You are on page 1of 11

‫(‪)3‬‬

‫اعرتاض الشيخ اخلليلي على تفسري اإلمام الرازي لقوله تعاىل { ال تدركه األبصار}[األنعام ‪]103 :‬‬

‫قال مجال ‪:‬‬

‫مفيت اإلباضية يف كتابه ( احلق الدامغ ) علق على تفسري الرازى آلية { ال تدركه األبصار } تعليقاً يلزمكم الرد‬

‫عليه‪.‬‬

‫قال ‪( :‬وأما الفخر الرازي فقد قال ‪ " :‬لو مل يكن تعاىل جائز الرؤية ملا حصل التمدح بقوله ‪{ :‬ال تدركه األبصار}‬

‫أال ترى أن املعدوم ال تصح رؤيته ‪ ،‬والعلوم ‪ ،‬والقدرة ‪ ،‬واإلرادة ‪ ،‬والروائح ‪ ،‬والطعوم ال يصح رؤية شيء منها ‪ ،‬وال‬

‫مدح لشيء منها يف كوهنا حبيث ال تصح رؤيتها ‪ ،‬فثبت أن قوله ‪{ :‬ال تدركه األبصار} يفيد املدح ‪ ،‬وثبت أن‬

‫ذلك إمنا يفيد املدح لو كان صحيح الرؤية ‪ ،‬وهذا يدل على أن قوله تعاىل ‪ { :‬ال تدركه األبصار } يفيد كونه‬

‫تعاىل جائز الرؤية ‪ ،‬ومتام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان يف نفسه حبيث ميتنع رؤيته فحينئذ ال يلزم من عدم رؤيته‬

‫مدح وتعظيم للشيء ‪ ،‬أما إذا كان يف نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب األبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت‬

‫هذه القدرة الكاملة دالة على املدح والعظمة ‪ ،‬فثبت أن هذه اآلية دالة على أنه تعاىل جائز الرؤية حبسب ذاته‪.‬‬

‫وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن املؤمنني يرونه يوم القيامة ‪ ،‬والدليل عليه أن القائل قائالن‪:‬‬

‫أ‪ -‬قائل قال جبواز الرؤية مع أن املؤمنني يرونه ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫ب‪ -‬وقائل قال ال يرونه وال جتوز رؤيته ‪.‬‬

‫فأما القول بأنه تعاىل جتوز رؤيته مع أنه ال يراه أحد من املؤمنني فهو قول مل يقل به أحد من األمة فكان باطال ‪،‬‬

‫فثبت مبا ذكرنا أن هذه اآلية تدل على أنه تعاىل جائز الرؤية يف ذاته ‪ ،‬وثبت أنه متى كان األمر كذلك وجب‬

‫القطع بأن املؤمنني يرونه ‪ ،‬فثبت مبا ذكرنا داللة هذه اآلية على حصول الرؤية ‪ ،‬وهذا استدالل لطيف من هذه‬

‫اآلية "اهـ‪.‬‬

‫وليس بعد هذا القول الذي قاله الفخر الرازي تعليق ألحد ‪ ،‬إال السؤال عن عقيدته يف وحدانية اهلل ونفي الولد‬

‫والشريك عنه ‪ ،‬مادام جيعل من نفي الشيء دليال على إثباته ‪ ،‬ومبوجب هذا القول فإن للنصارى واملشركني أن ينتزعوا‬

‫من قوله تعاىل ‪{ :‬وقل احلمد هلل الذي مل يتخذ ولد ًا ومل يكن له شريك يف امللك }[اإلسراء ‪ ، ]111 :‬دلي اال قاطع ًا‬

‫بأن له سبحانه ولداً وشريكاً وأن يضيفوا إىل ذلك إثبات الصاحبة له تعاىل ‪ ،‬بل وإثبات كل ما نفاه عنه من السنة‬

‫والنوم ‪ ،‬والغفلـة واللغوب ‪ ،‬والظلم واجلور ‪ ،‬مادام النفي دلي اال قاطع ًا على اإلمكان وبالتايل على اإلثبات‪.‬‬

‫وإن تعجب فعجب أن يكون الفخر الذي اختذ من قوله تعاىل ‪ { :‬ال تدركه األبصار } سُلَّماً إىل القطع بثبوت‬

‫الرؤية قلب ًا للحقيقة وعكساً للحجة ‪ ،‬هو الذي يقول يف تأصيالته بأن دالئل األلفاظ على املعاني ال تتجاوز الظن كما‬

‫هو صريح يف قوله ‪ ( :‬داللة األلفاظ على معانيها ظنية ‪ ،‬ألهنا موقوفة على نقل اللغات ونقل اإلعرابات والتصريفات ‪،‬‬

‫مع أن أول أحوال تلك الناقلني أهنم كانوا آحاداً ‪ ،‬ورواية اآلحاد ال تفيد إال الظن ‪ ،‬وأيضا فتلك الدالئل موقوفة على‬

‫عدم االشرتاك وعدم اجملاز وعدم النقل ‪ ،‬وعدم اإلمجال ‪ ،‬وعدم التخصيص ‪ ،‬وعدم املعارض العقلي ‪ ،‬فإن بتقدير‬

‫‪2‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫حصوله جيب صرف اللفظ إىل اجملاز ‪ ،‬وال شك أن اعتقاد هذه املقدمات ظن حمض ‪ ،‬واملوقوف على الظن أوىل أن‬

‫(‪)1‬‬
‫يكون ظنا)‬

‫فانظر كيف جيعل الفخر داللة األلفاظ على املعاني املوضوعة هلا ظنية ‪ ،‬مع جعله داللتها على ضد تلك املعاني‬

‫قطعية ‪.‬‬

‫فأجاب الشيخ سعيد‪ -‬حفظه اهلل ‪: -‬‬

‫اجلواب ‪:‬‬

‫أيها األخ الفاضل مجال‪،‬‬

‫أشكرك على هذا السؤال املهم فعال ‪.‬‬

‫واحلقيقة أنين كنت قد نظرت يف كتاب اخلليلي يف بداية الطلب فلم يعجبين ومل أرَ أدلته قوية بل رأيت فيه املبالغات اليت‬

‫ف متيُّزه عين ‪ ،‬وظل يف خاطري أن أكتب عليه رد ًا الئقا به ‪ ،‬كما أرغب أن أعمل‬
‫ال ختلو من مغالطات‪ .‬ولكنه مل خي َ‬

‫ردا على كتاب سفر احلوايل الذي أزعج الكثريين من أويل املعرفة الساذجة للمذهب األشعري ‪.‬‬

‫وعلى كل حال‪ ،‬فأنا أقول لك اآلن أنه ال خيلو كتاب الشيخ اخلليلي من متيز يف إدارة الكالم وترتيبه‪ ،‬وصاحبه ال خيلو‬

‫عن ذكاء ونبل حيلو لعايل املرتبة ‪ ،‬يصاوله ‪.‬‬

‫ومن دون إطالة أقول باختصار ‪:‬‬

‫‪ - 1‬الحق الدامغ – أحمد بن حمد الخليلي ‪ :‬ص‪ ، 84-82‬طبع سنة ‪ 1409‬هـ ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫أوالً‪ :‬ما ذكره اخلليلي عن اإلمام الرازي ( فانظر كيف جيعل الفخر داللة األلفاظ على املعاني املوضوعة هلا ظنية ‪ ،‬مع‬

‫جعله داللتها على ضد تلك املعاني قطعية )‬

‫فاجلواب‪ :‬أن اإلمام الرازي ذكر هذه املسألة أعين إفادة اليقني من األلفاظ يف أكثر من كتاب له‪ ،‬وذكر أنه ‪ :‬إذا انتفت‬

‫االحتماالت العشرة املشهورة فإن اللفظ يفيد اليقني‪ .‬وليس األمر على ما أطلقه اخلليلي ‪.‬‬

‫ومما يؤيد ما ذكرناه ما بينه العالمة اإلسنوي وغريه يف شرح املنهاج ‪ ( :‬أقول اخللل احلاصل يف فهم مراد املتكلم حيصل‬

‫من احتماالت مخسة‪ ،‬وهي االشرتاك والنقل واجملاز واإلضمار والتخصيص ‪ ،‬ألنه إذا انتفى احتمال االشرتاك والنقل‬

‫كان اللفظ موضوعا ملعنى واحد ‪ ،‬وإذا انتفى احتمال اجملاز واإلضمار كان املراد باللفظ ما وضع له ‪ ،‬وإذا انتفى‬

‫احتمال التخصيص كان املراد باللفظ مجيع ما وضع له ‪ ،‬فال يبقى عند ذلك خلل يف الفهم ‪ .‬هكذا قاله اإلمام ‪.‬‬

‫وال شك أن هذه االحتماالت إمنا ختل باليقني ال بالظن‪ ،‬وقد نصَّ هو على أن األدلة السمعية ال تفيد اليقني إال بعد‬

‫شروط عشرة وهي هذه اخلمسة ‪ :‬وانتفاء النسخ والتقديم والتأخري وتغيري اإلعراب والتصريف واملعارض العقلي‪.‬‬

‫انتهى كالمه ‪.‬‬

‫(‪)2‬‬
‫وقد صرح اإلمام التاج السبكي بأن الظن حاصل مع هذه االحتماالت‪).‬‬

‫ومعنى هذا أنه إذا انتفت هذه االحتماالت فإن اليقني يثبت ‪ .‬وهذا أمر واضح‪.‬‬

‫‪ - 2‬نهاية السول شرح منهاج الوصول – اإلمام اإلسنوي (‪772‬هـ ) ‪ . 179/2 :‬دار الكتب العلمية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫وقد نص اإلمام الرازي أيضا على أن اللغات أكثرها حتصل مبرتبة قريبة من التواتر فقال بعد ذكر االحتماالت الواردة‬

‫على اللغات ‪ ( :‬واحلق أن أكثر اللغات قريب من التواتر‪ ،‬وهبذا الطريق يسقط هذا الطعن ) (‪ )3‬يقصد الطعن يف إفادة‬

‫اليقني من طريق الطعن على نقل اللغات ‪.‬‬

‫وهذه العبارة ذكرها اإلمام مباشرة قبل النص الذي نقله عنه اخلليلي يف التفسري‪ ،‬مع أنه كان ينبغي عليه ذكرها لتعلقها‬

‫مبوضوع البحث‪ ،‬ولكنين قد رأيت هذا التصرف يف أكثر من موضع من اخلليلي غفر اهلل له ‪.‬‬

‫وأيضا قال اإلمام الرازي يف احملصول يف هناية حبثه يف املخالت بالفهم ‪ ( :‬واعلم أن اإلنصاف أنه ال سبيل إىل استفادة‬

‫اليقني من هذه الدالئل اللفظية إال إذا اقرتنت هبا قرائن تفيد اليقني‪ ،‬سواء كانت تلك القرائن مشاهدة أو كانت منقولة‬

‫(‪)4‬‬
‫إلينا بالتواتر )‬

‫وهو ال ينكر التواتر يف اللغات فإنه نص على ذلك يف أكثر األلفاظ املتداولة املشهورة‪ ،‬كما هو معلوم‪ ،‬وأما احتفاف‬

‫القرائن هبا فإ نه يفيد اليقني بال شك‪ .‬وهذا يف حال عدم متكننا من العلم بانتفاء تلك االحتماالت ‪.‬‬

‫فلو فرضنا البحث عن االحتماالت العشرة‪ ،‬وحبثناها واحدة واحدة ‪ ،‬ألفاد اليقني ‪ .‬قطعاً هذا هو مقتضى كالم‬

‫الرازي ‪.‬‬

‫وأيضا‪ ،‬فلو حبثنا االحتماالت العشرة فوقع الرتدد يف بعضها‪ ،‬ثم حصلنا على قرائن تفيد اليقني حمتفّة باملنقول سواء‬

‫كانت هذه القرائن مشاهدة أو منقولة إلينا بالتواتر‪ ،‬وكذا إذا كانت معقولة ‪ ،‬فإن مقتضى كالم اإلمام الرازي استفادة‬

‫القطع بال ريب‪ .‬وهو ما صرح به اإلمام السبكي وغريه ‪.‬‬

‫‪ - 3‬مفاتيح الغيب – اإلمام الرازي (‪606‬هـ ) ‪ . 41/1 :‬دار إحياء التراث العربي ‪ ،‬ط‪. 3‬‬
‫‪ - 4‬المحصول في علم األصول – اإلمام الرازي ‪ . 408/1:‬مؤسسة الرسالة ‪ ،‬ط‪. 3‬‬

‫‪5‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫واملسألة حتتمل كالما أكثر تفصيال‪ ،‬ولكن ما ذكرته هنا أرجو أن يكون كافيا ‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬إن اعرتاض اخلليلي على اإلمام الرازي يف استدالله باآلية إمنا اعتمد فيه على كون اإلمام –على زعمه‪ -‬ينفي‬

‫إفادة األلفاظ لليقني ومع ذلك جيعل داللتها على ضد تلك املعاني يقينية قطعية ‪.‬‬

‫فاجلواب ‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬قد تبني لنا أن اإلمام الرازي ال يقول هبذا القول على إطالقه كما أورده اخلليلي ‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬نقلنا عن اإلمام كالمه يف احملصول أن‪ ( :‬اللفظ إن اقرتن معه قرائن فإنه يفيد اليقني)‪ ،‬ونقول ‪:‬‬

‫إن اإلمام الرازي مل يستدل مبجرد اللفظ يف هذه اآلية‪ ،‬بل كان استدالله مركبا مبالحظة الداللة الظنية أي مبراعاة‬

‫اخلالف احلاصل فيها‪ ،‬مع احنصار اخلالف يف أحد احتمالني‪ .‬فهو إذن استدل باللفظ باالقرتان على احنصار اخلالف‬

‫على قولني‪ ،‬مع داللة العقل على أحدمها‪ ،‬فيبقى اآلخر‪ .‬إذن استدالله مركب كما ال خيفى على احملقق ‪.‬‬

‫فتأمل يف قول اإلمام ‪ ( :‬ومتام التحقيق فيه ‪ :‬أن الشيء إذا كان يف نفسه حبيث ميتنع رؤيته فحينئذ ال يلزم من عدم‬

‫رؤيته مدح وتعظيم للشيء ‪ ،‬أما إذا كان يف نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب األبصار عن رؤيته وعن إدراكه‬

‫كانت هذه القدرة الكاملة دالة على املدح والعظمة ‪ ،‬فثبت أن هذه اآلية دالة على أنه تعاىل جائز الرؤية حبسب ذاته)‬

‫ففي هذه العبارة يبني كيفية الداللة على كون الرؤية جائزة ‪ .‬ثم يبين على جوازها فيقول ‪ ( :‬وإذا ثبت هذا وجب‬

‫القطع بأن املؤمنني يرونه يوم القيامة ‪ ،‬والدليل عليه أن القائل قائالن ‪ ،‬قائل قال جبواز الرؤية مع أن املؤمنني يرونه ‪ ،‬وقائل‬

‫قال ال يرونه وال جتوز رؤي ته ‪ ،‬فأما القول بأنه تعاىل جتوز رؤيته مع أنه ال يراه أحد من املؤمنني فهو قول مل يقل به أحد من‬

‫‪6‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫األمة فكان باطال ‪ ،‬فثبت مبا ذكرنا أن هذه اآلية تدل على أنه تعاىل جائز الرؤية يف ذاته ‪ ،‬وثبت أنه متى كان األمر‬

‫(‪)5‬‬
‫كذلك وجب القطع بأن املؤمنني يرونه ‪ ،‬فثبت مبا ذكرنا داللة هذه اآلية على حصول الرؤية )‬

‫فهذا القول مبين على ما أثبته سابقا من اجلواز ‪.‬‬

‫أي إن الواحد إذا اعتقد اجلواز أوال‪ ،‬ثم نظر يف اآلية بالوجه األخري الذي بينه اإلمام‪ ،‬فإنه يقطع حبصول الرؤية‬

‫للمؤمنني ‪.‬‬

‫فهذا االستدالل كما ترى مركب من عدة أدلة‪ ،‬بعضها اإلمجاع وبعضها العقل‪ ،‬وبعضها الدالالت اللغوية‪ .‬فتأمل فيها‬

‫رمحك اهلل‪ .‬وهذا مطرد مع مذهب اإلمام الرازي كما بيناه لك سابقا ‪.‬‬

‫فالرازي مل يزعم لِ لفظ وحده قطعية الداللة‪ ،‬كما نسبه إليه اخلليلي‪ .‬ثم مل يزعم داللة اللفظ مبجرده على سبيل القطع‬

‫على ضد تلك املعاني‪ .‬فهاتان مغالطتان وقع فيهما اخلليلي يف سطر واحد ‪.‬‬

‫ويتبني لك من هذا أن الشيخ اخلليلي قد تسرع عندما حاول أن يبني تناقض اإلمام الرازي هبذه الصورة الفجَّة‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬من ناحية أخرى‪ ،‬تعال لنبني لك أن ما ألزم اخلليل به اإلما َم الرازي فإنه ال يلزمه‪ ،‬وإمنا ذلك من سوء فهم اخلليلي‬

‫لدالالت اللفظ ‪.‬‬

‫فإنه قال ‪ ( :‬وليس بعد هذا القول الذي قاله الفخر الرازي تعليق ألحد ‪ ،‬إال السؤال عن عقيدته يف وحدانية اهلل ونفي‬

‫الولد والشريك عنه ‪ ،‬مادام جيعل من نفي الشيء دليال على إثباته )‬

‫فهو قد ادعى عدة دعاوي ههنا‬

‫‪ - 5‬مفاتيح الغيب – اإلمام الرازي (‪606‬هـ ) ‪. 98/13 :‬‬

‫‪7‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫‪ -1‬وضوح فساد ما قاله الرازي يدل على ذلك قوله (وليس بعد‪ )...‬ووضوح ذلك لكل أحد‪ ،‬وهذا فيه‬

‫استهانة بالرازي وغريه من العلماء‪ ،‬وفيه مساواهتم بالعوام من الذين ينظرون يف هذا الكالم‪ ،‬بل فيه علو منزلة‬

‫هؤالء الناظرين على هؤالء العلماء‪ .‬ومل يبني اخلليلي كيفية وضوح هذا الفساد إال مبا يأتي فساده‪ ،‬وهو بعد‬

‫أحوج إىل البيان من كالم الرازي‪.‬‬

‫‪ -2‬اخلليلي يلزم اإلمام الرازي بأن كل ما نفاه اهلل تعاىل عن نفسه فإنه يلزمه جتويزه على اهلل تعاىل‪ ،‬ومن ذلك وجود‬

‫الشريك ‪ ،‬ألنه (ال إله إال اهلل)‪ ،‬ومنه جواز الولد لقوله تعاىل { مل يلد ومل يولد }[اإلخالص‪ ]3:‬وغريها من‬

‫اآليات النافية للولد عن اهلل تعاىل‪ ،‬واألمر الذي يعتمد عليه اخلليلي يف ذلك االستنباط هو أن الرازي جيعل من‬

‫نفي الشيء دليال على إثباته‪.‬‬

‫‪ -3‬لو ف عال قال اإلمام الرازي بذلك‪ ،‬وهل فعال يلزم اإلمام الرازي تلك اللوازم الفاسدة والبينة الفساد؟ فإن مل يلزمه‬

‫ومل يلزم غريه ممن يقول بطريقته من االستدالل ما يلزمهم به اخلليلي‪ ،‬أال يعد إلزام اخلليلي هلم بذلك إما استهانة‬

‫هبم‪ ،‬وهو سوء أدب منه‪ ،‬أو عدم فهم منه ملا قالوه وهو قادح به هو ال هبم‪ ،‬أو أنه فاهم له ولكنه يغالط وهو‬

‫مشني له هو ال هلم‪.‬‬

‫‪ -4‬وعلى كل األحوال‪ ،‬فتعالوا ننظر يف طريقة الرازي من االستدالل‪ ،‬لنبني بعد اخلليلي عن فهم معناه‪ ،‬أو مغالطته‬

‫البينة ‪.‬‬

‫الرازي أوالً يقول ‪ :‬إن قوله تعاىل { ال تدركه األبصار } فيه متدح هلل تعاىل‪ ،‬واملدح إمنا يتحقق إذا كان‬

‫ميكن أن يرى ولكنهم ال يرونه‪ ،‬مع رؤيته هلم‪ - .‬وحنن هنا جنري الكالم كله على التنزل بأن معنى اإلدراك هو‬

‫‪8‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫معنى الرؤية‪ ،‬وليس األمر كذلك بل فيه زيادة ختصيص‪ -‬فلو كان يستحيل أن يُرى مطلقا‪ ،‬ملا كان نفي الرؤية‬

‫مدحا له‪ .‬ولكن اهلل تعاىل يرى ذاته بال شك‪ ،‬إذن أصل كونه مرئيا ثابت‪ ،‬ولكن إمنا تعلق النفي برؤية‬

‫املخلوقات له ال بكونه هو يف ذاته مرئيا‪.‬‬

‫يعين يوجد فرق عظيم بني أن يقال‪ :‬اهلل تعاىل ال يُرى ‪ .‬وبني أن يقال‪ :‬الناس ال يرونه‪ .‬فاألول فيه نص على‬

‫عدم كونه مرئيا‪ ،‬وأما الثاني فال يفهم منه أكثر من نفي حصول الرؤية للناس‪ .‬ومن هنا كان التمدح بنفي الرؤية‬

‫عنهم‪ .‬فالرؤية أمر حاصل فيهم ال يف اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫فقوله تعاىل { ال تدركه األبصار } يدل إذن على نفي حصول حتقق إدراك األبصار له‪ ،‬وال يدل على عدم‬

‫كونه مُدرَكا يف نفسه‪ .‬وهذا أخص من قولنا اهلل ال يُدرَك‪ .‬فهذا فيه نفي كونه تعاىل مُدركا‪ .‬فلو قلنا إن‬

‫اإلدراك هو الرؤية‪ ،‬فإمنا تدل اآلية على عدم احلصول يف الدنيا ال عدم إمكاهنا أصال ‪.‬‬

‫وهبذا يتبني لك أن استدالل اخلليلي باآلية غري تام أصال ‪.‬‬

‫وأيضا نقول‪ :‬قياس الشيخ اخلليلي الستدالل الرازي هبذه اآلية على نفي الولد ونفي الشريك عنه تعاىل على‬

‫ثبوهتما له‪ ،‬استدالل ساذج حقا‪ .‬فإن نفي الولد عن اهلل تعاىل وقع يف القرآن ال مبراعاة واسطة اخللق‪ ،‬بل مت‬

‫نفيه عنه جل شأنه بالنظر لذاته تعاىل‪ ،‬فلم يقل اهلل تعاىل ( إنكم ال تستطيعون حتصيل ولد هلل تعاىل) ‪ ،‬لتكون‬

‫الصيغة قريبة من صيغة آية اإلدراك‪ ،‬بل قال جل شأنه { مل يلد ومل يولد } فنفى الولد عنه جل شأنه بال‬

‫واسطة‪ ،‬فإلزام الرازي هبذه الصيغة مع اختالفها عن صيغة قوله تعاىل { ال تدركه األبصار } غري‬

‫صحيح‪ ،‬وينبئ عن قصر نظر‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫وكذلك نقول يف نفي اإلله‪ ،‬فإن نفي اإلله وقع يف القرآن بال واسطة املخلوقات‪ ،‬فقال اهلل تعاىل { ال إله إال‬

‫هو}[البقرة‪ ]255 :‬ومل يقل ال ميكنكم أيها البشر إجياد إله آخر‪ ،‬لكي يقاس هذه الصيغة على صيغة‬

‫اآلية ‪.‬‬

‫هذا مع قولنا باستحالة جعل البشر وإجيادهم إلله آخر‪ ،‬واستحالة إجياد البشر لولد هلل تعاىل‪ ،‬ولكن ذلك‬

‫غري راجع لعجز البشر عن ذلك‪ ،‬بل لكون هذا األمر يف نفسه مستحيال‪ ،‬فال يتوقف نفيه على عدم قدرة‬

‫البشر عليه‪ ،‬وال يتوقف نفيه على عدم قدرة غري البشر عليه أيضا ‪.‬‬

‫فتبني لك هبذا التحقيق أن كل كالم الشيخ اخلليلي عبارة عن مغالطات حمضة‪ ،‬وجمرد هتويش ال حاصل حتته‪،‬‬

‫هكذا هو أغلب ما يف كتابه من املسائل اليت ناقشها‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬وبعد هذه الوجوه اليت تفتح ملن تأمل فيها معاني عظيمة أخرى‪ ،‬نقول‬

‫أوال‪ :‬النفي إمنا تعلق بإدراك األبصار‪ ،‬وهذا معنى غري الرؤية‪ ،‬وال يساويه‪ ،‬ولذلك ملا قال النيب عليه السالم‬

‫(ترون ربكم ‪ )6( )..‬أو (لن تروا ربكم حتى متوتوا‪ )7( )..‬مل يَ َّدعِ واحد أنه مناقض ملا يف اآلية الكرمية ‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬حنن ال نسلم أن اإلدراك مسا ٍو للرؤية‪ ،‬حتى يلزم من نفيه نفي الرؤية عن الناس‪ ،‬بل التحقيق الذي نراه‬

‫حوق وبلوغ الشيء املُدرَك‪ ،‬وهو األصل يف معناه اللغوي‪ ،‬وهو ما أراده علماؤنا عندما‬
‫أن اإلدراك معناه اللُ ُ‬

‫قالوا معناه اإلحاطة‪ ،‬وإمنا قصدوا اإلحاطة حبقيقة ذات اهلل تعاىل‪ .‬فيصري حاصل معنى اآلية الكرمية‪ :‬ال‬

‫تدركه اهللَ تعاىل‪ ،‬أي ال تبلغ علمَ حقيقته‪ ،‬وهو املفهوم من حلوق الشيء‪ ،‬أي بلوغ حقيقته‪.‬‬

‫‪ - 6‬أخرجه البخاري في الصحيح ‪ :‬كتاب التوحيد – باب قول هللا تعالى {وجود يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} ‪.‬‬
‫‪ - 7‬أخرجه ابن ماجه في السنن ‪ :‬كتاب الفتن – باب فتنة المسيح الدجال وخروج عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬وهو يدرك األبصار } أي يعلم حقيقة األبصار وأصحاب األبصار‪ .‬فاإلدراك ههنا هو بلوغ‬

‫احلقيقة‪ ،‬أي العلم باحلقيقة‪ ،‬وهو ثابت هلل تعاىل فإنه جل شأنه عامل حبقيقة ذاته كما هو عامل حبقائق خملوقاته‪،‬‬

‫وأما العلم حبقيقة ذات اهلل تعاىل وصفاته فإنه منفي عن العباد مطلقا ‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬أال يرتتب على هذا نفي الرؤية (مبعنى إدراك احلقيقة) اليت تقول هبا يف اآلخرة ‪.‬‬

‫فاجلواب‪ :‬ومن قال لك أن الرؤية اليت يثبتها أهل السنة تستلزم إدراك حقيقة اهلل تعاىل‪ ،‬وإن أطلِق ذلك يف كالم‬

‫بعضهم فإمنا هو جتوز ومقارنة مع املعرفة احلاصلة لنا باهلل تعاىل يف الدنيا‪ ،‬بل غايتها إمنا هو زيادة إدراك (أي‬

‫بلوغ علم زائد باهلل تعاىل يف النفس ) خيلقه اهلل تعاىل بال واسطة شعاع ومقابلة ‪ -‬وغري ذلك ‪ -‬يف نفوس‬

‫العباد إما يف األبصار أي العيون أو بال واسطة‪ .‬وال يستلزم ذلك إدراك حقيقة اهلل تعاىل‪ ،‬ال دنيا وال آخرة ‪.‬‬

‫وال خيفى عليك أن الشيخ اخلليلي قد بالغ يف إلزاماته الساذجة ألهل السنة يف أثناء كالمه أيضا على معنى‬

‫اإلدراك كما يف غري ذلك املوضع ‪.‬‬

‫فهذا ما تيسر يل أن أكتبه على عجالة‪ ،‬ولوال حمبة السائل ورغبيت يف إعانته يف هذا النظر‪ ،‬ملا يظهر عليه من‬

‫مهة وإخالص يف سبيل الوصول إىل احلق‪ ،‬واألمر الثابت يف الشريعة املطهرة باجلواب حبسب العلم للمستأهل‪،‬‬

‫ملا وجد عندي باعث لتفريغ جزء من وقيت الضيق جدا لذلك ‪.‬‬

‫وأدعو اهلل تعاىل أن يكون يف ذلك فائدة ‪.‬‬

‫واهلل املوفق‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫سلسلة أسئلة في منتدى األصلين‬

You might also like