Professional Documents
Culture Documents
لجنة المناقشة
أمي بحر األمومة الزاخر وينبوع الحنان المتدفّق ،ووالدي المثل والقدوة…
إلى ّ
زخات التشجيع ،وصدق الصحبة في مضايق
إلى رفيقة الدرب أم مروان ،شك ار على ّ
البحث ...
إلى روح الدكتور دباش عبد الحميد رحمه اهلل المشرف على مذكرتي للماجستير عسى
اهلل أن يجعل ذلك في ميزان حسناته.
بوعامر بوعالم
شــكـــــــر وعرفـــــــان
إلى كل من أسدى معروفا أوأهدى نصيحة أو أزجى دعاء ...في سبيل إتمام هذه الدراسة
فإلى:
أسرت ي قسم اللغة واألدب العربي في جامعة غارداية ،وقسم اللغة العربية وآدابها في
جامعة الحاج لخضر بباتنة أساتذة واداريين.
إلى أعضاء لجنة المناقشة الموقرة ،شك ار على سيبذلون من جهد ،ويخصصون من
سيهدون إلى صاحبها من بيان لمواضع عيوبها وخللها،
وقت لقراءة الرسالة ،وعلى ما ُ
وارشاد إلى تدارك ما وقع فيها – والشك -من سهو وتقصير ،وهو ما يكون دفقة دم
جديد في أوصالها تحيا وتنتعش به.
إلى األصدقاء والزمالء كافة.
مــقــــــــــــــــــدمـــة
إذاكانالتساؤلالتقليديعنبنيةالقصيدةالعربيةالقديمةمشروعا،لماعليهظاهر
يتخلص منها إلى غرض مقصود تتلوه خاتمة ،فإنه -على مشروعيته
بنيتها من مقدمة ُ
،مالميشفعبسؤالباطن
ُ اف
ومنطقيته-يبقىسؤالظاهر،كلإجابةعنهتحومحولالحو ّ
يكونبمنزلةتكميللتلكاإلجابة .سؤالالباطنهذايتوجهتلقاء مايتضمنهكلعنصرفي
متضمنات سائر العناصر إلعطاء القصيدة ملمحها
َ تلك البنية من جمالية شعرية تلتقي و
الشعريالمتكامل.
إناإلجابةعنسؤالالشعريةهذا،منشأنهاأنتعطياإلجابةعنسؤالالبنيةعمقا،
وتضفيعليهاجدوى،كماأنهاكفيلةأنتبرر–شعريا-ظاهرةالتعددفيتلكالبنية،على
اعتبارأنالشعريةعالمخاص،وعاملجم عفياستطاعتهالتأليفبينمايراهاإلحساس
المجرد من النظرة الجمالية والرؤية الشعرية ،أشتاتا متفرقة وشظايا أجسام متنافرة يستحيل
التئامها.
لقد ابتعدت النظريات الشعرية الحديثة عن سؤال الماهية والتجريد في مجال األدب
والشعر،وذهبتتتساءلعنالخصائصالتيتجعلمننصماشعرا،أيعناإلجراءات
والتشكيالتالفنيةوالتنظيماللغويالذييرتقيبالنصإلىيفاعالشعر،فصارمنالممكن
البحث عن الجمال والشعرية في نصوص كانت في معزل عن هذا البحث ،وكان التفكير
فيهاعلىهذااألساسخلطاوافتئاتا.
البديعيةالتييجبأنتتوفرللمطلع،حتىيكتسبنفَ َسهالشعري،
.1ماهيالقيمالجماليةو
قعد لها البديعيون والنقاد انطالقا
تلك القيم التي انتهت إلى أن تصبح شروطا ورسوما ّ
بطبيعةالحال–مناستقرائهمللواقعالشعري،الذيأبدعهالنوابغمنالشعراء؟
.2ما مدى توسع الشاعر العباسي تخصيصا في إثراء تلك القيم ،وهل وقف حبيس تلك
"الشروط "؟ أم شق عصا الطاعة ،ثائ ار عليها ،شاقا لنفسه طريقا آخر ،تماشيا مع
المستجداتالحضاريةوالثقافيةوالفنيةفيذلكالعصر؟
.3ما هو موقع مطلع القصيدة في التشكيل النهائي للملمح الشعري الجمالي للقصيدة،
بوصفهاوحدةمتكاملةمتضامة؟
تلكهيجملةمناألسئلةالتيتحاولالدراسةاإلجابةعنها،إضافةإلىأسئلةتتفرع
منهاتمهيداأوتوضيحا.
ب
وقدقامتالدراسةعلىمدخل وبابينوخاتمة،أماالمدخل فخصص للعصرالعباسي
وتوجهاتهاألدبيةوالنقدية،وهومايستدعيالحديثعنالشعريةتعميماوتوجهاتهافيذلك
العصرتخصيصا .مع التوسعأحياناإلىالناحيةالثقافيةعموما .فإذا كانمنالثابتأن
هذاالعصرلميشهدتطوراجذريافيبنيةالقصيدةالعربيةالتقليدية،فيكفيأنهالعصرالذي
ُجو ِهر فيه بالثورة على مقدمة القصيدة وفيها المطلع .كما كان فيه أبو نواس الذي صدع
بتلكالدعوة،متبرماساخطامعبراعنذلكفيشعره.
ّ
إضافة إلى نضج النقد األدبي وتأصله ،السيما النقد البالغي الذي أعطى المطلع
ملمحهالفني،وازدهرفيهالبديعالذيعلىرأسهبراعةالمطلعأواالستهالل.
وهو أيضا العصر الذي ازدهر فيه فن الغناء وتنوعت األلحان ،وتطورت أدوات
ىمنالقصائدمطالعهاومقدماتها،
ُ غن
أنأكثرماي ّ
ُ العزف،وهوماأثّرفيالشعر،السيما
اف إلى تجويد تلك األجزاء من القصيدة .إلى
فكان من أثر هذا االحتفال بالغناء االنصر ُ
جانبتوطّدعلمالعروضوموسيقىالشعرالعربي.
والعصر العباسي هو العصر الذي بدأت تظهر فيه اتجاهات شعرية جديدة ،ذات
موضوعاتوأغ راضلهاتأثيرهافيموسيقىالشعر،وجمالياتهبمختلفمظاهرهاالتركيبية
واإلفراديةوالصوتية،كالشعرالشعبيوشعرالتصوفوالزهد.
ج
ثم كان الباب األول المعنون بـ " المطلع في بنية القصيدة العربية التقليدية شعرية
التموقع" ،لكونالمطلعهوأولأبياتالقصيدة،وكانموقعهمنهاعلىرأسالمقدمةالتي
هيإحدىالبنىالصغرىالتيتتركبمنهاالقصيدةالعربيةالتقليدية.وهوفيعمومهبحث
فيموقعيةالمطلعمنمعمارالقصيدةالعربيةالتقليديةوفيجمالياته،فإذاكانمنالمسلَّم
اء وحدودا
البيتاألولفيالقصيدة،فإن فيكتبتراثيةأقواالوآر ً
ّ بهاآلنأنالمطلعهو
ي َّ
عبر عنه تلقي بنوع من الغموض حول مفهومه أو موقعه من القصيدة ،خصوصا عندما ُ
بصيغةالجمع"المطالع"،موضوعةفيمقابل"المقاطع".
ولماكانالجمالفيالفننسقايتطلباالنسجامواالطراد،واليتحملالتنافروالشذوذ،
ّ
وكانتالوحدةفيالفننتيجةلالنسجامواالطرادمنجهة،وكانالمطلع–بوصفهعضوافي
بنيةالقصيدة -ذاتأثيراليمكنإغفالهفيمحاولةالبحثعنمظاهرهذهالوحدةالسيما
بنيت عليه القصيدة من جهة أخرى ،كان الحديث عن
مع اشتراط داللة المطلع على ما ُ
الوحدةالفنيةفيالفصلالثانيمنالباباألول،وهوأمريحفزعليهماأشيع–ومايزال
خلو القصيدة العربية القديمة من كل مظهر من مظاهر الوحدة ،وهو اعتقاد
يشاع – من ّ
تشجع عليه بعض األمور إذا أُخذت في ظاهرها .مثل كون أول القصيدة عادةً المقدمةَ
الطلليةالغزليةمهماكانالغرضاألصلي.بيدأنهاعتقادأثبتتبحوثودراساتأكاديمية
فالهوجوهامنالوحدةيمكنرصدهافيها.
أنهمغال،علىاألقلبعموميتهواغ ُ
وهوفصلتناولقضيةالوحدةمبسوطةفيثالثقضايا فرعية،عالجتمسألةتعدد
األغراضفيالقصيدةالعربيةالتقليدية،ووحدةالبيت،وأخيراالوحدةالعضوية.
الشعرية
واستقل المطلع بالفصل الثالث مفصال في مسائل ثالث ،األولى :الجمالية
بالغيينا ونقادنا
ّ ولزومها للقصيدة عموما والمطلع خصوصا .والثانية :بحث في اهتمام
د
القدماءبالمطلع،ورصدلماخصوهبهمنشروطوقيمجماليةاستقوهامنالموروثالشعري
السابق ومما استجد في العصر العباسي .كل ذلك منظور فيه إلى ما سبق من جماليات
الشعرية.والثالثة :فكرة تستندإلىالدرسالسميولوجيللعنوان،ذلكالمبحثالطريفالذي
يغريبمحاولةاالستفادةمنهفيدرسمطلعالقصيدةالعربيةالتراثية،بماأنهانصيخلومن
العنونة،وبماأنللعنوانوظائفيمكنأنيضطلعبهاالمطلع.
سبقت تلك القضايا بتمهيد عرض لمفهوم المطلع وتحديد موقعه من القصيدة،
وقد ُ
لورودعباراتعنبعضالنقادوالبالغيينالقدماءتوحيبوجودخالفوشبهةفياالتفاق
حولذلك،كماسبقتاإلشارة.
أما الباب الثاني وعنوانه " :مستويات الشعرية في مطلع القصيدة العباسية " ،فهو
دراسةلمظاهرالشعريةوتجلياتهافيمطلعالقصيدةالعباسية،تتدرجمنالمستوىالتركيبي،
الذيتش ّكلهالبنىالنحويةالمختلفة،والتيتدخلعليهاإجراءاتنحويةلهاتأثيرمباشرفي
األغراض البالغية ،والتشيكالت الجمالية .ومن تلك اإلجراءات :التصرف الموضعي في
الكم ّي الذييتكفلبهالحذف،
مكوناتالجملةالمتمثلفيتقنيةالتقديموالتأخير،والتصرف ّ
إلىجانبإجراءنحويآخرلهعالقةقويةبالمقاصدالبالغيةوهواإلسنادالفعليواإلسناد
أن الصورة الشعرية
االسمي ،وأخي ار إجراء تركيبي بالغي صرف هو التصوير الفني ،بما ّ
تركيبذهنيونفسيولغويمهماقلّتالعناصرالداخلةفيتركيبه.
شير فيهإلىالعالقةالدقيقةبينالتنظيمالنحويللتركيب
وبينيدي هذاالباب تمهيد ،أُ َ
واألغراضالبالغية،وهيتلكالعالقةالتيصاغفيهاعبدالقاهرالجرجانينظريتهالرائدة
فيالنظم.
تال ذلك فصل ثان عنوانه " :المستوى اإلفرادي " ُدرست فيه ظواهر إفرادية ،عرفت
البالغةالعربيةوالنقدالعربيالقديمكثيرامنها،ولوبطريقةتطبيقيةفينقدالشعروالدراسات
القرآنية،وقدعادالتركيزعليهاحديثامعمناهجالنقدالجديدةوالنظرياتالحديثة،كالتداولية
ه
يفوالتنكير،
والسميائيةواألسلوبية.منتلكالظواهراللغوية:الموصوالتواإلشاريات،والتعر
إضافةإلىظواهرإفراديةأخرىخصتبدراسةمستقلة.
وينتهيالباببفصلثالثانصرفالبحثفيهإلىالمستوىالصوتي،الذيالتخفى
أهميتهعندخوضموضوعيتصلبالشعروالشعرية.فكانالحديثعنالموسيقىالخارجية،
مع التركيز على ظاهرة التصريع بوصفها الخصوصية الوحيدة تقريبا الفارقة للمطلع عن
سائر األبيات في مسألة الموسيقى الخارجية ،ثم الموسيقى الداخلية وما يعضد به جر ُس
الموسيقىالخارجيةويمدهابهمنقوةأثر.
ّ األصواتواإليقاع
خص
ولما كان للبديع موقع خاص في الشعرية العربية ،ومكانة كبيرة في البالغة ُ
ّ
بالدراسةفيآخرالفصل،السيماأنهالفنالذيطالماكانعرضةللهجومبدعوىالتكلف
والتصنع .حتىعلتاألصواتأخيرامطالبةبإنصافهواعادةالنظرفيتحديدقيمتهالفنية،
بعدالتأثربمناهجالدرساألسلوبيالحديث،وماتك ّشفمعلسانياتالنصوتحليلالخطاب
منإمكاناتجماليةوخصوصياتنصيةينهضبهاالبديعأكثرمنغيره.
و
َّ
ةبحيثتصلحللنمذجة،بدلطريقةحشداألبياتالكثيرةومراكمتهافيبناءفوضوي
الظاهر
منشأنهتشتيتالذهن،واضاعةالخيوطالتيتشدهإلىالظاهرةالمدروسة.
وفينهايةالدراسةخاتمة ،جمعتأشتاتالبحثفيحوصلةتضمأهمنتائجهوتكثّف
أفكارهاألساسية.
أن
جدة موضوع البحث .صحيح ّ
وربما لن يكون من قبيل االدعاء اإلشارة إلى ّ
المصنفاتالبالغيةوالبديعيةالتراثيةحافلةبالبحثفي"براعةالمطلع،واالستهالل"،إالأن
الدراساتاألكاديميةالحديثةللمطلعنادرةجدا .فباستثناءمقاالتأوأجزاءمنمقاالت،ال
يعرف ِ
كتاب مخصص للبحث في المسألة ،إال أن يكون كتاب الدكتور عبد الحليم حفني ُ
وعنوانه"مطلعالقصيدةالعربيةوداللتهالنفسية"،فهوالكتابالحاضرعلىطرفالثُّمام
فيهذاالموضوع،وهوكتابرائد،غيرأنصاحبهجعلبوصلتهالداللةالنفسيةكماهو
التمغيبةأوال
ّ ّبينمنالعنوان،ومعأهميةهذهالداللةومركزيتها،إالأنغيرهامنالدال
تأتي إال عرضا ،إلى جانب إغفال المكونات الجمالية للمطلع والمتمثلة أساسا في
خصوصياتهاللغويةواألسلوبية.
وقديكونفيسحرالعنونةفيالقصيدةالعربيةالحديثة،ماصرفالنياتعنالبحث
فيمطلعالقصيدةالتراثية،السيمامعماجاءتبهالسميولوجيامنلفَتاتونظراتشدت
بهااالهتمامإلىالعنوان،واذاكانلكلقضيةأولكل"معنىنفيواثبات"كماقالالمعري،
فالمنتظر أن تلفت دراسة العنوان اهتمام الباحثين إلى دراسات مقارنة لمطلع القصيدة
قيمة أفادت في بعض جزئيات هذه
القديمة .وبالمناسبة يجب اإلقرار بوجود كتب حديثة ّ
الدراسةومباحثها،والمقصودبهاتلكالكتبالمخصصةللعنونةواالستهاللمنوجهةنظر
سميولوجية.
وذكرالمؤلفاتالسابقةواالمتنانألصحابها،يدعونيإلىإزجاءالشكرلكلمنكان
له فض ُل توج ٍ
يه أو تنبيه في إنجاز هذه الرسالة ،وعلى رأس هؤالء األستاذ الدكتور محمد
ز
منصوريالذيلميترددفيالتفضلباإلشرافعلىالرسالة،فلهجزيلالثناءعلىماقدمه
منتوجيهإلىمسالكالرسالة،وتسديدإلىمظانالبحث.
ح
ياضثناؤه ـ ـ ـ ــاتبغيالثناءعلىالحيافتفو ُ
ُ كيرائحةالر
َوَذ ُّ
ح
مـدخــــــــــــل
العصر العباسي:
لذلك لم يكد يمر على بزوغ شمسه قرن ونصف من الزمن ،حتى كان العرب والشعوب
التي اهتدت إلى اإلسالم أو استظلت بظله ،تدخل عهدا جديدا من الحضارة في هذا العصر،
مرو ار بأزمنة سابقة كانت روافد أساسية استمد منها مادته ،فكانت هذه الحقب كلها حلقات
يشد بعضها بعضا ،ومراحل يأخذ بعضها برقاب بعض ،في مسيرة قطع فيها هذا التحول
الحضاري محطات مختلفة ،بدءا من المدينة المنورة فدمشق ،فبغداد العاصمة السياسية
والحضارية لتلك الفترة التي قُ ّدر لها أن تكون مصبا جامعا لتلك الروافد ،بعد مرحلة جنينية
قدر لمكة المكرمة أن تكون الرحم التي تحتويها.
ّ
ومن هنا فليس من النظر السديد والمنهج المستقيم ،أخذ هذه األزمنة الحضارية أبعاضا
متفرقة مهما بلغت الحوادث السياسية التي وقفت فواص َل بينها شدة وتأزما ،ومهما كانت
قساوة الظروف التي واكبت االنتقال من السابقة إلى الالحقة منها ،ذلك أن هذا التدافع
والتغالب بينها إنما هو السطح الظاهر منها والذي هو دائما محل االصطخاب والهدير،
ووراء ذلك وتحته أعماق هادئة تتواصل فيها المسيرة الحضارية جيال بعد جيل.
ومن نافلة القول أن ثمة عوامل تضاف إلى عامل الدين الجديد ،أدت إلى ذلك التطور
الحضاري الكبير ،منها عامل التثاقف مع اآلخر ،الذي جعل العصر العباسي ملتقى لثقافات
متنوعة المنازع مختلفة المشارب ،هي حصيلة اختالف األصول اإلثنية المكونة للبنية
41
المجتمعية فيه فقد ":كان من أثر اختالف السكان في المملكة اإلسالمية ،وانتسابهم -من
حيث أصولهم – إلى أمم مختلفة[ ]...أن انتشرت في المملكة اإلسالمية ثقافات مختلفة ألمم
مختلفة [ ]...كان هناك لقاح بين الثقافات ،ونشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة ،تحمل صفات
من هذه وتلك ،وصفات جديدة لم تكن في هذه وال تلك ،وأصبح لها طابع خاص يميزها عما
سواها .وكما ك ان في المملكة اإلسالمية أمم مختلفة ،اشتهرت كل أمة بميزة ،كذلك امتازت
األمم المختلفة بميزات في العقلية ،تبعها ميزات في الثقافة ".1
والذي يعنينا هنا ،الثقافة األدبية التي كان تأثير الفرس فيها أظهر من تأثير غيرهم ،بل
استحالت الثقافة الفارسية أحيانا منفذا تعبر منه الثقافات األخرى إلى الثقافة العربية ،وحسبنا
أن نذكر هنا حكايات ( كليلة ودمنة ) ذلك األثر الخالد الذي عبر من األدب الهندي إلى
األدب العربي ،متخذا من الفارسية وسيطا بينهما .إضافة إلى كتب أخرى مترجمة ترجمة
مباشرة أو متأثرة بما في الثقافة واألدب الشرقيين ،السيما ما جاء من الفرس والهند والتي
" ...فيها من أدب شرقي فارسي أو هندي أكثر مما فيها من أثر يوناني .ففيها ِ
الح َكم عن
رج ِمهر أكثر مما عن أفالطون وأرسطو ،وفيها نظام الحكم الفارسي ال نظام
أردشير و ُبز ُ
الحكم اليوناني ،وفيها تصور للعدل وطبقات الناس ،كما يتصوره الفرس ،وفيها توقيعات
الملوك وقصصهم مع رعيتهم على النحو الفارسي ال النحو اليوناني ،وعلى الجملة فنفوذ
الفرس في األدب أكثر من نفوذ اليونان.2".....
كان من أثر هذه المثاقفة األدبية والحياة المدنية أن ترسخت فكرة الشاعر الصانع في
العصر العباسي ،ونقول ":ترسخت " ألننا ال نريد القفز على من ُعرف قبل هذا العهد من
شعراء كانوا ينصرفون إلى شعرهم انصرافا كليا ،يهذبونه ويعيدون فيه النظر ،غير واثقين
أحمد أمين :ضحى اإلسالم ،المكتبة العصرية ،صيدا – بيروت ،ط6002 ،4.م ،ج ،4.ص.436. 1
2
السابق :ص.682.
41
بالبديهة واالرتجال ،وهم الشعراء الذين أُطلقت عليهم تسمية عبيد الشعر ،ولقد كان بعضهم
يتحاشى عرض قصيدته على الناس قبل أن تمكث عنده حوال كامال يقلّب فيها وجوه الفكر.
ومن أشهر أولئك الشعراء زهير بن أبي سلمى الذي كان هو نفسه "يسمي ُك ْبر قصائده
الحوليات " ،1إشارة إلى ذلك الجهد الكبير الذي يبذله في تنقيح شعره وتحكيكه مدة طويلة
قبل إذاعته في الناس .
وقد أورد ابن قتيبة في مقدمته الرائدة لكتابه " الشعر والشعراء " أبياتا لشعراء سبقوا
العاملي
ّ الرقاع
دي بن ِّ
العصر العباسي ،يصرحون فيها بمذهبهم هذا في فنهم ،منهم َع ّ
وسويد بن ُك ارع ( ت401 .هـ ) ،فروى لألول قوله:
(ت51ه )ُ ،
2
اد َها قوم مْيَلها ِ
وسَن َ ٍ
وقصيدة قَ ْد بِ ُّ
َحتى أُ ِّ َ َ َ ت أَ ْجمعُ َش ْملَهـا
يم ثِقَافُهُ ُم َ
نآدهـَا ِ
َحتى ُيق َ وب قََناتِ ِه َنظَر المثَقّ ِ
ف في ُك ُع ِ
َ ُ
وللثاني:
3
ُص ِادي بِها ِس ْربا ِم َن الو ْح ِ
ش ُنزَعا أ َ اب القَ َو ِافي َكأَن َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
يت بِأَ ْبو ِ
أبِ ُ
َ
فأه َج َع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
يد ْون ُس َح ْي ار أَ ْو ُب َع ُ
َي ُك ُ أُ َكالِ ُئهَا َحتى أُ َعِّر َس َب ْع َد َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
يع َوأَ ْس َم َع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ِ ِ ان ِفي َن ْف ِسي َعَليهَا ِزَيـ َ
َفلَ ْم َأر إال أَ ْن أُط َ ـادةٌ َوقَ ْد َك َ
1
ابن قتيبة :الشعر و الشعراء ،تحقيق :أحمد محمد شاكر ،دار اآلثار ،القاهرة ،مصر ،ط ،6040 ،4.ج ،4.ص.77.
2
السابق ،ج ،4.ص.78-77.
3
السابق ،ج ،4 .ص.78.
42
أقوم ،المثقف ،الثقاف " ،تجعل منه شاعر صنعة
بت أجمعّ ،فألفاظ عدي بن الرقاعّ " :
يقضي ليله في جمع مواد قصيدته كأنه ّبناء يرصف الحجر إلى الحجر ،أو مثقف رماح ال
يفتأ يسلك قنواتها في الثقاف ،حتى يستقيم له ما اعو ّج من ُعقدها .كما تُظهر اكتراثه لمآخذ
النقاد الذين يعيبون عليه ما قد يشوبها من سناد.
وأبيات سويد هذه ،شاهد تاريخي وفني قوي لما كان للناقد أو المتلقي من سلطان على
النفوس حتى في تلك العصور المتقدمة ،ولِما كان يتمتع به من رهبة في صدور الشعراء،
خلو الشعر العربي القديم من المطوالت،
الدارس أمام قضية ّ
َ وربما أوقف معنى البيت األخير
أو ِّ
شحها فيه ،وهو ما انبنى عليه االفتقار إلى بعض الفنون الشعرية التي من جملة ما
أوضح عالقة هذا بـ" طاعة " الشعراء للنقاد
َ تعتمد عليه طول النفس الشعري كالمالحم ،و
القدماء الذين ينفرون من التطويل ،ويفضلون اإليجاز والتركيز ،جريا مع السنة في البالغة
العربية القديمة ،السيما ما تعلق منها بالشعر.
هذا األمر صحيح ،غير أن الصحيح أيضا أن الصناعة األدبية عموما والشعرية
خصوصا ،ازدادت رسوخا وشيوعا في العصر العباسي ،بفعل ما شهده من انقالب حضاري
شامل ،وتعقّد في حياته المدنية ،ونسيجه االجتماعي ،وتغير في الذوق العام ،فصار الشعر
المنمقة ،والثوب
ّ المنيف ،والحديقة
مظه ار من مظاهر الصناعةَ ،مثله في ذلك مثل القصر ُ
ال ُمو ّشى.
47
ويتصل بغلبة الصناعة على شعر هذه المرحلة ،التفنن المذهبي وتفاوت الشاعر الواحد
في فنون القول الشعري ،بما ال يكون من السهل معه الذهاب مذهب الذين يجازفون باختزال
مذاهب الفن الشعري في العصر العباسي في قطبية تقابلية ،طرفها األول أهل الصنعة
والثاني أهل الطبع ،جريا مع منطق الثنائيات الضدية الذي كثي ار ما يكون مظنة االختزال
المخ ّل.
ُ
والحق أن الدكتور محمد مصطفى أبا شوارب لم ُيبعد حين بنى كتابه (شعرية التفاوت)
على نقد هذه الفكرة ،يقول ":وربما سمح لنا ذلك كله بنفي فكرة النقاء المذهبي واإلخالص
المدرسي عند تناول شعر هذه المرحلة بالدرس والتنظير ،و ِ
اعتقاد فكرة تعدد االتجاه ،والتداخل
الفني أساسا لولوج عالم الشعر العباسي [ ]...واذا كان هذا االعتقاد يبدو في نظر الكثيرين
مخالفا لما درج عليه يقين أغلب الباحثين والدارسين من وجود مدارس فنية ذات مالمح ثابتة
أبرزها ،على ا ألقل ،مدرستا المحافظين من أهل الطبع ،والمجددين من أهل الصنعة فإن ما
يؤكد ذلك االعتقاد ،إضافة إلى ما طرح في الفصلين السابقين ،يسطع مع استقراء نصوص
هؤالء الشعراء أنفسهم ".1
ُيذكر أن الجاحظ جعل تفاوت الشاعر في فنه سببا لتفضيله وتقديمه على الشعراء
ومرد ذلك عنده أن الشعر الذي يأتي دائما على َسنن واحد
المعدودين مع أصحاب الصنعةّ ،
جميع شعره،
ِ تصنع ،وهو المفهوم من قوله ... ":وكذلك ُّ
كل من َجود في من الفخامة دليل ّ
أبيات القصيدة كلّها مستوية في
َ خرَج ووقف عند ِّ
كل بيت قاله ،وأعاد فيه النظَر حتى ُي ِ
1محمد مصطفى أبو شوارب :شعرية التفاوت مدخل لقراءة الشعر العباسي ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ،اإلسكندرية،
ط6007 ،4.م.
48
1
الجودة " ،وهو قول بناه على مقولة لألصمعي يقول فيها ":زهير بن أبي ُس ْل َمى ،والحطيئةُ
عبيد ِّ
الشعر".2 وأشباههماُ ،
أما مراوحة الشاعر بين الفخامة تارة ،والبساطة تارة أخرى فهي دليل على الطبع،
عبر القدماء عن تفاوت شعره
الجعدي الذي ّ قدم النابغةَ
سالم الشاعر قياده للموقف .لذلك ّوا ِ
ّ
وخمار بِو ٍ
اف " يقول ":وانما ال ّشعر المحمود كشعر ف بآالف ِط َر ٌ
بالعبارة االستعارية " ُم ْ
ٌ َ
وخمار بِو ٍ
اف ،وقد كان يخالف ف بآالف ِ
ط َر ٌ
ورؤبة ،ولذلك قالوا في شعرهُ :م ْ ِ
ٌ َ ي ُ الج ْعد ّ
النابغة َ
الرواة والشعراء ".3
في ذلك جميع ُّ
هذا إذا سلّمنا جدال بمقولة الطبع في الشعر ،واال فإن للدكتور شوقي ضيف رأيا
مشهو ار خالف به هذا التقسيم المتوارث بين الطبع والصنعة ،الذي صار في حكم القطعي
حتى إنه لم يفكر أحد في إعادة النظر فيه .وشوقي ضيف يقر بالصنعة ،ولكنه ينفي نفيا
صارما كفاية الطبع وحده في الفن عموما ،وهو ما عّبر عنه بقوله ... ":ورأيت أن هذا
التقسيم ال يقوم على أساس صحيح ،وما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن؟ .إن كل شعر
متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع .وهل هناك شعر ال
ٌ
يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه وموضوعاته ومعانيه؟ ".4
ويؤكد رأيه هذا داعيا إلى تصحيح تلك الفكرة بقوله ":أما الفكرة التي تذهب عندنا إلى
تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة ،والتي نرى امتدادها في العصر الحديث
فأكبر الظن أنها في حاجة إلى شيء من التصحيح.5"...
1
الجاحظ :البيان والتبيين ،تحقيق :عبد السالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي ،القاهرة6003 ،م ،ج ،6.ص.43.
2
السابق ،الموضع نفسه.
3
السابق ،الموضع نفسه.
4
شوقي ضيف :الفن ومذاهبه في الشعر العربي ،دار المعارف ،القاهرة ،ط ،43.ص.8-7.
5
السابق ،ص.60.
45
وهو رأي وجيه ،خصوصا إذا كان المقصود بالطبع االرتجا َل المطلق وعدم النظر
الفكري في عمل القصيدة ،وهي فكرة يمكن ردها بأن الشاعر أو الفنان تعميما يمكن أن
يكون له من المهارة والدربة ما يستطيع به أن يغطي كل أثر للصنعة ،ويوحي للمتلقي بأن
جبور عبد النور بعد عمله كان وليد البساطة والعفوية ،وفي هذا السياق ِ
يرد قول الدكتور ّ
تعريفه للعفوية ) ،(spontanéitéفيرى أنها كما تكون عن أصالة وطبع ،يمكن أن
ولكن المهارة التقنية تخفي معالم هذا الجهد،
ّ تكون"...ناجمة عن جهد عميق في التنفيذ،
وتُبرز األثر في بساطة آسرة ".1
لذلك يطرح الدكتور شوقي ضيف فكرته البديلة عن الطبع والصنعة ،في تقسيم ثالثي
فتصنع ،2مستندا
ّ تابع لمراحل تاريخية ،قطعها الشعر العربي من شعر صنعة إلى تصنيع
إلى أن هذا الشعر لم يشهد تطو ار واسعا في الموضوعات واألغراض األساسية ،وكل ما
ظهر فيه أثر التطور إنما هو جانب " الصناعة نفسها ،أي في الفن الخالص وما يرتبط به
من مصطلحات وتقاليد ".3
ولبشار بن ُبرد مع نقاده ،أخبار تؤكد فكرة التفاوت في مستويات التعبير عند الشاعر
ِ
مهرويه لبشار :إنك تجيء بالشيء الهجين المتفاوت ،بينما الواحد ،فقد ":قال خالّد بن
تقول شع ار يثير النقع ويخلع القلوب ،مثل قولك :
س أَ ْو ُن ْم ِط َر الد َما.4
اب الش ْم ِ ِ
َهتَ ْكَنا ح َج َ ض ِرية
ضَبة ُم َ
إِ َذا ما َغ ِ
ض ْبَنا َغ ْ َ
إذ بك تقول :
1
جبور عبد النور :المعجم األدبي ،دار العلم للماليين ،بيروت ،ط ،4581 ،6.ص.484.
2
شوقي ضيف :الفن ومذاهبه في الشعر العربي ،مرجع سابق ،ص.40.
3
السابق ،ص.7.
4في رواية ":أو تُ ِ
مطر ِّ
الد َما " ،ينظر :أبو الفرج األصفهاني :كتاب األغاني ،دار الثقافة ،بيروت ،لبنان ،ط4583 ،2.م،
ج ،3.ص.412 .
60
ب الخل ِفي الـزْي ِت
ص ُّ
تَ ُ
ربابةُ ربةُ البيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
ـت ََ َ َ َ ْ
ك َح َس ُن الص ـ ـ ـ ـ ْو ِت
َوِدي ٌ لَها ع ْشر َدجاج ٍ
ات َ َ ُ َ َ
فقال له بشار ٍّ :
لكل وجهٌ وموضع ،فالقول األول جد ،وهذا قلته في جاريتي ربابة ،وأنا
ال آكل البيض من السوق ،وربابة تجمع لي البيض ،فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع
البيض ،فهذا عندها أحسن من " قفا نبك " ولو أنشدتها من النمط األول ما فهمتْه ".1
ومثله ما أورده الحصري من تعقب بعض الناس لشعره بسبب هذا التفاوت ،فكان أن
أجابه بقوله ":إنما الشاعر المطبوع كالبحر :مرة يقذف صدفة ،ومرة يقذف جيفة ".2
من الواضح إذا أن هذا التفاوت عند الشاعر الواحد كان حقيقة واقعة في العصر
العباسي ،و أنه كان من الشيوع بحيث ش ّكل ظاهرة استرعت االنتباه .إضافة إلى كونه منحى
فنيا ،يعمد إليه الشاعر عن وعي ،حتى ليجادل عنه ويبرره ،وليس مرده ضعفا في السليقة
واجباال في القريحة ،ولكنه جنوح الشاعر العباسي – عموما -إلى الواقعية في التعبير
والتوجه إلى جمهور المستمعين بما يناسب مقاماتهم.
وشعر بشار في جاريته ربابة ،يشير إلى اتجاه جديد بدأ الشعر العباسي في هذه
المرحلة يمد فيه رواقه ،والمقصود به الشعر الشعبي .والحق أننا لن نتحدث عن تجديد جذري
شهده العصر العباسي هنا ،إذا عنينا أن أفق األدب العربي في العصور السابقة لم َي ْخ ُل من
بعض ومضات الشعر الشعبي وبوادره على األقل ،بما في ذلك العصر الجاهلي ،السيما إذا
1
بشار بن برد :الديوان ،تحقيق :محمد الطاهر بن عاشور ،دار سحنون ،تونس/دار السالم ،القاهرة ،ط6008 ،4.م ،ج،4.
ص.57-52 .
2
الحصري :زهر اآلداب وثمر األلباب ،شرح صالح الدين الهواري ،المكتبة العصرية ،صيدا – بيروت6001 ،م ،ج،4.
ص.675.
64
استقرينا المعاني الجزئية في شعر الصعاليك الناطق بالثورة والسخط على بعض أنماط الحياة
االجتماعية ،والحديث بلسان الفقراء والخلعاء.
وربما أشكل على هذا ،رأي إيفالد فاجنر الذي أجمله بقوله ... ":ونظ ار ألن الشعراء –
وان لم يصدروا عن األرستقراطية -قد توافقوا مع إيديولوجيا ال يمكن أن تنشأ إال في
األرستقراطية فإنه ال يمكن أن يوصف الشعر العربي القديم بأنه شعر شعبي .1"...
غير أن صاحب هذه الرأي يبقى مطالبا بمفهوم " الشعر الشعبي " عنده ،أو عن الحد
األدنى من الخصائص الفنية والمضمونية الواجب توفرها فيه .فإن كان يقصد به شع ار قائما
كرسوا فنهم له ،كان في
على قصائد مخصصة وظواهر اجتماعية معقدة ،وشعراء معروفين ّ
خلو شعر المراحل السابقة من كل أثارة منه،
ذلك رجاء موافقته عليه ،أما إذا كان يقصد ّ
فذلك محل للخالف مشروع ،إذ ال نعدم توارد موضوعات من الشعر الشعبي عند الشاعر
الجاهلي تأتي ولو عرضا في ثنايا القصائد .غاية ما هناك أن الطابع القبلي كان أغلب
صوت المجتمع
ُ عليه ،إذ كانت قضايا القبيلة عند الشاعر هي " قضايا الشعب " ،وظل
األشد تعقيدا من حياة القبيلة ،مبحوحا واالستماع إليه مؤجال إلى عصر الحق،
ُ وقضاياه
يتعقد فيه نسيج المجتمع وتتأزم قضاياه أكثر.
فليس من الغلو الذهاب إلى أن " الشعر العربي دائما كان موصوال بالشعب ،اتصل به
في العصر الجاهلي .فقد كان الشاعر وشعره صورة لقبيلته ،وظلت له هذه الصلة في
العصر األموي ،وان تحولت أحيانا من الشعور القبلي إلى الشعور الجماعي.2" ...
1
إيفالد فاجنر :أسس الشعر العربي الكالسيكي ،الشعر العربي القديم،ترجمة :سعيد حسن بحيري ،مؤسسة المختار ،القاهرة،
ط ،6008 ،4.ص.70.
2
شوقي ضيف :تاريخ األدب العربي ،دار المعارف ،القاهرة ،ط ،4571 ،6.ج ( 1.العصر العباسي الثاني ) ،ص– 155.
.100
66
لذلك ال يلبث إيفالد فاجنر أن يستدرك على رأيه السابقُ ،م ِق ار بوجود مظاهر منه حتى
ولكن هذا ال يعني أن الشاعر لم يتوجه إال إلى جمهور
ّ في العصر الجاهلي بالقول ... ":
أرستقراطي ،ألن المعايير التي أُنشئت في األرستقراطية من المؤكد بوجه عام أنه قد اعترف
البدو بأنها نموذجية ،وم ن هذه الناحية وجدت للبدوي غير المنتمي إلى الطبقة العليا إمكانية
االتحاد ( التماهي ) .وهكذا يمكن من جهة التلقي التحدث عن شعر شعبي ".1
توسم،
ومع إطاللة العصر العباسي األول ،بدأت مالمح هذا االتجاه تتميز وقسماته تُ ّ
مع تواري صوت القبيلة الذي ميز سحناءه في العصور السابقة ،إذ " ...أخذ يغلب الشعور
بالروح الجماعية ويقل الشعور بالروح القبلية " ،2ومع مضي الزمن وظهور المجتمع الجديد،
وقيمه المجتمعية وأنماطه المستحدثة ،وتعقد قضاياه وتأزمها وحلول العصر العباسي الثاني
" ...نضب هذا الشعور جدا بينما ظل الشعور بالروح الجماعية حيا مشتعال ".3
كل أولئك كان إيذانا بحدوث تحول ملحوظ في الحساسية الشعرية لهذا العصر ،كان
4
،فقد سئل من حملة لوائه بشار بن برد ( ت428.هـ ) كما رأى ذلك -بحق – أودنيس
":بم فقت أهل عمرك وسبقت أعل عصرك ،في حسن معاني الشعر ،وتهذيب ألفاظه ؟ فقال:
ألني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ،ويناجيني به طبعي ،ويبعثه فكري ،ونظرت إلى
مغارس الفطن ،ومعادن الحقائق ،ولطائف التشبيهات ،فسرت إليها بفهم جيد ،وغريزة قوية،
فأحكمت سبرها ،وانتقيت ُح ّرها ،و كشفت عن حقائقها ،واحترزت من متكلفها وال واهلل ما ملك
اإلعجاب بشيء مما آتي به ".5 قيادي قطُّ
ُ
1
إيفالد فاجنر ،أسس الشعر العربي الكالسيكي الشعر العربي القديم ،مرجع سابق ،ص.70.
2
شوقي ضيف :تاريخ األدب العربي ،مرجع سابق ،ص.100.
3
السابق :الموضع نفسه.
4
أدونيس :ديوان الشعر العربي ،المكتبة العصرية ،صيدا – بيروت ،ط4521 ،4.م ،ج ،6.ص.6 – 4 .
5
االحصري :زهر اآلداب وثمر األلباب ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.412.
63
التحول في سير الشعر العربي، ّ يستخلص أدونيس من هذه اإلجابة بعض عالمات
فنا ،فقد صار الشاعر العربي يومذاك مشغوال بهاجس كيفية التعبير، أن الشعر صار ًّ
منها ّ
أن
يعد يرضى بك ّل ما تُلقيه إليه بديهته ،ومنها ّ
إضافة إلى هاجس التعبير نفسه ،بما ّأنه لم ُ
خاصية
ّ أن للشعر – باعتباره ًّ
فنا - الشعر صار نظ ار في الحقائق أي صار موقفا ،ومنها ّ
وجدة.1
المستمر ،والتطلّع إلى آفاق أكثر اتّساعا ّ
ّ جوهرية هي التجاوز
والالفت للنظر في إجابة بشار تصديره كل جملة تقريبا بلفظ دال على التحول " إلى
الصناعة الشعرية " كما ذكر آنفا ،مثل (نظرت ،أحكمت ،انتقيت ،كشفت ،احترزت) فالنظر
واإلحكام واالنتقاء واالحتراز ،من عمل الصانع الماهر ،وصاحب الحرفة المتخصص الذي
يثق بالمعاودة والجهد ،وال ُي ْسلم نفسه لتلقائية الهواة ،ولما تسمح به الخاطرة في أول األمر،
بل هو دائم النظر في ما يأتي ،متحفظ ال يسمح لإلعجاب ببديهته أن يتقدم صناعته .كما
الناظر في هذه اإلجابة -إضافة إلى ما سبق – لفظُ " كشفت " التي ال شك أنها
َ يستوقف
تقع موقعا حسنا من أسماع الرمزيين الذين طالما ألحوا على أن الشعر كشف ال وصف.
2
العباسي على التساؤل الذي اختاره أدونيس
وعموما قامت الرؤية الشعرية في العصر ّ
ألح على هذا العصر حول صالحية عنوانا لهذه المرحلة من سيرورة الشعر العربي ،تساؤل ّ
ومشروعية استم ارره إلى ذلك العهد.
ّ الموروث الشعري
ونظرة عاجلة في قصائد بعض الشعراء ،تنطق بمصداقية ذلك العنوان الذي وسم به
المعبرة عن هذه الوجهة طابع
ّ أدونيس الرؤية الشعرية في تلك الفترة .فكثي ار ما أخذت أبياتهم
ممن حبسوا أنفسهم في مداها الذي
التقليدية ،والعجب ّ
ّ االستفهام الممتزج باإلنكار على الرؤية
الطللية الغز ّلية أبرز ما
ّ المقدمة
ّ التحوالت المتالحقة .وكانت
تغيرات و ّ
الم ّ
ضاق عن استيعاب ُ
1
أدونيس :مقدمة للشعر العربي ،دار العودة ،بيروت ،ط4574 ،4.م ،ص.1.
2
السابق :ص.37
61
أثار التساؤل من بين ك ّل العناصر الم ِّ
شكلة لبنية القصيدة العربية القديمة ،فجاءت تساؤالتهم ُ
بارز
طلق الثورة على هذا االلتزام الشعري بأبيات استحالت َم ْعلَما ا
تَتْرى بدءا من أبي نواس ُم ْ
في هذه السبيل مثل قوله:
1
َس ِد؟ ِ
ك ُق ْل لي َم ْن َب ُنو أ َ
الَ َدر َد ُّر َ أس ٍد ِ
الح ِّي من َ
قَالُوا َذ َكر َ ِ
ت دَي َار َ ْ
وقوله:
إن اإلنكار على السماع هنا واضح ،واذا علمنا مقدار ما كان للسماع من عناية عندّ
أسسوا عليه أخطر العلوم والفنون وأجلّها ،كأصول الفقه وأصول النحو -
القدماء – حتّى لقد ّ
ولكنها قطعا لم تكن
الضجة التي يمكن أن تثيرها في حينهاّ .
ّ علمنا خطورة هذه الدعوة ومدى
فج عميق ،فقد واكبت دعوات صارخة كلّها ثورة على القديم ،في عصر
صيحة معزولة في ّ
مرور
ا تجت فيه الحياة العربية وهي تخوض ُمنقلبا نقلها من بداوة الحجاز إلى مدنية العراق،
ار ّ
بالشام الذي كان منزلة وسطى بينهما ،ش ّكلت تطلّعا إلى الحياة الجديدة في أكناف بغداد
القائمة على أنقاض المدائن حاضرة ملوك الفرس ،فلم تزل روح أكاسرتهم تسري في جسد
العباس.
كثير ما احتذاه خلفاء بني ّ
الم َد ّنية الجديدة ،ونمط معيشتهم مثال وسلفا ا
َ
المستجدة ،فلئن كان أبو
ّ العام الوليد في البيئة
لذلك لم تشذ الثورة النواسية عن النسق ّ
األول من دولة العباسيين ،لقد تابعه
نواس هو األسبق واألج أر على إعالن ذلك في العصر ّ
المتنبي وهو في العصر الثالث بقوله:
ّ
1
يح َقا َل ِش ْع ار ُمتَي ُم؟
ص ٍأَ ُك ُّل فَ ِ المقَد ُم
يب ُ
ِ
إِ َذا َك َ
ان َم ْد ٌح فَالنس ُ
1
أبو نواس :الديوان ،تحقيق :أحمد عبد المجيد الغزالي ،دار الكتاب العربي ،بيروت ،لبنان ،ط6003 ،4.م .ص.11.
2
السابق :ص.21 .
61
مما هو عند الشاعر
حدة ّ
فاالعتراض هو نفسه بصيغة التساؤل ذاتها ،وان كان أق ّل ّ
حدة
أضفت على نبرة التساؤل ّ
األول ،إذ هو عند أبي نواس ُم ْشبعٌ بشعوبيته المعهودة التي ْ
ّ
وفنية ،في حين كان
البغضاء واالحتقار للروح العر ّبية ،وما يتّصل بها من أنماط ثقافية ّ
المفعم عروبة الناقم على تسلّط العجم
المتنبي نابعا من واقعية شعرّية ،وهو الشاعر ُ
ّ اعتراض
على العرب.
فقد اجتمع الشاعران كالهما عند عدم القبول بالموجود واالشرئباب إلى المأمول ،وهو
ما يعطينا ملمحا من مالمح االتّجاه الشعري في ذلك العصر ،أال وهو الواقعية واآلنية .فهي
المتضمنة للبعدين الزماني والمكاني.
ِّ دعوة إلى المعايشة
1
المتنبي :الديوان بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان ،دار الفكر ،بيروت ،لبنان6040 ،م ،ج،3.
ص.310 .
2
أبو نواس :الديوان ،مصدر سابق ،ص.23 .
3
المتنبي :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.310 .
62
المقدمة
وعلى قدر ما حملت تلك األبيات من معنى االستفهام والتشكيك في سلطة هذه ّ
ومشروعيتها ،كانت احتجاجا على الموقف السابق الذي اصطبغ بالقبول 1والطمأنينة إلى
ّ
المقررات السابقة.
ّ
1
أدونيس :مقدمة للشعرب العربي ،مرجع ،سابق ،ص.43
2
السابق :ص.11
3
أبو القاسم اآلمدي :الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري ،دار المعارف ،القاهرة ،ط ،1.ج ،6.ص.45.
4
بطرس البستاني :أدباء العرب ،دار الجيل ،بيروت4585 ،م ،ج ،6.ص.440.
5
نازك المالئكة :ديوان شظايا ورماد ،دار العودة ،بيروت ،ط ،4575 ،6.ص.40 – 5 .
67
يلخص ذلك كله نظرة الشاعر العباسي إلى طبيعة اإلبداع الشعري ،والتي كانت نظرة
نفس ثوري مواكب للثورة السياسية التي صحبت قيام الدولة العباسية .فبعيدا
مستجدة ذات َ
عن االختالف في مدى استجابة الواقع الشعري نفسه في ذلك العصر لتلك النظرة تقدما أو
تأخرا ،بسبب دفاع النمط القديم عن كيانه ،كانت تلك النظرة – عند النابهين من الشعراء
العباسيين على األقل – مؤسسة على أن " اإلبداع ،أصال ،هو خروج على المعيار وليس
التزاما به ".1
لقد آمن أولئك المناهضون للقديم كأبي نواس بأن " ...المعيار ،بما هو صفة لصيقة
للمرجعية أو المحافَظة ،ليس في الشعر والنقد وحسب ،بل في الثقافة عموما ،لم يكن بمنأى
عن التجاوز .لقد حدث ذلك في االتجاهات الشعرية منذ العصر العباسي على أيدي مجموعة
من الشعراء من أمثال أبي العتاهية ،وأبي نواس ،وبشار بن برد وابن الرومي ،وأضرابهم ...
وهكذا كان الشعراء الذين يمثّلون صفة المرجعية في الشعر سرعان ما يتم تجاوزهم على
أيدي الشعراء الالحقين ".2
1
بسام قطّوس :اإلبداع الشعري وكسر المعيار( رؤى نقدية ) ،مجلس النشر العلمي ،جامعة الكويت ،الكويت ،ط،4.
6001م ،ص.43.
2
السابق :الموضع نفسه.
3
حسن إبراهيم أحمد :أبعاد النص النقدي عند الثعالبي مقدمة نظرية ودراسة تطبيقية ،الهيئة العامة السورية للكتاب ،و ازرة
الثقافة ،دمشق6007 ،م ،ص.426.
68
وكان من ثمرات ذلك النضج والتعمق بروز الميل إلى التخصص ،فظهرت كتب نقدية
خاصة دون النثر .ككتاب " طبقات فحولّ وقفها أصحابها على نقد الشعر وتصنيف الشعراء
الجمحي (ت636.هـ) الذي كان " نواة لظهور ّأول مدرسة نقدية منهجية
الشعراء " البن سالّم ُ
في تاريخ النقد عند العرب ،وكان ابن سالّم ّأول شيخ من شيوخها " ،1وكتاب " الشعر
والشعراء " البن قتيبة (ت672 .هـ).
الحس النقدي
ّ قيمة في نقد الشعر ،تشهد بنضج
بمقدمة ّ
صدر المؤلّفان كتابيهما ّ
وقد ّ
مقدمة كتاب الشعر والشعراء التي كشف
ومواكبته للرؤية الشعرية في ذلك العصر ،خصوصا ّ
ثم تناول أقسام الشعر من منظور اللّفظ
فيها ابن قتيبة بوضوح عن منهجه في الدراسةّ ،
ثم ذكر عيوب الشعر مرّك از فيها على
والمعنى الذي غلب على المناحي النقدية قديماّ ،
بأنه
األولي للشعر نفسه ّ
الجانب العروضي وتخصيصا عيوب القافية ،بناء على تعريفهم ّ
الكالم الموزون المقفّى.
1
حسن عبد اهلل شرف :النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سالّم ،دار الحداثة ،بيروت ،ط4581 ،4.م،
ص.8.
65
ويتجلى ذلك في دفع الشعراء إلى تجويد مقدمات قصائدهم ومطالعها ،لكون مقدمة القصيدة
هي الجزء الذي ُيتغنى به – غالبا – ومحل الترديد والترجيع والتوقيع.
ولعلنا ال نتجافى عن الحقيقة إذا زعمنا أن كثي ار من شعراء ذلك العهد ،كانوا يتعمدون
تجويد مطالعهم ومقدمات قصائدهم ،وصب أكبر قدر من الطاقة الفنية فيهما ،السيما الطاقة
َ
المغنين ،واغواء لهم حتى يتخذوا منها مادة لغنائهم ،وأصواتا
ّ الموسيقية ،لفتا ألنظار كبار
المغني بدأ يحل بذلك
ّ يروجون بها تلك القصائد في المقاصف ومجالس اللهو والسمر .وكأن
ّ
محل راوي الشاعر الذي يحمل عنه عبء نشر قصائده ،واذاعتِها في الناس.
فإذا كان من الثابت أن الغنا ء بدأ يفسح لنفسه مساحة في العصر األموي السابق ،فإن
أوجه تأثيره في الفن الشعري إنما ظهرت جليا في العصر العباسي ،إذ " انتقلت موجة هذا
ُ
الغناء في أواخر العصر األموي إلى الكوفة ،حتى إذا كان العصر العباسي األول بلغت في
صفّيت لغة الشعر وبلغت كل ما
حدة وقوة ،فمن جهة ُ
مدن العراق كل ما كان ُينتظر لها من ّ
يمكن من رشاقة وعذوبة ونعومة [ ] ...ومن جهة ثانية اتسعت المالءمات الموسيقية
العروضية مع الغناء .1" ...
ولئن كان هذا التطور مصحوبا بالعناية بابتداءات القصائد ،والبحث في جمالياتها عند
توجههم باالعتناء صوب أجزاء
منبها لنفر منهم إلى ّأكثر النقاد والبالغيين ،لقد كان ذلك ّ
أخرى من القصيدة والتنقيب في جمالياتها .كعنايتهم بجودة القطع ،إما سعيا منهم إلى فتح
باب جديد للنظر النقدي ،واما تضايقا من إهدار هذه الجوانب والتضحية بها في سبيل جودة
االبتداء ،وهو الشعور الذي قد توحي به صياغة العبارة التي رواها الجاحظ عن شبيب بن
شيبة في قوله ":الناس موكلون بتفضيل جودة االبتداء ،وبمدح صاحبه ،وأنا موكل بتفضيل
1
شوقي ضيف :تاريخ األدب العربي ،مرجع سابق ،ج :3.العصر العباسي األول ،ص.53.
30
جودة القطع ،وبمدح صاحبه .وحظُّ جودة القافية وان كانت كلمة واحدة ،أرفعُ من حظ سائر
البيت ".1
وسواء أبأول القصيدة كان االحتفاء أم بآخرها ،فإن كل ما سبق يشهد بتطور الذوق
الجمالي عند الشاعر والناقد في العصر العباسي .وبحدوث انعطاف في الحساسية الجمالية
الشعرية .وكان من نتائج ذلك أن انفتحت للشعرية العربية آنذاك منافذ كثيرة ،أطلت بها على
آفاق أوسع ،فطمحت إلى قضايا فنية لم يتسع لها مجال الرؤية الشعرية في العصور
السابقة.
فبعيدا عن التشقيقات واالشتقاقات التي تولدت عن مفهوم " الشعرية " في العصر
الحديث -وهو المفهوم الذي يذهب بعض الدارسين إلى تلخيصه في كونه " قوانين الخطاب
األدبي " -2يمكن مالحظة أن نقاد العصر العباسي طرقوا مباحث ،وخاضوا في خضم
قضايا نقدية وتنظيرية ،هي من صميم بحوث الشعرية المعاصرة ،ومن أدق القضايا األثيرة
عند روادها وآبائها المؤسسين.
واذا كان المجال هنا غير متسع وال مناسب لبسط هذه القضايا واالهتمامات ،فإنه يكفي
داللة على ذلك ،التوجهُ اللغوي والبالغي الذي تميز به النقد العربي القديم وهو يخطو
خطواته األولى نحو الظهور ،ثم نحو التميز والتأصيل في مراحل الحقة .فلقد كانت اللغة
والبالغة هي المنبع الذي صدرت عنه غالب المصنفات النقدية في ذلك العصر .ومعلوم أن
ذلك هو المنزع الذي نزعت إليه الشعرية في العصر الحديث.
1
الجاحظ :البيان والتبيين ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.446.
2
حسن ناظم :مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في األصول والمنهج ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت ،ط،4.
6003م ،ص.44.
34
لقد انشغل النقاد والمنظرون المعاصرون – وما يزالون منشغلين – بالشعرية ،متفقين
أحيانا حول قضاياها وأصولها ،ومختلفين أحيانا حول عالقاتها وامتداداتها وتداخالتها .ولكن
حتى في خضم ذلك االختالف يظل االتفاق قائما على أن غاية الشعرية القصوى هي
محاولة وضع اليد على ذلك اإلكسير الذي يهب الخطاب الشعري فرادته وتميزه " ...ال
بوصفه نصا ...بل بوصفه جامعا للخصائص الضرورية لكل نص أدبي .1" ...
ومعنى ذلك أن صدر الشعرية متسع لتبني أغراض ،واحتضان فنون خارجة عن الشعر
بمفهومه التجنيسي الموروث ،القائم على النظرة السطحية إلى القالب الخطي والموسيقي الذي
صيغت فيه التجربة الفنية .فالنثر الفني – بكل فنونه وأنواعه -صار مجاال للشعرية تقلّب
الفكر في خصائصه الجمالية ،وتؤصل لمقوماته األسلوبية .وهو ما لم يعزب عن كثير من
النقاد والبالغيين العرب القدماء.
غير أن المرجح أن أولئك النقاد لم يبحثوا جماليات النثر الفني تحت مسمى "الشعرية"،
فمع اإلقرار بـأن" ...الجهود المبذولة من ِقبل النقاد العرب نحو استخالص قوانين عامة
تضبط الشعر والنثر معا كانت موجودة ...لكنها لم تكن مقصودة بمصطلح الشعرية ،ألن
أصح كان ذلك
ّ هذا المصطلح عند العرب القدامى كان يشير إلى قوانين الشعر ،أو بمعنى
عند أغلب النقاد العرب .2" ...
والناتج الالزم من طرفي القضية السابقة ،هو أن المباحث المتعلقة بمقومات النثر الفني
في تراثنا النقدي والبالغي ،يجب أن تُلتمس تحت تسميات ومصطلحات أخرى غير الشعرية.
النظم " عند عبد القاهر الجرجاني ،الذي -وانطالقا من مفهوم النظم
َ قد تكون تلك التسمية "
1يوسف إسكندر :اتجاهات الشعرية الحديثة األصول والمقوالت ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط6008 ،6.م ،ص.16 .
امحمد العماري :مفهوم الشعرية واتجاهاتها ،مجلة الحكمة ،مؤسسة كنوز الحكمة ،األبيار ،الجزائر ،العدد6044 ،2.م،
ْ 2
ص.10 .
36
... " -أحسن التنظير لقوانين الخطاب األدبي دون االقتصار على وجودها في الشعر
لوحدها بل باعتبارها قوانين مشتركة في سائر أجناس األدب ،أي ما يقابل مصطلح
الشعرية.1" ...
بل لقد الحظ الدكتور حسن ناظم أن حازما القرطاجني كان يؤسس لمفهوم في
بمصنف كامل هو " منهاج ّ الشعرية ،جامع لخصائص تنطبق على الخطابين كليهما ،وذلك
عد عالمة فارقة في تاريخ النقد العربي القديم.
البلغاء وسراج األدباء " ،ذلك الكتاب الذي ُي ّ
وكانت مالحظته تلك خالصة لقراءته نص القرطاجني الذي يقول فيه ... ":فما كان من
عد قوال شعريا .2" ...فقد
األقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو ُي ّ
ذكر الدكتور حسن ناظم صراحة أن حازما – بهذا المنحى ... " -ال ينفي إمكانية اشتمال
األقوال النثرية على شعرية ما ،من خالل التخييل والمحاكاة .3" ...
وهي قراءة مشروعة ال تتعارض مع ظاهر نص حازم ،بل إن عنوان الكتاب نفسه
يتسع ليشمل النثر ،ويدخله في قصدية كاتبه ،ذلك أن هذا العنوان إنما هو " منهاج " للبلغاء
قاطبة ،و" سراج " لألدباء كافة .وربما كان هذا سببا في قلة ركون صاحبه إلى التنظير
العام ،والتقليل من الشواهد الشعرية ،وهي الظاهرة البارزة التي اشتكاها كثير من دارسي
الكتاب ومنتقديه .زيادة على السبب األصلي في التقليل من تلك الشواهد ،والمتمثل في أن
حازما في كتابه هذا – كما يرى الدكتور محمد الكتاني في تقديمه لكتاب " ظاهرة الشعر عند
حازم القرطاجني " -كان " ...متفلسفا أكثر منه ناقدا ألنه كان ينزع ...إلى األخذ
بالكليات والقوانين العامة ،بعد أن وقف النقاد العرب قبله دون بلوغ الرؤية الشمولية لظاهرة
1
السابق :ص.13 .
2
حازم القرطاجني :منهاج البلغاء وسراج األدباء ،تحقيق :محمد الحبيب بن الخوجة ،دار الغرب اإلسالمي ،بيروت ،ط،6.
4584م ،ص.27 .
3
حسن ناظم :مفاهيم الشعرية ،مرجع سابق ،ص.16 .
33
1
ظر إذا جعل همه إرضاء المنطق ونزع نزوع
الشعر العربي " .وال شك أن الناقد أو المن ّ
الفالسفة " ...فإن األمثلة الشعرية لم تكن لتسعفه أحيانا كثيرة ".2
و ّأيا يكن الجهاز المصطلحي الذي تناول به نقادنا القدماء النثر الفني ،فإن النقد العربي
حيز أوسع للنثر ،ويوجه عنايته إلى بعض في العصر العباسي لم يجد مناصا من إفساح ّ
فنونه ،بعد أن فرض النثر وجوده في هذا العصر ،لدواع حضارية وفكرية فرضها واقع
عد الوجه األنسب
التمدن المستجد " على اعتبار أن النثر بطبيعة بعض أجناسه الكتابية ُي ّ
للحضارة التي بدأت تُلقي بظاللها على المجتمع العربي منذ بزوغ اإلسالم ".3
1محمد الحافظ الروسي :ظاهرة الشعر عند حازم القرطاجني ،دار األمان ،الرباط ،المملكة المغربية ،ط6008 ،4.م ،ج،4.
ص.40 .
2محمد أديوان :قضايا النقد األدبي عند حازم القرطاجني ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط ،المملكة المغربية6001 ،م،
ص.43.
عمان6005 ،م ،ص.47.
3مصطفى البشير قط :مفهوم النثر الفني وأجناسه في النقد العربي القديم ،دار اليازوريّ ،
31
وقد تفطنوا إلى هذه المسألة مدفوعين بحس نقدي أصيل ،ومران أدبي طويل ،وذلك
قرونا قبل تبلورها في ما يعرف اليوم بـ" تداخل األجناس " ،وربما كانت عبارة أبي سليمان
المنطقي التي أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه " المقابسات " أوضح ما يحمل تلك
خف وال حال وال طاب وال تحال.
القناعة إذ يقول ... ":في النثر ظل من النظم ولوال ذلك ما ّ
وفي النظم ظل من النثر ولوال ذلك ما تميزت أشكاله ،وال عذبت موارده ومصادره ،وال
اختلفت بحوره وطرائقه ،وال ائتلفت وصائله وعالئقه " .1و هي العبارة التي أورد ما يشبهها
في مصنفه اآلخر " اإلمتاع والمؤانسة " ،والتي جاء فيها أن ":أحسن الكالم ما رق لفظه،
ثر كأنه نظم .2" ... ولطف معناه ،وتألأل رونقه ،وقامت صورته بين ٍ
نظم كأنه نثر ،ون ٍ
1
أبو حيان التوحيدي :المقابسات ،تحقيق :محمد توفيق حسين ،دار اآلداب ،بيروت ،ط4585 ،6.م ،ص.457 .
2
أبو حيان التوحيدي :اإلمتاع والمؤانسة ،مؤسسة الكتب الثقافية ،بيروت ،ط6002 ،4.م ،ص.611 .
31
الباب األول
شعرية التموقع
تمهيد
الفصل األول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
المطلع
تـمهيــــــــــــــــــد
أما اصطالحا فتختلف صيغ تعريف البنية ،لتلتقي عند مفهوم عام يتلخص في كونها
ذلك الكل المركب من مجموعة العناصر المتضايفة والمتضامة ،التي يؤدي كل عنصر منها
َّ
للمركب وظيفته تبعا لموقعه ،ويستمد مشروعية وجوده من عالقته بسائر العناصر ،ليتحقق
انسجامه وكينونته بحيث يصح أن يطلق عليه لفظ بنية أو بناء .وهذه هي القناعة نفسها
التي نلمسها في قول الدكتور علي مراشدة ":واذا ما رحنا نحاول البحث عن تعريف محدد
اجه بالعديد من التعريفات التي مهما تباينت ،فإنا تلتقي عند كونها نظاما
للبنية ،فإننا سنو َ
يفسر ائتالف العناصر المكونة للعمل موضع العناية ".3
والحق أن المعنى االصطالحي ظاهر العالقة بالمعنى اللغوي الذي ّبينه صاحب
اللسان ،استنادا إلى ابن األعرابي في معنى البِنية أخذا بلغة الكسر ،ذلك أن هذه الصيغة في
األصل هي للداللة على الهيئة ،وبتعبير آخر " الكيفية " كما جاء في تعريف البنية عند
1ميىن العيد :يف معرفة النص دراسات يف النقد األديب ،دار اآلداب ،بريوت ،ط9111 ،4.م ،ص.44.
2ابن منظور :لسان العرب ،دار صادر ،بريوت ،ط9111 ،6.م ،ج ،94.مادة ( بين ).
3
عمان /عامل الكتاب احلديث ،إربد ،األرد ّن،
علي مراشدة :بنية القصيدة اجلاهلية دراسة تطبيقية يف شعر النابغة الذبياين ،جدارا للكتاب العامليّ ،
ط6006 ،9.م ،ص.90.
38
بعض الدارسين ،يقول الدكتور الزواوي بغوره ":تعني البنية الكيفية ،التي تنتظم بها عناصر
مجموعة ما ،أي أنها تعني مجموعة العناصر المتماسكة فيما بينها ،بحيث يتوقف كل
عنصر على باقي العناصر األخرى ،وبحيث يتحدد هذا العنصر بعالقته بتلك العناصر".1
والذي يستفاد من جميع الصيغ المختلفة في تعريف البنية اصطالحا ،إجماعها على
تقديم مقولة العالقة على مقولة الجوهر ،بل لقد صارت العالقة هي العنصر األساسي في
تحديد معنى البنية " ،فالبنية مجموعة العالقات القائمة بين عناصر النظام " ،2على أن ُيفهم
أن البنية في النهاية كينونة جديدة ،لها حقيقة مستقلة هي من التعقد بحيث ال يمكن الوقوف
بردها إلى عناصرها األولى التي تشكلت منها ،وال التعرف عليها بمعرفة كل عنصر
عليها ّ
على ِح َدة .
ومن ههنا وجب الحذر " من أن نخلط بينها وبين مجرد تجمع العناصر التي تتكون
منها المادة أو اآللة أو الجهاز العضوي الحي .3" ...ولعل من المناسب هنا االستعانة
بتمثيل الدكتور محمد مندور لهذا المعنى في دعوته إلى تحكيم الذوق في المنهج النقدي
التأثري ،يقول ... ":فلو أن كيماويا حلل شرابا ما إلى عناصره األولية ،وأتاك بنِسب تلك
العناصر ،بل إننا لو افترضنا جدال أنك تعرف طعم كل عنصر من هذه العناصر المنفردة،
ثم حاولت أن تتصور أو تدرك طعم هذا الشراب المركب لما استطعت ،وذلك ألن كل مركب
تتولد له خواص غير متوفرة في العناصر المكونة له .4"...فكذلك البنية في النهاية كائن
مستقل عن الخصائص المنفردة للعناصر التي دخلت في تشكيله.
اغما فزع
وقد يكون من المفيد اإلشارة إلى أن البنية في العصور المتأخرة ،استحالت ُمر َ
إليه اإلنسان الغربي تخصيصا ،بعد أن ضج من تهاوي منظومة القيم واألشياء ،وتفككها من
حولهَّ ،
ورد فعل " ...على الوضع الذري الذي ساد العالم الغربي في بداية القرن العشرين،
وهو وضع تغذى من وانعكس على تشظي المعرفة وتفرعها إلى تخصصات دقيقة متعددة تم
1الزواوي بغورة :املنهج البنيوي حبث يف األصول واملبادئ والتطبيقات ،دار اهلدى ،عني مليلة ،اجلزائر6009 ،م ،ص.64 .
2حممود حجازي :البحث اللغوي ،مكتبة غريب ،القاهرة9111 ،م ،ص.16 – 13.
3صالح فضل :علم األسلوب والنظرية البنائية ،دار الكتاب املصري ،القاهرة – دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،ط6001 ،9.م ،ج ،6.ص436.
4حممد مندور :يف األدب والنقد ،دار هنضة مصر ،القاهرة9144 ،م ،ص.4.
39
عزلها بعضها عن بعض لتجسد من ثم ( إن لم تُ َغ ِّذ ) مقولة الوجوديين حول عزلة اإلنسان
وانفصامه عن واقعه والعالم من حوله ،و شعوره باإلحباط والضياع والعبثية ".1
وهو ما يجد مصداقه في قول الدكتور زكريا إبراهيم ... ":ربما كان السر في رواج
هذه الكلمة[ ]...هو شعور اإلنسان المعاصر بالحاجة إلى اإلمساك بوحدة الواقع ( التي كاد
التعقد أن يمزقها ) ! و الحق أن لفظ "البنية " يحمل في تضاعيفه تحقيق حلم العقل البشري
الذي طالما حاول و ضع اليد على " الموضوع " من أجل احتباسه في ِشباك نظامه العقلي،
وكأن " البنية " نفسها هي تلك " الوحدة " الجديدة التي تضمن للعقل فهم الواقع والتأكد منه
والسيطرة عليه من جهة ،واشباع حنينه إلى النظام المفقود من جهة أخرى!.2"...
يضاف إلى األسباب الداعية إلى هذا االهتمام بالبنية ،قيمتها العلمية في معالجة
الظواهر عموما ،والعمل الفني تخصيصا .إذ يتيح التركيز على بنية العمل المدروس مقدرة
تجريدية أكبر ،لقيام الدراسات البنيوية كما معروف على عنصري اآلنية ، synchronie
والمحايثة ( )immanenceاللتين هما من أهم مقوالت اللسانيات البنيوية التي نادى بها
المعاين،
َ ف .دوسوسور( ) F:de Saussureألن ":البنية شيء قائم في ذات الموضوع
وليست مفروضة عليه من الخارج ".3
1ميجان الرويلي وسعد البازعي :دليل الناقد األديب ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب /بريوت ،ط6006 ،1.م ،ص.61.
2زكريا إبراهيم :مشكلة البنية ،مكتبة مصر9110 ،م ،ص.4.
3علي مراشدة :بنية القصيدة اجلاهلية ،دراسة تطبيقية يف شعر النابغة الذبياين ،مرجع سابق ،ص.01.
4عبد اهلل حممد الغ ّذامي :اخلطيئة والتكفري من البنيوية إىل التشرحيية ،اهليئة املصرية العامة للكتاب6006 ،م ،ص.11.
40
المقدمات الداخلية للتطور ،بحيث يفضي اآلن التصور اآللي للعمليات إلى مساءلة
وظائفها".1
1رومان جاكوبسون :االجتاهات األساسية يف علم اللغة ،ترمجة :علي حاكم صاحل وحسن ناظم ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب /بريوت،
ط6006 ،9.م ،ص.91.
41
الفصل األول
واذا كان التنوع البنائي حقيقة فنية بنيت عليها القصيدة العربية التقليدية ،فمن المشروع
محاولة إعادة تفكيك ذلك البناء في محاولة لرصد العناصر األساسية التي تشد بعضه إلى
االختالف في حساب تلك العناصر .على أنه
َ بعض ،كما أن من المشروع في مرحلة ثانية
لن يكون إال اختالفا شكليا واجرائيا ،تبعا لطريقة عمل المحلل ،واألداة التي يختارها في
تحليل القصيدة ،وزاوية الرؤية التي ينظر منها إلى كل عنصر ،وعالقته بالعنصر السابق أو
الالحق أو كليهما معا .وهو ما من شأنه – بال شك – أن ينجم عنه اختالف في أحقية
استقالل عنصر بنفسه ،أو إمكان سلبه ذلك الحق والحاقه بالعنصر المجاور .
لذلك ليس من المهم التوقف كثي ار عند تقسيم ثالثي أو رباعي للقصيدة التقليدية حين
فع َل الدكتور
التوجه إلى دراستها .فمن الدارسين من يفضل بسط بنيتها في أربعة عناصرْ ،
محمد عزام في قوله " :كانت القصيدة العربية القديمة تتألف في بنيتها العامة من أربعة
عناصر فنية على األقل ،وكل عنصر منها يشكل موضوعا مستقال ضمن القصيدة الواحدة،
وهذه الموضوعات هي:
.1المقدمة الطللية :حيث يقف الشاعر على أطالل حبيبته واصفا ،وقد يستوقف رفيقه
ليشاركه حزنه وأساه.
.2الغزل والنسيب :وفيه ينتقل الشاعر إلى رسم صورة للحبيبة النائية.
.3وصف الرحلة ،والراحلة ،والصحراء ،وما القاه الشاعر من حر الهاجرة ،وقلة الزاد والماء،
وما تعرض له من مخاطر وأهوال في رحلته الطويلة في الصحراء ،لينتهي إلى الغرض.
.4الغرض من مديح أو فخر أو هجاء ،وهو غالبا ما يكون مديحا ،ألن تصوير هذه
المعاناة اإلنسانية في اصطحاب الرفيق ،والعاطفية في ذكر الحبيب ،والحياتية في وصف
44
متاعب الرحلة ،إنما تعتبر مدخال إلى الطلب ،ومقدمة أو " ديباجة " للغرض ،ليستعظم
الممدوح الجهد ،فتعظم الجائزة ".1
غير أن الوعي النقدي العربي قد استقر في عمومه على أن القسمة ثالثية ،لذلك ليس
رأي الدكتور محمد عزام أكثر من إمعان في القسمة بفصل الغزل عن الطلل ،وتخصيص
وصف الرحلة بالذكر ،مع إمكان ردها إلي الغزل والطلل لكون المقصود هو ما بعدهما أي
الغرضي ،أو توزع الشرائحالمدح غالبا ،و هذه القسمة الثالثية تعود أساسا إلى المكون َ
بمصطلح التحليل البنيوي الحديث ،إذ يأتي على رأس القصيدة عادة المقدمة الطللية الغزلية،
ثم التخلص أو الخروج إلى الغرض المقصود .وأخي ار الختام الذي أغفلته قسمة الدكتور عزام.
ويحسن التنبيه إلى أننا حين نطلق لفظ " المقدمة " على الجزء المتعلق بالغزل ووصف
الطلل ،ال يكون المعنى أنها مقدمة مقصودة بالمفهوم الحديث للكتابة الفنية ،فمن البداهة أن
الشاعر العربي القديم -على األقل في العصر الجاهلي -لم يكن يوردها بقصدية وتعمد،
بل كان يفعل ذلك مدفوعا بحكم العادة الفنية واالجتماعية -والعادة طبيعة ثانية -من غير
استعجال لقريحته للتخلص منها أو شعور بأنها وسيلة لغيرها ،فهي في وعيه جزء ال يتج أز
من بنية القصيدة ،لذلك كثي ار ما تطول هذه المقدمات ويسترسل فيها الشاعر بما يستحوذ
على غالب أبيات القصيدة.
بل أحيانا ال يتوجه إدراك ذلك الشاعر إلى تراتب األلفاظ ،وما يحمله من دالالت في
البيت الواحد َب ْلهَ القصيدة كلها .وقد يؤكد هذا ما روي من تعقب عمر بن الخطاب رضي اهلل
عنه لسحيم عبد بني الحسحاس في قوله :
1حممد عزام :بناء القصيدة التقليدية ،املوقف األديب ،احتاد الكتاب العرب ،دمشق ،ع ،201.أكتوبر ،2191 ،ص.102.
2اجلاحظ :البيان والتبيني ،مصدر سابق ،ج ،2.ص.19.
45
وربما يكون في هذا ما يفسر هجمة بعض الشعراء على الغرض األصلي بعدها من غير
تمهيد ،وهو ما عابه عليهم النقاد القدماء و تعقبوه عليهم .فالنظر إلى هذه المقدمة على أنها
شريحة متميزة عما بعدها إنما هو من وعي الناقد ال الشاعر.
وحين ينصرف التصور إلى مقدمة القصيدة العربية القديمة تَمثُل فو ار المقدمة الطللية
الغزلية ،التي رسخت في تراثنا األدبي تقليدا فنيا ضرب بجذوره من العصر الجاهلي حتى
العصر العباسي ،تاريخ بداية معالم الثورة على هذا الموروث كما ذكر آنفا .ولكن حتى في
هذا العصر ،و مع هذه الثورة التابعة للمتغيرات الحضارية والمدنية ،ظل هذا التراث الفني
يقاوم ،ويواجه رياح التغيير ،حتى إن أبا نواس و هو من أشهر الثائرين يعلن استسالمه له
على م اررة و تغيظ ،حين دعاه الخليفة إلى وصف الطلل ،وهجر وصف الخمر ،1فقال :
2
الخم ار
فقد طال ما أزرى به َن ْعتُك ْ عرك األطال َل و ِّ
الد َمن الق ْف ار أَع ْر ش َ
أم ـ ـ ـ ـ ـ ار 3
أجوز له ْ
يق ذراعي أن َ
تَض ُ نعت الطلول ُمسلَّـ ـ ـ ـط
دعاني إلى ْ
كنت قد جشمتني مركبا َو ْع ـ ـ ـ ار
وا ْن َ فسمع 4أمي َر المؤمنين و طاع ـ ـ ـ ـة
وتلك شهادة تثبت أن الصراع بين المحدثين والمحافظين كان على أشده في هذا
العصر ،وأن المحافظين كانوا محظوظين بميل الطبقة الحاكمة إليهم .وهو أمر مفهوم إذ
طالما كان ميل األرستقراطيين والحكام إلى اإلبقاء على األوضاع المتوارثة ،التي يستمدون
ُّ
وصدهم عن الثورات التجديدية التي غالبا ما تكون تهديدا منها مشروعية وجودهم و تَميزهم،
لمصالحهم ،و ال يدرون بم يأتي جديدها؟ ،وال أي منقلب ينقلبون بعدها؟ .كما هي شهادة
ناطقة بما كان لتلك المقدمة من سلطان وغلبة على الذوق الفني حتى في ذلك العصر
المحيل.
المتـأخر ،الذي حل فيه القصر المنيف والحديقة الغناء محل الخيمة والطلل ُ
ولعل ابن قتيبة أن يكون أول من تحدث حديثا تفصيليا عن بنية القصيدة التقليدية ،في
مقدمته المشهورة لكتابه ( الشعر والشعراء ) و التي جاء فيها ... ":وسمعت بعض أهل
1ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،حتقيق :عبد احلميد هنداوي ،املكتبة العصرية ،صيدا – بريوت ،ط1002 ،2.م ،ج ،2.ص.
.102
2أبو نواس :الديوان ،حتقيق :أمحد عبد اجمليد الغزايل ،دار الكتاب العريب ،بريوت ،لبنان ،ط1002 ،2.م .ص.23 .
أرد " ،مصدر سابق ،ج ،2.ص.102 . يف العمدة البن رشيق ّ " :
3
46
األدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار و ِّ
الد َمن واآلثار فبكى وشكا وخاطب
الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها ،إذ كان نازلة العمد في
الحلول و الظعن على خالف ما عليه نازلة المدر النتقالهم من ماء إلى ماء وانتجاعهم الكأل
وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان ،ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط
الصبابة والشوق ُليميل نحوه القلوب وليصرف إليه الوجوه و ليستدعي به إصغاء األسماع
إليه ألن التشبيب قريب من النفوس الئط بالقلوب لما قد جعل اهلل في تركيب العباد من محبة
الغزل والف النساء[ ]...فإذا علم أنه قد استوثق من اإلصغاء إليه واالستماع له عقب
وسرى الليل وحر الهجير وانضاءبإيجاب الحقوق فرحل في شعره و شكا النصب والسهر ُ
الراحلة و البعير ،فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل وقرر عنده
ما ناله من المكاره في المسير بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماح وفضله على
األشباه وصغر في قدره الجزيل.1"...
إن مقولة ابن قتيبة هذه ،ذات أهمية بالغة من عدة وجوه ،أهمها اثنان ،أولهما:التفصيل
البين ألهم مكونين من مكونات بنية القصيدة العربية ،وهما المقدمة والتخلص منها إلى
الغرض الذي بنى الشاعر قصيدته عليه ،وثانيهما التعليل الذي يظهر في اجتهاد ابن قتيبة
من أجل التبرير لوضع المقدمة الطللية والغزلية بين يدي الغرض األصلي ،وهو تعليل نفسي
يلتفت إلى تحايل الشاعر من أجل إثارة األريحية في نفس المتلقي ( الممدوح ) ،واستدرار
تعاطفه مع الشاعر.
لقد بادر ابن قتيبة محاولةَ تفسير هذا التقليد وتبرير تصدير القصائد به ،و كان في
تفسيره صاحب قراءة تحليلية تعليلية جديرة باالحترام ،بغض النظر عن النقد الذي وجهه
بعض الدارسين المعاصرين إلى قراءته تلك ،كالمستشرق فالتر بروانه الذي رآه تفسي ار
قاص ار ،2وقدم تفسي ار آخر نحا فيه المنحى النفسي عند ابن قتيبة ،غير أنه ذهب بعيدا،
بتوغله في غيابات النفس اإلنسانية ،ليصل إلى تفسير وجودي يبعثه في نفس الشاعر
الجاهلي قلقه الماورائي وتوجسه من الموت والفناء ،معقبا على رأي ابن قتيبة بأن الشاعر
47
الجاهلي كان جزءا من الجماعة ،وهو ما ال يحتاج معه إلى حيلة للفت االنتباه وجلب
االهتمام .
غير أنه من الواجب أال نغفل أن ابن قتيبة كان يتحدث عن قصيدة المدح كما هو
جلي في آخر مقولته ،وهذه القصيدة هي رسالة بين طرفين أولهما الشاعر( المادح ) الذي
يقوم مقام الباث ،والثاني الممدوح الذي يقوم مقام المتلقي ،ريثما ترتد الرسالة سالكة الطريق
المعاكس فيتبادل الطرفان دوريهما ،فيصبح الممدوح باثا والمادح متلقيا والرسالة التي يتلقاها
هي جائزة الممدوح أو رضاه ،ولعل في هذه الرحلة االرتدادية للرسالة ما يتيح للشاعر فترة
صحو تتوضح له فيها أناه ،وتتميز عن اآلخر الذي يدخل معه في خطاب حقيقي يستلزم –
المخاطب ،وهو ما يعضد تفسير
ضمن ما يستلزمه الخطاب من قوانين – عنصر التأثير في َ
ابن قتيبة.
ومث َل براونه ذهب الدكتور عز الدين إسماعيل إلى نقد رأي ابن قتيبة غير متردد في
تخطيئه صراحة ،أو إعالن عدم كفايته في أحسن األحوال ،و ذلك في قوله ":ونحن نذهب
منذ البداية إلى أن تفسير ابن قتيبة ليس صحيحا أو هو – على األقل -ليس كافيا" ،1وهو
يعيب على ابن قتيبة نظره إلى قطعة النسيب بوصفها ":أداة فنية موجهة إلى الخارج ،إلى
قلوب المتلقين وأسماعهم " في حين يراها هو ... ":تعبي ار يجسم لنا ارتداد الشاعر إلى نفسه
وخلوه إليها ،وهو بذلك يعد الجزء الذاتي في القصيدة ،الذي يعبر فيه الشاعر عن موقفه من
الحياة والكون من حوله " .2وهذا ليس مستغربا من الدكتور عز الدين إسماعيل الذي يجنح
إلى المقاربات النفسية في الدراسات األدبية والتي ترى نجاح مقوالتها في تحليل نفسية
صاحب النص ،ولكنها ال تروق حتما النظريات النقدية الحديثة التي تركز على المتلقي وتعد
المؤلف في عداد األموات.
تفسيري براونه وعز الدين إسماعيل كليهما ،اللذين رجعا فيهما إلى داء العصر
َ ولعل
والعبثية الوجودية ،وغيرها من األدواء التي قاساها اإلنسان المعاصر ،وخصوصا اإلنسان
الغربي ،السيما بعد الحرب العالمية الثانية التي زعزعت كيانه والعالم من حوله ،لعلهما من
1عز الدين إمساعيل :روح العصر ،دار الرائد العريب ،بريوت2193 ،م ،ص.22.
2السابق :ص.29.
48
إسقاطات علم النفس الحديث التي قد ال تكون بساطة نفسية الشاعر البدوي المنعكسة من
بساطة حياته االجتماعية ،وقلةُ انشغاله بالتأمالت الميتافيزيقية مشجعة على االقتناع بها.
وفي معرض الردود على ابن قتيبة ،قد يكون من اإلنصاف له أن يقال :إنه كان في
مقولته السابقة يقف موقف الواصف المفسر ،ال موقف الداعي المؤيد ،وهو أمر نبه عليه
الدكتور عبد الحليم حفني الذي رأى ":أن معظم النقاد المحدثين يسوق كالم ابن قتيبة على
أنه دعوة للتمسك بهذه المقدمات أو العناصر التي تسبق موضوع القصيدة ،مع أنه من
الواضح أنه إنما يسوق هذا كله لمجرد التعليل لتقليد وعرف شائع بين الشعراء القدماء ،ال أنه
سمعت بعض أهل األدب
ُ يطلب من الشعراء أن يسيروا على هذا المنوال ،ولذلك كان تعبيره (
يذكر 1." )...واذا استبان هذا األمر لم يكن من مبرر لكثير من االعتراضات ،التي وجهها
إليه نقاد محدثون آخرون ،يسوقون كالمه على أنه إقرار ودعوة إلى التمسك بتلك الطريقة.
وفهم الدكتور حفني لمقولة ابن قتيبة هذه وليدة قراءة مشروعة للنص الذي وردت فيه،
ْ
اللهم إال أن يعترض معترض بألفاظ وعبارات واردة بعدها ،قد تُوهم بأن ابن قتيبة يتبنى
طريقة الشعراء القدماء في االلتزام بالمقدمة الطللية الغزلية ويحض عليها ،منها قوله بعد
المجيد من سلك هذه األساليب ،وعدل بين هذه األقسام ،فلم يجعل
نصه السابق ":فالشاعر ُ
واحدا منها أغلب على الشعر ،ولم يطل فيمل السامعين ،ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى
المزيد" .2وقوله ":وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه األقسام،
فيقف على منزل عامر ،أو يبكي عند مشيد البنيان ،ألن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر،
َ
والرسم العافي ،أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما ،ألن المتقدمين رحلوا على الناقة
والبعير .3" ...
وكلتا العبارتين ال تقوم دليال حاسما على أن ابن قتيبة داعية إلى االلتزام بتلك المقدمة،
فاستجادة ابن قتيبة للشاعر الذي يسلك هذا األسلوب في العبارة األولى إنما هي مشروطة
بما بعدها ،وهو المناسبة والمعادلة بين أجزاء القصيدة ،بين مقدمتها وما بعدها من تخلص
إلى المدح أو الغرض المقصود عموما ،ويكون تحرير المعنى أنه إذا كان البد على الشاعر
أن يقف موقف المقلد للقدماء في هذا االلتزام ،فعليه باإلجادة في التنسيق بين أجزاء القصيدة
1عبد احلليم حفين :مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،القاهرة2139 ،م ،ص.21.
2ابن قتيبة :الشعر والشعراء ،مصدر سابق ،ج ،2.ص.92.
3السابق ،ج ،2.ص.99 .
49
واحداث التناسب بينها .كذلك العبارة الثانية يمكن حملها على أنه يجب على الشاعر أن
يتحاشى محاولة خداع الناس بتجديدات شكلية ،تحافظ على العادة القديمة في مجملها
وتتجاوزها في تفصيالتها ،فيصدر قصيدته بوقفة على المعمور بدل األطالل ،ويعتبر ذلك
تجديدا.
وهو ما يفصله الدكتور إحسان عباس بقوله مصححا فهم كثير من الدارسين لكالم ابن قتيبة
":وقد فهم بعض الدارسين أن ابن قتيبة يصر على أن يظل هذا الشكل نظاماً صارماً لكل
شاعر جاهلياً كان أو إسالمياً أو محدث ًا ،وأنه حرم على المتأخرين التحلل من ربقة هذا
النظام )...( ،وما أرى ابن قتيبة هنا يؤكد شيئاً سوى التناسب ،أما قوله بعد ذلك " وليس
لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه األقسام فيقف على منزل عامر أو
يبكي عند مشيد البنيان ألن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر والرسم العافي )...( ،فليس
ثمة أوضح منه في الداللة على تحريم التقليد الشكلي المضحك ،واحالل مواد الحضارة محل
مواد البداوة في الشعر.1"...
ويحس إحسان عباس أن ابن قتيبة ،كان في موقفه هذا يلمز مذهب أبي نواس في دعوته
إلى التجديد ،ألنه يراه تجديدا شكليا ،ال يتناول العمق ،فـ "كأن ابن قتيبة يومئ من طرف
خفي إلى أن أبا نواس لم يصنع شيئاً فنياً في دعوته ،وان كان ألبق من غيره من المأخوذين
بمواد الحضارة ،ألن الوقوف على الحانات بدل الوقوف على األطالل تغيير في الموضوع ال
في الطريقة الفنية" ،2فإذا صحت هذه القراءة لموقف ابن قتيبة أمكننا القول إنه ليس من دعاة
اإللتزام بالمقدمة والمتحمسين لها ،بل هو في نصه األول مقرر لحالة قائمة ،وعليه فهو ليس
ضد الشاعر المتخلي عن ذلك التقليد ،بل ضد الشاعر المتحايل المستبدل للوقفة " الحضرية"
بالوقفة " البدوية ".
أما الدكتور طه مصطفى أبو كريشة فبعد أن أكد أن ابن قتيبة إنما كان يعني قصيدة المدح
كما تقدم ،ولما كان المدح – في الغالب -وسيلة استجداء و طريقا إليه ،علل التمهيد له
بتلك المقدمة باستنكاف النفس اإلنسانية من مواجهة اآلخر بالمسألة مباشرة ،يقول
ويخيل إلي أن السبب الداعي إلى ذلك هو أن أغلب هذا النوع من القصيد إنما ُيقصد
ُ ...":
به طلب العطاء من الممدوح ،ويبدو أن النفس تأنف من الجهر بحقيقة ما تطلبه من أول
1إحسان عباس :تاريخ النقد األديب عند العرب ،دار الثقافة ،بريوت ،ط2139 ،2.م ،ص.222-221 .
2السابق.222 ،
50
األمر ،فتحب أن تمهد لذلك بذكر أمر آخر ليس له صلة بالمدح وطلب العطاء ،شأن كل
من يريد قضاء أمر من األمور ،فال يتكلم فيما يريد من أمره ،مباشرة ،وانما يقدم لذلك
تمت بصلة إلى مأربه الحقيقي ،ثم شيئا فشيئا يقترب من عرض حاجتهبأحاديث أخرى ال ُ
التي يريد قضاءها.1" ...
قر بتقبل التعليل الذي ساقه ابن
ويقع على تعليل إليراد الغزل ال يخلو من طرافة ووجاهةُ ،م ا
قتيبة ،وتعليلُه هذا يعود إلى تحرر الغزل من خصوصية المناسبة ،ذلك أن الغزل يبدو ... ":
أنه الفن الشعري الوحيد الذي يمكن أن يقال مجردا عن المناسبة التي توجهه ،واذا نظرنا إلى
بقية أغراض الشعر وجدنا أن المناسبة تتحكم فيها ،وهذا فضال على ما ذكره القدماء من أن
حديث الغزل أقرب شيء إلى النفوس وأحبه إلى القلب ،فالشاعر حينئذ واثق من اإلنصات
إليه ،ضامن لوصوله إلى ما يريد ". 2
1طه مصطفى أبو كريشة :أصول النقد األديب ،مكتبية لبنان ناشرون/الشركة املصرية العاملية للنشر ،لوجنمان ،ط ،2.ص.424.
2السابق ،املوضع نفسه.
51
الخروج والتخلص
يشير هذان المصطلحان إلى المرحلة التالية للمقدمة ،فهما ِ
المفصل أو المنعرج الذي
ينعطف منه الشاعر إلى الغرض األصلي الذي يش ّكل دافعه إلى نظم القصيدة .ويكون
تحيل ثم تتمادى
الخروج عند ابن رشيق بـ ... ":أن تخرج من نسيب إلى مدح أو غيره بلطف ّ
فيما خرجت إليه ".1
و إ ذا كان هذان المصطلحان يتفقان في كونهما إشعا ار مسبقا بنهاية مرحلة ،واالنتقال
إلى مرحلة الحقة لها ،فقد حاول ابن رشيق أن يلتمس فرقا بينهما مع إق ارره بأن " ...من
الناس من يسمي الخروج تخلصا وتوسال .2" ...فيدفع هذا الرأي ،ذاهبا إلى أنه " أولى
بالشعر بأن يسمى تخ لصا ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى ثم عاد إلى األول
وأخذ في غيره ثم رجع إلى ما كان فيه.3" ...
فالمالحظ أن الخروج والتخلص عنده يجمعهما معنى االنتقال ،لكنه يجعل هذا االنتقال
بين المعاني في التخلص ،وبين األغراض في الخروج ،كما هو واضح في ذكره النسيب
والمدح ،وهو ما فهمه سعيد األيوبي من كالم ابن رشيق ،يقول ... ":وظاهر كالم ابن
ويفهم منه أن الخروج يكون من النسيب إلى غرضرشيق أنه يميز بين الخروج والتخلصُ ،
معين مدحا كان أو هجاء أو فخ ار أو غير ذلك .وأن التخلص يكون من معنى إلى معنى ولو
في غرض واحد ".4
ولكن سرعان ما يستدرك على هذا الفهم بسبب ما أورده ابن رشيق من أبيات للنابغة
الذبياني مثال للتخلص ،ورد فيها االنتقال من غرض إلى آخر ،فقد قال ابن رشيق بعد
تمثيله (...":إنه تخلص من النسيب إلى االعتذار ) ،فأفاد أن التخلص أيضا يكون من
النسيب إلى الغرض ألن النابغة تخلص من النسيب إلى االعتذار وهو غرض مساو
للمدح".5
1ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،1.ص.702.
2السابق ،ج ،1.ص.702.
3السابق ،ج ،1.ص.702 .
4سعيد األيويب :عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي ،مكتبة املعارف ،الرباط1221 ،م ،ص.731 – 732 .
5السابق ،ص.731.
53
اللبس أن نعلم أن المعنى عند القدماء – حين يتحدثون عن أبواب
َ وربما أزال هذا
الشعر وفنونه – ُيقصد به ما تعنيه األغراض الشعرية كما هو المصطلح الغالب اليوم من
غزل ومدح وغيرهما ،فيكون مناط الفرق بين الخروج والتخلص أن األول ال يشترط فيه
العودة إلى الغرض السابق ،أو على األقل للشاعر أن يتمادى في الغرض اآلخر ويستقصي
فيه كما جاء في آخر تعريفه له ،بينما ال يكون التخلص إال بالعودة إلى الغرض األول.
يفرق
ثم يجب االنتباه إلى قوله ":وأولى بالشعر" ،فقد يدل هذا على أن ابن رشيق ّ
بي ن المصطلحين في الشعر فحسب ،وربما كان بذلك مساي ار لمن ال يفرقون بينهما في سائر
فنون القول ،ونحن نعلم أن كتابه " العمدة " موقوف على نقد الشعر وآدابه تخصيصا كما
هو ّبين من تفصيل عنوانه .
أما ابن األثير فقد ميز بين التخلص ومصطلح آخر هو االقتضاب .يكون األول عنده
بـ ":أن يأخذ مؤلف الكالم في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره
وجعل األول سببا إليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع كالمه كأنما أفرغ
إفراغا ...أما االقتضاب فإنه ضد التخلص وذاك بأن يقطع الشاعر كالمه الذي هو فيه
ويستأنف كالما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك وال يكون للثاني عالقة باألول".1
والضدية التي ُيقيمها ابن األثير بين التخلص واالقتضاب ال تتناول المفهوم ،إذ المفهوم
فيهما راجع إلى أمر واحد وهو االنتقال من غرض إلى آخر ،وانما مرجعها إلى اآللية التي
يتم بها ذلك .وهي تحقيق الربط والتلطف عند االنتقال في األول ،وانعدام ذلك في الثاني،
فضل ابن األثير التخلص على االقتضاب نظ ار إلى ما يبذله وعلى أساس هذه الحيثيةّ ،
الشاعر من جهد فني وتقنية عالية يتطلبهما واجب سد الثغرات بين المعاني وَلحم أجزاء
العمل الفني في التخلص ،بخالف االقتضاب الذي يهجم فيه الشاعر على غرضه بطريقة
المجانية.
قائمة على البتر و ّ
1ابن األثري :املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر ،حتقيق :حممد حميي الدين عبد احلميد ،املكتبة العصرية ،صيدا-بريوت ،لبنان ،ج ،7.ص.722 .
54
وبمقياس الطاقة والمشقة أيضاّ ،برر خصوصية المهارة التي يجب أن تتوفر في
الشاعر دون الكاتب في هذه المسألة ،ألن تلك التقنية " مما يدل على حذق الشاعر وقوة
تصرفه ،من أجل أن نطاق الكالم ي ِ
ضيق عليه ويكون متبعا للوزن والقافية فال تواتيه األلفاظ َ
على حسب إرادته ،وأما الناثر فإنه مطلق العنان يمضي حيث شاء فلذلك يشق التخلص
على الشاعر أكثر مما يشق على الناثر ".1
لذلك جعل التخلص مناط الميزة اإلبداعية التي تفرد بها المحدثون عن القدماء
والمخضرمين يقول ":وهو[ أي االقتضاب ] مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين ،وأما
المحدثون فإنهم تصرفوا في التخلص فأبدعوا وأظهروا منه كل غريبة ".2
وي ِرُد على هذه المعاني االستطراد ،وهو ":أن يكون الشاعر آخذا في غرض من َ
أغراض الشعر من غزل ،أو وصف ،أو غيره ...فيستطرد منه إلى ذكر غيره بنوع من أنواع
البديع ،ثم يعود إلى ما كان فيه ،فإن لم يعد فهو خروج .و أكثر ما يكون في الهجاء".3
وبهذا المعنى يقترب من معنى التخلص ،ويخرجان من مكونات بنية القصيدة بما أن
شرطهما العودة إلى الغرض أو المعنى السابق ،ليبقى الخروج هو المصطلح المناسب
للمقابلة بينه وبين قسيميه في تلك البنية :الموضوع األصلي والختام .وقد الحظ النقاد
والبالغيون القدماء أن للشعراء ثالثة مذاهب في الخروج:
.1الخروج المتصل بما قبله :وهو الذي سماه ابن األثير التخلص.
.2الخروج المنفصل ،والعادة أن يستعمل الشاعر فيه عبارة إنشائية في صيغة األمر ،تصرف
وع ِّد عن ذا" ،4و" ِّ
سل المستمع عن الغرض السابق و تلفته إلى الالحق ،مثل " دع ذا "َ " ،
الهم بكذا ".
55
.3الطفر واالنقطاع : 1ويقابل عند ابن األثير "االقتضاب " ،ويسميه سعيد األيوبي الخروج
المضمر.2
1
السابق ،الموضع نفسه.
2سعيد األيويب :عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي ،مرجع سابق ،ص.732.
56
الـخـتــــــــــــــــــــــام
إذا كان الخروج هو المرحلة التي تنتهي بها المقدمة ،فالختام هو المرحلة التي تنتهي
بها القصيدة كلها .واذا كانت التقليد النقدي والبالغي القديم قد رصد من الشروط الفنية ما
بوا غير
ون ّ
يحقق االنسجام بين المقدمة وما يليها ،ويجعل الخروج منها سلسا ال يش ّكل نشا از ُ
منظور في أفق انتظار المتلقي ،فإن عنايته بالختام لم تكن أقل .انطالقا من إدراكه ما له من
قدرة على تحقيق قانون بقاء األثر ،الذي يشكل ضرورة ملحة الستمرار حالة التقبل عند
المتلقي ،أو حالة الضغط بالمصطلح األسلوبي ،والذي هو مرجع تعريف األسلوب انطالقا
طب إذ " يتجه رواد التنظير والتحليل إلى اعتبار األسلوب ضغطا مسلطا
من مصادرة المخا َ
على المتقبل بحيث ال ُيلقى الخطاب إال وقد تهيأ فيه من العناصر الضاغطة ما يزيل عن
المتقبل حرية ردود الفعل ".1
ومن التسميات التي أطلقها القدماء عليه " االنتهاء " ،كما جاء عند ابن رشيق الذي
َيح ّده بقوله ":وأما االنتهاء فهو قاعدة القصيدة وآخر ما يبقى منها في األسماع ،وسبيله أن
أحسن منه واذا كان أول الشعر مفتاحا له
ُ يكون ُم ْح َكما ال تمكن الزيادة عليه وال يأتي بعده
وجب أن يكون اآلخر قفال عليه " .2إضافة إلى المقطع ،ألنه المرحلة التي يقطع فيها
الشاعر كالمه.
والتسميات الثالث كلها تشير إلى أن أهم ميزة يجب أن تتحقق لهذا الجزء ،هي
االكتفاء واإلقناع والرضا :االكتفاء من الناحية الداللية والشعورية ،بحيث يتضمن الختام آخر
ما أراد الشاعر إيصاله من المقاصد والمعاني ،ومنتهى الطاقة الشعورية التي شحن بها
قصيدته .واإلقناع والرضا بالنسبة إلى المتلقي الذي يجب أن يقتنع بقدرة هذه األبيات أو
البيت األخير على اإليفاء بما سبق ،ويرضى عن اختيار الشاعر لطريقة إنهاء القصيدة،
ويحس أن آخرها كان – حقيق ًة -ذروةَ تناميها بحيث ال مستز َاد بعده ،وبالتعبير المصطلحي
في نقد استجابة القارئ ،يجب أن يكون الختام تاما مقنعا يسد على المتلقي أفق االنتظار،
وهو رأي النقاد الذين يلخص الدكتور طه أبو كريشة موقفهم من هذه القضية بقوله" :والنقاد
1عبد السالم املسدي :األسلوب واألسلوبية ،دار الكتاب اجلديد املتحدة ،بريوت ،ط ،6002 ،5.ص.26.
2ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،1.ص.610.
85
يرون في هذا المجال أن على الشاعر أن ال ينهي قصيدته في موطن ال يحس فيه السامع
باالنتهاء ،و يتطلع إلى المزيد ".1
ومث َل براعة المطلع التي اتخذها البالغيون فنا بديعيا قائما بنفسه ،يورده البديعيون في
صدر منظوماتهم البديعية ،اتُّخذت براعةُ الختام محسنا بديعيا يختمونها بهْ .
فع َل صفي الدين
عرفه في ختام شرح الكافية بقوله ":هو عبارة عن أن تُختم القصيدة بأجود بيت ِ ِّ
الحل ّي الذي ُي ّ
يحسن السكوت عليه ،ألنه آخر ما يبقى في األسماع ،و ربما ُحفظ دون غيره لقرب العهد
به ،والحذاق والنقاد يحافظون عليه ،وأكثر مقاطع القرآن المجيد كذلك " .2ويضرب مثاال
لذلك قول المتنبي :
3
السالم
ُ ك و رحمةُ اهلل
علي َ ُعطيت الذي لم ُيعط َخ ْلق
َ وأ
ويتميز الختام عن باقي أجزاء القصيدة بمهمة تقويمية ،تتمثل في كونه مناط تدارك
الشاعر لما يمكن أن يقع له فيها من خلل ،ومظنة ِّ
سد الثغرات ،التي يحتمل أن تكون
ِ
وجبر ما شابها من قصور .فعلى قدر ما يكون االنتهاء جيدا مختا ار تلَقّاه أصابت بناءها،
السامع " ...بغاية القبول ،واستلذه استلذاذا يجبر به ما وقع فيما سبقه من التقصير.4" ...
1طه مصطفى أبو كريشة :أصول النقد األديب ،مرجع سابق ،ص.647.
2صفي الدين احللي :شرح الكافية البديعية ،مصدر سابق ،ص.444.
3
أبو الطيب المتنبي :الديوان بشرح أبي البقاء العكبري ،دار الفكر ،بيروت0202 ،م ،ج ،4.ص ،52 .وفيه " عليك صالة ربك
والسالم ".
4ابن يعقوب املغريب :شرح مواهب الفتاح على تلخيص املفتاح ،حتقيق :عبد احلميد هنداوي ،املكتبة العصرية ،صيدا – بريوت ،ط6002 ،1.م،
ج ،1.ص.746 .
85
والعكس صحيح ،فربما أحبط عدم إتقان صنعة الخاتمة كل ما سلف في القصيدة من
ويرمى في الوراء ،ويكون
إبداع ،وذهب برونق ما بدر فيها من محاسن ... " ،فيعمه الذم ُ
عند السامع مما ُينبذ بالعراء ،ومن المعلوم في المذوقات أن آخر الطعم إن كان لذيذا أنسى
م اررته األولى ،وان كان ُم ار أنسى حالوته األولى .1" ...
ويحيل ذكر صفي الدين الحلي لمقاطع القرآن في تعريفه السابق ،إلى عناية الدراسات
القرآنية بخواتم السور ،إذ لم تكن أقل من عناية الدراسات البالغية والنقدية بختام القصيدة.
فقد أفرد العلماء المهتمون بتلك الدراسات ،خواتم السور بدراسات خاصة جعلوها قسيمة
للفواتح في أنواع علوم القرآن ومباحثه كالزركشي الذي جعلها ثامنة تلك األنواع ،يقول في
شأنها ... ":وهي مثل الفواتح في الحسن :ألنها آخر ما يقرع األسماع ،فلهذا جاءت متضمنة
للمعاني البديعة ،مع إيذان السامع بانتهاء الكالم حتى يرتفع معه تشوف النفس إلى ما ُيذكر
بعد " .2ويقف عند شاهد لذلك من قوله تعالىَ ﴿:ه َذا َب َالغ لِ َّلن ِ
اس ﴾ [،إبراهيم ،اآلية.] 80 :
وربما كان للدراسات القرآنية تفوق في رصد نكتة دقيقة لم تبلغ فيها شأوها البحوث
الموجهة إلى نقد الشعر وبالغته ،على األقل من الناحية التطبيقية ،تلك هي مالحظة
الوشائج بين المطلع والختام .فإذا كانت القصيدة امتدادا محصو ار بين طرفين يش ّكل المطلع
أولهما ،والختام آخرهما ،فمن المشروع النظر في عالقة تربط بينهما ،مهما طال االمتداد
الفاصل بينهما ،كأن يكون الختام للمطلع " رجع صدى عليه ،أو مقابلة لمعناه ،أو تذكي ار به،
أو تلخيصا له .3" ...
وقد وجدت تلك المسألة مكانها في علوم القرآن بوصفها من مباحث ما ُعرف
بعلم(المناسبة) ،التي رتبها الزركشي نوعا ثانيا بعد ( أسباب النزول ) في كتابه ( البرهان في
علوم القرآن ) .يقول مبينا قيمتها ومعرفا إياها ":واعلم أن المناسبة ،علم شريف ،تحزر به
ويعرف به قدر القائل فيما يقول ،والمناسبة في اللغة :المقاربة ،وفالن يناسب فالنا،
العقولُ ،
1السابق ،ص.745.
2الزركشي :الربهان يف علوم القرآن ،املكتبة العصرية ،صيدا-بريوت6002،م ،ج ،1.ص.61.
3سعيد األيويب :عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي ،مرجع سابق ،ص.662 .
02
أي يقرب منه ويشاكله ،ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل ،كاألخوين وابن العم ونحوه،
[ ]...وكذلك المناسبة في فواتح اآلي وخواتمها.1"...
ويبين أنواع العالقات التي يمكن أن تقوم عليها هذه المناسبة بقوله ":ومرجعها – واهلل
معنى ما رابط بينهما :عام أو خاص ،عقلي أو حسي أو خيالي ،وغير ذلك من ً أعلم – إلى
أنواع العالقات.أو التالزم الذهني ،كالسبب والمسبب ،والعلة والمعلول ،والنظيرين ،والضدين،
ونحوه ،أو التالزم الخارجي ،كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخير".2
أما الفائدة من ذلك فهي ":جعل أجزاء الكالم بعضها آخذا بأعناق بعض ،فيقوى بذلك
االرتباط ،ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم ،المتالئم األجزاء".3
ويحيل بشاهد آخر إلى الزمخشري في ربطه بين مفتتح سورة ( المؤمنون ) وختامها،
الم ْؤ ِم ُن َ
ون ﴾[ المؤمنون ،اآلية ،] 0:وأورد في حيث يقول ...":جعل فاتحة السورة ﴿ قَ ْد أَ ْفلَ َح ُ
خاتمتها ﴿ ...إنه ال يفلح الكافرون ﴾ [ اآلية ،] 001 :فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.5
00
ولعل من أكثر خواتم القصائد استجابة لما اشترطه الزركشي من حسن واكتفاء ،إضافة
إلى مناسبة المطلع قول المتنبي في ميميته التي عاتب بها سيف الدولة:
1
الد َّر إال أََّنهُ َكلِ ُم
ض ِّمن ُّ
قد ُ ك إالّ ّأنه ِمقَة
هذا ِعتَ ُاب َ
وهذا يحيلنا مرة أخرى إلى مسألة الوحدة بين أجزاء القصيدة العربية التقليدية ،ومحاولة
رصد ما توفر فيها من بعض أدوات االتساق ،الذي تجنح إليه لسانيات النص في البحث
النصية .مثل اإلحالة التي من وسائلها أسماء اإلشارة ،وخصوصا المفرد منها إذا
ّ عن شروط
وقع هذا الموقع من نهاية القصيدة فـ" ...إذا كانت أسماء اإلشارة بشتى أصنافها محيلة
إحالة قبلية ،بمعنى أنها تربط جزءا الحقا بجزء سابق ومن ثََّم تساهم في اتساق النص ،فإن
ورقية حسن ] " اإلحالة
اسم اإلشارة المفرد يتميز بما يسميه المؤلفان [ م .أ .هاليداي ّ
الموسعة " أي إمكانية اإلحالة إلى جملة بأكملها أو متتالية من الجمل ".3
نخلص بعد هذا كله إلى أن النقد العربي القديم قد انتبه إلى خطورة هذه العناصر
الثالثة التي تتركب منها القصيدة ،وأَولى َّ
كل عنصر منها من الشروط والخصائص الفنية، ْ
ما يجعله عضوا فاعال وحيا في بنيتها ،غير قاصر عنايته على عنصر دون آخر .وذلك ما
توجزه عبارة القاضي الجرجاني التي يقول فيها ":والشاعر الحاذق يجتهد في تحسين
1
المتنبي :الديوان بشرح العكبري ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.314 .
2
السابق ،ص.300 .
3حممد خطايب :لسانيات النص مدخل إىل انسجام اخلطاب ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب – بريوت ،ط ، 6002 ،6.ص.11.
00
االستهالل والتخلص وبعدهما الخاتمة ،فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور،
وتستميلهم إلى اإلصغاء ".1
القاضي الجرجاني – ربما بوحي من القضاء الذي تواله ،والوساطة التي ولم ِ
يفت
َ
انتهجها للحكم بين المتنبي وخصومه – أن يوظف المقارنة والموازنة ،إحدى أهم آليات الحكم
والمفاضلة ،وهو يتحدث في الفرق بين القدماء والمحدثين في العناية بهذه المفاصل من
القصيدة فيقول ،متخذا البحتري من المحدثين أنموذجا للمقارنة بينهم وبين القدماء ... ":ولم
تكن األوائل تخصها بفضل مراعاة ،وقد احتذى البحتري على مثالهم إال في االستهالل ،فإنه
عني به فاتفقت له فيه محاسن .2" ...
1القاضي اجلرجاين :الوساطة بني املتنيب وخصومه ،حتقيق :حممد أبو الفضل إبراهيم وعلي حممد البجاوي ،املكتبة العصرية ،صيدا-بريوت ،ط،1.
6002م ،ص.51.
2السابق ،املوضع نفسه.
03
الفصـــــل الثـــاني
الوحدة العضوية
تعدد األغراض ووحدة القصيدة
الحديث عن بنية القصيدة العربية يقود إلى الحديث عن الوحدة فيها ،السيما أننا رأينا
أن الشمولية أو التماسك شرط أساسي في تحقق كينونة البنية .واال كانت تجميعا عشوائيا
لعناصر ال رابط بينها إال الوجود المتزامن في حيز مكاني واحد ،من غير عالقة وظيفية أو
نسبة تفاعلية توحدها .يضاف إلى ذلك أن المطلع جزء من المقدمة التي هي نفسها جزء من
القصيدة ،وهو ما يجعل الحديث عنها محاولة لتلمس مناسبة المطلع لموضعه ،وتنقيبا عن
قيمه الجمالية ،وحمولته العاطفية والمضمونية ،وابراز مدى تواشج ذلك كله مع عموم
العناصر الم َشكلة للوحدة في القصيدة.
وقبل الخوض في هذه المسألة وما يتفرع منها ،نذكر أن حازما القرطاجني أشار إلى
نوعين من القصائد ناظ ار إليها من الزاوية الغرضية فقال ":والقصائد منها بسيطة ومنها
مركبة .والبسيطة مثل القصائد التي تكون مدحا صرفا أو رثاء صرفا .والمركبة هي التي
يشتمل الكالم فيها على غرضين مثل أن تكون مشتملة على نسيب ومديح ".1
ومن الحق القول :إن ظاهر القصيدة القديمة ( المركبة ) الم َّ
صدرة بالمقدمة الطللية
الغزلية ال يساعد على االقتناع بوجود وحدة فيها .وواضح أن الوحدة المقصودة هنا هي ما
يسمى في النقد الحديث " الوحدة الموضوعية " ،التي من مقاييسها القدرة على الخروج من
النص بفكرة عامة واحدة تعبر عن مغزاه اإلجمالي.
والى أرسطو تنسب أولية الدعوة إلى هذا النوع من الوحدة ،ويشرحها بقوله ":إن وحدة
الخرافة ال تنشأ ،كما يزعم البعض ،عن كون موضوعها شخصا واحدا ،ألن حياة الشخص
الواحد تنطوي على ما ال حد له من األحداث التي ال تكون وحدة .كذلك الشخص الواحد
يمكن أن ينجز أفعاال ال تكون فعال واحدا [ ]...وكما في سائر فنون المحاكاة تنشأ وحدة
المحاكاة من وحدة الموضوع كذلك في الخرافة ،ألنها محاكاة فعل ،يجب أن يكون الفعل
واحدا و تاما ".2
القرطاجن :منهاج البلغاء وسراج األدباء ،حتقيق :حممد احلبيب بن اخلوجة ،دار الغرب اإلسالمي ،بريوت ،ط1891 ،2.م ،ص.303.
ّ 1حازم
2أرسطوطاليس :فن الشعر ،ترمجة وحتقيق :عبد الرمحن بدوي ،مكتبة النهضة املصرية ،القاهرة1893 ،م ،ص.29 - 22 .
66
غرضي،
غير أن انتفاء هذه الوحدة يكون صحيحا إذا بنينا حكمنا هذا على أساس َ
ينظر فيه إلى الموضوع أو الشرائح التي تشتمل عليها تلك القصيدة ،وأغفلنا زوايا نظر أخرى
يمكن أن تتخذ وشائج تشد تلك الشرائح ،وتجعلها لبنات تتجاور وتتالحم في مركزية بنائية
واحدة.
واذا استندنا إلى أن الشعر أساسا هو رؤية خاصة بالشاعر ،يتأسس عليها موقفه من
العالم ،ونظرته إلى الحياة ،وأن خصوصيتها من القوة والحضور بحيث تتجاوز إطار
العالقات المنظورة ،والنسب المألوفة بين األشياء ،إلى اختراع عالقات جديدة بينها ،أمكننا
أن نقتنع أن معطيات الحس األولي تستحيل مادة أولية ،في وسع الشاعر أن يستحدث منها
عالما متجانسا وموحدا من الموضوعات والصور والعالقات قائما في إدراكه وفكره ،مهما
بدت متنافرة ومتباعدة في عالم األشياء الخارجية المفارقة لعالم النفس الداخلي.
لذلك نكون مخطئين حتما إذا اعتقدنا أن أبيات القصيدة العربية القديمة خلت من كل
مظاهر الوحدة ،فما أكثر الزوايا التي يمكن من خاللها النظر إلى التماسك والترابط بين
أجزاء العمل الفني عامة والقصيدة خاصة.
وبناء على ذلك ،وبتوفر جوانب من تلك القيم ،والتصورات في القصيدة ،يصبح في
اإلمكان الحديث عن أنماط من الوحدة بعيدا عن وحدة الموضوع ... " ،فالوحدة تتحقق إذا لم
67
يشعر الذوق بالبعد والقطيعة بين الفكرة والفكرة ،أو الصورة والصورة ،ويستوي في ذلك أن
يكون الموضوع واحدا أو تتعدد الموضوعات ".1
ويشير طه مصطفى أبو كريشة إلى تقديم الرمزيين الوحدة الشعورية على الوحدة
الفكرية الظاهرية بقوله..." :إال أنه نقل عن النقد الغربي أن فيه من يستسيغ االنتقال في
القصيدة من فكرة إلى فكرة على أساس اإلحساس ،والشعور النفسي ،مع ضعف الرابطة
المنطقية بين الفكـرتين ،وذلك قصدا إلى إثارة عنصر المفاجأة ،وهؤالء هم الرمزيون" ،2ويعلل
ذلك بإسراف الرمزية في الخيال ".3
واذا كان الشعر هو ذلك الوارد الغريب الذي يزور األشياء فيزيلها عن مواضعاتها،
وينزع األلفة عنها ،فلن يكون هذا األمر من باب التجوز والمسامحة فيه ،بل يكون عندئذ من
ألزم األشياء في طبيعته ،وأخص الخصائص في ماهيته.
1طه مصطفى أبو كريشة :أصول النقد األديب ،مرجع سابق ،ص.224.
2السابق ،ص.229 .
3السابق ،املوضع نفسه.
68
وحدة البيت ووحدة القصيدة
أساسية ،من أجل ذلك
ّ وخطية
ّ يش ّكل البيت في القصيدة العربية القديمة وحدة صوتية
النظرّية القديمة على ضرورة أن يكون مكتفيا بذاته ،وذلك ال يتحقّق له إال باستقالله
رّكزت ّ
بنائيا ومعنويا عن سائر أبيات القصيدة .ومن هنا جاءت فكرة " بيت القصيد " ،أي البيت
المشتمل على الغرض األساسي لل ّشاعر ،وهو ما لن يكون – نظرّيا -إالّ والبيت في معزل
عن األبيات األخرى.
وحدة البيت هذه هي التي أشار إليها ابن خلدون بقوله متحدثا عن صناعة الشعر
ووجه تعلمه ... ":وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كالم وحده مستقل عما
قبله وما بعده .واذا أُفرد كان تاما في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على
إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته ثم يستأنف في البيت اآلخر كالما آخر كذلك ".1
من الواضح أن ابن خلدون يشير إلى إحدى أهم الخصائص في طبيعة الشعر العربي،
ومعمارية القصيدة العربية التقليدية ،المتمثلة " ...في البيت الشعري المستقل ببنائه ومعناه،
وكأن صناعة البيت الشعري تقوم على العناية الدقيقة ببناء البيت وايفائه نصيبه من الجهد
والرعاية ،واإلحكام حتى يصير مكتفيا بذاته ال يحتاج إلى غيره من األبيات األخرى .2" ...
70
بأن من النقّاد القدماء من كان
النقدية العر ّبية ،ما يشهد ّ
المدونة األدبية و ّ
ّ أن في
غير ّ
يتمتع بنظرة أ كثر رحابة وشمولية ،نظرة فيها بعض التحرر من ضيق البيت الواحد إلى سعة
التشتيتية من
ّ تشده إلى أبيات أخرى ،على األقل إلى األبيات األقرب إليه .فليست تلك النظرة
النقدي الموروث .وفي للمنجز ّ
َ الشمولية بين النقاد القدماء كما يتصور بعض المتلقّين
الشعراء أنفسهم من كا ن يشاطر النقاد النظر الموسع إلى ارتباطات األبيات في جسم
بأنه " ...ليس له
شعر ابنه عقبة ّ
الع ّجاج َ
بن َالقصيدة .فها هو الجاحظ يورد وصف ُرؤبة ِ
قران ".1
ويقصد انعدام الموافقة والتناسب بين األبيات .ومثلُه ما حكاه من قول عمر بن لَ َجإ
ألني أقول البيت وأخاه ،وأنت تقول
وبم ذلك؟ قالّ :
لبعض الشعراء ":أنا أشعر منك قالَ :
عمه " .2والى هذا ذهب أبو هالل العسكري بقوله " :وينبغي أن تجعل كالمك
البيت وابن ّ
أطرُاره ،وتكون
مشتبها ّأوله بآخره ،ومطابقا هاديه لعجزه ،وال تتخالف أطرافه ،وال تتنافر َ
الكلمة منه موضوعة مع أختها ،ومقرونة بلِ ْف ِقها…".3
إن القراءة المزدوجة لمقولة ابن خلدون في مسألة وحدة البيت من جهة ،ومقولة الجاحظ
ّ
والعسكري من جهة أخرى ،تُفضي بنا إلى التسليم بوجود رؤيتين مختلفتين في تلك المسألة:
خفية مع سائر
عالئقية ظاهرة أو ّ
ّ تصر على دخوله في
تتبنى استقاللية البيت ،وأخرى ّ
رؤية ّ
مبنيا
الناس من يستحسن ال ّشعر ّ
األبيات .وهذا االختالف يسلّم به ابن رشيق بقوله ":ومن ّ
بعضه على بعض ،وأنا أستحسن أن يكون ك ّل بيت قائما بنفسه ،ال يحتاج إلى ما قبله وال
إلى ما بعده ،وما سوى ذلك فهو عندي تقصير إالّ في مواضع معروفة مثل الحكايات وما
فإن بناء اللّفظ على اللّفظ أجود هنالك من جهة السرد.4" ...
شاكلهاّ ،
ويبدو أن ابن خلدون نفسه -باستخدامه للفظ " ...كأنه - " ...أحس بأن ما ذهب
إليه ليس أكثر من قراءة شخصية ،من المشروع مناقشتها والتعقيب عليها .وكذلك ابن رشيق
71
يعبر عن رأي شخصي ويكشف عن استحسان ذاتي ،كما يظهر من عبارة " وأنا ّإنما كان ّ
أن بعض مؤرخي النقد العربي المعاصرين – حين أستحسن" " ،وهو عندي " .وهذا يؤ ّكد ّ
للنص
ّ أحادي
ّ تلق
يصرون على قيام ذلك النقد على وحدة البيت المطلقة ّ -إنما ينطلقون من ّ
ّ
تبين
النقدي فقد ّ
النص ّ
ّ فأما من ناحية
قدي القديم ،ولمفهوم الوحدة نفسها من ناحية أخرىّ .
الن ّ
ّ
النظر إلى البيت على ّأنه وحدة مستقلّة كان مذهب فريق واحد من القدماء ،كابن خلدون
أن ّّ
الداعي إلى تحقيق نوع من التضام ،والتداعي
وابن رشيق .في مقابل مذهب الفريق الثاني ّ
بين أبيات القصيدة الواحدة.
وقد ال حظ إيفالد فاجنر هذا الغرض من التضمين ،المتمثل في إيجاد الرابط بين
األبيات التي تجمعها فكرة جزئية واحدة -أو " البنية الصغرى " كما سماها -على األقل
في القصيدة .فهو يرى أن التضمين وسيلة نحوية استخدمت " إلنشاء أوجه الربط في البنية
الصغرى ،فبواسطة الجمل الطويلة يستطيع المرء أن يتخطى حدود البيت ،وهكذا تُجمل عدة
أبيات في وحدة فكرية ".2
كما أشار إلى ما ُذكر آنفا من ثورة بعض الشعراء موقف العروضيين من التضمين
وتصنيفه مع العيوب ،والى اغتفار بعض النقاد أنفسهم ذلك ،ودفاعهم أحيانا عنه وتبريره كما
1ابن األثري :املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر ،مصدر سابق ،ج ،0.ص.000 .
2إيفالد فاجنر :أسس الشعر العريب الكالسيكي ،مرجع سابق ،ص.002.
72
مر مع ابن األثير ،يقول ":وفي الواقع أنكر نقاد األدب فيما بعد هذا التضمين
) ) Enjambementإنكا ار شديدا .وسواء أكان تحريم التضمين اختالقا متأخ ار للنقاد أو
عرفا ضمنيا للشعراء العرب القدامى فإن القصائد المترجمة في الفصول السابقة تبين أمثلة ال
حصر لها لم يحافظ فيها الشعراء على تحريم التضمين .1" ...
ومع ذلك ،وألن تلك الوحدة كانت" ...أكثر عمقا من تلك التي استوقفت ابن قتيبة وابن
طباطبا وحازما القرطاجني " . 3فإن وحدة البيت تظل – في الغالب األعم –" ...األصل
والمعيار في صناعة الشاعر والناقد معا ".4
73
الــــــوحــــــدة العضــــــويــــــــة
انتهت الوحدة العضوية إلى أن تكون من أكثر القضايا النقدية إلحاحا في نقدنا العربي
الحديث .وكان أكثر الدعاة إليها في العالم العربي األدباء والنقاد المتأثرون بالمنازع
البين إلى دعوتهم
الرومانسية والرمزية ،والمتضلعون من الثقافات الغربية ،التي كانت سبيلهم ّ
المتحمسة تلك.
عض يضم أجزاءه ،وسبيلها أن يشعروأساس هذه الوحدة هو قيام النص على نسق ُمت ّ
قارئ النص بتنامي مضامينه شيئا فشيئا فيؤدي السابق منها إلى الالحق ،بما ال يمكن معه
التصرف في تراتُ ّبيتها دون فساد في المعنى العام .و ُيعزى إلى أرسطو أيضا سبق الدعوة
إلى هذه الوحدة ،التي يرى تحققها بـ ... ":أن تُؤلَّف األجزاء بحيث إذا نقل أو بتر جزء انفرط
عقد الكل وتزعزع ،ألن ما يمكن أن يضاف دون نتيجة ملموسة ال يكون جزءا من الكل ".1
أوهي -كما يبسط معناها الدكتور محمد مندور " -بناء القصيدة بناء هندسيا بحيث تخرج
من بين يدي الشاعر كالكائن العضوي الذي ال يمكن نقل جزء منه مكان جزء آخر ".2
وفي المنجز النقدي العربي القديم ،تستوقف الباحث عبارات البن طباطبا يقرأها بعض
الدارسين على أنها من هذا القبيل ،يقول فيها ":وأحسن الشعر ما ينتظم فيه القول انتظاما
يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله ،فإن قُدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل
الرسائل والخطب إذا نقض تأليفها .فإن الشعر إذا أسس تأسيس فصول الرسائل القائمة
بأنفسها [ ] ...لم يحسن نظمه بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة في اشتباه أولها
بآخرها نسجا وحسنا وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف ".3
ففي هذا النص من اصطالحات دعاة الوحدة العضوية ،ما يغري بالذهاب إلى أن
صاحبه يفهم هذه الوحدة كما هي في النقد الحديث مثل " االنتظام ،والنظم واالشتباه ".
75
إلى جانب اصطالحات تدخل في صلب دعوات تطرحها لسانيات النص بوصفها
صدر به الدكتور عبد المالك مرتاض
آليات تحقق للنص عنصر الربط ،مثل " النسج " الذي ّ
النساج وأدواته ،يقول ":فالنص إذن نسج ،وهو تعريفا له قائما على مقارنة طريفة بصناعة ّ
مكون من مواد تشبه أدوات النساج :فالخيط ،في تمثلنا ،يقابل مادة الحبر ،والخالل قد يقابل
َّ
أداة القلم ،والكتاب قد يقابل هيئة النسج ،ومنتجات المنسج قد تشاكه ،من بعض الوجوه،
النساخة قبل اختراع المطبعة ) ،والنساج ( أو النساجة ) وهو الصَّناع
منتجات المطبعة ( أو ّ
يبدع فيما ينسج ،وهو يرّكب الخيوط بعضها فوق بعض ،كما يبدع في التنسيق بين األلوان،
وفي الدقة في الحبك والحياكة :مثله مثل الذي يكتب كالما وهو يبدع فيما يكتب حين يركب
الحروف بعضها فوق بعض ،وينسج لغة الكالم بعضها من حول بعض .1" ...
ثم يبني على ذلك تساؤله عن مصداقية تحويل هذا اللفظ عن معناه اللغوي السابق إلى
معناه االصطالحي المتداول اليوم قائال ":فأين موقع النص األدبي بالمفهوم الجاري عليه
3
خلو هذا
االستعمال المعاصر بالقياس إلى ما ذكرتْه المعاجم العربية ؟ . " ...ليصل إلى ّ
المصطلح من المناسبة الداللية لما يطلق عليه اليوم ،يقول ":ولوما أن النص مصطلح
1عبد املالك مرتاض :نظرية النص األديب ،دار هومه ،اجلزائر6002 ،م ،ص.22-22.
2السابق ،ص.22.
3السابق ،املوضع نفسه.
76
متداول اليوم بين العرب لما كان له في أصل الوضع اللغوي أي داللة اشتقاقية قاطعة،
متالئمة مع الوظيفة التي ينهض بها في حضن اإلبداع ،بل في حضن ما قبل اإلبداع.1"...
وحتى يعضد رأيه السابق يعقد مقارنة بين لفظ النص في العربية ،وما يقابله في اللغات
األوروبية الحديثة ،فيشير إلى اتجاه غالب تلك اللغات إلى الداللة على مفهوم " النص " في
العربية ،بما يمكن أن تُترجم إليه كلمة " النسج " العربية ،وهو " " Texteفي الفرنسة،
و" "Textoفي اإلسبانية ،و" " Textفي اإلنجليزية .2إضافة إلى ألفاظ أخرى ضمها الجهاز
المصطلحي في مقولة ابن طباطبا السابقة مثل " االتساق" الذي يجعله محمد خطابي ترجمة
للفظ ".3"Cohésion
كما تحيلنا عبارة ابن طباطبا التي نصها " ...فإن قُدم بيت على بيت دخله الخلل"
على أحد الشروط التي وضعها العقاد لتحقيق الوحدة العضوية في تفكيكه لمرثية أحمد شوقي
في الزعيم مصطفى كامل.4
لكن قضية الوحدة العضوية ،أعقد من أن تكون مصطلحات كثي ار ما تختلف دالالتها
حسب االستعمال ،خصوصا مع اختالف بيئات مستعمليها وتباعد الزمن بينهم .من أجل
حمل هذا النص وأشباهه ما ال يحتمل ،بإسقاط النظرة
ذلك رأى الدكتور محمد مصايف أالّ ُي ّ
المعاصرة للوحدة العضوية عليه .فابن طباطبا – ومثله ابن رشيق ": -لم يقصدا ،في واقع
األمر ،غير وحدة الشكل ،التي هي غير الوحدة العضوية ".5
77
وهو رأي أسَّسه على أن ابن طباطبا إنما كان يدعو إلى إحداث نوع من التناسب بين
أجزاء القصيدة التي سبق الحديث عنها ،من مقدمة وخروج واختتام ،فهو يرى أن" ...للشعر
فصوال كفصول الرسائل ،فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كالمه – على تصرفه في فنونه –
صلة لطيفة ،فيتخلص من الغزل إلى المديح ،ومن المديح إلى الشكوى [ ]...بألطف تخلص
وأحسن حكاية بال انفصال للمعنى الثاني عما قبله ".1
يدعُ إلى
ويمكن أن يفهم من رأي الدكتور محمد مصايف أنه إذا كان ابن طباطبا لم ْ
وحدة الموضوع فمن باب األولى أنه ال يدعو إلى الوحدة العضوية ،فكأن األولى الممر
الوحيد إلى الثانية .يقول تعقيبا على نص ابن طباطبا ... ":فابن طباطبا ال يشترط توحيد
الموضوع والمشاعر ،وانما يطالب بحسن الربط بين الموضوعات المختلفة التي يمكن
للقصيدة أن تتألف منها ،وبحسن التخلص من موضوع إلى آخر يقاربه من حيث المعنى ".2
واذا كان عدم اشتراط ابن طباطبا وحدة الموضوع أم ار ّبينا ال يمكن رده ،أو توجيه
قراءته وجهة أخرى ،فإن عدم اشتراطه وحدة المشاعر ال يقطع به ظاهر نصه .إال على
تصور هذه الوحدة نتيجة الزمة لوحدة الموضوع ،وهو أمر يقبل األخذ والرد ،وقد تقدم أن
وحدة الشعور قد تؤلف بين أشتات الموضوعات المختلفة ،والصور المتباينة ،في ما يمكن أن
نطلق عليه الشعور التأليفي.
واذا كانت وحدة الشعور شرطا أساسيا للوحدة العضوية ،فمن المشروع التفكير في
إعادة قراءة نص ابن طباطبا السابق ،وما يماثله من نصوص تراثية أخرى ،منظو ار إليها
بمرايا مسطحة تضمن القراءة الموضوعية الواقعية ،بعيدا عن المرايا المحدبة وتضخيمها
الغرور من جهة ،وعن المرايا المقعرة وتقزيمها المخل من جهة أخرى.
78
أما النقد العربي الحديث فقد رصد الدكتور محمد مصايف وعيه هذه القضية في ثالث
1
عبر عن إعجابه بالسعة التي يجدها الشاعر
مراحل ،كان من روادها نجيب الحداد ،الذي ّ
الغربي في قواعد النظم التي تتيح له أن يربط البيت السابق بالبيت الالحق لفظا ومعنى.
ففي استطاعته أن يجعل الفاعل في نهاية البيت األول ،والمفعول في بداية البيت
الثاني .وهو ما يساهم في ترابط األبيات ،ويجعلها في تناسق مستمر ،في حين يتحرج
ضيق عليه فيه .لكون هذا السلوك الذي سماه العروضيون العرب وي ّالشاعر العربي من هذاُ ،
تضمينا معدودا مع عيوب القافية .على أنه قد سبقت اإلشارة إلى أن ابن األثير لم ير بأسا
من ذلك ،قياسا على ترابط الفقر في النثر ،وهو رأي يدل على أن في مدونتنا النقدية القديمة
آراء ذ ات صبغة تقدمية وثورية جريئة ،وأن النظرية النقدية العربية كانت تتطور بما يصل
أحيانا إلى الخروج على المقررات ،والى التعقيب واعادة التقويم في مسائل ال تحتاج فيها إلى
كشوفات النقد الغربي الحديث ،ومنها هذه المسألة .
1
السابق ،ص.482 .
2ديوان اخلليل ،دار الكتاب العريب ،بريوت ،ط1022 ،2.م ،ص.0 – 8.
79
القادر المازني ) ،التي أخذ معها ذلك الميل الطابع الدعوي القائم على الروح العقدي
واالنتماء المدرسي.
وكان جنوح عبد الرحمن شكري إليها مؤسسا على موقف له نقدي لطريقة قراءة
الجمهور للشعر .إذ رأى أنها قراءة تجزيئية انتقائية ،يلتقط بها القارئ ما يناسب ذوقه
ومستواه ،غير مبال بالسبب الذي دفع الشاعر إلى نظم القصيدة .ومن الطبيعي أن يكون
ذلك السبب أو األسباب قيمة داللية موزعة على األبيات كلها فال يمكن الوقوف عليه إال
بقراءة القصيدة من أولها إلى آخرها ،لذلك كانت قيمة البيت في الصلة التي تربط معناه
بموضوع القصيدة كلها .فاألبيات عبارة عن معان جزئية ،والقصيدة في مبناها العام هي
المغزى النهائي الذي يجب أن تتأدى إليه تلك المعاني.1
أما العقاد فالصلة الجامعة بين األبيات عنده هي " خاطر أو خواطر متجانسة " ،في
مقابل المعنى الكلي عند شكري ،2تماشيا مع ميله المعروف إلى معطيات علم النفس في
النقد األدبي ،ويختار شريكه المازني تسمية " الصلة " أو " الحقيقة " تعبي ار عن ذلك الرابط،
وسواء أمعنى كليا كانت التسمية أم خواطر متجانسة أم صلة وحقيقة ،فإن عصبة الديوان
تلتقي عند الدعوة إلى ضرورة أخذ القصيدة كالّ متكامال ،ونسيجا موصول اللحمة والسدى،
ليكون ذا وحدة عضوية.
وقد اجتهد العقاد في تحديد معنى هذه الوحدة ،بوضع بعض الخصائص الالزمة لها
والتي منها :طول النفس الشعري ،وصالحية القصيدة للعنونة والتسمية ،واستعصاء أبياتها
على التقديم والتأخير ،واشتمالها على الخاطر المؤلف.3
ومن المعلوم أن الخصيصة األولى هي محصلة عمل تطبيقي ،وصل إليه العقاد من
قيمة لشعر ابن الرومي الذي يراه من الشعراء العرب القليلين الذين تتوفر هذه الوحدة
دراسة ّ
1حممد مصايف :مجاعة الديوان يف النقد ،مرجع سابق ،ص.688 – 682 .
2السابق ،ص.600 .
3السابق ،ص.200.
80
لقصائدهم .1وهذا الشاعر معروف بمطوالته التي يستقصي فيها األوصاف الدقيقة ،ويلح
على التفصيالت ،ويولّد المعنى إلى الحدود القصوى ،وهو ما يساعد على التركيز على
المعنى الكلي ،وتناميه شيئا فشيئا بما يجعل الوحدة العضوية أكثر وضوحا.
ولكن يبدو أن هذه الرحلة التي استنفدتها قضية الوحدة العضوية ،وهي تسير سيرها
نحو التطور لم تكن كافية .فقد رأى بعض الدارسين أن النقد العربي الحديث لم يخ ُل من
غموض في فهم هذه الوحدة ،على األقل عند النقاد األكثر تحمسا لها ،كالعقاد الذي واجه
فهمه لها نقدا حادا من محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ،اللذين سلكا العقاد فيما سمياه
( المدرسة القديمة ) ،مؤكدين أن مفهوم الوحدة العضوية غير واضح في ذهنه.2
ومهما يكن من أمر هذه النزعة الهجومية التي قوبل بها فهم العقاد ،ودو ِافعها الحقيقية
يردها محمد مصايف إلى أمور أعمق وأشمل من االختالف في
عند الناقدين السابقين ،والتي ّ
مفهوم الوحدة العضوية ،تتصل بالفروق الجوهرية بين جيلين واختالف رؤيوي إيديولوجي عند
كليهما حول تصور الرسالة التي يجب أن يبشر بها األدب والشعر ،والعالقة بين الصياغة
والمضمون ،وتسخير الشعر للمضمون االجتماعي ،3فإن الرأي الغالب هو أن العقاد وشريكيه
التميز
في جماعة الديوان عموما ،لم يكن لهم تصور عن الوحدة العضوية مكتمل وواضح ّ
عن وحدة الموضوع لذلك فإن ... ":الوحدة الفنية التي كانت في ذهن العقاد حين قال هذا
الكالم هي وحدة الموضوع ،وحدة المعنى ،وحدة العنوان ،ال أقل وال أكثر ".4
وغموض هذا المفهوم في النقد العربي الحديث ،أشار إليه أيضا الدكتور محمد مندور
قائال ":والواقع أن ( وحدة القصيدة ) لها قصة طويلة في أدبنا العربي ،قديمه وحديثه كما أن
مفهومها قد ظل غامضا لزمن طويل .إذ نالحظ أنه قد قُصد بها أحيانا كثيرة في نقدنا
1عباس حممود العقاد :ابن الرومي حياته من شعره ،املكتبة العصرية ،صيدا – بريوت ،د.ت .ص.626 .
2حممود أمني العامل وعبد العظيم أنيس :يف الثقافة املصرية ،دار الفكر اجلديد ،بريوت ،ط1022 ،1.م ،ص.22.
3حممد مصايف :مجاعة الديوان يف النقد ،مرجع سابق ،ص.202 – 202.
4السابق ،ص.202.
81
الحديث إلى ( وحدة الغرض) " .1ومكمن هذا الغموض هو أن وحدة الغرض هذه " ...أخذت
تختلط بعد ذلك عند العقاد وغيره من نقادنا المحدثين بما سموه (الوحدة العضوية)".2
إال أن اعتراض محمد مندور لم يكن على سوء فهم النقاد المعاصرين لتلك الوحدة
والتباسها عليهم ،بقدر ما كان موجها إلى مطالبة أولئك النقاد -ومنهم العقاد -بتوفير
الوحدة العضوية في القصيدة ولو كانت غنائية ،في حين أن طبيعة هذا الضرب من الشعر
يمكن االكتفاء فيه بوحدة الغرض ( أو الوحدة الموضوعية ) ،لقيامه على توارد الخواطر،
وتداعي األحاسيس ،حسب ما ينتاب الشاعر من تصورات وأفكار ،فالدعوة إلى الوحدة
العضوية " سليمة من ناحية الفلسفة الجمالية ولكنها ال تكاد تُتصور في الشعر الغنائي
الخالص الذي يقوم على تداعي المشاعر والخواطر في غير نسق وضعي محدد .3" ...
على أن هذا االتجاه إنما غلب على الشعراء الذين يتوجهون – عادة – بالمطوالت من
القصائد إلى غير ذواتهم ،بل يقصدون بها ممدوحا يرجون عنده جاها أو نواال .لتبقى رؤية
82
مندور هذه تؤكد قناعة ال تخلو من سداد ووجاهة ،وهي أن محاولة فرض الوحدة العضوية
على القصيدة الغنائية – وهي شعر وجدان قائم على التلقائية واطالق العنان للمشاعر –
ضرب من التكلّف ينافي العفوية الضرورية لصدق التجربة ال ّشعرّية في تلك القصيدة،
وتعمل ،يفضي بها إلى أن تصبح قصيدة فكر قائمة ،على التأمل ويتجافى بها إلى افتعال ّ
يتهيأ للفكر تحقيق تلك
والقصدية التي ُيؤجل بسببها الوجدان ،ويحكم تدفق المشاعر ريثما ّ
الوحدة.
83
الفصــــــــــــــل الثـــالث
المطلـــــــــــع
وقد استند في ذلك إلى نص صريح البن رشيق ،يشير إلى أن " ...أهل المعرفة
بالشعر ونقده يختلفون في مدلول المطلع ،فبعضهم يرى أنه ليس البيت األول ،بل وال البيت
الكامل ،وانما هو أول البيت فقط [ ،] ...وبعضهم يرى أن المطلع ال يراد به أول البيت،
وانما يراد به أول كالم مبني على كالم مبني على كالم سابق ومرتبط به ،فنهاية الكالم
السابق تسمى فصال ،وبداية الكالم الالحق والمبني عليه تسمى مطلعا ،كما أن الكالم
الالحق نفسه يسمى وصال ".2
وبالرجوع إلى كتاب العمدة البن رشيق ،نجد النص على هذا االختالف بقوله ":اختلف
أهل المعرفة في المقاطع والمطالع ...فقال بعضهم هي الفصول والوصول بعينها فالمقاطع
أواخر الفصول والمطالع أوائل الوصول [ ] ...وقال غيرهم المقاطع منقطع األبيات وهي
القوافي والمطالع أوائل األبيات.3" ...
وهي القناعة نفسها التي انتهى إليها الدارسون المحدثون ،كما ّبين الدكتور حفني في
يخلص " ...إلى أنختام تعليقه على الغموض الوارد في تحديد القدماء للمطلع إذ ْ
1عبد احلليم حفين :مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،7891 ،ص.77.
2السابق :ص.71-77.
3ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،7.ص.781.
86
الدارسين ،وان كانوا لم يتعرضوا صراحة للتفريق بين المطلع والمقدمة أو غيرهما ،ولم يحددوا
مفهوم هذه األلفاظ في استخدامهم إياها ،إال أن أسلوب استخدامهم إياها يوحي بأنه أصبح
في حكم الواضح لديهم ،أو المتعارف عليه بينهم ،أن المطلع تقصد به الداللة على البيت
األول من القصيدة ،وأن المقدمة تقصد بها الداللة على كل العناصر السابقة للموضوع ".1
غير أن هذا التحديد ال يعني أن ظالل المطلع ال تمتد إلى ما بعده من أبيات ،السيما
البيت الذي يتلوه ،بل يفهم من الشروط الفنية والمعنوية التي وضعها النقاد والبالغيون
القدماء ،أن للمطلع امتدادات تنال األبيات الالحقة ،وتتفاوت قوتها ووضوحها تبعا لقرب
البيت من المطلع وبعده عنه ،فقد" ...أوجب النقاد أن يكون البيت الثاني في المطلع مناسبا
لألول في حسنه وتابعا له في معناه وتكون األبيات األخرى مقابلة لهما على جهة من جهات
التقابل كاالقتضاء والتفسير والمحاكاة وغير ذلك من األشياء التي تقتضي ذكر شيء بعد
شيء آخر وهكذا حتى نهاية الفصل .واذا كان األمر على عكس ما ذكر غض ذلك من
بهاء المبدإ وحسن الطليعة ".2
1عبد احلليم حفين :مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية ،مرجع سابق ،ص.71.
2سعيد األيويب :عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي ،مرجع سابق ،ص.112 .
87
المطلـــع والجماليـــة الشعريـــة
حسان لسعه زنبور فجاء أباه يبكي ،فقال له :مالك؟ فقال:" يروى أن عبد الرحمن بن ّ
لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة .قال :قلت واهلل الشعر".1
تدل قصة حسان هذه مع ولده ،على أن الشعرية عند المتقدمين من شعراء العرب
أنفسهم ،إنما كانت تعني فرادة التعبير المتجسدة هنا في جمالية التصوير تخصيصا .إذ ليس
في عبارة عبد الرحمن من مقومات اللغة الشعرية ،وعناصرها المعقدة والمتعددة إال الصورة
الفنية القائمة علي التشبيه .على أن التصوير أخي ار هو الركن الشديد الذي تتأسس عليه تلك
اللغة ،وهو أول ما يرد الذهن عند إرادة الحديث عنها.
واذاً أدرك الشاعر العربي القديم أن " التجربة الشعرية في أساسها تجربة لغة ،فالشعر
هو االستخدام الفني للطاقات الحسية والعقلية والنفسية والصوتية للغة .ولغة الشعر هي
الوجود الشعري الذي يتحقق في اللغة انفعاال وصوتا موسيقيا وفك ار.2" ...
وقد ظل الوعي النقدي العربي يؤمن بأن " ...ما يكسب الشعر أسلوبا وكيفية أجود
إنما هو صفته الخاصة وجرسه ،أي اللغة .3" ...حتى بعد أن سار الزمن سيره فوضعت
األصول ،وتوضحت الحدود ،وتعقدت الصناعة الشعرية في العصور الالحقة ،وترسخت
ماهيتها بكل ما فيها من مميزات وخواص ،على رأسها الخاصة الموسيقية المتمثلة في الوزن
والقافية.
النقّاد والمنظّرين العرب القدماء ،طبيعة اللغة العربية
رسخ هذه القناعة عند ّ
وكان مما ّ
نفسها ،فهي لغة تستهوي السمع وتستجمع حساسيته عندها ،مما يجعلها لغة شاعرة كما
وصفها العقاد ،جاعال هذا الوصف عنوانا لكتاب قائم بذاته رائد في موضوعه ،لم يتردد عن
الجزم فيه بأن ":اللغة الشاعرة هي اللغة العربية .وليس في اللغات التي نعرفها ،أو نعرف
شيئا كافيا عن أدبها ،لغة واحدة توصف بأنها لغة شاعرة غير لغة الضاد ،أو لغة األعراب،
1املربد :الكامل ،حتقيق :حممد أمحد الدايل ،مؤسسة الرسالة ،بريوت ،ط ،4004 ،4.ج ،1.ص.244.
2السعيد الورقي :لغة الشعر العريب احلديث مقوماهتا الفنية وطاقاها اإلبداعية ،دار النهضة العربية ،بريوت ،ط ،1894 ،2.ص.5.
3ماثيو أرنولد :دراسة الشعر ،ضمن كتاب :النقد ،أسس النقد األديب احلدث ،تبويب مارك شورد وآخرين ،ترمجة هيفاء هاشم ،وزارة الثقافة ،دمشق،
،4002ص.226.
89
أو اللغة العربية".1
وهو لذلك ليس مقتنعا بمقولة " اللغة الشعرية" وصفا بصيغة النسب إلى المصدر .بل
يرى أن ما يوفي حق العربية من هذه الناحية هو وصفها بصيغة اسم الفاعل ،بكل ما تشير
إليه هذه الصيغة من فاعلية وايجابية .فيؤكد أنه ال يعني " ...باللغة الشاعرة ما يوصف
أحيانا باللغة الشعرية ،فإن الكلمة قد تكون شعرية صالحة للنظم في موقعها من السمع ،لكنها
ال تكون مع ذلك جارية مجرى الشعر في نشأتها ووزنها واشتقاقها ،بل تكون كأنها الطعام
الذي يصلح لتركيب البنية ولكنه ليس هو في ذاته هو البنية الحية وليس باللحم والدم الذي
تتركب منه أجسام األحياء ".2
وكان قبل هذا قد ّبين الفرق – كما يراه – بين اللغة الشعرية واللغة الشاعرة ،حين ّبين
أن مستخدمي الوصف األول يعنون أن العربية " لغة يكثر فيها الشعر والشعراء ،وأنها لغة
مقبولة في السمع يستريح إليها السامع كما يستريح إلى النظم المرتل والكلم الموزون ،كما
يقصدون بها أنها لغة يتالقى فيها تعبير الحقيق ة وتعبير المجاز على نحو ال يعهد له نظير
في سائر اللغات [ ] ...أما الحقيقة هنا فهي أكبر من قول القائلين إن اللغة العربية لغة
شعرية النفرادها بفن العروض المحكم أو جمال وقعها في األسماع ،فإنها لغة شاعرة وال
يكفي أن يقال عنها إنها لغة شعر أو لغة شعرية .وجملة الفرق بين الوصفين أن اللغة
الشاعرة تصنع مادة الشعر وتماثله في قوامه وبنيانه ،إذ كان قوامها الوزن والحركة ،وليس
لفن العروض وال للفن الموسيقي كله قوام غيرها ".3
حيز الوجود
فاللغة العربية عند العقاد أكبر من أن تكون طاقات شعرية مجردة ،كامنة في ّ
بالقوة ،مفتقرة إلى عبقرية شاعر متميز يخرجها إلى حيز الوجود بالفعل ،في شكل قصيدة
رائعة أو قصة رائقة ،أو أي جنس أدبي آخر يش ّكل ذلك الوسيط الجمالي الذي تعبر به اللغة
إلى كينونة فنية متعينة .فهي في ذاتها كيان شاعر لقيامها على عبقرية التناغم في الوزن
والحركة ،وهو ما يجعلها تتماهى مع الشعر نفسه لكونهما من آكد عناصر ماهيته.
90
ومعلوم أن المقصود باللغة في الدراسات النقدية الحديثة ،يتجاوز مفهوم اللغة التقليدي،
المحصور في أصواتها ومفرداتها المدونة في المعاجم ،وال ما يمكن أن يتولد من تأليف تلك
األصوات والمفردات من جمل أو تراكيب .بل هي اللغة الشعرية تخصيصا ،التي هي كائن
أشد تعقيدا يتركب من كل اآلليات أو اإلجراءات التي تجسدها وتجعلها منج از قابال للتلقي.
وبهذا المفهوم تكون اللغة مضمونا جامعا لكثير من القضايا ،والقيم الفنية التي ال
تنتظمها اللغة بمفهومها التقليدي أو ( النفعي) ،بحيث تصبح تلك القضايا والقيم عناصر
تشترك في تشخيص هده اللغة " .فالصورة الشعرية بمكوناتها وأبعادها جانب من اللغة
الشعرية ،والصورة الموسيقية بأنغامها وايقاعاتها وأطرها التركيبية والتشكيلية جانب من اللغة
الشعرية ،والتجربة البشرية كموقف إنساني -على أي نحو كان – جانب من اللغة الشعرية".1
ص
الن ّ
يميز ّ
العباسي تحديدا هو العصر الذي ازدهر فيه الوعي النقدي بما ّ
والعصر ّ
الشعري ،ويمنعه من التماهي مع أجناس أدبية أخرى أخذت تتبلور في تلك الفترة ،وشرعت
ونقدا ،وتنتقص من سلطته التي تمتّع بها زمنا
إبداعا ً
ً تهز العرش الذي ترّبع عليه ال ّشعر
ّ
النوعية التي تدخل فيتخل من بعض قيم اللّغة ّفنونا نثرية لم ْ
غير يسير .ونعني بذلك ً
الترسل.
صميم البنية ال ّشعرية ،ومن تلك الفنون المقامة و ّ
الحد من تسلّل هذه الفنون المستحدثة إلى حمى ال ّشعر -بسبب
ّ ولع ّل محاولة
يتفرد بها ذلك الجنس المتعالي المحسود -
استجدائها لبعض الخصائص األسلوبية التي ّ
النقّاد العرب القدماء إلى تعميق البحث في اللّغة
كانت من جملة األسباب التي دفعت ّ
وتتأصل بها ،فال تخرج من بنية الشعر إلى بنية فنون
ّ تخصها
ّ ال ّشعرية ،والتأصيل ألسلوبية
تتسبب في التماهي ،وازالة الحدود
أخرى ،إالّ على سبيل اإلعارة اإلجرائية والجزئية ،بحيث ال ّ
النوعي بين األجناس األدبية. المفضية إلى التمييع ّ
ولكن يبدو أن االهتمام بشعرية الشاعر في النقد العربي القديم ،كان أوفر حظا من
كونه نقدنا القديم عن الشاعر ،أكثر نضجا من
شعرية القصيدة نفسها ،ذلك أن التصور الذي ّ
األول -باعتباره
المتقدمة التي تش ّكلت عن ّ
ّ كونه عن الشعر نفسه .فالمقوالت
الوعي الذي ّ
1السعيد الورقي :لغة الشعر العريب احلديث مقوماهتا الفنية وطاقاهتا اإلبداعية ،مرجع سابق ،ص.5 .
91
تأسس حول الثاني – باعتباره نصا-مما ّوتقدمية ّ
ناصا -أ ْشكل بالشعرية وأكثر خصوصية ّ
من مقوالت ابتدائية اتّصفت غالبا بالتبسيط والتسطيح .فمفهوم الشعر لم يكد يخرج كثي ار عن
تصور للشعر،
ّ مفهوم الوزن والقافية كما هو معلوم من ج ّل التعريفات التي حاولت تقديم
يتميز به عن النثر .لذلك كان الهيكل الخارجي للشعر ،وهو الوزن
حده بما ّ
سعيا منها إلى ّ
تحدد نقطة
ألنه العالمة األولى التي ّ
والقافية " ...القاسم المشترك في هذه التعريفاتّ ،
1
الدال على تلك المقوالت
االفتراق بينهما " ،فصارت عبارة " الكالم الموزون المقفّى " العنوان ّ
مهما اختلفت صيغ التّعبير عنها.
النقدية العربية بفضل
التطور الذي نال الرؤية ّ
ّ ومع ذلك ال يمكن إغفال بعض مالمح
فن ال ّشعر"
التثاقف والتناص مع الرؤى الوافدة عن طريق الترجمة ،خصوصا بعد نقل كتاب " ّ
الفن
ألرسطو ،وكذلك بفعل التنامي ال ّذاتي الذي تدفع إليه السيرورة الطّبيعية في حركة الفكر و ّ
النقّاد والمف ّكرين والفالسفة العرب
أن بعض ّك ّ وما يتّصل بهما من دراسات .فما من ش ّ
حد بها ال ّشعر أي الوزن والقافية ،فأضافوا
يطمئنوا إلى تلك الثنائية التي ي ّ
ّ والمسلمين القدماء لم
إليهما ضميمات أخرى تد ّل داللة واضحة على المحاوالت الماضية قدما في تعميق الوعي بالشعر
وما يتّصل به من بواعث وخصائص.
النقدية في تعريف ال ّشعر ،وتحريرها من ضيق فمن الذين عنوا بتوسيع مجال الرؤية ّ
الوزن والقافية ابن رشيق القيرواني (ت654 .هـ) ،الذي ّنبه إلى عدم كفاية الوزن والقافية
الستحقاق صفة ال ّشاعر ... " ،فإذا لم يكن عند ال ّشاعر توليد معنى وال اختراعه ،أو
مما أطاله
استظراف لفظ أو ابتداعه ،أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني ،أو نقص ّ
سواه من األلفاظ ،أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر ،كان اسم ال ّشاعر عليه مجا از ال
حقيقة ،ولم يكن له إالّ فضل الوزن ،وليس بفضل عندي مع التّقصير".2
حده بأنه
حده للشعر حين ّ
كما أضاف الجرجاني (ت614 .هـ) عنصر القصد في ّ
3
النية واالنصراف القلبي إلى نظم ال ّشعر،
"كالم مقفّى موزون على سبيل القصد" ،ويعني به ّ
92
مشير بذلك إلى المعاناة التي يقصى – بانعدامها -الكالم الذي اتّفق له الوزن والقافية صدفة
ًا
ويخرج من دائرة ال ّشعر ،كمنظومات بعض العلوم والفنون التي يقصد بها تسهيل حفظ
أن القصد قيد يخرج نحو قوله تعالى :الذي أ ْنقض ظ ْهرك ورف ْعنا لك القواعد ،إذ ّبين ّ
ذ ْكرك [ الشرح ،اآلية ،] 64 :فإيقاع اآليتين يلتقي مع بحر مجزوء الرمل ،إالّ ّأنهما كالم
حد ال ّشعر النعدام القصد.1
خارج عن ّ
نموا وعمقا مع ابن خلدون (ت606 .هـ) الذي تفطّن إلى بعد آخر
وتزداد هذه الرؤية ًّ
ال يمكن إغفاله عند الحديث عن طبيعة ال ّشعر ،ذلك هو عنصر التأثير في المتلقّي ،عند ما
المفصل بأج ازء متّفقة
ّ المبني على االستعارة واألوصاف،
ّ بأنه " الكالم البليغ
عرف ال ّشعر ّ
ّ
عما قبله وبعده ،الجاري على
في الوزن والروي ،مستق ّل ك ّل جزء منها في غرضه ومقصده ّ
2
النفوس ،كما يد ّل
أساليب العرب المخصوصة به " .والمقصود بقوله " البليغ" المؤثّر في ّ
يغا [ النساء ،اآلية ،] 46 :هذا إلى
على ذلك قوله تعالى :فق ْل له ْم في أنفسه ْم ق ْوالً بل ً
جانب ما أثرى به تعريفه من قيام الشعر أساسا على الخيال المفهوم من عبارة " االستعارة
أيضا عند الجرجاني وهو يورد
واألوصاف " ،والوظيفة التأثيرية في الشعر تبرز بوضوح ً
فيبين ّأنه " قياس مؤلَّف من الم َّ
خيالت ،والغرض منه انفعال مفهوم ال ّشعر عند المناطقةّ ،
النفس بالترغيب والتنفير… ".3
ّ
النقّاد العرب
ومع تقادم مقولة ابن خلدون فهي ال تعدم مقاربة مع ما يراه بعض كبار ّ
المقيد بالوزن والقافية،
أن ال ّشعر هو " الكالم ّ
في العصر الحديث مثل طه حسين الذي يرى ّ
الفني" ،4وأحمد الشايب في قوله ":هو الكالم الموزون المقفّى الذي
والذي يقصد به الجمال ّ
يصور العاطفة ،وتصوير العاطفة يقتضي التأثير العاطفي في الغير بنفس الدرجة ،فإذا خال
ّ
نظما ،واذا وجد التأثير ولم توجد الصورة
الكالم الموزون المقفّى من هذا التأثير كان ً
الموسيقية المؤلّفة من الوزن والقافية كان نث ار أدبيا".5
93
وال يخفى من كالم ابن خلدون والجرجاني ما في النظرية العربية القديمة من تطلّع إلى
حدد به جاكوبسون أدبية األدب أو
المتلقّي ،أحد طرفي عناصر الحدث االتّصالي الذي ّ
شعريته ،في هيكلته لذلك الحدث القائم على مرسل ومستقبل ،هما طرفا االتّصال ،وبينهما
معينة تجعل الرسالة في متناول اإلدراك،
رسالة لها سياقها ،ووسيلة انتقال ،وتحكمها شفرة ّ
تتوجه الرسالة بالتركيز نحو ذاتها طلبا للوظيفة الجمالية.1
وذلك حين ّ
أن هذا االهتمام بالمتلقّي لم يكن يصل في عمقه إلى المستوى الذي ولن نجادل في ّ
متميزة في نقدنا القديم ،إالّ ّأنه لفتة ّأولية رائدة من ابن خلدون
ّ يقوم فيه بنفسه ظاهرة
تنبهوا إلى المستقبل الذي أسست عليه أحدث النظريات كنظرية
ممن ّ
والجرجاني وغيرهماّ ،
النقدية المؤسِّسة لما
االستقبال ( ،)Théorie de la réceptionوقامت تناصره المناهج ّ
إحالل سلطة القارئ مح ّل سلطة
الداعية إلى ْ
بعد البنيوية كالتفكيكية ،وما جاراها من الرؤى ّ
النص ،بعد قيام هذه بدورها على أنقاض المؤلِّف المعدود مع األموات عند هذه االتّجاهات.
ّ
تصورهم عن ال ّشاعر نفسه
ّ المهمة لمفهوم الشعر عند القدماء يبقى
ّ مع هذه اإلضافات
النقدي العربي والهضم
أوضح وأعمق كما ذكرنا سابقا ،لذلك كان من اإلجحاف بالتراث ّ
تم في إطاره ،أن نكتفي بتلك التعريفات التي حاولوا أن يجلوا بها تمثّلهم للشعر
للمنجز الذي َّ
تصورهم عن ال ّشاعر الذي يقوم من ال ّشعر مقام ّ قر في
وال ّشعرية ،دون اإللمام بما است ّ
النقّاد
يعبر طه مصطفى أبو كريشة عن هذه القناعة بقولهّ ..." :إننا نظلم ّ المرسل أو الباثّ .
يكمله من اهتدائهم إلى معرفة العرب إذا اكتفينا بما ذكروه في تعريف ال ّشعر ،ولم ننظر فيما ّ
المقصود باسم ال ّشاعر".2
النقد
مكانا واسعا في فضاء القضايا التي طرحها ّ ً فلقد احتل الحديث عن الشاعر
النظرة السريالية المندهشة التي أحاطت بال ّشاعر في
السهل اكتشاف ّ
العربي القديم ،ومن ّ
تتجمع كلّها في
ّ ص بأوصاف تهويلية كثيرة التّقليد العربي ،إذ اعتبر كائنا فوق العادة ،وخ ّ
سيان في ذلك شخصه ك عن ك ّل ما له اتّصال بال ّشاعرّ ،
ميز التي ال تنف ّ
صفة الفرادة والتّ ّ
تتوهج فيه تجلّيات تلك ال ّذات المتعالية .وهو ما ذهب
كذات مبدعة خالّقة ،وابداعه كموضوع ّ
1ميجان الرويلي وسعد البازعي :دليل الناقد األديب ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء-بريوت ،ط2.ن 4004م ،ص.64 .
2مصطفى طه أبو كريشة :أصول النقد األديب ،مرجع سابق ،ص.5.
94
ألنه يشعر بما ال يشعر به
إليه ابن رشيق في تعليل إطالق لفظ ال ّشاعر عليه وذلك " ّ
غيره".1
متفوقا " يتجاوز اآلخرين بما يمتلكه من قدرات تم ِّكنه من
استحال ال ّشاعر إذاً كائنا ّ
رؤية ما ال يرون ،بل ّإنه قادر في نظرهم دائما ،على خلق عوالم أخرى تظ ّل م َّ
حجبة مت ّكتمة
للحس ،2" ...وهذا ما دفعهم إلى أن يصلوا بين ال ّشاعر وعالم
ّ على نفسها غير منكشفة
روبا من القول الم ِّ
فن ،ال الجن يوحي إلى متبوعه ض ً
ّ الغيب .فجعلوا لك ّل شاعر تابعا من
المتفردة " ،فالشاعر يتلقى معرفته مثل
ّ يستطيعها سواه من البشر المحرومين من هذه الصلة
جن [ كذا ]
الكاهن ،متنبئ القبيلة ،من خالل إلهام متجاوز البشر ،وللشاعر شيطان أو ّ
يلهمه معرفته ".3
الزوابع )
وعن هذه الرؤية صدر ابن شهيد (ت664.هـ) في كتابه ( رسالة التّوابع و ّ
الجن في صحبة تابعه زهير بن نمير ،ليحادث بعض توابع الشعراء
الذي سافر فيه إلى بالد ّ
ثم ينال إجازتهم ،فكان في جملة من لقي
الفحول والكتّاب النابهين ،فيسمعهم ويسمع منهم ّ
المتنبي ،4ولعلّه لن يخرج
ّ هناك عتيبة بن نوفل تابع امرئ القيس ،وحارثة بن المغلِّس تابع
سنة العرب في تهانيهم ،فقد أشار إلى ّأنهم لم يكونواالسياق ما ذكره ابن رشيق من ّعن هذا ّ
يهنئون" إالّ بغالم يولـد ،أو شاعر ينبغ فيهم ،أو فرس تنتج ".5
ّ
بأن
إن ربط نبوغ ال ّشاعر بحدث الوالدة في هذا التّقليد االجتماعي يد ّل على إحساس ّ
ّ
التفجر من ينابيع خفية ،كحدث الميالد نفسه
النبوغ ال ّشعري أمر خارق ،قائم على االنبثاق و ّ
متمنع في ق ارره المكين.
الذي هو انبثاق للحياة من عالم مستور ّ
التصور ما فيه من بعد ميطافيزيقي غيبي ،فلقد التقت شعوب
ّ ولن يقلّل من قيمة هذا
عموما ،فهؤالء الصينيون
ً كثيرة في ال ّشرق والغرب حول هذا التّفسير الميثولوجي لألدب
الدرجات حتّى ليقارب
يقدسونه ويرفعون من شأنه إلى أسمى ّ
" ...كانوا أكثر من سواهم ّ
1ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،1.ص.104.
2حممد لطفي اليوسفي :الشعر والشعرية ،الدار العربية للكتاب ،ليبيا-تونس1884 ،م ،ص.41.
3إيفالد فاجنر :أسس الشعر العريب الكالسيكي ،مرجع سابق ،ص. 22 .
4ابن شهيد :رسالة التوابع والزوابع ،درس و ومنتخبات :فؤاد إفرام البستاين ،الروائع ،ج ،52.ط4.ن 1894م ،ص.262-259 .
5ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،1.ص.104.
95
بالدين ،ومن هنا نجم إجاللهم للكتّاب والشعراء ،ونظرتهم إليهم على ّأنهم
تعلّقهم به إيمانهم ّ
السماء ،1"...وكذلك اعتقد اليونان ،وبعدهم
الناس العاديين و ّ
حكماء جاؤوا األرض صلة بين ّ
أن ال ّشعر فيض تتجلى به أمام شعرائهم اآللهة.
الالّتين ّ
عب ار عنها
النظرة تتّسق ومرحلة البداية الطفولية لألمم التي قام ال ّشعر م ّ
أن هذه ّ
الحق ّ
و ّ
دون النثر ،لما في تلك المرحلة من سذاجة يتّسع لها صدر الشعر في عفويته وتهويماته
األمة التي
النثر ،الملتزم غالبا برصانة الفّكر وواقعيته ،والذي يحت ّل موقعه في ّ
أكثر من ّ
وشبت عن طور البدايات األولى.
الرقي الحضاريّ ،
ّ متقدمة في
قطعت أشواطا ّ
النقد
النظرة المثالية ال تعني انعدام المعادل العقالني ،الذي عالج به ّ
أن هذه ّ غير ّ
محمد لطفي اليوسفي " :والثابت لدينا
العربي القديم الظّاهرة األدبية وعلى رأسها ال ّشعر .يقول ّ
توجه
تسنى لها أن تتعايش مع نظرة أخرى ّ
الضاربة بجذورها في الميثولوجيةّ ،
النظرة ّ
أن هذه ّ
ّ
توجها عقليا ذا طابع تنظيري الفت ،إذ اعتبروا ال ّشاعر صاحب صناعة مدارها
أصحابها ّ
اللّغة".2
تبناها
وتستوقفنا هنا كلمة " صناعة " ،فداللتها واضحة على الوجهة الوضعية التي ّ
النقدي العربي في تقويمه لل ّشعر ،فقد صار الشعر صناعة ،والصناعة " حرفةالدرس ّ ّ
3
يلم بها
ّ أن على ... " المتدرب مل ح وت التخصص،
و الممارسة تقتضي الحرفة
و ، الصانع "
4
أن أبا هالل
ويراعيها في نظمه لتكون صناعته مقبولة عند المتلقي ، " ...ونذكر هنا ّ
الصناعتين "
سمى كتابه ال ّشهير " كتاب ّ
النحو عندما ّالعسكري (ت495 .هـ) نحا هذا ّ
ويعني بذلك ال ّشعر والكتـابة ،وهـذا ما نعثر عليه في قول ابن سالّم الجمحي (ت641 .هـ)
الذي نقله عنه ابن رشيق " ولل ّشـعر صناعة ،وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم
الصناعات ".5
و ّ
96
وقد الحظ ابن خلدون نزول كثير من شعر العلماء والفقهاء عن مستوى اللّغة ال ّشعرية،
يسمى الجملة
بسبب غلبة مصطلحاتهم وعباراتهم على ألسنتهم .وهو ما يجعلهم يقعون فيما ّ
الدالالت اإليحائية
النثرّية ،ذات الداللة التقريرية البعيدة عن اإلشارات واللّمحات ،أو ّ
الضرورية لل ّشعر .يقول ابن خلدون في هذا السياق ":وأخبرني صاحبنا الفضل أبو القاسم
العباس بن شعيب
يوما صاحبنا أبا ّ
بالدولة المرينية قال ":ذاكرت ً
بن رضوان كاتب العالمة ّ
كاتب السلطان أبى الحسن -وكان المقدم في البصر باللّسان لعهده -فأنشدته مطلع قصيدة
النحوي ولم أنسبها له وهو هذا: ابن ّ
لَمْْأ َدرْْح ينَْْ َو قَف تْْب األ َط الَلْْْْْْ َم اْالفَر قْْب َي نَْْ َج د يد هَاْ َو البَال يْ
فقال لي على البديهة :هذا شعر فقيه .فقلت له ومن أين لك ذلك؟ فقال :من قوله :ما
الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كالم العرب .فقلت له هلل أبوك ّإنه ابن
النحوي".1
ّ
يشير بذلك إلى افتقار عبارة " ما الفرق؟ " إلى إشعاع ال ّشعرية وايحائها ،لكونها مبتذلة
يتبادلها – عادة -الفقهاء وطالّبهم في بحث المسائل والتّمييز بين األحكام والعقائد ،وغير
مما تصلح فيه هذه العبارة التعليمية المستهلكة.
ذلك ّ
النقّاد العرب القدماء إذاً فرادة اللّغة التي يجنح إليها ال ّشاعر ،واّنما اهتدوا
لم يغب عن ّ
النص ال ّشعري ،واستقراء دقيق لطبيعة عناصرها التي ّ إلى ذلك من عملية تشريح واعية لبنية
أن اللّغة ال ّشعرية
المتميز ،فالحظوا من دراستهم للغة القصيدة العربية ّ
ّ تتراتب إلقامة كيانها
مدعو
ّ النحو .فال ّشاعر
المدونة في كتب اللّغة و ّ
َّ تجسدها القواعد
انتهاك للّغة المعيارية ،التي ّ
التصرف فيها
ّ ومقرراتها ،والى
بحكم الوظيفة األدبية الخالصة إلى الخروج عن مألوف اللّغة ّ
تصرفا عميقا يصل إلى درجة خلق لغوي جديد ،ال يقوم إالّ على
ّ بما ينال جميع مستوياتها
أنقاض المعيار أو المقياس الذي خضعت له اللّغة العادية " ،فتحطيم اللّغة المعيارية أمر
الزم ،ومن دونه لن يكون هناك شعر".2
97
هذا االنتهاك إجراء تتّخذه اللّغة ال ّشعرية على مستوى اللّغة المعيارية ،وهو ما لم يغفله
عبر عنه
وتدبر ،كابن رشد الذي ّ
الفالسفة والمنظّرون العرب القدماء ،بل نظروا فيه بوعي ّ
فن ال ّشعر ) ألرسطو .ويعني به
بمصطلح " التغييرات " ،وذلك في شرحه لكتاب ( ّ
العادية) إلخراجها في لبوس األقاويل
التحويالت التي يلحقها ال ّشاعر باألقوال الحقيقية ( ّ
الصوتي ،والتركيبي والداللي يقول ":قال [أي أرسطو]:
ال ّشعرّية ،بحيث ينال التغيير الجانب ّ
مغي ار عن القول الحقيقي من حيث توضع فيه األسماء متوافقة والقول ّإنما يكون مختلفا ،أي َّ
في الموازنة والمقدار ،وباألسماء الغريبة ،وبغير ذلك من أنواع التغيير ".1
األول ،بل ساق نماذج من ال ّشعر
حد شرح قول المعلّم ّ
ولم يقف ابن رشد عند ّ
عامة في ال ّشعر ،فضرب مثال قول القائل:
أن هذه المسألة ّ
العربي في إشارة إلى ّ
2
ومسَّح باأل ْركان م ْن هو ماسح ول َّما قض ْينا م ْن مًنى ك َّل حاجة
ي األ ب اط ح
ت ب أ ْعن اق الم ط ِّ
وس ال ْ طراف األ ح اد يث ب ْي نن ا
أخ ْذن ا ب أ ْ
وعقَّب على هذا بقولهّ " :إنما صار شع ار من قبل ّأنه استعمل قوله :أخذنا بأطراف األحاديث
1أرسطوطاليس :فن الشعر ،ترمجة وحتقيق :عبد الرمحن بدوي ،مرجع سابق ،ص.444.
2
ينسب هذان البيتان لكثري عزة ،ويزيد بن الطثرية ،عقبة بن كعب بن زهري ،انظر الشعر والشعراء ،مصدر سابق ،ج ،1.ص26.
3
أرسطوطاليس :فن الشعر ،مرجع سابق ،ص.666 .
4السابق :ص.442.
98
السلب ومن
والحذف والزيادة والنقصان والتّقديم والتأخير وتغيير القول من اإليجاب إلى ّ
سمى
السلب إلى اإليجاب ،وبالجملة من المقابل إلى المقابل ،وبالجملة بجميع األنواع التي ت ّ
ّ
1
النقدية العربية
تتفرع عنه صفة التخييل التي طرقتها المباحث ّ مجاز " .وهذا الطّرح ّ
ًا عندنا
المتنوعة.
ّ النقّاد المجاز والتشبيه بفروعهما وتجلّياتهما
كثير ،عند تناول ّ
القديمة ًا
النابغة الذبياني:
السلب قول ّ
ويسوق مثال للتغيير من اإليجاب إلى ّ
ب ه َّن ف لول م ْن قراع الك ت ائ ب وال ع ْي ب ف يه ْم غ ْير أ َّن سيوفه ْم
فإنه أوجب لهم الفضائل بنفي العيوب ،واستثنى منها ما ليس بعيب على جهة تسمية
" ّ
للمتنبي هو ":فيك الخصام وأنت الخصم
ّ ضده " ، 2ويؤ ّكد هذا عجز بيت
الشيء باسم ّ
والحكم " ،3ويجعل ذلك من التغييرات اللّذيذة التي جمعت األضداد في شيء واحد ،وفي
المتنبي نظائر لهذه التغييرات أشد تغريبا في الخروج عن اللّغة المعيارية وهو ما جعله
ّ شعر
عرضة لنقمة بعض اللّغويين ،والبالغيين المحافظين في عصره وما تاله كما سنرى عند
دراسة بعض مطالعه.
فرق الشكالنيون في حلقة براغ وتخصيصا جان موخاروفسكي وفي العصر الحديثّ ،
) (J. Mokarovskyبين اللّغة الشعرية ،واللّغة المعيارية أو القياسية (Langage
ألن لهذه اللّغة
نوعا خاصًّا من اللّغة المعياريةّ ،
أن اللّغة الشعرية ليست ً
فبين " ّ
)ّ Standard
أن لهاالخاص ،كما ّ
ّ الخاص على المستوى المعجمي والتركيبي ،ولها مصطلحها ّ نظامها
تسمى بالضرورات ال ّشعرية".4
النحوية التي يمكن أن ّ
بعض الصيغ ّ
شدد على وعي اإلشارة
وا ّن لغة الشعر – كما يرى صاحبا كتاب ( نظرّية األدب ) -ت ّ
النظر إليه
الصوتي للكلمة " وقد وضعت جميع أنواع الصنعة لتلفت ّالرمز ّ
ذاتها ،وعلى ّ
5
النثر حيث اللّغة المعيارية
مكررة " .وهي – وان وجدت في ّ
السجع وأنماط صوتية ّ
كالوزن و ّ
99
كمًّيا منها في ال ّشعر ،كما ّأنها فيه أكثر تنظيما من أجل " وضعنا قس ار في حالة
فإنها أق ّل ّ
ّ -
من الوعي واالنتباه ".1
النثر ،2أي
أن الشعر يخدم الكلمات وال يستخدمها كما يستخدمها ّ أن سارتر يرى ّ بل ّ
الخاص في ال ّشعر يشحن الكلمات بطاقات جديدة تخلع عليها كينونة ّ أن التنظيم اللّغوي
ّ
المقررة لها في اللّغة العادية ،والتي
َّ أخرى وتمنحها استقاللية متفلّتة من مصاحبة المعاني
أن ال ّشعراء " قوم يترفّعون
غالبا ما يجد النثر نفسه مشدودا إليها ،ومن هنا يشير سارتر إلى ّ
باللّغة عن أن تكون نفعية ".3
للنفعية كما أشار سارتر
تتغي اللّغة عند الشكالنيين على أساس تجاوزها ّ
ّ وبناء عليه
من ناحية ،وعلى اعتبار ّأنه ال مضمون من ورائها من ناحية أخرى .بل هي في ذاتها
حق الناص نفسه أن يعترض على ما انتهى إليه
المضمون الوحيد المتجسِّد بحيث ليس من ّ
النص ،طالما ّأنه وصل إلى ذلك من استقرائه للهيكل اللّغوي الذي قام
ّ فهم القارئ أو محلّل
النص ،ومراقبته لبنيته اللّسانية وكيفية تراتب عناصرها وما بينها من عالقات ونسب.
ّ عليه
كل هذه الخصائص جعلت من الشاعر كائنا عارفا ،ومن صناعته الشعرية ضربا من
"المعرفة المتميزة ،التي تبدع وتجسد ما تبدعه في هذا الشكل .إنه نوع من الوعي الذي يدرك
الوجود الطبيعي واإلنساني إدراكا خاصا ،يختلف فيه عن أشكال الوعي األخرى .4" ...
واذا بات من المحقق تع ّذر الوصول إلى تعريف الشعر تعريفا اصطالحيا نهائيا مقنعا
يحسن السكوت عليه ،شأنه في ذلك شأن كل الفنون وما يتصل بها من قضايا وقيم ،مما يقع
تحت اإلحساس ويتمنع على التحديد ،ويقع في دائرة األشياء التي قال عنها إسحاق
الموصلي ":إن من األشياء أشياء تحيط بها المعرفة ،وال تؤديها الصفة " ،5فليس من
المستحيل الوقوف على ما يميز الشعرية بوصفها نوعا من المعرفة كما سبقت اإلشارة ،أو
2جان بول سارتر :ما األدب؟ ،ترمجة :حممد غنيمي هالل ،دار العودة ،بريوت1894 ،م ،ص.6.
3السابق ،املوضع نفسه.
4عبد اهلل العشي :أسئلة الشعرية حبث يف آلية اإلبداع الشعرية ،منشورات االختالف ،اجلزائر ،ط ،4008 ،1.ص.115.
5اآلمدي :املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي ،مصدر سابق ،،ج ،1.ص.414.
100
فصله الدكتور عبد اهلل العشي في اآلتي: 1
رؤية من أخص خصائصها ما ّ
.1الكشف :فالرؤية الشعرية رؤية كاشفة ال واصفة ،تتعمق أسرار الكون والنفس،
اف الوصف والتقرير.
غير مكتفية بالوقوف عند حو ّ
.6التجاوز :ولعل من ألزم ما يترتب على خصيصة الكشف في الرؤية الشعرية،
خصيصة التجاوز ،فعلى قدر حظ تلك الرؤية من أصالة في كشف الخفايا واستبطان
األسرار ،يكون حظها من تجاوز ما استقر في األذهان والمدارك من معطيات الحس،
وظواهر األشياء .بكل ما يتضمنه التجاوز من أبعاد أو مجاالت إبداعية أو ثقافية أو
غير ذلك.
.4العذرية :إن الشاعر الحق هو ذلك الكائن الذي يقف دائما أمام الكون مشدوها
يجيل شاعريته في أنحائه ،فال يزال يرى في صفحاته الطريف الذي ال يخلق مع كثرة
التداول ،ويرد منه المناهل التي ال تأسن مع شدة الزحام وتتابع الورد.
.6التحويلية :ليست القصيدة أشبه بمرآة مستوية تنعكس عليها معطيات الحس،
فتبدو على صفحاتها كما هي في الواقع .بل إنها أشبه بثقاف تسلك فيه الطبيعة في
مادتها األولية بكل عناصرها ،فال تخرج منه إال وقد ش ّذبت وهذبت مصطبغة برؤية
الشاعر الخاصة .إن نزعة كهذه ال يكون معها مقيل وال مبيت لعبارة " ليس في اإلمكان
أبدع مما كان " ،وما يشبهها من العبارات الوقوفية التسليمية .ذلك أن " إمكانات "
الشاعر الملهم قادرة على إعادة إبداع العالم وتشكيله ،بما أوتي من آليات على رأسها
آلية التحويل هذه.
ئي إال على أنه
.5الشمولية :ال تتناول القصيدة ذات الرؤية الشمولية الجز َّ
وبناء على هذا يجب على الشاعر
أنموذج للكلي ،أو قالب يتسع لصب الكوني فيهً .
– بعبارة ستانلي هايمن -السعي إلى تحويل " ...آالمه الذاتية الخاصة إلى شيء
خصيب غريب ،شيء كوني عام ".2
1عبد اهلل العشي :أسئلة الشعرية ،حبث يف آلية اإلبداع الشعري ،مرجع سابق ،ص.122-112.
2ستانلي هامين :النقد األديب ومدارسه احلديثة ،نقال عن حممد علي كندي :الرمز والقناع يف الشعر العريب احلديث ( ،السياب ونازك
والبيايت ) ،دار الكتاب اجلديد املتحدة ،بريوت ،ط4002 ،1.م ،ص.61.
101
.4النبوئية أو المستقبلية :إن وعي الماضي وعيا أصيال ومباشرا ،واالستغراق
في الحاضر ،وتفاعل تجاربهما في وجدان الشاعر وفكره ،كفيالن بإكسابه قدرة على
االستشراف .فيصبح قاد ار على السفر صوب المستقبل ،أو على ( استعجال ) المستقبل
ليحصل أمامه قبل اآلخرين ،ذلك أن هذا المستقبل إنما هو – في صورته العامة ،بعيدا
عن التمظهرات الجزئية – وليد التفاعل بين تجارب الماضي والحاضر .وال شك أن
للتجاوز والكشف عالقةً في تغذية هذه النبوئية ،بما أن التفلت من الزمن الراهن بعد من
1
أبعاد التجاوز ،وبما أن الكشف غوص على الخبايا المتسترة في رحم األيام.
.7الصوفية :إذا كانت صورة التصوف في اإلالهيات ذوبان المتأله في ذات
معبوده ،فإن صورته في التجربة الشعرية ذوبان الشاعر في موضوعه وتماهيه معه،
حتى ليصبحان كيانا واحد ال ذات فيه وال موضوع ،وبذلك فقط يهب الموضوع الشاعر
متمنع.
قصي ّّ روحه ،ويقع منه على كل
.6التراجيدية :إن سعي الشاعر إلى تلمس األفضل واألجمل واألكمل في هذه
الحياة ،وهيمانه في كل واد بحثا عن المعرفة ،رحلة شاقة ال يعود معها إال بإحساس
مض باأللم والخيبة ،طالما أن الدافع له إلى ذلك إحساس مرهف ،ونفس كبيرة شغوفم ّ
لجوج ،ال ترى لرحلتها في سبيل ذلك نهاية ،وال تجد في كل ما نالته من ضالتها التي
تنشدها مقنعا.
.9التفتيت والترتيب :إذا كان جوهر الشعر الحق إبداعا ،فمادة اإلبداع هذا هو
مصنعا مش ّكال ،فهو أمام الشاعر
ّ الكون ،وفي مركزيته النفس البشرية .فمهما بدا الكون
الف ّذ الساخط الرافض ليس أكثر من مادة أولية قابلة إلعادة التصنيع .واذا كان من أخص
خصائص الشعرية التحويل ،فعلى الشاعر أن يسلط ملكاته على تلك المادة :على الكون
ليحوله ،وال شك أنه ال مندوحة له في سعيه إلى ذلك عن تفتيت
بكل ما فيه ومن فيه ّ
الكون واعادة ترتيب أجزائه ،ليحوله إلى ما يستجيب لرؤاه وتصوراته .ولن يعدم عندئذ من
اآلليات ما يسعفه بذلك ،ولعل أمضى ما يجد من تلك اآلليات الخيال 2الذي يم ّكنه من
صياغة العالم كما يشاء.
1عبد اهلل العشي :أسئلة الشعرية ،حبث يف آلية اإلبداع الشعري ،مرجع سابق ،ص.146.
2السابق ،ص.124.
102
واذا كانت هذه الجمالية الشعرية في رؤيتها ولغتها ومضامينها عامة ،ال تخص
جزءا دون آخر من القصيدة ،فتشارك األبيات كلها المطلع فيها ،فإن لهذا دون غيره
خصوصيات جمالية أخرى ،أسهب النقاد والبالغيون العرب القدماء في بيانها واإللحاح
عليها ،وأبدعوا في ذلك ،وخصوا المطلع بدراسات وافية ،وقرروا له من الشروط الفنية ما
جعله يتصدر كل حديث في الدرس البالغي والنقدي القديم.
103
المطلع في التراث البالغي والنقد العربي القديم
بديعيا يسهم
ّ النقّاد والبالغيين القدماء بالمطلع إلى اعتبار إجادته مقياسا
وصل اهتمام ّ
األول في ك ّل الكتب
جمالية القصيدة .وال أد ّل على ذلك من إحاللهم البراعةَ فيه المحل ّ
ّ في
األول والمنظّر
المؤسس ّ
ّ البديعية التي عالجوا فيها أنواع البديع ،كابن المعتز ( ت692 .هـ)
ّ
الفن في كتابه ( البديع ) ،وأبي هالل العسكري ( ت593 .هـ) في
المصطلحي األسبق لهذا ّ
البديعية) ،وغيرهم
ّ الدين الحلّي(ت037 .هـ) في شرح ( الكافية
كتاب (الصناعتين) ،وصفي ّ
كثير.
إن ارتقاء عناية القدماء بالمطلع إلى المؤلفات المؤسسة والرائدة في البالغة العربية،
ككتاب البديع البن المعتز يؤكد أنه " أخذ موقعه من اهتمام النقاد منذ مرحلة باكرة ،حيث
عدوا البراعة في اختيار لفظه وحسن نظمه وصياغته وتواشجه مع غرض القصيدة مناطا
ّ
القتدار ا لشاعر ،ودليال على تمكن شاعريته ،وطفقوا يشيرون من خالل استقراء النصوص
إلى بعض المعايير التي ت ْسلم إلى حسن المطلع أو قبحه ،وجعلوا له فنونا من اإلبداع ترد
عندهم في حسن االبتداء وبراعة المطلع ،وبراعة االستهالل بما يتضمنه البحث البالغي
الخالص ".2
ولعل ضياء ال دين بن األثير من أوضح القدماء عبارة ،وأكثرهم تصريحا بإلحاق
صناعة النثر بالشعر في هذه المسألة .وليس ذلك بمستنكر على رجل جعل َو ْكده نصرةَ
الكتابة ،وانصافَها ممن بقوا سائرين على نهج البالغة العربية القديمة المحتفية بالشعر على
حساب الفنون النثرية ،حتى إنه ليعم بمصطلح (المطلع) وما يجب له من شروط الصناعتين
معا ،فيقول ":وأما األركان التي ال بد من إيداعها في كل كتاب بالغي فخمسة :األول أن
1صفي الدين احللي :شرح الكافية البديعية ،حتقيق :نسيب نشاوي ،ديوان املطبوعات اجلامعية ،اجلزائر9191 ،م ،ص.75.
2أمحد سعد حممد :نظرية البالغة العربية دراسة يف األصول املعرفية ،مكتبة اآلداب ،القاهرة ،ط9001 ،9.م ،ص.951.
105
يكون مطلع الكتاب علي جدة ورشاقة فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع أو أن يكون
مبنيا على مقصد الكتاب ولهذا باب يسمى باب المبادئ واالفتتاحات فليح َذ حذوه وهذا الركن
يشترك فيه الكاتب والشاعر.1" ...
وليس مستبعدا أن يكون ابن األثير ،مدفوعا إلى ذلك بما عرف عنه من نزعة نقدية،
ميالة إلى التقريب بين الشعر والنثر ،وذلك أنه صاحب طريقة في الكتابة " تعتمد في أساسها
2
كثي ار على حل المنظوم ".
والى هذا ذهب ابن حجة الحموي ( ت750 .هـ ) بقوله ":اعلم ّأنه اتّفق علماء البديع
أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهاللها ،وأن ال يتجافىعلى ّ
السماع ،وطَ ْرق
الرقّة ،وأن يكون التشبيب بنسيبها مرقصا عند ّبجنوب األلفاظ عن مضاجع ّ
الح ْزن ،ومطلعها مع اجتناب الحشو ،ليس له تعلّق
بالسالمة من تج ّشم َ
السهولة متكفّال لها ّ
ّ
األول أجنبيا من
الناظم في تناسب قسميه بحيث ال يكون شطره ّ بما بعده ،وشرطوا أن يجتهد ّ
شطره الثاني ".5
1ابن األثري :املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر ،مصدر سابق ،ج ،9.ص.95.
2إحسان عباس :تاريخ النقد األديب عند العرب ،دار الثقافة ،بريوت ،ط9191 ،7.م ،ص.715.
3صفي الدين احللي :شرح الكافية البديعية ،مصدر سابق ،ص.75 .
4السابق ،املوضع نفسه.
5
احلموي :خزانة األدب وغاية األرب ،دار ومكتبة اهلالل ،بريوت ،ط9119 ،9.م ،ص.91.
ابن حجة َ
106
أن غالب
خاصة ّ
ّ السالسة،
الرقّة و ّ
فأما الجانب اللّفظي فيظهر في سهولة اللّفظ و ّّ
الطللية الغز ّلية ،إلى جانب سالمة السبك وهو
ّ المقدمة
ّ المطالع القديمة كانت على رأس
غوية من التنافر والتداخل بين
الصياغة اللّ ّ
ّ التركيبية من األلفاظ ،ويعني خلو
ّ احية
الن ّ
ّ
أما الجانب المعنوي فيتمثّل في وضوح المعنى بالبعد عن الغموض وااللتواء
عناصرها .و ّ
قسمي المطلع بأن يكون العجز منتميا
ْ توخاة ،وتناسب وتجنب الحشو الناشز عن المعاني الم ّ
ّ
إلى حقل داللي مالئم للصدر ،واال جاء أجنبيا مبتو ار عنه.
1السابق ،ص.90.
107
وهو ما جعله يذهب إلى أن سبب ال ّشهرة التي حظي بها مطلع امرئ القيس ّإنما هو
صدره الذي وقف فيه واستوقف ،وبكى واستبكى ،وذكر الحبيب والمنزل ،في حين لم يكن
لعجزه تلك الغ ازرة والكثافة.
الطيب في
فهو مطلع يشير إلى بناء القصيدة على الفتح والتحريض على الحرب ،وقو َل أبي ّ
مدح أبي شجاع المعروف بالمجنون ،واالعتذار إليه بسبب العجز عن مكافأته بمثل معروفه:
108
مؤسسة على الجانب الفكري المنطقي ،وهذا يعود أبيات القصيدة ،وحدة ليس لزاما أن تكون ّ
بنا إلى المقاربة السيمولوجية في اهتمامها بالعنوان الذي يقوم المطلع مقامه في اعتباره داالًّ
مدلوله القصيدة.
كما أن في المقومات الفنية السابقة المشروطة للمطلع ،قيما نصية الفتة تستجيب
لبعض أطروحات لسانيات النص في العصور المتأخرة .فلقد نادت لسانيات النص
بـ"االتساق" الذي يوفر للنص او الخطاب تماسكه وترابطه .واالعتماد في ذلك على الجانب
اللفظي أو الوسائل اللغوية ،1حيث تتوفر الحروف واألدوات التي من شأنها شد خيوط البنية
النصية بعضها إلى بعض .ودعت إلى "االنسجام" الذي هو " الخطاب غير المتاقض في
ذاته أو بواسطة غيره (المتلقي) ،بذلك يكون الخطاب المنسجم هو الخطاب الحامل لمعنى
من جهة ،وغير المتناقض من جهة أخرى .2" ...واالنسجام في غالب األحيان هو حظ
المتلقي من النص الذي يجب أن يسبر أغواره ،وبغوص في عالقاته الخفية 3بحثا عن
مكامن التالقي والتالحم بين عناصره.
الداللية
ّ المعنوية في المطلع ،مع وظيفته
ّ فظية و
أن تلك القيم اللّ ّ
وال يغيب عن األذهان ّ
أن المطلع إذا استجمع القيم ال ّشعرّيةتجتمع لتحقيق عنصر آخر مهم يتّصل بالتلقّي ،ذلك ّ
المرجو .وهنا تظهر الوظيفة
ّ السابقة حظي باستحسان المتلقّي ،ووجد عنده االستقبال
السامع بغير ما
اإليحائية للمطلع ،إذ يجب أن ال يتنافى مع الغرض المقصود ،أو يوحي إلى ّ
أراد ال ّشاعر ،لذلك عيب على جرير قوله في مطلع قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان:
ك بالرَواح
ص ْحـب َ
َعشيةَ َهم َ صاح
ك َغ ْير َ
صحو أ َْم ف َؤاد َ
أَتَ ْ
4
الرمة
ّ ذي على رد
ّ كما ، فغضب عبد الملك بن مروان وصاح به ":بل فؤادك يا بن الفاعلة "
قوله في أحد مطالعه:
1
محمد خطابي :لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب ،مرجع سابق ،ص.3 .
2
جمال بندحمان :األنساق الذهنية في الخطاب الشعري التشعب واالنسجام ،دار رؤية ،القاهرة ،ط6711 ،1.م ،ص.11 .
3
محمد خطابي :لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب ،مرجع سابق ،ص.2.
4ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،9.ص.919.
109
َكأَنه م ْـن كلًى َم ْفري ٍة َس َرب ك م ْنهَا الد ْمع َي ْن َسكب
َما َبال َع ْين َ
وكان عبد الملك ال يمسك دمعه لعلّة في عينيه فقال له " :وما سؤالك عن هذا يا جاهل؟".1
إن إباحة الفصل بين فنون القول التي تناسب المراثي والخطوب ،دون المدائح والتهاني
خصوصا في االبتداءات ،دعوة صريحة إلى ربط المطلع والمقدمة عموما بالبنية الغرضية
لسائر القصيدة.
بل إن ابن طباطبا ليذهب بعيدا في دعوته هذه ،حين ينصح لل ّشاعر بتكييف األسلوب
يتأدى نقيضه إلى الفهم ،مقترحا عليه وسائل إجرائية،
إذا أراد التعبير عن معنى يمكن أن ّ
مر له [ أي ال ّشاعر ] معنى تتناول األداة النحوية المساعدة له على ذلك ،يقول ":إذا ّ
يستبشع اللّفظ به ،لطف في الكناية عنه ،وأج ّل المخاطَب عن استقباله بما يتك ّـرهه منه،
ظ عن كـاف الخطاب إلى ياء اإلضافة إلى نفسه ،إن لم ينـكر ال ّشعر ،أو احتال
وعدل اللَف َ
َ
مما ذممناه ،ويوقف به على أرب نفسه ولطف فهمه .3" ...في ذلك بما يحترز به ّ
1السابق ،ص.919.
2عيار ابن طباطبا :عيار الشعر ،مصدر سابق ،ص.901 .
3السابق ،ص.905.
110
وقد جمع حازم القرطاجني شروط المطلع اللفظية والمعنوية في قوله ":ومحاشاة مطالع
األبيات من كل ما يكره من جهتي المسموعات والمفهومات مستحبة ألنها أول ما يقرع
السمع .فهي رائد ما بعدها إلى القلب .فإذا قبلتها النفس تحركت لقبول ما بعدها ،وان لم
تقبلها كانت خليقة أن تنقبض عما بعدها .وعلى نحو ما يشترط فيها من جهة المسموع
يشترط فيها من جهة المفهوم.1
وهو الشرط الذي أوجبه تارة أخرى ،مؤكدا ما سبق من وجوب داللة المطلع على
الغرض الرئيسي بقوله ":ويجب أن تكون المبادئ جزلة ،حسنة المسموع والمفهوم ،دالة على
غرض الكالم ،وجيزة ،تامة ".2
ومن هنا فإن ارتباط القصيدة بمطلعها هو ارتباط حيوي ،إذ " يتعلق مصير القصيدة
بمطلعها ،فبقدر ما يكون المطلع ناجحا فنيا ،تكون القصيدة ناجحة ،3"...وان األمر لكذلك
حين نعلم أن المطلع بهذه السلطة ،يتنزل من نفس القارئ وحساسية القراءة منزلة القاطرة
التي تقوده في وهاد القصيدة وقممها ،بل أكثر من ذلك " بحيث يستطيع المطلع أن يوجه
القصيدة ،بل حتى الحالة النفسية للشاعر " النص والنفس معا".4
يبين أن صالحية شعر المولدين ألن يكون مرجعية استشهاد ،إنما هي في غير أنه ّ
يعدها ستة،
علوم البالغة الثالثة :المعاني ،والبيان ،والبديع ،من بين سائر علوم األدب التي ّ
" وذلك أنك إذا نظرت في الكالم العربي ،إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ،
111
وهو علم اللغة ،واما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه ،وهو علم التصريف ،واما
أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكالم المركب بحسب اختالف أواخر الكلم ،وهو علم
العربية ،واما أن تبحث عن مطابقة الكالم لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي ،وهو علم
وخفاء بحسب الداللة العقلية ،وهو
ً المعاني ،واما أن تبحث عن طرق داللة الكالم إيضاحا
علم البيان ،واما أن تبحث عن وجوه تحسين الكالم ،وهو علم البديع " .1
ثم يوزع تلك العلوم على مرجعياتها في االستشهاد فيقول ":فالعلوم الثالثة األ َول،
المعتبر فيها ضبط ألفاظهم ،والعلوم الثالثة
َ يستشهد عليها بكالم العرب ،نظما ونثرا ،ألن
األخيرة يستشهد عليها بكالم العرب وغيرهم ،ألنها راجعة إلى المعاني ،وال فرق في ذلك بين
2
جني في إجازة
العرب وغيرهم ،إذا كان الرجوع إلى العقل" .ويقوي موقفه بمذهب ابن ّ
االستشهاد بالمولدين في المعاني ،كما يستشهد بالقدماء في األلفاظ.
كل تلك القيم الفنية التي استخلصها البالغيون من استقراء مطالع النوابغ والنابهين من
الشعراء ،تتلخص في كونها توازنا يدخل في صميم الصناعة الشعرية .وبتتبع كالم البلغاء
والنقاد يفهم أن التوازن تقنية يطالب بها الشاعر في مستويات مختلفة من القصيدة ،منها
جزي البيت أي صدره وعجزه ،ويكون
مستوى البيت الواحد ،وعندئذ يكون التوازن مطلوبا بين أ
الحديث في ذلك موجها -أول ما يوجه -إلى المطلع ،أما ما هي قيم هذا التناسب وما
مقاييسه؟ ،فإضافة إلى التصريع ،5وهو بعد موسيقي ،يأتي مقياس المعنى ،وهو بعد داللي.
112
كم ّي ،يتصل بكثافة المعاني التي
والزوايا التي ينظر منها إلى المعنى منها ما هو ّ
يجب أن تتوزع بعدل على مصراعي المطلع ،كما مر في نقد ابن أبي اإلصبع لمطلع معلقة
امرئ القيس ،ومنها ما هو نوعي أو غرضي ،يتعلق بالدالالت أو األغراض التي تنتمي إليها
المعاني من غزل ورثاء وغير ذلك.
غير أنه من الممكن أن يطالَب الشاعر بهذا التناسب النوعي أو الغرضي في سائر
أبيات القصيدة .من ذلك ما يروى عن مراجعة سيف الدولة لشاعره أبي الطيب المتنبي في
بيتين من ميميته الشهيرة في وصف معركة الحدث ،هما قوله :
1
وهو نائم
َكأَن َك في َج ْفن الردى ْ ت وما في الموت َشك لو ٍ
اقف َْ َوقَ ْف َ َ
ك َباسـ ـ ـ ـ ـ ـم
ووجه َك وضاح وثغر َ بك األبطال َك ْل َمى هزيمـ ـ ـ ـ ـةً
تَمر َ
فقد روى الواحدي أن سيف الدولة أنكر عليه تطبيق عجزي البيتين على صدريهما وقال له:
كان ينبغي أن تقول:
كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك األبطال كلمى هزيم ـة
1
أبو الطيب المتنبي :الديوان بشرح العكبري ،مصدر سابق ،ج ،5.ص.570-572 .
2
امرؤ القيس بن حجر :الديوان ،دار صادر ،بيروت ،د.ت .ص.145 .
113
قال :ووجه الكالم في البيتين -على ما قاله العلماء بالشعر -أن يكون عجز البيت
األول مع الثاني وعجز الثاني مع األول ليستقيم الكالم فيكون ركوب الخيل مع األمر للخيل
بالكر ،ويكون سباء الخمر مع تبطن الكاعب.
فقال أبو الطيب :أدام اهلل عز موالنا سيف الدولة ،إن صح أن الذي استدرك على
امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا ،وموالنا يعرف أن
الب ّزاز معرفةَ الحائك ألن البزاز يعرف جملته ،والحائك يعرف جملته
الثوب ال يعرفه َ
الغزلية إلى الثوبية ،وانما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلدة الركوب
وتفصيله ،ألنه أخرجه من ْ
للصيد ،وقرن السماحة في شراء الخمر لألضياف بالشجاعة في منازلة األعداء ،وأنا لما
ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى لتجانسه ،ولما كان وجه المنهزم ال يخلو من
أن يكون َعبوسا ،وعينه من أن تكون باكية قلت :ووجهك وضاح وثغرك باسم ،ألجمع بين
األضداد في المعنى .فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينا ار من دنانير الصالت،
وفيها خمسمائة دينار".1
مصوبا ما ذهب إليه المتنبي في بناء بيتيه فيقول ":وال تطبيق بين
ّ ويعلق الواحدي
الصدر والعجز أحسن من بيتي المتنبي ألن قوله :كأنك في جفن الردى وهو نائم ،هو معنى
قوله :وقفت وما في الموت شك لواقف ،فال َم ْعدل لهذا العجز عن هذا الصدر ألن النائم إذا
أطبق جفنه أحاط بما تحته ،وكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق الجفن بما
يتضم نه من جميع جهاته ،وجعله نائما لسالمته من الهالك ألنه لم يبصره ،وغفل عنه بالنوم
ولم يهلك ".2
فالمالحظ أن سيف الدولة عاب على شاعره عدم التناسب في التركيب بين الصدر
وعجزه في البيتين السابقين ،أو ما يمكن أن نصطلح على تسميته بتطبيق عجزي البيتين
على صدريهما ،كما فعل ذلك راوي الخبر.
1الواحدي :شرح ديوان املتنيب ،دار األصالة ،اجلزائر ،ط ،9001 ،9.ص.770 – 711.
2السابق ،ص.770.
114
والى جانب ما يحمله هذا الخبر من قيمة مصطلحية تتعلق بالتناسب ،يؤكد تحول النقد
في العصر العباسي إلى صناعة كسائر الصناعات ،مالحقا بذلك الشعر نفسه .وذلك واضح
تصنع بمصطلح
ّ في االستعارات التي استخدمها المتنبي مثل ( البزاز ،الحائك) ،بل إلى
الدكتور شوقي ضيف ،الذي سلك المتنبي مع شعرائه.1
يضاف إلى ذلك اكتساب الشاعر العباسي شخصيته النقدية التي تميزه عن الشعراء
السابقين ،فالمتنبي – مع حسن اعتذاره وتخلصه من الحرج – لم يقبل اعتراض سيف الدولة
على قوله ،مع كونه أمي ار صاحب سلطان .فلم يغير موقع العجزين من الصدرين ،بل دافع
عن فنه وفن امرئ القيس ،كاشفا عن مكمن التناسب بين كل بيت وعجزه ،بخالف مواقف
بعض الشعراء من العصور السابقة ،كالفرزدق مثال الذي أذعن لنقد عبد اهلل بن أبي إسحاق
حين تعقبه في جره لفظ ( رير ) في قوله :
فصيرها( على زواحف نزجيها محاسير) ،2مع ما عرف به الفرزدق من قوة عارضة ومضاء ّ
شكيمة ،وقبله النابغة الذبياني الذي احتيل لتنبيهه إلى اإلقواء في قوله:
خبرنا ) ( تَْنعاب ) وأضافه إلى ما بعده ليجره فيخرج من اإلقواء ،3وهو الشاعر
فاستبدل بـ( ّ
المهيب المح ّكم بين الشعراء.
كل أولئك يؤكد تحول الشاعر العباسي – في كثير من األحيان – إلى فنان قوي
الشخصية شديد المراس ،صاحب موقف فني ينافح عنه ويبرره وال يتنازل عنه بسهولة للنقاد.
1شوقي ضيف :الفن ومذاهبه يف الشعر العريب ،مرجع سابق ،ص.505 .
2عبد القادر بن عمر البغدادي :خزانة األدب ولب لباب لسان العرب ،حتقيق :عبد السالم حممد هارون ،مكتبة اخلاجني ،القاهرة ،ط9115 ،1.م،
ج ،9.ص.959.
3حممد بن عمران املرزباين :املوشح يف مآخذ العلماء على الشعراء ،حتقيق :حممد حسني مشس الدين ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط9117 ،9.م،
ص.79 .
115
وقد مر بنا نظير هذا مع بشار بن برد وبعض نقاد شعره .1وكذلك البحتري الذي تصدى
قلوبهم بدعة المنطق في العصر العباسي ،فحاولوا ( َمنطَقة ) الصناعة
للنقاد الذين شغفت َ
الشعرية بحق أحيانا ،وبغير حق في أحيان أكثر ،فرد على مماحكاتهم بتبرم قائال:
2
في الش ْعر ي ْل َغى َع ْن ص ْدقه َكذب ْه ود َم ْنطقك ـ ْـم
ونا حد َ
َكل ْفتم َ
الفنية
النكير على إخالل ال ّشاعر بشروطه ّ واذاً كانت عناية القدماء بالمطلع فائقة ،و ّ
لتأنق
شديدا ،ال يشفع له معه تجويده لسائر أجزاء القصيدة وأبياتها ،مهما بلغت درجتها من ا ّ
واالجتهاد.
أما الدرس النقدي الحديث ،فقد تنبه ونبه إلى خطر االستهالل عموما ،ومحله من
عملية تلقي النص ،انطالقا من قناعة مؤداها أنه " في عموم التجربة النقدية مع أي نص
إبداعي ،ال يمكن الوقوف كليا على خصائص العمل الفني وقيمه إال من خالل المعرفة
المفتاح
َ الدقيقة ألجزاء ذلك العمل وعناصره ،واالستهالل من أهم هذه العناصر إن لم يكن
لها كلها ".3
وهو أمر ال يجد علته في كون االستهالل أول ما يواجهه المتلقي فحسب ،كما هي
العبارة الغالبة على تعليل النقاد والبالغيين القدماء ،أو بعبارة أخرى " ال باعتباره بدء الكالم،
كما يقول عنه أرسطو أو ألنه " ما من شيء يحدث فيما بعد في النص إال وله نواة في
االستهالل " كما يقال عنه .وانما هو هذا كله ،مضافا إليه أنه العنصر األكثر خطورة ،فهو
أشبه ما يكون ( النواة المخصبة ) ،وتلك التي ستتحول خالل العملية اإلبداعية إلى جنين
ومن ثَم إلى كيان كامل له رأس و ٍ
أيد وقوام وأحشاء ،واذا ما احتوت هذه النواة المخصبة على ّ
تشويه ما انعكس ذلك جليا في تفاصيل كيانها الالحقة ،والزمها التشويه حتى والدتها
الجديدة".4
116
ويجمع الدكتور أحمد سعد محمد بين المبدع والمتلقي كليهما ،في بيان أهمية المطلع
في عبارة له يقول فيها ":إن مطالع الكالم كانت وما تزال مثار معاناة للمبدع ،ومثار نظر
للمتلقين فهي للمبدع بمثابة الرحم الذي تتوالد فيه معاني النص ،ومحاولة الوصول إليها تشبه
لحظة المخاض بكل ما تحمله هذه اللحظة من قلق وتوتر ،يعانيه المبدع حتى يصل عمله
األدبي إلى لحظة الميالد .ومطالع الكالم من جهة أخرى أول ما يصل إلى أذن السامع،
وتقع عليه عين القارئ ،إذ إنها بمثابة المفتاح الذي يلج به إلى عوالم النص ،فينفتح من
خاللها على آفاقه الرحبة ،ويسهل له سبر أغواره ،وفهم مراميه ".1
1أمحد سعد حممد :نظرية البالغة العربية ،دراسة يف األصول املعرفية ،مرجع سابق ،ص.951 .
117
المطلع في ضوء الدراسة السميولوجية للعنوان
الحديث عن االستهالل في النقد الحديث يستدعي الحديث عن إسهام الدرس
السميولوجي ،والمغاليق التي فتحها في هذه المسألة .وتحديدا اتجاهه إلى االهتمام بالعنوان
والتركيز من ثم على أداته المتمثلة في العنونة التي تنتمي " بوصفها اآللية المنتجة للعنوان
بمستوياته :الرئيسي ،الفرعي ،الثانوي ...إلى فضاء " النصية المتوازية " Paratextualité
وهذه األخيرة وحدة من جملة وحدات نصية تش ّكل مؤسسة التعالي النصي
،Intertextualitéالماورائية النصية التناصية Transtextualiéوهي:
النصية الجامعية ،Hypertextualité النصية االتساعية ،Metatextualité
.1" ... Architexetualité
ظهر الدرس السميولوجي بوصفه ذلك العلم الذي موضوعه دراسة حياة العالمات في
المجتمع ،حسب تحديد دوسوسور ": ،والذي أداه إلى هذا التصور اعتباره اللغة نظاما من
العالمات قبل كل شيء " ،2ليتخذه بعد ذلك الدرس النقدي إجراء منهجيا يتناول به النص
بوصفه بنية لسانية واشارية منغلقة على ذاتها ،ال تحيل إلى شيء خارجها .وانما المطلوب
الوقوف على الداللة بواسطة استنطاق الدال بوصفه إشارة ،حتى يبوح بمدلوله بوصفه مشا ار
إليه ،بحيث يكون المعنى محصو ار في ثنائية الحضور الذي يجسده الدال الماثل في النص،
والغياب المتمثل في المدلول الذي يسعى المتلقي إلى الوصول إليه.
خلو القصيدة العر ّبية القديمة من العنوان كان أحد األسباب التي جعلت المطلع
ولع ّل ّ
الدراسات
الناقد معا ،وهو ما أحلّه مح ّل العنونة في ّ
يستقطب ج ّل اهتمام المبدع و ّ
أن السيمولوجيا احتفت بالعنوان الذي رأت فيه مصطلحا إجرائيا حاسما السيمولوجية .فمعلوم ّ
بد منه للولوج إلى مغاليق بنيته المعقّدة ،كما ّأنه يتيح
النص األدبي ،ومفتاحا ال ّ
ّ في مقاربة
الرمزّية ،باعتباره داال مدلوله النص،
الداللية و ّ
ّ ص للوصول إلى سبر أبعاده
الن ّ
تفكيك جسد ّ
وعالمة تهدي إلى مجاهله ،و" كون " العنوان " عالمة ،يعني تضطلعه [ كذا ] بدور "الدليل"
دليل القارئ إلى النص سواء على المستوى اإلشاري أو التأويلي ...وفي هذه النقطة تتفاقم
1خالد حسني حسني :يف نظرية العنوان مغامرة تأويلية يف شؤون العتبة النصية ،دار التكوين ،دمشق ،7002 ،ص.53.
2عبد السالم املسدي :األسلوبية واألسلوب ،مرجع سابق ،ص.752.
119
إستراتيجية العنوان السيميائية في كونه َم ْعلما للنص ُيستدل به عليه ،وهو بهذه الوظيفة لم
طي
يعد تكملة أو إضافة كما يظن المهووسون [ كذا ] بالقضايا الكبرى ،يظل " النص " ّ
المجهول إلى أن يعلن عنه بالعنوان ".1
وليس بعيدا أن يكون النقاد والبالغيون العرب القدماء – وهم يخصون مطالع القصائد
بكل ذلك االحتفاء ،وينزلونه تلك المنزلة – قد تملّكهم اإلحساس بتلك الحاجة التي يلبيها
العنوان ،عند االنصراف إلى محاولة ركوب النص وخوض لُججه ،وداعبهم التشوف إلى ما
ٍ
بخاف أن " النقاد العرب قد يقوم مقام العنوان ،فوجدوا في المطلع البدل والعوض .فليس
فطنوا إلى أن المطلع يقف بإزاء (عنوان القصيدة) الذي شهرت به الكتب والرسائل والقصائد
في عهود الحقة ،فكانوا في معرض التعريف بالشاعر والترجمة له ،ال يذكرون القصيدة
كلها ،اكتفاء بداللة المطلع عليها ".2
ومع أن حجم العنوان ال يكاد يذكر -عادة – قياسا بحجم بنية النص ،إال أنه يتمتع
بغنى جهازه الوظيفي وتنوعه ... ":وذلك نظ ار للوظائف األساسية (المرجعية واإلفهامية
والتناصية) التي تربطه بهذا األخير و بالقارئ ".3
وال تخفى – مما ما تقدم – أهمية العنوان القرائية لدى المناهج القائمة على نظريات
القراءة أو االستقبال ،وتحديدا إسهامه في رسم أفق االنتظار أو التوقع عند القارئ ،والذي
يعمل على توجيه استقباله للنص وتلقيه ،والتفاعل معه ،فهو " العالمة اللغوية التي تتقدم
النص وتعلوه ،ويجد القارئ فيها ما يدعوه للقراءة والتأمل ،ويطرح من خاللها على نفسه
أسئلة تتعلق بما هو آت والمبني على ترسبات الماضي ،ويصنع لنفسه منها أفقا للتوقع".4
ومن هنا ُنظر إلى العنوان على أنه واحد من آكد ما اصطُلح على تسميته " العتبات
عرف عادة بأنها " المرفقات النصية المحيطة بالنص التي تُعد مفاتيح إجرائية
النصية " التي تُ ّ
1خالد حسني حسني :يف نظرية العنوان ،مرجع سابق ،ص.53 .
2أمحد سعد حممد :نظرية البالغة العربية ،مرجع سابق ،ص.721 .
3مجيل محداوي :السيميوطيقا والعنونة ،عامل الفكر ،اجمللد ،73 :ع ،5.يناير /مارس7992 ،م ،ص.29 .
4
عمان – عامل الكتب احلديث ،إربد ،األردن ،ط،7002 ،7.
أمحد مداس :لسانيات النص حنو منهج لتحليل اخلطاب الشعري ،جدارا للكتابّ ،
ص.10.
120
أساسية يستخدمها الباحث الستكشاف أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها ،أي
المتن وتكمله وتتمه".1
َ المداخل التي تتخلل النص
هذه العتبات هي ما يمكن أن يسمى أيضا " لوازم النص " ،PARATEXTEعلى
أساس أن النص " ال يظهر عاريا بل ترافقه دائما مجموعة من اللوازم المساعدة التي تحيطه،
القراء .فلوازم النص هي ما يجعل النص
وتعرفه وتسهّل استقباله واستهالكه لدى جمهور ّ
ّ
2
كتابا بنظر الجمهور" .
والسيما الرواية -أكثر وقد كانت األبحاث الموجهة إلى النصوص السردية –
الدراسات النقدية إلحاحا على تطلّب هذه التقنية وتعمدها بالدراسة والتحليل ،ذلك أن" الرواية
بوصفها نصا سرديا ينبثق من أفكار عميقة ورؤى خاصة ومواقف فلسفية تتشكل في ظل
رؤية موضوعية وفنية ذات امتدادات شديدة التنوع واالختالف ،يجسدها حرص الروائي على
إظهارها بالصورة المثلى والتشكيل الفني األمثل ،بما تنطوي عليه الصورة الروائية والتشكيل
الفني من تقانات سردية خاصة وآليات متنوعة تعمل على تشكيلها جماليا [ ] ...ومن
التقانات التي يحرص الروائي على إبرازها وتفعيل أدواتها عادة هي العتبات النصية .3"...
واذا كان االتفاق على أهمية هذه التقنية المصاحبة للمتن النصي معقودا من حيث
المبدأ ،فإن االعتقاد بضرورة االختالف والتنوع في صياغتها وحجمها قائم من حيث
التفصيل .تبعا لطبيعة النص الذي تحيط به ،ولقناعة صاحبه أيضا ،فهذه العتبات " تتعدد
وتتنوع بحسب وعي الكاتب ألهميتها وضرورتها وقوة حضورها وتأثيرها في سياق المتن
النصي من جهة ،وبحسب حاجة المدون الروائي .4" ...
1خليل شكري هياس :فاعلية العتبات يف قراءة النص الروائي ( صخرة اجلوالن لعلي عقلة عرسان) أمنوذجا ،منشورات احتاد الكتاب العرب ،دمشق،
،7003ص.799.
2لطيف زيتوين :معجم مصطلحات نقد الرواية ،مكتبة لبنان ناشرون ،بريوت ،ط ،7007 ،7.ص .710-759.
3حممد صابر عبيد ،وسوسن البيايت :مجاليات التشكيل الروائي ،دار احلوار ،الالذقية ،سورية ،ط ،7002 ،7.ص.52.
4السابق ،املوضع نفسه.
121
الكتاب في الماضي مخطوطا بسيطا ،ثم أحيط بالحواشي والتعليقات ،ثم صار كتابا مطبوعا،
ثم ظهرت على غالفه وفي داخله عناصر جديدة :اسم الكاتب والعنوان والعنوان الفرعي ونوع
النص واسم دار النشر وعنوانها وتاريخ النشر واإلهداء والمقدمة وعناوين الفصول وفهارس
الموضوعات واألعالم والمراجع والمالحق إلخ.1" ..
والحواشي والتعليقات كان لها قسط وافر في مصنفات التراث العربي واإلسالمي ،فكثيرة
هي الكتب القديمة التي تضخمت مادتها ،بفعل تراكم الحواشي والتعليقات والملخصات ،حول
ضمنها إياها مصنفوها.
ما اشتملت عليه من مادة أصلية ّ
فإنه لم يعدم
واذا كان الباحث السميولوجي قد عدم العنوان في القصيدة العر ّبية القديمةّ ،
تيسر له الولوج إلى عالم القصيدة .وقد المطلع المتضمن للكلمات األولى أو المفاتيح التي ّ
ّنبه جون كوين إلى أن الكلمات األولى في القصيدة ،تتكفل لها بما يتكفل به العنوان للمقال
فـ" إذا كان كل مقال نثري علمي أو أدبي يحتاج بالضرورة إلى حمل عنوان ،فإن القصيدة
وحدها هي التي تسمح لنفسها بعدم حمله مع أننا في هذه الحالة نضطر إلى تمييزها من
خالل كلماتها األولى ،وما تفعله القصيدة ليس إهماال وليس تدلال ،فإذا كانت القصيدة تلغي
عبر عنها بالعنوان ".2
العنوان فألنها ال تتضمن – كما سنرى – هذه الفكرة التركيبية التي ُي ّ
وهو المفهوم نفسه الذي وجده جميل حمداوي في قراءته للنص السابق حيث يقول ...":
ويؤكد كوهن على أن النثر – علميا كان أم أدبيا – يتوفر دائما على العنوان ،أي إن العنونة
المنطقية،
ّ ألن النثر قائم على الوصل والقواعد
ص النثري كيفما كان نوعهّ ،الن ّ
من سمات ّ
بينما ال ّشعر يمكن أن يستغني عن العنوان ما دام يستند إلى الالّانسجام ويفتقر إلى الفكرة
ص المبعثر وبالتالي قد يكون مطلع القصيدة عنو ًانا ".3
الن ّ
توحد شتات ّ
التركيبية التي ّ
ّ
أما الدكتور عبده بدوي فيسلك الطريق المعاكس في النظر إلى هذه المسألة ،فينظر
إلى العنوان من زاوية المطلع وهو في مقام تحليل بعض القصائد من الشعر العربي الحديث
122
فيرى أنه " قد يحل العنوان محل ما يسمى المطلع في الشعر الحديث ويقدم ترجمة لما
ستقوله ".1
واذاً يقوم المط لع عتبة مهمة على مدخل النص الشعري ،وقد ال يسبقه زمنيا في هذا
إال مناسبة القصيدة ،سواء أمنصوصا عليها كانت ،أم معلومة ضمنا عند القارئ .إال أن
المناسبة تضعف عن المطلع بسبب عدم نصيتها ،فالمناسبة إنما هي معطى سياقي أو
ومقامي ،يرتبط بمحيطات النص التاريخية ،أو النفسية ،أو أي معطى خارجي بعيد عن بنية
النص نفسه.
واذا كان مطلع القصيدة العربية القديمة يطرح هذه المقارنة والمقاربة بينه وبين العنوان
خلو تلك القصيدة من العنوان ،فإن اتجاه القصيدة العربية الحديثة إلى العنونة ألسباب
بسبب ّ
منها التثاقف مع اآلخر ،والتأثر باألجناس األدبية األخرى ،من شأنه أن يصرف النظر عن
المطلع ،ويحصر النظر إليه سميولوجيا في القصيدة القديمة ،أو على األقل سيجد في
القصيدة الحديثة منافسا له يشطر االهتمام مناصفة بينه وبينه.
غير أن عنونة القصيدة عند الدكتور الغذامي بدعة حديثة ،قلّد فيها الشعراء العرب
اء الغرب .والمسألة لديه أكثر من عدم حاجة القصيدة إلى العنوان كما رأى كوين ،إذ
شعر َ
يرى أن العنوان حصيلة الفراغ من القصيدة ،يولد بعدها ويكون تبعا لها ":فالعنوان في
القصيدة – أية قصيدة – هو آخر ما يكتب منها ،والقصيدة ال تولد من عنوانها ،وانما
العنوان هو الذي يتولد منها ،وما من شاعر حق إال ويكون العنوان عنده هو آخر الحركات.
وهو بذلك عمل عقلي .وكثي ار ما يكون اقتباسا محرفا إلحدى جمل القصيدة .وعلى الرغم من
(ال شاعرية) العنوان فإنه هو أول ما يداهم البصيرة ".2
1عبده بدوي :دراسات يف النص الشعري العصر احلديث ،دار قباء ،القاهرة7992 ،م ،ص.55.
2عبد اهلل حممد الغذامي :اخلطيئة والتكفري ،مرجع سابق ،ص.755.
123
ويحتاط لما قد يكون اعتراضا ببعض القصائد من المدونة العربية القديمة التي ُوضعت
لها عبارات توحي بأنها عناوين بقوله ":وقد مضى العرف الشعري عندنا لخمسة عشر قرنا
أو تزيد دون أن يقلد القصائد عناوين ،ومن النادر أن تحدد هوية القصيدة بعنوان ،واذا حدث
ذلك فإن العنوان حينئذ يكون صوتيا – ال دالليا – كأن يقال المية العرب ،المية العجم،
سينية البحتري...إلخ وهذا أقرب إلى روح الشعر ،لما يحمله من إشارة صوتية هي من صميم
الصياغة الشعرية ".1
والحق أن تراثنا األدبي ال يخلو من قصائد أطلق عليها القدماء تسميات ال تتصل
بالجانب الصوتي ،كما ذهب إليه الدكتور الغذامي .وانما لها حيثيات مختلفة ،من جملتها
الحيثية الداللية ،التي نفى وجودها في عبارته السابقة .كفراقية ابن ُزريق التي تستند تسميتها
إلى بعد داللي واضح ،إضافة إلى زوايا نظر مختلفة قيمية أو تأثيرية نفسية أو غير ذلك
ُينظر إليها عند تسمية قصائد أخرى ،كاليتيمة والدامغة وغيرهما .ولكن غاية ما يقال هنا أنه
استثناء لقصائد قليلة ،قياسا بغالب القصائد التي بقيت غفال من العنونة في األدب العربي
القديم ،كما أن تلك التسميات – وهو أقوى ما يعضد رأي الغذامي -هي في الغالب من
إضافات النقاد وجمهور المتلقين ،ولواحق تلصق بالقصيدة بعد سيرورتها في الناس وليست
من عمل الشعراء أنفسهم.
على أنه يجب اإلقرار بأن وضع المطلع في مقابل العنوان في الدرس السميولوجي ال
يخلو من إشكال منهجي ،يتلخص في كون العنوان من العتبات النصية أو من مداخل
النص ،أي أنه ليس جزءا من بنية النص ،وكثي ار ما يكون حصيلة تأمل الحقة بعد الفراغ من
كتابة النص كما ذهب إلى ذلك الغذامي ،فـ" الوظيفة اإلحالية ال تقود البتة إلى افتقاد العنوان
الستقالله الذاتي .2" ...كذلك الشأن إذا ُنظر إليه موضوعا بإزاء " العالمة " ،فـ" العالمة
124
بوصفها سمة ،تتباين عن الموسوم ،فالعالقة البروتوكولية بين النص والعنوان ال تحد من
استقاللهما من حيث البناء والداللة .1" ...
في حين أن المطلع جزء من المتن النصي ،وهو ما يجعله داال وفي الوقت نفسه
مدلوال ،أو -على األقل -جزءا من المدلول ،أي سيكون مسندا ومسندا إليه بتعبير جون
كوين في تحديده عالقة العنوان بالنص الذي يحيل إليه.
لكن هذا ال يقلل من اإلغراء بمحاولة نقل تجربة المقاربة السيميولوجية للعنوان إلى
المطلع ،بالنظر إلى أن الوظيفة الداللية إنما هي إحدى وظائف العنونة وليست َّ
كل الوظائف
المنوطة بها ،وال شك أن منها ما يستطيع المطلع أن يضطلع به .ومن هنا تظل المقارنة بينه
وبين العنوان ،والتفكير في فتح باب على المطلع للدرس السميولوجي وغيره من المناهج
الحديثة طموحا مشروعا.
125
الباب الثاني
دراسة تطبيقية
الفصل األول
المستوى التركيبي
الفصل الثاني
المستوى الصرفي
الفصل الثالث
المستوى الصوتي
الفصــل األول
المســـتوى التركيبــي
ومن األمور الثابتة بالبداهة أن األلفاظ المفردة ليست محل اإلفادة ،سواء أباللغة
القياسية تعلق األمر ،أم باللغة الشعرية التي هي انتهاك لها وخروج عن سننها ،فالغاية من
وضع تلك المفردات هي أن تُسلك في تراكيب تكون هي الناقلة لغرض المتكلم إلى السامع.
وترتيب المفردات في التراكيب ينتقل بها إلى مستوى آخر من مستويات المعنى هو المعاني
كم متراكم ال رابط بين عناصره ،وتظل
النحوية ،التي بدونها " تكون الكلمات عبارة عن ّ
2
المعاني الموضوعة إزاءها على استقاللها وتجردها في الذهن ".
أسس عبد القاهر الجرجاني نظريته في النظم التي كانت منعطفا على هذه الفكرة ّ
حاسما وخطي ار في تاريخ البالغة والنقد العربيين.
129
فمعاني النحو تلك ،هي المستوى الثاني بعد المعاني المعجمية المتضمنة في األلفاظ
المفردة ،واذا كانت هذه تجد تفسيرها في " مقابلها اإلشاري الذي ُيختزن إزاءها في ذهن الفرد
أو في باطن المعجم " ،1فإن األولى ال تتوضح إال في التراكيب.
لقد كان لمفهوم النظم أثر خالق في البالغة والنقد العربيين ،بل كان -مع مجمل
أعمال الجرجاني -إيذانا بدخول البالغة العربية مرحلة جديدة من االزدهار والحيوية،
فغالب الدارسين المحدثين يجعلون ذلك عنوانا لهذه المرحلة ِف َ
عل الدكتور شوقي ضيف في
تقسيمه لتطور هذا العلم.2
ومجال الحديث في هذا طويل ،أجريت فيه دراسات أكاديمية مستفيضة ،ولكن يمكن
اختصار تأثير النظم الذي رسخه الجرجاني في إحداثه عالقة تفاعلية بين النحو والبالغة ،إذ
فتح للنحو مجاال واسعا في الدرس البالغي ،بتوظيف المعاني النحوية من أجل الكشف عن
مقاصد المتكلم المختلفة باختالف معاني األلفاظ الوظيفية في داخل التركيب ،وبذلك أتاحت
وس َمتها به طبيعته
هذه النظرية للنحو فاعلية وحيوية تنأى به عن صيغته الجامدة التي َ
التلقينية النمطية القائمة على المعيارية الصارمة.
هذا الفهم العبقري للنحو يجعل منه أداة حركية خالقة ،نابضة بالحياة على قدر
ديناميكية المعاني التي تتضمنها والتي ما هي " ...إال األلوان النفيسة المتباينة ،التي
ندركها من عالقات الكالم بعضه ببعض ،ومن استخدام الشاعر للغة استخداما ،يجعل من
ارتباط بعضها ببعض نسيجا حيا متشعبا من الصور والمشاعر ".3
كما أتاحت للدرس البالغي والنقدي االستفادة من علم النحو ،ذلك العلم األصيل والركن
الشديد الذي تأوي إليه الثقافة العربية .فإذا علمنا أن المناهج النقدية المعاصرة القائمة على
وجدتها من اللسانيات كالبنيوية واألسلوبية ،علمنا مقدار
المعطيات النصية تستمد كينونتها ّ
أهمية هذا الجانب وغنى تراثنا النقدي العربي واإلسالمي
130
وأصالته وصالحيته لمعايشة الواقع النقدي المستجد ،بما يمنحنا الثقة بأصالتنا في هذا
المضمار ،والمقدرة على اقتحامه غير متخوفين ذوبان شخصيتنا الثقافية وهويتنا الحضارية .
واإللحاح على ضرورة العودة إلى هذه النظرية اللطيفة ،التي تفتقت عنها عبقرية
الجرجاني في هذه المسألة - ،زيادة على عظيم جدواها في الدرس النقدي ،وما تتضمنه من
لمعطيات تراثية صالحة للحياة والنماء في مسعى تأصيلي – إنما هو مواكبة وتحيين
عصرنا ،وذلك أنها تلتقي و" ...الدعوة الجديدة في النقد األدبي التي تحاول جاهدة توجيه
النقد في األدب العربي وجهة لغوية عن طريق النقد التطبيقي استنادا إلى أن العمل األدبي
فن لغوي في المقام األول ،ولذلك ينبغي الدخول إلى النص األدبي بغية تحليله من بابه
المالئم وهو اللغة بكل مستوياتها وأبعادها التي يستخدمها العمل األدبي في تكوين شكله
الفني ".2
1حممد محاسة عبد اللطيف :فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر ،جملة دراسات عربية وإسالمية ،مكتبة الزهراء ،القاهرة ،ص.439.
2السابق ،ص.451 .
131
ترتيبا وتقديما وتأخي ار وتوكيدا ،ثم هي المتعلقة بعلم داللة الجملة على المعنى الشعري أو
األدبي ،وهو ال يتحدد وال يعرف إال من خالل تلك األبعاد ".1
ولمعاني النحو هذه آليات عديدة تُسهم في إثراء المعنى الشعري ،وربما كان على رأسها
آلية التوليد ،أو قابلية التوسع والتجدد ،فهي معان ليس " من الممكن حصرها وتحديدها
بحيث يمكن التقعيد لها ،بل هي معان كثيرة متجددة مع تجدد اإلبداع األدبي نفسه ".2
وهي قراءة مهمة لنص الجرجاني الذي جاء فيه ":واذ قد عرفت أن مدار أمر النظم
على معاني النحو ،وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه ،فاعلم أن الفروق
والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ،ونهاية ال تجد لها ازديادا بعدها ".3
ويفرق الدكتور محمد عبد اللطيف تفريقا مهما بين المعنى النحوي والصيغة النحوية
التي ما هي إال قالب البنية التجريدية الثابتة ( الفعل+الفاعل )( ،المبتدأ+الخبر) والتي هي
قائمة مغلقة يمكن حصرها وتصنيفها ،ومع قيمة هذه الصيغ التعليمية ()didactique
حين يكون المراد تمييز التراكيب الصحيحة من غيرها ،تبقى أن الفاعلية البالغية والنصية
للمعاني النحوية التي تحملها تلك الصيغ وليست للصيغ نفسها.4
ويزداد هذا النص وقراءته السابقة أهمية إذا أخذا في ضوء نظرية النحو التوليدي
التحويلي ( )Grammaire générative et transformationnelleومبادئه التي
نادى بها نوام شومسكي ( )N.chomeskyوالقائمة على الميزة اإلبداعية في اللغة ،انطالقا
من فكرة التراكيب الالنهائية المستندة إلى القواعد المحدودة .يقول الدكتور عاطف فضل -
بعد حديثه عن العناصر أو األطر التي تُستخدم للربط بين الجمل في نظرية تشومسكي -
1حممد رضا مبارك :مفهوم النقد من األسلوبية إىل حتليل اخلطاب ،فصول ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،ع ،63 .خريف 3001شتاء،3003
ص.440.
2حممد محاسة عبد اللطيف :فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر ،مرجع سابق ،ص،451 .
3عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص.93 .
4حممد محاسة عبد اللطيف :فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر ،مرجع سابق ،ص.411.
132
":ومن المناسب أن نذكر أن ما جاء به تشومسكي له جذور في ثراثنا اللغوي ،وخير من
اإلمام عبد القاهر الجرجاني ".1
ُ يمثل هذا
لقد أدرك النقاد والبالغيون القدماء خطورة التركيب القائم على المهارة الفنية في نظم
الكلم ،ورصف بعضها إلى بعض .وهو ما يكفل نقلها من درجة الصفر إلى أعلى درجات
الشعرية ،حسب مهارة الشاعر وما يتمتع به من تمكن في الصناعة الشعرية ،مهارة تخلع
على العبارة لبوسا جديدا " ...وذاك أنه يحدث عنه من فوائد التأليفات واالمتزاجات ما يخيل
للسامع أن هذه األلفاظ ليست تلك التي كانت مفردة ".2
وهو ما يعطي التركيب في العبارة الشعرية ميزة ليست للتركيب في غيرها ،فـ" المنزلة
التي يحظى بها التركيب في الشعر ال تدانيها في األهمية منزلته في سائر أجناس الكالم
وأفنانه .فبينما تظل التراكيب في معظم المنثور ،مجرد أداة في خدمة المعنى ،نجدها في
أكثر المنظوم ،تسعى إلى أن تكون الغاية واألداة ،طالما أن الشاعر ال يهمه أن يتكلم أكثر
مما يهمه أن يقول كالما جميال يعلق بالقلوب ويعطفها عليه ".3
إنه إذا كانت القصيدة بناء ذا مغاليق محكمة الرتاج ،فإن من أهم األبواب الموصلة
إلى أفنيته ودهاليزه وزواياه " ...الباب الذي يكشف لنا كيف يتم هذا التركيب ،أي تركيب
وحدات البناء الفني للقصيدة ".4
ومن المعلوم أن التفكير النحوي العربي تأسس على أن التركيب الذي تتضام بموجبه
الكلم نوعان :تركيب إسنادي أقل عناصره طرفان مسند ومسند إليه ،يجمع بينهما اإلسناد
عبر عنه بالجملة االسمية ،واما
الذي هو نسبة ذهنية تربطهما .وهذا التركيب إما اسمي ُي ّ
فعلي يعبر عنه بالجملة الفعلية .وتركيب غير إسنادي ،تتراكب فيه الكلم من غير حاجة إلى
عالقة إسنادية .كالتركيب اإلضافي ،والتركيب الوصفي.
1
عمان ،ط ،3003 ،4.ص.95. عاطف فضل :مقدمة يف اللسانيات ،دار الرازيّ ،
2ابن األثري :املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.411.
3حسني الواد :املتنيب والتجربة اجلمالية عند العرب ،دار الغرب اإلسالمي ،بريوت ،ط ،3001 ،3.ص.431.
4حممد محاسة عبد اللطيف:فاعلية املعىن النحوي يف بناء الشعر ،مرجع سابق ،ص.414.
133
وقد كان عبد القاهر الجرجاني -وهو يمثّل لمعاني النحو من سورة الفاتحة ،1-يرصد
في الوقت نفسه غالب األوجه التي يمكن أن يقع بها تركيب األلفاظ في النحو العربي،
وتتحدد العالقة بين أنواع المرّكبات :فمنها التركيب اإلسنادي بقسميه :االسمي بين المبتدإ
والخبر في قوله تعالى :الحم ُد ِ
لل ،والفعلي في قولهِ :إي َ
اك َنع ُب ُد .والتركيب اإلضافي في قوله: َ
يم ،والتركيب الوصلي في قوله " ِ ِ
ط ال ُمستَق َين ،والتركيب الوصفي في قوله :الص َار َ َرب العالم َ
ت َعلَي ِهم ".
ين أَن َعم َ ِ
الذ َ
واذ قد تقرر ذلك فليس من المجدي – عمليا وال بالغيا – الخوض في البحث عن أي
الجملتين هي األصل :الفعلية أم االسمية ؟ ،فمن الثابت بالغيا أن كل واحدة منهما تسد ثغرة
ال تقوم فيها األخرى مقامها ،ولذلك فكل واحدة أصل في سياقها الذي يستدعي استخدامها
حسب إرادة المتكلم ،ومقتضيات المقام.
134
(التقديم والتأخير-الحذف) التصرف الموضعي والكمي:
إذا كان الغرض التركيبي محوجا للمتكلم إلى أن يجمع األلفاظ بعضها إلى بعض
ويؤلف بينها في نظم مستقيم يكفل له تبليغ المخاطب رسالته على أكمل وجه ،فإنه محوج له
نجمة شيئا فشيئا يتلو أحدها اآلخر ،تبعا للطبيعة الخطية
أيضا إلى أن ينطق بهذه األلفاظ ُم ّ
( ) linéaireلسلسلة الكالم ( .) chaîne parléeوألن الدليل اللغوي محكوم بجريانه في
النطق بها
َ الزمن 1بسبب طبيعته السمعية ،تُسلك األلفاظ في نظام تعاقبي يجعل من المتعذر
جملة واحدة.
ومن المعلوم أن أصل الترتيب في الجملة االسمية أن يسبق المبتدأ ويليه الخبر ،وفي
الفعلية أن يسبق الفعل ويليه الفاعل ،أو نائبه في الجملة المبنية لغير الفاعل ،ثم المفعول إن
كان الفعل متعديا .وبذلك تعطي هذه القسمة الثنائية في العربية المسند والمسند إليه كليهما
حق الحلول في الرتبة األولى.
ومن أبرز ظواهر المرونة في العربية ظاهرة التقديم والتأخير ،التي هي من الفرادة
األسلوبية ،والقدرة على تصوير المعاني القائمة في الصدور ،بحيث تصبح" اللغة صورة
فكرية ،سمعية ،بصرية في آن واحد".3
1
FERDINAND DE SAUSSURE : COURS DE LINGUISTIQUE GENERALE, Edition
TALANTIKIT Béjaïa 2002 P. 106: " le signifiant, étant de nature auditive, se déroule dans le
temps seul...".
2حممد حممد أبو موسى :دالالت الرتاكيب دراسة بالغية ،مكتبة وهبة ،القاهرة ،ط4002 ،3.م ،ص.671.
3ابتسام أمحد محدان :احلذف والتقدمي والتأخري يف ديوان النابغة الذبياين ،دار طالس ،دمشق ،ط6994 ،6.م ،ص.24.
136
وتصرف المتكلم في ترتيب عناصر الجملة ،وتحويله عن األصل ال يكون اعتباطا .بل
يعد الترتيب
يتم ذلك وفق التراتبية القائمة في النفس ،يقول الدكتور خليل أحمد عمايرة ّ ":
من أبرز عناصر التحويل وأكثرها وضوحا ،ألن المتكلم يعمد إلى مورفيم حقه التأخير فيما
جاء عن العرب فيقدمه ،أو إلى ما حقه التقديم فيؤخره طلبا إلظهار ترتيب المعاني ،في
النفس ".1
واضافة إلى داللة ذلك على العالقة التبعية التي تعكس ما في نفس المتكلم ،فإنه من
جهة أخرى دليل على قدراته ،وتمكنه من ناصية التعبير والتصرف في الكالم( )paroleالذي
هو ميدان للعبقرية الفردية ،بعدم تقيده بمقررات اللغة ( .)langueفالتقديم في مستوى الكالم
فيسخرها
ّ يمثل " ...قدرات إبانة أو طاقات تعبيرية يديرها المتكلم ِ
اللقن إدارة حية وواعية،
تسخي ار منضبطا لإلبانة عن معانيه ومقاصده .2" ...
واذا كان التوتر العاطفي من أهم مقومات العبارة الشعرية ،فإن التقديم والتأخير من
اآلليات التي تكسب " ...التركيب الدقة في تصوير مواطن الشحن العاطفي وتطور
المعنى.3" ...
ويحسن التفريق بين ضربين من التقديم والتأخير ،األول نمطي خال من أي ميزة فنية،
حسان ( الرتبة المحفوظة ) أي البنية األصلية التي يحفظها
يندرج فيما سماه الدكتور تمام ّ
التنميط النحوي .4والمقصود هنا تحديدا تلك األلفاظ واألدوات التي أُعطيت حق التصدر وان
كانت متأخرة في التقدير اإلعرابي ،مثل أدوات الشرط واالستفهام .والثاني إبداعي ،يميل إليه
1خليل أمحد عمايرة :يف حنو اللغة وتراكيبها منهج وتطبيق ،عامل املعرفة ،جدة ،ط6992 ،6.م ،ص.99.
2حممد حممد أبو موسى :دالالت الرتاكيب دراسة بالغية ،مرجع سابق ،ص.671.
3ابتسام أمحد محدان :احلذف والتقدمي والتأخري يف ديوان النابغة الذبياين ،مرجع سابق ،ص.24 .
4متام حسان :اللغة العربية معناها ومبناها ،عامل الكتب ،القاهرة ،ط4001 ،2.م ،ص.407.
137
المتكلم تحقيقا لمطالب جمالية وغايات بالغية ،يسلك في ما يسمى " الرتبة غير المحفوظة"،
أي الخارجة عن المألوف النحوي.1
ويمكن أن ُيلحق باألول ما يكون وليد تناسي الترتيب األصلي لعناصر القول ،واحداث
ترتيب آخر له بنيته العميقة الجديدة ،كأن ُيجعل الخبر مبتدأ إذا استوفى الشروط والمسوغات
التي تسمح بذلك ،ويجعل المبتدأ خب ار .والثاني يكون مع مراعاة الترتيب األصلي في التقدير،
بحيث ال يظهر إال على مستوى البنية السطحية (.) structure de surface
ويلزم من هذا أن الضرب األول إجباري ،بما أنه يتصل بالبنية العميقة .في حين يكون
الثاني اختياريا لكونه تحويال على مستوى السطح أو الكالم ( ،) la paroleكما هو عند
دوسوسور .لذلك كان هذا الضرب هو مقصد البالغيين حين يتوجهون إلى دراسة التقديم
والتأخير ،بخالف األول الذي هو مبحث نحوي ِ
ص ْرف.
فكون المتكلم يجنح إلى تقديم عنصر وتأخير عنصر آخر مختا ار غير مدفوع بنمط
قاعدي محفوظ سلفا ،دليل على حاجة بالغية في نفسه يريد إيصالها إلى المستمع ،يقول
الدكتور حسن طبل ":أما البالغيون ( في بحثهم لظاهرة التقديم والتأخير) فقد اقتصر نظرهم
على النمط الثاني فحسب من هذين النمطين ،فالنماذج التي ُعني البالغيون ببحث تلك
الظاهرة والتنويه بمزيتها فيها تنتمي جميعها إلى ما يسمى بالرتبة غير المحفوظة لدى النحاة
[ ]...فهذا اللون من الرتبة هو الذي ال يحتمه نظام اللغة ،بل يجيز للمتكلم حرية الخروج
عليه بتقديم ما رتبته التأخير أو العكس ،أي أن الرتبة في هذا اللون هي مجال من مجاالت
التخير النحوي الموجب للمزية في نظر البالغيين ".2
لقد بلغ انتهاك الترتيب في هذا المطلع أقصاه ،حتّى خرج عن أصول القواعد ا ّلنحوية
واذا صح زعم جون كوين أن الشعراء الفرنسيين أطاعوا مقولة فيكتور هوجو ":اتركوا النحو
في سالم " ،5فالمتنبي ال يريد للنحو أن يظفر معه بسالم ،وال للنحاة أن يؤولوا معه بصلح.
1أمحد حممد ويس :االنزياح من منظور الدراسات األسلوبية ،املسسسة ااجامعية ،بريوت ،ط4002 ،6.م ،ص.644.
2جون كوين :بنية لغة الشعر ،مرجع سابق ،ص.462-463.
3حسني الواد :املتنيب والتجربة ااجمالية عند العرب ،مرجع سابق ،ص.622.
4أبو الطيب المتنبي :الديوان بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان ،دار الفكر ،بيروت ،لبنان،
0202م ،ج ،3 .ص.303 .
5جون كوين :بناء لغة الشعر ،مرجع سابق ،ص.466.
139
تصوره " والمبتدأ محكوم عليه وخبره حكم ،والحكم ال يكون مع
"الحكم على ال ّشيء فرع من ّ
النقصان.
ّ
تطورتأما اللّغة ال ّشعرية فهي خلق لغوي جديد إفرادا وتركيبا ،وعلى هذا األساس ّوّ
فتحررت من
النقدية الحديثة ،السيما األسلوبيةّ ،
الضرورات ال ّشعرية مع المدارس ّالنظرة إلى ّّ
فنيا أسلوبيا يدخل في جوهر لغة ال ّشعر المباينة
نظرة االستقباح والتحفّظ ،واعتُبرت ُمعطًى ّ
المتقدمين من غير
ّ أدل على ذلك من ورودها في بعض أشعار
للغة الخطابات األخرى ،وال ّ
فالضرورة ال ّشعرية " ضرب من ضروب التّوليد في
ّ ملحة يدعو إليها الوزن والقافية.
حاجة ّ
اللّغة يثري بها ال ّشاعر اللّغة وينحو بها نحوا جديدا " ،2ولهذا صار من اإلجحاف اعتبارها
تقصي ار من ال ّشاعر وعدم كفاءة بل هي " على عكس ذلك من مظاهر اقتدار ال ّشاعر
ونشاطه الخالّق ".3
ويبدو أنه إلى جانب طائفة النقاد اللغويين المتنطعين ،الذين ُيحصون على الشعراء كل
صغيرة وكبيرةُ ،وجدت طائفة من النقاد اضطرتهم واقعية هذا التصرف ،وكثرة الجنوح إليه،
إلى أن يذعنوا للشعراء ،ويعطوهم سلطة األمراء على لغة الشعر ،وهم حقا " أمراء الكالم،
يمدون المقصور ،ويقدمون ويؤخرون ،ويومئون ويشيرون ،ويختلسون
يقصرون الممدود ،وال ّ
ويعيرون ويستعيرون ".2
يترتب على هذا ( الترخيص ) األسلوبي ،إعادة النظر في التسرع إلى تخطئة األساليب
والتراكيب التي وردت عن الشعراء القدماء في غير لبوسها القاعدي " ...وأن نحسن الظن
بالشعراء الكبار فال ننظر إلى شعرهم بمعيار التصويب والتخطئة – وبخاصة الشعراء
المتقدمون – بل ينبغي أن نحاول استكشاف أسرار التراكيب لديهم حتى تلك التي تبدو على
أنها من -وجهة نظرنا – مخالفات نحوية يرتكبونها في شعرهم ،إنهم يعمدون إليها عمدا
غير غافلين عنها ،ووراءها معنى متساوق مع المعنى الشعري للقصيدة ،3" ...هذا إن لم
وهذا التوزيع الغريب لعناصر القول في البيت يحدث في صورته النهائية انعطافا
وحركة شديدة التأثير في السمع ،تشبه بعض المقطوعات من الموسيقى الحديثة ،1التي يميل
مؤلفوها إلى االنعطاف الشديد باألذن صوب النغمات الصادمة والمفاجئة.
لكن المتنبي وشعراء ذلك القرن المتأخر من العصر العباسي ،إنما كانوا يسيرون على
طريقة اختطها لهم شعراء متقدمون من ذلك العصر .على رأسهم أبو تمام الذي ذهب كل
مذهب في بعثرة عناصر القول في البيت ،غير مكترث " ...بمقتضيات البنية اللغوية
1شوقي ضيف :الفن ومذاهبه يف الشعر العريب ،مرجع سابق ،ص.320 .
2السابق ،ص.326.
142
فيفصل مثال بستة أبيات بين المبتدإ والخبر ،أو بين المشبه والمشبه به ،1" ...وهو مما
ُيجهد ُّ
الشراح في استخراج معاني أبياته ومقاصده ،حتى إنهم ليجنحون إلى تأويل أبياته
وتفسيرها بما قد ال يسمح به ظاهر العبارة.
يرجح ما ذهب إليه اآلمدي ،ويوحي بأنه يفتئت على الشاعر.لكن ظاهر العبارة ال ّ
الفهم كثير من ُش ّراح شعر أبي تمام ،منهم الخطيب التبريزي الذي يقول
لذلك رد عليه هذا َ
عفوت محمودا لِما كنا نجد ممن كان يسكنك من المساعدة ،وكفى
َ في شرح المطلع ":أي
بعفُِّوك ،أي ُعفُّوك يكفي من أن أستشهد على رزئي فيك بفراق أهلك على رزئي شاهدا ُ
4
العفُّو المفهوم من السياق هو فاعل
. "...وعلى هذا التخريج يكون " ذاك " المشار به إلى ُ
"يكفي " على زيادة الباء .واذا صح هذا فـ" ال قلب في نظم الكالم ،وال فساد بين أجزائه ...
1السيد حممد ديب :الغموض يف شعر أيب متام ،دار الطباعة احملمدية ،القاهرة ،ط ،6999 ،6.ص.72.
2أبو تمام :الديوان بشرح الخطيب التبريزي ،دار المعارف ،القاهرة ،ط1811 ،5.م ،ج ،1.ص.205 .
3أبو القاسم اآلمدي :املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي ،مصدر سابق ،ج ،6.ص.467 .
4أبو متام :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،6.ص.202 .
143
وأن المعنى ال يتجاوز إرادة أبي تمام في اتخاذ حال الطلل شاهدا على حاله ،وان تم ذلك في
صورة من التعبير القلق المضطرب".1
أصح هذا التقدير أو ذاك ،فإن أبا تمام في شعره ،وتطلبه المعاني الغريبة،
ّ وسواء
المحرضة على القراءة الغريبة كقراءة اآلمدي السابقة ،يبقى مؤسسا لما سماه أدونيس "شعرية
ّ
الكتابة " ،وهي الطريقة التي استحدثها الشعراء المحدثون في العصر العباسي ،في مقابل
"الشعرية الشفوية " البسيطة الموروثة عن الجاهلية .ومن أبرز ركائز هذه الشعرية الجديدة
غموض المعاني ودقتها.2
على أن التقديم والتأخير عند المتنبي قد ال يبلغ ذلك المبلغ من االزياح والشذوذ،
فيكتفي منه بتغييرات موضعية مألوفة .ومع ذلك يخرج البيت في الذروة من الصناعة
الشعرية ،ومطلع ميميته الطائرة الصيت من هذا القبيل:
ِ ِ الع َزائِ ُم ِ علَى قَ ْد ِر أ ْ ِ
الع ْزِم تَأْتي َ
3
الم َك ِارُم
وتَأْتي علَى قَ ْد ِر الكرام َ َهل َ
1السيد حممد ديب :الغموض يف شعر أيب متام ،مرجع سابق ،ص.72.
2أدونيس :الشعرية العربية ،دار اآلداب ،بريوت ،ط ،4000 ،3.ص.22-23 .
3المتنبي :الديوان بشرح العكبري ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.311 .
144
المتفجرة من هذه القصيدة ،ويحشدها قبل أن تُبسطّ مطلع يستجمع ك ّل الطّاقة ال ّشعرية
على سائر األبيات ،وقد توفّرت له جميع ال ّشروط المطلعية التي ّنبه إليها البالغيون القدماء
حجة .وهو ما جعل أكثر أصحاب الكتب البديعية الدين الحلي وابن ّ
كما رأينا عند صفي ّ
يسوقونه أنموذجا لبراعة االستهالل ،السيما تناسب القسمين الذي لم ُيوفق إليه امرؤ القيس
في مطلع معلّقته حسب رأي ابن أبي اإلصبع .
145
نحول
ولتسهيل معرفة التموضع األصلي وما أصابه من تغيير في البنية الجديدةّ ،
عناصر هذا التّركيب إلى بنية رقمية بحيث يأخذ ك ّل عنصر لساني -منظو ار إليه في ترتيبه
الرياضية ،فيكون الحاصل هكذا:اإلسنادي (الجملة)– مقابله من األرقام في البنية ّ
(تأتي) (العزائم) (على قدر أهل العزم) و(تأتي) (المكارم) (على قدر الكرام)
ألن استعادة
الصدرّ ،
ذلك كلّه يجعل العجز أقرب إلى البنية اإلسنادية األصلية من ّ
األول ،يحوج إلى تأخير العنصر الثالث بمنزلتين ،حسب بنية المطلع
هذه البنية في القسم ّ
المستجدة ،بينما يمكن ذلك في القسم الثاني بتأخيره بمنزلة واحدة فقط.
ّ
146
للصدر يناسب عظمة الحدث ُبعد هذا العنصر عن محلّه بمرحلتين في التّركيب الجديد ّ
يفسره بقوله النصر على الروم ،وينطق بفرادة م ِ
همته ،وهو ما ّ
وبعد ّ
الدولة ُ
حدثه سيف ّ ُ ّ المتمثّل في ّ
في بيت الحق:
1
ض ِارُم ف َّ ِ ُي َكلِّ ُ
الخ َ
وش َالج ُي ُ
ت َع ْنهُ ُ
َوقَ ْد َع َج َز ْ ش َه َّمهُ
الج ْي َ
الد ْولَة َ ف َس ْي ُ
ويعلق الدكتور حلمي مرزوق على النمط التركيبي في هذا البيت ،نافيا أن يكون ذلك
اعتباطا أو بدافع الوزن ،فيقول ":وال يقال إن التقديم هنا جاء من أجل الوزن ،ألن هذه
التهمة إذا جازت في وسط القصيدة ،ال تجوز -قط -في مستهلها ،ألن الشاعر يكون في
سعة من أمره في أول القصيدة ،وكان في وسعه أن يعدل إلى ما يشاء من القوافي ،وانما
التعليل الحق أن ذلك من عمل اإلحساس الفني البالغ عند الشاعر[ ]...فالمتنبي يصدر عن
إحساس بالعزم بالغ العمق ،واال كيف تفسر هذا النصر ،وسيف الدولة في قلة قليلة إزاء هذه
الكثرة الكاثرة من الروم ،اللهم إال بالعزم و الهمة واالجتراء ،وبجميع ما شابه ذلك من
الخصال التي تعوض الناس عن العدة و العتاد ".2
وشاعر حماسة وحرب كالمتنبي ،ال يخلو التقديم والتأخير عنده من نزعة الهجوم على
األعداء والخصوم .فالرسائل التي يوجهها ملك الروم إلى سيف الدولة ليست رسائل في
حقيقتها ،فهي ليست كمعهود الرسائل بين الملوك في سلمهم وحربهم ،بل هي بمنزلة الدروع
يسوف يها ويشغل سيف الدولة ،ويؤجل صولته عليه. ّ
ِ 2
َي ُرُّد بِهَا َع ْن َن ْف ِس ِه َوُي َشاغ ُل الر َسائِ ُل
وم َه ِذي َّ ُد ُروعٌ لِ َم ْل ِك ُّ
الر ِ
كل ذلك في أسلوب قصر طافح بالسخرية واالستخفاف.
وقد تنبه عبد القاهر الجرجاني إلى أن الحذف يكون أحيانا إجراء توجيهيا ،وحيلة
استباقية يلجأ إليها المتكلم لحمل السامع على الوقوع على المعنى المراد رأساِّ ،
وسد الباب
أمام ما قد يتبادر إلى ذهنه من أوهام تهيم به في وديان ٍ
معان غير مقصودة ،قبل االنتهاء
إلى المعنى المراد " .وذاك أن من حذق الشاعر أن ُيوِقع المعنى في نفس السامع إيقاعا
يمنعه به من أن يتوهم في بدء األمر شيئا غير المراد ،ثم ينصرف إلى المراد ".2
1
عمان /عامل
سامي حممد عبابنة :التفكري األسلويب رؤية معاصرة يف الرتاث النقدي والبالغي يف ضوء علم األسلوب احلديث،جدارا للكتاب العامليّ ،
الكتب احلديث ،إربد ،األردن ،ط4007 ،6.م ،ص.404.
2عبد القاهر ااجرجاين :دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص.674.
3الديوان ،صدر سابق ،ج ،1.ص.418 .
4عبد القاهر ااجرجاين :دالئل اإلعجاز ،مصد سابق ،ص. 172.
149
وكان ابن جني قد اختص هذه الظاهرة في العربية بتسمية طريفة وهي " شجاعة
العربية " ،وسلك فيها إلى جانب الحذف ،الزيادة ،والتقديم ،والتأخير ،والحمل على المعنى،
والتحريف.1
إن الحذف في كالم العرب هو وجه من وجوه االقتصاد اللغوي ،القائم على أن خير
وجه بلغاء العرب جانبا عظيما من اهتمامهم إلى تخير
الكالم ما قل ودل ": ،من أجل ذلك ّ
األلفاظ واحكام نسجها ،بمقدار ما تؤدي صور المعاني وتضعها في نفس السامع الموضع
الالئق بها من اإلعجاب والقبول".3
وبناء على ذلك فغير الزم لصحة الكالم وجودته ،وضع صورة لفظية لكل جزء من
معناه التركيبي النهائي " بل مدار حسن البيان على أن تصير صور المعاني في نفس
المخاطب بحالها التي كانت عليها في نفس المتحدث بها ،وسواء بعد هذا أكانت األلفاظ
مفصلة على قدر المعاني في الكثرة والقلة ،أم كانت المعاني فوق ما تدل عليه األلفاظ
بحسب أوضاعها اللغوية ".4
وبدهي أن مثل هذا اإلجراء يتطلب الثقة :ثقة المتكلم بقدرة السامع على ملء الفراغ
َ
الذي يخلفه الحذف في الكالم .ويزداد توارد الحذف طردا وعكسا تبعا لحجم هذه الثقة ،فكلما
زادت هذه الثقة زاد الحذف ،وكلما قلّت تجافى عنه المتكلم وأق ّل منه في كالمه .إضافة إلى
االطمئنان إلى داللة الهيئات والمقام ،ففي كالم العرب يكون االعتماد " ...على ثقافة
السامع وما يغني غناء األلفاظ من أحوال ولو كانت خارجة عن مقتضيات الكلم وهيئة
تأليفها .فاطّراح كثير من األلفاظ مع القصد إلى إفادة مدلوالتها اللغوية ،ال يمس بفصاحة
الكالم وال يقدح في بالغته ،ما دام الكالم منسوجا على المنوال الذي ينسج عليه الفصحاء،
وما دامت المعاني التي يراد نقشها في نفس المخاطب سالمة من أن تصل إلى النفس
مختلة الهيئة ،أو مبتورة بعض األجزاء ".2
عد الحذف من االنزياحات التركيبيةَ ،مثله مثل التقديم والتأخير ،طالما أن
ومن الممكن ّ
الحذف ظاهرة تناسبية ال تُرصد إال في داخل سلسلة القول أو شبكة العالقات القائمة بين
عناصر الكالم ،والتي تحوج إقامتها إلى تقدير المحذوفات .غاية من هناك من فرق بينهما
أن الحذف انزياح كمي ،والتقديم والتأخير انزياح موقعي.
1السابق ،ص.74.
2السابق ،املوضع نفسه.
151
واذا كان لكل انزياح أصل أو نمط يتخذ من العدول عنه صفته االنزياحية ،فإن هذا
األصل بالنسبة إلى الحذف هو ِّ
الذ ْكر .وهنا يجب له ما يجب ألي إجراء أسلوبي من ضرورة
تبرر العدول به عن األصل " .فالحذف انحراف عن األصل اشتماله على فضيلة أسلوبية ّ
أي انحراف ،ولكنه االنحراف الذي يثري الداللة ،ويكون له من
الذي هو الذكر ،وليس هو َّ
األثر على المتلقي ما ال يكون للتركيب حال الذكر".1
وكما كان من لوازم الحذف -من حيثية كونه انزياحا -أصل ينزاح عنه ،كان من
لوازمه -من حيثية ملء الف ارغ الذي تركه -التقدير ": ،وال خالف بين النحاة في إقرار
الحذف من حيث المبدأ ،وال في ضرورة تقديره ،للوصول إلى المعنى ،أو لغير ذلك من
المقدر
مقتضيات الصيغ والتراكيب ،ولكنهم قد يختلفون في بعض المواضع ،أو في ّ
المحذوف ،أومقداره ".2
1سامي حممد عبابنة :التفكري األسلويب رؤية معاصرة يف الرتاث النقدي والبالغي يف ضوء علم األسلوب احلديث ،مرجع سابق ،ص.401.
2عبد ااجليل يوسف بدا :الظواهر النحوية والصرفية يف شعر املتنيب ،املكتبة العصرية ،صيدا-بريوت ،ط4001 ،6.م ،ص.29.
152
والتقدير ما هو إال محاولة لمالحقة المعاني وربط الغائب منها بالحاضر ،وهنا تتفاضل
قدرات المستمع في تقدير المحذوفات تبعا لمواهبه وثقافته ،أما إذا كنا أمام نص أدبي فإننا
عندئذ في معرض البحث عن شعرية التقدير عند دارس النص ،في مقابل شعرية الحذف
عند مبدعه.
ي القول هنا إن الناقد أو الشارح وهو يالحق المعاني في متاهات التقدير ،تتعلق به
فحر ّ
تبعات ال تقل عن تبعات صاحب النص نفسه .فالمطلوب أن تكون َّ
المقدرات في مستوى
المذكورات من حيث قوة الشعرية .ومن هنا كان التقدير مضما ار تختلف فيه وجوه التقدير
اقع فيه الحذف.
وتتفاوت ،فيكون أقربها إلى القبول أشكلها بمستوى شعرية مجمل النص الو ِ
زيادة على ذلك يقتضي تقدير اسم اإلشارة تقدير تابع له ،هو بدل من اسم اإلشارة ،أو
معرفا بـ(أل) على ما هي عليه قاعدة تابع اسم
بد أن يكون ّ عطف بيان له .هذا التّابع ال ّ
اإلشارة ،وعندئذ يمكن تقديره بلفظ اليوم أي " هذا اليوم عيد " وهو الظاهر ،ويمكن أن يكون
وكذلك قوله:
2
َه َكـ َذا َه َكـ َذا َوِاالَّ فَـ َـال َال الم َعالِي َف ْلَي ْعلُ َو ْن َم ْن تَ َعالَى
ذي َ
ِ
الناحية اإلعرابية الجار والمجرور " هكذا " ،يجوز أن يكون نائب مفعول مطلق فمن ّ
علوا هكذا" ،أو
الصفة مقام المصدر المحذوف ،أي " فليعلون ّ
عامله " فليعلون " ،على إقامة ّ
أن يكون عامله محذوفا استغناء بالسابق أي " هكذا فليعلون " .كما يجوز أن يكون خب ار عن
محذوف أي " هكذا المعالي " .3والى جانب تقدير هذه المحذوفات التي يتعلّق بها الجار
النافية،
والمجرور " هكذا " ،حذف المنفي وال ّشرط بعد إن ال ّشرطية التي أدغمت نونها في ال ّ
الزائدة للتّوكيد ،كذلك حذف المشار إليه بعد " كذا ".
وحذف جواب ال ّشرط بعد ال الثّانية ّ
وقد يقترن حذف ما كان يجب ذكره ،بإثبات ما كان يجب حذفه ،في ثنائية تضادية
توحي بالكثير ،كإثبات ألف الضمير " أنا " في الوصل:
ِِ 2
الم َعالم
ك َ َعلِ ْم ُ
ت بما بي ْبين تل َ وقت اللَّو ِ
ائم كنت َ
إن ُ ِِ
أنا الئمي ْ
ففيه حذف " لوم" المضاف إلى اللوائم ،وحذف جواب الشرط اكتفاء بالدليل عليه من الكالم
السابق ،في المقابل إثبات ألف " أنا " في الوصل.
وحذف العامل في نائب المفعول المطلق " بعض " له وقع خاص ،وأكثر ما استخدم
في مواضع الغزل والحب ،أو مواجهة الع ّذال عموما الذين يلومون الشاعر في حبه أو
مدحه ،كقول البحتري:
3
اء بِالم ْحم ِ
ود لَ ْيس َذ ُّم الوفَ ِ تاب والتَّ ْفنِ ِيد بعض هذا ِ
الع ِ
َ ُ َ َ َْ َ
4
وقد يكون امرؤ القيس من أوائل الذين لفتوا أنظار الشعراء لجمالية هذا الحذف في قوله :
َج ِملي
ص ْرِمي فَأ ْ ِ ِ
َوِا ْن ُك ْنت قَ ْد أ َْزَم ْعت َ ض َه َذا التَّ ـ َـدلُّ ِل ِ
أَفَاط َم َم ْهالً َب ْع َ
فهل غبط البحتري ام أر القيس وأَ ْكَبر هذا التركيب ،ورغب به عن موقعه من المعلقة ،فنقله
إلى مطلع قصيدته حيث يجد المكان األكثر مناسبة لظهور جماليته؟ ،فالتشابه قريب،
والتطابق حتى في المضاف إليه " هذا " بعد " بعض ".
َج ْل " أحسن من " َن َعمْ " في التصديق ،3فإن الطلل – في خيال الشاعر
واذا كان " أ َ
-كان في حال شرح وتفصيل لحاله ،فما كان من هذا إال أن يتجاوب معه ويصدقّه.
أو يسترسلون في الحذف ،فيتواتر ويتراكب ويتكثف في شطر واحد كقول المتنبي:
4
ألهلِه َو َشفَـى أََّنـى َو َما كـرَبا الرْب ِع َما َو َجَبا
ضى في َّ
َد ْمعٌ َج َرى فَقَ َ
المقدر بالجار والمجرور ( لي) أي " لي دمع " ،وحذف عامل الحال الدمع ّ ففيه حذف خبر ّ
" ّأنى" ،ومفعول " شفى " ،وخبر الفعل الناقص " كرب " .واذا ربطنا مظهر الحذف بتكرار
السرعة
أن هذا الحذف مناسب للحركة و ّاأللف الدالّة على الجريان واالنطالق ،علمنا ّ
خصوصا مع حذف خبر " كرب " الدال على المقاربة ،تخفيف يالئم هذه الداللة.
مكرس لوصف الحدث فحسب ،وهو الفرق الذي يلحظه ومعنى هذا أن اإلسناد بالفعل ّ
المستشرق "رايت" Wrightبين الجملة الفعلية والجملة االسمية ،فاألولى تصف حدثا ،أما
الثانية فتصف شخصا أو شيئا ،ويكون ترتيب الكلمات بطريقة تحقق ذلك ،إال إذا كانت
هناك رغبة في تأكيد قسم من أقسام الجملة ،فإن هذا يكفي ألن يكون سببا للتغيير في مواقع
الكلم.2
وثانيهما أنه -كما يفترق اإلسناد بالفعل عنه باالسم من حيث طبيعة الموصوف إذا
كان ذاتا أو معنى -يفترق عنه من حيث الثبات والتجدد .فالشتمال الفعل على داللة الزمن
اشتماال أصليا ،كان الوصف به مرتبطا بالحدوث والتجدد ،ولتجرد االسم منها – إال بالتبعية
للفعل أحيانا – كان داال على ثبات المعنى واستق ارره .فاالسم وضع أصال من أجل " ...أن
ُي َثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا بعد شيء ،أما الفعل فموضوعه
ِ
المثبت به شيئا بعد شيء ".3 على أنه يقتضي تجدد المعنى
وهو ما يؤكده فخر الدين الرازي بقوله ":االسم له داللة على الحقيقة دون زمانها ...
وأما الفعل فله داللة على الحقيقة وزمانها " ،4فالطغرائي في مطلع الميته
يجعل أول الصدر والعجز اسما " :أصالة ،حلية " ،ويجعل الخبر المسند إليهما مركبين
وعلو همته ،رغم أنف
فعليين ":صانتني ،زانتني " ،وهو ما يقوم بمعنى ثباته على عزة نفسه ّ
159
المجن ونقلته من دست الو ازرة إلى السجن ،وذلك ما يحمله
ّ الحوادث ،التي قلبت له ظهر
معنى البيت التالي:
وكذلك قوله:
2
ال َّب ِر َزموا الَ ِ
الج َما َ َو ُح ْس َن الص ْ اء لَ ْي َس ُه ُم ْارتِ َحاالَ ِ
َبقَائي َش َ
1
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.373 .
2
السابق ،ج ،3.ص.222 .
3قال ابن هشام يف توضيح مفهومه عند النحاة ":قد يُشربون لفظا معىن لفظ فيعطونه حكمه " ...انظر مغين اللبيب عن كتب األعاريب ،املكتبة
العصرية ،صيدا – بريوت ،1111 ،ج ،7.ص.211.
160
النحاة كلمة تد ّل على معنى مقترن بزمان ،واالسم كلمة تد ّل على معنى
يعرفه ّ
والفعل كما ّ
للربط.
أما الحرف فال يد ّل على معنى في ذاته واّنما هو ّ
الزمانّ ،
مجرد من ّ
ّ
الربط في هذا الموضع فقد ذهب الراحلون بالحبيبة ولم يبق للفعل داللة
وال حاجة إلى ّ
يسره ،حتّى " ليس" هو أصالعلى الحدث ،فبعد رحيل المحبوبة ال يتوقّع ال ّشاعر حدوث ما ّ
فعل جامد والجمود انقطاٌ .من هنا ح ّل الفعل الدا ّل على ذلك كلّه مح ّل الحرف غير الدا ّل،
وجاز أن يقابل الحرف " ال " في ال ّشطر الثّاني .ومنه قوله:
وقد تكون لمواجهة ال مستمع بالتركيب االسمي ،وتوكيده عند القدماء في االفتتاح،
شعرية تجد نصي ار لها من المحدثين أنفسهم ،كبشار بن برد ِ
إمامهم ،في مفتتح قصيدته الذي
يقول فيه:
2
جاح في التَّْب ِك ِ
ير ك َّ
الن َ َّ
إن ذا َ اله ِج ِ
ير صاجبي ْقب َل َ
َّ َبك ار
فقد أورد صاحب األغاني أن خلفا األحمر قال لبشار ":لو قلت يا أبا معاذ مكان" إن
ذاك النجاح في التبكير" ": ،ب ّك ار فالنجاح في التبكير " كان أحسن ،فقال بشارَ :بنيتُها أعرابية
وحشية ،فقلت ":إن ذاك النجاح " كما يقول األعراب البديون ،ولو قلت ":بك ار فالنجاح "
الكالم وال يدخل في معنى القصيدة ،فقام خلَف
َ كان هذا من كالم المولدين وال يشبه ذلك
فقبل بين عينيه ".3
ّ
َوْقفة أخرى من وقفات الحوار النقدي بين بشار والمعقبين على شعره ،تكشف عن
لطافة مدخل ودقة مالحظة وحس بالغي رفيع ،وعلم بمذاهب الفصحاء في كالمهم ،فهم قد
أسس عليه خلَف األحمر تركيبه المقترح بديال
يخرجون بالخطاب عن مقتضى الظاهر الذي ّ
من قول بشار ،إذ ظاهر الحال يقتضي تجريد العبارة في العجز من المؤكدات بما أن ضرب
1
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،2.ص.262 .
2
بشار ين برد :الديوان ،تحقيق :محمد الطاهر بن عاشور ،دار سحنون ،تونس /دار السالم ،القاهرة ،ط2002 ،2.م،ج ،3.ص.
.221
3أبو الفرج األصفهاين :األغاين ،دار الثقافة ،بريوت ،ط ،1.ج ،5.ص.150.
161
إن " مرتقيا به إلى الضرب الطلبي ومعلال ذلك
صدره بر " ّ
الخبر فيه ابتدائي ،بيد أن بشا ار ّ
بأنه السلوك اللغوي عند األعراب ومألوف لغتهم " الوحشية ".
إضافة إلى ما في باإلشارة بر " ذاك " المجردة من الم البعد ،من تخصيص وتوجيه
نجاح " معهود عند المخاطبين غير بعيد من أنفسهم.
ٍ عناية إلى "
وال يخفى ما في هذا التوجه األسلوبي من خطابية تتوقد معها جذوة النبر ،ولكنها
الخطابية التي يتطلبها الموقف الشعري .في مقابل الهمس الذي تحمس في الدعوة إليه حديثا
الدكتور محمد مندور .1فالشاعر العربي – غالبا – ما كان يهمس ويجهر ،هاديه في ذلك
وحي الموقف ورائده الوجدان ،وربما جمع في البيت الواحد النبرتين معا .كما فعل جميل بثينة
في قوله:
فقوله " ...أال أيها النوام ويحكم هبوا " " ...أعرابي في شملة ،ثم أدركه اللين وضراعة
الحب فقال :نسائلكم هل يقتل الرجل الحب " .2هذا وقد كان للروح اإلنشادية المناسبة
للشفوية في القصيدة العربية القديمة دور فعال في استدعاء الجهر وتغليبه.
وللدارس النحوي خيارات في تحديد نوٌ التركيب ،عندما يتوجه إلى تقدير ما ُحذف من
عناصر اإلسناد في الجملة ،غير أن للداللة المناسبة لغرض الشاعر وموقفه ورؤيته
األفضليةَ والمصداقية .فله في تقدير المحذوف من قول المتنبي:
أن يجعل قوله ":فراق " خب ار عن مبتدإ محذوف ،ويجوز رفعه بإضمار فعل ،أي حدث
فراق ،4والوجه األول أدل على حياة المتنبي وتقلقلها ومالزمته لفراق كل من أحب ،لما يدل
1حممد مندور :يف امليزان اجلديد ،دار هنضة مصر ،القاهرة ،7440 ،ص.33 .
2أبو علي القايل :كتاب األمايل ،املكتبة العصرية ،صيدا – بريوت7440 ،م ،ص.355.
3
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،1.ص.231 .
4السابق ،املوضع نفسه.
162
عليه بناء الجملة االسمية من استقرار في الحدث وعدم انقطاٌ .وقريب من الوجه األول
محذوف الخبر أي " لي فراق ".1
َ تقديره مبتدأ
وبحثا عن اإلشارات اللطيفة والمعاني الدقيقة ،يجنح الشاعر العباسي إلى استخدام
تراكيب إسنادية هي من اللغات أو اللهجات النادرة ،مع أنه في مندوحة عنها ،لوال المعاني
واإلشارات المقصودة التي ال تظهر إالّ بتوظيف تلك اللهجات.
النطَقَ ِ
ائح ُع ْج ُم اللَّ ْف ِظ َو َّ الزفَر ِ تَ َجاوْب َن ِ
نان و َّ َ
2
ات نو ُ ات بأإل ْر ِ َ
فيكون التركيب االسمي بدل
َ تغيير موقع المصراعين ،بأن ُي ِح ّل الصدر محل العجز والعكس،
التركيب الفعلي:
نان والزفر ِ
ات باإلر ِ نوائح ع ْجم اللفظ والنطَ ِ
تجاوبن ْ قات ُ ُ
وبذلك يجتنب مشكل لغة " أكلوني البراغيث " ،ولكن النحويين لم يعدموا الحيل لتخريج
هذه اللغة ،فمن ذلك جعل " نوائح " بدل من الضمير (نون النسوة) كما هو غالب توجيهات
النحويين لهذا التركيب .أو نوائح خبر عن مبتدأ محذوف تقديره "هن" بتقدير سؤال سائل:
حاور للشاعر يبادله"من هن هؤالء الالء تجاوبن؟ " ،وهذا أنسب لكونه يبعث على تخييل ُم ٍ
تجاوب َن ".
ْ التعبير عنه بر "
َ الكالم ،ويخفف عنه شدة الحزن ،وهو ما يالئم وضعه الذي بدأ
ويشبهه في اإليحاء بعنصر المحاورة بالمضمرات والمحذوفات قول أبي العالء المعري:
حذف في الشطرين ،فالتقدير في الصدر " ما أنا فاعل إياه " ،أو " فاعله "على اإلضافة
اللفظية ،ففيه حذف فضلة .والتقدير في العجز " الذي أنا فاعله عفاف " ...ففيه حذف
عمدة في الكالم ،هو المبتدأ المخبر عنه بقوله":عفاف" .أسلوب سؤال وجواب يحمل تقنية
1اليازجيان :العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب ،مرجع سابق ،ج ،7.ص.575.
2
دعبل بن علي الخزاعي :الديوان ،دار الجيل ،بيروت ،ط2992 ،2.م ،ص.37 .
163
المحاورة ،ولكنه سؤال من النفس والرد منها ،وقد يكون لعمى الشاعر ،وهو أحد محبسيه أثر
في هذا ،فهوال يرى غير نفسه.
واإلسناد الفعلي إذا كان الفعل فيه مضارعا ،أدى معنى التجدد واالستمرار .ففي مرثية
أم سيف الدولة للمتنبي والتي أولها:
1
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.2 .
164
الصــــــــــــــــــــــور
استطاع عبد القاهر الجرجاني أن يتجاوز القصور ،الذي طبع بعض ما تركه
البالغيون العرب القدماء من دراسات عندما " ...أحال البنى البالغية إلى تراكيب نحوية
تحتمل هذه الظواهر البالغية ".1
ففي مجال الصور مثال ،اتصفت الدراسات السابقة لعبد القاهر بالتجزيئية ،وعدم
وضوح الرؤية ،فيما يتصل بالعالقة بين البنى النحوية والعبارة اللفظية التي تصاغ فيها كل
صورة ..." ،فقد كان غريبا أن يغيب عن البالغيين – مثال – الربط بين االستعارة وبنية
الحذف ،أو بين التشبيه وبنية ِّ
الذكر .2" ...
واذا كان التصوير من حيث الصناعة تركيبا أق ّل عناصره طرفان :مشبه ومشبه به،
بناء على أن التشبيه البليغ هو من أبسط الصور تأليفا في البالغة العربية ،فإنه من حيث
ٍ
بداية إلى تأزم النشاط النفسي توتر .والتوتر يقتضي مرحلية ينتقل فيها الشعور من طور
ٍ
وتالش. فانفراج
وعليه فإن أليق مواضع القصيدة بالتصوير األبيات الالحقة للمطلع ،إذا تصورنا
ترجم فنيا بكل عناصر البناء الشعري ،بما في ذلك الصور. القصيدة تناميا لتوترات شعرية ،ت َ
ويقتضي ذلك صعوبةَ توقع الصورة في المطلع لكونه نقطة البداية ،ونقطة البداية ال تقوى
على احتواء التوتر .فتلك اللحظة ذاتها إنما هي لحظة تجميع الشاعر ألنفاسه من أجل
لجة القصيدة ،ومجازفته بإطالق العنان لمخيلته في المطلع قد تورطه في إهدار
الغوص في ّ
النفَس الجمالي ،قبل أن يقطع شوطا بعيدا في عملية تخلّق القصيدة.
حبر كثير من شعراء العصر العباسي قصائدهم بمطالع َب َغتوا بها المتلقيومع ذلك ّ
بروائع الصور كقول أبي الطيب:
3
ـش ع َّـدةٌ للبِ َـر ِاز
الع ْي ِ َّ َك ِف ِرْن ِدي ِف ِرْند َس ْي ِفي الج َر ِاز
لَـذة َ
1
محمد عبد المطلب :البالغة العربية قراءة أخرى ،مكتبة لبنان ناشرون ،بيروت/الشركة المصرية العالمية للنشر ،لونجمان ،مصر،
ط1991 ،1 .م ،ص.02-19 .
2
السابق ،ص.11 .
3املتنيب :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،2 .ص.371 .
166
يسمى
الصورة ،فيما ّ
والتشبيه هنا على غير وجهه المألوف ،مبني على قلب طرفي ّ
التّشبيه المقلوب ،أو ما سماه ابن جني " غلبة الفروع على األصول " ،وعده من فصول
العربية الطريفة ،1وهو " الطرد والعكس " بعبارة ابن األثير.2
المتنبي
ّ ثم إعادة الترتيب الذي يمارسه
التصرف والتّفكيكّ ،
ّ مظهر آخر من مظاهر
السيف ِ
فالمشبه هنا هو ّ
ّ السيف يشبه فرنده هو ال عكس،على مستوى اللّغة القياسية .ففرْند ّ
المشبه به هو ال ّشاعر ،فهو المرجع أو المحال إليه .وامعانا في هذا المعنى أضاف إلى
و ّ
المشبه به (فرندي) الذي هو في األصل المشبه ،فاجتمع مع قلب طرفي
ّ فقدم
القلب التّقديمّ ،
الصورة قلب التّركيب اإلسنادي " كفرندي فرند سيفي " " ،مسند /خبر ،مسند إليه/مبتدأ ".
ّ
وأحيانا يبلغ التكثيف البياني في المطلع عند الشعراء العباسيين درجة يتشبع فيها
الشطران بالصور ،ويصبح المستمع أمام لوحة بصرية مشبعة باأللوان والظالل ،يقول
ابن الرومي:
3
اح َورَّمان ِفي ِه َّن َن ْو َع ِ
ان تفَّ ٌ ان َوكثَْبان
صٌ ص َل أَ ْغ َ
الو ْ
ك َ ت لَ َ
َجَن ْ
أْ
ففي هذا المطلع تتوارد خمس استعارات :إذ استعار الشاعر األغصان للقدود ،والكثبان
لألعجاز ،والتفاح للخدود ،والرمان للنهود ،إضافة إلى استعارة الجني للوصل .واذا كان ال
بأس من الصورة من حيث المبدأ ،بل ذلك هو المطلوب من حيث كان الشعر أساسا تصوي ار
وتخييال ،ومن حيث كانت االستعارات من أرقى أدوات الخيال ،فإن االعتراض قد يطرح من
حيث كثرة هذه الصور وتواليها ،وورودها متراكبة بعضها فوق بعض ،وهو ما ي ْسلم إلى
الغموض ،والى غلبة المستعار منه على المستعار له في ذهن المستمع وخياله.
فالمجاز إنما يحسن إذا اكتنفته وجوه من التعبيرات الحقيقية تخفف من غلَوائه ،وتكون
كالخلفية ،في حين تكون المجازات كالبؤرة .السيما أن غالب الصور في هذا البيت من جنس
واحد وهو االستعارة التصريحية ،ويهيمن عليها حقل داللي يتصل بالفواكه التي هي من
167
جملة الطعام الذي اشتهر ابن الرومي بنهمه وشرهه إليه ،ووصفه لصنوف مختلفة منه في
شعره ،حتى غدا جزء كبير من شعره وصفةَ تحضير حقيقية لعدد من المآكل ،وصورة
واضحة لـ( المطبخ العباسي ) .ولعل هذا ما جعل أبا بكر الصولي يقول – :وقد ذكروا عنده
هذه القصيدة – "هذه دار البطيخ ،فاقرءوا تشبيهاتها تعلموا ذلك! فضحك جميع من حضر".1
بالبرِد ِ
وعضت على العَّناب َ
ّ وردا
ْ ت
وسقَ ْ
س َمطرت لؤلؤا ِم ْن َن ْر ِج ٍ
ْ وأَ
لكن األمر هناك أشد ،لكون هذا التحشيد البياني واقعا في المطلع ،وهو ما يؤكد تعمد شعراء
هذا العهد افتتاح قصائدهم بمطالع صادمة.
وللربيعيات والزهريات في شعر هؤالء مجال ذو سعة للتصوير ،ولعل رائية أبي تمام
تحل في الصدر من ذلك .ففي مطلعها يتراءى الدهر في حواشيه الرقيقة ،وهي تتمرمر،
والثرى يخرج حليا من نبات يتكسر لرطوبته:
2
َو َغ َدا الثََّرى ِفي َح ْليِ ِه َّ
يتكســر الد ْه ِر فَ ْه ِي تَ َم ْرَمر ت حو ِ
اشي َّ
َرقّ ْ َ َ
واستعارة رقة الحواشي للدهر مظهر من مظاهر غضارة العيش ،التي غرق فيها المجتمع
العباسي ،وانعكاس من ذلك على التصوير الفني في الشعر .فالدهر عند شعراء العربية في
العادة هو مرادف القسوة والمصيبة ،وربما أذ َكر هذا بقوله في المدح:
َوتَ َخالَنا ِجنا إِ َذا َما َن ْجهَل.1 أَ ْح َالمَنا تَ ِزن ال ِجَبا َل َرَزَانة
168
وفي تصوير أبي تمام لمباهج الربيع ،حيوية وحركية امتازت بها تلك الطائفة من
الشعراء ،الذين تَ َش ّكل من مجمل خصائص شعرهم المذهب الشامي ،2ومنهم معاصره
البحتري الذي ي ْشكل أحيانا تمييز أسلوبه عن أسلوب أبي تمام في هذه المعاني وصياغتها،
كما في قوله:
3
أن َيتَ َكلَّ َما ِم َن الح ْس ِن َحتَّى َك َ
اد ْ
طلق ي ْختال ض ِ
احكا َ الربِيع ال ْ َ
ك َّأَتَا َ
واستشهد لذلك بآيات مما ورد فيها المجيء ،وبعض مشتقاته منها قوله تعالى ﴿:فإ َذا
بالح ِ
ق ﴾ [ ق، ِ
الموت َت َس ْك َرة َ
اء ْ
اء أَ ْمرَنا َوفَ َار التنور ﴾ [ المؤمنون ،اآليةَ ﴿ ،] 02:و َج َ َج َ
اآلية ﴿ ،] 19 :لَقَ ْد ِج ْئ َ
ت َش ْيئا إِ ْم ار ﴾ [ الكهف ،اآلية .] 11
ويتضح الفرق مع اآليات التي وقع فيه التكرار ،وكان االختالف باللفظين السابقين
اها نوِد َ
ي ﴾... اءها نوِد َ
ي [ ﴾ ...النمل ،اآلية ،]8 :وقولهَ ﴿:فلَما أَتَ َ كقوله تعالىَ ﴿ :فلَما َج َ
[ القصص ،اآلية ،] 02فيفسر ذلك بقوله ... ":ذلك أن ما قطعه موسى على نفسه في
النمل أصعب مما في القصص ،فقد قطع في النمل على نفسه أن يأتيهم بخبر أو شهاب
َقبس ،في حين ترجى ذلك في القصص .والقطع أشق وأصعب من الترجي .وأنه قطع في
1الفرزدق :الديوان ،دار بريوت ،بريوت ،لبنان3914 ،م ،ح ،2.ص.357 .
2عمر ّفروخ :تاريخ األدب العريب ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ط2006 ،7.م ،ج ،2.ص.42.
3البحرتي :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.347 .
4ابن املعتز :الديوان ،صنعة أيب بكر حممد بن حيىي الصويل ،حتقيق :يونس أمحد السامرائي ،عامل الكتب ،بريوت ،ط3997 ،3 .م ،ص.326 .
5
عمان ،ط2009 ،5.م ،ص.93. فاضل صاحل السامرائي :ملسات بيانية يف نصوص من التنزيل ،دار عمارّ ،
169
النمل ،أن يأتيهم بشهاب قبس ،أي بشعلة من النار ساطعة مقبوسة من النار التي رآها في
حين أنه ترجى في القص ص أن يأتيهم بجمرة من النار ،واألولى أصعب ،ثم إن المهمة التي
ستوكل إليه في النمل ،أصعب وأشق مما في القصص ،فإنه طلب إليه في النمل ،أن يبلغ
فرعون وقومه رسالة ربه ،في حين طلب إليه في القصص ،أن يبلغ فرعون ومأله ،وتبليغ
القوم أوسع وأصعب من تبليغ المإل .1" ...
وفعال فقد أشار الراغب األصفهاني إلى أن اإلتيان " مجيء بسهولة ،ومنه قيل للسيل
ي .2" ... المار على وجهه :أَتِ ُّي وأ ِ
َتاو ٌّ ّ
يقصر المتنبي عن متقدمي هذا العصر في وصف سحر الربيع ،بل ربما كانت ولم ّ
بوان اللوحةَ الفنية الخالدة ضمن الربيعيات .ويبدو أن الشاعر جمع ِ
نونيته في وصف شعب ّ
كل طاقته الشعرية في سبيل إخراجها ذلك المخرج العبقري.
3
يع ِم َـن َّ
الزَم ِ
ان بِ َم ْن ِزلَ ِـة َّ
الربِ ِ الم َغانِي ِّ ِ ِ ِ ِ
َم َغاني الش ْعب طيبا في َ
فالصورة ال ّشعرية تبرز بوصفها العنصر األساسي في بنية هذا المطلع ،وطرفا هذه
ّ
بوان) قياسا بغيره من األمكنة هو بمنزلة ِ
الزمني( ،فش ْعب ّ
الحيز المكاني والبعد ّ
الصورة هما ّ
ّ
الزمان هو المرجع أو
الزمان ،و ّ
السنة .المكان هنا يعانق ّ
الربيع) قياسا بغيره من فصول ّ
( ّ
مشبها.
مشبها به والثاني ّ
األول ّ
بالنسبة إلى المكان ،باعتبار ّ
موضع اإلحالة ّ
السكون /
الزمان – كما هو معلوم -حركة وانتقال ،والمكان ثبات واستقرار (المكان= ّ
وّ
المتحول في أسر المكان الثابت .ولن يكون
ّ الزمن
فكأنها محاولة إليقاع ّ
الزمان= الحركة)ّ ،
ّ
الزمن ما ال يبلغه هو من نفسه.
المتنبي الذي يريد أن يبلغ من ّ
ّ هذا عجيبا من
4
َما لَ ْي َس َيْبلغه في َن ْف ِس ِه َّ
الزَمن َن يَبلِّ َغنِي ِ ِ
أ ِريد م ْن َزَمني َذا أ ْ
170
مقدسا ،بل هي خطّة آنيةالزمان بالمكان ليست حلفا ّ
المتنبي على ّ
ّ أن استعانة
غير ّ
الزمان ظرفية ،ال تد ّل على ّأنه ر ٍ
اض عن المكان ،فهو حرب عليهما معا .حتّى لو برز إليه ّ
في هيئة شخص لقتله.
1 ضب َشـعر م ْفرِق ِه حس ِ الزَمان إِلَ َّي َش ْخصا
ولَ ْو َب َرَز َّ
امي َ َل َخ َّ َ ْ َ َ َ
بالسفر
السكون ،وهو ال يستريح إالّ ّ
ألن المكان هو اإلقامة و ّ
فعدو له أيضا ّ
أما المكان ّ
وّ
والحركة.
ِ2
ـير بِالَ لِثَام ِ
ـي َوالهَج َ
ِ
َوَو ْجه َ َذ َرانِي َوالفَـالَةَ بِالَ َدِليـ ـ ٍـل
يحلّل الدكتور أحمد طعمة حلبي جمال التصوير في هذا المطلع بقوله ... ":بداية
يماثل بين المنازل – منازل ِ
الشعب – وفصل الربيع ،وهذه المماثلة كافية ألن تضع المتلقي
في جو هذا الجمال الذي يتمتع به هذا الشعب .فكما أن الربيع يتفوق على غيره من فصول
السنة بالمناظر الخالبة واألجواء البهيجة ،كذلك هي حال هذا الشعب ،فهو متفوق على غيره
من المنازل بجماله األخاذ ومناظره التي تبهر العيون وتبهج النفوس ".4
1
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.44 .
2
الساق ،ج ،4.ص.140 .
3
الساق ،ج ،1.ص.191.
4أمحد طعمة حليب :املفاهيم اجلمالية يف الشعر العباسي ،وزارة الثقافة ،دمشق2006 ،م ،ص.14.
171
وكثرة تصوير جمال الربيع في الشعر العباسي ،من أوجه التحول التي شهدتها بيئة هذا
الشعر ،بما في ذلك البيئة الطبيعية .فقد ترعرع شعراء هذا المنزع في حواضر وأرياف لم
قدر للشعراء السابقين أن يسكونها ،أو على األقل لم يكتب لمن زارها منهم االستقرار أمدا
يّ
يسمح له بتأمل جماليات هذا الفصل.
وكما ظهر هذا التحول في وصف جماليات البيئة الجديدة ،ظهر في وصف جماليات
المرأة ،التي تظهر صورتها النمطية في مظهر مهاة أو ظبية ،تجوب الفيافي ،مقتاتة مما
تخرجه من نبات .ولكنه لم يكن تحوال سلسال سهال ،بل كان في صحبته تأزم ظاهر ،انتهى
إلى يكون هو والتحول شيئا واحدا.
الج ْهم من البادية إلى الحاضرة ،نقل معه تلك الصورة :صورة
لذلك حين انتقل علي بن َ
المهاة المشيرة إلى المرأة الجميلة .غير أنها اآلن ال ترتع في الصحراء بين الكثبان ،بل
تتجول بين معالم المدنية الصاخبة ،يقول:
1
اله َوى ِم ْن َح ْيث أَ ْد ِري َوَال أَ ْد ِري
َج ْلب َن َ صافة َوال ِج ْس ِر
الر َ
المهَا َب ْي َن ُّ
عيون َ
ففي هذا المطلع الذي هو من الشهرة بمكان ،يبرز التناقض بين الصورة البدوية النمطية في
المدنية (:الرصافة ،الجسر) .وهو التناقض نفسه بين انشداد
تشبيه المرأة بالمهاة ،وألفاظ َ
الشاعر العباسي إلى الموروث الفني من جهة ،ومحاولة التفلت منه من جهة أخرى.
تناقض يبلغ من الشدة والتأزم درجة توليد مشاهد كرنفالية في الذهن ،فمنظر المهاة
وهي بين الرصافة والجسر – إذا وضعناه في صورة مشهدية – يستحضر إلى الذهن تلك
الفصول من المعارض الترفيهية ( الكرنفال ،أو السرك ) ،حيث تستجلب حيوانات وكائنات
نادرة لعرضها في أماكن ليست بيئتها في األصل .وطباق السلب " أدري ،وال أدري " دليل
لفظي ومعنوي على شدة اصطخاب الشعور بالتحول المؤلم ،والتناقض الصارخ في نفس ابن
الجهم ،وترجمةٌ بديعية للحيرة التي تموج في وجدانه.
ْ
1علي بن اجلهم :الديوان ،خليل مردم بك ،دار صادر بريوت ،لبنان ،ط3996 ،1.م ،ص.315 .
172
وربما كان من هذا السياق ،القصة التي رواها محيي الدين بن عربي – إن صحت -
في محاضرة األبرار ،عن أول لقاء بين علي بن الجهم وممدوحه الخليفة المتوكل ،وكانت
ثمرته القصيدة التي منها المطلع ،قال ":حكى لنا بعض األدباء ،عن ابن الجهم ،وكان بدويا
جافيا ،لما قدم على المتوكل ،وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها يخاطب الخليفة:
وب س ِفي ِق َر ِ
اع الخط ـ ِ و َكالتَّْي ِ
َ
ت َكال َك ْل ِب ِفي ِحفَ ِ
اظ َك للوِّد أَ ْن َ
جلبن الهوى من حيث أدري وال أدري عيون المها بين الرصافة والجسر
تعبير عن الدمع في غ ازرته بالمطر ،غير أنه مطر ال يؤدي إلى الخصب ،بل نتيجته ازدياد
وتعمل فني في
ّ الم ْحل ،أي شحوب الخدود وذهاب نضرتها .تناقض بين السبب و َّ
المسبب، َ
استغالل طاقة المتناقضات في صدم المتلقي ،ووضعه أمام مركب تصويري غير مألوف.
1حميي الدين بن عريب :حماضرة األبرار ومسامرة األخيار ،دار صادر ،بريوت،ط2005 ،2.م ،ج2.ص.1.
2املتنيب :الديوان ،مصدر سابق ،1 ،ص.212 .
173
وفي كثير من األحيان يستخدم أولئك الشعراء األنماط التصويرية التقليدية ،ومع ذلك ال
تكون خالية من شحن عاطفي خاص باهتماماتهم وقضايا عصرهم ،وما استجد فيه من أفكار
وهواجس وأدواء.
ير َجالَبَِبـا ِ َّ الجانِ َحات َغ َـو ِارَبا بِأَبِي ُّ
الالبِ َسـات م َن َ
1
الح ِر ِ الشموس َ
ومع ذلك كان حضور الصورة في هذا المطلع قويا .فهؤالء النسوة الالئي يهون على الشاعر
المتناول من
َ افتداؤهن بأبيه بمنزلة الشموس في الجمال من جهة ،وفي الرفعة والبعد عن
ّ
مسميات البالغيين دليل على اإلعجاب من
جهة أخرى .فهذه االستعارة التصريحية حسب ّ
هن بعيدا كما
ناره جنوح ّ
العلو ،هذا اليأس يذكي َ
جهة الجمال ،وعلى اليأس من جهة البعد و ّ
تبتعد ال ّشمس عند الغروب.
المشبه به
ّ وفي االستعارة ترشيح ،وتجريد في الوقت نفسه .إذ جمعت بين أحد مالئمات
النساء " وهو " الالّبسات جالببا " وهذا
" الشمس " وهو " غواربا " ،وأحد مالئمات المشبه " ّ
المشبه ،ولكن التجريد أيضا
ّ المشبه به وينفي
ّ ما يجعلها استعارة مطلقة ،2والتّرشيح يثبت
ِ
اآلخر ،وبناء على المشبه به ،فك ّل واحد منهما موجود بذاته منفي بوجود
ّ المشبه وينفي
ّ يثبت
ولكنه انتفاء قائم على التماهي ووحدة وجود
النساء والعكسّ ، ذلك تنتفي الشمس بوجود ّ
بد من نفي ك ّل
هن ال ّشمس نفسها .واذا كان األمر كذلك فال ّ
فالنساء الجميالت ّ
بينهماّ ،
يفرق بينهما.
َع َرض ّ
أن أولئك
أن ال ّشمس هي كذلك الحقيقة المنشودة في ك ّل زمان ومكان ،وكما ّ غير ّ
جالبيبهن
ّ وهن في
حسنهن ،الذي ال يمكن أن ينكر حتّى ّّ الّنساء الجميالت باقيات على
الحريرية ،فكذلك الحقيقة الخالدة ال يمكن أن تنطمس ،أو تشتبه بما يالبسها أحيانا من عوالق
الزيف والباطل.
174
واذا كانت استعارة ال ّشمس للمرأة الحسناء أم ار مألوفا ،وصورة تقليدية في الغزل،
أن ال ّشمس الللرجوع تارة أخرى ،كما ّ
النسوة ّ
التجدد ،ومعاودة أولئك ّ
ّ فالمست ِج ّد هنا هو قصد
العام،
ّ الصرفية في المطلع ال تتخلّف عن البناء
تغرب إالّ ريثما تشرق من جديد .والبنية ّ
سالمتهن بعد الفراق ،خصوصا
ّ السالم (الجانحات ،الالّبسات) إشارة إلى تمّني
المؤنث ّ
ّ فجمع
إذا ربطنا هذه اإلشارة بالباء المتعلّقة بفعل التفدية المحذوف في ّأول البيت " بأبي " .فهو
السالم تتواصل في البيت
المؤنث ّ
ّ السوء ،فصيغة جمع
لهن من المكروه و ّ
يفديهن بأبيه وقاية ّ
ّ
الالّحق:
وقد ال يذهب بعض الشعراء العباسيين في الخروج عن مألوف العادة عند فحول
الشعراء السابقين ذهابا بعيدا ،فإذا أحس أحدهم بخروجه عن ذلك المألوف ،مال إلى
استغالل الصورة للتقليل من حدة ذلك الخروج أو لتعليله .ففي قول ابن المعتز:
1 در اللَّْي ِل م ْن ِ
تظر إِِّني لَِب ِ
دري َوَب ِ النهَار ،فَأَ ْي َن اللَّْيل َو َّ
السهَر طَا َل َّ
عدول عن مذاهب الشعراء القدماء في تعبيرهم عن الليل ،إذ كانت العادة في بالغة الشعر
أن الليل
العربي القديم ،ومواضعاته الراسخة ،وتقاليده المتوارثة في الموضوعات والمعانيّ ،
هو باعث الشكوى في نفوس الشعراء ،وحاملهم على الضجر ،والتشوف إلى الصبح ،الذي
يبلغ التأزم النفسي عندهم إلى أن يتخذوه مالذا يستنصرونه على نقيضه الليل .منذ أن سن
لهم ذلك الملك الضلّيل امرؤ القيس ،صاحب األوليات والسوابق في فن الشعر:
2
وم لَِي ْبتَلِـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي َعلَ َّي بِأَ ْنو ِ
اع الهم ِ َولَْي ٍل َك َم ْو ِج َ
الب ْح ِر أَ ْر َخى سدولَه
صَباح ِم ْن َ
ك َبأَ ْمثَـَ ِل بِص ْب ٍح وما ِ
اإل ْ ََ أَ َال أَُّيهَا اللَّْيل الطَّ ِويل أَ َال ْان َج ِل
175
بل صار تشكيهم إياه معنى مضافا أحيانا إلى المطالع ،كما فعل النابغة الذبياني في
مطلع له مشهور:
يء ال َكو ِ
يه ب ِط ِ
ِ ِ ِكلِينِي لِهم يا أميم َة َن ِ
اك ِب َولَْي ٍل أقَاس َ اص ِب
1
َ َ َ َ َ
حتى أحمد شوقي في العصر الحديث ،انضم إلى الثائرين على الليل المتبرمين منه ،مشتقا
نسبيا مستخدما معنى بيت الشاعر السابق:
له من اسم النابغة نعتا َ
2
يه ِذ ْك َراك ْم َوت ْحيِ َينا
ت ِميتَنا ِف ِ ونابغي َكأَ َّن الح ْشر ِ
آخره َ َ
وكأنما أحس ابن المعتز بذلك ،فحاول تسويغ ضجره من النهار وترقبه الليل برجاء نوم
الرقيب كما في البيت التالي:
واذا وجد هؤالء الشعراء فرصة للتهويل في الصورة اغتنموها ،فأخرجوا معانيهم في
ويشدهه ،يقول المتنبي:
َ يهول عليه
صور توحي إلى المستمع بكل ما من شأنه أن ّ
3
لِ َو ْح ِشَّي ٍة الَ َما لِ َو ْح ِشَّي ٍة َش ْنف اد ٍة رِف َع الس ْ
َّجف لِ ِجِّنَّي ٍة أ َْم َغ َ
جنية .واستعارة " الجنية " للمرأة الجميلة يذكرفهذه المرأة في حسنها المتفرد ،وجمالها الباهر ّ
ببحث البالغيين في تشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين في قوله تعالى ﴿ طَ ْلعهَا َكأََّنه
الشي ِ
اط ِ
ين﴾ [ الصافات ،اآلية ] 24عند من ذهب إلى أن الشياطين في اآلية رؤوس َّ َ
مقصود به َم َردة الجن ،فكيف يستقيم التشبيه بشيء غير مرئي ،مع أن األصل في التشبيه –
ومثله االستعارة -تقريب الصورة إلى الذهن ،وهو ما يقتضي وقوع المشبه به تحت متناول
إحدى الحواس على األقل.
1النابغة الذبياين :الديوان ،دار صادر ،بريوت ،لبنان ،د.ت .ص.9 .
2
أحمد شوقي :الشوقيات ،دار الكتاب العربي ،بيروت ،لبنان ،د.ت .ج ،0.ص.121 .
3
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،0.ص.080 .
176
يعلق صاحب البحر المحيط في التفسير وهو يفسر اآلية السابقة ... ":شبه بما اشتهر
في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ،وان كانت غير مرئية ،ولذلك يصورون
الشيطان في أقبح الصور .واذا أروا أشعث منتفش الشعر قالوا :كأنه وجه شيطان ،وكأن
رأسه رأس شيطان .1" ...
ولهذا المذهب في التصوير ،نماذج وشواهد من كالم العرب .من ذلك قول امرئ
القيس:
ِ2
ق َكأَ ْنَيا ِب أَ ْغ َوال
ونةٌ زْر ٌ
َو َم ْسن َ اج ِعي
ض ِ ِ
أََي ْقتلني َوال َم ْش َرِف ُّي م َ
يشبه النبال بأنياب األغوال التي لم يسبق ألحد أن رآها ،اطمئنانا إلى ما استقر في
فهو ّ
جو يشيع الرهبة في النفس عند ذكر هذا اللفظ.
وخيم على أحاسيسها ،من ّ
النفس البشرية ّ
الناجمة عن أسلوب الحوار والجدل المبني علىكما أن البيت مشبع بعنصر الحركة ّ
لجنية أم غادة...؟ " ،واجابة عنه في ّأول العجز " :لوحشية ،3"...ثم
سؤال في الصدرّ " :
لجنية شنف ".
حجة االعتراض " :ما ّ
بالنفي "...ال ،" ...وتقديم ّ
االعتراض على اإلجابة ّ
وب ْلَبلَة في
بتقطع َ
ٍ السريعة يوحي
إن تقطيع البيت إلى هذه العبارات الحوارية المتتابعة و ّ
ّ
سيرورة التفكير عند الشاعر من ناحية ،وبتوتّر في إحساسه من ناحية أخرى ،إلى جانب ما
أضفاه من حركية .وذلك كلّه منسجم مع االندهاش والمبالغة في تعظيم هذا الحسن الذي
ويحير العقول.
يملك العيون والقلوب ّ
وكما أحسن الشعراء العباسيون في وضع يد المتلقي على مكامن الجمال في الربيعيات
والغزليات ابتداء بالمطلع ،فعلوا ذلك في توجيه حسه إلى مواطن القبح والبشاعة في
الهجائيات .فابن الرومي في قوله:
1أبو حيان األندلسي الغرناطي :البحر احمليط يف التفسري ،دار الفكر ،بريوت2005 ،م ،ج ،9.ص.307.
2الديوان ،مصدر سابق342 .
3
يحتمل قوله ":لوحشية " أن يكون استفهاما كاألول ،ويحتمل أن يكون جوابا لنفسه ،أي بل لوحشية ،ينظر :العرف الطيب ،مرجع
سابق ،ج ،1.ص.001 .
177
لِ ْلحرْيثِ ِّي أَبِي َب ْك ٍر َغَب ْ
1
ب َولَه قَ ْرَن ِ
ان أَ ْيضا َوَذَن ْ ب
يتجاوز بالصورة هنا الشعريةَ بمفهومها المعجمي ،ليشرف بالمستمع على منظر صورة
كاريكاتورية حقيقية ،يكون للبصر منها حظ أوفر من األذن في القدرة على وضع المتلقي
المهجو ،وما بلغته صورته من المسخ والتشويه
ّ أمام المشهد ،ونقل موقف الشاعر من هذا
في خياله.
ولئن كان ابن الرومي أحد أشهر الشعراء العرب المكثرين في فن الهجاء ،لقد كان من
أشدهم – إن لم يكن أشدهم – إيغاال في معانيه ،واغرابا في صوره ،حتى أشبه تصويره
الحاد وقدرته البارعة
ّ طرائق رسامي الكاريكاتور في العصر الحديث ... " ،فقد أعده مزاجه
في لمح الدقائق والعيوب الجسمانية لضرب من الهجاء يمكن أن نسميه " الهجاء الساخر "
هجويه عبثا الذعا يشبه عبث أصحاب (الصور الكاريكاتورية) ،فهو يقف
بم ّ
إذ كان يعبث َ
كبرها ويظهرها في أوسع صورة لها ،حتى ليثير الضحك واإلشفاق
عند نواحي الضعف وي ّ
على من يتناوله منهم إذ يصنع بهم صنيع أصحاب ( الصور الكاريكاتورية ) فهم يضعون
رأسا كبي ار على جسم صغير ،أو يخالفون في أعضاء الجسم فيرّكبونها عليه تارة بالطول
وتارة بالعرض ،وهو تركيب مضحك في كل صوره وهيئاته ،وكذلك كان ابن الرومي يتناول
من يهجوه فيشوهه تشويها غريبا ،مستخدما ما يمتاز به من بعض النقائص الجسدية ".2
ويطول الحديث في معرض التمثيل لهذه التقنية في شعر ابن الرومي ،والتي يضع
السامع أو قل المشاهد أمامها من أول بيت في القصيدة ،من ذلك قوله في هجاء ذي اللحية
الطويلة:
3
ِ
للحمير فالمخالي معروفةٌ
َ ض
إن تط ْل لحيةٌ عليك وتَعر ْ
178
ِ
شعير ق اهلل في عذاريك ِمخـ ـ ـ ـ ـ ــالة ولكنها ِ
بغير َعلّ َ
وهذا المسلك في تنفير المستمعين من صورة المهجو منذ أول بيت في القصيدة ،ال
يترك مكانا للمقدمة الغزلية الطللية الحاملة لمعنى الحب والجمال ،مع أن ابن الرومي ي ِق ّر
أهجياته تصيدا لألذان.
ّ أنه يستغلها أحيانا في
1
أقدم في أوائلها النسيب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
ّ ألم َتر أنني قبل األهاجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي
فهذه المقدمة ليست إال وسيلة لجلب األسماع ،ونوعا من المفاجأة غير السارة ،كمن
تفاجئه صاعقة حارقة بينما كان يتمتع قبلها بغيث نافع.
وقد تأثر أبو الطيب المتنبي بهذا االتجاه عند ابن الرومي ،إذ ال تعوزه هذه
للمهجو .وربما لم تبلغ
ّ "الكاريكاتورية " في كثير من األحيان ،وال ذلك التصوير المحقر
مهجو في تاريخ الهجاء العربي ما بلغته صورة كافور اإلخشيدي من مسخ وتشويه
ّ صورة
المهجو
ّ بـ"ريشة " المتنبي القاسية .والمعهود في غالب هجاء المتنبي أن يذهب في تحقير
وتصغيره حتى يمسح كينونته اإلنسانية مسحا ،بل حتى ينفي وجوده المطلق .والمرجح أن
ذلك هو الوجه المقابل لتضخم األنا عند المتنبي ،حتى ال يرى إال أقزاما من حوله ،أو ال
يعبر عن هذا المعنى خير تعبير قوله في ابن َك َرَّوس وكان أعور:
يرى غيره البتة .وقد ّ
2
صِ
ير ف الب ِ ِ فَيا ْبن َكرَّو ٍ ِ
ص َ َ َوِا ْن تَ ْف َخ ْر فََيا ن ْ ف أَ ْع َمى
ص َ
س َيا ن ْ َ َ َ
فهذا الرجل ال هو مع العميا ن باعتبار عينه الصحيحة ،وال هو مع البصراء باعتبار عينه
العوراء!.
1
السابق ،ج ،1.ص.081-082 .
2
المتنبي :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،0.ص.144 .
179
وفي االتجاه المعاكس كثي ار ما يرد مطلع القصيدة العباسية ِخ ْلوا من أي أداة تصويرية
نمطية معروفة أو يكاد .ومع ذلك ال يكون مفتق ار للجذب واالستحواذ على حساسية المتلقي،
ولعل أكثر ما يقع ذلك في مطالع الزهديات .يقول أبو العتاهية:
1
الم ِ
جالس َّ
كأنهم ْلم َي ْجلسوا في َ الدو ِار ِ
س أه ِل الق ِ
بور َّ الم َعلى ْ
َس ٌ
فليس في البيت تصوير ،إذا استثنينا العجز الذي ليس فيه من أدوات التصوير إال
حرف التشبيه " َكأَ َّن" ،وواضح أنها ال تحمل هنا التشبيه بوظيفته التخييلية العالية ،ومع ذلك
يحس المستمع بالمعنى الذي أراد الشاعر إنهاءه إليه ،ويعيش اللحظة الشعورية التي يزج به
فيها .وربما كان غرض القصيدة العام وهو الزهد البديل الذي يعتاض به الشاعر عن الصورة
أو الخيال لشد انتباه المتلقي وأسر شعوره.
والمعروف أن أبا العتاهية من الشعراء الذين يجتنبون التأنق في فنهم ،ويسلكون ذلك
األسلوب المصطلح على تسميته بـ " :السهل الممتنع " ،وهو األسلوب الذي تتضمن اإلشارةَ
إليه إجابة أبي عمرو بن العالء عن سؤال " :أي بيت تقوله العرب أشعر؟ فقال :البيت الذي
خدش أنفه بظفر كلب أهون عليه من
سولت له نفسه أن يقول مثله ،وألن ي َ
إذا سمعه سامعه ّ
أن يقول مثله ".2
1أبو العتاهية :الديوان ،دار الكتاب العريب ،بريوت ،لبنان2004 ،م ،ص.396 .
2ابن عبد ربه :العقد الفريد ،دار الكتاب العريب ،بريوت ،3911،ج ،5.ص.125.
180
وقد نازع أبا العتاهية الشاعريةَ معاصره مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني،
عائبا عليه هذه الطريقة في النظم بقوله له ":واهلل لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:
لك
والملك ال شريك ْ لك
الحمد والنعمة ْ
وأنت وابنك ركنا ذلك الجبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل هلل من هاشم في أرضه جبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل
ُّ
ورد أبي العتاهية في هذه المحاورة مقنع ،وذو وجاهة ّبينة ،ذلك أنه إذا كان هذا
األسلوب سهال من جهة التلقي ،فإنه ممتنع من جهة اإلبداع ،إال عن الموهوبين ذوي
القرائح ،والمواهب الفذة .ولذلك ال يلزم منه أن صاحب األسلوب المتصنع يسهل عليه النسج
على منواله ،وذلك راجع إلى كون األساليب حصيلة استعدادات فطرية ،وبنى ثقافية معقدة
تتصل بشخصية المبدع نفسه ،بل ربما كان صاحب السهل الممتنع أقدر على اإلبداع
باألسلوب المتصنع من صاحب هذا األسلوب على توخي السهولة .نظ ار إلى كون السهل
الممتنع أقرب إلى السجايا والطبائع ،بخالف األسلوب المقابل الذي يمكن اكتسابه بالدربة
والثقافة.
181
ويبدو أن مغاالة المتأخرين في توخي فنون البديع ،وخروجهم بذلك عن جمالية الطبع
وأسر البديهة ،جعل لهذا األسلوب أنصا ار يدعون إليه جهارا ،كزين الدين بن عمر الوردي
1
(ت )149 .في قوله:
غير أن إصرار بعض الشعراء على ركوب هذه الطريقة ،واطالقهم العنان لالرتجال،
ورطهم في استهالل قصائدهم بمطالع باردة في جمل نثرية جافة ،ليس عليها ميسم الشعرية،
ّ
إال ما كان من وزن وقافية ال يقدران على سد ذلك العجز الفني في التصوير ،وربما جنت
تلك المطالع على ما بعدها من أبيات قد تفوقها شعرية ،من ذلك قول أبي العتاهية نفسه:
2
بن ِ
وهب ِ مات واهلل سعيد بن َو ْه ِب
رحم اهلل سعيد َ
وعموما فإن االستحواذ على المستمع ،وقوة التأثير فيه ،والقدرة على إحاطته بالجو
النفسي الذي يريد الشاعر نقله إليه ،وعلى تجسيد المعاني ،بغير اللجوء إلى أدوات التصوير
التقليدية ،ميزة اتصف بها كثير من شعراء العصر العباسي كالبحتري في بعض أبيات
سينيته ،ومنها قوله في الجزء الذي يصف فيه الجدارية على إيوان الكسرى – وهو من أروع
ما في القصيدة وأحفلها بخصيصة التجسيد – :
3
يداي بلمس
تتقراهم َ
َّ تيابي حتى
يغتلي فيهم ار َ
ومثله قول أبي الحسن األنباري في تائيته التي مطلعها:
1ابن حجة احلموي :خزانة األدب وغاية األرب ،مصدر سابق،ج ،3.ص.57.
2
أبو العتاهية :الديوان ،مصدر سابق ،ص.21 .
3البحرتي :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.392 .
182
فهذا البيت وبيت البحتري قبله ،ليس فيه من تراكيب الصور التقليدية شيء ذو بال.
اللهم إال ما يمكن أن يجرى كاستعارة في لفظ " ع ّلو " ،وهو من المجازات الدارجة التي
تنوسيت مجازيتها حتى اقتربت من الحقائق.
وهذا النوع من المجاز الذي ذهبت بمجازيته كثرة االستعمال والشيوع ،حتى أصبحت
عبارته كأنها مواضعة أخرى على الحقيقة ،أشار إليه الزمخشري وهو يشرح الصورة الواردة
ين ﴾ [ الصافات ،اآلية ،] 08فذكر أن الي ِم ِ
في قوله تعالى ﴿ :قَالوا إَِّنك ْم ك ْنت ْم تَْأت َوَنَنا َع ِن َ
(اليمين) " استعيرت لجهة الخير وجانبه ،فقيل :أتاه عن اليمين ،أي :من قبل الخير وناحيته،
فصده عنه وأضله [ ] ...فإن قلت :قولهم :أتاه من جهة الخير وناحيته ،مجاز في نفسه،
ّ
فكيف جعلت اليمين مجا از عن المجاز؟ قلت :من المجاز ما غلب في االستعمال حتى لحق
بالحقائق ،وهذا من ذاك .1" ...
وقد ذهب إلى ذلك يحيى بن حمزة العلوي ،بل زاد على الزمخشري الحالة المعاكسة،
أي إمكان انتقال الحقيقة إلى ساحة المجاز ،والسبيل إلى ذلك عنده هو أيضا كثرة االستعمال
أو قلته :فإذا ق ّل استعمال اللفظ على الحقيقة كان ذلك عامل ندرة فيه يقوى مع الزمن،
فيجعله يقع من اآلذان ثم األذهان موقع التعبيرات المستطرفة المستجدة ،فيرتفع إلى درجة
األخيلة والمجازات ،والعكس :إذا كثر استعماله على المجاز وشاع دورانه على األلسنة
أخلقت ديباجته مع األيام ،وزال رونقه وبليت طرافته ،ونزل إلى ساحة العبارات المستهلكة
التعمل في
المأخوذة على أنها حقائق .ولم تعد طاقته المجازية واضحة إال بكثير من التأمل و ّ
التفكير والتأصيل.
عب ار عن هذه الفكرة وممثّال لها ":الحقيقة قد تكون مجازا ،والمجاز قد يصير يقول م ّ
حقيقة ،أما صيرورة الحقيقة مجا از فألن الحقيقة إذا ق ّل استعمالها صارت مجا از عرفيا .ومثاله
إطالق لفظ الدابة على الدودة والنملة ،فإنه لما تعورف في إطالقه على ذوات األربع حتى
183
صار حقيقة فيه فصار إطالقه على النملة مجا از باإلضافة إلى الحقيقة العرفية وقد كانت
حقيقته في أول وضعه على كل ما يدب من الحيوانات ".1
والعكس ،فيمكن أن ينتقل المجاز إلى دائرة الحقيقة ،وذلك تبعا لكثرة استعماله وتوارده
في الخطاب فـ " المجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة عرفية .ومثاله قولنا الغائط ،فإنه كان
مجا از في قضاء الحاجة ،وحقيقته المطمئن من األرض ثم تعورف هذا المجاز وكثر حتى
صار حقيقة سابقة للفهم ".2
1حيىي بن محزة العلوي ،الطراز املتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز ،املكتبة العصرية ،بريوت ،ط،2002 ،3.ج،3.ص.54.
2السابق ،املوضع نفسه.
3ستيفن أوملان :دور الكلمة يف اللغة ،ترمجة :كمال بشر ،دار غريب ،القاهرة3997 ،م ،ص.91.
184
الفصــــل الثانــــي
المستـــــوى اإلفـــــرادي
الضمائر والمبهمات
التعريف والتنكير
وتأتي خصوصية هذا النوع من األسماء في غموض داللته على مسماه ،إال بقرائن
مصاحبة له ،كقرينة الخطاب والحضور في الضمير ،والمشار إليه والصلة مع اسم اإلشارة
يعين مسماه بنفسه ،من غير حاجة إلى قرينة
والموصول .وهذا بخالف االسم الظاهر الذي ّ
خارجة عن ذاته.
1حممود حنلة :االجتاه التداويل يف البحث اللغوي املعاصر ،ضمن كتاب يف اللغة واألدب ،تأليف جمموعة من األساتذة ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر،
اإلسكندرية3002 ،م ،ص.372.
2
أبو العباس المبرد :المقتضب ،تحقيق :محمد عبد الخالق عضيمة ،عالم الكتب ،بيروت8272 ،م ،ج ،5.ص.761 .
3
السابق ،ج ،5.ص.761 .
4أدونيس :مقدمة للشعر العريب ،مرجع سابق ،ص.331 .
781
قصد التستر عليه ،ليكون أبلغ في استعطافه ،نحو ﴿ َو ِم َن َّ
الن ِ
اس المرسل إليه ُ ... َ ذلك ،ألنه
الحَي ِاة ُّ
الد ْنَيا﴾ [ ...البقرة ،اآلية ]822اآلية ،هو األخنس بن شريق ،وقد ِ
َم ْن ُي ْع ِج ُب َك قَ ْولُهُ في َ
تعيينه كبير فائدة ،نحو ﴿أو كالذي َم َّر َعلى بعد وحسن إسالمه.أالّ يكون في أسلم ُ
﴾ [ األعراف .] 765 :التنبيه على العموم ،وأنه اسأَْلهُ ْم َع ِن القَ ْرَي ِة ٍ
قَ ْرية﴾[البقرةَ ﴿ ،]823 :و ْ
ِم ْن َب ْيتِ ِه ُمهَا ِج ًار﴾ [ النساء،] 722 : غير خاص ،بخالف ما لو ُعّين ،نحو ﴿ َو َم ْن َي ْخ ُرْج
ض ِل﴾ [،النور﴿ ] 88 :و ِ
الذي أُولُوا الفَ ْ تعظيمه بالوصف الكامل دون االسم ،نحو ﴿َ ال َيأْتَ ِل
َ
احبِ ِه ﴾ [ التوبة ،] 22 :والمراد ق بِ ِه﴾ [الزمر ﴿ ]55 :إِ ْذ يقُو ُل لِص ِ
َ َ ص َّد َ اء بِالص ْ
ِّد ِ
ق َو َ َج َ
ِّديق في الكل ،تحقيره بالوصف الناقص ،نحو ﴿ِ إِ َّن َشانَِئ َك ُه َو األ َْبتَُر﴾ [ الكوثر.1] 5 : الص ِّ
فإذا تقرر هذا بوصفه أم ار تدعو إليه حاجات في نفس المتكلم من جهة ،وتقوم عليه
طبيعة الفن نفسه من جهة أخرى ،أمكن التساؤل عن المواضع التي تتحمل الغموض من
وعم إذا كان المطلع مناسبا لذلك؟ .السيما أنه مدخل القصيدة ،وهو ما يجعله أحد
القصيدةّ ،
أهم المرجعيات التي ُيفزع إليها في محاولة فهم ما غمض من سائر األبيات ،وال يكاد يسبقه
من تلك المرجعيات إال مناسبة القصيدة – إن وجدت – وعلى فرض وجودها فهي معطى
غير نصي ،وضميمة جزئية قد ال يكون لها أثر في المساعدة على كسر حدة الغموض في
القصيدة وتقريبه إلى النسبة المقبولة .فإذا تراكب الغموض واشتد في المطلع لم يجد من
معمياته .بخالف األبيات
السوابق النصية ،والعتبات ما يعمل على فك طالسمه والتقليل من ّ
الالحقة التي يقوم هو مرجعية لها في ذلك.
والمؤكد أن الشعراء الذين خرجوا عن عمود الشعر العربي القائم -في جملة ما يقوم
عليه -على الوضوح ،لم يكونوا ينكصون عن الغموض في مطالع قصائدهم ،حتى تلك
المدائح التي كانوا يضربون بها أكباد اإلبل إلى ممدوحيهم لكي يفوزوا بجوائزهم ،وعلى رأسهم
أبو تمام ،الذي استهل إحدى مدائحه لعبد اهلل بن طاهر بقوله:
2
ك السؤ َل طالِ ُب ْه
فَ َع ْزًما فَ ِق ْد ًما أ َْد َر َ احبه
وصو ْ ه َّن عو ِادي ي ٍ
وسف َ
ُ ُ ُ ََ
1جالل الدين السيوطي :اإلتقان يف علوم القرآن ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.273-277.
2أبو متام :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.332 .
788
البيت أبو سعيد الضرير وأبو العميثل األعرابي ،وكاناَ وقد عاب على أبي تمام هذا
ولم ال
على خزانة األدب لعبد اهلل بن طاهر بخراسان ،وقاال لهَ :لم ال تقول ما ُيفهم؟ فقالَ :
تفهمان ما يقال؟.1
وكذلك اآلمدي نفسه ،الذي جعل هذا المطلع من معايب الشاعر .وذهب يحلله مبينا
هن "،
سبب الطعن فيه ،بما يعود أساسا إلى غموضه ،فيقول ":إنما جعله رديئا قولهّ " :
جر لهن ذكر بعد .ثم قال " عوادي يوسف " ،ومعناه فابتدأ بالكناية عن النساء ،ولم َي ِ
صوارف ،يقال :عداني عنك كذا أي صرفني ،أراد :هن صوارف يوسف ،وصواحبه،
وصوارف ههنا لفظة ليست قائمة بنفسها ،ألنه ُيحتاج أن ُيعلم صوارفه عن ماذا .2" ...
وال يكتفي بتبيين مواضع الغموض وعناصره ،بل يقترح بدائل ترجع كلها إلى محاولة
تحقيق الوضوح ،فيقول ... ":واللفظة القائمة بنفسها أن لو قال ":فواتن يوسف " ،أو
"شواغف يوسف" ،أو نحو ذلك .وكأنه أراد :صوارف يوسف عن تقاه ،أو عن هداه.
أو عن صميم عزمه حتى هم بالمعصية ...فتصير جملة معنى البيت :هن صوارف يوسف
طالبه .وهذا كالم ال يالئم بعضه بعضا ،وال يتشابه .وانما كانت
البعد ُ
َ فاعزم ،فقديما أدرك
ألفاظه ومعانيه تتشابه لو قال:
رد أبي تمام على الرجلين ،واجابته الماكرة تؤكد ضرورة توفر شعرية ٍّ
تلق عند إن ّ
القارئ ،إن لم يكن من المنطق أن تكون أساسا للمطالبة بضرورة لحاق القارئ بالشاعر في
الشعرية ،فإنها تصلح أساسا لمفهوم " الكفاءة األدبية " ،الذي نادى به" ...الناقد األمريكي
جوناثان كولر وحاول إشاعته كأساس لشعرية بنيوية ...فهو يحاول (قياسا) أن يوجد نظرية
1اآلمدي :املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.31.
2السابق ،ص.37 .
3السابق ،ص.33 .
786
لألدب تقوم مقام القدرة/الكفاءة عند تشومسكي بالنسبة للغة ،وتكون األدائية هي األعمال
األدبية المختلفة التي ال يتسنى لها الظهور أو الفهم إال إذا تمتع القارئ أو الناقد
بالقدرة/الكفاءة األدبية ".1
كفاءة من ذلك القبيل كفيلة بإعانة القارئ على فك شفرة النص الشعري،
وبدونها"...تتحول األنواع األدبية إلى طالسم عند القارئ حتى لو كتبت بلغته األم .فالقصيدة
عند من لم يكتسب القدرة األدبية تُْربك القارئ ليس ألنه ال يفهم اللغة وانما ألنه ال يدرك وال
يملك القدرة/الكفاءة األدبية التي تساعده على قراءة القصيدة كـ " أدب " ،أي هو لم يتمكن من
" نحو" األدب ،النحو الذي يؤسس النظام األدبي بنية ومعنى ".2
وليس هذا ببعيد عن مفهوم السياق الذي يشكل أحد عناصر الحدث االتصالي الستة
عند جاكوبسون ،ويقصد به " ...الطاقة المرجعية التي يجري القول من فوقها ،فتكشل خلفية
للرسالة تم ّكن المتلقي من تفسير المقولة وفهمها ...والمرء الذي ال يعرف الشعر النبطي مثال
ال يستطيع فهم قصيدة نبطية ،حتى وان استمع إليها ألف مرة ،ألنه ال يملك (سياق) هذه
القصيدة ،وهو الشعر النبطي كتقليد أدبي متميز ".3
ومنذ القديم الحظ النقاد و ُش ّراح الدواوين ،ميل المتنبي إلى اإلكثار من أسماء اإلشارة
تخصيصا ،حتى لقد رصد القاضي الجرجاني توارد اسم اإلشارة " ذا " عنده مجردا من " ها "
التنبيه ،بصرف النظر عن وجهة نظره في تضعيف ذلك االستعمال ،واقصائه من أسلوبية
الشعرِّ ،
وعده من التكلف يقول " :وهو أكثر الشعراء استعماال لـ" ذا " التي هي لإلشارة،
وهي ضعيفة في صنعة الشعر ،دالة على التكلف ،وربما وافقت موضعا يليق بها ،فاكتست
قبوال .4"...يقول في مطلع إحدى مراثيه:
1ميجان الرويلي وسعد البازعي :دليل الناقد األديب ،مرجع سابق ،ص.303.
2السابق ،املوضع نفسه.
3عبد اهلل حممد الغذامي :اخلطيئة والتكفري من البنيوية إىل التشرحيية ،مرجع سابق ،ص.30.
4القاضي اجلرجاين :الوساطة بني املتنيب وخصومه ،مصدر سابق ،ص.33.
762
1
ك الِذي ُيْبلِي
ضنِي َك َذا َ
َو َه َذا الِذي ُي ْ الرْم ِل َما بِكَ ِفي َّ
الرْم ِل ق َّبَِنا ِم ْن َك فَ ْو َ
لقد حذف ال ّشاعر المشار إليهما بعد ذكر اسمي اإلشارة والتّقدير " :هذا الحزن "،
"وذاك الموت" .اسم اإلشارة هنا هو الحاضر والمشار إليه هو الغائب ،الحزن والموت غائبان
لكنهما حاضران باإلشارة والوصف :اإلشارة إليهما بهذا ،وذاك ،ووصفهما
بوصفهما دالّينّ ،
الصفة مقام الموصوف واالستغناء عن البدلّ بالموصول "الذي" ،فهو من باب إقامة
المشارليه) بالمبدل منه ( اسم اإلشارة ).
ا (
الداللة هنا بالتّبعية في االتّجاهين التّابعية والمتبوعية ،فالحزن (الغائب) المشار إليه
إ ًذا ّ
بهذا تابع السم اإلشارة (بدل منه) ،وهو في الوقت نفسه متبوع بصفته " الذي يضني "،
والموت أيضا الغائب بين " كذاك " و" الذي " تابع لذاك بالبدلية ومتبوع للذي بالوصفية.
الحزن والموت تابعان ومتبوعان في وقت واحد :يتبعان اإلنسان في الحيـاة ،ويتبعهما
ثم إلى البلى .غائبان بالذات حاضران بالمتبوع والتابع ،وحاضران أيضا
هو إلى الضنى ّ
بح َدثيهما " يضني " و" يبلي ".
َ
767
ِ1
هذا الذي أثََّر في قلبه ك ُم َع ًّزى بِ ِه
الم ْل ُ ِ
آخ ُر ما َ
فأشار بـ"هذا" ،ولم يذكر أنها عمته فضال على عدم ذكرها باسمها.
جدير بالذكر هنا أن للحديث عن نساء القصر آدابا يحسن بالشاعر االلتزام بها ،واال
ووصف ِ
وجد الرقيب له بالمرصاد .لذلك عيب على المتنبي وصفه َّأم سيف الدولة بالجمالُ ،
بأنه مذهب " غير مختار" 2وذلك حين قال في رثائها:
ِ3
المكفَّن بالجمال صالةُ اهلل ِ
الوجه ُ
على ْ خالقنا َحنوطٌ
فكنى عن
أخت سيف الدولة الكبرىّ ،
َ على أن المتنبي تحاشى هذا المزلق في رثائه
اسمها " خولة " بـ " فعلة " فقال:
4
ديار ب ْك ٍر ولم تَخلَ ْع ولم تَ َه ِب ركائبها
ُ كأن فعلةَ لم تمأل
ّ
الشعر
َ ٍ
غموض وتناسب اإلشاريات والمضمرات والموصوالت وما يتولد منها من
الصوفي ،فللشعراء المتصوفين تركيبات نحوية غريبة ،وجمل استفهامية وحوارية ،مادة السؤال
معا الضمائر .ولهم تراكيب يستخدمون فيها تقنية التبديالت الموضعية بين هذه
والجواب فيها ً
األلفاظ بما يناسب عقائد التماهي والحلول ،ففي مطالع قصائد للحالّج نجد قوله:
5
أنت
لتَ :م ْن أنت؟ قالَ :
فق ُ أيت ربي ِ
بعين قلبي ر ُ
وقوله:
6
نحن روحان َحلَْلَنا َب َدنـا َهوى أنا
وم ْن أ ْ
َهوى َ
أنا َم ْن أ ْ
1
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،7.ص.872 .
2ابن وكيع :املنصف للسارق واملسروق منه ،حتقيق عمر خليفة بن إدريس ،منشورات جامعة قاريونس ،بنغازي ،ليبيا ،ط ،3111 ،3.ج،3.
ص.333.
3
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،5.ص.78 .
4السابق ،ج ،3.ص.33 .
5احلالّج :الديوان ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،لبنان ،ط3113 ،3.م ،ص.332 .
6السابق.353 ،
768
ويضعون هذه الضمائر في تركيبات نحوية شاذة أو نادرة ،كإدخال أدوات النداء على
الضمائر .والنداء أحد وجوه الخطاب الذي غالبا ما يتصدر الغزليات والصوفيات ،مشحونا
بالتودد واالستعطاف واالعتذار ،كما في قوله:
وقد أشار الدكتور شوقي ضيف إلى العبارة الصوفية الطافحة بهذه التركيبات المعقدة
التي تتداخل فيها الجو ّار والمجرورات والمبهمات .ويرجع سبب تأتّي تلك الصعوبات إلى
بعد ألداء أفكارهم
عبارة المتصوفين من الشعراء بأن " ...اللغة لم تكن قد اتسعت ُ
2
تعسر التركيب في بعض
ومعانيهم" .مؤكدا تأثر المتنبي بلغتهم ،ذاهبا إلى أن ذلك سبب ّ
شعره ..."،فالمتنبي حين عدل بشعره إلى العبارة الصوفية كان قد أسلم هذا الشعر إلى
صعوبات في التركيب ".3
أما أوضح آثار لغة المتصوفة في شعر المتنبي فهي" ...كل ما يميز تعبير المتصوفة
من انحرافات والتواءات كأن ُيكثر من الضمائر أومن أسماء اإلشارة أو من حروف النداء أو
من التصغير فيبعث في التعبير حاال غريبة من التعقيد ".4
ولكن بعض الشعراء يغالون في التعمية بمغاالتهم في توظيف هذه األلفاظ ،إلى درجة
التساؤل والدهشة ،كقول ديك الجن:
ف الهَلوك إذ َب َغما
كأنها ما كأنه خلَ ُل الخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلة َوْق ُ
765
والحق أن دعبال لم يغ ُل في رد فعله ،وهو يستمع إلى هذا البيت الذي جمع كل ما
ٍ
إضمار .ويحار الدارس ويدهش في بحثه بهام
ك منه المسامع ،معاظلةً وسوء تركيب وا َ تست ّ
ْ
عن العلة التي تحمل الشاعر أو المتكلم عموما على ركوب مثل هذه األساليب .وقد يعييه
األمر وهو يقلب وجوه الفكر فيها ،ويعرضها على أكثر مناهج الدراسة حداثة ،وأطرفها
مداخل ،وأوسعها حيلة في التبرير والتعليل .ويتساءل إن كان الدافع إلى هذا التغر ِ
يب في
العبارة هو ميل الشاعر – والشاعر العباسي تحديدا – إلى تحقيق عنصر المفاجأة والتهويل
ندية ،فيحاول أن
على المتلقي ،السيما إذا أوجس الشاعر في نفسه خيفة من متلق يرى فيه ّ
يبدره بما يردعه في مطلع القصيدة ،كما هو موقف ديك الجن مع دعبل ،وهو من هو
شاعريةً ولدادة خصومة ،وذلك ما فسر به ابن رشيق دافع صاحب البيت " الذي أراد أن
يهول عليه ويقرع سمعه عسى أن يروعه .1" ...
ّ
خف استهجانه هذا البيت ،فانتصر لموقف دعبل ومهما كان الدافع ،فإن ابن رشيق لم ي ِ
ُ
وبين وجوه القبح فيه ،فقال ":ولعمري ما ظلمه دعبل ولقد أبعد مسافة الكالم وخالف العادة
ّ
وهذا البيت قبيح من جهات :منها إضمار ما لم ُيذكر قب ُل وال جرت العادة بمثله فيعذر وال
كثر استعماله فيشتهر مع إحالة تشبيه على تشبيه وثقل تجانسه الذي هو حشو فارغ ولو
طرح من البيت لكان أحزم واستدعى قافيته ال لشيء إال لفساد المعنى واستحالة التشبيه ".2
ويحاول أن يتصور المعنى ،ليرى أي مناسبة بينه وبين ذلك التركيب اللفظي الغريب
الذي سلكه إليه الشاعر فيقول ":ومعنى البيت أن عشيقته كأنها في ِجيدها وعينها الغزال
الذي كأنه بين نبات الخلة سوار الجارية الحسنة المشي المتهالكة فيه – وقيل الهلوك البغي
الفاجرة – فما هذا كله؟ وأي شيء تحته؟ ".3
762
وقد ذكر ابن رشيق أن هذا البيت هو ابتداء قصيدة ،ولكن ال يوجد في ديوان الشاعر
فسد شهيته عن إتمام
شيء بعده ،فهل السبب هو ذلك النقد القاسي الذي قذفه به دعبلّ ،
القصيدة؟.
واإلظهار الذي هو نقيض اإلضمار يشارك أحيانا نقيضه في الداللة على التفخيم
والتعاظم ،وللمتنبي في كليهما مضمار .فمن إظهاره في موضع اإلضمار قوله:
ووْقـعُ فَ َعالِ ِه فَ ْو َ
ِ1 ملُوم ُكما َيج ّل َع ِن الم ِ
ق ال َكـالَم َ الم َ َ ُ َ
المتنبي عن نفسه هنا باالسم الظاهر الذي يعود عليه ضمير الغائب المستتر ّ فحديث
حد
النظير لألنا المتكلّم الذي بلغ ّ
في " يج ّل " ،والبارز في " فعاله " ،قد يبدو ّأنه المقابل و ّ
أن التغييب
المتعمق في هذه المسألة ،يدرك ّ
ّ أن
لتضخم في حديث ال ّشاعر عن ذاته .غير ّ
ّ ا
لمظهَر ،هو الوجه اآلخر لذلك اإلحساس بالعظمة
(الحديث بضمير الغائب) ،وهو األصل ل ُ
التفرد.
و ّ
فملومكما اسم ظاهر ح ّل مح ّل ضمير المتكلّم ( أنا ) ،والمضمرات ّإنما تستخدم طلبا
لإليجاز ودفعا لاللتباس ،يقول ابن يعيش ":واّنما أُتي بالمضمرات لضرب من اإليجاز،
ألنك تستغني بالحرف الواحد عن االسم فأما اإليجاز فظاهر ّ
واحت ار از من اإللباس [كذا]ّ .
فألن األسماء الظاهرة كثيرة
ّ أما اإللباس
بكماله ،فيكون ذلك الحرف كجزء من االسم ،و ّ
االشتراك.2"...
1
الديوان ،مصدر سابق ،ج .2.ص.728 .
2
املفصل ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط3003 ،3.م ،ج ،3.ص..313 .
ابن يعيش :شرح ّ
763
1
َح ٌد ِمثْلِي
َح ٌد فَ ْوِقي َوالَ أ َ
فَ َما أ َ ك تَ ْشبِي ِهي بِ َما َو َكأََّنهُ
ط َع ْن َ أِ
َم ْ
1
الديوان ،مصدر سابق ،ج ،5.ص.767 .
766
التعريف والتنكير
إذا كان التوجه النفسي والفكري عند المتلقي أحد أهم مرجعيات التقديم والتأخير ،فكذلك
التعريف والتنكير .وال يخفى ما بين هذين البابين من تداخل ،فمن الطبيعي أن ُيستقبل
فيقدم له في الكالم ،في حين يؤخر له ما ينكر .لهذا كان األصل في
المستمع بما يعرف ُ
المبتدإ التعريف وفي الخبر التنكير ،على أساس أن األول قد استقر -من حيث ذاته -في
ذهن المستمع ،وتحققت ماهيته في نفسه ،ليأتي بعد ذلك الخبر صفة جديدة لذلك المبتدأ
يفترض أن المتلقي كان يجهلها ،فيستفيد بذكرها معرفة جديدة بالمبتدإ.
لذلك جمع الزمخشري بين اآلليتين (التعريف والتنكير) ،و(التقديم والتأخير) عند دراسته
اء إَِناثا ما ي َشاء يه ِ ات واأل َْر ِ ك السَّماو ِ البالغية لقوله تعالى ﴿:لِلَّ ِه ٌم ْل ُ
ب ل َم ْن َي َش َُ َ ُ ََ ُ قض َي ْخلُ ُ ََ
يم قَ ِد ٌير﴾. ِ ِ
اء َعقيما إَِّنهُ َعل ٌ
َي َش ُ ور أ َْو ُي َّزِّو ُجهُ ْم ُذ ْك َرانا َوِاَناثا َوَي ْج َع ُل َم ْن ُّ
اء الذ ُك َ
ويه ِ
ب ل َم ْن َي َش ُ
ََ َ ُ
[الشورى ،اآلية .]05-94
فقد تقدم ذكر اإلناث في اآلية ،مع أن ُعرف أكثر الجاهليين كان ينكر ميالد األنثى
ويكرهه .وتأخر ذكر الذكور ،الذين كان العربي الجاهلي يعتز بميالدهم ،ويراهم ع از له في
حياته ،وذك ار له بعد موته.
لما ُج ّرد اللفظان كالهما من التعريف ،انتظما في الترتيب على األصل في ذلك لذلك ّ
العرف ،وذلك قوله تعالى بعد ذلك ﴿:أ َْو ُي َّزِّو ُجهُ ْم ُذ ْك َرانا َوِاَناثا﴾ .فكأن التعريف في "الذكور"
كان تعويضا له عن تأخيره ،وعديال للتقديم الذي هو من حقه.
198
ولما كان للتعريف والتنكير هذه األهمية الداللية والبالغية ،التي تتقاطع أحيانا مع
التقديم والتأخير ،بحث العلماء والبالغيون هذه اآللية في القرآن الكريم ،وحاولوا الوصول إلى
مختلف الدالالت الطارئة على اللفظ بين تنكيره وتعريفه .فمنها في مجال التنكير":إرادة النوع،
ص ِارِه ْم ِغ َش َاوةٌ [البقرة ]7 :أي نوع غريب من ِ
َه َذا ذ ْكٌر [ص ]94 :أي نوع من الذكرَ ،و َعلَى أَ ْب َ
صالغشاوة ال يتعارفه الناس ،بحيث غطى ما ال يغطيه شيء من الغشاواتَ .ولَتَ ِج َدَّنهُ ْم أَ ْح َر َ
الن ِ
اس َعلَى َحَياة [البقرة ]49 :أي نوع منها ،وهو االزدياد في المستقبل ،ألن الحرص ال َّ
1
يكون على الماضي وال على الحاضر...
العلَمية،
وأما التعريف فمن طرقه :اإلضمار ،في مقام التكلم أو الخطاب أو الغيبة .و َ
ويكون التعرف بها في مقامات منها :إحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به،
َح ٌد﴾ [اإلخالص ،]4 :و﴿ ُم َح َّم ٌد َر ُسو ُل اللَ ِه﴾ [ الفتح ،]94 :أو لتعظيم أو
نحو ﴿ ُق ْل ُه َو اللَهُ أ َ
إهانة ،حيث َعلَ ُمه يقتضي ذلك ،فمن التعظيم ذكر يعقوب بلقبه إسرائيل ،لِ َما فيه من المدح
1
جالل الدين السيوطي :اإلتقان في علوم القرآن ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.090 .
2السابق ،ج ،7.ص.651 – 655.
199
ت َي َدا أَبِي لَهَب﴾ والتعظيم بكونه صفوة الل ،أو َس ِر ّ
ي الل ...ومن اإلهانة قوله ﴿تََّب ْ
1
[المسد...]4
ويقع التعريف بوسيلة حسية ،لعل أشهرها :اإلشارة " لتمييزه أكمل تمييز بإحضاره في
ين ِم ْن ُدونِ ِه﴾ [ لقمان،]44 ، ق اللَّ ِه فَأَرونِي ما َذا َخلَ َ ِ
ق الذ َ َ ُ حسا ،نحو ﴿ َه َذا َخ ْل ُ
ذهن السامع ّ
وللتعريض بغباوة السامع حتى إنه ال يتميز له الشيء إال بإشارة الحس .ولبيان حاله في
ِ
ولقصد فيؤتى في األول بنحو " هذا " ،وفي الثاني بنحو " ذلك " و" أولئك ". القرب والبعد ُ
َه َذا ا ِلذي َب َع َ
ث ِ ِ
َه َذا الذي َي ْذ ُك ُر آلهَتَ ُك ْم﴾ [األنبياء ،]29 ،و﴿أ َ
تحقيره بالقرب ،كقول الكفار﴿ :أ َ
الكتَاب الَ رْيب ِف ِ
يه﴾ [البقرة، ك ِ اللَهُ َر ُسوال﴾ [الفرقان ... ]94 ،أو تعظيمه بالبعد ،نحو ﴿ َذلِ َ
ُ َ َ
]9ذهابا إلى ُبعد درجته.2"...
كما يقع التعريف بالموصولية... " ،لكراهة ذكره بخاص اسمه ،إما َست ار عليه ،أو
ونحوها موصولة بما صدر منه من فعل أو قول ،نحوِ إهانة له أو لغير ذلك ،فيؤتى بالذي،
يه أُف لَ ُك َما﴾ [األحقاف ،]47 ،وكقوله تعالى ﴿ َوَرَاوَدتْهُ التِي ُه َو ِفي الذي قَا َل لِوالِ َد ِ
َ
﴿و ِ
َ
َّ ِ َب ْيتِهَا﴾[يوسف .]92 ،وقد يكون إلرادته
اموا
استَقَ ُ العموم ،نحو ﴿إِ َّن الذ َ
ين قَالُوا َرُّبَنا اللهُ ثَُّم ْ َ
اه ُدوا ِف َينا لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا﴾ [العنكبوت]94 ،
ين َج َ
ِ
فصلت ] 25 ،اآلية ،ونحو ﴿ َوالذ َ ّ [ ﴾...
...واأللف والالم لإلشارة إلى معهود خارجي أو ذهني أو حضوري .ولالستغراق حقيقة أو
مجازا ،أو لتعريف الماهية ...وباإلضافة لكونها أخصر طريق ،ولتعظيم المضاف.3"...
عرف في صدر المطلع المقدرة على لفت نظر الدارس ،لكون الم ّ
واذا لم تكن لالسم ُ
التعريف هو األصل في المبتدإ حسب القاعدة النحوية ،فإن الحالة المعاكسة – أي وروده
نكرة -لها القدرة الكافية على استيقاف الفكر واعمال النظر .لكون هذه الحالة انزياحا
صريحا عن تلك القاعدة ،وال يختلف األمر عند تقدير النكرة خب ار مقدما ،إذ إنه ال يخرج
1
السابق ،ج ،4.ص.097 .
2
السابق ،الموضع نفسه.
3السابق ،ج ،7.ص .655 – 651 .وينظر :مفتاح العلوم للسكاكي ،حتقيق :عبد احلميد هنداوي ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط0222 ،7.م،
.054-052
200
عن كونه انزياحا موضعيا على خالف األصل في تقدم المبتدإ ،وفي الحالين يكون أول ما
السمع نكرة .
َ يطرق
فقد أبدى أبو القاسم اآلمدي إعجابه بهذا المطلع بقوله ":هذا المصراع األول في غاية
الجودة والبراعة والحسن والصحة والحالوة ،وعجز البيت أيضا جيد بالغ ".2
وكذلك كان التعظيم والتهويل مراد البحتري من التنكير في قوله ،يرثي الخليفة المتوكل:
4
الد ْه ِر َج ْيشا تُ َغ ِاوُرْه
وف َّ
ص ُر ُ
ت ُ
اد ْ
َو َع َ ق َداثِ ُرْه
َخلَ َ م َحل على القَاطُ ِ
ول أ ْ َ
1
أبو تمام :الديوان بشرح الخطيب التبريزي ،تحقيق :محمد عبده عزام ،دار المعارف ،القاهرة ،مصر ،ط9559 ،0 .م ،ج ،2 .ص.
.405
2اآلمدي :املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي ،مصدر سابق ،ج ،7.ص.447 .
3
أبو تمام :الديوان مصدر سابق ،ج.79 ،9.
4
البحتري :الديوان ،دار صادر ،بيروت ،ط9550 ،9.م ،ج ،4.ص.09.
201
فمع أن المح ّل الذي اغتيل فيه الخليفة المتوكل معروف ،وهو قصر اللؤلؤة في
الجعفري ،1اجت أز الشاعر عن ذكر العلَم الدال عليه بلفظ دال على الجنس في صيغة التنكير
ق دائرة التنكير بوصفه " على القاطول " .وذلك التنكير مناسب تماما " َم َح ّل " ،وان كان َّ
ضي َ
لهول المقام المتمثل في مصرع خليفة المسلمين المنعم على الشاعر ،في مؤامرة خسيسة ،زاد
من هول فاجعتها أن أحد الرؤوس المدبر لها هو ابن الخليفة المغتال وولي عهده .وال يخرج
عن هذا الغرض من التنكير ،قول المتنبي:
2
اب َفَي ْخ َفى بِتَْب ِ
ييض القُ ِ ِ ُمنى ُك َّن لِي أ َّ
رون َشَب ُ اب
ض ُاض خ َ
البَي َ
َن َ
خضاب "،
ُ أن البياض
يجوز إعراب " ُمنى " خب ار مقدم عن المصدر المؤول بعده " ّ
كما ذهب إليه اليازجيان .3ويجوز العكس ،فتكون " منى " مبتدأ ،والمصدر المؤول بعدها
4
كن لي " .وقد ال
ومسوغ االبتداء بها وصفها بالجملة " ّ
ّ ، قدره أبو البقاء العكبري
خبرا ،كما ّ
يحدث االختالف بين هذين التقديرين فرقا عند المتلقي ،السيما غير المتضلع من أسرار
التقديم والتأخير واإلسناد في التركيب.
غير أن األمر يختلف عند الشاعر الذي يكون التقدير الثاني أكثر وفاقا لحالته النفسية،
ذلك أن همه إنما هو محصور في األمنية التي رانت على قلبه أيام شبابه ،وهي تمني أن
يكون الشيب ليس أكثر من صبغ أبيض فيمكنه أن يخضب به سواد شعره هربا من الشبيبة
وما تدل عليه من طيش ونزق ،إلى المشيب الدال على الوقار .واذا حلّت تلك األمنية ذلك
المحل من نفسه ،وعمرت شبابه ،بل تكررت حتى صارت " ُمنى " ،فأولى بها أن تُ ّنزل في
الصدر من تركيب المسند إليه والمسند .فيجتمع لها من التعظيم التنكير والتقديم .ومن ذلك
قوله أيضا:
202
1
ك ِفي َندى َوَوغى بِ َح ُار
ط ُر َ
َوقَ ْ ص ُار ِ ِ ِ
ط َوا ُل قَنا تُطَاع ُنهَا ق َ
فالقنا التي ُكتب عليها أن تطاعن سيف الدولة قصيرة مهما كانت في ذاتها طويلة،
ألنها هنا أمام َملِك ُهمام ال َغناء لها معه ،وال ِقَبل لمن يحملونها به .وتنكيرها أدل على
العموم ،والمعروف عن فن المدح عند
ُ معنى التعظيم المراد للمدوح ،ألن داللتها عند ذلك
المتنبي تعظيم خصوم الممدوح وأعدائه ،ألن ذلك أظهر لقدرته وجرأته.
مطالع يستخدم فيها تقنية التنكير ،داللة على التعظيم والتفخيم منها:
َ وله عديد
ات ِ
ص َو َانهَا ان ال ِهَب ُ إِ َذا ُن ِش َر ْ ون ِح َس َانهَا
ت َك َ ص ُ ثياب َكريم َما َي ُ ُ -
ألهلِه َو َشفَـى أََّنـى َو َما كـرَبا الرْب ِع َما َو َجَبا
ضى في َّ َد ْمعٌ َج َرى فَقَ َ -
لمِم ِ ِ ِّ تشِمف أَلَ َّم بِ ْأر ِسي َغ ْير م ْح ِ
َح َس ُن ف ْعال م ْنهُ بال َ
َّيف أ ْوالس ُ َ ُ َ ض ْي ٌ
َ -
صوفاتِهَا ات َب ِع ُ
يد َم ْو ُ
الصفَ َِدانِي ِّ مت َذواتِهامحاسنه ُح ِر ُ
ُ بِس ْر ٌ -
بِ َ ِ جاريةٌ ما لِ َق ْلبِها ُرو ُح
القلَ ِب م ْن ُحِّبهَا تََب ِار ُ
يح -
ام و ُعمر ِمثْ ُل ما تَه ُ ِّ ِّ ِ
ب اللَئ ُ َ َ َ ٌْ الم َد ُام
اد َما تُ َسليه ُ
-فُ َؤ ٌ
صرف فيها
وابتداءات المتنبي باألسماء المن ّكرة غير قليلة ،بل له منها نماذج ُي ّ
األغراض المختلفة غير مقتصر على التعظيم أو التهويل ،فمما يريد به التقليل قوله:
2 َي الظَّ ِ
اعَن ِ َفلَ ْم أ َْد ِر أ َّ ت َي ْوَم َوَّد ُعوا
ُح َشا َشةُ َن ْفس َوَّد َع ْ
ين أُ َشيِّعُ
فالوزن يتسع إلضافة " نفس " إلى ياء المتكلم ،لتصبح " حشاشة نفسي " ،وبذلك تكون
"حشاشة " معرفة على األصل في المبتدإ ،وان كانت مبتدأ 3حتى في حال تنكيرها هذه،
وذلك إلضافتها إلى نكرة مثلها ،وهو ما يتسق ومعنى التقليل الذي تتضمنه " حشاشة ".
1
السابق ،ج ،9.ص.455 .
2
المتنبي :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،9.ص.920 .
3السابق ،ج ،0.ص.026 .
203
إِ ْن قَاتَلُوا َج ُب ُنوا أ َْو َح َّدثُوا َش ُج ُعوا اس َي ْن ِخ ِدعُ يري بِأَ ْكثَ ِر َه َذا َّ
الن ِ
1
َغ ِ
تتعرف
والمعروف عند النحاة أن " غير " من األلفاظ الموغلة في اإلبهام والتنكير ،فال ّ
ولو بإضافتها إلى المعارف 2كما هي هنا .وهكذا كل من كانت هذه صفته :االنخداع بظاهر
سلوك الناس ،حقير .واذا كان حقي ار فهو قطعا غير المتنبي.
ك تَ ْج ِد ُ
ضى أ َْم بأمر ِفي َ
بِ َما َم َ ت َيا ِع ُ
يد بِأََّي ِة َحال ُع ْد َ
ِع ٌ
3
يد يد
1
السابق ،ج.994 ،9.
2
السراج :األصول يف النحو ،حتقيق :عبد احلسني الفتلي ،مؤسسة الرسالة ،بريوت ،ط7256 ،7.م ،ج ،7.ص.762 .
ابن ّ
3
المتنبي :الديوان بشرح العكبري ،وفي رواية " :ألمر ".
204
ظـــواهر إفراديـــة أخـــرى
أعالم نسوية ومكانية
استطاع النابهون من الشعراء أن يفرضوا على مدى تاريخ الشعر العربي ،أعالما
نسوية بثّوا فيها شحنة شعرية غزلية .كان منها ليلى ولُبنى وفاطمة وهند ،وغيرهن من عرائس
الشعر العربي.
وقد كانت هذه األعالم حجر الزاوية ،والبؤرة في جمالية خطاب المؤنث ،الذي جرى
العرف بين الشعراء العرب على تضمينه كل معاني التلطف والتظرف والتحبب ،في مقدمة
القصيدة وفي سائر أجزائها .وكانوا يوظفون في سبيل ذلك أساليب طافحة بالشعرية والعذوبة
من أشهرها الترخيم ،العادة الموروثة عن الشعراء منذ الجاهلية ،يقول امرؤ القيس:
1
َج ِملي
ص ْرِمي فَأ ْ ِ ِ
َوِا ْن ُك ْنت قَ ْد أ َْزَم ْعت َ ض َه َذا التَّ ـ َـدلُّ ِل ِ
أَفَاط َم َم ْهالً َب ْع َ
ويبلغ من تمسك القدماء بعادة الترخيم وتعمد طلبه ،أن يحتالوا له ،إذا لم يسعفهم
الوزن بذلك ،كما فعل النابغة الذبياني في قوله:
2
يئ ال َكو ِ ٍ ِ ِ ِ ِكلِينِي لِه ٍّم يا أُم ْيم َة َن ِ
اص ِب
اكب َولَْيل أُقَاسيه َبط ِ َ َ َ َ َ
ضمها لكونها علما
فقد علّل الخليل بن أحمد الفراهيدي ،فتح التاء من " أُميمةَ " – والظاهر ّ
يرخم هنا ،بسبب
مفردا منادى -بأن " من عادة العرب أن تنادي المؤنث بالترخيم ،فلما لم ّ
206
الوزن ،أجراها على لفظها مرخمة ،وأتى بها بالفتح " .1وعلى هذا التفسير يكون النابغة اختار
الفتح على لغة من ينتظر ،بوصفه علَما مشع ار بالترخيم ،ألن الضم وهي لغة من ينتظر ،قد
تلتبس بضمة المنادى األصلية.
ويشتد نكير النقاد على الشعراء الذين ُيخلّون بهذه الجمالية عند مناداة المؤنث ،كأن
يوردوا أعالما مستبشعة اللفظ ،خشنة األصوات .فقد روى حماد الراوية أن جعفر بن أبي
عينيته التي منها قوله:
جعفر المنصور استنشده لجرير ،فأنشده ّ
فطلب منه أن يعيد إنشاد البيت ،فلما فعل سأله " بوزع ،أي شيء هو؟ " ،فقال له ":اسم
ون ِف ٌّي من العباس بن عبدامرأة " ،فقال ":امرأة اسمها بوزع! هو بريء من اهلل ورسوله َ
المطلب إن كانت بوزع إال ُغوال من الغيالن! تركتني واهلل يا هذا ال أنام الليلةَ من فزع بوزع"،
وج ّر برجله حتى أخرج من بين يديه فصفعت قفاه حتى لم ِ
يدر أين هوُ ، وأمر به غلمانه ُ
مسحوبا.3
أما أبو نواس فكما دعا إلى نسيان ليلى وهند ،واستبدال الخمر بهما ،دعا أيضا إلى
احترام تلك القاعدة الجمالية عند مناداة تلك المعشوقة التي يرى فيها لياله ولُْبناه ،فقال:
4
َسمائِها
َح َس َن أ ْ
َو َس ِّمهَا أ ْ الخ ْم ِر بِآالئِها
أَثْ ِن َعلَى َ
1
السابق ،الموضع نفسه.
2جرير بن عطية :الديوان بشرح إيليا احلاوي ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت/مكتبة املدرسة ،بريوت ،ط1991 ،1.م ،ص.614 .
3أبو الفرج األصفهاين :األغاين ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.39-39 .
4أبو نواس :الديوان حتقيق :أمحد عبد اجمليد الغزايل ،دار الكتاب العريب ،بريوت ،ط1007 ،1 .م ،ص.70 .
207
وال يخفى مقدار إغراق أبي نواس في هذا المعنى ،حتى أوفى بالخمر على حدود التأليه،
الح ْسَنى فَ ْاد ُعوهُ بِهَا ﴾ [األعراف،]081 ، ِ
اء ُاألس َم ُ
متناصا في ذلك مع قوله تعالى ﴿ َوهلل ْ
ومع قول عنترة بن شداد:
كما استطاعوا -وربما بنسبة ال تقل كثي ار -أن يخلّدوا أعالما مكانية حفلت بها
مطالعهم ،وكان القترانها بأسماء أولئك النسوة أثر في ذلك ،خصوصا أن أكثر هذا التالقي
العلَم النسوي والعلم المكاني كان يتم في المقدمة الغزلية الطللية ،حيث ال يكون المكان
بين َ
إال ذريعة إلى ذكر المرأة .وقد تكون تلك األمكنة أجناسا ،غير أن استخدام الشعراء لها ارتقى
وحومل وبرقة ثَهمد" .ولقد بها ليجعل لها قوة حضور األعالم ،من ذلك " ِس ْقط اللوى و َّ
الدخول َ
المكان شعريةً عبقرية ،الحقة لشعرية َعلَم المرأة إن لم تكن
َ أكسب هذا التوجه من الشعراء
مثلها تماما.
تعود الشعراء العرب على التباري في توظيف المكان ،واستخالص كل فكان أن ّ
محتوياته من تلك الشعرية التي استقرت في األنفس على مر الزمان ،وبفعل اختالف الشعراء
على معجم جغرافي غني من المضارب واألطالل ،والمرابع والمصايف .السيما في المطلع
الذي هو رأس المقدمة الغزلية الطللية ،التي هي معرض ذلك في األصل .كما أنه معقد
األمل في جلب اهتمام المستمع من أول وهلة.
وشنف الشعراء
لذلك كثر تناص الشعراء الالحقين مع السابقين في هذه األعالمّ ،
َسَير قصائدهم ،مع أن غالبها –
العباسيون اآلذان بمثل تلك األعالم يوردونها في مطالع أ ْ
خصوصا المكانية منها -لم يعد له مكان في عيش ساكنة البيئة الحضرية .كأسماء األودية
والشعاب والجبال ،وغيرها من معالم تضاريس البادية ،وكأنما غبط أولئك الشعراء المتأخرون
أخاذة.
من سبقوهم على ما في تلك األعالم من شحنة شعرية ،ومسحة جمالية ّ
208
وللتناص في عمومه جماليته ،المتمثلة في استحضار شعرية النص الغائب ونفثِها في
كونه قيمة مضافة إلى جمالية
النص الحاضر .غير أن ذلك مشروط بأن ال يتجاوز ذلك َ
النص الجديد ،وهنا يقع على عاتق الشاعر المتناص مع غيره عبء إنقاذ نصه من خطر
الوقوع في النمطية اآللية المجردة من كل قيمة شعرية أو فنية .فبتعبير جاكوبسون في جهاز
االتصال المعروف به ،يكون المطلع المتناص به مع غيره بمنزلة الرسالة ،أمام النص األول
المتمثل في التراث الشعري المش ّكل لما ُيعرف بـ " السياق " في ذلك الجهاز ،فعملية التناص
هذه " ...تحمل خطورة كبيرة على مصير (الرسالة) ،وذلك ألن السياق أكبر وأضخم من
الرسالة .وهو أسبق منها إلى الوجود ،وأمكن في النفوس ،بينما هي وليدة يافعة ،مهددة
بالسقوط في أحضان السياق ،الذي يتحول عطفه عليها إلى ابتالع كامل لها ".1
وتزداد هذه الخطورة إذا علمنا أن للتناص في المطلع خصوصية في عملية التلقي
ليست له في األبيات الالحقة .ذلك أن المطلع هو عتبة دخول المتلقي إلى النص الشعري،
ولذلك يكون سمعه مرهفا ،وجميع أدوات االستقبال عنده من ذكاء ومشاعر وفكر وذاكرة
وغيرها ،في أشد حاالت التيقظ والجاهزية للتوظيف ،خصوصا الذاكرة التي هي أهم آلية
ُيكشف بها التناص وتُرصد بها مواطنه.
ومع ذلك أقدم بعض النابهين من الشعراء العباسيين الذين طالما استهدفوا لسهام النقد
والتجريح ،واالتهام بالسرقة على هذا األمر غير هيابين .وربما كان الباعث على عدم
االكتراث عندهم أن هذا التقاطع مع الشعراء السابقين في تلك األعالم إنما هو في المطلع
الذي هو بدوره جزء من المقدمة الغزلية الطللية ،وهذه في الغالب عادة فنية وسلوك نمطي
في بناء القصيدة العربية التقليدية.
209
واذا كان األمر كذلك فليس عليهم أن يتخوفوا تهمة السرقة ،إال أن يرميهم بها من ال
المقرر
علم له بتقاليد الشعرية العربية ،أو من يريد الخروج عن عمودها ،إنه ركون إلى ذلك َّ
بحسبه ،وال يظهر التفوق في " ...
في الشعرية العربية القديمة التي ال تكمن القيمة الفنية َ
عبر عنه ،بل في طريقة التعبير ،خصوصا أن الشاعر الجاهلي [ومن يقلده أو يتناص الم َّ
ُ
معه في هذه الحالة] كان يقول إجماال ،ما يعرفه السامع مسبقا .1" ...لذلك نجد أبا تمام
يفتتح إحدى دالياته بقوله:
2
َعَّنت لََنا َب ْي َن اللِّوى فَ َزُروِد َي سوالِ ٍ
ف َو ُخ ُدوِد ت أ ُّ َ َ
َرَْي َ
أ َأ
فمنذ أن نطق امرؤ القيس بلفظ " اللوى " في مطلع معلقته الشهير ،خلب ألباب
الشعراء الالحقين .فاستنوا بسنته ،يتحينون الفرصة إليراده في مطالع قصائدهم ،حتى ش ّكل
مطلع معلقته مرجعية لذاكرة المتلقي ،واحالة تعود إليها كلما وجد ذكر " اللوى " في شعر
اسم جنس .ومثله البحتري في قوله:
الالحقين ،يستوي في ذلك من استخدمه َعلَما بعينه أو َ
3
المتََّيِم تَ ْسفَـ ـ ِح
َمتَى تََرهُ َع ْي ُن ُ وضح الد ُخ ِ
ول فَتُ ِ لَهَا َم ْن ِزل َب ْي َن َّ
فـ " الدخول " و" توضح " من أشهر ما حواه " أطلس " امرئ القيس في معلقته ،حتى الحالة
الشعورية عند معاينتهما واحدة عند الشاعرين :حالة البكاء وذرف الدموع السجام .ومنه قوله
أيضا مستخدما اسم " سعاد " التي خلّدها كعب ابن زهير في الميته:
َِّ 1
ت َولَ ْم تَتَ َكلم
اسأَ ْل َوا ْن َو َج َم ْ
َو ْ اه ُد ِم ْن ُس َع َ
اد َف َسلِّم هذي المع ِ
ََ َ
210
وتلك األماكن القيسية ماثلة في أذهان الشعراء العباسيين ،وهم في معرض المفاضلة
بينها وبين األماكن في بيئتهم أيضا .ولو وضعوها في الكفة المرجوحة من تلك الموازنة.
علي بن الجهم:
يقول ّ
َزْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـزِل2 اح فَبِ ْرَك ِة
ض ٍ إِلَى قَ ْ
ص ِر َو َّ اب ال َك ْرِخ ِم ْن ُمتََنـ ـ ـ َّـزٍه
َسقَى اهللُ َب َ
ق ُم َع ـ ـ ـ ـ ـ َّـذ ِل
ان و َم ْأوى ُك ِّل ِخ ْر ٍ
ح َس ِ َ َ
ِ مس َرُح الـ ال ِ
القَي ِ
ان َو ْ ب أَ ْذَي ِ ِ
َم َساح ُ
وَال أَوجه اللَّ َّذ ِ
ات َع ْنهَا بِ َم ْعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـزِل ِ
َ ُُْ الغيث أَ ْهلُهَـ ـ ـ ــا
َ َمَن ِاز ُل َال َي ْستَتْبعُ
ول َف َح ْو َم ِل ص َر َع ْن ِذ ْك ِر َّ
الد ُخ ِ
َألَ ْق َ ام َأَر القَ ْي ِ
س َحلّهَـ ـ ــا َمَن ِاز ُل لَ ْو أَ ّن ْ
ُيذكر أن الباقالّني عاب على امرئ القيس جنوحه إلى اإلسهاب في ذكر كل هذه
األماكن في مطلع معلقته ،والبيت التالي ،فزعم أن في " ...البيتين ما ال يفيد ،من ذكر هذه
المواضع ،وتسمية هذه األماكن من " َّ
الد ُخول " و" حومل " و" توضح " و" المقراة " و" سقط
اللوى " ،وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا .وهذا التطويل إذا لم ُي ِفد كان ضربا
العي ".3
من ّ
ولسنا نرى وجها صالحا لهذا الطعن ،اللهم إالّ حاجة الباقالني لتحطيم النص الشعري
في سبيل بيان تفوق النص القرآني عليه ،فقد كان في موقف المقارنة بين النصين ،ولم يكن
محتاجا إلى هذا الحيف على فن امرئ القيس هنا .فالنص القرآني في الذروة من الفصاحة
والبالغة ،وفي أعلى مراتب اإلعجاز من غير حاجة إلى إثبات ذلك بتوهين نصوص مقابلة.
211
والحق أن تعديد امرئ القيس لهذه األعالم المكانية أحد نقاط القوة البالغية والشعورية
في مقدمة معلقته ،ومن أدل األشياء على الحالة النفسية التي هيمنت عليه ،وهو بين تلك
المعالم التي تحوي آثار ِ
أحّبته ،حتى ولهت نفسه ،وشرع يتتبعها أث ار بعد أثر ويذكر مواضعها
اسما بعد اسم.
الزمان وألفاظه
إذا كانت ألفاظ المكان في مطالع القصيدة العربية قد استمدت قوة حضورها وشعريتها
مما كان للمقدمة الطللية الغزلية من سلطان قديم على الفن الشعري عند العرب ،فإن ألفاظ
الزمان بدأت تنافسها في التموقع على قمة هرم البناء الشعري في العصر العباسي ،بفعل
التحول الحضاري الذي شهده هذا العصر ،والذي أشاعت فيه المدنية االستقرار ،واتجه فيه
اإلنسان العربي إلى اتخاذ المساكن المشيدة ،وتفنن في إنشاء الدور والقصور والحدائق
المقام لكثير من العرب في بالد جديدة أكسبها اهلل جماال طبيعيا فاتنا ،إضافةالغناء .وطاب ُ
ّ
إلى الشعراء من أبناء تلك البلدان أنفسهم.
هذا إلى جانب ما يتطلبه االنصراف إلى المدح من ضرورة اإلقامة حيث قصر
الممدوح ،وهو ما يدفع الشاعر – عادة – إلى القبول بالمكان ظاه ار على األقل .على خالف
ما كان عليه األمر في الجاهلية ،يوم كانت ضرورات العيش البدوي تقتضي الترحل من
مكان إلى آخر طلبا للماء والكإل ،فتنتقل القبيلة بين المضارب وفي هوادجها حبائب الشاعر
الذي يدفعه الحنين إلى الربط بين الحبيبة والطلل الدارس.
ومن هنا بدأ الزمان يمأل على الشاعر العباسي إحساسه ،كما مأل المكان إحساس
الشعراء السابقين ،وكان للربيعيات والزهريات في البيئة العباسية المتحضرة والفاتنة،
البين بين الفصول والذي تظهر معه مباهج فصل الربيع ،وما يرتبط بذلك من
ولالختالف ّ
212
مجالس غناء وشرب ،أثَر في تصدير كثير من أولئك الشعراء قصائدهم بألفاظ الزمان التي
يكثر معها ترديد أسما بعض األشهر الربيعية المعتدلة.
المالحظ أن أكثر ميل الشاعر إنما هو إلى أسماء الشهور غير العربية كالسريانية،
و َ
لما لها من وقع موسيقي جديد وطريف لم تأنسه األذن العربية من قبل .وهو مظهر من
مظاهر تحديث الشعرية العربية في هذا المجال .إلى جانب تأثير الثقافات األجنبية ،فصرنا
نجد في قاموس الشاعر العباسي ألفاظا من قبيل " آذار " و" نيسان " .يضاف إلى ذلك إيراد
َّحر " و " الفجر " ،وغيرها من ألفاظ تلتقي والعلَم
ألفاظ زمانية تمثل أجزاء من اليوم كـ " الس َ
المؤنث في الرقة والعذوبة ،وتذكر بما لهذا من شعرية رائقة ،خصوصا أنها كثي ار ما اتُّخذت
هي نفسها أعالما على النساء .ومحصَّل هذا كله أن الزمان عند الشاعر العباسي هو
المعادل للمكان عند الشاعر الجاهلي.
وشدة إحساس الشاعر العباسي بالزمان ،و حرصه على تتبع لذاته واغتنامها في أيامه،
ومباردته ُمتَعه فيها حتى ال تضيع عليه واحدة منها ،تجعل شاع ار كأبي نواس ال يرضى
مجملة ،بل يذهب إلى ف ّكها إلى أيام متفرقة ،كأن ك ّل يوم منها عمر عاشه قائم
بذكر المدة َ
بنفسه ،مغرقا فيه بكل حواسه وفكره ،وليس في شعره أطرف تعبي ار عن هذا من قوله:
1
أبو نواس :الديوان ،مصدر سابق ،ص.99 .
2السابق ،ص.515 .
213
ومن ذلك قول ابن المعتز:
1
ف َعلَى ال ِج ْس ِر َب ْرُد َّ
الس َح ْر وَر َّ
َ ص ْو ِب ُ
الب َك ْر الربِيعُ بِ َ
ك َّأَتَا َ
التصغير
ليس التصغير ببعيد عن العلم النسوي أو المكاني من حيث احتواؤه على تلك الطاقة
الشعرية والمسحة الجمالية .ذلك أن من أهم أغراضه – كما هو معلوم – التحبيب أو
التعطّف ،2شأنه في ذلك شأن صيغ وأساليب معروفة في اللغة العربية ،مثل الترخيم .وهو
وقد كان المتنبي أكثر الشعراء العباسيين حفوال بالتصغير ،في مطالع القصائد وفي
الدارس التغاضي عنها ،وهو ما
َ سائر األبيات .حتى غدا ذلك ظاهرة أسلوبية عنده ال يمكن
السابقين الذين
المعري من ّ
ّ يؤكده تنبه القدماء والمحدثين إليها في شعره ،وكان أبو العالء
تعمد الشاعر ذلك واسرافه فيه في " رسالة الغفران " بقوله:
انتبهوا إلى ذلك ،فأشار إلى ّ
المتنبي ] مولعا بالتّصغير ،ال يقنع من ذلك بخلسة المغير .4" ....من
ّ الرجل [
"...فقد كان ّ
ذلك قوله:
َحزُمهُ ْم َو ْغ ُد
َعلَ ُمهُ ْم فَ ْدم َوأ َ
فَأ ْ ُهْيلَهُ
ان أ َ أَ ُذ ُّم إِلَى َه َذا َّ
الزَم ِ
214
وقوله:
وقوله:
واذا أراد المتنبي أن يفضي إلى المستمع بمعنى استقر في نفسه ،ورأى التصغير كفيال
بتبليغه ،سواء في ذلك التحقير وغيره من المعاني التي تؤديها صيغته ،لم يستنكف أن يجابه
المتلقي بالتصغير في مطلع القصيدة .ولو كانت ملحقة بأسماء تتركب من أصوات تسبب
ثقال في اللفظ عند اقترانها بهذه الصيغة ،كقوله:
1
طة بالتَـنادي
المنو َ
لَُي ْيـَلـتَُنا َ ُح ِاد ِ
ـاد ّأم ُس َـداس في أ َ
ُح ُأَ
وعلو ِ
السلبي والحتمي ،لما يراه من كَبر نفسه ّ
المتنبي هو المقابل ّ
ّ وتصغير اآلخر عند
وسمو طموحه:
ّ همته
ّ
ط ِاو ُل
المتَ َ ِ ِ تُ َحقِّ ُر ِع ْن ِدي ِه َّمتِي ُك َّل َم ْ
طلَ ٍب
الم َدى ُ
ص ُر في َع ْيني َ
َوَي ْق ُ
الزيادة في
ص ُدق عليها مقولة الصرفيين " ّ لذلك فصيغة التصغير بهذا المعنى ،ال تَ ْ
أن
أن التّصغير زيادة في البناء حقيقة ،إالّ ّ
الزيادة في المعنى " .فمع ّالمبنى دليل على ّ
أن الحقير ناقصالنقيض للمعنى ،كما ّ
المراد هو التّقليل والتّحقير ،فالمبنى هنا هو المقابل و ّ
الناس التافهين الذين هجاهم بصغر هممهم وأقدارهم
الفضل وان كان زائد ال ّشكل ،كأولئك ّ
وان كانت لهم جثت ضخمة.
215
وللشاعر تمثيل طريف لهذه المفارقة بين زيادة اللفظ ونقصان المعنى المستفاد منه،
ضمنه قولَه:
وهو ما ّ
1
وف أَُن ْي ِس ِ
يان لَه ياءي حر ِ
ُ َ َ ْ ُُ ان ْابَنا َع ُد ٍّو َكاثََراهُ
َو َك َ
وقد وقف المعاصرون عند الظاهرة أيضا ،محاولين تفسيرها ،وتقديم تعليالت لها ،من
هؤالء العقاد الذي من البداهة أن ينحو في تفسيره الظاهرة نحوا نفسيا ،بما أنه من المؤمنين
الصادقين بقيمة هذا المنهج في التعامل مع شعراء ذوي منازع نفسية معقدة ،وقلق ما ورائي.
فيرى أن حامل المتنبي على ذلك الشعور بالعظمة أو بعبارة أخرى تضخم األنا،
يقول":وأظهر مظاهر شعوره بالعظمة في سمات شعره المبالغة في التهويل والتضخيم من
جهة .و هذا الولع بالتصغير من جهة أخرى ".2
لكن الدكتور شوقي ضيف ُيعقّب على هذا التفسير بأنه قاصر ،ال يستوفي تفصيالت
هذه الظاهرة كلها .ولذلك يقدم تفسي ار آخر رجع فيه إلى معجم المتصوفة ،يعلل به به جنوح
المتنبي إلى التصغير وظواهر لغوية أخرى تجد مكانها في هذا التفسير نفسه حسب رأيه،
يقول ":و الحق أن تفسير العقاد ال يطرد في أمثلة الظاهرة ،و لذلك كان ال يصلح تفسي ار
لها ،وكنا نرى أن من األقرب أن نعلل لها بتصنع المتنبي ألساليب المتصوفة ،إذ نراها تقترن
بظواهر أخرى من شارات عباراتهم التي اقترضها منهم كظاهرة أسماء اإلشارة.3"...
وقد أحس شوقي ضيف بصعوبة اإلقناع بهذا التفسير ،وغموض العالقة التي يمكن أن
عبر عنه بصيغة إشكالية استفهامية
تقوم بين ظاهرة التصغير ولغة المتصوفة ،إحساسا ّ
1
السابق ،ج ،9.ص.210 .
2عباس حممود العقاد :مطالعات يف الكتب واحلياة ،املكتبة العصرية ،صيدا بريوت ،د.ت .ص.109 .
3شوقي ضيف :الفن ومذاهبه يف الشعر العريب ،مرجع سابق.711 ،
216
أعقبها بالجواب فقال ":ولكن كيف نربط بين هذا التصغير وأسلوب المتصوفة؟ ،إن الربط
بينهما يكاد يكون غير واضح ".1
لذلك اكتفى بتفسير الظاهرة تفسي ار اقترانيا ،قرن فيه توارد هذه الظاهرة عند المتنبي
بظواهر أسلوبية أخرى ،كاإلكثار من المبهمات واإلشاريات وأدوات المخاطبة والنداء ،التي
من السهل االقتناع بأنها من صميم بنية اللغة الصوفية .لما في المنزع الصوفي من غيبيات
و تجرد ومكاشفات ومناجيات وحلول أحيانا ،وما يشبه ذلك من مقامات تتطلب تلك
األساليب والصيغ .
بل يفترض أن المتنبي هو الذي فتح للمتصوفة الذين جاؤوا بعده -كابن الفارض -
باب التأثر بهذا األسلوب ،الذي وجدوه مقترنا عنده بما سبق أن استقر في معجم أسالفهم
":فقد اعتُبر أسلوب المتنبي أسلوبا صوفيا وأخذ يقلده المتصوفة وكأنهم أحسوا أن التصغير
إحدى شارات هذا األسلوب ومميزاته ".2
ومع أن التفسير النفسي القائم على تعاظم المتنبي ،هو األقرب إلى التفسير الصحيح،
بال حاجة إلى اإلمعان في التأويل ،إال أن تأثر المتنبي بمشارب الصوفية والفالسفة أمر ّبين
ال يمكن إنكاره ،وهو ما يجعل لرأي الدكتور شوقي ضيف حظا ال بأس به من المعقولية
والقبول.
ومن الناحية النحوية ُيالحظ أن المتنبي به كلَف إلى إدخال التصغير على ما هو مثار
خالف بين المذاهب النحوية ،وجدل بين النحاة كتصغير " أفعل" التعجب " وكأنه كان
217
يقصد قصدا أن يكون " ...شعره مسرحا للمدارسة واالختالف وتعارض اآلراء بين علماء
النحو والتصريف " ،1فيصدق قوله :
2 ق ج َّراها وي ْختَ ِ
ص ُم ام ِم ْل َء ُجفُونِي َع ْن َش َو ِارِدها
الخ ْل ُ َ َ َ َ
َوَي ْسهَ ُر َ أََن ُ
صيغة النسب
أحرف الجواب
لم يستحسن اآلمدي من البحتري ورود حرف الجواب " َن َع ْم " في قوله:
4
َهلِيهَا َن َع ْم وَن ْسأَلُهَا َع ْن َب ْع ِ
ض أْ َ الد ِار ِم ْن لَْيلَى ُن َحيِّيهَا
ِميلُوا إلى َّ
وزعم أن هذا " بيت رديء ،لقوله " َن َع ْم " وليس بالمعنى إليها حاجة ،فجاء بها حشوا،
ومن الحشو ما ال يقبح ،و" نعم " ههنا قبيحة .5...وشمل بهذا الحكم شاع ار سابقا ،تردد هذا
1عبد اجلليل يوسف بدا :الظواهر النحوية والصرفية يف شعر املتنيب ،مرجع سابق ،ص.146.
2
المتنبي :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3.ص.313 .
3
الحالج :الديوان مصدر سابق ،ص.052 .
4
البحتري :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،0.ص.39 .
5اآلمدي :املوازنة بني شعر أيب متام والبحرتي ،مصدر سابق ،ج ،1.ص.661.
218
الحرف كثي ار في ابتداءاته وهو ُك ّثير ،يقول":وقد أولع بها ُكثّير بن عبد الرحمن في ابتداءاته،
فقال:
أِ
قفار
ون ُ َن َع ْم دارسات قد َعفَ َ بالخ ِريق ُ
ديار َم ْن أ ُِّم َع ْم ٍرو َ
وقال:
وقال:
اح َزألَّ ْ
ت َحمولُها لما ْ
ت َّن َع ْم َوثََن ْ َج َّد َرحيِلُها
ك لَْيلَى إِ ْذ أ َ
َهاج َ
أ َ
وقال:
1
ت ِم ْن َحْب ِل القَ ِر ِ
ين قَ ِر ُ
ين " َك َما ْانَب َّ ين ِ
أََبائَنة ُس ْع َدى َن َع ْم َستَِب ُ
غير أنه يستثني هذا البيت األخير ،ولكن ليس باالستحسان بل بصالحية ورود " َن َعم "
فيه قياسا باألبيات األخرى وذلك ألن " إسقاطها من الجميع يحسن ،وال يحتاج االستفهام فيها
إلى جواب ،إال هذا البيت فإن االستفهام فيه يقتضي أن يكون " نعم " جوابا له ،ومع هذا
ولكثير استفهامات ال جواب لها على عادات الشعراء
ّ فليس لها حالوة وال حسن.
المحسنين".2
219
واضح أن اآلمدي يحتكم في هذا إلى صرامة المنطق ،الذي يقتضي أن يكون لكل
سؤال جواب .فال يتصدر حرف الجواب ،إال ما كان جوابا لسؤال ظاهر من قبل .وما أكثر
ما يكون الحكم المنطقي جافا خشنا ،ليس له لمسة من فن وال مسحة من شعر.
الوقع الحسن
َ وما زال الشعراء يستعذبون البدء بأحرف الجواب ،بعد البحتري ويقع ذلك
من األسماع ،فمما جاء في هذا من شعر أبي فراس الحمداني قوله:
1 ونه َّن وج ِ
امـ ُل َوَذلِ َ الخ َمائِ ُل
الو ِادَي ْي ِن َ َن َع ْم تِْل َ
ك َشاء ُد َ ُ َ َ ك َب ْي َن َ
مر أن حرف الجواب حتى ولو كان أول لفظ في المطلع ،قد يكون جوابا عن سؤال
وقد ّ
ومؤشر محاورٍة نفسية سابقة لنظم القصيدة تحمل من المضامين
َ مضمر في نفس الشاعر،
والمشاعر ما تحمل.
1أبو فراس احلمداين :الديوان ،دار اجليل ،بريوت ،لبنان ،ط1001 ،1 .م ،ص.161 .
220
الفصــــل الثـــــــالث
المستــــوى الصـــــوتي
الموسيقى الخارجية
الموسيقى الداخلية
البديع
المــــوسـيــــــــــقى الخـــارجـيـــــة
يبدو أن الشاعر العباسي لم يكن يحرص – وهو يسعى سعيه إلى االستقالل بشخصيته
الفنية ،واالختالف عن اآلخر – على النفوذ من حدود المقررات العروضية الموروثة ،إلى
آفاق موسيقية جديدة .على األقل في شكل دعوة عامة تشكل خروجا جماعيا عليها ،وتؤسس
لمشروع نظري مكتمل الرؤية وواضح األبعاد .كما لم يحفظ شعرهم نفسه تشكيات من
الموروث الموسيقي مثل تلك التشكيات من المقدمة التقليدية ،التي جاهر بها أبو نواس في
سخرية وتبرم.
غير أن هذه النظرة تصلح حكما عاما ال تنتفي معه المحاوالت الخاصة ،والمبادرات
الشخصية التي كان بعض الشعراء من أصحاب حس المغامرة ،وهواة التجريب يخرجون بها
على الناس من حين إلى آخر .يحمل عليها – إضافة إلى هذه الدوافع الشخصية -
مستجدات ثقافية ونضج أغراض واتجاهات شعرية حديثة ،كشعر الزهد والتصوف واالتجاه
الشعبي ،وما يشبهها من فنون شعرية تتطلب تصرفات عملية على المادة الموسيقية القديمة.
وربما كان أسبق محاوالت التجديد في موسيقى الشعر العربي في هذا العهد ،تلك
الكسور العروضية التي أُثرت عن بعض كبار الشعراء العباسيين ،وهي كسور يبدو أنها
كانت متعمدة ،خصوصا أنها كانت تقع في بحور سهلة النظم واضحة النغم .وانما يفعل
الشاعر ذلك إيذانا بضرورة البدء في التغيير ،وكس ار للرتابة في مجتمع بدأ يضجر من إيقاع
المدنية الممل من جهة ،وايمانا من الشاعر العباسي بحرية الفن في الخرق والخلق من جهة
أخرى .وحتى إن لم تكن متعمدة فقد كان بعض الشعراء إذا ُنبه عليها لم يرتدع عنها ولم
يصلحها ،بل كان يدافع عن خروجه ويبرره ،كأبي العتاهية الذي عرفت عنه هذه الكسور.
فكان إذا سئل هل تعرف العروض؟ يقول ":أنا أكبر من العروض ،وله أوزان ال تدخل في
العروض ".1
223
إن القارئ ليتساءل حقا عما يجعل شاع ار نابها كأبي العتاهية ،ينظم في بحر سهل
المأخذ واضح النوطة ،كثير االستعمال عند المحدثين ،كبحر الخفيف َفيج َشم فيه كس ار
عروضيا يمثل نشا از بينا في البيت .وذلك قوله:1
اط ِئ في يوِم ِ
الح َس ِ
اب الخ ِ
ف ََم ْوِق َ ف اهللَ واتْ ُر ِك َّ
الزْه َو َوا ْذ ُك ْر فَ َخ ِ
َْ َ
ويزيد التساؤ َل مشروعيةً أن إصالح الخلل سهل ،حتى على المبتدإ في صناعة الشعر،
يوم الحساب"
وعلى من يملك أدنى إحساس موسيقي ،فما أسهل أن يقول ":موقف الخاطئين َ
حتى يستقيم له الوزن.
وقد أدى البناء التراكمي لتلك الكسور إلى محاولة الوقوع على أوزان جديدة ،ساعد
العروضي الفذ الخليل بن أحمد الفراهيدي .وذلك بأن وضع لها
ُّ اء العباسيين عليها
الشعر َ
هدته عقليته الرياضية إلى ضم المكونات األساسية الدنيا لألوزان
قواعد احتمالية ،بعد أن َ
العربية في الدوائر العروضية المعروفة ،فنبه الناظرين إلى بحور لم ينظم عليها الشعراء
السابقون أو لم يصل إلى الخلَف ما نظموه عليها.
لقد لجأ الخليل إلى آلية " التباديل والتوافيق الرياضية في وضع عروض الشعر ،إذ
جعل أوزانه تدور في خمس دوائر أو بعبارة أدق تدور أجزاؤها من األسباب واألوتاد ،فإذا هو
يحصي األوزان التي استخدمها العرب واضعا لها ألقابها ويحصي أو يستنبط أوزانا أخرى
مهملة لم يستخدموها في أشعارهم ،كي ينفذ منها الشاعر العباسي إلى ما يريد من تجديد في
أوزان الشعر وبحوره ".2
إن عمل الخليل ذلك على قدر ما هو تقنين وتقعيد لموسيقى الشعر العربي ،هو أيضا
توسعة على الشعراء الالحقين ،واعتراف بحقهم في اإلبداع ،ضمن أوسع دائرة من اإلمكانات
المتاحة عند تحويل تلك المادة األولية من األسباب واألوتاد .فإذا بالشاعر العباسي يحاول "
1أبو العتاهية :الديوان ،شرح :جميد طراد ،دار الكتاب العريب ،بريوت4004 ،م ،ص.15.
2شوقي ضيف :تاريخ األدب العريب ،مرجع سابق ،ج ،3.ص591 .
224
النفوذ إلى أوزان جديدة ،واذا هو يكتشف وزنين سجلهما الخليل بن أحمد حين وضع نظرية
العروض ،هما وزنا المضارع والمقتضب .1" ...
وقد وعى الجيل الالحق ما أراده الخليل ،فلم يقفوا عند ما رسمه لهم من بحور
مستعملة .بل سعوا إلى التجريب والتقليب في ذلك التراث ،فخرج منه تلميذه األخفش بوزن
المتدارك ،على فرض أن الخليل لم يعرفه قبله.
ويصل األمر ببعض هواة التجريب ،والمستقصين فيه إلى أن ُيغربوا في البحث
والتنقيب حتى يقعوا على أشكال فريدة من التراكيب العروضية .في داللة على طواعية المادة
التي تركها الخليل ،واستجابتها للتشكيل الجديد ،واعادة الصياغة.
يذكر صاحب األغاني – في هذا المجال – عبد اهلل بن هارون العروضي ،أحد
تالمذة الخليل ،وُرزينا العروضي الذي تقفى أثره ،فيقول ":هو عبد اهلل بن هارون بن
َّميدع ،مولى قريش ،من أهل البصرة .وأخذ العروض من الخليل بن أحمد ،فكان مقدما الس َ
فيه .وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أوالدهم ،وكان يمدحهم كثيرا ،فأكثر شعره فيهم.
وهو مقل جدا .وكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره ،ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه
فيه ُرَزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة ،وجعل أكثر شعره من هذا الجنس.2"...
أو يركب بعضهم الصعب في بناء قوافيهم على الروي النادر ،يقول المتنبي:
3
ـش ُع َّـدةٌ للبِ َـر ِاز
الع ْي ِ َّ الج َر ِاز ِ ِ ِ ِ
لَـذةُ َ َكف ِرْندي ف ِرْن ُد َس ْيفي ُ
فالروي (الزاي) يجعل القافية من تلك القوافي النادرة في االستعمال التي يسميها العروضيون
النفُر) ،4وهو أمر يتماشى وذلك التغريب في بناء الصورة ،والتقديم والتأخير على مستوى
( ُّ
اإلسناد في الجملة .غير أن هذا التصرف المزدوج ،والروي النفور لم يسببا ثقال على السمع
1السابق ،ص.594.
2أبو الفرج األصفهاين :األغاين ،دار الثقافة ،بريوت ،ج ،6 .ص.510.
3املتنيب :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.573.
4حممد سعيد إسرب وحممد أبوعلي :اخلليل معجم يف علم العروض ،ط ،5.دار العودة ،بريوت ،ص.96.
225
ردفة باأللف ،في التخفيف من ِح َّدة
الم َ
أو نشازا ،لتضافر موسيقى بحر الخفيف مع القافية ُ
ذلك.
شئت أخبرتك
َ روى األصفهاني أن س ْلما الخاسر سئل من أشعر الناس؟ فقال لسائله ":إن
أحسنت ،فقال:
َ بأشعر الجن واإلنس ،فقال إنما أسألك عن اإلنس ،فإن زدتني الجن فقد
أشعرهم الذي يقول ،وذكر المطلع السابق.2
غير أن الشاعر هنا استطاع إن يعالج نبو وزن المديد بالزحافات والعلل ،فأدخل الخبن
على (فاعالتن) في أول الصدر فصارت (فعالتن) ،والخبن والحذف عليها في العروض
فعلن) .وبذلك سلِست موسيقاه ،واقتربت من موسيقى بحر المتدارك
والضرب ،فصارت ( ِ
العذبة.
ويالحظ أنه لم َي ُع ْد إلى مزاحفة (فاعالتن) األولى بالخبن في أول ثالثة أبيات متتابعة
بعد المطلع وهي قوله:
226
وهذه التغييرات في البنية الوزنية الموروثة ،والمسماة عروضيا بالزحافات والعلل ،متنفس
للشاعر ،استغله الشاعر العباسي ،ومد حدوده إلى أقصى الدرجات ،مواجها بذاك للنمطية
العروضية القديمة .فالوزن الشعري " ممثَّال ببحوره الستة عشر لم يكن على االطراد اآللي أو
التوالي الكمي لعناصر الوزن عبر مسافات زمنية ال تنفك تتواتر باآللية نفسها ،وانما تجري
في أحيان كثيرة انزياحات عروضية عن الوزن األصلي من حذف واضافة داخل تفعيالت
البيت نسميها زحافا أو علة ".1
والشاعر العباسي -إذ يفعل ذلك – يكون مدفوعا بحس موسيقي ،وجمالي أصيل،
بحيث تضفي تلك الزحافات والعلل في الغالب سالسة وقبوال على موسيقى البيت ،السيما مع
بعد ،كما في مطلع أبيالبحور النادرة ذات الموسيقى التي لم تصقلها العادة والممارسة ُ
العتاهية .وعند ذلك ال يجد المستمع " ...إخالال بموسيقية البيت أو انتظامه ،وانما يكون
في أغلب األحيان ذا أبعاد جمالية موسيقية ،تتصل بتدفق الوزن وطوله وتنوعه وخصائص
التشكيل فيه".2
ولهذا كان الزحاف مظنة زلل األقدام ،ال يثبت على أرضه ،وال يفلح فيه إال الشاعر
الموهوب ذو األذن الشعرية األصيلة .وهو من الحساسية والدقة والخصوصية ،بحيث قال فيه
األصمعي ":الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه ال ُيقدم عليها إال فقيه ".3
1أمحد مبارك اخلطيب :االنزياح الشعري عند املتنيب قراءة يف الرتاث النقدي عند العرب ،دار احلوار ،الالذقية ،سورية ،ط4009 ،5.م .ص.543 .
2السابق ،ص.544.
3ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،5.ص.541.
4املتنيب :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3 .ص.91 .
227
فهو مطلع غزلي تقليدي فيه شكوى الليالي ،التي تزداد طوال وثقال على نفوس العشاق
بعد رحيل أحبابهم ،وهو من بحر الطويل الثالث ذي الضرب المحذوف ،أي (فعولن)
المحولة عن (مفاعيلن) بعد إسقاط السبب الخفيف ( )0/منها( :مفاعيلن) = (مفاعي) =
(فعولن) .وبذلك تتماثل من حيث الوزن مع (فعولن) الجزء األول من بحر الطويل ،كما
تتماثل الليالي في طولها وثقلها على الشاعر ،محدثة موسيقى تُشيع اإلحساس بالرتابة والملل
في النفس ،أما (فعولن) الجزء الثالث ف َشبهها بها أبعد ،بسبب لزوم القبض لها أي حذف
الخامس الساكن ،وهو زحاف الزم لها مع هذا الضرب المحذوف ،وهو ما يسميه
وجوبا ،بخالف (فعولن) األولى التي قد
ً العروضيون االعتماد 1فتصبح على الشكل (فعول)
تسلم من القبض فتتماثل مع الضرب:
ين طَ ِويلُ ْو ِِ ِط َوالُ ْن َولَْي ُل ْل َعـ ـ ـ ـا ِِ
شق َ ين ُش ُكولُو
عن َ ظظَا
ي َب ْع َد ْ
اليـ َ
لََي ْ
وهكذا تشبه موسيقى أول الصدر والعجز الجزء األخير من البيت ،كما تتشابه تلك
الليالي .أما لزوم الجزء الثالث القبض (فعول) إجباريا فيزيد من اإلحساس بالرتابة والتكرار
الذي يتحالف مع الليالي في إضفاء الشعور بالثقل والضجر ،اللذين يموجان في أعماق
الشاعر .كما أن الردف المالزم لهذا الضرب يولد امتدادا في الصوت ،فيه انسجام مع طول
الليالي ،ونوع من التعويض عما ذهب من التفعيلة األخيرة ،بعد سقوط السبب الخفيف من
آخرها.
ُيذكر أن الدكتور طه حسين عد القصيدة التي ُمستَهَلها هذا المطلع من روائع ما نظم
2
نفس ملحمي وقدرة تصويرية فائقة ،وحركية المتنبي في سيف الدولة .لما تميزت به من َ
أضفت عليها حيوية تذكر برائعته في وصف معركة الحدث.
1
املؤسسة الوطنية للفنون املطبعية ،الرغاية ،اجلزائر5959 ،م ،ص.16
الشعرّ ،
مصطفى حركات :قواعد ّ
2طه حسني :مع املتنيب ،دار املعارف ،القاهرة ،ط ،54.ص.435 .
228
ولعل من أسباب ذلك فيما يخص المطلع -إضافة إلى حالوة موسيقاه وداللتها -غناه
بقيم بالغية منها " التفسير بعد اإلبهام " ،الذي عده ابن األثير مع الصناعة المعنوية ،ورتبه
سابعا في أنواعها األحد عشر .وبين الغرض من استعماله بقوله ":اعلم أن هذا النوع ال
ُيعمد إلى استعماله إال لضرب من المبالغة ،فإذا جيء به في كالم فإنما ُيفعل ذلك لتفخيم
المبهم واعظامه.1" ...
َ أمر
وهو في هذا المطلع وارد في قوله " ِطوال " فإنما هو تفسير لقوله " شكول " ،الذي
أجمل به تشابه الليالي ففخمها في نفوس المستمعين ،وشوقهم إلى معرفة تفسير ذلك؛ إلى
جانب ما في قوله " :وليل العاشقين طويل " من ضرب للمثل مشهور في الصنعة البديعية،
وما أكثر ما برز فيه المتنبي ،وسارت بسببه أبياته في الناس.
وما قيل عن المديد مع أبي العتاهية ،قد يقال عن المنسرح مع أبي فراس الحمداني في
قوله:
2 ِ
آخ ُرَها ُم ْزِع ٌج َوأ ًَّولُهَا َح ِملُهَا
اد أ ْ
َيا َح ْس َرةً َما أَ َك ُ
ويشكو هذا البحر -وال شك -من اضطراب موسيقاه وامكان التباسها بأوزان أخرى،
فاعالت في شكلها
ُ الت( أو
إضافة إلى اشتماله على تفعيلة تنتهي بمتحرك وهي مفعو ُ
المطوي ) ،وهو االضطراب الذي أشار إليه حازم القرطاجني بقوله ":فأما المنسرح ففي
اطراد الكالم عليه بعض اضطراب وتقلقل ،وان كان الكالم فيه جزال ".3
ومع ذلك فللدكتور شكري عياد تعقيب على تهجم الدكتور عبد اهلل الطيب المجذوب
على المنسرح ،مبديا دهشته من اللغة التي وسمت ذلك التهجم حتى استمد فيها من قاموس
ألفاظ " القذف " ،مصنفا ذلك في قائمة ما نستطيع أن نطلق عليه (العداء الشخصي) البعيد
عن الموضوعية المحايدة ،الكفيلة بكسب األتباع والمناصرين .فبعد أن ثمن له صدق
إحساسه بالخصائص الموسيقية لألوزان ،في غالب األحيان استدرك عليه قائال إن ... ":
1ابن األثري :املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.44.
2أبو فراس احلمداين :الديوان ،مصدر سابق.475 ،
3حازم القرطاجين :منهاج البلغاء وسراج األدباء ،مصدر سابق ،ص.465 .
229
تصويره لخصائص بعض األوزان يحمل ذلك الطابع الشخصي حتى إن المرء ليدهش حين
يرجع إلى ذوقه أو قراءاته يستفتيها في صحة ما يقرؤه من أحكام .من ذلك قوله عن المنسرح
إن فيه لونا جنسيا ،بحيث يمكن تصويره بصورة المتكسر أو المغني المخنث ".1
وساق الدكتور عياد أمثلة من المدونة الشعرية العربية ،يدافع فيها عن " فحولة " هذا
البحر ،تتضمن أغراضا شعرية حماسية رجولية ،كمقطعة رواها أبو تمام في " حماسته "
لرجل من ِحمير في وقعة كانت لبني عبد مناة وكلب على ِح ْمير .وقد اضطر شكري عياد
إلى تبرير إيراده إياها كاملة بما يناسب حاجته إلى نفي التكسر والتخنث معنى وموسيقى عن
المنسرح ،منبها إلى االنتقائية التي طبعت اختيارات الدكتور المجذوب وهو ي ِ
صم المنسرح َ
بذلك .وهو ما يجردها من القدرة على اإلقناع ،ومشي ار إلى أبي الطيب المتنبي الذي نظم في
هذا البحر سبعة من المئة من مجموع أبيات قصائده ومقطعاته ،وهو شاعر الفحولة
والرجولة ،2" ...وهذا حق يؤيده فيه حازم القرطاجني الذي ذكر في المقولة السابقة أن في
هذا البحر جزالة.
على أنه ال مشاحة في انصراف الشعراء عن النظم في هذا البحر ،ألشياء منها :عدم
وضوحية موسيقاه ،بسبب تداخلها مع موسيقى بحور مشابهة له في التفعيالت ،كالرجز
والسريع.
وفي المقابل يرد التساؤل عن قدرة البحور المشهورة على االستمرار في عطائها
الموسيقي ،أفلم تبلغ األذن العربية درجة التشبع منها باصطالح األسلوبيين ،وحق لها البحث
عن آفاق موسيقية جديدة؟ .لقد تساءلت نازك المالئكة عن األوزان العربية التقليدية في شكلها
األساسي الذي بناها عليه الخليل قائلة ":ألم تصدأ لطول ما المستها األقالم والشفاه منذ
سنين وسنين؟ ألم تألفها أسماعنا ،وترددها شفاهنا ،وتعلكها أقالمنا ،حتى مجتها؟ ".3
1شكري حممد عياد :موسيقى الشعر العريب ،دار املعرفة ،القاهرة ،ط5965 ،5.م ،ص.59.
2السابق.40 – 59 ،
3نازك املالئكة :ديوان شظايا ورماد ،مرجع سابق ،ج ،4.ص.5 .
230
ونحن إذا نظرنا مثال في إحدى روائع الشعر العربي ،التي نظمت على الخفيف أحد ألذ
البحور موسيقى ،وهي سينية البحتري ،وجدنا جماليتها الموسيقية متأتية من مسيقاها الداخلية
أكثر ،السيما ميزة الصفير الناجمة عن توارد الصاد والزاي التي قلما يخلو بيت من أحدهما
أو كليهما ،فضال على السين الذي هو روي الزم لنهاية كل بيت .فقد استطاع البحتري بهذه
الموسيقى أن يجنبها النمطية المعهودة من ألفة األذن للخفيف ،خصوصا في العصور
المتأخرة ،مع ازدهار فن الغناء واتخاذه موسيقى مفضلة في المديح النبوي.
ومن أجل إ ثبات الذات قد يسلك الشاعر العباسي غير سبيل المخالفة ،فيعمد إلى
القواعد العروضية المتبعة ،ويمعن في التمسك بها والزيادة عليها والتفنن في صور إيرادها.
وقد تكون طريقة " لزوم ما ال يلزم " التي ُعرف بها أبو العالء المعري ونظم عليها ديوانا
ضخما أحد أظهر معالم تلك السبيل ،وهذه الطريقة إنما هي نوع من تحدي الشعراء المحدثين
للفحول إذا نظرنا إليها من جهة تغالب األجيال ومحاوالت التميز.
غير أننا إذا نظرنا إليها من الناحية الفنية ،رأيناها محاولة لتطلب قوة األثر الموسيقي،
ودعمه بالتزام صوت إضافي قبل الروي .فكأن الشاعر العباسي – ممثَّال هنا بأبي العالء
المعري – لم يعد يثق بقدرة نمط واحد من اإليقاع على المساهمة في لفت سمع المتلقي ،من
أجل تمهيد السبيل إليصال الرسالة ،فذهب يقلب القافية وجها لبطن حتى يستخرج كل
طاقاتها النغمية الموجودة بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل.
نظمه
وليس من اإلبعاد الذهاب إلى أن المعري ،وهو يضيف إلى لزوم ما ال يلزم َ
قصائد ومقطعات شتى بروي واحد ،تختلف صوره حركةً وسكونا ،وتتنوع القوافي التي يوجد
وغير ذلك ،إنما كان يدفعه إلى ذلك إحساسه الفني بأن موسيقى
فيها إطالقا وتقييدا ووصال َ
قافية ما ،قد تكون أقدر من أخرى على حمل المحتوى الفكري ،ونقل الشحن العاطفي إلى
المستمع ،وأنسب لموضوع دون آخر .السيما أن غالب موضوعات لزومياته تجري في و ٍاد
واحد تقريبا وهو التأمل في الوجود والنفس اإلنسانية وأخالقها.
إنه السعي إلى استقصاء البحث عن أكبر قدر من اإلمكانات الموسيقية ،التي تتيحها
القافية في إيقاعاتها المختلفة ،ويسمح بها الروي في توزعاته المتباينة على الحركات الثالث:
231
الضمة والفتحة والكسرة ،وعلى السكون ،وتبدالت مواقعه عند تنويع القافية أحيانا بحسب
وضعه من سائر حروفها ،وما يتولد عن ذلك من إشباع بالواو أو األلف ،أو الكسرة تبعا
لتلك الحركات .وما يحدثه ذلك – بالضرورة – من تنويع في الوقفة النغمية للبيت.
لذلك نراه يخوض في شعاب التجريب الموسيقي ،ويترك ألذن المستمع جمالية تلقي
شعره ،بناء على الحالة النفسية التي تهيمن عليه ،والتي تستطرف -بناء على ذلك -نوطة
دون أخرى.
وهو ما يحيل إلى حازم القرطاجني ومحاولته الرائدة لدراسة العالقة بين المعنى الشعري
والموسيقى التي تحتويه .إذ كان من أهم ما تفتقت عنه عبقريته في دراسة عروض الشعر
العربي " ...البحث في عالقة األغراض باألوزان ،أو بأسلوب آخر في األوزان من حيث
هي مخيلة لألغراض ".1
واذا لم يكن للمطلع خصوصية في مسألة الموسيقى الخارجية ،لكون القصيدة العربية
العمودية موحدة األبيات من حيث الوزن والقافية ،يشترك في ذلك المطلع وغيره من األبيات،
قياسا باألشكال التجديدية في بناء القصيدة العربية الالحقة ،كالموشحة التي ينفرد فيها
المطلع أو المذهب بقافية تخالف قوافي األدوار ،فإن الميزة الوحيدة المتبقية للمطلع من هذه
الناحية هي التصريع .
1حممد احلافظ الروسي :ظاهرة الشعر عند حازم القرطاجين ،دار األمان ،الربط ،املغرب ،ط4005 ،5.م ،ج ،4.ص.750.
2ابن حجة احلموي :خزانة األدب وغاية األرب ،مصدر سابق ،ج ،4.ص.475.
232
هذا االستواء ليس إال تماثال موسيقيا بين نهاية الصدر والعجز ،وهو ما من شأنه أن
ي أثرها فيه .بحيث يستمر رجع رنينها في األذن
يرسخ النوطة الموسيقية في السمع ،و ُيقو َ
مهما توالت صدور األبيات الالحقة المجردة منها.
أما ابن منظور فيعرفه ،مضيفا إلى تعريفه تبري ار وظيفيا للتصريع بقوله " :التصريع
في الشعر :تقفية المصراع األول مأخوذ من مصراع الباب ،وهما مصراعان ،وانما وقع
التصريع في الشعر ليدل على أن صاحبه مبتدئ إما قصة واما قصيدة ،كما أن " إما " إنما
ابتدئ بها في قولك :ضربت إما زيدا واما عم ار ليعلم أن المتكلم شاك".1
ويبي ن التغيير الالزم من التصريع والذي يلحق العروض ،متمثال في نقص أو زيادة
تنالها تبعا للضرب ممثال لذلك بقوله ":فمما العروض فيه أكثر حروفا من الضرب َفنقَص
في التصريع حتى لحق بالضرب قول امرئ القيس:
سيب يمانِي
كخط َزبور في َع ِ
َ من طلل أبصرتُه فشجانيِ
ل ْ
فقوله :شجاني فعولن ،وقوله :يماني فعولن ،والبيت من الطويل وعروضه المعروف إنما هو
مفاعلن .ومما زيد في عروضه حتى ساوى الضرب قول امرئ القيس:
2
العصر الخالي
ُ وهل ينعمن من كان في أال انعم صباحا أيها الطل ُل البالي
وقد أشار ابن منظور إلى وظيفة بنيوية نوعية مهمة للتصريع ،وهي تنبيه المتلقي إلى
أن الشاعر يبتدئ قصيدة ،وهو ما سبقه إليه ابن رشيق بعبارة أكثر وضوحا بقوله ":وسبب
التصريع مبادرة الشاعر القافية ،ليعلم في أول وهلة أنه أخذ في كالم موزون غير منثور،
233
ولذلك وقع في أول الشعر " 1.ومعنى قوله هذا أن للتصريع وظيفة (توجيهية تجنيسية) ،توجه
ذهن المتلقي ووجدانه إلى أن الرسالة التي سيتلقاها من جنس الموزون ال المنثور .لذلك وقع
التصريع في أول القصيدة.
ولكن يبدو أن للتصريع وظيفة أخرى إضافة إلى ما سبق ،وهي اإلشعار باالنتقال من
معنى إلى آخر في القصيدة نفسها ،وهو ما يفهم من عبارة " مبتدئ قصة " ،ولذلك لم يشترط
ابن منظور كونه في البيت األول.
وهو ما كان ابن رشيق صاحب سبق إليه أيضا ،وتفصيل في قوله ... ":وربما صرع
الشاعر في غير االبتداء وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة أو من وصف شيء إلى وصف
شيء آخر ،فيأتي حينئذ بالتصريع إخبا ار بذلك وتنبيها عليه ".2
ويذهب سعيد األيوبي إلى أن من وظائف التصريع في غير البيت األول – وهو من
النفس الشعري ،وذلك بالعودة إلى تقوية النوطة
تجديد َ
َ تجديد للمطلع -
ٌ الناحية الموسيقية
الموسيقية ،التي يكون التباعد عن المطلع مظنة إضعافها وزوال تأثيرها .إضافة إلى قدرته
على أن يكون عنصر ربطُ ،يقوي التماسك والتالحم بين األفكار والمعاني ،بقوله ":والنقد
الحديث يسمي التصريع في غير البيت األول (تجديد المطلع) وكأن الشاعر يبدأ قصيدته
بداية جديدة أو يعطف األجزاء على بعضها عطفا متينا ويوحد بين معانيها وأفكارها.3" ...
ابن رشيق ال يستكره التصريع في غير االبتداء ،كما فعل ابن ُّ
وربما جعل ذلك كله َ
حجة في تعريفه السابق .بل هو عنده " ...دليل على قوة الطبع وكثرة المادة إال أنه إذا كثر
في القصيدة دل على التكلف ".4
1ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،5.ص.516.
2السابق :املوضع نفسه.
3سعيد األيويب :عناصر الوحدة والربط يف الشعر اجلاهلي ،مرجع سابق ،ص.531 .
4ابن رشيق :العمدة ،مصدرسابق ،ص.517 .
234
لكن ابن رشيق يستثني من شرط عدم اإلكثار المتقدمين من الشعراء ،ثقة منه بسالمة
يع امرئ القيس ثالثةَ أبيات
طبعهم ،وصفاء سليقتهم ،وبراءتهم من التكلف ،فلم َير عيبا تصر َ
متتالية من رائيته التي مطلعها:
1
أتمر
ويعدو على المرء ما َي ْ بن عمرو كأني َخ ِم ْر ِ
أحار َ
ـدر
أم القلب في إثرهم منح ْ خيامهم أم ع ُشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـر
ُ أمرٌخ
2
وفيمن أقام من الحي ه ـ ـ ـ ْـر بين الخليط ُّ
الشطُ ْر وشاقك ُ
ويظهر أن شعراء البديع من المحدثين أنفسهم كانوا مع هذا الذوق ،فلم يطلقوا العنان
ألنفسهم في مضمار التصريع .مع ما ُعرفوا به من شغف بالبديع ،ومع اعترافهم بسحره الذي
أخذ بألبابهم ،كأبي تمام القائل:
3
بيت الش ْعر حين ُيصرع
ك ُ يروق َ الج ْدوى بجدوى وانما
وتقفو إلى َ
وتعريف ابن منظور التصريع بالتقفية ،يحيل إلى مصطلح آخر قد يوهم بأنه مرادف
له ،غير أن ابن رشيق يردف تعريف التصريع بتعريف للتقفية ،يهدي إلى التفريق بينهما ،بعد
علمه
تنبيهه على كونه موضع إشكال وتداخل يقول ":هذا باب ُيشكل على كثير من الناس ُ
[ ]...فأما التصريع فهو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه تنقص بنقصه وتزيد
بزيادته [ ] ...والتقفية أن يتساوى الجزءان من غير نقص وال زيادة فال يتبع العروض
الضرب في شيء إال في السجع خاصة مثال ذلك قوله [ يعني ام أر القيس ]
235
فهما جميعا مفاعلن ،إال أن العروض مقفى مثل الضرب فكل ما لم يختلف عروض بيته
األول مع سائر أعاريض أبيات القصيدة إال في السجع فقط فهو مقفى ".1
وهو الفرق الذي يلخصه الخطيب التبريزي بقوله ":والفرق بين المصرع والمقفى أن
ويجعل آخر النصف من البيت كآخر البيت أجمع، التصريع هو أن يقسم البيت نصفينُ ،
وتُغير العروض للضرب ...والمقفى مماثلة الضرب من غير تغيير.2" ...
أما البديعيون فال يأخذون بهذا التفريق في جهازهم المصطلحي والمفهومي ،الذي
يكتفون فيه بمصطلح التصريع ،داال على ما تدل عليه التقفية والتصريع كالهما عند
العروضيين .وهو ما تحمله الضميمة التي أضافها صفي الدين الحلي إلى تعريفه السابق
عتبر فيه قاعدة العروضيين في الفرق بين المصرع والمقفى
للتصريع بقوله ... ":وال تُ َ
باصطالحهم ".5
وا ًذا يوافق العروضيون أصحاب البديع في حد التصريع ،القائم على موافقة العروض
الضرب في الوزن والقافية .ويخالفونهم بعد ذلك في مسألة التفريق بينه وبين التقفية .ومناط
َ
التفريق بينهما هو مآل العروض بالزيادة أو النقص بعد مساواتها بالضرب.
236
للمعنيين ،أن العروضيين يشترطون
َ فمما يفهم من النماذج التي يمثل كل فريق بها
للتصريع تبعية تُلحق العروض بالضرب ،وتؤدي إلى حدوث تغيير كمي في العروض بزيادة
أو نقص يخرجها عن االستعمال المطرد لها في الواقع الشعري ،فإذا وقعت الموافقة بين
العروض والضرب من غير زيادة أو نقص ،سموها " تقفية ".
وقد نجم هذا االختالف عند الفريقين ،من اكتفاء البديعيين بالنظرة األفقية الجزئية التي
تمتد من آخر الصدر حتى آخر العجز .أما العروضيون فإنما يصدرون من تصور يعتمد
المن ظار العمودي الكلي ،أي إلى ما ينتظمه العمود النازل من أعاريض تتتابع نزوال من
عروض المطلع حتى آخر معمار ذلك العمود عند عروض البيت األخير .فما كان من
المطالع ذا عروض موافقة لما بعدها من أعاريض -إال في السجع -كان مقفى .وما كان
منها ذا عروض مخالفة لسائر األعاريض زيادة أو نقصا ،كان مصرعا.
هذا على اعتبار أن األصل واألكثر في التصريع أن يكون في المطلع كما يستحب
البديعيون ،وهو ما صرح به ابن حجة في تعريفه السابق ،ويعضده عليه ابن سنان الخفاجي
الذي يقول ":والذي أراه أن التصريع يحسن في أول القصيدة [ ]...فإذا ما تكرر التصريع
في القصيدة فلست أراه مختا ار ".1
فإذا صرع الشاعر في أثناء القصيدة فإنما ذلك -مثلما نبه إلى ذلك ابن رشيق آنفا -
على نية الدخول في منعطف فكري أو شعوري جديد ،فكأننا – والحال هذه – أمام قصيدة
جديدة بمطلع مصرع خاص بها.
وقد ذهب الخفاجي يجادل عن استحباب التقليل من التصريع ،واالكتفاء منه بالمطلع
جهد المستطاع ،بأسلوب حواري وقالب تمثيلي .يقول ":فإن قال قائل :كيف يكون التصريع
وغيره من األصناف التي أشرتم إليها حسنا إذا قل ،وان كثر لم يكن حسنا؟ قيل له :هذا غير
1
عمان ،ط4006 ،5.م ،ص.555 .
ابن سنان اخلفاجي :سر الفصاحة ،حتقيق :داود غطاشة الشوابكة ،دار الفكرّ ،
237
مستنكر وال مستطرف ،وله أشباه كثيرة ،فإن الخا َل يحسن في بعض الوجوه ،ولو كان في
ذلك الوجه عدة ِخيالن لكان قبيحا [ ]...والعلة فيه أنه إنما كان حسنا باإلضافة إلى غيره".1
معنى هذا أن الدعوة إلى التقليل من التصريع ،هدفها المحافظة على الخصيصة
وخلو غالب األبيات منها ،أما كثرة الموسيقية للتصريع ،التي إنما تبرزها كقيمة متميزة ُندرتُها ُ
عب ُر عنه في الدرس األسلوبيتواردها فإنها خليقة بإذهاب رونقها وطمس بريقها ،وذلك ما ُي َّ
الحديث بـ " التشبع " " " La Saturationوالتي فحواها أن " الخاصية األسلوبية هي بمثابة
المادة المنحلة ،والنص بمثابة السائل ،فإذا تكررت السمة األسلوبية باطراد تشبع النص فلم
يعد يطيق إبرازها كعالمة مميزة .2" ...
ُ
وترتب على عدم تفريق البديعيين بين المفهومين تقليلهم من قيمة التصريع الفنية،
والتشكيك في ميزته البديعية .حتى لتُشتم رائحة اإلكراه والقسر عند بعضهم وهو يخصص له
فع َل ابن حجة الحموي الذي يقول بعد تعريفه السابق للتصريع ،والتمثيل
حي از في بديعياتهْ ،
له ...":وعلى كل تقدير ،ليس في نوع التصريع كبير أمر حتى ُيعد من أنواع البديع ،ولكن
القوم كلما تغالوا في الرخص رغبوا في الكثرة ".3
ولكن إذا أخذنا بقاعدة االنحراف أو العدول عن المألوف ،التي يؤسس األسلوبيون
عليها تمييزهم للعبارة الفنية أو الشعرية من المألوف منها ،كان التصريع (بشروط
العروضيين) ذا قيمة فنية بديعية .بما أن التفعيلة التي في آخر الصدر تُتجاوز بها دائرة
االستعمال النمطي ،عند تغييرها بالزيادة أو النقصان.
وتبقى اإلشارة إلى الحالة المعاكسة ،وهي خلو المطلع من التصريع .ففي مطلع إحدى
روائع أبي نواس نجد قوله:
4
بِهَا أَثٌَر ِم ْنهُ ْم َج ِد ٌ
يد َوَد ِار ُس َّ
وها َوأ َْدلَ ُجوا َوَد ِار َن َد َ
امى َعطلُ َ
238
فنالحظ أن غياب التصريع ال يحمل على الشعور بابتداء قصيدة جديدة ،كأنه يصل
هذه المقطعة بما قبلها ،مريدا البقاء في حلقة مفرغة من حالة السكر ،ال ُيدرى أين طرفاها:
1
الغ ْنم إال أن ُيتَ ْعتِ َعنِي ُّ
الس ْك ُر َو َما ُ صاحيا
ً اني
أن تر َ
الغ ْب ُن إال ْ
فَ َما َ
واسقاط التصريع في مطلع القصيدة ،وما يثيره من إحساس بارتباطها بالنص السابق،
فكرة تشجع على التساؤل عن مدى ما كان سيصل إليه األمر لو استمرت محاوالت التحلل
منه وتغييبه ،وتنامت جيال بعد جيل حتى تستحيل ظاهرة قائمة بنفسها .أكنا سنصل – مثال
– إلى توجه النقد العربي القديم إلى البحث عن وحدة أشمل وأوسع دائرة من وحدة الموضوع
في القصيدة الواحدة ،إلى ما ُيسمى " وحدة الديوان "؟ ،السيما عند الشعراء المعروفين بدوران
قصائدهم على محور نفسي أو مزاجي واحد كشعراء الخمريات والتصوف والزهد.
ففي مجال الدراسات القرآنيةُ ،وجد من العلماء والدارسين من أجال فكره وأعمل اجتهاده
في موضوع ترتيب سور القرآن الكريم .وهو ما أدى إلى محاولة الوقوف على أسرار االرتباط
بين السابق من بعض السور والالحق منها ،والى نكتة دقيقة جدا لها شبه بمسألة ترك
التصريع في المطلع ،تتمثل هذه النكتة في ترك البسملة بين سورتي األنفال والتوبة.
فقد ذكر الحافظ جالل الدين السيوطي أن ابن عباس – رضي اهلل عنهما – استشكل
الفصل بين سورة األع ارف من جهة ،وسورتي يونس وهود " وقد كان يظهر في بادئ الرأي :
كل في اشتمالها على قصص األنبياء، أن المناسب إيالء األعراف بيونس وهود ،الشتراك ٍّ
َ
وأنها مكية النزول ،خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال ،وعدوا السابعة يونس
[ ]...ففي فصلها من األعراف بسورتين هما األنفال وبراءة فصل للنظير عن سائر نظائره،
هذا مع قصر سورة األنفال ،بالنسبة إلى األعراف وبراءة ".2
وهو ما دفع ابن عباس إلى أن يسأل الخليفة عثمان بن عفان – رضي اهلل عنه – " ما
حملكم على أن عمدتم إلى األنفال وهي من المثاني .والى براءة وهي من المئين ،ففرقتم
1
السابق ،ص.44 .
2احلافظ جالل الدين السيوطي :أسرار ترتيب القرآن ،دراسة وحتقيق عبد القادر أمحد عطا ،دار بوسالمة ،تونس5953 ،م ،ص.503.
239
ب ينهما ،ولم تكتبوا بينهما سطر بسم اهلل الرحمن الرحيم ،ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال
عثمان :كان رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – ينزل عليه السور ذوات العدد ،فكان إذا
نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب ،فيقول ضعوا هؤالء اآليات في السورة التي يذكر
فيها كذا وكذ ا ،وكانت األنفال من أوائل ما نزل ،وكانت براءة من آخر القرآن نزوال ،وكانت
قصتها شبيهة بقصتها ،فظننت أنها منها ،فقُبض رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – ولم
يبين لنا أنها منها ،فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم اهلل الرحمن
الرحيم".1
وا ًذا يكون ا لمفهوم من هذا التفسير أن ترك البسملة بين السورتين ،عالمة على ترابط
نصي بينهما .يمكن أن يحمل علية عدم الفصل بتصريع المطلع بين السابق من القصائد
والالحق منها.
ويتصل بهذا السياق ما ذهب إليه الزركشي في مناسبة فاتحة السور بخاتمة التي قبلها،
يقول ":ومن أس ارره مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها ،حتى إن منها ما َيظهر تعلقها به
ش﴾ ﴿إليالَ ِ
ف قَُرْي ٍ ول ﴾ [ الفيل ،اآلية ِ ،] 5 لفظا كما قيل فيَ ﴿ :فجعلَهم َكع ٍ
ف مأ ُك ٍ
ص َ َ َ ُْ َ ْ
2
لما ختم سورة النساء آم ار بالتوحيد والعدل بين العباد ،أكد [قريش ،اآلية .] 1وفي الكواشي
العقُوِد﴾[المائدة ،اآلية .3" ]1: ِ
آم ُنوا أَ ْوفُوا بِ ُ ذلك بقولهَ﴿ :يأَ أَُّيهَا الذ َ
ين َ
واذا كان المسدي يرى أن العدول الجزئي لصاحب النص عن ظاهرة أسلوبية بنى
عليها غالب نصه ،كظاهرة السجع مثال ،يصبح هو في نفسه خصيصة أسلوبية ،4فكذلك
ٍ
انتظار للمستمع الذي تعود أن تتلقى أذنه أفق
خلو المطلع من التصريع .لكونه في األصل َ
المطلع مصرعا.
240
ك التصريع صورة مضادة ،تتمثل في مبالغة بعض الشعراء في تصريع وتقابل تر َ
المطلع ،حتى االلتزام بما ال يلزم ،كما في مطلع المية العجم للطُّ َغرائي:
ط ِل
الع َ وح ْليةُ الفَ ْ ِ ِ
ِ ص َانتْنِي َع ِن َ
ضل َزَانتْني لَ َدى َ طل
الخ َ ْي َ
الر ِ
َصالةُ أ
أ َ
فلم يكتف الطغرائي بالتصريع حتى سبق صوت الالم (الروي) بالطاء ،التي كررها في
طرفي التصريع ،ملتزما بما ال يلزم من هذا اللون البديعي .إضافة إلى سبق الطاء بالخاء
والعين وهما من حروف الحلق ،وما توارد من حروف إطباق أخرى في حشو البيت " الصاد"
مرتين ،و"الضاد" مرة واحدة ،كما أنها جميعا من حروف الشدة.
241
المــــوسيـــــقـى الـــداخليــــــة
التشكيل الصوتي وسيلة الستغالل طاقة الصوت الموسيقية ،والتي هي إحدى أكثر
العناصر الفنية فاعلية في بناء جمالية القصيدة .ذلك هو مضمون عبارة الشكالني البولوني
فرانسيزيك سيدلكي التي تتلخص في أن ":التنظيم النمطي للبيت تنظيما محكما ،ينتزع الطبقة
الصوتية للغة من الهمود غير المتشكل الذي هو خاصية الخطاب العادي ".1
على أن من الواجب الحذر من أن يتأدى من هذا ،االعتقاد بقدرة الصوت على إحداث
جمالية شعرية بمعزل عن الداللة .فالشكالنيون أنفسهم رجعوا عن هذه العقيدة " بعد فترة من
اإلعجاب بالتناغم الخالص [ ]...إن البنية المصوتة في لغة ما تدرك [ ]...بوصفها نسقا من
التعارضات الفونيمية تستخدم لتمييز الدالالت اللفظية " ،2فالمحتوى الداللي هو في األخير
مناط الحكم على ما في البنية الصوتية من نسبة فنية صحيحة بينها وبينه.
ويشبه هذا االعتقاد في الخطإ ،أن ُينظر إلى عمل الموسيقى الداخلية معزوال عن عمل
الموسيقى الخارجية .فتلك سذاجة في التصور ،ونظرة تشتيتية مضرة ،إذ األصل أن
الموسيقى تعمل عملها وسط تناغم سمفوني ،وتفاعل وظيفي ،وتناسب موضعي ،ووحدة
عضوية بين مستوييها الداخلي والخارجي .ومن الممكن ببساطة مالحظة ذلك في قول أبي
الطيب:
3
ام
الربا وأ ْنت الغم ُ
ت ُّن ْح ُن ن ْب ُ أ ْين أ ْزم ْعـت أُّيهـذا الهُم ُ
ام
مطلع قصيدة نظمها يمدح بها سيف الدولة وقد عزم على الرحيل عن أنطاكية ،وفيه
تتعانق موسيقى الخفيف مع اإليقاع المتردد من صوت الميم ،الذي يتكرر خمس مرات
(أزمعت ،الهمام ،الغمام) ،تجتمع اثنتان منها في الجزء األخير (فاعالتن):
ام ْو
ت ْلغم ُ ُرب ْى وأ ْنـ ت ْر
ن ْح ُن ن ْب ُ ام ْو
ذ ْلهُم ُ أ ْين أ ْزم ْعـ ت أ ْي ُيه ْا
1فيكتور إبرليخ :الشكالنية الروسي ،ترمجة :الويل حممد ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء-بريوت،ط0222 ،1.م ،ص.47.
2السابق ،ص.47 .
3املتنيب :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،3 .ص.373 .
242
فاعالتن متفعلن فاعالتن فاعالتن فاعالتن متفعلن
كما تتوارد الهمزة أربع مرات :ثالثا بالتواتر في صدور الكلمات الثالث األولى من
الشطر األول " أين ،أزمعت ،أيهذا " ،والمرة الرابعة في الشطر الثاني " أنت " .وتتكرر النون
خمس مرات " :أين ،نحن ،نبت ،أنت " بطريقة معاكسة لتوزيع الهمزة ،إذ تتردد في العجز
أربع مراتِ ،
وترد مرة واحدة في الصدر .وبذلك يتحقق لتفعيالت البيت الست إيقاع منسجم
عن تكرار الصوتين وتبادلهما في طريقة التوزيع والتركيز .ويسترعي األذن هنا أن هذه
األصوات موزعة على نواحي الجهاز الصوتي من أقصاه إلى أدناه :فالهمزة من الحلق،
والنون من الثنيتين واللسان ،والميم من الشفتين.
وقوله:
1
بِأ ْن تُ ْس ِعدا و َّ
الد ْمعُ أ ْشفاهُ سا ِج ُم ْه وفاؤ ُكما كالرْب ِع أ ْشجاه ِ
طاس ُم ْه ُ ُ
تتميز البنية الشعرية في هذا المطلع بموسيقى داخلية ،أبرز قيمها اإليقاع المستفاد من تكرار
الحرفين المهموسين (السين ،والشين) بطريقة تعاقبية في كال الشطرين :الشطر األول
(ش+س) ،والثاني (س +ش +س) .الخطاب هنا للخليلين على طريقة الشعراء قديما في
الخلة رقة باعتبارها صداقة ،يتنزل لها الخطاب إلى مرتبة المناجاة التي
المطالع غالبا ،و ُ
يصلح لها الهمس .كما أن السين حرف صفير والشين صفته التفشي ،والصفير والتفشي هما
الربع المهجور أو الطلل.
صوت الريح التي تخفق في َّ
ويتواصل اإليقاع من الناحية الصرفية مع أفعل التفضيل :أشجاه " و" أشفاه " ،في
الموضع نفسه من البنية العروضية في كل شطر ،إذ هما في محل التفعيلة الثالثة ( فعولن).
وهذا ما لم يتفطن إليه ابن خالويه اللغوي الذي كان ي ُؤم بالط سيف الدولة مع جملة العلماء
واألدباء ،فقد استدرك على أبي الطيب حين إنشاده هذا المطلع ورد عليه قوله " أشفاه " ظنا
منه أنه أراد الفعل الماضي ،2وهو ثالثي مجرد يتعدى بنفسه دون همزة ،فيقال :شفاه .ولو
243
أرهف ابن خالويه سمعه إلى الناحية اإليقاعية بين الشطرين ،القائمة على التناظر الموضعي
بين اللفظين لتفادى ذلك التوهم.
ولما تناوب الحرفان السين والشين المهموسان على حشو البيت ،لم تنته القافية بالروي
مباشرة .بل ختمت بهاء الوصل المهموسة هي كذلك لينتهي البيت بالهمس ،ولم يكن الوزن
ليسمح بها إال ساكنة ،ليكون سكون هاء الوصل – وهو من الموسيقى الخارجية -والهمس
عنصر من الموسيقى الداخلية -عونا على إحداث بنية موسيقية متكاملة.
والمتنبي يستحث رفيقيه على أن ِيفيا بما وعداه به من مساعدة على البكاء بين يدي
أطالل الحبيبة ،وقريب من هذا المعنى ما ورد في مطلع معلقة امرئ القيس ،و هو من القيم
التي حاز بها امرؤ القيس قصب السبق ،وقُدم فيهل على سائر الشعراءُ ،منزال منزلة اإلمام
المتبع فيها.
بيد أن الباقالني لم ُيؤخذ بسحر هذا الحكم النقدي بصياغته اآلسرة ،وتراثيته .فعن له
أن يتعقب الشاعر عائبا عليه ما جعله النقاد مزايا وحسنات ،يقول ":الذين يتعصبون له أو
يدعون محاسن الشعر ،يقولون :هذا من البديع ،ألنه وقف واستوقف ،وبكى واستبكى ،وذكر
العهد والمنزل والحبيب ،وتوجع ،واستوجع ،كله في بيت ،ونحو ذلك [ ]...تأمل أرشدك اهلل،
244
وانظر هداك اهلل أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرا ،وال تقدم به
صانعا .وفي لفظه ومعناه خلل ".1
بعد ذلك يقف الباقالني موقف ناقد النقد ،فيبسط رأيه في أول معاني المطلع مقلبا إياه
ظه ار لبطن .لينتهي إلى أن ذلك المعنى من بيت امرئ القيس إلى المساوئ أقرب منه إلى
المحامد ،وعلة ذلك " أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب ،وذكراه ال تقتضي بكاء الخلِي،
وانما يصح طلب اإلسعاد في مثل هذا ،على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة ُبرحائه،
فأما أن يبكي على حبيب صديقه ،وعشيق رفيقه فأمر محال ".2
واضح أن الباقالني يسلك في تعقبه هذا المعنى على امرئ القيس ،مسلكا تحليليا
يستخدمه اليوم النقاد المقتنعون بإسقاط معطيات علم النفس على الممارسة النقدية .إذ يرى
أن الشاعر قد أبعد وأحال في مطالبته رفيقيه بالبكاء معه ،على طلل حبيب ال يشاركانه
إحساسه به ،وهو من البداهة بمكان في مجال سيكولوجيا الدوافع في علم النفس الحديث.
غير أن هذا – على ما فيه من بريق ظاهر – من الممكن جدا أ ن ُيرد على الباقالني،
بما يقره علم النفس أيضا ،وبما جاءت شواهده في قصص المتَّيمين ،وما حفل به شعرهم
وشعر المتصوفة ،من تلك المواجد التي تأخذ بقلب المحب ونفسه َّ
كل مأخذ فإذا به ِ العذري
يغرق في غرام المحبوب ،واذا به أخي ار ُيسقط نظرته إليه على كل من حوله فيعتقد أن الناس
جميعا يحبون َّ
حبه.
من جهة أخرى لن ُيعجز الناظر أن يالحظ أن الباقالني كان في موقع الموازنة بين
نص بشري هو معلقة امرئ القيس ،ونص إلهي معجز هو القرآن الكريم ،فال غرابة في أن
نجد " ...المؤلف انطلق من نقطة مبدئية استهدفت تحطيم النص الشعري لصالح الخطاب
القرآني ".3
245
بصرف النظر عن ذلك كله ،فالظاهر أن المتنبئ في مطلعه السابق سيكون أقرب إلى
مرضاة الباقالني ،الذي استدرك فصحح معنى امرئ القيس ،بشرط أن يكون طلبه البكاء
"إسعادا " من رفيقيه له ،ورقةً لحاله هو ال لطلل المحبوب.
والحديث عن الهمس وتقنياته وحروفه ذو شجون في نقدنا العربي الحديث ،إذ طالما
رميت القصيدة العربية القديمة بعلو نبرتها الخطابية ،وهو ما يجعلها قريبة من الخطبة ،بعيدة
عن رقة الشعرية وحنوها .ذلك ما جعل الدكتور محمد مندور يركز على هذا المفهوم ويطوره
ليصبح عنده دعوة فنية جاهر بها في كتابه المؤسِّس " في الميزان الجديد ".
ويعرفه مبينا وظيفته ومصدره بأنه ":إحساس بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك
العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد ،وهذا في الغالب ال يكون من الشاعر عن
1
وعي بما يفعل ،وانما هي غريزته المستنيرة ما تزال به حتى يقع على ما يريد ".
ولكن إذا لم يكن الشعر المهموس هو الخطابة في ضجيجها وصخب نبرتها ،فليس
هو أيضا الضعف ،يقول ":الهمس في الشعر ليس معناه الضعف ،فالشاعر القوي هو الذي
يهمس فتحس صوته خارجا من أعماق نفسه في نغمات حارة ،ولكنه غير الخطابة التي
تغلب على شعرنا فتفسده .2" ...
ولسنا نرى حاجة إلى نفي الضعف عن الشعر أو الفن عموما ،فما أكثر ما كان
الضعف البشري مادة صالحة في صناعة الفن ،وأداة فعالة في كشف خبايا النفس البشرية.
بل إن أنبل أغراض الشعر وأحرها وأصدقها كان منشؤه الضعف كالرثاء والغزل.
غير أنه ال مناص من موافقته كل الموافقة في توكيد فنية شعر الهمس ،وأنه يجب أال
ُي فهم أنه كأل مباح ألدعياء الشعر ،والمتسترين باالرتجالية والمجانية على ضعف صناعتهم
1حممد مندور :يف امليزان اجلديد ،دار هنضة مصر ،القاهرة0227 ،م ،ص.33.
2السابق ،املوضع نفسه.
246
الشعرية ،فـ"...الهمس ليس معناه االرتجال فيتغنى الطبع في غير جهد وال إحكام
صناعة.1"...،
ومع كل ما قيل عن شعرنا القديم ،فهو لم يعدم شعرية الهمس ،فشعر الغزل غالبا،
والزهديات وشعر التصوف طافح بهذه الروح ،وللبحتري سينيته الذائعة التي مطلعها
3
س وترفَّ ْع ُ
ت ع ْن جدا ُك ِّل ِج ْب ِ ت ن ْف ِسي ع َّما ُيدِّن ُس ن ْف ِسي
ص ْن ُ
ُ
وبهذه الروح استطاع الشاعر أن يتخلص " ...من تلك اللهجة الخطابية التي سيطرت
على قصائده ،بما فيها من جلبة وضجيج ،حتى تحول عنده إلى همس حزين يبثه من خالل
الشكوى ،ويبوح بها بهذه الصراحة لعله يتخفف من بعض آالمها وتداعياتها الثقيلة ".4
لقد اجتمع في المطلع من حروف الهمس :الصاد ،والتاء ،والفاء ،والسين ،وتكررت
الفاء ثالث مرات ،والسين أربع مرات.
وفي دراسة أسلوبية قيمة لهذه السينية أشار محمد الهادي الطرابلسي إلى الصفير الذي
هو مبدأ المطلع ومنتهاه " ،فمنه كان البدء واليه كان االنتهاء ،وقد سمعناه في حشو الصدر
247
أيضا ،1" ...وهو صفة تعاون عليها مع صوت السين المكرر صوت الصاد في أول
الصدر ،والصاد حرف إطباق يكسب الصفير غلظة ،في حين كان السين حرف انفتاح
يضفي على الصفير رقة وعذوبة ،فاجتمعت بذلك للصفير الطبقتان الغالظة والرقة.
والمالحظ أن الشاعر جنح إلى اإلظهار في موضع اإلضمار في قوله ":نفسي " إذ
كان األصل النحوي أن يقول ":عما يدنسها" لتقدم ذكرها مظهرة قبل ذلك .وانما فعل ذلك
إمعانا في تكرير صوت السين ،زيادة على طلب التصريع.
حشد الشاعر كل هذه القيم الموسيقية والنفسية في هذا المطلع ،فكان ذلك إعالنا
مطلعيا بما بعد هذه البداية من جمالية شعرية ،استطاع الشاعر أن ينميها ويوزعها على
أبيات قصيدته من أولها حتى آخرها.
وألبي العتاهية مبادئ يهمس فيها بالتحية ألهل القبور ،بما يناسب هدوء تلك المساكن
الموحشة كقوله:
2
كأَّنهُم ل ْم ي ْجلِ ُسوا ِفي المجالِ ِ
س الدو ِار ِ
س الم على أ ْه ِل القُُب ِ
ور َّ س ٌ
ُ
وابن الرومي مشهود له بالبراعة في الهمس للعينين ،وتحضيضهما على بذل الدموع
بمطالع يعزف فيها ألحانا شجية ،ذات أصوات معبرة ،وهو الشاعر اليائس السوداوي ،والقانط
المتشائم ،واألب الثاكل .وله في هذا داليته الحزينة التي صدرها بمطلع يذكر بمطالع
الخنساء ،يقول:
3
ف ُجودا فق ْد أ ْودى ن ِظ ُيرُكما ِع ْن ِدي اؤ ُكما ي ْش ِفي وِا ْن كان ال ُي ْج ِدي
ُبك ُ
بيت تشيع من صوت الكاف فيه حشرجةُ الموت ،وصدى نشيج ،وبحة بكاء.
وقد يهمس الشاعر العباسي في مطالع قصائد تنتمي إلى أغراض شعرية تتطلب
الحركية والصوت والجهد ،كابن الرومي القائل في مطلع إحدى طردياته:
1حممد اهلادي الطرابلسي :حتاليل أسلوبية ،عامل الكتاب ،تونس0223 ،م ،ص.77.
2أبو العتاهية :الديوان مصدر سابق ،ص.193 .
3
ابن الرومي :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،2.ص.141 .
248
1
اب فوَّدعا زم ًانا طوى شرخ َّ
الشب ِ
ْ بك ْيت فل ْم تتْ ُر ْك لِع ْينِك م ْدمعا
العين والشين والخاء أصوات ذات موسيقى جنائزية ،يشيع منها البكاء والنشيج .وليس
هذا اإلحساس محتاجا إلى تصدير المطلع بلفظ " :بكيت " الناطق بذلك.
وفي القصيدة مشهد للشمس وهي تغرب ،طافح باألسى ،يشبه مشهد المناحة .الشمس
فيه ليست في حال غروب ،بل في حال احتضار ،و ُّ
النوار المائل نحوها ُع َّود يزورنها زيارة
اآليس المودع:
2
ق الغ ْربِ ِّي وْر ًسا ُمذ ْعذعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
على األُفُ ِ صِ
يل ونفَّضـ ـ ـ ـ ـ ْ ت شمس األ ِ
ـت إذا رَّنق ْ ْ ُ
وش َّول ب ِاقي ُع ْم ِرها فتش ْعشع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا الد ْنيا لِت ْق ِ
ضي ن ْحبه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ووَّدع ِت ُّ
لقد مهد الشاعر لهذا المشهد بمقدمة بكى فيها شبابه المتصرم ،وما كان يقضيه من
لهو مع أقرانه ،وفي هذا الجمع بين البكائيات والطرديات يلوح سؤال عن مدى تأثير ذلك
الجمع بين األغراض المختلفة في أسلوبية القصيدة ،ومدى قدرة الشاعر ومهارته في اختيار
المفردات والتراكيب المالئمة لكل غرض ،مع االحتفاظ بوحدة االنطباع التي يمكن أن يخرج
بها المتلقي .أو على األقل االنسجام بين أبنية اللغة المستعملة في معمار القصيدة ،حتى ال
يخرج القارئ برؤية مشوشة واحساس ضبابي بما يريد الشاعر اإلفضاء به.
249
سؤال تتفرع عنه عمليا أسئلة أخرى مثل :أي أغراض تلك القصيدة ستُكتب له الغلبة
في ترك بصمته األسلوبية في نفس القارئ وذهنه؟ ،أهو الغرض الذي كان من حظه المطلع
ومقدمة القصيدة ،فاستمد أحقية الغلبة من طرقه باب المتلقي أوال ،أم الغرض الذي كان
خاتمة القصيدة ،فاستمد تلك األحقية من كونه آخر ما علِق بالنفس والوجدان؟ .أم إن
الشاعر المفلق الموهوب هو الذي يستطيع أن يمزج مكونات القصيدة الغرضية كلها في
سيرورة وجدانية واحدة ،وبنية أسلوبية متجانسة ،غير تارك حدودا بينها ،منتظ ار أن تقع
قصيدته على مستمع في عبقريته يمتلك شعرية التلقي ،فيخرج من قراءته القصيدة بنظرة
شاملة موحدة ،بعيدا عن النظرة التشتيتية المتأتية من قراءة السطح الظاهر؟.
إننا هنا في مجال الحديث عما يمكن أن نسميه " أسلوبية الغرض الشعري " ،فمما ال
شك فيه أن الغرض الشعري يشكل " أحد مكونات الشعر العربي سواء بوصفه (موضوعا)
يعالجه الشاعر ،أو(شكال أدبيا) له تقاليده ومقوماته األسلوبية .والغرض الشعري بهذا المعنى
ذو تأثير واضح في الصياغة اللغوية .1" ...
والجدير بالذكر أن النقد العربي القديم لم ُيغفل أثر الغرض الشعري في التشكيل اللغوي
واألسلوبي للقصيدة عموما وللمطلع خصوصا ،فليس الغرض الشعري مجرد موضوع أو نوع
معزول عن إطاره الشكلي ،بل هو فاعلية شعرية تؤثر في الصياغة اللغوية ،وتفرض
ملتزما بمقومات فنية قارة.
ً خصوصية أسلوبية تنتهي إلى أن تصبح تقليدا
فالرثاء مثال له تقاليده األسلوبية وأعرافه البالغية التي تميزه عن المدح أو الهجاء،
وبعبارة أخرى تقدم األغراض الشعرية للشاعر قائمة بمجموعة من االختيارات األسلوبية التي
ركنا أصيال من أركان الشعر بحيث التحدد لكل غرض بنيته اللغوية الخاصة .وهي تقوم ً
تتوفر في األجناس النثرية ،لذلك كان الغرض الشعري هدفا مفضال عند النقاد والبالغيين
العرب ،في محاولة استجالء القيم النوعية لكل غرض شعري ،بما في ذلك المطلع ،بل إن
هذه المسألة فيه آكد وألزم .
1حممد مشبال :البالغة ومقولة اجلنس األديب ،جملة عامل الفكر ،مرجع سابق .ص.72.
250
وال تقل الناحية المضمونية (الموضوع) عن الناحية الشكلية ،في القدرة على منح
الغرض الشعري سلطة التوجيه األسلوبي في القصيدة ،فإذا" ...تجاوزنا عما يفرضه الغرض
أحضرنا الغرض
الشعري باعتباره (شكال أدبيا) من سمات أسلوبية ضبطها القدماء[ ]...و ْ
بوصفه موضوعا ،فإننا نجد لموضوعات الشعر العربي تأثي ار في الصياغة اللغوية
المختارة.1" ...
وأسلوبية الغرض الشعري هذه تصلح محتكما ُيفزع إليه ضد مماحكات النقاد
وتشقيقاتهم ،أولئك النقاد الذين يأخذهم التمحل والتقحم أحيانا كل مأخذ ،ويحملهم على تعقب
أبيات من قصائد في أغراض عريقة استقلت بكيانها الموضوعي واألسلوبي ،مثل الرثاء
والغزل ،ومع ذلك غيبوا هذا المقياس ،الفني وذهبوا يعيبونها على الشعراء تحكيما لتواضعات
اجتماعية أو مقررات خلقية بعيدة عن الفن والحس الشعري.
فقد روى أبو القاسم اآلمدي أن مما عيب على أبي تمام قوله في الرثاء:
فليس لِعين ل ْم ي ِف ْ ب وْلي ْفد ِح األ ِم ُر كذا ف ْلي ِج َّل الخ ْ
2
اؤها ُع ْذ ُر
ضمُ طُ
وذلك ألن ظاهر اللفظ يوهم أن الشاعر يتمنى أن يعظم الخطب على المصابين ،ويشتد ما
بهم من بالء .وليس هذا الرأي إال فضل تمحل ال ُينظر فيه إلى أنه رثاء ،ومن طبيعة لغة
هذا الفن وأسلوبه المبالغة في التفجع واإلشارة إلى ِعظم المصيبة ،وما يتبع ذلك من استدرار
الدمع ومطالبة العين بأال تستبقي شيئا منه ألحد بعد الفقيد.
فأسلوب األمر في المطلع ،يمكن أن يؤخذ على أنه إنشاء وضع موضع الخبر
وقبل أبي تمام أبدع الشعراء العرب في البكائيات،
الواصف للحدث غير المتضمن للتمنيْ .
والمبالغة في تعظيم الرزء ،ونداء العينين واستحثاثهما على ذرف الدموع الغزيرة ،وعلى رأسهم
الخنساء في مطالعها ومقدمات قصائدها المعروفة ،ومثله في هذا أبو فراس الحمداني القائل:
ِ1 ِ
التعنيف والفند المصاب ِ
عن جل ُ
َّ بالح ْزِن ال أُوصيك بالجل ِد
أُوصيك ُ
251
لذلك لم ير اآلمدي ما يعاب هنا على أبي تمام.2
وكما تقترب أسلوبية الغزل من أسلوبية الرثاء والتفجع في أشياء كثيرة ،تقترب منها في
طابع المأساوية هذا ،وفي تمني زيادة الجوى واللوعة كما في قول المتنبي:
252
والواو والهاء كذلك صوتان هوائيان ،والتوجع واالندهاش احتقان داخلي في النفس أو
القلبُ ،يحتاج معه إلى التنفيس واالنطالق والهواء ضرورة ملحة لذلك ،وهو الوسط المالئم
له .وليس بعيدا عن هذا البيت في دالالته قوله:
1
وم ْن بِ ِج ْس ِمي وحالِي ِع ْندهُ سق ُم وا ح َّـر ق ْلـباهُ ِم َّم ْن ق ْل ُـبهُ شبِ ُم
مطلع إحدى الروائع التي تظلم فيها المتنبي من سيف الدولة ،وشكا إليه فيها ما يحس
به من حيف وتهاون بمنزلته.
أول هذا المطلع حرف الندبة " وا " وهو حرف شفوي هوائي ،والشفة من أشد أعضاء
اإلنسان حساسية ،وقد كان المتنبي في هذه القصيدة في أقصى درجات توقد اإلحساس:
اإلحساس بجفاء األمير ،وكيد الحساد والوشاة الذين أوقعوا بينهما ،وأما هوائية الصوت فال
شك أن الشاعر كان في أشد الحاجة إلى هواء يبرد به حر قلبه الذي يشكوه ،وهذا ما تعينه
عليه األلف التي وصلها بالقلب "قلباه" أي ألف الندبة ،وهي حرف هوائي أيضا .واألصل "
قلبي" بياء المتكلم أو ياء الشخص كما يسميها بعض النحويين ،لكنها حذفت ،وتعليل ذلك
في النحو التقليدي التقاء الساكنين (سكونها وسكون ألف الندبة) ،لكن يمكن أن يكون ذلك
إشارة إلى ذوبان شخص المتكلم الذي تعبر عنه تلك الياء تحت لهب حر الفؤاد ،وهذا ما
يناسبه سقم جسمه في عجز البيت ،وما السقم إال نار تأكل الجسم.
وصحيح أن " وا " حرف ثنائي للندبة لكن أول جزئيه " الواو " يذكر بأشهر واو في
النحو العربي أي واو عطف النسق ،هذه اللفتة توحي بأن الشاعر إنما ينسق كالمه أو
يعطفه على كالم آخر غير ُمص َّرح به ،مدلول بغير دال ملفوظ لكنه مرموز إليه ،فما في
ُّ
يصب فيها ألمه وعتابه ،بل قلب المتنبي المحترق أكثر من أن تحصره هذه القصيدة التي
اللغة نفسها تقف عاجزة إزاء ذلك.
تأتي بعد ذلك هاء السكت المتصلة بقلب الشاعر " :قلباه " هذه الهاء حقها أن تكون
في الوقف ،ويلزمها لذلك السكون .لكنه جاء بها هنا في الوصل وهو من الضرورات
253
الشعرية ،من أجل ذلك حركها ،وله في تحريكها خياران :إما تحريكها بالكسر الذي هو
األصل في تحريك الساكن ،واما تحريكها بالضم على التشبيه بهاء الضمير.1
وهذا الذي مال إليه الشاعر ،وذاك يتضمن مقاربة داللية طريفة ،فالمتنبي كما تبين
يشعر بحر أذاب شخصه ،والذوبان غياب ف ْلتُشبه – تبعا لذلك -هذه الهاء هاء الغائب.
قلبهُ " بعد ذلك :أي قلب األمير
فضال عن المقاربة الصوتية بينها وبين الهاء في قوله " ُ
الذي تغير عنه لسعاية الوشاة ،فغاب هو أيضا غياب محبة وعهد.
سبقت اإلشارة إلى أن هذه الهاء تكون في الوقف أي في آخر الكالم ،لكنه أتى بها في
الوصل ،فهو ال يريد لما كان بينه وبين ممدوحه من سابق ألفة واتصال أن يقف .الوقف
نفسه يجب أن يتحول إلى وصل ،بل إن حياة المتنبي كلها تواصل ُمطَّـرد ،وكل ما يظهر أنه
موقف منها يتحول إلى وصالت أو منعطفات.
والعالقات بين الوحدات الدالة ترتكز على الضدية بين " الحر والشبم بمعنى البارد،
والقلب والجسم " ،القلب بوصفه مستودع المشاعر والروحانيات والجسم بوصفه الهيكل
المادي الواقع تحت الحواس " الحر +البرد " = االستحالة والعدم ،وهي الحالة التي يشعر
المتنبي أنه صار إليها بعد جفوة سيف الدولة ،أما القلب والجسم فهي حالة الغياب
والحضور :غياب القلب الذائب تحت الحر الذي غابت معه ياء المتكلم وحضور الجسم
فقط ،بيد أنه الجسم المحطم تحت ثقل السقم والهم ،لذلك ال بأس بإضافته إلى الياء التي
حضرت اآلن حضور الذات المشتكية المتألمة.
وهذا المطلع خال من األفعال خلوا فسح المجال واسعا أمام األسماء " حر ،قلب ،من،
شبم ،جسمي "...التي تحمل الداللة على استقرار الحدث :استقرار الحر في قلب الشاعر
والبرودة والجفاء في قلب األمير الجافي ،واستقرار المرض في الجسم المنهك .وهي موزعة
توزيعا نسقيا عادال :خمسة في الصدر "حر ،قلباه ،من ،قلبه ،شبم" ومثلها في العجز " من،
1اليازجيان :العرف الطيب يف شرح ديوان أيب الطيب ،مرجع سابق ،ج ،0.ص.117.
254
جسمي ،حالي ،عنده ،سقم " .مع تكرار "من" االسم الموصول الدال على األمير ،ليكون
مركز الوحدات األخرى طالما أنه مركز الشكوى واأللم.
والعكس ربما وضع الشاعر العباسي المستمع أمام حشد من األفعال المتالحقة،
المتعاطفة ،تتخللها هاء الوصل الساكنة ،في إيقاع الفت بين الحركة والسكون ،كقول بشار
بن برد:
حشد الشاعر ستة أفعال :ثالثة في الصدر ومثلها في العجز ،وهو ما أضفى على
البيت حركية وديناميكية متعادلة القوى بين المصراعين ،لتنتهي تلك الحركية بهاء الوصل
الساكنة فجأة في الصدر ،وتستأنف الحركة عنفوانها من جديد في العجز بثالثة أفعال أيضا،
فتوقفها الهاء تارة أخرى .إيقاع يصنعه التناوب بين الحركة والسكون :حركة فسكون فحركة
فسكون.
كما يرد ما يشبه هذا اإليقاع بالتوزيع المتناسب بين الصدر والعجز ،ولكن بين عناصر
نحوية مختلفة في البناء منها المركب ومنها المفرد ،مثاله قول المتنبي:
2
حب ما ل ْم ي ْبق ِمِّني وما ب ِقي
ولِ ْل ِّ لِع ْين ْي ِك ما ي ْلقى الفُؤاد وما ل ِقي
المركب اإلضافي" عينيك " يتموضع أوال في صدر المطلع ،ويقابله المركب من الجار
ومجروره " للحب " في أول العجز ،وبالمثل االسم المفرد الموصول " ما " حيث يحتالن
المرتبة الثانية من الشطرين ،ثم تتواتر األفعال " يلقى ،يبق "ِ " ،لقيِ ،بقي " بالتناظر في
المصراعين كذلك ،والمالحظ أنه لما كانت ألف " يلقى " محذوفة صوتيا (في النطق) بسبب
التقاء الساكنين ،ولم يكن هذا االلتقاء واردا مع ( يبقى ) لتحرك ما بعده ،جيء بالفعل الحقا
فحذفت األلف من الفعل عالمة على الجزم به ،فتساوى الفعالن في األداء
لحرف الجزم "ل ْم"ُ ،
الصوتي كما تساويا في الموقع.
1بشار بن برد :الديوان ،حتقيق :حممد الطاهر بن عاشور ،دار سحنون ،تونس /دار السالم ،القاهرة ،ط0227 ،1.م ،ج ،1.ص.303.
2املتنيب ،الديوان ،مصدر سابق ،ج ،0.ص.323 .
255
وهذا االنصراف إلى الموازنة مالحظ كذلك في الجار والمجرور " للحب " ،فلما كان
مقابله في الصدر " :عينيك " مضافا وهو ليس كذلكُ ،عوض عن ذلك بإدخال األلف والالم
التي هي هنا النظير والمقابل لإلضافة .هذا النسق والمعادلة في الترتيب والتوزيع تشير إلى
العناية الدقيقة التي تميز بها المتنبي غالبا -ومثله غالب الشعراء العباسيين -في هندسة
خصوصا ،هندسة لغوية تكاد تكون سمة مميزة لفنه.
ً عموما ومطالعه
ً أبياته
وفي سبيل تحقيق نغم موسيقي ،يكون نقل الحركات وابدال الحروف كما في قول
البحتري:
1
يج ْد ِ ف ِفي ِ
ُم ْخلِ ٌ
ال فل ْم ُ
ص ًسيل و ْ الذي وع ْد
ياء. ِ
إذ األصل " ُسئل " فنقلت الكسرة من الهمزة إلى السين ،وأُبدلت الهمزة بعد تسكينها ً
وللتكرار نصيبه في إحداث اإليقاع ،بل هو أحد أشهر وسائله استخداما وقدرة على
التأثير في األذن ،وايحاء باألجواء النفسية المخيمة على الشاعر وموقفه .فالمتنبي وهو
يقول:
يعزف لحنا يشيع منه اإلحساس بالتشوش والقلق ،الذي يناسبه تكرار صوت القاف على
المستوى الكلمي في " أرق " ،والحرفي حين تتناوب وتتردد مع صوت الراء في " تترقرق ".
غير أن يوسف البديعي لم يرقه ابتداء المتنبي مخاطبة ملِك بمثل هذا المطلع ،وما فيه
من أصوات ،وعلق على ذلك بقوله ":وهو ُبرْقية العقرب أشبه منه بافتتاح كالم في مخاطبة
ملك .3" ...وربما كان هذا الرأي صحيحا استنادا إلى أدب مخاطبة الملوك ،لكن ال غبار
علي حسن الموسيقى المترتبة على التكرار الكلِمي في " أرق " ،والصوتي المتأتي من صوت
" القاف " ،والتناوب في النطق بين الراء والقاف في " تترقرق ".
256
على أنه ال بد من اإلقرار بأن الشعراء العباسيين يهجمون على المستمع أحيانا
بمطالع ،يحار الناظر في تراكيب ألفاظها ،وغرابة جرسها ،وخشونة موسيقاها ،ويعييه األمر
وهو يحتال لتبرير ذلك السلوك فنيا ،ويضيق ذرعه بالتأويالت ،السيما إذا كان ذلك في
ِ
وحذره من المزالق ،فما الذي يدفع أبا تمام مثال المطالع التي تكون موضع عناية الشاعر
إلى أن يلفق بعض األصوات يصنع بها مطلعا يقول فيه:
1
ك ْم ت ْع ِذلُون وأ ْنتُ ُم ُسجرائي الغلو ِ
اء ق ْدك اتَّ ْ
ئب أربيت في ُ
وقد ال يكون االنطباع الذي يتركه هذا المطلع من حيث موسيقى األصوات ،أفضل من
االنطباع الذي تركه بيت ديك الجن الذي عابه عليه دعبل ،من حيث المعاظلة في ألفاظه
والغموض في إحاالته ،2فالحيثيتان مختلفتان ولكن االنطباع واحد وهو الشعور باالستغراب
"وزاد هذه األلفاظ هجنة أنها ابتداء قصيدة ".3
وربما جاءت رواية أسرفت " بدل " أربيت " في غير الديوان ،4محاولة للتقليل من
نشاز هذه الموسيقى ،السيما وأن أشد األلفاظ نبوا ونشو از في الحس الموسيقي وهما " قدك
واتئب " يقعان في وحدة نغمية أو تفعيلة واحدة ،تقع هي أيضا في مستهل المطلع ،فلو أنه
اء كفيال بأن يفثأ من حدة ذلك
حيل بينهما ،بتشتيتهما على مختلف الوحدات ،لكان ذلك إجر ً
التنافر والقرقعة الصادمة لألذن ،وقد يكون من جهة أخرى وسيلة إلساغة ما بقي من تركيب
موسيقي في البيت على صعوبة .ثم هل كان أبو تمام يعجز عن أن يستبدل بـ " سجرائي "
جلسائي ،أو خلطائي القريبتين منها في الحقل الداللي؟ .ربما يدخل هذا في جرأة الشاعر
العباسي على محاوالت التجريب في الموسيقى الداخلية ،والبحث عن فتح آفاق نغمية جديدة
لألذن الشعرية.
257
البديـــــــــــــــــــــــع
يسهم البديع في إثراء بنية الموسيقى الداخلية ،واحداث إيقاعات تَلَ ُّذها األسماع،
وتستريح إليها النفوس .تستوي في ذلك المحسنات اللفظية وما لها من سحر على األذن
مباشرة ،والمحسنات المعنوية وما لها من إيقاع يتجاوز السطوح فينفذ األلفاظَ وصوال إلى ما
تحتويه من معان وأفكار تتداعى إلى الذهن ،وتتوارد في النفس بأواصر من التطابقات
عمق اإلحساس بالمشاعر في النص ،ويلقي بإيحاءاته
رجعا موسيقيا ُي ّ
والتقابالت ،محدثة ْ
وظالله عند قراءته.
غير أنه لم يستهدف عنصر من عناصر هذه الموسيقى في تاريخ البالغة العربية
لتعمل ،وهو ما ترتب
أس ما ُرمي به التكلف وا ّ
لحمالت التشويه كما استهدف البديع .وكان ر َ
عليه تزييف قيمته الفنية ،واتهام الجانحين إليه بالعجز الفكري الذي يلجأ صاحبه إلى تمويهه
بالطالء الخارجي ،وتغطيته بزخرف من القول.
كما أن من أولئك مثقفين عربا ،أُشربوا في نفوسهم ثقافة الغرب ولم يبالوا أن يعلنوا
وتنكرهم للموروث الثقافي العربي ومنه الموروث البالغي.
َ صراحة إعجابهم بتوجهاته المريبة،
غير
وفي أحسن األحوال نجد قوما من هؤالء العرب يرددون تلك األطروحات بحسن نيةَ ،
واقفين على مراميها الدعائية ومحتوياتها اإليديولوجية.
والحق أن الدارس للنصوص األدبية – ًّأيا يكن هذا الدارس ،ومهما تكن نوازعه ،-إذا
نظر في النص نظرة تفريقية ،مصابة بذلك الداء العياء المتمثل في تحويل القراءة ِ
مجز ار
ُيسلخ فيه شكل النص عن مضمونه ،وتُدق فيه األسافين بين اللغة ومحتواها ،ال بد أن
المبتسر ،والذي يكون الشكل عموما
بادي الرأي – إلى ذلك الحكم المتعسف و َ
َ سيصل –
والبديع خصوصا ضحيته األولى.
259
الدارس الناظر في دعوى شكالنية البديع وعبثيته ،إال أن يتساءل :أي
َ إنه ال يسع
عبثية دفعت بالمذهب البديعي في العصر العباسي إلى التنامي ،حتى بات يتوخاه المنشئون
فيغربون فيه
فيتولد منه فن أصيل قائم بنفسه في النثر كالمقامة .ويعمد إليه الشعراء ُ
ويبدعون ،وال يتورعون عن أن يحشدوا في البيت الواحد منه أنواعا وأشكاال؟ .ليست العبثية
قادرة على تفسير ظاهرة فنية انتشرت هذا االنتشار مع المحدثين والمولدين في ذلك العصر.
إنه تفسير سطحي س اذج ليس له أي حظ من اإلقناع ،وأولى منه وأقرب إلى القبول،
الذهاب إلى أن ذلك النمط في النظم واإلنشاء إنما هو وليد تحوالت العصر العباسي الثقافية
والفكرية ،والمتغيرات الفنية التي شهدها .والتي منها حديث المفاضالت بين الصناعتين
الكتابة والشعر ،وتعصب كل فريق لفن دون آخر ،ومنها حوار األجناس واألنواع ،ومحاولة
تقربه من الشعر
النثر اكتساح مساحة أكبر ،وما قد يتطلبه ذلك من توسله بوسائل شعرية ّ
ِ
الجنس الذي كتبت له الهيمنة على البالغة العربية أحقابا ،ولو مرحليا ريثما يكتسب األنصار
فيستقل بكيانه.
ولقد أتى على الثقافة العربية حين من الدهر ،اتُّخذ الشعر فيه "وسيلة " للتزيد من
المعارف العامة و"وعاء" لها ،ونظر إليه الرواة وعلماء العربية على أنه "معجم" للشواهد
النحوية واللغوية .وهو ما من شأنه أن يوهي حبل الشعرية فيه ،ويساعد على الفصل بين
ظ بعد
المضمون المعرفي المقصود ،والصياغة اللغوية والفنية التي لن يكون لها كبير ح ّ
الظفر بالمطلوب.
التفطن إلى هذا المنزلق الفني ،فأبدى خيبته من طلب علم الشعر
ُ ولم يفت الجاحظَ
عند أصحاب هذا االتجاه ،كاألصمعي الذي وجده ال يحسن من الشعر إال غريبه ،واألخفش
الذي ليس له منه إال إعرُابه ،وأبي عبيدة الذي ال يعنيه منه إال ما تضمن أخبا ار أو أياما أو
أنسابا .فلم يظفر بضالّته إال عند النابهين من طبقة ال ُكتّاب ،كالحسن بن وهب ومحمد بن
عبد الملك الزيات.1
1ابن رشيق :العمدة يف حماسن الشعر وآدابه ونقده ،مصدر سابق ،ج ،2.ص.621 .
260
فلعل ذلك كله حمل الشعراء العباسيين على أن يدافعوا عن صناعتهم وينفوا عنها
َّ
الد َخل ،ويعملوا جاهدين على استصفاء الشعر مما يريده أولئك العلماء والمثقفون المتوسلون
إلحاحهم على اللغة الشعرية ،وما
ُ به إلى غايات غير فنية .فكان من جملة وسائل دفاعهم
تتميز به من جمالية بديعية.
ويؤكد سذاجةَ تلك النظرة الدونية إلى البديع ،وتهافتَها ما توصلت إليه مناهج النقد
صبة على لغة النص ،من نتائج وقناعات قوية لم تعد معها تلك النظرة النمطية
المن ّ
الحديثة ْ
إلى البديع قادرة على الصمود واالستمرار في الحياة .فمع تلك النتائج والقناعات قلّت
البديع لغوا من زخرف القول ،أو طالء خارجيا يش ّكل قيمة
َ األصوات التي يرى أصحابها
الدرس البديعي الحديث
إن ّمضافة إلى المعنى ،وحتى ذلك القليل منها صائر إلى خفوتّ .
تطور التطبيقات البنيوية على
المتأثر باألسلوبيات ،يرفض مثل هذا الطّرح ،خصوصا مع ّ
النصوص ،والعناية بالهيكل اللّغوي وتالشي المسافة المفتعلة بين ال ّشكل والمضمون.
ّ
أن البديع عنصر من صميم البنية اللّغوية ،والوسائل األسلوبية المرِاد بها
ومحصل هذا ّ
مفرقا بين البديع والبيان
محمد أمين ّالدكتور فوزي ّ النص نفسه .يقول ّ
ّ تركيز االهتمام على
في هذه المسألة ":البديع – فيما أرى -حركة معاكسة لحركة البيان ،فالبيان يريد أن يصل
النص نفسه ،فاصال بينه
ّ النص ،بينما يريد البديع أن يحصر القارئ في ّ القارئَ بموضوع
وبين موضوعه ،البديع يتّخذ من اللّغة وسيلة وغاية ،بينما اللّغة في البيان – مهما لفتت إلى
1مجيل عبد اجمليد :البديع بني البالغة العربية واللسانيات النصية :اهليئة املصرية العامة للكتاب ،القاهرة6991 ،م ،ص.7.
261
النص بينما
ّ نفسها -ال تعدو أن تكون وسيلة [ ]...الحركة في البديع حركة متّجهة إلى داخل
هي في البيان حركة متّجهة إلى الخارج ".1
إن البيان بما أنه توضيح للمعنى ،أي محاولة للكشف عن المضمون وايضاحه ،يكون
ارتباطه بذلك المعنى ال بالنص الذي هو فيه ،أي هو وسيلة إليصال المعنى إلى ذهن
تبق حاجة إليه ،بخالف
المستمع ال أكثر .حتى إذا أمكن إيصاله بغير الصور البيانية لم َ
البديع الذي يرتبط بالنص الراهن ،فيصبح بذلك ذا قيمة أنطولوجية لذلك النص ،وركنا شديدا
من أركان النصية.
وإلعادة النظر في قيمة البديع الفنية عائد جمالي ال يمكن إنكاره عموما ،ولها على
الخصوص بالنسبة إلى تاريخ بالغتنا أكبر األثر في إعادة تثمين فنون كاملة ،ارتبط وجودها
وكينونتها بفن البديع .وفي االعتراف بشرعية وجود هذه الفنون ،وحقِّها في إعادة التثمين
والتصنيف ،والبحث عما تتضمنه من قيم جمالية وخصوصية نصية ،ودالالت ثقافية
جنت عليها تلك النظرة وجعلتها مثال لالفتعال والتكلف ،والمقامة
وتاريخية ونفسية ،بعد أن َ
خير مثال شاهد لذلك.
مصنف مخصص للبديع وصل َّ المعتز في مقدمة كتابه " البديع " ِ -
أول ّ أصل ابن
لقد ّ
البديع فرده إلى أسلوب القرآن الكريم ،وكالم الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وكالم
َ إلينا-
المحدثون بدعا في هذا،
َ الصحابة رضي اهلل عنهم ،واألعراب وأشعار المتقدمين .فلم يكن
1فوزي حممد أمني :البديع ودوائر االغرتاب يف أدب مصر اإلسالمية ،ضمن كتاب :يف اللغة واألدب ،تأليف خنبة من األساتذة ،دار الوفاء،
اإلسكندرية2002 ،م ،ص.276.
2السابق ،ص.272.
262
غاية ما لهم من تميز أنه " كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم بهذا االسم فأعرب عنه ودل
عليه .1" ...
وال يفوته -وهو يذكر طائفة من أولئك المحدثين الذاهبين مذهب البديع -أن يخص أحد
أئمة هذا المذهب وهو أبو تمام الذي " ُ ...شعف به حتى غلب عليه وتفرع فيه وأكثر منه
فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض ".2
أسيرها
واذا ُذكر أبو تمام وامامته لهذه الطريقةَ ،مثَلت له عدة أبيات ومطالع ،لعل ْ
وأدلها على القضية قوله:
3
الح ُّد َب ْي َن ال ِج ِّد َواللَّ ِع ِب ِ ِ
في َح ِّده َ اء ِم َن ال ُكتُ ِب
ق أ َْنَب ً
َص َد ُ
فأ ْ
الس َّْي ُ
وفي محاولة منه لتوكيد ذلك الرباط المطلعي بين العلمين المكاني والنسوي ،يظهر
أبوتمام أحيانا حريصا " ...عند ذكره ألسماء المواضع على اشتقاق كلمة أو كلمتين تتجانس
مع هذا الموضع ،أو يشتق التجنيس من اسم المرأة التي يتغزل بها في بدء القصائد ".4
ِ5 علَ ْي ِه وسم ِمن األََّي ِام و ِ
الق ـ ـ ـ َـدم الرْب ِع َم ْن َس ْلمى بِ ِذي َسلَِم
َسلِّ ْم َعلَى َّ
َ َ َ ٌْ َ
والقصيدة الصوفية في غالب تجلياتها األسلوبية ،معمار أقيم صرحه من لبنات بديعية،
فالطباق والمقابلة والتورية ،وكذلك الجناس والسجع وما تؤديه هذه الفنون من دالالت متباينة
من تجاذب ،وتقارب أو تباعد وتنافر ،ومعنى ظاهر وآخر باطن ،ومن تماثالت وتداخالت
لفظية ،وتقاطعات صوتية وغير ذلك ،وسائل مناسبة للقناعات الصوفية .فالجناس خصوصا
التام منه هو التماهي والكينونة الواحدة ،يقول ابن الفارض:
1أبو العباس عبد اهلل بن املعتز :البديع ،حتقيق :حممد عبد املنعم خفاجي ،دار اجليل ،بريوت ،ط ،2.ص.77 .
2السابق ،املوضع نفسه.
3أبو متام :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،6.ص.76 .
4السيد حممد ديب :الغموض يف شعر أيب متام ،مرجع سابق ،ص.16.
5أبو متام ،الديوان ،مصدر سابق ،ج ،2 .ص.677.
6ابن الفارض :الديوان ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،لبنان ،ط2 .ن 2002م ،ص.699 .
263
وللمتضادات من طباق ومقابلة دالالتها الواضحة في الكشف عن المفارقات في
المجتمع العباسي ،وفي نفوس شعراء أوتوا من شفافية النفس وحساسية الشعرية ،ما جعلهم
أكثر قدرة على التعبير عن تلك
عرضة لداء العصر واالغتراب ،وم ّكنهم أن يكونوا َ
المفارقات ،وقياس المسافات الهائلة بينها ،فليس اعتباطا " أن يتأصل المذهب البديعي على
أصل لهذا المذهب – ينشد
يد أبي تمام في القرن الثالث الهجري ،ولم يكن أبو تمام – حين ّ
يعبر عن قلق واغتراب .1" ...
زينة أو حلية ،ولكنه كان ّ
عبروا بوفاء وأمانة عن مأساة الشاعر المسحوق تحت ضغط من أولئك الشعراء الذين ّ
المفارقات والتناقضات في ذلك العصر ،المتنبي القائل في نبرة يملؤها الشك واليأس الوجودي
مر :
المفضي إلى وضع اإلنسان أمام الخيارين الل َذين أحالهما ّ
2
َمانِيـَا
َن َي ُك َّن أ َ
ـايا أ ْ
المَن َ
ب َ َو َح ْس ُ ت َش ِافَيا
الم ْو َ
َن تََرى َ
اء أ ْ َكفَى بِ َ
ك َد ً
1فوزي حممد أمني :البديع ودوائر االغرتاب يف أدب مصر اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.272 .
2املتنيب :الديوان ،مصدر سابق ،ج ،7 .ص.216 .
264
أن " ،في" أن
وكما نالحظ الحضور في المرّكبين الفعليين المسبوقين بحرف المصدر " ْ
الصريح " الرؤية " ،و"الكون .فقد ترى" و"أن َّ
يكن" نالحظ من ورائهما الغائب ،وهو المصدر ّ
تجافى ال ّشاعر عن الوحدة االسمية فيهما إلى المرّكب المصدري من حرف المصدر والفعل
المتضمن
ّ المفيد للحدوث واالنقطاع ،وهو ما يناسب االضطراب والقلق ،على خالف االسم
لالستقرار والثبات.
ركون
ُ وال يمتنع مع هذا الشعور الحاد بالتناقضات ،واللغة الصاخبة التي يفرضها
ِ
ثنائية الطباق األم ،وفي ما يترتب المتنبي إلى سعة الحكمة ونزعة التأمل في الحياة والموت
عليها من ثنائيات أخرى مناسبة لها:
1
جهالً َوال َكفُّهَا ِح ْل َما
ط ُشهَا ْ
فَ َما َب ْ اث َح ْم ًدا وال َذ َّما أال ال أ ُِري ْ
األح َد َ
1املتنيب :الديوان ،بشرح العكربي ،مصدر سابق ،ج ،7 .ص .602 .ويف رواية " :مدحا بدل :محدا".
265
النفس الجامحة والطّامحة التي يحملها المت ّنبي بين
الزمن ،ورفض ك ّل ما ال يستجيب لتلك ّ
وّ
متمي از في شعره ،كما في هذه القصيدة التي وردت في ّ جنبيه ،لذلك كان حضور "ال"
مطلعها ،وفي أثنائها كقوله:
وفي ختامها:
المعبرة عن
ّ وهذا اللون من البديع أداة طيعة بين يدي المتنبي ،يش ّكل منها لغته
مأساته ،التي ال تكمن في المصائب التي نزلت به ،وال قصور يده عن بلوغ مطامحه الجبارة
يب من البيت السابق ودالالت المطابقة والمقابلة
فقط ،وانما في شدة إحساسه بالمأساة .وقر ٌ
فيه قوله:
1
اب فََي ْخفَى بِتَْبـيِ ِ
يض القُ ُـر ِ ِ ُمًنى ُك َّن لِي َّ
ون َشَب ُ اب
ض ُاض خ َ
البَي َ
أن َ
أن لهما
األهم من هذا ّ
المتنبي ،و ّ
ّ للنظر في شعر للسواد والبياض ،حضو ار الفتا ّإن ّ
خاصة عنده تتجاوز اإلشارة التقليدية إلى ال ّشباب والمشيب ،فهو دليل التّناقض الذي
ّ داللة
المتنبي :التّناقض بين ال ّشجاعة والجبن ،والكرم
ّ تُحيل إليه الحياة التي طالما تظلّم منها
والبخل ،والعرب والعجم ،وغير ذلك من األشياء والقيم المتصارعة .ولكن أيضا بين "سيف
266
السواد والبياض حتّى في
الدولة ،وكافور اإلخشيدي" .وهذا التّناقض هو العالقة القائمة بين ّ
ّ
الدولة األبيض،
الممدوحين ،سواد شعره في شبابه كان في فترة لقائه بسيف ّ
َ توزيعهما على
للنقيض دائما.
النقيض المصاحب ّ
وبياض شيبه بعد ذلك كان مع كافور األسود ،إ ًذا هو ّ
وطرف المطابقة الثاني الذي هو السواد ،يمكن استخالصه من لفظ " الشباب " الذي
هو مالزمه عادة ،وهو اإلجراء البديعي الذي يطلق عليه البديعيون " الملحق بالطباق" كما
أشار إلى ذلك ابن حجة " وهو راجع إلى الضدين ،ومثله قوله تعالىِ ﴿:م َّما َخ ِطيئاتِ ِه ُم أ ْ
ُغ ِرقُوا
فَأ ُْد ِخلُوا َن ًارا﴾ [نوح ،اآلية ،]52فالمطابقة بين الغرق ودخول النار ،فإن من دخل النار احترق
واالحتراق ضد الغرق .1" ...
ّ ط ِعَي ْة و
االنتحائية ،والتطرف في اختيار االنتماء ،فال السواد أيضا هي القَ ْ
ثنائية البياض و ّ
بالنسبة إلى الحياة أو الموت:
مجال – في عقيدة ال ّشاعر -للرمادية الواقفة في الوسط ،حتّى ّ
2
الب ُـن ِ
ود ق ُ ط ْع ِن القََنا و َخ ْفـ ِ
َ َب ْي َن َ ت َك ِر ٌ
يم ت َوأ َْن َ ِع ْش َع ِز ًا
يز أ َْو ُم ْ
بعزة وا ّما الموت بكرامة فال منزلة وسطى بينهما ،إضافة إلى هذا يشير
إما العيش ّ
ّ
المتنبي شيئا مثل بغضه،
ّ الزيف ،الذي لم يبغض
البياض إلى الوضوح والظّهور والبعد عن ّ
صبغه وتغييره: فلقد َّ
أحب بياض شعره وكره َ
3
ت َع ْن َش َع ٍر ِفي الو ْج ِه م ْك ُذ ِ
وب. َرِغ ْب ُ ادتِ ِه
ق ِفي قَ ْولِي َو َع َ و ِم ْن َه َوى الص ْ
ِّد ِ
َ َ
وظهور أحد الطرفين وخفاء اآلخر في هذا النوع من الطباق ،يجاوره الخفاء والتجلّي،
فتمني ال ّشاعر لبياض ال ّشيب كان
المحكي في الحاضرّ ،
ّ التمني الماضي
ولكن على سبيل ّ
في الماضي يوم كان شابا قبل حلول المشيب به ،وهذا ما يشير إليه لفظ الفعل الناقص َّ
كن،
التمني الماضي يكون بياض ال ّشعر هو الغائب المستخفي ،ومع غيابه فإنه
ّ وعلى أساس
هو المتجلّي ،إذ هو البياض قرين الوضوح والجالء ،وسواد ال ّشباب – وهو الحاضر وقت
1ابن حجة احلموي :خزانة األدب وغاية األرب ،مصدر سابق ،ج ،2.ص.610 – 629.
2
المتنبي ،الديوان ،مصدر سابق ،ج ،1.ص.151 .
3
السابق ،ج ،1.ص .171 .وفي رواية " في الرأس مكذوب".
267
صرح بذلك المتنبي ال ّشباب ّ ِ األمنية -عنوان الخفاء .فهل ِ
ألنه مظّنة الجهل والسَّفاهة كما ّ ّ كره
بناء على ذلك المشيب لكونه عالمة الوقار والحكمة؟
أحب ً في أبيات وقصائد أخرى ،و ّ
المتنبي نفسه استدرك على هذا التّفسير بقوله:
ّ
1
الش ِ
ان و ِّ ِ ِ الح َداثَةُ َع ْن ِح ْل ٍـم بِ َمانِ َع ٍة
يب وج ُد الح ْل ُم في ال ُشَّب ِ َ
قَ ْد ُي َ َو َما َ
ويوضحه صالح الدين الصفدي فيقول مضفيا عليه تسميات أخرى ... ":واما أن
يكون الجناس قد جمع ركنيه أص ٌل واحد في اللغة ،ثم اختلفا في حركاتهما وسكناتهما ،وهذا
هو (الجناس المقارب) ،ومنهم من يسميه (جناس االشتقاق) ومنهم من يسميه (جناس
االقتضاب) .3" ...
واذا لم يكن لهذا التجنيس كبير قيمة عند البديعيين ،فإن له فائدة في تكرار طرف
المطابقة األول :البياض إمعانا في االحتفاء به ،في مقابل إضمار الطرف الثاني :السواد
إمعانا في احتقاره.
1
السابق ،الموضع نفسه.
2صفي الدين احللي :مصدر سابق ،ص.16.
3صالح الدين الصفدي :جنان اجلناس ،حتقيق مسري حسني حليب ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط ،6917.ص.72.
268
وقد تحمل هذه الضدية في المطابقات والمقابالت إضافة إلى المفارقة ،روح التحدي
واظهار التمرد ،والمجاهرة بالرأي المخالف .ولن يكون شاعر عباسي أظهر عبارة عن هذا
إعالن حرب صريحا على قيم المجتمع،
َ ِ
البادئ بمطالع ليست في النهاية إال من أبي نواس
ودعوة إلى المبارزة:
1
الج ْه ُر ِِ ِ اس ِقنِي َخ ْم ًار َوُق ْل ليِ :ه َي َ
َوال تَ ْسقني س ًّار َمتَى أ َْم َك َن َ الخ ْم ُر أَال فَ ْ
ٍّ
تحد سافر لمجتمع مسلم يشدد النكير على معاقري الخمرَ ،ب ْلهَ المجاهرين بتعاطيها.
ولكنه أبو نواس إمام الداعين إلى حزبها واجاللها ،واحاللها محل الطلل والحبيبة .فالخمر
مر
اسه جميعا .يحكى أن أبا نواس ّ بالنسبة إليه عالم أو كون يجب أن يمأل عليه فكره وحو ّ
يوما على مكتب فسمع صبيا يقول لمعلمه :يا سيدي أتدري ما أراد أبو نواس بقوله :أال
فاسقني خم ار وقل لي هي الخمر .وما الفائدة في ذلك ؟ .فقال له :ال ،فقال الصغير :أراد أن
تكمل له لذة الحواس الخمس فإنه إذا شربها حصلت له حاسة البصر ،واللمس ،والشم،
والذوق ،وذلك مستفاد من قوله :أال فاسقني خم ار وتعطلت حاسة السمع ،فلما قال :وقل لي:
شنف سمعه بوصفها فكملت له الحواس الخمس .فقال أبو نواس للصبي :واهلل هي الخمرّ ،
لقد أفهمتني من شعري ما لم أقصده ".2
ويميل أبو نواس أحيانا إلى اصطناع الهدوء الماكر ،فيجلس ِجلسة المجادل الرصين
ضمن مطابقاته ومقابالته شحنة من المناظرة والحجاج العقلي ،الذي يقلّل
الواثق بالنصر .ف ُي ّ
من جفافه شيء غير قليل من الظرف والتلطف ،ويصوغ عبارته تلك في لغة الحكماء
الناصحين:
3
اء ت ِهي َّ
الد ُ
ِِ ِ ِ َّ
ك لَ ْو ِمي فَِإ َّن الل ْوَم إِ ْغ َر ُ
َوَداوني بالتي َك َان ْ َ اء ع َع ْن َ
َد ْ
والزهديات مجال صالح للطباق والمقابلة ،فليست الرغبة عن الدنيا إال الرغبة في
نقيضتها اآلخرة ،وليس التحذير من االغترار بالحياة إال الدعوة إلى التفكر في الموت ،وما
1أبو نواس :الديوان ،حتقيق :أمحد عبد اجمليد الغزايل ،دار الكتاب العريب ،بريوت ،لبنان ،ط2002 ،6.م ،ص.77 .
الوراق ،لندن ،ط ،2001 ،6.ص.267-261. 2حممد النواجي :حلبة الكميت ،دار ّ
3أبو نواس :الديوان ،مصدر سابق ،ص.21 .
269
التنفير من الشر إال التحبيب في الخير .والنفس اإلنسانية ذاتها عالم من األقطاب المتنافرة
واألهواء المتقابلة ،تتجاذب اإلنسان فيميل حينا هنا وحينا هناك ،يقول أبو العتاهية:
اإلنسانية إ ًذا في مسيرة الحياة تكافح من أجل احتالل الموقع المناسب بين طرفي
النقيض.
ويدخل في هذه الهندسة الموقعية للطباق والمقابلة تناوب أطرافهما على التراتبية فيهما،
في تركيب استداري يستقصي أدق تفصيالت المعنى النهائي ،ويجمع القضية ونقيضها في
قضية موحدة جامعة ،يقول المتنبي:
ِ2
َن َك َسانِي ِفي ُّ
الس ْقِم ُن ْك َس ال ِهالَل الوص ِ
ال ِ ِ
صلَةُ الهَ ْج ِر لي َو َه ْج ُر ِ َ
1أبو العتاهية :الديوان ،دار الكتاب العريب ،بريوت ،لبنان2007 ،م ،ص.69 .
2
الديوان ،مصدر سابق،ج ،1.ص.191 .
270
ووجهت
تأملهم في الحياة والموتّ ،
هذه العقيدة كثي ار ما سيطرت على ال ّشعراء عند ّ
المتنبي نفسه في قصيدة أخرى:
ّ نظرتهم إلى مصير اإلنسان بينهما ،كما يقول
ِ ِ
إِلَى م ْث ِل َما َك َ
ان الفَتَى َم ْر ِجعُ الفَتَى
1
وي ْك ِري َك َما أ َْرَمى.
ود َك َما أُْبدي ُ
َي ُع ُ
مرة
الرجوع إلى الحالة األولى ،فالنكس ما هو إالّ العودة ّ
وعجز البيت أيضا مبني على ّ
أخرى إلى المرض ،والهالل هو مآل البدر في آخر ال ّشهر كما كان هو األصل في ّأوله.
إن النماذج السابقة تؤكد ما سبق من ضرورة إعمال الفكر مرة أخرى في البديع،
وقيمته الفنية ،والنصية ،والبحث في ما يسبقه من دوافع ،وما يصحبه من أثر في الخطاب
والنص ،وما يعكسه من توجه فكري وفني ،ويتضمنه من دالالت تاريخية وحضارية .فال
يكفي أبدا االكتفاء بمقولة التكلف والتصنع ،بل العكس إن من صميم طبيعة الفن الشعري أن
يعمل الشاعر " ...على تجاوز األطر الصياغية المألوفة حتى ال ينزل بخطابه إلى مستوى
التعامل الحياتي للغة ،وهنا تأتي الحاجة إلى اقتناص كل مظاهر الثراء في اللغة ،واصطياد
ما ِ
تحمله من تنوع لتحقيق الهدف الجمالي ".2
وبدهي أن يالحظ – بناء على هذا – أن البنى البديعية هي أكثر البنى قدرة على
َ
التكفل بتحقيق هذا الثراء ،بل هي أول وسيلة تتاح للمبدع وهو يسعى إلى ذلك ،بشرط أن
تكون صادرة عن وحي من قريحته ،واصالة من عبقريته ،ومهارة في الصياغة الفنية .يقول
مبينا في الوقت نفسه سبيل التخلص من التكلف المكشوف،
الدكتور محمد عبد المطلب ّ -
وآلية التعامل معها في سبيل ذلك ": -وأعتقد أن األشكال البديعية هي أكثر الظواهر
1
السابق ،ج ،4.ص.115 .
2حممد عبد املطلب :البالغة العربية قراءة أخرى ،مكتبة لبنان ناشرون ،بريوت-الشركة املصرية العاملية اانشر ،لوجنمان ،مصر ،ط،6979 ،6.
ص67.
271
اللغوية التي يمكن أن تقدم للمبدع هذا الثراء والتنوع ،على أن ُيؤخذ في االعتبار – دائما –
االبتعاد عن التكلف واالعتساف ،على معنى أن تكون األشكال البديعية دعما للقدرة
مكونا أساسيا في البناء الشكلي والمضمون .1" ...
اإلبداعية ،وأن يتم التعامل معها لتكون ّ
اغه في بوتقة واحدة ،واعطاء األسلوب
إن آلية كهذه من شأنها توحيد العمل الفني وافر ُ
هوية ترتفع به عما علق في األذهان من أنه ليس أكثر من لباس خارجي ،وقيمة مضافة إلى
الموضوع .فهي" ما يجعل من األسلوب ظاهرة خارجية وداخلية على صعيد واحد ،حتى
يصعب الفصل بين ما هو أساسي في البنية ،وما هو إضافي تحسيني ،وهو ما يدفع
باألسلوب إلى منطقة األدبية الحقيقية ".2
وال مشاحة في ضرورة تجنب الحالة التي يتشبع فيها النص باأللوان البديعية ،إلى
الدرجة التي تُستهلك معها قيمتها الجمالية فتعجز عن أداء وظيفتها الشعرية في النص .على
أن ذلك متروك للحاسة الفنية عند الشاعر والمتلقي كليهما ،وليس لها مقياس نهائي ،وال
ِحسبة رياضية يجب التقيد بها ،كما ذهب إلى ذلك اآلمدي وهو يتتبع تجنيسا ألبي تمام بقوله
... ":وهذا ابتداء ليس بالجيد ،ألنه جاء بالتجنيس في ثالثة ألفاظ ،وانما يحسن إذا كان
بلفظتين ،وقد جاء مثله في أشعار الناس ،والرديء ال ُيؤتم به .3" ...
272
خــــــــــــــاتـــــمـــــــة
أن تطور الشعر في العصر العباسي ،لم يسع قد ال يكون من التجني أن يزعم زاعم ّ
حادا تطورت فيه الحياة الثقافية والحضارية
صدره كل مستجدات العصر ،الذي كان منعطفا ّ
والفكرية تطو ار هائال لم يلحق به الشعر .وربما كان من األدلة على هذا مطالبة النقد آنذاك
للشعراء بأمور ل م يجدها في الشعر ،فثار الشعراء على النقاد واتهموهم باالفتئات والجهل
بطبيعة الشعر.
تتصل تلك األمور بمستجدات فكرية وثقافية بحثت عن لسان لها في فنون وعلوم أخرى
غير الشعر ،ويصدق هذا على الشعر في فنونه الكبرى ،وفي بنية القصيدة العربية التي هي
التجلي المادي للفن الشعري .فالشعر بقي على غنائيته غير ملتفت إلى ما عرفته شعوب
أخرى من شعر مسرحي وملحمي وغير ذلك ،مع أنه ُكتب للعرب حظ من معرفة بعض وجوه
الثقافة عند تلك الشعوب ،أثّرت تأثي ار واضحا في الفلسفة والعلوم التي برع فيها العرب
والمسلمون.
وقد كان لضعف ذلك التأثير في الشعر ،أسباب ثقافية ومحاذير دينية أُشبعت بحثا
مظانها ،فضال على شراسة الموروث واستماتته في الدفاع عن نفسه في كل ّ وتفصيال في
ثقافات العالم .والمقصود هنا استمرار النمط الغنائي في الشعر العربي ،واطراد بنية القصيدة
العربية التقليدية على ما كانت عليه في العصور السابقة ،بصرف النظر عن تطرق أفكار
ومعان جديدة إليها ،فرضها واقع الحياة المتحضرة ،والتثاقف مع اآلخر ،غير أن تلك األفكار
والمعاني المستحدثة ظلت تُعرض في القالب الموروث ،منتظرة آفاقا أوسع ،وبيئات أخرى
امتد فيها المجتمع العربي في عصور متأخرة.
كان منها البيئة األندلسية ،وبيئات أخرى ّ
ومع هذا ،فيجب اإلقرار بأن الشاعر العباسي ،سلط عبقريته على الصلصال القديم،
واستطاع أن ُيخرج منه أشكاال بديعة ،في محاولة منه إلبراز الذات ومقارعة األنموذج السابق
والتغلب عليه في فنه .فتناول القصيدة الموروثة محاوال إظهار تفوقه في صياغتها وقدرة
تصرفه وحيلته في حبك جمالياتها ،بدءا بمطلعها الذي هو عتبة الدخول إليها ،حتى لم يجد
كثير من النقاد والبالغيين حرجا في التصريح بتفوق المحدثين على القدماء في ذلك ،وكان
مما ساعد على هذا:
472
كرس براعة
.1تطور النقد األدبي ونضجه في العصر العباسي ،السيما النقد البالغي ،الذي ّ
االستهالل بوصفها من ألزم الفنون البالغية وأحراها بالتقديم.
هذا وان من أوضح ما يمكن أن يخرج به دارس مثل هذه القضايا من القصيدة العربية
التقليدية ما يأتي:
.1أن الدرس البالغي والنقد العربي القديم المرتبط به ،لم تعزب عنه صغيرة وال كبيرة من
جماليات المطلع ووظائفه ،وما يجب له من شروط تضمن له قيمته الشعرية ،فقد تناول
ذلك كله إما تصريحا وتنظيرا ،واما ممارسةً وتطبيقا ،في مقوالت نقدية تتمتع بالمرونة،
وسعة األفق الكفيلة باستيعاب أطروحات نقدية ومنهجية هي وليدة العصر الحديث.
.4أن من الشروط الجمالية الشعرية التي استخلصها البالغيون والنقاد القدماء من مطالع
القصائد ،ما يدعو إلى داللة المطلع على موضوع القصيدة األصلي ،واذا كانت الوحدة
الفنية موضوعا أعقد وأعمق من هذه الدالالت واإليحاءات ،فإن في ذلك دعوة إلى
إحداث نوع من التناسب الداللي ،واالتساق واالنسجام الموضوعي الذي ينافح بعض
الدارسين عن كونه وجها من وجوه الوحدة ،ومظه ار من مظاهر النصية ،جدي ار بالتحفيز
على إعادة النظر في مسألة الوحدة في القصيدة العربية القديمة.
.3أن بين دراسة المطلع والعنوان وشائج قوية وظاهرة ،بحيث يمكن استغالل ما فتحته
السميولوجيا من أبواب أمام العنونة ،في دراسة مطلع القصيدة العربية التراثية.
472
وجودوا فيها تجويدا
.2أن الشعراء العباسيين حلّقوا في سماء اإلبداع في مطالع قصائدهمّ ،
بدا من اإلقرار لهم بحيازة قصب السبق
لم يجد معه أشد النقاد المحافظين تعصبا للقديم ّ
في ذلك ،ومن اتخاذ شعرهم مصد ار لألمثلة والشواهد لبراعة المطلع.
يغرب أحيانا في مطالعه تغريبا شديدا ،تركيبا وافرادا وموسيقى ،فيبدأ
.2أن الشاعر العباسي ّ
قصائده بمطالع تثير تساؤالت واعتراضات وجيهة ،يصعب تبريرها جماليا على أكثر
مناهج النقد قدرة على التأويل ،مدفوعا ربما بروح المغامرة ،وحب التجريب ،ومحاولة
فرض الذات ومخالفة اآلخر السابق ،وهو الذي يدفع به إلى أقصى حدود التجريب
وتقليب مكونات البيت وعناصر القول فيه.
.2أن ذلك الشاعر في تغريبه ذلك يواجه من المعارضة كل نقد الذع ،واعتراض ساخر،
غير أنه ال يرعوي عادة وال يعلن استسالمه ،بل يقف في مواجهة ذلك ِوقفة صاحب
مبينا ،أو مكتفيا أحيانا بإجابات كاريكاتورية ،مستخفا
الموقف ،يدافع عن صناعته مبر ار ّ
الموجه إليه ،مقابال السخرية بمثلها.
ّ بالنقد
472
قــــائمة المصـــــادر والمراجـــــع
أوال المصادر
اآلمدي (أبو القاسم الحسن بن بشر) :الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، .1
األصفهاني (أبو الفرج علي بن الحسين) :كتاب األغاني ،دار الثقافة ،بيروت، .5
الكاتب والشاعر ،تحقيق :محمد محيي الدين عبد الحميد ،المكتبة العصرية،
صيدا-بيروت8010 ،م.
ابن جني(أبو الفتح عثمان بن جني): .2
-الخصائص ،تحقيق :محمد علي النجار ،عالم الكتب ،بيروت ،ط8002 ،1.م
-المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات واإليضاح عنها ،تحقيق :علي النجدي
ناصف ،وآخرون ،المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية ،القاهرة8004 ،م.
872
ابن حجة الحموي (أبو بكر علي بن عبد اهلل تقي الدين) خزانة األدب وغاية .1
.14ابن سنان الخفاجي (أبو محمد عبد اهلل بن سعيد) :سر الفصاحة ،تحقيق :داود
عمان ،ط8002 ،1.م.
غطاشة الشوابكة ،دار الفكرّ ،
.15ابن شهيد (أبو عامر أحمد بن أبي مروان) :رسالة التوابع والزوابع ،دار
المشرق ،بيروت ،لبنان ،ط.1123 ،4.
.12ابن طباطبا(أبو الحسن محمد بن أحمد العلوي) :عيار الشعر ،تحقيق :عبد
العزيز بن ناصر المانع ،منشورات اتحاد الكتّاب العرب ،دمشق ،سورية،
8005م.
.17ابن عبد ربه (أبو عمر أحمد بن محمد) :العقد الفريد ،دار الكتاب العربي،
بيروت ،لبنان1123 ،م.
.12ابن عربي ( محمد بن علي محيي الدين ) :محاضرة األبرار ومسامرة األخيار،
دار صادر ،بيروت ،لبنان ،ط8005 ،8.م.
871
الصاحبي في فقه اللغة العربية
ّ .11ابن فارس(أبو الحسين أحمد بن زكريا):
ومسائلها وسنن العرب في كالمها ،تحقيق :د .عمر فاروق الطباع ،مكتبة
المعارف ،بيروت ،لبنان ،ط1113 ،1.م.
.80ابن قتيبة (أبو محمد عبد اهلل بن مسلم) :الشعر والشعراء ،تحقيق :أحمد محمد
شاكر ،دار اآلثار ،القاهرة ،ط8010 ،1.م.
.81ابن المعتز(أبو العباس عبد اهلل) :البديع ،تحقيق :د .محمد عبد المنعم خفاجي،
دار الجيل ،بيروت ،لبنان ،ط8007 ،8.م .ط1117 ،1.م.
.88ابن منظور (أبو الفضل محمد بن مكرم جمال الدين) :لسان العرب ،دار
صادر ،بيروت ،ط1117 ،2.م.
.83ابن وكيع (أبو محمد الحسن بن علي) :المنصف للسارق والمسروق منه،
تحقيق :عمر خليفة بن إدريس ،منشورات جامعة قاريونس ،بنغازي ،ليبيا،
ط1114 ،4.م.
.84ابن يعقوب المغربي (أبو العباس أحمد بن محمد) :شرح مواهب الفتاح على
تلخيص المفتاح ،تحقيق :د .عبد الحميد هنداوي ،المكتبة العصرية ،صيدا-
بيروت ،لبنان ،ط8002 ،1.م
.85ابن يعيش (أبو البقاء علي بن يعيش موفق الدين) :شرح المفصل للزمخشري،
دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط8001 ،1.م.
.82الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر) :البيان والتبيين ،تحقيق :عبد السالم
محمد هارون ،مكتبة الخانجي ،القاهرة8003 ،م.
-أسرار البالغة ،تحقيق :محمود محمد شاكر ،دار المدني ،جدة السعودية،
ط1111 ،1.م.
-دالئل اإلعجاز ،تحقيق محمود محمد شاكر ،مكتبة الخانجي ،القاهرة ،مصر،
ط8004 ،5.م.
820
.82الجرجاني( أبو الحسن علي بن عبد العزيز القاضي ) :الوساطة بين المتنبي
وخصومه ،تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم ،وعلي محمد البجاوي ،المكتبة
العصرية ،صيدا-بيروت ،ط8002 ،1.م.
.81الجرجاني(علي بن محمد الشريف) :كتاب التعريفات ،تحقيق :إبراهيم األبياري،
دار الكتاب العربي ،بيروت ،لبنان ،ط1112 ،4.م.
.30حازم القرطاجني (أبو الحسن بن محمد) :منهاج البلغاء وسراج األدباء ،تحقيق:
محمد الحبيب بن الخوجة ،دار الغرب اإلسالمي ،بيروت ،لبنان ،ط،8.
1128م.
.31الحصري (أبو إسحق إبراهيم بن علي القيرواني) :زهر اآلداب وثمر اآلداب،
المكتبة العصرية ،صيدا-بيروت ،لبنان8005 ،م.
ِ .38
الحلّ ّي (عبد العزيز بن سرايا صفي الدين) :شرح الكافية البديعية في علوم
البالغة ومحاسن البديع ،تحقيق :د .نسيب نشاوي ،ديوان المطبوعات
الجامعية ،الجزائر1121 ،م.
.33الخطيب التبريزي (أبو زكريا يحيى بن علي) :الكافي في العروض والقوافي،
دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط8003 ،1.م.
.34الرازي ( أبو عبد اهلل محمد بن عمر فخر الدين ) :نهاية اإليجاز في دراية
اإلعجاز ،تحقيق :بكري شيخ أمين ،دار العلم للماليين ،بيروت ،لبنان ،ط،1.
.1125
.35الراغب األصفهاني (الحسين بن محمد) :مفردات ألفاظ القرآن ،تحقيق:
مصطفى بن العدوي ،مكتبة فياض ،المنصورة ،مصر8001 ،م.
.32الزركشي (محمد بن عبد اهلل بدر الدين) :البرهان في علوم القرآن ،تحقيق:
محمد أبو الفضل إبراهيم ،المكتبة العصرية ،صيدا-بيروت لبنان8002 ،م.
.37الزمخشري (أبو القاسم محمود بن عمر) :الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل
وعيون األقاويل في وجوه التأويل ،دار الكتاب العربي ،بيروت لبنان ،ط،1.
8002م.
821
.32السكاكي (يوسف بن محمد) :مفتاح العلوم ،تحقيق :عبد الحميد هنداوي ،دار
الكتب العلمية ،بيروت ،ط8000 ،1.م.
.31السيوطي (أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال):
-اإلتقان في علوم القرآن ،تحقيق :حامد أحمد الطاهر البسيوني ،دار الفجر
للتراث ،القاهرة ،مصر ،ط8001 ،8.م.
-أسرار ترتيب القرآن ،تحقيق :عبد القادر أحمد عطا ،دار بوسالمة ،تونس،
1123م.
-األشباه والنظائر في النحو ،تحقيق :محمد عبد القادر الفاضلي ،المكتبة
العصرية ،صيدا-بيروت ،لبنان ،ط1111 ،1.م.
-همع الهوامع في شرح جمع الجوامع ،تحقيق :د .عبد العال سالم مكرم ،عالم
الكتب ،القاهرة8001 ،م.
.40الصفدي (خليل بن أيبك صالح الدين) :جنان الجناس ( في علم البديع )،
تحقيق :سمير حسن حلبي ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط،1.
1127م.
.41علي بن الجهم (أبو الحسن القرشي السامي) :الديوان ،تحقيق :خليل مردم بك،
دار صادر ،بيروت ،ط1112 ،3.م.
.48المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد):
-الكامل ،تحقيق :د .محمد أحمد الدالي ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،ط،4.
.8004
828
.45المظفر بن الفضل العلوي (أبو علي المظفر بن سعيد) :نضرة اإلغريض في
نصرة القريض ،تحقيق :نهى عارف الحسن ،دار صادر ،بيروت ،لبنان ،ط،8.
1115م.
الوراق ،لندن،
.42النواجي (محمد بن الحسن شمس الدين) :حلبة الكميت ،دار ّ
ط8002 ،1.م.
.47الواحدي (أبو الحسن علي بن أحمد) :شرح ديوان المتنبي ،دار األصالة،
الجزائر ،ط.8001 ،1.
ب .الدواوين
.58أبو فراس الحمداني (الحارث بن سعيد) :الديوان ،دار الجيل ،بيروت ،لبنان،
ط8008 ،8.م.
.53أبو نواس (الحسن بن هانئ) :الديوان ،تحقيق :أحمد عبد الحميد الغزالي ،دار
الكتاب اللبناني ،ط8002 ،1.م.
823
.54البحتري (أبو عبادة الوليد بن عبيد) :الديوان ،دار صادر ،بيروت ،لبنان،
ط8005 ،8.م.
المرّعث) :الديوان ،تحقيق :الشيخ محمد الطاهر بن
.55بشار بن برد (أبومعاذ ُ
عاشور ،دار سحنون ،تونس/دار السالم ،القاهرة ،ط800 ،1.م.
.52ابن الرومي (أبو الحسن علي بن العباس) :الديوان ،تحقيق :عبد األمير علي
مهنا ،دار ومكتبة الهالل ،بيروت ،لبنان ،ط1112 ،8.م.
ّ
.57ابن الفارض (أبو حفص عمر بن الحسن) :الديوان ،دار الكتب العلمية،
بيروت ،لبنان ،ط8005 ،8.م.
.52ابن المعتز(أبو العباس عبد اهلل) :الديوان ،صنعة أبي بكر محمد بن يحيى
الصولي ،تحقيق :د .أحمد يونس السامرائي ،عالم الكتب ،بيروت ،لبنان،
ط1117 ،1.م.
.51الحالج (أبو مغيث الحسين بن منصور) :الديوان ومعه أخبار الحالج وكتاب
الطواسين ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،ط1112 ،1.م.
.20دعبل (أبو علي بن رزين) :الديوان ،دار الجيل بيروت ،لبنان ،ط1112 ،1.م.
824
ثانيا المراجع
أ.الكتب
.21ابتسام أحمد حمدان :الحذف والتقديم والتأخير في ديوان النابغة الذبياني دراسة
داللية تطبيقية معنوية ،دار طالس ،دمشق ،سورية .ط1118 ،1.م.
.28د .إحسان عباس :تاريخ النقد األدبي عند العرب ،دار الثقافة ،بيروت ،لبنان،
ط1122 ،5.م.
.23د .أحمد سعد محمد :نظرية البالغة العربية دراسة في األصول المعرفية،
مكتبة اآلداب ،القاهرة ،مصر ،ط8001 ،1.م.
.24د .أحمد طعمة حلبي :المفاهيم الجمالية في الشعر العباسي ،و ازرة الثقافة،
دمشق8002 ،م.
. .25د .أحمد مبارك الخطيب :االنزياح الشعري عند المتنبي قراءة في التراث
النقدي عند العرب ،دار الحوار ،الالذقية ،سورية ،ط8001 ،1.م.
.22أحمد مداس :لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري ،جدا ار
عمان – عالم الكتب الحديث ،إربد ،األردن ،ط.8007 ،1.
للكتابّ ،
.27د .أحمد محمد ويس :االنزياح من منظور الدراسات األسلوبية ،المؤسسة
الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،بيروت ،لبنان ،ط8005 ،1.م.
825
.70إيفالد فاجنر :أسس الشعر العربي الكالسيكي الشعر العربي القديم ،ترجمة:
د.سعيد حسن بحيري ،مؤسسة المختار ،القاهرة ،ط8002 ،1.م.
.71د .بسام قطّوس :اإلبداع الشعري وكسر المعيار (رؤى نقدية) ،مجلس النشر
العلمي ،لجنة التأليف والتعريب والنشر ،جامعة الكويت ،دولة الكويت،
8005م.
.73د .تمام حسان :اللغة العربية معناها ومبناها ،عالم الكتب ،القاهرة ،ط،5.
8002م.
.74جان بول سارتر :ما األدب؟ ،ترجمة :د .محمد غنيمي هالل ،دار العودة،
بيروت ،لبنان.1124 ،
جبور عبد النور :المعجم األدبي ،دار العلم للماليين ،ط1124 ،8.م.
.75دّ .
.72د .جمال بندحمان :األنساق الذهنية في الخطاب الشعري التشعب واالنسجام،
دار رؤية ،القاهرة ،ط8011 ،1.م.
.77د .جميل عبد المجيد :البديع بين البالغة العربية واللسانيات النصية ،الهيئة
المصرية العامة للكتاب1112 ،م.
.72جون كوين :بناء لغة الشعر ،ترجمة :أحمد درويش ،دار المعارف ،القاهرة،
ط1113 ،3.م.
.71د .حسن إبراهيم األحمد :أبعاد النص النقدي عند الثعالبي مقدمة نظرية ودراسة
تطبيقية ،الهيئة العامة السورية للكتاب ،و ازرة الثقافة ،دمشق8007 ،م.
.20د .حسن طبل :المعنى في البالغة العربية ،دار الفكر العربي ،القاهرة ،مصر،
ط1112 ،1.م.
822
.21د .حسن عبد اهلل شرف :النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن
سالّم ،دار الحداثة ،بيروت ،ط1124 ،1.م.
.28د .حسين الواد :المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب (تلقي القدماء لشعره)،
دار الغرب اإلسالمي ،بيروت ،لبنان ،ط8004 .م.
.23د .حلمي مرزوق :في فلسفة البالغة العربية علم البيان ،دار الوفاء،
اإلسكندرية ،مصر8004 ،م.
.24د.خالد حسين حسين :في نظرية العنوان مغامرة تأويلية في شؤون العتبة
النصية ،دمشق ،سورية8007 ،م.
.25د .خليل أحمد عمايرة :في نحو اللغة وتراكيبها منهج وتطبيق ،عالم المعرفة،
جدة ،ط1124 ،1.م.
.22خليل شكري هياس :فاعلية العتبات في قراءة النص الروائي (صخرة الجوالن
لعلي عقلة عرسان) أنموذجا ،منشورات اتحاد الكتاب العرب ،دمشق.8005 ،
.27د .خليل الموسى :جماليات الشعرية ،اتحاد ال ُكتّاب العرب ،دمشق ،سورية،
8002م.
.22رومان جاكوبسون :االتجاهات األساسية في علم اللغة ،ترجمة :علي صالح
وحسن ناظم ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب/بيروت ،لبنان،
ط8008 ،1.م.
.21رينيه ويليك وأوستن وارين :نظرية األدب ،ترجمة :محيي الدين صبحي،
المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت1127 ،م.
.11د .الزواوي بغوره :المنهج البنيوي بحث في األصول والمبادئ والتطبيقات ،دار
الهدى ،عين مليلة ،الجزائر8001 ،م.
827
.18د .سامي محمد عبابنة :التفكير األسلوبي رؤية معاصر في التراث النقدي
عمان،
والبالغي في ضوء علم األسلوب الحديث ،جدا ار للكتاب العالميّ ،
األردن/عالم الكتب الحديث ،إربد ،األردن ،ط8007 ،1.م.
ّ
.13ستيفن أولمان :دور الكلمة في اللغة ،ترجمة :كمال بشر ،دار غريب ،القاهرة،
1117م.
.15د .السعيد الورقي :لغة الشعر العربي الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها
اإلبداعية ،دار النهضة العربية ،بيروت ،لبنان ،ط1124 ،3.م.
.12د .السيد إبراهيم محمد :الضرورة الشعرية دراسة أسلوبية ،دار األندلس،
بيروت ،ط1128 ،8.م.
.17د .السيد محمد ديب :الغموض في شعر أبي تمام ،دار الطباعة المحمدية،
القاهرة ،مصر ،ط1121 ،1.م.
.12د .شكري عياد :موسيقى الشعر العربي ،دار المعرفة ،القاهرة ،ط.1122 ،1.
-تاريخ األدب العربي ،ج ،3.العصر العباسي األول ،دار المعارف ،القاهرة،
ط ،2.د.ت.
-تاريخ األدب العربي ،ج ،4.العصر العباسي الثاني ،ط1175 ،8.م.
-الفن ومذاهبه في الشعر العربي ،دار المعارف ،القاهرة ،ط.8004 ،13 .
.100د .صالح فضل :علم األسلوب والنظرية البنائية ،دار الكتاب المصري ،
القاهرة – دار الكتاب اللبناني ،بيروت ،ط8007 ،1.م.
822
.101د .طه حسين :في األدب الجاهلي ،دار المعارف ،القاهرة ،ط1171 ،13.م.
.108د.طه مصطفى أبو كريشة :أصول النقد األدبي ،مكتبة لبنان ناشرون،
بيروت ،ط1112 ،1.م.
عمان ،ط8005 ،1.م.
.103د .عاطف فضل :مقدمة في اللسانيات ،دار الرازيّ ،
.104عباس محمود العقاد:
-ابن الرومي حياته من شعره ،منشورات المكتبة العصرية ،صيدا-بيروت،
لبنان ،د.ت.
-الديوان في األدب والنقد(باالشتراك مع إبراهيم عبد القادر المازني) ،دار نهضة
مصر ،ط8001 ،1.م.
-اللغة الشاعرة ،دار نهضة مصر ،القاهرة8004 ،م .
-مطالعات في الكتب والحياة ،المكتبة العصرية ،صيدا بيروت ،د.ت.
.105د .عبد الجليل يوسف بدا :الظواهر النحوية والصرفية في شعر المتنبي،
المكتبة العصرية ،صيدا-بيروت ،ط8002 ،1.م.
.102د .عبد الحليم حفني :مطلع القصيدة العربية وداللته النفسية ،الهيئة المصرية
العامة للكتاب ،القاهرة1127 ،م.
.107د .عبد السالم المسدي :األسلوبية واألسلوب ،دار الكتاب الجديد المتحدة،
بيروت ،لبنان ،ط8002 ،5.م.
.102عبد القادر رحيم :علم العنونة ،دار التكوين ،دمشق ،سورية ،ط8010 ،1.م.
.101د .عبد اهلل التطاوي :تقاطعات الحركة الشعرية بين الموروث والفردي مدخل
إلى فن المعارضة ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة ،ط8007 ،1.م.
.110د .عبد اهلل العشي :أسئلة الشعرية بحث في آلية اإلبداع الشعري ،منشورات
االختالف ،الجزائر ،ط8001 ،1.م.
.111د .عبد اهلل محمد الغذامي :الخطيئة والتكفير ،الهيئة المصرية العامة للكتاب،
القاهرة8002 ،م.
821
.118د .عبد المالك مرتاض :نظرية النص األدبي ،دار هومه ،الجزائر8007 ،م.
.113د .عبده بدوي :دراسات في النص الشعري العصر الحديث ،دار قباء،
القاهرة1117 ،م.
.114د .عز الدين إسماعيل :روح العصر ،دار الرائد العربي ،بيروت1172 ،م.
.115د .عز الدين محمد الكردي :التقديم والتأخير في القرآن الكريم ،دار المعرفة،
بيروت ،لبنان ،ط8007 ،1.م.
.112د .علي مراشدة :بنية القصيدة الجاهلية دراسة تطبيقية في شعر النابغة
عمان ،األردن/عالم الكتب الحديث ،إربد،
الذبياني ،جدا ار للكتاب العالميّ ،
األردن .ط8002 ،1.م.
.180د .فوزي محمد أمين وآخرون :في اللغة واألدب ،دار الوفاء ،اإلسكندرية،
مصر8003 ،م.
.181د .لطيف زيتوني :معجم مصطلحات نقد الرواية ،مكتبة لبنان ناشرون،
بيروت ،ط.8008 ،1.
. .188ماثيو أرنولد :دراسة الشعر ،ضمن كتاب " النقد أسس النقد األدبي الحديث
" ،ترجمة :هيفاء هاشم ،و ازرة الثقافة ،دمشق8002 ،م.
.183محمد أديوان :قضايا النقد األدبي عند حازم القرطاجني ،كلية اآلداب والعلوم
اإلنسانية بالرباط ،المملكة المغربية.8004 ،
810
.184د .محمد الحافظ الروسي :ظاهرة الشعر عند حازم القرطاجني ،دار األمان،
الرباط ،المغرب ،ط8002 ،1.م.
.185محمد الخضر حسين :بالغة القرآن ،الدار الحسينية للكتاب ،القاهرة ،د.ت.
.182محمد سعيد إسبر ومحمد أبو علي :الخليل معجم في علم العروض ،دار
العودة ،بيروت ،لبنان ،ط1128 ،1.م.
.187د .محمد خطابي :لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب ،المركز
الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب/بيروت ،لبنان ،ط8002 ،8.م.
.182د .محمد صابر عبيد ،ود .سوسن البياتي :جماليات التشكيل الروائي ،دار
الحوار ،الالذقية ،سورية ،ط.8002 ،1.
.181د .محمد عبد المطلب :البالغة العربية قراءة أخرى ،مكتبة لبنان ناشرون،
بيروت/الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان ،مصر.
.130محمد علي كندي :الرمز والقناع في الشعر العربي الحديث( ،السياب ونازك
والبياتي) ،دار الكتاب الجديد المتحدة ،بيروت ،ط8003 ،1.م.
.131د .محمد كريم الكواز :البالغة والنقد المصطلح والنشأة والتجديد ،مؤسسة
االنتشار العربي ،بيروت ،ط8002 ،1.م.
.138د .محمد لطفي اليوسفي :الشعر والشعرية الفالسفة والمفكرون العرب ما
أنجزوه وما هفوا إليه ،الدار العربية للكتاب ،تونس /ليبيا1118 ،م.
.133د .محمد محمد أبو موسى :دالالت التراكيب دراسة بالغية ،مكتبة وهبة،
القاهرة ،ط8004 ،3.م.
.134د .محمد مصطفى أبو شوارب :شعرية التفاوت مدخل لقراءة الشعر العباسي،
دار الوفاء ،اإلسكندرية ،مصر ،ط8007 ،1.م.
.135د .محمد الهادي الطرابلسي :تحاليل أسلوبية ،عالم الكتاب ،تونس8002 ،م.
811
.132د .محمد مصايف :جماعة الديوان في النقد ،دار البعث ،قسنطينة ،الجزائر،
1174م.
.132د .محمود نحلة وآخرون :في اللغة واألدب ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر،
اإلسكندرية8003 ،م.
.131د .مصطفى البشير قط :مفهوم النثر الفني وأجناسه في النقد العربي القديم،
عمان8001 ،م. دار اليازوريّ ،
.140د .مصطفى حركات :قواعد الشعر(العروض والقافية) ،موفم ،الرغاية،
الجزائر1121 ،م.
.141د .ميجان الرويلي ،ود .سعد البازعي :دليل الناقد األدبي ،المركز الثقافي
العربي ،الدار البيضاء ،المغرب/بيروت ،لبنان ،ط8008 ،3.م.
.148نازك المالئكة :ديوان شظايا ورماد ،دار العودة ،بيروت ،ط1171 ،8.م.
.145د .يمنى العيد :في معرفة النص دراسات في النقد األدبي ،دار اآلداب،
بيروت ،ط1111 ،4.م.
818
.142د .يوسف إسكندر :اتجاهات الشعرية الحديثة األصول والمقوالت ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،ط8002 ،8.م.
ب .الدوريات
امحمد العماري :مفهوم الشعرية واتجاهاتها ،مجلة الحكمة ،مؤسسة كنوزْ .142
الحكمة ،األبيار ،الجزائر ،العدد8011 ،2.م.
.141د.جميل حمداوي :السيميوطيقا والعنونة ،مجلة عالم الفكر ،المجلس الوطني
للثقافة والفنون واآلداب ،دولة الكويت ،المجلد ،85:العدد ،03 :يناير/مارس
1117م.
813
.155موخاروفسكي ( يان ) :اللغة المعيارية واللغة الشعرية ،ترجمة :ألفت الروبي،
فصول ،المجلد ،5:العدد ،1:أكتوبر1124 ،م.
814
ف ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرس
الصفحة الموضوع
63 الباب األول :المطلع في بنية القصيدة العربية التقليدية شعرية التموقع...
37 تمهيد :البنية :المفهوم والخصائص ..........................................
45 الفصل األول :بنية القصيدة العربية التقليدية................................
592
444 الدرسة السميولوجية للعنوان ...............................
المطلع في ضوء ا
593
ملخص
عنوان هذه الرسالة " :شعرية المطلع في القصيدة العباسية" ،دراسة جمالية تتوجه إلى
مطلع القصيدة العباسية تخصيصا ،الستجالء أهم قيمه الفنية ومقوماته األسلوبية.
وقد بسطت فكرتها العامة في بابين :تناول أولهما في فصله األول بنية القصيدة
العربية التقليدية ،من مقدمة وتخلص وختام ،وذلك رغبة في رصد موقعية المطلع من
ذلك كله .إلى جانب قضايا نقدية ،ومباحث بالغية تتصل بذلك ،تكفل بها الفصالن
الباقيان منها :قضية الوحدة ،والمطلع الذي بحث من الناحية الجمالية ،وشروطه
البالغية ،وخصائصه األسلوبية ،ومقارنته بالعنوان في الدرس السميولوجي .أما ثاني
البابين :فهو دراسة تطبيقية ،صرفت إلى دراسة مدونة من مطالع مختلفة ،متدرجة
من المستوى التركيبي فاإلفرادي فالصوتي.
Résumé
Cette thèse à comme titre la poéticité dans le 1er vers
"elmatalaa" du poème abbasside, étude qui cherche à
découvrir les structures stylistiques et les valeurs
esthétiques qui l´enrichi; au moyen des trois nivaux
syntaxique, morphologique, et phonétique
Mots clés: poétique, abbasside, "matalaa", stylistique.