالالت متباينة‬
‫من تجاذب‪ ،‬وتقارب أو تباعد وتنافر‪ ،‬ومعنى ظاهر وآخر باطن‪ ،‬ومن تماثالت وتداخالت‬
‫لفظية‪ ،‬وتقاطعات صوتية وغير ذلك‪ ،‬وسائل مناسبة للقناعات الصوفية‪ .‬فالجناس خصوصا‬
‫التام منه هو التماهي والكينونة الواحدة‪ ،‬يقول ابن الفارض‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سائِ َ‬


‫ط ِوي األ َْر َ‬
‫‪6‬‬
‫ـي‬ ‫ظ َع ِ‬
‫ُم ْنع ًما َعِّرْج َعلَى ُكثَْبان طَ ْ‬ ‫ض طَ ْي‬ ‫ان َي ْ‬ ‫ق األَ ْ‬

‫‪ 1‬أبو العباس عبد اهلل بن املعتز‪ :‬البديع‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2.‬ص‪.77 .‬‬
‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬أبو متام‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.76 .‬‬
‫‪ 4‬السيد حممد ديب‪ :‬الغموض يف شعر أيب متام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.16.‬‬
‫‪ 5‬أبو متام‪ ،‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2 .‬ص‪.677.‬‬
‫‪ 6‬ابن الفارض‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2 .‬ن ‪2002‬م‪ ،‬ص‪.699 .‬‬

‫‪263‬‬
‫وللمتضادات من طباق ومقابلة دالالتها الواضحة في الكشف عن المفارقات في‬
‫المجتمع العباسي‪ ،‬وفي نفوس شعراء أوتوا من شفافية النفس وحساسية الشعرية‪ ،‬ما جعلهم‬
‫أكثر قدرة على التعبير عن تلك‬
‫عرضة لداء العصر واالغتراب‪ ،‬وم ّكنهم أن يكونوا َ‬
‫المفارقات‪ ،‬وقياس المسافات الهائلة بينها‪ ،‬فليس اعتباطا " أن يتأصل المذهب البديعي على‬
‫أصل لهذا المذهب – ينشد‬
‫يد أبي تمام في القرن الثالث الهجري‪ ،‬ولم يكن أبو تمام – حين ّ‬
‫يعبر عن قلق واغتراب ‪.1" ...‬‬
‫زينة أو حلية‪ ،‬ولكنه كان ّ‬

‫عبروا بوفاء وأمانة عن مأساة الشاعر المسحوق تحت ضغط‬ ‫من أولئك الشعراء الذين ّ‬
‫المفارقات والتناقضات في ذلك العصر‪ ،‬المتنبي القائل في نبرة يملؤها الشك واليأس الوجودي‬
‫مر ‪:‬‬
‫المفضي إلى وضع اإلنسان أمام الخيارين الل َذين أحالهما ّ‬
‫‪2‬‬
‫َمانِيـَا‬
‫َن َي ُك َّن أ َ‬
‫ـايا أ ْ‬
‫المَن َ‬
‫ب َ‬ ‫َو َح ْس ُ‬ ‫ت َش ِافَيا‬
‫الم ْو َ‬
‫َن تََرى َ‬
‫اء أ ْ‬ ‫َكفَى بِ َ‬
‫ك َد ً‬

‫ذكر اآلخر في قوانين تداعي‬


‫ذكر أحدهما َ‬
‫الداء‪ ،‬لذلك يستتبع ُ‬
‫فليس ال ّشفاء إالّ نقيض ّ‬
‫أن المنية هي نقيضة األمنية وهادمتها‪ ،‬لكن هل هي‬
‫النفس‪ .‬كما ّ‬
‫األفكار وتالحقها في ّ‬
‫للضدية المبنية على‬
‫ّ‬ ‫إن التجانس بين اللّفظين يقف عائقا ومقابال‬
‫نقيضتها في العمق حقا؟‪ّ ،‬‬
‫المفهوم أو المعنى‪ ،‬فالجمع بين (األمنية والمنية) ليس كالجمع بين ( الموت واألمنية)‪،‬‬
‫الدال فقط‪ ،‬بل على مستوى المدلول‬
‫الثنائية األولى توحي بنوع من القربى ليست على مستوى ّ‬
‫المقرر في المعجم اللّغوي‪ ،‬لقد غادر‬
‫ّ‬ ‫يعد يرى ذلك الفرق المفهومي‬
‫نفسه‪ ،‬الشاعر هنا لم ُ‬
‫الدولة في حلب مكرها‪ ،‬وانتقل إلى مصر حيث كافور اإلخشيدي‬ ‫سيف ّ‬
‫َ‬ ‫وولي نعمته‬
‫ّ‬ ‫محبوبه‬
‫وصارت حلب عنده هي األمنية ومصر هي المنايا‪.‬‬

‫حضور يج ّر المدلول الغائب المتمثّل في‬


‫ٌ‬ ‫الدال‪،‬‬
‫ثنائية (المنايا واألماني) التي تمثّل ّ‬
‫الضدية في الغائب بعد‬
‫ّ‬ ‫الدولة)‪ ،‬لكن‬
‫(مصر وحلب)‪ ،‬وهذه تستدعي ثنائية (كافور وسيف ّ‬
‫الصوتية‪ ،‬لتكون دليال‬
‫تماديها وتواصلها أوهت الخيط بين طرفي الثّنائي الحاضر في البنية ّ‬
‫على اقترابهما في إحساس ال ّشاعر اليائس والمفارق الذي صار يرى المنايا أماني‪.‬‬

‫‪ 1‬فوزي حممد أمني‪ :‬البديع ودوائر االغرتاب يف أدب مصر اإلسالمية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.272 .‬‬
‫‪ 2‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،7 .‬ص‪.216 .‬‬

‫‪264‬‬
‫أن "‪ ،‬في" أن‬
‫وكما نالحظ الحضور في المرّكبين الفعليين المسبوقين بحرف المصدر " ْ‬
‫الصريح " الرؤية "‪ ،‬و"الكون‪ .‬فقد‬ ‫ترى" و"أن َّ‬
‫يكن" نالحظ من ورائهما الغائب‪ ،‬وهو المصدر ّ‬
‫تجافى ال ّشاعر عن الوحدة االسمية فيهما إلى المرّكب المصدري من حرف المصدر والفعل‬
‫المتضمن‬
‫ّ‬ ‫المفيد للحدوث واالنقطاع‪ ،‬وهو ما يناسب االضطراب والقلق‪ ،‬على خالف االسم‬
‫لالستقرار والثبات‪.‬‬

‫مجرد حشو‪ ،‬إذ في‬


‫الضمير ( الكاف) المفعول به " بك " ليست ّ‬ ‫وزيادة حرف الباء قبل ّ‬
‫أماني"‪ ،‬على‬
‫الوسع اتخاذها المقاب َل لحذف الياء الثانية من " أمانيا " إذ األصل فيها التّشديد " ّ‬
‫ُ‬
‫األول زيادة والثاني نقصان‪ ،‬تغيير‬
‫أمنية "‪ .‬ثنائية تقابلية أخرى طرفها ّ‬
‫أن المفرد " ّ‬
‫اعتبار ّ‬
‫وتغيره عنه‪ ،‬وانتقاله إلى كافور الذي‬
‫وتضاد في اللغة يستحضران حاله بعد جفاء الممدوح ّ‬
‫الدولة ولحلب‪.‬‬
‫رأى فيه وفي مصر كل ما هو مغاير‪ ،‬وما هو مضاد لسيف ّ‬

‫ركون‬
‫ُ‬ ‫وال يمتنع مع هذا الشعور الحاد بالتناقضات‪ ،‬واللغة الصاخبة التي يفرضها‬
‫ِ‬
‫ثنائية الطباق األم‪ ،‬وفي ما يترتب‬ ‫المتنبي إلى سعة الحكمة ونزعة التأمل في الحياة والموت‬
‫عليها من ثنائيات أخرى مناسبة لها‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫جهالً َوال َكفُّهَا ِح ْل َما‬
‫ط ُشهَا ْ‬
‫فَ َما َب ْ‬ ‫اث َح ْم ًدا وال َذ َّما‬ ‫أال ال أ ُِري ْ‬
‫األح َد َ‬

‫ألمه‪ ،‬فاجعة وقعت من قلبه بمكان لم يحدث أن انتهى إليه‬


‫جدة ال ّشاعر ّ‬
‫لقد كان لموت ّ‬
‫الصادق لفقد هذه‬
‫ممن رثاهم‪ .‬لذلك لم َي ُخنه في هذه القصيدة اإلحساس ّ‬
‫شعوره بموت أحد ّ‬
‫السرور على قلبها وهي تُ ّقبل كتابه إليها‪ ،‬فال بِ ْدع‬
‫حبها له أن ماتت لغلبة ّ‬
‫الجدة التي بلغ من ّ‬‫ّ‬
‫أن ُي ْكبِ َر حفيدها هول الكارثة‪ ،‬ويتعمق عنده األلم وال ّشعور بالغربة في هذه الحياة‪ ،‬وذلك ما‬
‫ينطق به هذا المطلع و ك ّل بيت الحق من أبيات هذه المر َثية‪.‬‬

‫عبرت عنه أداة االستفتاح والتّنبيه "أال "‪،‬‬


‫إن هول الفاجعة يحتاج إلى لفت انتباه ّ‬
‫ّ‬
‫تحملها‪ ،‬وليس‬
‫المتنبي نفسه يحتاج إلى أن ينتبه من غمرات المصيبة والى ما يعينه على ّ‬
‫التمنع على المصائب‬
‫الرفض‪ّ ،‬‬
‫التمنع و ّ‬
‫مرات في البيت إالّ دليال على ّ‬
‫تكرار ال النافية ثالث ّ‬

‫‪ 1‬املتنيب‪ :‬الديوان‪ ،‬بشرح العكربي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،7 .‬ص‪ .602 .‬ويف رواية‪ " :‬مدحا بدل‪ :‬محدا"‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫النفس الجامحة والطّامحة التي يحملها المت ّنبي بين‬
‫الزمن‪ ،‬ورفض ك ّل ما ال يستجيب لتلك ّ‬
‫وّ‬
‫متمي از في شعره‪ ،‬كما في هذه القصيدة التي وردت في‬ ‫ّ‬ ‫جنبيه‪ ،‬لذلك كان حضور "ال"‬
‫مطلعها‪ ،‬وفي أثنائها كقوله‪:‬‬

‫ال قَابِالً ِإالَّ ِل َخـالِ ِق ِـه ُح ْكـَما‬


‫َو َ‬ ‫ب الَ ُم ْستَ ْع ِظ ًما َغ ْي َر َن ْف ِس ِه‬
‫تَ َغ َّر َ‬

‫وفي ختامها‪:‬‬

‫ص ِحَبتْنِي ُم ْه َجةٌ تَ ْقَب ُل الظُّْل َما‬


‫َوالَ َ‬ ‫عزني‬ ‫ت بِي َس َ‬
‫اعةٌ ال تُ ِّ‬ ‫فَالَ َعَب َر ْ‬

‫وشدة وقعها‪ ،‬ينطق المطلع بال مباالة ال ّشاعر باألحداث – ظاهريا‬


‫ومع عظم المصيبة ّ‬
‫على األق ّل ‪ -‬وذلك ما يشير إليه الطباق في صدر البيت " ‪...‬حمدا وال ذما " والمقابلة في‬
‫إن قسوة الحوادث ليست عن بطش منها تستوجب‬ ‫عجزه‪ " :‬فما بطشها جهال وال كفّها حلما "‪ّ .‬‬
‫أما‬
‫صرفه كيـف يشاء‪ّ ،‬‬ ‫به ذما‪ ،‬وِلينها ليس عن ِحلم تست ّ‬
‫ـحق به حمدا‪ ،‬بل ذلك كلّه بيد اهلل ُي ّ‬
‫تتضمنها بحيادية وسلبية‪ .‬وما دامت‬
‫ّ‬ ‫الحـوادث فما هي إالّ ظرف أو وعاء لتلك التصاريف‬
‫كذلك فما أجدر اإلنسان أن يقابلها بالالّمباالة واالستخفاف‪.‬‬

‫المعبرة عن‬
‫ّ‬ ‫وهذا اللون من البديع أداة طيعة بين يدي المتنبي‪ ،‬يش ّكل منها لغته‬
‫مأساته‪ ،‬التي ال تكمن في المصائب التي نزلت به‪ ،‬وال قصور يده عن بلوغ مطامحه الجبارة‬
‫يب من البيت السابق ودالالت المطابقة والمقابلة‬
‫فقط‪ ،‬وانما في شدة إحساسه بالمأساة‪ .‬وقر ٌ‬
‫فيه قوله‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫اب‬ ‫فََي ْخفَى بِتَْبـيِ ِ‬
‫يض القُ ُـر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُمًنى ُك َّن لِي َّ‬
‫ون َشَب ُ‬ ‫اب‬
‫ض ُ‬‫اض خ َ‬
‫البَي َ‬
‫أن َ‬

‫أن لهما‬
‫األهم من هذا ّ‬
‫المتنبي‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫للنظر في شعر‬ ‫للسواد والبياض‪ ،‬حضو ار الفتا ّ‬‫إن ّ‬
‫خاصة عنده تتجاوز اإلشارة التقليدية إلى ال ّشباب والمشيب‪ ،‬فهو دليل التّناقض الذي‬
‫ّ‬ ‫داللة‬
‫المتنبي‪ :‬التّناقض بين ال ّشجاعة والجبن‪ ،‬والكرم‬
‫ّ‬ ‫تُحيل إليه الحياة التي طالما تظلّم منها‬
‫والبخل‪ ،‬والعرب والعجم‪ ،‬وغير ذلك من األشياء والقيم المتصارعة‪ .‬ولكن أيضا بين "سيف‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.611 .‬‬

‫‪266‬‬
‫السواد والبياض حتّى في‬
‫الدولة‪ ،‬وكافور اإلخشيدي"‪ .‬وهذا التّناقض هو العالقة القائمة بين ّ‬
‫ّ‬
‫الدولة األبيض‪،‬‬
‫الممدوحين‪ ،‬سواد شعره في شبابه كان في فترة لقائه بسيف ّ‬
‫َ‬ ‫توزيعهما على‬
‫للنقيض دائما‪.‬‬
‫النقيض المصاحب ّ‬
‫وبياض شيبه بعد ذلك كان مع كافور األسود‪ ،‬إ ًذا هو ّ‬

‫وطرف المطابقة الثاني الذي هو السواد‪ ،‬يمكن استخالصه من لفظ " الشباب " الذي‬
‫هو مالزمه عادة‪ ،‬وهو اإلجراء البديعي الذي يطلق عليه البديعيون " الملحق بالطباق" كما‬
‫أشار إلى ذلك ابن حجة " وهو راجع إلى الضدين‪ ،‬ومثله قوله تعالى‪ِ ﴿:‬م َّما َخ ِطيئاتِ ِه ُم أ ْ‬
‫ُغ ِرقُوا‬
‫فَأ ُْد ِخلُوا َن ًارا﴾ [نوح‪ ،‬اآلية‪ ،]52‬فالمطابقة بين الغرق ودخول النار‪ ،‬فإن من دخل النار احترق‬
‫واالحتراق ضد الغرق ‪.1" ...‬‬

‫ّ‬ ‫ط ِعَي ْة و‬
‫االنتحائية‪ ،‬والتطرف في اختيار االنتماء‪ ،‬فال‬ ‫السواد أيضا هي القَ ْ‬
‫ثنائية البياض و ّ‬
‫بالنسبة إلى الحياة أو الموت‪:‬‬
‫مجال – في عقيدة ال ّشاعر ‪ -‬للرمادية الواقفة في الوسط‪ ،‬حتّى ّ‬
‫‪2‬‬
‫الب ُـن ِ‬
‫ود‬ ‫ق ُ‬ ‫ط ْع ِن القََنا و َخ ْفـ ِ‬
‫َ‬ ‫َب ْي َن َ‬ ‫ت َك ِر ٌ‬
‫يم‬ ‫ت َوأ َْن َ‬ ‫ِع ْش َع ِز ًا‬
‫يز أ َْو ُم ْ‬

‫بعزة وا ّما الموت بكرامة فال منزلة وسطى بينهما‪ ،‬إضافة إلى هذا يشير‬
‫إما العيش ّ‬
‫ّ‬
‫المتنبي شيئا مثل بغضه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الزيف‪ ،‬الذي لم يبغض‬
‫البياض إلى الوضوح والظّهور والبعد عن ّ‬
‫صبغه وتغييره‪:‬‬ ‫فلقد َّ‬
‫أحب بياض شعره وكره َ‬
‫‪3‬‬
‫ت َع ْن َش َع ٍر ِفي الو ْج ِه م ْك ُذ ِ‬
‫وب‪.‬‬ ‫َرِغ ْب ُ‬ ‫ادتِ ِه‬
‫ق ِفي قَ ْولِي َو َع َ‬ ‫و ِم ْن َه َوى الص ْ‬
‫ِّد ِ‬
‫َ َ‬
‫وظهور أحد الطرفين وخفاء اآلخر في هذا النوع من الطباق‪ ،‬يجاوره الخفاء والتجلّي‪،‬‬
‫فتمني ال ّشاعر لبياض ال ّشيب كان‬
‫المحكي في الحاضر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫التمني الماضي‬
‫ولكن على سبيل ّ‬
‫في الماضي يوم كان شابا قبل حلول المشيب به‪ ،‬وهذا ما يشير إليه لفظ الفعل الناقص َّ‬
‫كن‪،‬‬
‫التمني الماضي يكون بياض ال ّشعر هو الغائب المستخفي‪ ،‬ومع غيابه فإنه‬
‫ّ‬ ‫وعلى أساس‬
‫هو المتجلّي‪ ،‬إذ هو البياض قرين الوضوح والجالء‪ ،‬وسواد ال ّشباب – وهو الحاضر وقت‬

‫‪ 1‬ابن حجة احلموي‪ :‬خزانة األدب وغاية األرب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص‪.610 – 629.‬‬
‫‪2‬‬
‫المتنبي‪ ،‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪.151 .‬‬
‫‪3‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص‪ .171 .‬وفي رواية " في الرأس مكذوب"‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫صرح بذلك‬ ‫المتنبي ال ّشباب ّ ِ‬ ‫األمنية‪ -‬عنوان الخفاء‪ .‬فهل ِ‬
‫ألنه مظّنة الجهل والسَّفاهة كما ّ‬ ‫ّ‬ ‫كره‬
‫بناء على ذلك المشيب لكونه عالمة الوقار والحكمة؟‬
‫أحب ً‬ ‫في أبيات وقصائد أخرى‪ ،‬و ّ‬
‫المتنبي نفسه استدرك على هذا التّفسير بقوله‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫الش ِ‬
‫ان و ِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الح َداثَةُ َع ْن ِح ْل ٍـم بِ َمانِ َع ٍة‬
‫يب‬ ‫وج ُد الح ْل ُم في ال ُشَّب ِ َ‬
‫قَ ْد ُي َ‬ ‫َو َما َ‬

‫المبرر الوحيد لتفضيل‬


‫ّ‬ ‫بالضرورة‪ ،‬فليس ذلك هو‬
‫ّ‬ ‫للسفاهة‬
‫إ ًذا ال ّشبيبة ليست مالزمة ّ‬
‫الدولة‪ ،‬ورجوع‬
‫المشيب على ال ّشباب‪ .‬لعل السبب رجوع البياض المرتبط بالوضوح إلى سيف ّ‬
‫بالزيف إلى كافور‪.‬‬
‫السواد المرتبط ّ‬
‫ّ‬

‫وتلك الخصوصية في هذا النوع من الطباق‪ ،‬تصاحبها خصوصية في التجنيس‪ ،‬وهو‬


‫تجنيس المطلق أو المشتق في "بياض‪ ،‬وتبييض"‪ ،‬على عزوف من البديعيين عن عده ضربا‬ ‫ُ‬
‫من الفن يستحق أن ُيسلك مع ألوان التجنيس‪ ،‬وهو ما صرح به ابن حجة بقوله ‪ ":‬وسماه قوم‬
‫تجنيس المشابهة كالسكاكي وغيره‪ ،‬فهو ما اختلف في الحروف والحركات‪ ،‬فاشتبه بالمشتق‬
‫الراجع معناه إلى أصل واحد‪ ،‬وليس ذلك من أصناف التجنيس ‪.2" ...‬‬

‫ويوضحه صالح الدين الصفدي فيقول مضفيا عليه تسميات أخرى ‪ ... ":‬واما أن‬
‫يكون الجناس قد جمع ركنيه أص ٌل واحد في اللغة‪ ،‬ثم اختلفا في حركاتهما وسكناتهما‪ ،‬وهذا‬
‫هو (الجناس المقارب)‪ ،‬ومنهم من يسميه (جناس االشتقاق) ومنهم من يسميه (جناس‬
‫االقتضاب) ‪.3" ...‬‬

‫واذا لم يكن لهذا التجنيس كبير قيمة عند البديعيين‪ ،‬فإن له فائدة في تكرار طرف‬
‫المطابقة األول‪ :‬البياض إمعانا في االحتفاء به‪ ،‬في مقابل إضمار الطرف الثاني‪ :‬السواد‬
‫إمعانا في احتقاره‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 2‬صفي الدين احللي‪ :‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.16.‬‬
‫‪ 3‬صالح الدين الصفدي‪ :‬جنان اجلناس‪ ،‬حتقيق مسري حسني حليب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،6917.‬ص‪.72.‬‬

‫‪268‬‬
‫وقد تحمل هذه الضدية في المطابقات والمقابالت إضافة إلى المفارقة‪ ،‬روح التحدي‬
‫واظهار التمرد‪ ،‬والمجاهرة بالرأي المخالف‪ .‬ولن يكون شاعر عباسي أظهر عبارة عن هذا‬
‫إعالن حرب صريحا على قيم المجتمع‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫البادئ بمطالع ليست في النهاية إال‬ ‫من أبي نواس‬
‫ودعوة إلى المبارزة‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫الج ْه ُر‬ ‫ِِ ِ‬ ‫اس ِقنِي َخ ْم ًار َوُق ْل لي‪ِ :‬ه َي َ‬
‫َوال تَ ْسقني س ًّار َمتَى أ َْم َك َن َ‬ ‫الخ ْم ُر‬ ‫أَال فَ ْ‬
‫ٍّ‬
‫تحد سافر لمجتمع مسلم يشدد النكير على معاقري الخمر‪َ ،‬ب ْلهَ المجاهرين بتعاطيها‪.‬‬
‫ولكنه أبو نواس إمام الداعين إلى حزبها واجاللها‪ ،‬واحاللها محل الطلل والحبيبة‪ .‬فالخمر‬
‫مر‬
‫اسه جميعا‪ .‬يحكى أن أبا نواس ّ‬ ‫بالنسبة إليه عالم أو كون يجب أن يمأل عليه فكره وحو ّ‬
‫يوما على مكتب فسمع صبيا يقول لمعلمه‪ :‬يا سيدي أتدري ما أراد أبو نواس بقوله‪ :‬أال‬
‫فاسقني خم ار وقل لي هي الخمر‪ .‬وما الفائدة في ذلك ؟‪ .‬فقال له‪ :‬ال‪ ،‬فقال الصغير‪ :‬أراد أن‬
‫تكمل له لذة الحواس الخمس فإنه إذا شربها حصلت له حاسة البصر‪ ،‬واللمس‪ ،‬والشم‪،‬‬
‫والذوق‪ ،‬وذلك مستفاد من قوله‪ :‬أال فاسقني خم ار وتعطلت حاسة السمع‪ ،‬فلما قال‪ :‬وقل لي‪:‬‬
‫شنف سمعه بوصفها فكملت له الحواس الخمس‪ .‬فقال أبو نواس للصبي‪ :‬واهلل‬ ‫هي الخمر‪ّ ،‬‬
‫لقد أفهمتني من شعري ما لم أقصده "‪.2‬‬

‫ويميل أبو نواس أحيانا إلى اصطناع الهدوء الماكر‪ ،‬فيجلس ِجلسة المجادل الرصين‬
‫ضمن مطابقاته ومقابالته شحنة من المناظرة والحجاج العقلي‪ ،‬الذي يقلّل‬
‫الواثق بالنصر‪ .‬ف ُي ّ‬
‫من جفافه شيء غير قليل من الظرف والتلطف‪ ،‬ويصوغ عبارته تلك في لغة الحكماء‬
‫الناصحين‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫اء‬ ‫ت ِهي َّ‬
‫الد ُ‬
‫ِِ ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫ك لَ ْو ِمي فَِإ َّن الل ْوَم إِ ْغ َر ُ‬
‫َوَداوني بالتي َك َان ْ َ‬ ‫اء‬ ‫ع َع ْن َ‬
‫َد ْ‬

‫والزهديات مجال صالح للطباق والمقابلة‪ ،‬فليست الرغبة عن الدنيا إال الرغبة في‬
‫نقيضتها اآلخرة‪ ،‬وليس التحذير من االغترار بالحياة إال الدعوة إلى التفكر في الموت‪ ،‬وما‬

‫‪ 1‬أبو نواس‪ :‬الديوان‪ ،‬حتقيق‪ :‬أمحد عبد اجمليد الغزايل‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2002 ،6.‬م‪ ،‬ص‪.77 .‬‬
‫الوراق‪ ،‬لندن‪ ،‬ط‪ ،2001 ،6.‬ص‪.267-261.‬‬ ‫‪ 2‬حممد النواجي‪ :‬حلبة الكميت‪ ،‬دار ّ‬
‫‪ 3‬أبو نواس‪ :‬الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.21 .‬‬

‫‪269‬‬
‫التنفير من الشر إال التحبيب في الخير‪ .‬والنفس اإلنسانية ذاتها عالم من األقطاب المتنافرة‬
‫واألهواء المتقابلة‪ ،‬تتجاذب اإلنسان فيميل حينا هنا وحينا هناك‪ ،‬يقول أبو العتاهية‪:‬‬

‫داء‪.1‬‬ ‫األح ِ‬ ‫الخير و َّ‬


‫َع ُ‬‫باب أ ْ‬ ‫من ْ‬
‫يكون َ‬
‫وقد ُ‬ ‫اء‬
‫عادات وأهو ُ‬
‫ٌ‬ ‫الش ُر‬ ‫َُ‬
‫يبتدئ البيت بطباق " الخير‪ ،‬الشر"‪ ،‬وينتهي بمثله‪ " :‬األحباب‪ ،‬أعداء "‪ ،‬وأكثر أبيات‬
‫القصيدة ال تخلو منه ففي الرابع‪ " :‬داء‪ ،‬دواء" ‪ ،‬و في الخامس‪ ":‬يقضي‪ ،‬ال ُيقضى عليه"‪،‬‬
‫وفي السادس‪ " :‬تفنى‪ ،‬تبقى "‪ ،‬وفي الحادي عشر‪ ":‬النور‪ ،‬ظلماء "‪ ،‬وفي الثالث عشر‪:‬‬
‫"إدناء‪ ،‬إقصاء"‪ ،‬وفي البيت األخير ثنائية من الطباق كما كان المطلع‪ ،‬وان كان األول هذه‬
‫المرة في آخر الصدر‪:‬‬

‫ـاء‬ ‫وللزمان به ٌّ‬


‫ِ‬ ‫ٌّ‬
‫كل ُين ّقل في ضي ٍ‬
‫شد وارخـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ق وفي َسعة‬

‫اإلنسانية إ ًذا في مسيرة الحياة تكافح من أجل احتالل الموقع المناسب بين طرفي‬
‫النقيض‪.‬‬

‫ويدخل في هذه الهندسة الموقعية للطباق والمقابلة تناوب أطرافهما على التراتبية فيهما‪،‬‬
‫في تركيب استداري يستقصي أدق تفصيالت المعنى النهائي‪ ،‬ويجمع القضية ونقيضها في‬
‫قضية موحدة جامعة‪ ،‬يقول المتنبي‪:‬‬
‫ِ‪2‬‬
‫َن َك َسانِي ِفي ُّ‬
‫الس ْقِم ُن ْك َس ال ِهالَل‬ ‫الوص ِ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صلَةُ الهَ ْج ِر لي َو َه ْج ُر ِ َ‬

‫ضدية‪ ،‬ما يحمله من تبادل‬


‫تتضمنه هذه المقابلة في البيت من ّ‬
‫ّ‬ ‫فإضافة إلى ما‬
‫موضعي بين جزئي تلك المقابلة " صلة الهجر "‪ ،) 5 ،1( :‬و" هجر الوصال "‪.) 1 ،5( :‬‬
‫نكوص ورجوع إلى البداية‪ ،‬كما أن رجوع القمر هالال هو رجوع إلى حالته األولى بعد تمام‬
‫إبداره‪.‬‬

‫‪ 1‬أبو العتاهية‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪2007 ،‬م ‪ ،‬ص‪.69 .‬‬
‫‪2‬‬
‫الديوان‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ج‪ ،1.‬ص‪.191 .‬‬

‫‪270‬‬
‫ووجهت‬
‫تأملهم في الحياة والموت‪ّ ،‬‬
‫هذه العقيدة كثي ار ما سيطرت على ال ّشعراء عند ّ‬
‫المتنبي نفسه في قصيدة أخرى‪:‬‬
‫ّ‬ ‫نظرتهم إلى مصير اإلنسان بينهما‪ ،‬كما يقول‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إِلَى م ْث ِل َما َك َ‬
‫ان الفَتَى َم ْر ِجعُ الفَتَى‬
‫‪1‬‬
‫وي ْك ِري َك َما أ َْرَمى‪.‬‬
‫ود َك َما أُْبدي ُ‬
‫َي ُع ُ‬

‫المتنبي األثير عنده فيرى المتناقضات‬


‫ّ‬ ‫معري يحذو حذو‬
‫الرجوعية " جعلت ال ّ‬
‫إن هذه " ّ‬
‫ّ‬
‫متشابهات‪:‬‬

‫ير ِفي ُك ِّل َن ِاد‬


‫الب ِش ِ‬ ‫الن ِع ِّي إِ َذا ِق ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس بِ ِ‬
‫ص ْوت َ‬
‫َ َ‬ ‫ت َّ‬ ‫َو َشبِيهٌ َ‬
‫ص ْو ُ‬

‫مرة‬
‫الرجوع إلى الحالة األولى‪ ،‬فالنكس ما هو إالّ العودة ّ‬
‫وعجز البيت أيضا مبني على ّ‬
‫أخرى إلى المرض‪ ،‬والهالل هو مآل البدر في آخر ال ّشهر كما كان هو األصل في ّأوله‪.‬‬

‫إن النماذج السابقة تؤكد ما سبق من ضرورة إعمال الفكر مرة أخرى في البديع‪،‬‬
‫وقيمته الفنية‪ ،‬والنصية‪ ،‬والبحث في ما يسبقه من دوافع‪ ،‬وما يصحبه من أثر في الخطاب‬
‫والنص‪ ،‬وما يعكسه من توجه فكري وفني‪ ،‬ويتضمنه من دالالت تاريخية وحضارية‪ .‬فال‬
‫يكفي أبدا االكتفاء بمقولة التكلف والتصنع‪ ،‬بل العكس إن من صميم طبيعة الفن الشعري أن‬
‫يعمل الشاعر " ‪ ...‬على تجاوز األطر الصياغية المألوفة حتى ال ينزل بخطابه إلى مستوى‬
‫التعامل الحياتي للغة‪ ،‬وهنا تأتي الحاجة إلى اقتناص كل مظاهر الثراء في اللغة‪ ،‬واصطياد‬
‫ما ِ‬
‫تحمله من تنوع لتحقيق الهدف الجمالي "‪.2‬‬

‫وبدهي أن يالحظ – بناء على هذا – أن البنى البديعية هي أكثر البنى قدرة على‬
‫َ‬
‫التكفل بتحقيق هذا الثراء‪ ،‬بل هي أول وسيلة تتاح للمبدع وهو يسعى إلى ذلك‪ ،‬بشرط أن‬
‫تكون صادرة عن وحي من قريحته‪ ،‬واصالة من عبقريته‪ ،‬ومهارة في الصياغة الفنية‪ .‬يقول‬
‫مبينا في الوقت نفسه سبيل التخلص من التكلف المكشوف‪،‬‬
‫الدكتور محمد عبد المطلب ‪ّ -‬‬
‫وآلية التعامل معها في سبيل ذلك ‪ ": -‬وأعتقد أن األشكال البديعية هي أكثر الظواهر‬

‫‪1‬‬
‫السابق‪ ،‬ج‪ ،4.‬ص‪.115 .‬‬
‫‪ 2‬حممد عبد املطلب‪ :‬البالغة العربية قراءة أخرى‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬بريوت‪-‬الشركة املصرية العاملية اانشر‪ ،‬لوجنمان‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪،6979 ،6.‬‬
‫ص‪67.‬‬

‫‪271‬‬
‫اللغوية التي يمكن أن تقدم للمبدع هذا الثراء والتنوع‪ ،‬على أن ُيؤخذ في االعتبار – دائما –‬
‫االبتعاد عن التكلف واالعتساف‪ ،‬على معنى أن تكون األشكال البديعية دعما للقدرة‬
‫مكونا أساسيا في البناء الشكلي والمضمون ‪.1" ...‬‬
‫اإلبداعية‪ ،‬وأن يتم التعامل معها لتكون ّ‬
‫اغه في بوتقة واحدة‪ ،‬واعطاء األسلوب‬
‫إن آلية كهذه من شأنها توحيد العمل الفني وافر ُ‬
‫هوية ترتفع به عما علق في األذهان من أنه ليس أكثر من لباس خارجي‪ ،‬وقيمة مضافة إلى‬
‫الموضوع‪ .‬فهي" ما يجعل من األسلوب ظاهرة خارجية وداخلية على صعيد واحد‪ ،‬حتى‬
‫يصعب الفصل بين ما هو أساسي في البنية‪ ،‬وما هو إضافي تحسيني‪ ،‬وهو ما يدفع‬
‫باألسلوب إلى منطقة األدبية الحقيقية "‪.2‬‬

‫وال مشاحة في ضرورة تجنب الحالة التي يتشبع فيها النص باأللوان البديعية‪ ،‬إلى‬
‫الدرجة التي تُستهلك معها قيمتها الجمالية فتعجز عن أداء وظيفتها الشعرية في النص‪ .‬على‬
‫أن ذلك متروك للحاسة الفنية عند الشاعر والمتلقي كليهما‪ ،‬وليس لها مقياس نهائي‪ ،‬وال‬
‫ِحسبة رياضية يجب التقيد بها‪ ،‬كما ذهب إلى ذلك اآلمدي وهو يتتبع تجنيسا ألبي تمام بقوله‬
‫‪ ... ":‬وهذا ابتداء ليس بالجيد‪ ،‬ألنه جاء بالتجنيس في ثالثة ألفاظ‪ ،‬وانما يحسن إذا كان‬
‫بلفظتين‪ ،‬وقد جاء مثله في أشعار الناس‪ ،‬والرديء ال ُيؤتم به ‪.3" ...‬‬

‫‪ 1‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬


‫‪ 2‬السابق‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬اآلمدي‪ :‬املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،6.‬ص‪.441 .‬‬

‫‪272‬‬
‫خــــــــــــــاتـــــمـــــــة‬
‫أن تطور الشعر في العصر العباسي‪ ،‬لم يسع‬ ‫قد ال يكون من التجني أن يزعم زاعم ّ‬
‫حادا تطورت فيه الحياة الثقافية والحضارية‬
‫صدره كل مستجدات العصر‪ ،‬الذي كان منعطفا ّ‬
‫والفكرية تطو ار هائال لم يلحق به الشعر‪ .‬وربما كان من األدلة على هذا مطالبة النقد آنذاك‬
‫للشعراء بأمور ل م يجدها في الشعر‪ ،‬فثار الشعراء على النقاد واتهموهم باالفتئات والجهل‬
‫بطبيعة الشعر‪.‬‬

‫تتصل تلك األمور بمستجدات فكرية وثقافية بحثت عن لسان لها في فنون وعلوم أخرى‬
‫غير الشعر‪ ،‬ويصدق هذا على الشعر في فنونه الكبرى‪ ،‬وفي بنية القصيدة العربية التي هي‬
‫التجلي المادي للفن الشعري‪ .‬فالشعر بقي على غنائيته غير ملتفت إلى ما عرفته شعوب‬
‫أخرى من شعر مسرحي وملحمي وغير ذلك‪ ،‬مع أنه ُكتب للعرب حظ من معرفة بعض وجوه‬
‫الثقافة عند تلك الشعوب‪ ،‬أثّرت تأثي ار واضحا في الفلسفة والعلوم التي برع فيها العرب‬
‫والمسلمون‪.‬‬

‫وقد كان لضعف ذلك التأثير في الشعر‪ ،‬أسباب ثقافية ومحاذير دينية أُشبعت بحثا‬
‫مظانها‪ ،‬فضال على شراسة الموروث واستماتته في الدفاع عن نفسه في كل‬ ‫ّ‬ ‫وتفصيال في‬
‫ثقافات العالم‪ .‬والمقصود هنا استمرار النمط الغنائي في الشعر العربي‪ ،‬واطراد بنية القصيدة‬
‫العربية التقليدية على ما كانت عليه في العصور السابقة‪ ،‬بصرف النظر عن تطرق أفكار‬
‫ومعان جديدة إليها‪ ،‬فرضها واقع الحياة المتحضرة‪ ،‬والتثاقف مع اآلخر‪ ،‬غير أن تلك األفكار‬
‫والمعاني المستحدثة ظلت تُعرض في القالب الموروث‪ ،‬منتظرة آفاقا أوسع‪ ،‬وبيئات أخرى‬
‫امتد فيها المجتمع العربي في عصور متأخرة‪.‬‬
‫كان منها البيئة األندلسية‪ ،‬وبيئات أخرى ّ‬

‫ومع هذا‪ ،‬فيجب اإلقرار بأن الشاعر العباسي‪ ،‬سلط عبقريته على الصلصال القديم‪،‬‬
‫واستطاع أن ُيخرج منه أشكاال بديعة‪ ،‬في محاولة منه إلبراز الذات ومقارعة األنموذج السابق‬
‫والتغلب عليه في فنه‪ .‬فتناول القصيدة الموروثة محاوال إظهار تفوقه في صياغتها وقدرة‬
‫تصرفه وحيلته في حبك جمالياتها‪ ،‬بدءا بمطلعها الذي هو عتبة الدخول إليها‪ ،‬حتى لم يجد‬
‫كثير من النقاد والبالغيين حرجا في التصريح بتفوق المحدثين على القدماء في ذلك‪ ،‬وكان‬
‫مما ساعد على هذا‪:‬‬

‫‪472‬‬
‫كرس براعة‬
‫‪ .1‬تطور النقد األدبي ونضجه في العصر العباسي‪ ،‬السيما النقد البالغي‪ ،‬الذي ّ‬
‫االستهالل بوصفها من ألزم الفنون البالغية وأحراها بالتقديم‪.‬‬

‫عنصر الوحدة‪ .‬يستوي في ذلك كثير‬


‫َ‬ ‫‪ .4‬تنامي الشعور بأن من عناصر جماليات القصيدة‬
‫من النقاد وجمع من الشعراء أنفسهم‪ ،‬حتى ليتباهي بعضهم بأن ألبيات شعره قرانا ليست‬
‫لغيره‪ ،‬بعيدا عن مدى قوة ذلك الشعور‪ ،‬ومدى انتشاره‪ ،‬أو قدرته على البروز بوصفه‬
‫ظاهرة فنية مكتملة النضوج‪.‬‬
‫‪ .3‬ازدهار فن الغناء الذي يتجه أصحابه عادة إلى التغني بالمطالع والمقدمات وترديدها‪،‬‬
‫وهو ما يحفّز الشعراء ويشحذ قرائحهم لتجويد هذه األجزاء من القصيدة تخصيصا‪.‬‬

‫هذا وان من أوضح ما يمكن أن يخرج به دارس مثل هذه القضايا من القصيدة العربية‬
‫التقليدية ما يأتي‪:‬‬

‫‪ .1‬أن الدرس البالغي والنقد العربي القديم المرتبط به‪ ،‬لم تعزب عنه صغيرة وال كبيرة من‬
‫جماليات المطلع ووظائفه‪ ،‬وما يجب له من شروط تضمن له قيمته الشعرية‪ ،‬فقد تناول‬
‫ذلك كله إما تصريحا وتنظيرا‪ ،‬واما ممارسةً وتطبيقا‪ ،‬في مقوالت نقدية تتمتع بالمرونة‪،‬‬
‫وسعة األفق الكفيلة باستيعاب أطروحات نقدية ومنهجية هي وليدة العصر الحديث‪.‬‬
‫‪ .4‬أن من الشروط الجمالية الشعرية التي استخلصها البالغيون والنقاد القدماء من مطالع‬
‫القصائد‪ ،‬ما يدعو إلى داللة المطلع على موضوع القصيدة األصلي‪ ،‬واذا كانت الوحدة‬
‫الفنية موضوعا أعقد وأعمق من هذه الدالالت واإليحاءات‪ ،‬فإن في ذلك دعوة إلى‬
‫إحداث نوع من التناسب الداللي‪ ،‬واالتساق واالنسجام الموضوعي الذي ينافح بعض‬
‫الدارسين عن كونه وجها من وجوه الوحدة‪ ،‬ومظه ار من مظاهر النصية‪ ،‬جدي ار بالتحفيز‬
‫على إعادة النظر في مسألة الوحدة في القصيدة العربية القديمة‪.‬‬
‫‪ .3‬أن بين دراسة المطلع والعنوان وشائج قوية وظاهرة‪ ،‬بحيث يمكن استغالل ما فتحته‬
‫السميولوجيا من أبواب أمام العنونة‪ ،‬في دراسة مطلع القصيدة العربية التراثية‪.‬‬

‫‪472‬‬
‫وجودوا فيها تجويدا‬
‫‪ .2‬أن الشعراء العباسيين حلّقوا في سماء اإلبداع في مطالع قصائدهم‪ّ ،‬‬
‫بدا من اإلقرار لهم بحيازة قصب السبق‬
‫لم يجد معه أشد النقاد المحافظين تعصبا للقديم ّ‬
‫في ذلك‪ ،‬ومن اتخاذ شعرهم مصد ار لألمثلة والشواهد لبراعة المطلع‪.‬‬
‫يغرب أحيانا في مطالعه تغريبا شديدا‪ ،‬تركيبا وافرادا وموسيقى‪ ،‬فيبدأ‬
‫‪ .2‬أن الشاعر العباسي ّ‬
‫قصائده بمطالع تثير تساؤالت واعتراضات وجيهة‪ ،‬يصعب تبريرها جماليا على أكثر‬
‫مناهج النقد قدرة على التأويل‪ ،‬مدفوعا ربما بروح المغامرة‪ ،‬وحب التجريب‪ ،‬ومحاولة‬
‫فرض الذات ومخالفة اآلخر السابق‪ ،‬وهو الذي يدفع به إلى أقصى حدود التجريب‬
‫وتقليب مكونات البيت وعناصر القول فيه‪.‬‬
‫‪ .2‬أن ذلك الشاعر في تغريبه ذلك يواجه من المعارضة كل نقد الذع‪ ،‬واعتراض ساخر‪،‬‬
‫غير أنه ال يرعوي عادة وال يعلن استسالمه‪ ،‬بل يقف في مواجهة ذلك ِوقفة صاحب‬
‫مبينا‪ ،‬أو مكتفيا أحيانا بإجابات كاريكاتورية‪ ،‬مستخفا‬
‫الموقف‪ ،‬يدافع عن صناعته مبر ار ّ‬
‫الموجه إليه‪ ،‬مقابال السخرية بمثلها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالنقد‬

‫‪472‬‬
‫قــــائمة المصـــــادر والمراجـــــع‬
‫أوال المصادر‬

‫أ‪ .‬المادة النقدية‬

‫اآلمدي (أبو القاسم الحسن بن بشر)‪ :‬الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري‪،‬‬ ‫‪.1‬‬

‫تحقيق‪ :‬أحمد صقر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪8002 ،5.‬م‪.‬‬


‫أبو حيان (علي بن محمد التوحيدي)‪:‬‬ ‫‪.8‬‬

‫‪ -‬اإلمتاع والمؤانسة‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬


‫‪ -‬المقابسات‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد توفيق حسين‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،8.‬‬
‫‪1121‬م‪.‬‬
‫حيان (محمد بن يوسف األندلسي الغرناطي)‪ :‬البحر المحيط في التفسير‪،‬‬
‫أبو ّ‬ ‫‪.3‬‬

‫دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪8005 ،‬م‪.‬‬


‫أبو هالل العسكري (الحسن بن عبد اهلل)‪ :‬كتاب الصناعتين‪ ،‬تحقيق‪ :‬علي‬ ‫‪.4‬‬

‫محمد البجاوي‪ ،‬ومحمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬المطبعة العصرية‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫‪1122‬م‪.‬‬

‫األصفهاني (أبو الفرج علي بن الحسين)‪ :‬كتاب األغاني‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪.5‬‬

‫لبنان‪ ،‬ط‪1123 ،2.‬م‪.‬‬


‫الباقالني (أبو بكر محمد بن الطيب)‪ :‬إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬عماد الدين أحمد‬ ‫‪.2‬‬

‫حيدر‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،4.‬د‪.‬ت‪.‬‬


‫الدين بن محمد)‪ :‬المثل السائر في أدب‬
‫ابن األثير(أبو الفتح نصر اهلل ضياء ّ‬ ‫‪.7‬‬

‫الكاتب والشاعر‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محيي الدين عبد الحميد‪ ،‬المكتبة العصرية‪،‬‬
‫صيدا‪-‬بيروت‪8010 ،‬م‪.‬‬
‫ابن جني(أبو الفتح عثمان بن جني)‪:‬‬ ‫‪.2‬‬

‫‪ -‬الخصائص‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد علي النجار‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‬
‫‪ -‬المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها‪ ،‬تحقيق‪ :‬علي النجدي‬
‫ناصف‪ ،‬وآخرون‪ ،‬المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية‪ ،‬القاهرة‪8004 ،‬م‪.‬‬
‫‪872‬‬
‫ابن حجة الحموي (أبو بكر علي بن عبد اهلل تقي الدين) خزانة األدب وغاية‬ ‫‪.1‬‬

‫األرب‪ ،‬دار ومكتبة الهالل‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1111 ،8.‬م‪.‬‬

‫ولي الدين)‪ :‬المقدمة‪ ،‬دار صادر‪،‬‬


‫‪ .10‬ابن خلدون (أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ّ‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8000 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .11‬ابن رشيق (أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني)‪ :‬العمدة في محاسن الشعر‬
‫وآدابه ونقده‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الحميد هنداوي‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬ط‪8001 ،1.‬م‪.‬‬

‫السراج (محمد بن سهل)‪ :‬األصول في النحو‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عبد الحسين‬


‫‪ .18‬ابن ّ‬
‫الفتلي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1125 ،1.‬م‪.‬‬

‫الجمحي)‪ :‬طبقات فحول الشعراء‪ ،‬تحقيق‪:‬‬


‫‪ .13‬ابن سالّم (أبو عبد اهلل محمد ُ‬
‫محمود محمد شاكر‪ ،‬دار المدني‪ ،‬جدة‪ ،‬السعودية‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪ .14‬ابن سنان الخفاجي (أبو محمد عبد اهلل بن سعيد)‪ :‬سر الفصاحة‪ ،‬تحقيق‪ :‬داود‬
‫عمان‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬
‫غطاشة الشوابكة‪ ،‬دار الفكر‪ّ ،‬‬

‫‪ .15‬ابن شهيد (أبو عامر أحمد بن أبي مروان)‪ :‬رسالة التوابع والزوابع‪ ،‬دار‬
‫المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1123 ،4.‬‬
‫‪ .12‬ابن طباطبا(أبو الحسن محمد بن أحمد العلوي)‪ :‬عيار الشعر‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد‬
‫العزيز بن ناصر المانع‪ ،‬منشورات اتحاد الكتّاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪،‬‬
‫‪8005‬م‪.‬‬

‫‪ .17‬ابن عبد ربه (أبو عمر أحمد بن محمد)‪ :‬العقد الفريد‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪1123 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .12‬ابن عربي ( محمد بن علي محيي الدين )‪ :‬محاضرة األبرار ومسامرة األخيار‪،‬‬
‫دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8005 ،8.‬م‪.‬‬

‫‪871‬‬
‫الصاحبي في فقه اللغة العربية‬
‫ّ‬ ‫‪ .11‬ابن فارس(أبو الحسين أحمد بن زكريا)‪:‬‬
‫ومسائلها وسنن العرب في كالمها‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عمر فاروق الطباع‪ ،‬مكتبة‬
‫المعارف‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1113 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .80‬ابن قتيبة (أبو محمد عبد اهلل بن مسلم)‪ :‬الشعر والشعراء‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد‬
‫شاكر‪ ،‬دار اآلثار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪8010 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .81‬ابن المعتز(أبو العباس عبد اهلل)‪ :‬البديع‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد عبد المنعم خفاجي‪،‬‬
‫دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8007 ،8.‬م‪ .‬ط‪1117 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .88‬ابن منظور (أبو الفضل محمد بن مكرم جمال الدين)‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار‬
‫صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1117 ،2.‬م‪.‬‬
‫‪ .83‬ابن وكيع (أبو محمد الحسن بن علي)‪ :‬المنصف للسارق والمسروق منه‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬عمر خليفة بن إدريس‪ ،‬منشورات جامعة قاريونس‪ ،‬بنغازي‪ ،‬ليبيا‪،‬‬
‫ط‪1114 ،4.‬م‪.‬‬
‫‪ .84‬ابن يعقوب المغربي (أبو العباس أحمد بن محمد)‪ :‬شرح مواهب الفتاح على‬
‫تلخيص المفتاح‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عبد الحميد هنداوي‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‬

‫‪ .85‬ابن يعيش (أبو البقاء علي بن يعيش موفق الدين)‪ :‬شرح المفصل للزمخشري‪،‬‬
‫دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8001 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .82‬الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر)‪ :‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم‬
‫محمد هارون‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪8003 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .87‬الجرجاني (أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن)‪:‬‬

‫‪ -‬أسرار البالغة‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمود محمد شاكر‪ ،‬دار المدني‪ ،‬جدة السعودية‪،‬‬
‫ط‪1111 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ -‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬تحقيق محمود محمد شاكر‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫ط‪8004 ،5.‬م‪.‬‬

‫‪820‬‬
‫‪ .82‬الجرجاني( أبو الحسن علي بن عبد العزيز القاضي )‪ :‬الوساطة بين المتنبي‬
‫وخصومه‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬وعلي محمد البجاوي‪ ،‬المكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .81‬الجرجاني(علي بن محمد الشريف)‪ :‬كتاب التعريفات‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم األبياري‪،‬‬
‫دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1112 ،4.‬م‪.‬‬

‫‪ .30‬حازم القرطاجني (أبو الحسن بن محمد)‪ :‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫محمد الحبيب بن الخوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،8.‬‬
‫‪1128‬م‪.‬‬
‫‪ .31‬الحصري (أبو إسحق إبراهيم بن علي القيرواني)‪ :‬زهر اآلداب وثمر اآلداب‪،‬‬
‫المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت‪ ،‬لبنان‪8005 ،‬م‪.‬‬
‫‪ِ .38‬‬
‫الحلّ ّي (عبد العزيز بن سرايا صفي الدين)‪ :‬شرح الكافية البديعية في علوم‬
‫البالغة ومحاسن البديع‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬نسيب نشاوي‪ ،‬ديوان المطبوعات‬
‫الجامعية‪ ،‬الجزائر‪1121 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .33‬الخطيب التبريزي (أبو زكريا يحيى بن علي) ‪ :‬الكافي في العروض والقوافي‪،‬‬
‫دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8003 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .34‬الرازي ( أبو عبد اهلل محمد بن عمر فخر الدين )‪ :‬نهاية اإليجاز في دراية‬
‫اإلعجاز‪ ،‬تحقيق‪ :‬بكري شيخ أمين‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪.1125‬‬
‫‪ .35‬الراغب األصفهاني (الحسين بن محمد)‪ :‬مفردات ألفاظ القرآن‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫مصطفى بن العدوي‪ ،‬مكتبة فياض‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪8001 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .32‬الزركشي (محمد بن عبد اهلل بدر الدين)‪ :‬البرهان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت لبنان‪8002 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .37‬الزمخشري (أبو القاسم محمود بن عمر)‪ :‬الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‬
‫وعيون األقاويل في وجوه التأويل‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪8002‬م‪.‬‬

‫‪821‬‬
‫‪ .32‬السكاكي (يوسف بن محمد)‪ :‬مفتاح العلوم‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الحميد هنداوي‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8000 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .31‬السيوطي (أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال)‪:‬‬
‫‪ -‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬حامد أحمد الطاهر البسيوني‪ ،‬دار الفجر‬
‫للتراث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪8001 ،8.‬م‪.‬‬
‫‪ -‬أسرار ترتيب القرآن‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر أحمد عطا‪ ،‬دار بوسالمة‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫‪1123‬م‪.‬‬
‫‪ -‬األشباه والنظائر في النحو‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر الفاضلي‪ ،‬المكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1111 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ -‬همع الهوامع في شرح جمع الجوامع‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عبد العال سالم مكرم‪ ،‬عالم‬
‫الكتب‪ ،‬القاهرة‪8001 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .40‬الصفدي (خليل بن أيبك صالح الدين)‪ :‬جنان الجناس ( في علم البديع )‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬سمير حسن حلبي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪1127‬م‪.‬‬
‫‪ .41‬علي بن الجهم (أبو الحسن القرشي السامي)‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬خليل مردم بك‪،‬‬
‫دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1112 ،3.‬م‪.‬‬
‫‪ .48‬المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد)‪:‬‬
‫‪ -‬الكامل‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد أحمد الدالي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،4.‬‬
‫‪.8004‬‬

‫‪ -‬المقتضب‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد الخالق عضيمة‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫‪8010‬م‪.،‬‬
‫‪ .43‬المتنبي (أبو الطيب أحمد بن الحسين)‪ :‬الديوان بشرح أبي البقاء العكبري‬
‫المسمى بالتبيان في شرح الديوان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪8010 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .44‬المرزباني(محمد بن عمران)‪ :‬الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء‪ ،‬تحقيق‪:‬‬


‫محمد حسين شمس الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1115 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪828‬‬
‫‪ .45‬المظفر بن الفضل العلوي (أبو علي المظفر بن سعيد)‪ :‬نضرة اإلغريض في‬
‫نصرة القريض‪ ،‬تحقيق‪ :‬نهى عارف الحسن‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،8.‬‬
‫‪1115‬م‪.‬‬

‫الوراق‪ ،‬لندن‪،‬‬
‫‪ .42‬النواجي (محمد بن الحسن شمس الدين)‪ :‬حلبة الكميت‪ ،‬دار ّ‬
‫ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .47‬الواحدي (أبو الحسن علي بن أحمد)‪ :‬شرح ديوان المتنبي‪ ،‬دار األصالة‪،‬‬
‫الجزائر‪ ،‬ط‪.8001 ،1.‬‬

‫‪ .42‬يحيى بن حمزة العلوي‪ :‬الطراز المتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق‬


‫اإلعجاز‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الحميد هنداوي‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪8008 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .41‬يوسف البديعي‪ :‬الصبح المنبي عن حيثية المتنبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬مصطفى السقا‬


‫ومحمد شتا‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1114 ،3.‬م‪.‬‬

‫ب‪ .‬الدواوين‬

‫‪ .50‬أبو تمام(حبيب بن أوس الطائي)‪ :‬الديوان بشرح الخطيب التبريزي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬


‫محمد عبده عزام‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪1127 ،5.‬م‪.‬‬
‫‪ .51‬أبو العتاهية (أبو إسحق إسماعيل بن القاسم)‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪8004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .58‬أبو فراس الحمداني (الحارث بن سعيد)‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪8008 ،8.‬م‪.‬‬

‫‪ .53‬أبو نواس (الحسن بن هانئ)‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد الحميد الغزالي‪ ،‬دار‬
‫الكتاب اللبناني ‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪823‬‬
‫‪ .54‬البحتري (أبو عبادة الوليد بن عبيد)‪ :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪8005 ،8.‬م‪.‬‬
‫المرّعث)‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬الشيخ محمد الطاهر بن‬
‫‪ .55‬بشار بن برد (أبومعاذ ُ‬
‫عاشور‪ ،‬دار سحنون‪ ،‬تونس‪/‬دار السالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪800 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .52‬ابن الرومي (أبو الحسن علي بن العباس)‪ :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد األمير علي‬
‫مهنا‪ ،‬دار ومكتبة الهالل‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1112 ،8.‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ .57‬ابن الفارض (أبو حفص عمر بن الحسن)‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8005 ،8.‬م‪.‬‬
‫‪ .52‬ابن المعتز(أبو العباس عبد اهلل)‪ :‬الديوان‪ ،‬صنعة أبي بكر محمد بن يحيى‬
‫الصولي‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬أحمد يونس السامرائي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪1117 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .51‬الحالج (أبو مغيث الحسين بن منصور)‪ :‬الديوان ومعه أخبار الحالج وكتاب‬
‫الطواسين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1112 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .20‬دعبل (أبو علي بن رزين)‪ :‬الديوان‪ ،‬دار الجيل بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1112 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪824‬‬
‫ثانيا المراجع‬

‫أ‪.‬الكتب‬

‫‪ .21‬ابتسام أحمد حمدان‪ :‬الحذف والتقديم والتأخير في ديوان النابغة الذبياني دراسة‬
‫داللية تطبيقية معنوية‪ ،‬دار طالس‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ .‬ط‪1118 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .28‬د‪ .‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪1122 ،5.‬م‪.‬‬

‫‪ .23‬د‪ .‬أحمد سعد محمد‪ :‬نظرية البالغة العربية دراسة في األصول المعرفية‪،‬‬
‫مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪8001 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .24‬د‪ .‬أحمد طعمة حلبي‪ :‬المفاهيم الجمالية في الشعر العباسي‪ ،‬و ازرة الثقافة‪،‬‬
‫دمشق‪8002 ،‬م‪.‬‬

‫‪ . .25‬د‪ .‬أحمد مبارك الخطيب‪ :‬االنزياح الشعري عند المتنبي قراءة في التراث‬
‫النقدي عند العرب‪ ،‬دار الحوار‪ ،‬الالذقية‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪8001 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .22‬أحمد مداس‪ :‬لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري‪ ،‬جدا ار‬
‫عمان – عالم الكتب الحديث‪ ،‬إربد‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪.8007 ،1.‬‬
‫للكتاب‪ّ ،‬‬
‫‪ .27‬د‪ .‬أحمد محمد ويس‪ :‬االنزياح من منظور الدراسات األسلوبية‪ ،‬المؤسسة‬
‫الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8005 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ . .22‬أدونيس‪ ( ،‬علي أحمد سعيد )‪:‬‬

‫‪ -‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8000 ،3.‬م‪.‬‬


‫‪ -‬مقدمة للشعر العربي‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1171 ،1.‬م‪.‬‬
‫فن الشعر‪ ،‬ترجمة وتحقيق‪ :‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬مكتبة النهضة‬
‫‪ .21‬أرسطوطاليس‪ّ :‬‬
‫المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪1153 ،‬م‪.‬‬

‫‪825‬‬
‫‪ .70‬إيفالد فاجنر‪ :‬أسس الشعر العربي الكالسيكي الشعر العربي القديم‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫د‪.‬سعيد حسن بحيري‪ ،‬مؤسسة المختار‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .71‬د‪ .‬بسام قطّوس‪ :‬اإلبداع الشعري وكسر المعيار (رؤى نقدية)‪ ،‬مجلس النشر‬
‫العلمي‪ ،‬لجنة التأليف والتعريب والنشر‪ ،‬جامعة الكويت‪ ،‬دولة الكويت‪،‬‬
‫‪8005‬م‪.‬‬

‫‪ .78‬بطرس البستاني‪ :‬أدباء العرب‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪1121 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .73‬د‪ .‬تمام حسان‪ :‬اللغة العربية معناها ومبناها‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،5.‬‬
‫‪8002‬م‪.‬‬

‫‪ .74‬جان بول سارتر‪ :‬ما األدب؟‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬محمد غنيمي هالل‪ ،‬دار العودة‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪.1124 ،‬‬

‫جبور عبد النور‪ :‬المعجم األدبي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪1124 ،8.‬م‪.‬‬
‫‪ .75‬د‪ّ .‬‬
‫‪ .72‬د‪ .‬جمال بندحمان‪ :‬األنساق الذهنية في الخطاب الشعري التشعب واالنسجام‪،‬‬
‫دار رؤية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪8011 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .77‬د‪ .‬جميل عبد المجيد‪ :‬البديع بين البالغة العربية واللسانيات النصية‪ ،‬الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب‪1112 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .72‬جون كوين‪ :‬بناء لغة الشعر‪ ،‬ترجمة‪ :‬أحمد درويش‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪1113 ،3.‬م‪.‬‬

‫‪ .71‬د‪ .‬حسن إبراهيم األحمد‪ :‬أبعاد النص النقدي عند الثعالبي مقدمة نظرية ودراسة‬
‫تطبيقية‪ ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬و ازرة الثقافة‪ ،‬دمشق‪8007 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .20‬د‪ .‬حسن طبل‪ :‬المعنى في البالغة العربية‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫ط‪1112 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪822‬‬
‫‪ .21‬د‪ .‬حسن عبد اهلل شرف‪ :‬النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن‬
‫سالّم‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1124 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .28‬د‪ .‬حسين الواد‪ :‬المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب (تلقي القدماء لشعره)‪،‬‬
‫دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8004 .‬م‪.‬‬

‫‪ .23‬د‪ .‬حلمي مرزوق‪ :‬في فلسفة البالغة العربية علم البيان‪ ،‬دار الوفاء‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪ ،‬مصر‪8004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .24‬د‪.‬خالد حسين حسين‪ :‬في نظرية العنوان مغامرة تأويلية في شؤون العتبة‬
‫النصية‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪8007 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .25‬د‪ .‬خليل أحمد عمايرة‪ :‬في نحو اللغة وتراكيبها منهج وتطبيق‪ ،‬عالم المعرفة‪،‬‬
‫جدة‪ ،‬ط‪1124 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .22‬خليل شكري هياس‪ :‬فاعلية العتبات في قراءة النص الروائي (صخرة الجوالن‬
‫لعلي عقلة عرسان) أنموذجا‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪.8005 ،‬‬

‫‪ .27‬د‪ .‬خليل الموسى‪ :‬جماليات الشعرية‪ ،‬اتحاد ال ُكتّاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪،‬‬
‫‪8002‬م‪.‬‬
‫‪ .22‬رومان جاكوبسون‪ :‬االتجاهات األساسية في علم اللغة‪ ،‬ترجمة‪ :‬علي صالح‬
‫وحسن ناظم‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪/‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪8008 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .21‬رينيه ويليك وأوستن وارين‪ :‬نظرية األدب‪ ،‬ترجمة‪ :‬محيي الدين صبحي‪،‬‬
‫المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪1127 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .10‬زكريا إبراهيم‪ :‬مشكلة البنية‪ ،‬مكتبة مصر‪1110 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .11‬د‪ .‬الزواوي بغوره‪ :‬المنهج البنيوي بحث في األصول والمبادئ والتطبيقات‪ ،‬دار‬
‫الهدى‪ ،‬عين مليلة‪ ،‬الجزائر‪8001 ،‬م‪.‬‬

‫‪827‬‬
‫‪ .18‬د‪ .‬سامي محمد عبابنة‪ :‬التفكير األسلوبي رؤية معاصر في التراث النقدي‬
‫عمان‪،‬‬
‫والبالغي في ضوء علم األسلوب الحديث‪ ،‬جدا ار للكتاب العالمي‪ّ ،‬‬
‫األردن‪/‬عالم الكتب الحديث‪ ،‬إربد‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪8007 ،1.‬م‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ .13‬ستيفن أولمان‪ :‬دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ترجمة‪ :‬كمال بشر‪ ،‬دار غريب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1117‬م‪.‬‬

‫‪ .14‬سعيد األيوبي‪ :‬عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي‪ ،‬مكتبة المعارف‪،‬‬


‫الرباط‪ ،‬المغرب‪.1122 ،‬‬

‫‪ .15‬د‪ .‬السعيد الورقي‪ :‬لغة الشعر العربي الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها‬
‫اإلبداعية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1124 ،3.‬م‪.‬‬

‫‪ .12‬د‪ .‬السيد إبراهيم محمد‪ :‬الضرورة الشعرية دراسة أسلوبية‪ ،‬دار األندلس‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪1128 ،8.‬م‪.‬‬

‫‪ .17‬د‪ .‬السيد محمد ديب‪ :‬الغموض في شعر أبي تمام‪ ،‬دار الطباعة المحمدية‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪1121 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .12‬د‪ .‬شكري عياد‪ :‬موسيقى الشعر العربي‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1122 ،1.‬‬

‫‪ .11‬د‪ .‬شوقي ضيف‪:‬‬

‫‪ -‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1111 ،10.‬م‪.‬‬

‫‪ -‬تاريخ األدب العربي‪ ،‬ج‪ ،3.‬العصر العباسي األول‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪ ،2.‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -‬تاريخ األدب العربي‪ ،‬ج‪ ،4.‬العصر العباسي الثاني‪ ،‬ط‪1175 ،8.‬م‪.‬‬
‫‪ -‬الفن ومذاهبه في الشعر العربي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.8004 ،13 .‬‬
‫‪ .100‬د‪ .‬صالح فضل‪ :‬علم األسلوب والنظرية البنائية‪ ،‬دار الكتاب المصري ‪،‬‬
‫القاهرة – دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8007 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪822‬‬
‫‪ .101‬د‪ .‬طه حسين‪ :‬في األدب الجاهلي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1171 ،13.‬م‪.‬‬
‫‪ .108‬د‪.‬طه مصطفى أبو كريشة‪ :‬أصول النقد األدبي‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪1112 ،1.‬م‪.‬‬
‫عمان‪ ،‬ط‪8005 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .103‬د‪ .‬عاطف فضل‪ :‬مقدمة في اللسانيات‪ ،‬دار الرازي‪ّ ،‬‬
‫‪ .104‬عباس محمود العقاد‪:‬‬
‫‪ -‬ابن الرومي حياته من شعره‪ ،‬منشورات المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -‬الديوان في األدب والنقد(باالشتراك مع إبراهيم عبد القادر المازني)‪ ،‬دار نهضة‬
‫مصر‪ ،‬ط‪8001 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ -‬اللغة الشاعرة‪ ،‬دار نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪8004 ،‬م ‪.‬‬
‫‪ -‬مطالعات في الكتب والحياة‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ .105‬د‪ .‬عبد الجليل يوسف بدا‪ :‬الظواهر النحوية والصرفية في شعر المتنبي‪،‬‬
‫المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬بيروت‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .102‬د‪ .‬عبد الحليم حفني‪ :‬مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية‪ ،‬الهيئة المصرية‬
‫العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪1127 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .107‬د‪ .‬عبد السالم المسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8002 ،5.‬م‪.‬‬

‫‪ .102‬عبد القادر رحيم‪ :‬علم العنونة‪ ،‬دار التكوين‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪8010 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .101‬د‪ .‬عبد اهلل التطاوي‪ :‬تقاطعات الحركة الشعرية بين الموروث والفردي مدخل‬
‫إلى فن المعارضة‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪8007 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .110‬د‪ .‬عبد اهلل العشي‪ :‬أسئلة الشعرية بحث في آلية اإلبداع الشعري‪ ،‬منشورات‬
‫االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪8001 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .111‬د‪ .‬عبد اهلل محمد الغذامي‪ :‬الخطيئة والتكفير‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪8002 ،‬م‪.‬‬

‫‪821‬‬
‫‪ .118‬د‪ .‬عبد المالك مرتاض‪ :‬نظرية النص األدبي‪ ،‬دار هومه‪ ،‬الجزائر‪8007 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .113‬د‪ .‬عبده بدوي‪ :‬دراسات في النص الشعري العصر الحديث‪ ،‬دار قباء‪،‬‬
‫القاهرة‪1117 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .114‬د‪ .‬عز الدين إسماعيل‪ :‬روح العصر‪ ،‬دار الرائد العربي‪ ،‬بيروت‪1172 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .115‬د‪ .‬عز الدين محمد الكردي‪ :‬التقديم والتأخير في القرآن الكريم‪ ،‬دار المعرفة‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8007 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .112‬د‪ .‬علي مراشدة‪ :‬بنية القصيدة الجاهلية دراسة تطبيقية في شعر النابغة‬
‫عمان‪ ،‬األردن‪/‬عالم الكتب الحديث‪ ،‬إربد‪،‬‬
‫الذبياني‪ ،‬جدا ار للكتاب العالمي‪ّ ،‬‬
‫األردن‪ .‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬

‫فروخ‪ :‬تاريخ األدب العربي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2.‬‬


‫‪ .117‬د‪ .‬عمر ّ‬
‫‪8002‬م‪.‬‬
‫‪ .112‬د‪ .‬فاضل صالح السامرائي‪ :‬لمسات بيانية في نصوص من التنزيل‪ ،‬دار‬
‫األردن‪ ،‬ط‪8001 ،5.‬م‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عمان‪،‬‬
‫عمار‪ّ ،‬‬
‫‪ .111‬فكتور إيرليخ‪ :‬الشكالنية الروسية‪ ،‬ترجمة‪ :‬الولي محمد‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ /‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8000 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .180‬د‪ .‬فوزي محمد أمين وآخرون‪ :‬في اللغة واألدب ‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬
‫مصر‪8003 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .181‬د‪ .‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪.8008 ،1.‬‬
‫‪ . .188‬ماثيو أرنولد‪ :‬دراسة الشعر‪ ،‬ضمن كتاب " النقد أسس النقد األدبي الحديث‬
‫"‪ ،‬ترجمة‪ :‬هيفاء هاشم‪ ،‬و ازرة الثقافة‪ ،‬دمشق‪8002 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .183‬محمد أديوان‪ :‬قضايا النقد األدبي عند حازم القرطاجني‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم‬
‫اإلنسانية بالرباط‪ ،‬المملكة المغربية‪.8004 ،‬‬

‫‪810‬‬
‫‪ .184‬د‪ .‬محمد الحافظ الروسي‪ :‬ظاهرة الشعر عند حازم القرطاجني‪ ،‬دار األمان‪،‬‬
‫الرباط‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .185‬محمد الخضر حسين‪ :‬بالغة القرآن‪ ،‬الدار الحسينية للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ .182‬محمد سعيد إسبر ومحمد أبو علي‪ :‬الخليل معجم في علم العروض‪ ،‬دار‬
‫العودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1128 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .187‬د‪ .‬محمد خطابي‪ :‬لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب‪ ،‬المركز‬
‫الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪/‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8002 ،8.‬م‪.‬‬

‫‪ .182‬د‪ .‬محمد صابر عبيد‪ ،‬ود‪ .‬سوسن البياتي‪ :‬جماليات التشكيل الروائي‪ ،‬دار‬
‫الحوار‪ ،‬الالذقية‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪.8002 ،1.‬‬

‫‪ .181‬د‪ .‬محمد عبد المطلب‪ :‬البالغة العربية قراءة أخرى‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪،‬‬
‫بيروت‪/‬الشركة المصرية العالمية للنشر‪-‬لونجمان‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ .130‬محمد علي كندي‪ :‬الرمز والقناع في الشعر العربي الحديث‪( ،‬السياب ونازك‬
‫والبياتي)‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8003 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .131‬د‪ .‬محمد كريم الكواز‪ :‬البالغة والنقد المصطلح والنشأة والتجديد‪ ،‬مؤسسة‬
‫االنتشار العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8002 ،1.‬م‪.‬‬
‫‪ .138‬د‪ .‬محمد لطفي اليوسفي‪ :‬الشعر والشعرية الفالسفة والمفكرون العرب ما‬
‫أنجزوه وما هفوا إليه‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬تونس‪ /‬ليبيا‪1118 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .133‬د‪ .‬محمد محمد أبو موسى‪ :‬دالالت التراكيب دراسة بالغية‪ ،‬مكتبة وهبة‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪8004 ،3.‬م‪.‬‬

‫‪ .134‬د‪ .‬محمد مصطفى أبو شوارب‪ :‬شعرية التفاوت مدخل لقراءة الشعر العباسي‪،‬‬
‫دار الوفاء‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪8007 ،1.‬م‪.‬‬

‫‪ .135‬د‪ .‬محمد الهادي الطرابلسي‪ :‬تحاليل أسلوبية‪ ،‬عالم الكتاب‪ ،‬تونس‪8002 ،‬م‪.‬‬

‫‪811‬‬
‫‪ .132‬د‪ .‬محمد مصايف‪ :‬جماعة الديوان في النقد‪ ،‬دار البعث‪ ،‬قسنطينة‪ ،‬الجزائر‪،‬‬
‫‪1174‬م‪.‬‬

‫‪ .137‬د‪ .‬محمد مندور‪:‬‬

‫‪ -‬في األدب والنقد‪ ،‬دار نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪1122 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬في الميزان الجديد‪ ،‬نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪8004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬النقد والنقاد المعاصرون‪ ،‬دار نهضة مصر‪8004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .132‬د‪ .‬محمود نحلة وآخرون‪ :‬في اللغة واألدب‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪8003 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .131‬د‪ .‬مصطفى البشير قط‪ :‬مفهوم النثر الفني وأجناسه في النقد العربي القديم‪،‬‬
‫عمان‪8001 ،‬م‪.‬‬ ‫دار اليازوري‪ّ ،‬‬
‫‪ .140‬د‪ .‬مصطفى حركات‪ :‬قواعد الشعر(العروض والقافية)‪ ،‬موفم‪ ،‬الرغاية‪،‬‬
‫الجزائر‪1121 ،‬م‪.‬‬

‫‪ .141‬د‪ .‬ميجان الرويلي‪ ،‬ود‪ .‬سعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪/‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪8008 ،3.‬م‪.‬‬

‫‪ .148‬نازك المالئكة‪ :‬ديوان شظايا ورماد‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1171 ،8.‬م‪.‬‬

‫‪ .143‬اليازجيان (ناصيف‪ ،‬وابراهيم)‪ :‬العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب‪،‬‬


‫دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪ .144‬ياسين نصير‪ :‬االستهالل فن البدايات في النص األدبي‪ ،‬دار نينوى‪ ،‬دمشق‪،‬‬


‫‪8001‬م‪.‬‬

‫‪ .145‬د‪ .‬يمنى العيد‪ :‬في معرفة النص دراسات في النقد األدبي‪ ،‬دار اآلداب‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪1111 ،4.‬م‪.‬‬

‫‪818‬‬
‫‪ .142‬د‪ .‬يوسف إسكندر‪ :‬اتجاهات الشعرية الحديثة األصول والمقوالت‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪8002 ،8.‬م‪.‬‬

‫‪147. FERDINAND‬‬ ‫‪DE SAUSSURE :COURS DE‬‬


‫‪LINGUISTIQUE GENERALE, Ed. TALANTIKIT, Béjaïa,‬‬
‫‪2002.‬‬

‫ب‪ .‬الدوريات‬

‫امحمد العماري‪ :‬مفهوم الشعرية واتجاهاتها‪ ،‬مجلة الحكمة‪ ،‬مؤسسة كنوز‬‫‪ْ .142‬‬
‫الحكمة‪ ،‬األبيار‪ ،‬الجزائر‪ ،‬العدد‪8011 ،2.‬م‪.‬‬
‫‪ .141‬د‪.‬جميل حمداوي‪ :‬السيميوطيقا والعنونة‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬المجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬دولة الكويت‪ ،‬المجلد‪ ،85:‬العدد‪ ،03 :‬يناير‪/‬مارس‬
‫‪1117‬م‪.‬‬

‫الصباغ‪ :‬العالقة بين الجمال والخالق في مجال الفن‪ ،‬عالم‬


‫ّ‬ ‫‪ .150‬د‪ .‬رمضان‬
‫الفكر‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬المجلد‪ ،17:‬العدد‪،1:‬‬
‫سبتمبر‪1112 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .151‬د‪ .‬محمد حماسة عبد اللطيف‪ :‬فاعلية المعنى النحوي في بناء الشعر‪ ،‬مجلة‬
‫دراسات عربية واسالمية‪ ،‬مكتبة الزهراء‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪1123 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .158‬د‪ .‬محمد رضا مبارك‪ :‬مفهوم النقد من األسلوبية إلى تحليل الخطاب‪،‬‬
‫فصول‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬ع‪ ،25 .‬خريف ‪8004‬م‬
‫شتاء‪8005‬م‪.‬‬
‫‪ .153‬د‪ .‬محمد عزام ‪ :‬بناء القصيدة التقليدية‪ ،‬الموقف األدبي‪ ،‬اتحاد الكتاب‬
‫العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ع‪ ،108.‬أكتوبر‪.1171 ،‬‬
‫‪ .154‬د‪ .‬محمد مشبال‪ :‬البالغة ومقولة الجنس األدبي‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬المجلس‬
‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬دولة الكويت‪ ،‬المجلد‪ ،30:‬العدد‪،13 :‬‬
‫يوليو‪/‬سبتمبر ‪8001‬م‪.‬‬

‫‪813‬‬
‫‪ .155‬موخاروفسكي ( يان )‪ :‬اللغة المعيارية واللغة الشعرية‪ ،‬ترجمة‪ :‬ألفت الروبي‪،‬‬
‫فصول‪ ،‬المجلد‪ ،5:‬العدد‪ ،1:‬أكتوبر‪1124 ،‬م‪.‬‬

‫‪814‬‬
‫ف ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرس‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬

‫‪4‬‬ ‫مقدمة ‪.......................................................................‬‬


‫‪13‬‬ ‫مدخل‪ :‬العصر العباسي‪ :‬التحوالت بين الفضاء الشعري واألفق النقدي ‪........‬‬

‫‪63‬‬ ‫الباب األول‪ :‬المطلع في بنية القصيدة العربية التقليدية شعرية التموقع‪...‬‬
‫‪37‬‬ ‫تمهيد‪ :‬البنية‪ :‬المفهوم والخصائص ‪..........................................‬‬
‫‪45‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬بنية القصيدة العربية التقليدية‪................................‬‬

‫‪46‬‬ ‫مقدمة القصيدة ‪.............................................................‬‬

‫‪25‬‬ ‫الخروج والتخلص ‪..........................................................‬‬

‫‪25‬‬ ‫الختام ‪.....................................................................‬‬

‫‪34‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬الوحدة في القصيدة العربية التقليدية‪....................... :‬‬

‫‪32‬‬ ‫تعدد األغراض ووحدة القصيدة ‪.............................................‬‬

‫‪39‬‬ ‫وحدة البيت ووحدة القصيدة ‪................................................‬‬

‫‪54‬‬ ‫الوحدة العضوية ‪..........................................................‬‬

‫‪44‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬المطلع ‪....................................................‬‬

‫‪42‬‬ ‫تمهيد‪ :‬المطلع‪ :‬المفهوم والموقع ‪............................................‬‬

‫‪44‬‬ ‫المطلع والجمالية الشعرية ‪.................................................‬‬

‫‪404‬‬ ‫المطلع في التراث البالغي والنقد العربي القديم ‪............................‬‬

‫‪592‬‬
‫‪444‬‬ ‫الدرسة السميولوجية للعنوان ‪...............................‬‬
‫المطلع في ضوء ا‬

‫الباب الثاني‪:‬مستويات الشعرية في مطلع القصيدة العباسية دراسة تطبيقية‪453 ..‬‬

‫‪455‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المستوى التركيبي ‪...........................................‬‬

‫‪454‬‬ ‫تمهيد‪ :‬التركيب معطى نحوي وعمق بالغي ‪................................‬‬

‫‪462‬‬ ‫التصرف الموضعي والكمي في التركيب (التقديم والتأخير‪-‬الحذف) ‪.........‬‬

‫‪424‬‬ ‫اإلسناد االسمي واإلسناد الفعلي ‪...........................................‬‬

‫‪432‬‬ ‫الصور ‪..................................................................‬‬

‫‪442‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المستوى اإلفرادي ‪.........................................‬‬

‫‪443‬‬ ‫الضمائر والمبهمات ‪......................................................‬‬

‫‪495‬‬ ‫التعريف والتنكير ‪.........................................................‬‬

‫‪502‬‬ ‫ظواهر إفرادية أخرى ‪.....................................................‬‬

‫‪554‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬المستوى الصوتي ‪.........................................‬‬

‫‪555‬‬ ‫الموسيقى الخارجية ‪......................................................‬‬

‫‪544‬‬ ‫الموسيقى الداخلية ‪.......................................................‬‬

‫‪524‬‬ ‫البديع ‪..................................................................‬‬

‫‪556‬‬ ‫خاتمة ‪..................................................................‬‬

‫‪555‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع ‪...............................................‬‬

‫‪592‬‬ ‫فهرس ‪.................................................................‬‬

‫‪593‬‬
‫ملخص‬
‫عنوان هذه الرسالة‪ " :‬شعرية المطلع في القصيدة العباسية"‪ ،‬دراسة جمالية تتوجه إلى‬
‫مطلع القصيدة العباسية تخصيصا‪ ،‬الستجالء أهم قيمه الفنية ومقوماته األسلوبية‪.‬‬
‫وقد بسطت فكرتها العامة في بابين‪ :‬تناول أولهما في فصله األول بنية القصيدة‬
‫العربية التقليدية‪ ،‬من مقدمة وتخلص وختام‪ ،‬وذلك رغبة في رصد موقعية المطلع من‬
‫ذلك كله‪ .‬إلى جانب قضايا نقدية‪ ،‬ومباحث بالغية تتصل بذلك‪ ،‬تكفل بها الفصالن‬
‫الباقيان منها‪ :‬قضية الوحدة‪ ،‬والمطلع الذي بحث من الناحية الجمالية‪ ،‬وشروطه‬
‫البالغية‪ ،‬وخصائصه األسلوبية‪ ،‬ومقارنته بالعنوان في الدرس السميولوجي‪ .‬أما ثاني‬
‫البابين‪ :‬فهو دراسة تطبيقية‪ ،‬صرفت إلى دراسة مدونة من مطالع مختلفة‪ ،‬متدرجة‬
‫من المستوى التركيبي فاإلفرادي فالصوتي‪.‬‬

‫الكلمات المفاتيح‪ :‬شعرية – مطلع – عباسي‪ -‬أسلوبية‪.‬‬

‫‪Résumé‬‬
‫‪Cette thèse à comme titre la poéticité dans le 1er vers‬‬
‫‪"elmatalaa" du poème abbasside, étude qui cherche à‬‬
‫‪découvrir les structures stylistiques et les valeurs‬‬
‫‪esthétiques qui l´enrichi; au moyen des trois nivaux‬‬
‫‪syntaxique, morphologique, et phonétique‬‬
‫‪Mots clés: poétique, abbasside, "matalaa", stylistique.‬‬

You might also like