You are on page 1of 152

‫األدب والتحليل النفيس‬

‫‪99‬‬
‫مجان ًا مع العدد (‪ )142‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬أغسطس ‪2019 -‬‬
‫ُي َوزَّع ّ‬

‫نفسي ًا‪ ،‬اليوم؟‬


‫ّ‬ ‫النفيس‪ ..‬ما معنى أن تـكون نا ِقد ًا‬
‫ّ‬ ‫عنوان الكتاب‪ :‬األدب والتحليل‬
‫املؤلف‪ :‬حسن املودن‬

‫النارش‪ :‬وزارة الثّقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬


‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية‪:‬‬
‫الرتقيم الدويل (ردمك)‪:‬‬

‫الفنّي ‪ -‬مج ّلة الدوحة‬


‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم َ‬
‫صورة الغالف‪ :‬بورتريهات‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬
‫عب عن آراء مؤ ِّلفه‪ ،‬وال ُي ِّ‬
‫عب ‪-‬بالرضورة‪ -‬عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة‬ ‫ُي ِّ‬
‫ناقدًا َنفس ّيًا‪ ،‬اليوم؟‬ ‫ما مَ عنى ْ‬
‫أن تـكون ِ‬

‫النفسي‬
‫ّ‬ ‫األدب والتحليل‬

‫حسن المودن‬
‫سيجموند فرويد (‪▲ )1939 - 1856‬‬
‫مـــقـــــدِّ مـــة‬

‫تتأسـس عالقـة إشـكالية بني‬ ‫منـذ أواخـر القـرن التاسـع عشر(((‪ ،‬بـدأت َّ‬
‫األدب والتحليـل النفسي‪ ،‬وعلى امتـداد أكثر مـن مئـة سـنة‪ ،‬شـهدت‬
‫ٍ‬
‫وإشـكاالت‬ ‫هـذه العالقـة تطـ ُّورات مه ّمـة وتحـ ُّوالت نوعيـة‪ ،‬وولـدت أسـئلة‬
‫ومقاربات نفسـاني ًة عرفت كيف تُعيد استشـكال‬ ‫ٍ‬ ‫جديـدة‪ ،‬وأنتجـت تص ُّو ٍ‬
‫رات‬
‫تحـرص على أن ينطلق حـوا ٌر جدي ٌد بين طَ َرف ْ‬
‫َـــي تلك‬ ‫ُ‬ ‫تلـك العالقـة‪ ،‬وكيـف‬
‫ُسـلَّامت‪ ،‬وال‬ ‫العالقة‪ ،‬وتريده حوارا ً ال يَعرف االسـتقرار‪ ،‬وال يطم ّ‬
‫نئ إىل امل َ‬
‫فـرض هذا السـؤال‪ :‬مـا معنى أن‬ ‫ُ‬ ‫يؤمـن بالحـدود املرسـومة؛ وذلـك كلُّــه يَ‬
‫تكـون ناقـدا ً نفسـيًّا‪ ،‬اليوم؟‬
‫متارس التحليل‬
‫َ‬ ‫ن أن نصوغه بعبار ٍة أخرى‪ :‬ما معنى أن‬ ‫ٌ‬
‫سـؤال ميك ُ‬ ‫وهو‬
‫يفترض‬
‫ُ‬ ‫ن‬
‫كل َمـــ ْ‬
‫م َّ‬ ‫ٌ‬
‫سـؤال يَـ ُهـــ ُّ‬ ‫النفسي للأدب‪ ،‬يف الوقـت الراهـن؟ وهـو‬

‫((( إضافة إىل أعاملٍ الحقة حول األدب والفن‪ ،‬ميكن أن نزعم أن رسالة فرويد إىل صديقه ويلهيلم فليس‪،‬‬
‫أول تأويل نفساين ينجزه فرويد حول عمل أديب‪ ،‬صدر سنة ‪،1885‬‬ ‫بتاريخ ‪ 20‬يونيو‪ ،1898 ،‬هي التي تشري إىل َّ‬
‫تحت عنوان «املرأة ‪ -‬القاضية»‪ ،‬للشاعر والروايئ كونراد فرديناند ماير‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ٍ‬
‫واحـد مـن االثنين‬ ‫كل‬
‫أن هنـاك أشـياء كثيرة ونفيسـة ميكـن أن يقولهـا ُّ‬
‫(األدب‪ ،‬والتحليـل النفسي) لآلخـر‪ ،‬سـواء أ تعلَّـق األمـر بالناقـد النفسي‬
‫القـادم مـن األدب إىل التحليـل النفيس‪ ،‬أم تعلَّـق باملحلِّل النفيس القادم‬
‫مـن التحليـل النفسي إىل األدب‪ .‬لكنـه السـؤال الـذي يفـرض إعـادة قراءة‬
‫تاريـخ العالقـة بني الطرفين (األدب‪ ،‬والتحليل النفسي)‪ ،‬وإعادة تقوميها‪،‬‬
‫تأسسـت بينهما خلال أكثر مـن‬ ‫وإعـادة النظـر يف نوعيـة العالقـة التـي َّ‬
‫ُسـلَّامت التحليـل النفيس‬ ‫مئـة سـنة‪ ،‬فلـم يَــعد مقنعاً أن يخضـع األدب مل َ‬
‫الحـق‬
‫ّ‬ ‫ومتريناتـه التـي أصابهـا الجمـود واإلفلاس‪ ،‬مـن دون أن يكـون لـه‬
‫يف الـكالم‪ ،‬أو يف االعتراض‪ ،‬أو يف املسـاهمة يف بنـاء تصـ ُّورات نفسـانية‬
‫جديـدة لإلنسـان‪ ،‬ولغتـه‪ ،‬وأدبه‪.‬‬
‫كل ذلـك‪ ،‬كان البدّ‪ ،‬دوماً‪ ،‬من العـودة إىل فرويد‪ ،‬إىل‬ ‫ولكـن‪ ،‬مـن أجل ّ‬
‫ن أدّى‪ ،‬هو نفسـه‪ ،‬دورا ً‬ ‫مؤسســـاً للتحليل النفيس‪ ،‬إىل َمـــ ْ‬
‫ِّ‬ ‫ن يُــعت َبـــر‬
‫َمـــ ْ‬
‫كبيرا ً يف تخصيـب تلـك العالقـة بين التحليـل النفسي واألدب‪ ،‬مبقاربـة‬
‫يفسر ملـاذا يعـود املحلِّلـون النفسـانيون‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫متعـدّدة األبعـاد‪ ،‬وهـذا مـا‬
‫كما النقّـاد النفسـانيون‪ ،‬باسـتمرار‪ ،‬إىل دراسـاته للكُــتَّـــاب والشـعراء‬
‫والف ّنانين‪ ،‬ولألعامل األدبيّـة‪ ،‬وللمحكيّات األسـطورية‪ ،‬والدينية‪ ،‬ولألحالم‬
‫املحك ّيـة‪ ،‬ولفلتـات اللسـان وزلّ ت الكتابـة‪.‬‬
‫ومـن أجـل ذلـك‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬ينـال «جـاك الكان» حظـو ًة خاصـةً؛ فهـو الذي‬
‫أعاد قراءة «فرويد» يف ضوء العلوم املعارصة‪ ،‬واللسـانيات السوسيرية‪،‬‬
‫خـاص؛ و‪-‬بعبـار ٍة أخـرى‪ -‬هـو املعلِّــم الثـاين للتحليـل النفسي‬ ‫ّ‬ ‫بشـكلٍ‬
‫الـذي أعـاد النظـر يف هـذه العالقـة بين التحليـل النفسي واألدب‪ ،‬وذلـك‬
‫جـــلٍ ‪ ،‬كما سـنوضِّ ح‪ ،‬يف الكتـاب‪ ،‬بين «فرويد»‬ ‫مـن خلال خلـق حـوا ٍر مؤ َّ‬
‫و«سوسير»‪ ،‬بين التحليـل النفسي واللسـانيات‪ ،‬انطالقـاً مـن أسـئل ٍة‬
‫م اشـتغال‬ ‫أسـاس‪ ،‬مـن أه ّمهـا‪ :‬هـل هنـاك جديـ ٌد يف التحليل النفيس يَـــه ُّ‬
‫اللّغـة؟ ومـا املعطيـات التـي يوفِّرهـا التحليـل النفسي‪ ،‬ومن الضروري أن‬
‫والتحليل النفيس‬
‫ُ‬ ‫األدب‬
‫ُ‬ ‫تأخذهـا اللسـانيات بعين االعتبـار؟ أال يستكشـف‬
‫ط بـه؟‬ ‫بُـــعدا ً يف اللّغـة‪ ،‬ال ميكـن للنماذج النظريـة اللسـانية أن تحيـ َ‬

‫‪6‬‬
‫والشـك يف أن هـذه العـودة إىل «فرويـد»‪ ،‬و«الكان» تصطـدم‪ ،‬دومـاً‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بسـؤال الرتجمـة‪ :‬مـاذا عن ترجمة أعمال فرويد‪ ،‬والكان؟ مـاذا عن ترجمة‬
‫فرويـد التـي تتقـدَّم كأنها َمـ َهـ َّمـــة بال حـدود؟ ماذا عن ترجمـة أعامل جاك‬
‫الكان التـي تبـدو كأنهـا َمـ َهـ َّمـــة مسـتحيلة؟ مـاذا عـن نصـوص الكان التـي‬
‫تبـدو كأنها غير قابلـة للفهم؟‬
‫هـي أسـئلة‪ ،‬نريدهـا أن تقود إىل إعادة استشـكال العالقة بين التحليل‬
‫النفسي واألدب‪ ،‬وإىل تدشين حـوا ٍر جديـد‪ ،‬وجديـدُه أنـه حـوا ٌر يتجـدَّد‬
‫باسـتمرار‪ ،‬كما سـنوضِّ ح مـن خلال بعـض النماذج النقديـة‪ :‬النظريـة‪،‬‬
‫والتطبيقيـة‪:‬‬
‫نفترض أنـه‪ ،‬مـن بدايـة السـتينيات‪ ،‬مـع روالن بـارت يف كتابـه «عـن‬
‫النفسي‬
‫َّ‬ ‫نفسي ينتقـد النقـد‬ ‫ٌّ‬ ‫بنيـوي‬
‫ٌّ‬ ‫تحليـل‬
‫ٌ‬ ‫راسين» (‪ ،)1963‬سـيظهر‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫يف السـائد‪ ،‬ويرفـض االسـتعانة باملعطيـات البيوغرافيـة‬ ‫البيوغـرا َّ‬
‫بالكُـتَّـــاب والشـعراء‪ ،‬داعيـاً إىل اسـتهداف النصـوص‪ ،‬وبَـد ََل ربـط األدب‬
‫بإنسـانٍ محـ َّد ٍد‪ ،‬سـيكون مـن األفضـل النظـر إىل عالقـة األدب باإلنسـان‪،‬‬
‫ـؤســسيه‪ .‬وإذا كان‬ ‫أنرثوبولوجـي‪ ،‬كان «فرويـد» نفسـه مـن ُم ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫مـن منظـو ٍر‬
‫صحيحـاً أن التحليـل النفسي عنـد بـارت‪ ،‬وتحـت تأثير التحليـل النفسي‬
‫وخاصـ ًة مـع كتابـه‪« :‬س ‪ /‬ز»‬ ‫ّ‬ ‫عنـد جـاك الكان‪ ،‬سيشـهد تطـ ُّو ٍ‬
‫رات نوعيـة‪،‬‬
‫ن الطريق أمام نوع‬ ‫(‪ ،)1970‬فسـيبقى أن كتابـه األ َّول «عـن راسين» قد دشَّ ـ َ‬
‫ٍ‬
‫جديـد مـن النقـد النفسي‪.‬‬
‫وبعـد ذلـك‪ ،‬ومن بداية السـبعينيات إىل اليوم‪ ،‬سـيعمل جان بيلامن‬
‫نويـل على تأسـيس مقاربـة نفسـانية يجدِّدهـا ويط ِّورهـا‪ ،‬باسـتمرار‪ ،‬يف‬
‫العديـد مـن املؤلَّفـات النظريـة‪ ،‬والتطبيقيـة‪ ،‬وذلك من خالل مسـلكني‬
‫َين‪ :‬األ َّول‪ ،‬تلـك العـودة املتجـدِّدة‪ ،‬باسـتمرار‪ ،‬إىل كتابـات‬ ‫مرتابط ْ‬
‫«فرويـد‪ ،‬والكان»‪ ،‬والثـاين‪ ،‬ذلـك االنفتـاح املتجـدِّد على علـوم العصر‬
‫م مؤلَّفاتـه‪ :‬النظريـة‪ ،‬والتطبيقيـة‪ ،‬ومـن‬ ‫تجسـده أهـ ّ‬
‫ِّ‬ ‫الراهـن‪ ..‬وذلـك مـا‬
‫النـص (‪ -)1979‬أن‬
‫ّ‬ ‫أه ّمهـا‪ :‬التحليـل النفسي واألدب (‪- )1978‬نَحـ َو الوعي‬
‫تقترح مقاربـة جديـدة‪ ،‬مبدأهـا‬
‫ُ‬ ‫تقـرأَ ب ِّ‬
‫ِــكل الوعيـك (‪..)2011‬؛ مؤلَّفـات‬

‫‪7‬‬
‫األسـاس أنهـا ترفـض النقـد النفسي البيوغـرايف التقليـدي‪ ،‬وتعيـد‬
‫حـ ّد‬ ‫يب يف َ‬
‫النـص األد َّ‬
‫َّ‬ ‫االعتبـار إىل دراسـات «فرويـد» التـي كانـت ت َـد ُرس‬
‫الخاصـة باملؤلِّـــف‪ ،‬وت َــعترب‬
‫ّ‬ ‫ذاتـه‪ ،‬بعيـدا ً عـن املعطيـات البيوغرافيـة‬
‫جهه «بروسـت» إىل «سـانت بـوف»‪ ،‬وتنفتح‬ ‫نفسـها امتـدادا ً للنقد الذي و َّ‬
‫على التصـ ُّورات البنيويـة‪ ،‬والتداوليـة‪ ،‬وتقترح لنفسـها تسـمية جديدة‪:‬‬
‫تحليـل‪ ،‬وإن كان يَعترف بـأن‬ ‫ٌ‬ ‫النصي ‪ ،Textanalyse -‬وهـو‬ ‫ّ‬ ‫التحليـل‬
‫حـم العمـل األديب نفسـه‪ ،‬يقترح أن يتخلَّـص‬ ‫ِّـــف موجـو ٌد يف َر ِ‬
‫املؤل َ‬
‫النـص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ين‪:‬‬‫أساس ْ‬
‫َّ‬ ‫مـن قبضـة هـذا املؤلِّـــف‪ ،‬وأن يبقـى وف ّيـاً لعن َ‬
‫رصيْـن‬
‫والقـارئ‪.‬‬
‫بكتـاب عنوانه «هل‬ ‫ٍ‬ ‫ويف بدايـة األلفيّـة الجديـدة‪ ،‬سـيظهر «بيير بيـار»‬
‫كتاب‬
‫ٌ‬ ‫مـن املمكـن تطبيـق األدب على التحليـل النفسي؟» (‪)2004‬؛ وهـو‬
‫الفـت للنظـر؛ ألنه سـيرشع يف تأسـيس ُهـــوية جديـدة للمحلِّـل النفيس‬
‫للأدب‪ ،‬وسـتتَّضح معاملهـا أكثر مع مؤلَّفـات نظريـة‪ ،‬وتطبيقيـة الحقة‪،‬‬
‫قتـل روجيـه أكرويـد؟» (‪،)1998‬‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫تناولنـا أه َّمهـا يف هـذا الكتـاب‪َ « :‬مـــ ْ‬
‫كتـب مل نقرأهـا؟» (‪« ،)2007‬كيـف نتحـدَّث عـن‬ ‫ٍ‬ ‫«كيـف نتحـدَّث عـن‬
‫أمكنـ ٍة مل نزرهـا؟» (‪..)2012‬؛ لكـن مـا يحكمهـا جميعهـا هـو أن املحلَّـل‬
‫النفسي للأدب مل يَعـد يتقـدَّم باعتبـاره ميلـك تلـك املعرفـة الجاهـزة‬
‫كل يش ٍء‪ ،‬بـل إنه مينـح الفرصة لألعمال األدب ّية‬ ‫الخاصـة التـي تفهـم يف ّ‬
‫ّ‬
‫مـن أجـل أن تحـاوره‪ ،‬وأن تسـائل معرفتـه النفسـانية الجامـدة؛ ذلـك ألن‬
‫األدب هـو الـذي بإمكانـه‪ ،‬على حـ ِّد تعبير جـاك الكان(((‪ ،‬أن يُرسـل هـوا ًء‬
‫جديـدا ً إىل التحليـل النفسي‪ ،‬وليـس العكـس‪ ،‬ولهـذا ينتقـد «بيير بيـار»‬
‫النفسي إىل اسـتنزاف األدب‪ ،‬وذلك‬ ‫َّ‬ ‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫ُّــــل الـذي يقـود‬
‫هـذا التمــث َ‬
‫ثانـوي‪ :‬أن يؤكِّد إىل‬
‫ٍّ‬ ‫النفسي دو َر هذا األخري يف دو ٍر‬
‫ُّ‬ ‫عندمـا يحصر الناق ُد‬
‫حـة ما تقولـه النظريـات النفسـانية ‪ .‬وفـوق ذلك‪ ،‬اليشء‬
‫(((‬
‫مـا النهايـة‪ ،‬ص ّ‬
‫سـابق‪ ،‬وأن‬
‫ٌ‬ ‫ين‬
‫ِّـل نفسـا ٌّ‬
‫يب اشـتغل بـه محل ٌ‬ ‫نـص أد ٍّ‬
‫مينـع مـن أن نعـود إىل ٍّ‬

‫‪(1) J. Lacan: «Lituraterre», in: Autres Ecrits, Seuil, Paris, 2001, p 12.‬‬
‫‪(2) P. Bayard: Peut-on appliquer la littérature à la psychanalyse ?, Minuit, Paris, 2004, p 25.‬‬

‫‪8‬‬
‫نكتشـف فيـه حقيقـ ًة غير التـي ادَّعاهـا السـابقون؛ إذ ‪-‬بهـذا‪ -‬نحافظ عىل‬
‫قابـل للتأويل باسـتمرار؛ ولهـذا يدعو «بيري‬ ‫ٌ‬ ‫طبيعـة األدب الجوهريـة‪ :‬أنـه‬
‫وخاصـة‬ ‫ّ‬ ‫بيـار»‪ ،‬باسـتمرار‪ ،‬إىل أن نعـود إىل قـراءة النصـوص الكبرى‪،‬‬
‫تلـك التـي اسـتند إليهـا التحليـل النفسي؛ وعلى سـبيل التمثيـل‪ ،‬يكفـي‬
‫أن نسـتحرض مرسحيـة «هاملـت» وهـي مقـروءة مـن منظـور املحلِّلين‬
‫النفسـانيني‪ ،‬لنكتشـف أن «هاملـت «فرويـد ليـس هـو «هاملـت» الكان‪:‬‬
‫ففرويـد يفترض أنـه إذا كان هنـاك مـن مانع منـع هاملت مـن إنجاز فعل‬
‫رصف‪،‬‬ ‫االنتقـام‪ ،‬فإنـه مانـع ال يتعلّـق بفكـره الـذي مينعه مـن الفعـل والت ُّ‬
‫كما يدَّعـي الكاتـب األملـاين الشـهري جوتـه‪ ،‬بـل ألن شـبح أبيـه امل ِّيـت‬
‫كان قـد طُلِـب منـه أن يَــقتل الرجـل (ع ّمـه كالوديـوس‪ ،‬أخـو أبيـه) الـذي‬
‫حقَّـق ‪-‬فعلاً‪ -‬رغبتـه الالواعيـة‪ ،‬أي قتـل األب والحلـول محلّـه إىل جنـب‬
‫األم؛ وهـو مـا يعنـي أن «هاملـت» هـو «أوديـب»‪ ،‬لكنـه يجهـل ذلـك‪ ..‬لكن‬
‫الكان سـينطلق مـن أن هنـاك شـيئاً مـا غير واضـح يف رغبـة «هاملـت»؛‬
‫فعل‬‫ٌ‬ ‫قتـل األب‪ ،‬لكـن هاملـت عجـز عـن إنجازه‪ ،‬فهـو‬ ‫فقـد تحقَّـق‪ ،‬فعلاً‪ُ ،‬‬
‫جـــله باسـتمرار‪ ،‬ومل يتمكَّـن مـن االختيـار‪ ،‬ومل يصـل إىل ات ِّخـاذ قرار‪،‬‬ ‫يؤ ِّ‬
‫وظـل يتردَّد بين‪ :‬أن يكـون أو ال يكـون‪ ،‬ألن ذلـك هـو السـؤال بالضبـط‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وعكـس فرويـد‪ ،‬فـإن الكان يؤيِّــــد جوتـه‪ ،‬فالفكـر هو الذي مينـع الفعل‪،‬‬
‫وهـو الـذي يجعـل الشـقاء يـدوم طويلاً‪ .‬لكنـه أي الكان يفترض أن مـا‬
‫يجعـل هاملـت متردِّدا ً هـو هـذا اليشء الـذي يجعل أ َّمـــه مرتبطـة بقاتل‬
‫ــســـد‪ ،‬يف عيـون هاملـت‪ ،‬الفالـوس الحقيقـي‪،‬‬ ‫ج ِّ‬ ‫أبيـه‪ ،‬فكالوديـوس يُــ َ‬
‫وإذا كان هنـاك مـن يش ٍء البـد مـن القضـاء عليـه‪ ،‬فهـو هـذا الفالـوس‬
‫دال القـ ّوة؛ وإذا كان هاملت متردِّدا ً‪ ،‬فألنه‬ ‫الحقيقـي‪ ،‬ألنـه هـو ‪-‬بالـذات‪ُّ -‬‬
‫دال الق ّوة بالـذات‪ ،‬وليس ذلك‬ ‫يـدرك أن الـذي ينبغـي له أن يُـقـــتَــــل هو ُّ‬
‫الشـخص الـذي يحتقـره‪ ،‬أي األب الحقيقـي (ذلـك‪ ،‬ألن هـذا امللـك هـو‬
‫يش ٌء مـن اليشء)؛ وبهـذا وبغيره‪ ،‬نتعلَّـم مع بيير بيار كيف نُـــعود بل َّذ ٍة‬
‫جديـد ٍة إىل اكتشـاف هوميروس‪ ،‬وسـوفوكل‪ ،‬وشكسـبري‪ ،‬وموباسـان‪،‬‬
‫ـح أ َّن‬ ‫كل ذلـك أن يوضِّ َ‬
‫وهنري جيمـس‪ ،‬وأجاثـا كريسـتي‪ ...‬وغايتـه مـن ِّ‬
‫يكـف عـن الخلـق واإلبـداع‪ ،‬ويُـــقدِّم عنـارص‬ ‫ّ‬ ‫الخـاص‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫األدب‪ ،‬مبنطقـه‬

‫‪9‬‬
‫«نظريّ ٍ‬
‫ـات أخـرى» قابلـة لالكتشـاف‪ ،‬وبهـا ميكـن للتحليـل النفسي أن‬
‫يتجـدَّد ويتطـ َّور‪ :‬فـإذا كانـت أعمال «سـوفوكل» وراء حديـث «فرويـد»‬
‫عـن «تراجيديـا املصير»‪ ،‬فـإن أعمال «شكسـبري» قـد كانـت وراء حديث‬
‫«الكان» عـن «تراجيديـا الرغبـة»‪.‬‬
‫شـديد‪ :‬إذا كان التحليـل النفسي‪ ،‬على طـول قـرنٍ كامـل‬ ‫ٍ‬ ‫باختـزا ٍ‬
‫ل‬
‫النصـوص األدبيّـ َة بُـــعدا ً‬
‫َ‬ ‫مننـح‬
‫َ‬ ‫ين‪ :‬أن‬‫أساس ْ‬
‫َ‬ ‫ي‬
‫أو أكثر‪ ،‬قـد سـمح بشـيئَ ْ‬
‫ظ الكتابـ َة األدبيّـ َة يف تك ُّونـــها واشـتغالها؛ فـإن ذلـك قـد‬ ‫آخـر‪ ،‬وأن نالحـ َ‬
‫ٍ‬
‫أسـاس‪ :‬أ َّولهـا يعـود إىل‬ ‫ألسـباب‬
‫ٍ‬ ‫دشَّ ـن آفاقـاً جديـدة للقـراءة‪ ،‬وذلـك‬
‫هـذا الحـوار املنتـج بين اللسـانيني (دوسوسير) واملحلِّلين النفسـان ِّيني‬
‫(فرويـد‪ ،‬والكان)‪ ،‬مـن جهـة أوىل‪ ،‬وبين نقّـاد األدب (روالن بـارت‪ ،‬وجـان‬
‫ي (سـيجموند فرويـد‪،‬‬ ‫َين النفسـان َّي ْ‬ ‫بيلمان نويـل‪ ،‬وبيير بيـار‪ )..‬واملحلِّل ْ‬
‫وجـاك الكان)‪ ،‬مـن جهـة ثانيـة؛ وثانيهـا يرتبـط بهـذا االستشـكال الجديـد‬
‫للعالقـة بين التحليـل النفسي واألدب‪ ،‬الـذي ينطلـق مـن قلـب األدوار‬
‫ومراجعـة املسـلَّامت‪ ،‬فـاألدب ال التحليـل النفسي هو املصدر األسـاس‬
‫للتنظيرات والتصـ ُّورات النفسـانية‪ ،‬ومـن املمكـن أن تكـون هنـاك‪ ،‬يف‬
‫األعمال األدبيّـة‪ ،‬اقرتاحـات أخـرى غير التـي اقرتحهـا «فرويـد» الـذي‬
‫ـس التحليـل النفسي‪ ،‬ومـن هنا سـؤالنا‪ :‬ماذا عـن بورخيس‪،‬‬ ‫مؤس َ‬ ‫ِّ‬ ‫يُعت َبــر‬
‫وفرويـد؟ وإذا كان بورخيـس يرفـض فرويـد‪ ،‬فهـل يعنـي ذلـك أنـه يرفض‬
‫يؤسـس تصـ ُّورا ً نفسـانياً مغايـرا ً‪ ،‬ال فرويديّـاً؛‬ ‫التحليـل النفسي‪ ،‬أم أنـه ِّ‬
‫وثالثهـا يعـود إىل هـذه النظرة الجديدة إىل أعامل فرويـد (كأن نفرتض أن‬
‫أعمال فرويـد ت ُـشـكِّـــل‪ ،‬يف مجموعهـا‪ ،‬عمالً أدب ّيـاً‪ ،‬وأنـه كان يطمح إىل‬
‫كتابـة روايـة)‪ ،‬بل إىل فرويد نفسـه (كأن نعتربه شـاع َر الالوعـي‪ ،‬أو نح ِّوله‬
‫مريـض يخضع‪ ،‬هو نفسـه‪ ،‬للتحليـل النفيس)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫إىل شـخصي ٍة روائيـة‪ ،‬إىل‬
‫وهـي كلّهـا‪ ،‬يف افرتاضنـا‪ ،‬أسـئل ٌة تسـمح بإعادة مسـاءلة هويّـة اللّغة‬
‫النقديـة‪ :‬أهـي مجـ َّرد لغـ ٍة واصفـة خالصـة تدَّعـي ال ِعلْم ّيـة واملوضوع ّية‪،‬‬
‫أم أنهـا لغـة تسـتم ّد ق َّوتها مـن الجمع بين التنظري والتخييـل‪ ،‬بني األديب‬
‫والعلمـي‪ ،‬بين الـذايت واملوضوعـي‪..‬؟ أمل يكـن فرويـد مـن أكبر قـ ّراء‬

‫‪10‬‬
‫األدب يف عصره؟ أمل يحصـل على «جائـزة جوتـه» للآداب؟ واألكثر مـن‬
‫يؤسـس نظريَّتـه انطالقـاً مـن النصـوص األدبيّـة‪ ،‬واألسـطورية‪،‬‬‫ذلـك‪ :‬أمل ِّ‬
‫والدينيـة؟ أمل يكـن يسـعى إىل كتابـة روايـة؟ أال ميكـن اعتبـار مجمـوع‬
‫أعاملـه روايـ ًة نظريةً؟‬
‫ومـا يدعـم هـذا االفتراض‪ ،‬اليـوم‪ ،‬هـو مـا يقدِّمـه الناقـد الفرنسي‬
‫املعـارص بيير بيـار يف أعامله النقديـة‪ :‬النظريـة‪ ،‬والتطبيقيـة‪ ،‬التي تريد‬
‫ـــس جنسـاً‬ ‫تؤس ُ‬
‫ـــل على أنهـا أعمال نظريـة تخييليـة‪ ،‬كأنهـا ِّ‬ ‫أن ت ُـسـتَـقْـبَ َ‬
‫النظـري؟ ذلك ألنه‪ ،‬يف دراسـاته‬
‫ّ‬ ‫أدبيـاً جديـدا ً‪ ،‬هـل نسـ ّميه بـــ «املحك ّ‬
‫ي‬
‫يكتـب روايـ ًة عىل روايـة‪ ،‬يكتب‬‫ُ‬ ‫للروايـة البوليسـية‪ ،‬على سـبيل التمثيـل‪،‬‬
‫النظـري الـذي مل يعـد يؤمـن بذلـك االنفصـال النهايئ بني‬ ‫ّ‬ ‫ي‬
‫ذلـك املحك ّ‬
‫فتض‬ ‫تحليـل يُ َ َ‬
‫ٌ‬ ‫والنظـري‪ ،‬بين مـا هـو‬
‫ّ‬ ‫ي‬
‫التحقيـق والتخييـل‪ ،‬بين املحك ّ‬
‫رض أنـه مـن صنـع الخيـال؛ ومل‬ ‫يب يُفت َ‬
‫أنـه مـن صنـع العلـم‪ ،‬ومـا هـو أد ٌّ‬
‫ي السـفر‪ ،‬مثالً‪،‬‬ ‫يعـد يَقبَـل بذلـك االنفصـال بين الواقـع والخيال‪ :‬فمحك ُّ‬
‫إل الحقيقـة والواقـع‪ ،‬يجعلنـا بيير بيار‬ ‫الـذي مـن املفترَض أنـه ال يقـول ّ‬
‫ي ليـس يف الواقـع إال مجـ َّرد خيـال؛ ومـن هنـا‬ ‫نكتشـف أن هـذا املحك ّ‬
‫خاصـا‪ :‬هـل ميكـن أن نكتب عـن أمكن ٍة‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫السـؤال الـذي كـ َّرس لـه مؤلَّــفـــاً‬
‫مل يسـبق لنـا أن زرناهـا؟‬
‫النقـدي نوعـاً مـن أنـواع املحكيّ‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫النـص‬
‫ُّ‬ ‫ويف عالقـ ٍة بذلـك‪ ،‬أليـس‬
‫املوضوعـي والـذايتّ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يب‪ ،‬بين‬ ‫يصعـب فيـه الفصـل بين العلمـي واألد ّ‬
‫بين التحقيـق والتخييـل‪ ،‬وكأن االفتراض الجديد هـو أن الحقيقة نفسـها‬
‫فيهـا مـن التحقيـق قدر ما فيهـا من التخييـل‪ ،‬فال تحقيق مـن دون تخييل‬
‫كما التخييـل مـن دون تحقيـق؟ مـن هنـا‪ ،‬ميكننـا أن نتسـاءل‪ :‬مـا دامـت‬
‫ي‪ ،‬أال يسـمح ذلـك بـأن تُقـرأ‪،‬‬ ‫اعتبـاري تخييل ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫النصـوص النقديـة بوضـع‬
‫هـي األخـرى‪ ،‬من منظـور التحليـل النفيس؟ أمـن املمكن قـراءة األعامل‬
‫وخاصـ ًة تلـك التـي تسـتعني بالتحليـل‬ ‫ّ‬ ‫النقديـة عنـد روالن بـارت مثلاً‪،‬‬
‫النفسي‪ ،‬قـراء ًة نفسـانية؟ أمـن املمكـن أن نسـتنطق ذات ّيـة الناقـد روالن‬
‫بـارت‪ ،‬وال َو ْعيـه مـن داخـل نصوصـه النقديـة؟‬

‫‪11‬‬
‫ل شـديد‪ :‬إن مـا ينبغـي لنـا تسـجيله هـو أنـه‪ ،‬مـن سـتِّينيّات‬ ‫باختـزا ٍ‬
‫القـرن املـايض إىل بدايـة األلفيـة الجديـدة‪ ،‬تكـون قـد ظهـرت تصـ ُّوراتٌ‬
‫كل النصـوص املقروءة‪،‬‬ ‫ومقاربـاتٌ واعـدة ال تطبِّـــق منهجـاً جاهـزا ً على ّ‬
‫ِ‬
‫املنهج إىل املقروء‪ ،‬ويُـــحاو ُر‬
‫ُ‬ ‫بل إنها تفتح حوارا ً منتجــــاً‪ ،‬يُــصغي فيه‬
‫املنهـج‪ ،‬يف جدليّـ ٍة منتجـة‪ ..‬وذلك كلّه ما البـ ّد للناقد النفيس‪،‬‬
‫َ‬ ‫املقـرو ُء‬
‫اليـوم‪ ،‬أ ْن يأخـذه بعين االعتبـار‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫(الفصل األ َّول)‬

‫العودة إلـى فرويـد‬

‫‪13‬‬
‫فردناند دي سوسير (‪▲ )1913 - 1857‬‬
‫ماذا عن العالقة بني فــرويــد‪ ،‬وســوســيــر‪ ،‬والكـــان؟‬

‫النـص األديب مـن منظـور التحليـل النفسي قد عرف‬ ‫ّ‬ ‫أفترض أن مقاربـة‬
‫وخاصـ ًة بعد أن أعـاد املحلِّل النفيس‬
‫ّ‬ ‫تحـ ُّوالً نوعيـاً بعـد ظهور اللسـانيات‪،‬‬
‫جـاك الكان قـراءة فرويـد وسوسير مبـا يكفـي مـن أجل فتـح آفـاق جديدة‬
‫النفيس‪ ،‬واللسـان ّيات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ي‪ :‬التحليـل‬
‫َين العلم َّي ْ‬
‫أمـام هذيـن الحقل ْ‬
‫اللّغـة والتحليـل النفسي واللّسـانيات‪ :‬يتعلَّـق األمـر مبسـألة معقَّـدة‬
‫ومركَّــــبة‪ ،‬ألسـباب عديـدة؛ ولذلك هي تفـرض‪ ،‬كام وضَّ ح ذلـك جان كلود‬
‫ميلنر(((‪ ،‬أن من ِّيـز بين أربـع مسـائل‪ :‬مسـألة التحليـل النفسي يف عالقتـه‬
‫بالظاهـرة التـي نسـ ِّميها اللّغـة؛ ومسـألة التحليل النفسي يف عالقته بعلمٍ‬
‫يتنـاول‪ ،‬بالـدرس‪ ،‬ظاهـرة اللّغـة‪ ،‬ونسـ ِّميه اللسـان ّيات؛ ومسـألة عالقـة‬
‫ٍ‬
‫مبعطيـات اسـتحدثها التحليـل النفسي أي عالقـة اللسـانيات‬ ‫اللسـانيات‬

‫‪(1) Jean - claude Milner, Linguistique et psychanalyse,Encyclopaedia Universalis France.‬‬

‫‪15‬‬
‫بالالوعـي؛ ومسـألة عالقـة اللسـانيّات بنظريـة التحليـل النفسي‪.‬‬
‫أســـس التحليـل النفسي الفرويـدي شـبكة مـن الروابـط والعالئق‬ ‫لقـد َّ‬
‫أسـس ذلك يف جهلٍ تا ٍّم باللسـان ّيات‪ ،‬فالواضح‬
‫بين الالوعـي واللّغة‪ ،‬لكنه َّ‬
‫أن مسـألة العالقـة بين التحليـل النفسي وظاهـرة اللّغـة قـد طُرِحـت‪،‬‬
‫منـذ أعمال فرويـد األوىل‪ ،‬لكـن مسـألة العالقـة بين التحليـل النفسي‬
‫واللسـانيّات مل تكـن ذات مضمـونٍ إلّ مـع جـاك الكان‪.‬‬
‫وقـد يبـدو موقـف سـيجموند فرويـد (‪ )1939-1856‬مـن فردنانـد دو‬
‫خاص ًة أن األ َّول‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سوسير (‪ )1913-1857‬غريباً‪ ،‬واألغرب جهله باللسـان ّيات‪،‬‬
‫كما يوضِّ ـح ذلـك باتريـس مانجليـي(((‪ ،‬يعرف اسـم دوسوسير‪ ،‬ال العالِـــم‬
‫مؤسس اللسانيّات‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫اللساين‪ ،‬بل املحلِّــل النفيس راميوند دوسوسري‪ ،‬ابن‬
‫مؤســـس التحليـل النفسي يعلـم بوجـود محـارضات يف‬ ‫ِّ‬ ‫و‪-‬فـوق ذلـك‪ -‬إن‬
‫َّـــف‬
‫اللسـانيات العا ّمـة‪ ،Cours de linguistique générale-‬ألنـه مؤل ٌ‬
‫مذكـو ٌر ‪-‬بوضـوح‪ -‬يف كتـاب راميونـد دوسوسير الصادر سـنة (‪ )1922‬تحت‬
‫عنـوان «منهـج التحليـل النفسي‪،»La méthode psychanalytique-‬‬
‫ححـه فرويـد نفسـه‪ ،‬وكتـب لـه تصديـرا ً‪ .‬باملثـل‪ ،‬يبـدو أن‬ ‫كتـاب ص َّ‬
‫ٌ‬ ‫وهـو‬
‫خاصة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫غريب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فردنانـد دو سوسير مل يتعـ َّرف إىل أعمال فرويد‪ ،‬وهو أمـ ٌر‬
‫صديـق تيـودور فلورنـوي‪ ،‬وهـذا األخير هو عـامل النفس‬ ‫َ‬ ‫أن دوسوسير كان‬
‫الـذي قـدَّم فرويـد إىل مجتمـع جنيـف‪ ،‬وكان مـن املمكـن أن تثيره ‪ -‬أي‬
‫سوسير ‪ -‬أشـياء يف أعمال فرويـد‪.‬‬
‫ويف األحـوال كلّهـا‪ ،‬إن الحقيقـة التـي تبـدو جل ّيـةً‪ ،‬اليـوم‪ ،‬هـي أن‬
‫إل فيما‬‫م إرجاؤهـا‪ ،‬ومل تتحقَّـق ّ‬ ‫العالقـة بين فرويـد ودوسوسير قـد تـ َّ‬
‫بعـد‪ ،‬مـع أعامل جـاك الكان؛ لكن من دون أن يعنـي ذلك أن جاك الكان‬
‫قـد عمـل على أن يكـون التحليل النفيس تابعـــاً للِّسـانيّات‪ ،‬ألن السـؤال‬
‫الجوهـري الـذي يشـغله‪ ،‬باعتبـاره محلِّلاً نفسـياً‪ ،‬هـو‪ :‬هـل هنـاك جدي ٌد‬

‫‪(1) Patrice Maniglier, Surdetermination et duplicité des signes: de Saussure à Freud, in:‬‬
‫‪revue Savoirs et clinique, Transferts littéraires,N67,Octobre,2005.‬‬

‫‪16‬‬
‫َ‬
‫اشـتغال اللّغة؟ والسـؤال‪ :‬مـا املعطيات التي‬ ‫م‬
‫يف التحليـل النفسي يه ُّ‬
‫النفسي‪ ،‬ومن الضروري أن تأخذها اللسـانياتُ بعني‬
‫ُّ‬ ‫التحليـل‬
‫ُ‬ ‫يُــوفِّـــرها‬
‫االعتبار؟‬
‫حرصـت العديـ ُد مـن الدراسـات النفسـانية على‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫شـديد‪ :‬لقـد‬ ‫باختصـا ٍر‬
‫اسـتحضار القاعـدة الجوهريـة يف التحليـل النفسي‪ ،‬عنـد جـاك الكان‪:‬‬
‫ـح أن هـذه القاعـدة‬ ‫ن مثـل اللّغـة»‪ ،‬مـن أجـل أن توضّ َ‬‫«الالوعـي ُمـ َبــ ْنــ َيـــ ٌ‬
‫ُ‬
‫ال ينبغـي لنـا أن نَفهـم منهـا أن األمـ َر يتعلَّـق بإخضـاع التحليـل النفسي‬
‫للِّسـانيّات؛ ذلـك ألن هـذا املحلِّـل النفسي كان يرفـض اعتبـار الالوعـي‬
‫ٌ‬
‫مدلـول ثابـت‪،‬‬ ‫عالمـة‪ ،‬باملعنـى الـذي يقصـده دوسوسير؛ أي عالمـة لهـا‬
‫ّ‬
‫الدوال؛‬ ‫فاللّغـة ‪-‬بالنسـبة إليه‪ -‬ليسـت نسـقاً مـن العالمات‪ ،‬بل نسـقاً مـن‬
‫ويعنـي هـذا أن نظريـة دوسوسير هـي نظريـة للعالمـة‪ ،‬يف حين أن نظرية‬
‫ّ‬
‫الـدال واملدلول‪،‬‬ ‫ّ‬
‫للـدال‪ ،‬فلا متييز يف لغـة الالوعي بني‬ ‫الكان هـي نظريـة‬
‫و«الشـبكة الالواعيـة ميكـن أن تكون مفتوحـة‪ ،‬بامتياز‪ ،‬على املعاين كلِّها‪:‬‬
‫دال خالـص»(((‪.‬‬ ‫مفتوحـة على ٍّ‬
‫ّ‬
‫للدال‪ ،‬يف الشـبكة‬ ‫وتعود أه ّميّة هذه األولوية التي أعطاها جاك الكان‬
‫م‪ :‬تكشـف‬ ‫ـلــح‪ ،‬من خاللها‪ ،‬املعنى عىل أنها تؤدِّي إىل اسـتنتاج مه ٍّ‬
‫التي يُ ُّ‬
‫بنية الشـبكة الدالّة عن اإلمكانية التي لإلنسـان يف اسـتخدام هذه الشـبكة‬
‫للداللـة على يش ٍء آخـر غير ما يبـدو أنهـا تقوله‪ ،‬لكن هـذه الشـبكة الدالّة‬
‫للـدال‪ ،‬بوصفـه شـبكة رمزيـة‪ ،‬قـدرة كبيرة وسـلطة‬ ‫ّ‬ ‫تكشـف ‪-‬باملقابـل‪ -‬أن‬
‫تجعـل‬
‫َ‬ ‫واسـعة واسـتقاللية كاملـة يف عالقتـه باإلنسـان‪ ،‬بحيـث ميكنهـا أن‬
‫اإلنسـا َن يقـول ما ال يريـد أن يقوله‪.‬‬
‫األدب‪ ،‬والتحليـل النفسي‪ ،‬واللسـان ّيات‪ :‬العالقـة بين هـذه العنـارص‬
‫هـي ‪-‬بالتأكيـد‪ -‬ذات طبيعة إشـكالية‪ ،‬وسـأكتفي بإشـارات‪ ،‬أمت ّنـى أن تكون‬
‫كافيـة ودالّة‪.‬‬

‫‪(1) J. Le Galliot, Psychanalyse et langages littéraires, Nathan, Imprimerie Aubin, 1977, p 86.‬‬

‫‪17‬‬
‫بخصـوص العالقـة بين التحليـل النفيس واألدب‪ ،‬سـنعود إليهـا‪ ،‬وإىل‬
‫الجديـد فيهـا‪ ،‬عنـد الحديـث عـن بعـض النماذج النقديـة املعـارصة‪.‬‬
‫لكـن هـذا الجديـد ميكـن اختزالـه يف هـذه القولـة‪ :‬إنـه ليـس على التحليل‬
‫النفسي أن يضيء األدب‪ ،‬بـل على األدب أن يضيء التحليـل النفسي؛‬
‫ٍ‬
‫واحد منهام‬ ‫كل‬
‫ويعنـي هـذا أن الواحـد منهام ال يُـــقاس باآلخـر إلّ باعتبـار ِّ‬
‫معرفـ ًة باللّغـة‪.‬‬
‫أ ّمـا بالنسـبة إىل مسـألة العالقـة بين التحليـل النفسي‪ ،‬واألدب‪،‬‬
‫واللسـانيات‪ ،‬فـإن الجديـد الـذي اكتشـفناه‪ ،‬مـع جـاك الكان‪ ،‬وأرشنـا‬
‫إليـه عنـد الحديـث عـن املسـألة األوىل‪ ،‬هـو أن التحليـل النفسي واألدب‬
‫َــعمل‬
‫ُ‬ ‫ال يقنعـان بـأن يتحـ َّوال إىل مجـ َّرد أمثلـ ٍة مـن اللّغـة املسـتعملة‪ ،‬ت‬
‫اللسـانياتُ على توضيحهـا وإضاءتهـا‪ ،‬بـل إنهما يستكشـفان بعـدا ً يف‬
‫اللّغـة‪ ،‬يصمـد أمـام املعرفـة اللسـانية‪ ،‬ويتحدّاهـا؛ ذلـك ألن مـا يتحقَّـق‬
‫يب‪ ،‬ال ميكن أن نحيـط به من خالل‬ ‫نفسي أو يف عمـلٍ أد ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫باللّغـة يف تحليـلٍ‬
‫«منـاذج نظريـة لسـانية»‪.‬‬
‫والسـؤال األسـاس‪ ،‬هنـا‪ ،‬الـذي حاولنـا اإلجابـة عنـه‪ ،‬عنـد حديثنـا عـن‬
‫ّ‬
‫الـدال عنـد جـاك الكان‪ ،‬هـو‪ :‬مـا هـو هـذا البعـد يف اللّغـة الـذي‬ ‫نظريـة‬
‫النفسي‬
‫ُّ‬ ‫التحليـل‬
‫ُ‬ ‫يصمـد أمـام املعرفـة اللسـانية‪ ،‬والـذي يفـرض علينـا‬
‫واألدب أن نأخـذَه بعين االعتبـار؟‪ ،‬وكيـف ميكـن للصـورة‪ ،‬التـي رسـمها‬ ‫ُ‬
‫دوسوسير للّغـة‪ ،‬أن تسـمح باعتبار هذا البعد جوهريـاً يف اللّغة‪ ،‬بحيث ال‬
‫نعتبر زلّ ت اللسـان وفلتاتـه واألحلام واألعمال األدبيّة مج َّرد اسـتعامالت‬
‫للّغـة مـن بين اسـتعامالت أخـرى‪ ،‬بـل باعتبارهـا هـذا الـكالم الـذي يُــبرز‪،‬‬
‫مـن داخـل الخطـاب‪ ،‬حقيقـ َة اللّغـة نفسـها؟ و‪-‬بعبـار ٍة واحـدة‪ -‬مـا هـو‬
‫النفسي أن نأخـذه بعني‬
‫ُّ‬ ‫والتحليـل‬
‫ُ‬ ‫األدب‬
‫ُ‬ ‫هـذا الشيء الـذي يفـرض علينـا‬
‫االعتبـار‪ ،‬يف اللّغـة؟‬
‫يبـدو أن مـا يفرضانـه هـو أننـا ال نتكلَّـم مـن أجـل التواصـل وقضـاء‬
‫األغـراض‪ ،‬فحسـب‪ ،‬بـل الهـدف‪ ،‬يف التحليـل النفسي كما يف األدب‪ ،‬هـو‬
‫مما يـراد قولـه‪،‬‬
‫إحـداث كالم‪ ،‬ومـن خلال هـذا الـكالم يقـال‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬أكثر ّ‬

‫‪18‬‬
‫أو يقـال مـن خاللـه مـا ال يقـال‪ ،‬دامئـاً؛ ومـن هنـا الخرب السـعيد‪ ،‬كما قال‬
‫جيـل دولـوز يف كتابـه‪« :‬منطـق املعنـى»(((‪« :‬مل يعـد املعنـى هـو غائيّـة‬
‫م‪ ،‬ألن املعنى‪ ،‬هنـا‪ ،‬ال نعيد‬
‫الخطـاب‪ ،‬بـل إن مفعوالتـه الظاهـرة هي األهـ ّ‬
‫اكتشـافه‪ ،‬بـل إننـا ننتجـه»‪.‬‬
‫مـن هنـا‪ ،‬إذا كان الالوعـي ُمـ َبـ ْنـ َيـنــــاً مثـل اللّغـة‪ ،‬وإذا كان الالوعـي‬
‫يتكلـم‪ ،‬فليـس ألن ألفعالنـا وثرثراتنـا وعاداتنا الهوسـية وآالمنا الهسـتريية‬
‫رسيّـاً باطن ّيـاً مخ َّبئـاً وراء مع ًنـى ظاهـر‪ ،‬ذلـك ألن الكبـت هـو آل ّيـة‬‫معنـى ِّ‬
‫محـل‬
‫ّ‬ ‫الخطـاب نفسـه‪ ،‬لكـن املكبـوت ليـس داللـة‪ ،‬بـل هـو عالمـة حلّـت‬
‫عالمـة أخـرى‪ .‬وابتـدا ًء مـن كتابـه‪« :‬تفسير األحلام»‪ ،‬يقـول فرويـد إن‬
‫املحتـوى الباطـن واملحتـوى الظاهـر للحلـم ال تحكمهما عالقـ ٌة مـن مثـل‬
‫بنـص آخـر‪ ،‬ومـن مثـل‬‫ٍّ‬ ‫نـص‬
‫عالقـة العالمـة بالداللـة‪ ،‬بـل مـن مثـل عالقـة ٍّ‬
‫بالنـص األصلي‪ ،‬فاألمـر يتعلّـق بـــ «ترجمة» لسـانٍ‬ ‫ّ‬ ‫جـم‬‫النـص املرت َ‬
‫ّ‬ ‫عالقـة‬
‫بلسـانٍ آخر ‪.‬‬
‫(((‬

‫بعبـارة أخـرى‪ ،‬نقـول‪ :‬إن مـا يقدِّمـه التحليـل النفسي واألدب‬


‫ٍ‬
‫دالالت‪ ،‬بـل إنهـا تحدِّد‬ ‫للِّسـانيِّات هـو أن أفعـال اللّغـة ال تحيـل على‬
‫خاص يسـ ّميه فرويـد «التحديد‬
‫ٌّ‬ ‫عالمـات‪ ،‬والعالمـة‪ ،‬هنـا‪ ،‬لها تحديـ ٌد‬
‫املتعـدِّد ‪ .»(((Surdetermination‬ومـن أجـل تحديـد معنـى هـذا‬
‫الخـاص باشـتغال‬
‫ّ‬ ‫املصطلـح‪ ،‬ينبغـي لنـا أن نسـتحرض أن الفصـل‬
‫الحلـم يبـدأه فرويـد مبفهـوم «التكثيـف‪،»La condensation-‬‬
‫ليخلـص إىل القـول‪:‬‬
‫«مل نكـن‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬على يقين بأننـا قـد أ َّولنـا حلماً تأويلاً تا ّمـاً‪ ...‬ومـن‬
‫املمكـن‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬أن يكـون لهـذا الحلـم املزيـد مـن املعـاين األخـرى»(((‪.‬‬
‫تتجلى يف أنـه ال يَــعترب «النهائيـة‬
‫ّ‬ ‫واألكثر مـن ذلـك أن قـ ّوة فرويـد‬

‫‪(1) G. Deleuze, Logique du sens, Minuit, Paris, 1969, p 8990.‬‬


‫‪(2) S. Freud, L’interprétation des rêves, PUF, Paris, 2003, p 241.‬‬
‫‪(3) Ibid, p 265.‬‬
‫‪(4) Ibid, p 242.‬‬

‫‪19‬‬
‫املعنـى‪ »infinitude du sens-‬مـن سمات املعنـى‪ ،‬بـل إنـه يـرى هـذه‬
‫خاصيّـ ًة مـن خصائص العالمة‪« :‬حتى األحالم امل ُــ َؤ َّولَـــة بشـكلٍ‬
‫ِّ‬ ‫الالنهائيـة‬
‫مؤسـس التحليـل النفيس‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أفضـل‪ ،‬نجدهـا تحتفـظ بزاويـة غامضة»‪ ،‬يقول‬
‫ِ‬
‫ُـكتشــف الـذي‬ ‫مـن هنـا‪ ،‬ال ينبغـي لنـا أن نبحـث‪ ،‬عنـد فرويـد‪ ،‬عـن هـذا امل‬
‫يتسلَّـــل إىل أعماق اإلنسـان بحثــــاً عـن املعنـى األصلي‪ ،‬ألن األهـ َّ‬
‫م هـو‬
‫أن نـرى عنـد فرويـد‪ ،‬مـا يسـ ّميه جيـل دولـوز «مجمـوع آل ّيـات الالوعـي ‪-‬‬
‫‪ »La machinerie de l’inconscient‬التـي تنتـج املعنـى يف عالقتـه‬
‫بالالمعنـى(((‪.‬‬
‫النفسي‬
‫ُّ‬ ‫التحليـل‬
‫ُ‬ ‫يفـرض‬
‫ُ‬ ‫م األشـياء التـي‬
‫هـذه ‪-‬باختصـار شـديد‪ -‬أهـ ّ‬
‫واألدب على اللسـانيّات أخذَهـا بعين االعتبـار‪ ،‬لكـن البـ ّد مـن إشـارةٍ‬ ‫ُ‬
‫بخصـوص عالقـة اللسـانيات بـاألدب‪ ،‬وهـي إشـار ٌة تكشـف أن دوسوسير‬
‫التحليـل النفسي‬
‫ُ‬ ‫مل يكـن‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬بعيـدا ً عـن تلـك األشـياء التـي يفرضهـا‬
‫واألدب‪.‬‬
‫ير عن األدب‪ ،‬لكننا نتسـاءل‪:‬‬ ‫قـد يبـدو أن سوسير مل يقـل اليش َء الكث َ‬
‫ملـاذا ال نسـتحرض‪ ،‬إلّ قليلاً‪ ،‬مخطوطـات دوسوسير حـول «الجناسـات‬
‫التصحيفيـة‪( »Les anagrammes-‬لنالحـظ صداهـا الكبير عنـد جـاك‬
‫الكان‪ ،‬مثلاً)؟؛ ففـي هـذه املخطوطـات‪ ،‬كما يوضِّ ـح باتريـس مانجليـي‪،‬‬
‫يتعلَّـق األمـر بفرضيـ ٍة حول وظيفة الشـعر عند الهنـدو أوروبيِّين القدامى‪:‬‬
‫تتجلى يف إضفـاء بعـض املوسـيقى على‬ ‫ّ‬ ‫فهـذه الوظيفـة‪ ،‬عندهـم‪ ،‬ال‬
‫الخطـاب ال يف إنشـاد دعـاء إىل اللـه؛ ذلـك ألن اشـتغال الشـعر‪ ،‬يف‬
‫ٌ‬
‫اشـتغال «صـويتٌّ»(((؛ ومعنـى هذا‬ ‫األصـل‪ ،‬ليـس جامليًّـا وال دينيًّـا‪ ،‬بـل إنـه‬
‫أن وظيفـة الشـعر هـي أن يسـمعنا العالمـة‪ ،‬و‪-‬بالضبـط‪ -‬مـن خلال هـذه‬
‫الوحـدات الصغـرى التـي تسـ ّمى الفونيمات‪ .‬ذلـك ألن املشـكل األ َّول عند‬
‫دو سوسير هـو أن الفونيـم ليـس صوت ّيـاً‪ ،‬وأن اللسـان الـذي نتكلَّمـه ليـس‬

‫‪(1) G. Deleuze, Ibid, p 90.‬‬


‫‪(2) J. Starobinski, Les mots sous les mots, Les anagrammes de Ferdinand de Saussure,‬‬
‫‪Gallimard, Paris, 1971, p 34.‬‬

‫‪20‬‬
‫مصنوعـاً مـن األصـوات‪ ،‬بـل مـن القطائـع والتمفصلات التـي ال ميكـن أن‬
‫ٍ‬
‫خطاطـات منوذجيـةً‪ ،‬مـن املمكـن معاينتهـا باملنهـج التجريبـي‬ ‫متاثـل‬
‫برر ‪-‬حسـب دوسوسير‪ -‬وجـود‬ ‫الكالسـييك؛ واملشـكل الحقيقـي الـذي ي ِّ‬
‫اللسـانيات ليـس هـو الجهل بالقوانين الشـكلية للّغة‪ ،‬بل هو عـدم معرفة‬
‫الكيفيـة التـي تُــد َرك بهـا وحـداتُ اللّغـة نفسـها‪ ،‬واألكثر مـن ذلـك عـدم‬
‫معرفتنـا مبـا يُـــد َرك‪ ،‬بالضبـط‪ ،‬يف اللّغـة‪ ،‬وهـذا املشـكل مل يجـد حلَّـــه‬
‫إىل اليـوم‪.‬‬
‫ومـن هـذا املنظـور‪ ،‬يتقـدَّم الشـعر ‪-‬بالنسـبة إىل دوسوسير‪ -‬على‬
‫أنـه اللسـانيات األوىل؛ فالشـاعر يجعـل اللّغـة تشـتغل ضـ َّد نفسـها‪ ،‬مـن‬
‫أجـل إبـراز الخصائـص السـمعية داخـل القصيـدة نفسـها‪ ،‬فهـو يشـتغل‬
‫بــ«املـادّة» الصوتيـة مـن أجـل أن تكشـف عـن يش ٍء أو جز ٍء من «شـكلها»‪،‬‬
‫ففـي الشـعر يختفـي مـا يتكلَّـم عنه الشـاع ُر مـن أجل إبـراز ما يَــرمز إىل ما‬
‫يتكلّـم عنـه هـذا الشـاعر؛ أي أن موضـوع القصيـدة يختفـي‪ ،‬وما يبقـى بارزا ً‬
‫خطـاب يجعلنا‬
‫ٌ‬ ‫هـو العالمـة أو الرمـز إىل هـذا املوضـوع‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالشـعر‬
‫نَــسمع العالمـةَ‪ ،‬يجعـل اللسـا َن حـارضا ً‪ ،‬أليـس هـذا هـو دور املعالجـة‬
‫النفسـانية‪ ،‬بحسـب جـاك الكان؟‬

‫‪21‬‬
‫روالن بارت (‪▲ )1980 - 1915‬‬
‫روالن بـــارت‪ :‬هناك فرويد آخر‬

‫نفترض أن هنـاك عالقـ ًة وثيقـ ًة بين أعمال روالن بـارت وبين التحليـل‬
‫تسـتحق مـن‬
‫ّ‬ ‫تنـل‪ ،‬بعـدُ‪ ،‬مـا‬ ‫ُ‬
‫اإلهمال‪ ،‬ومل ْ‬ ‫النفسي‪ ،‬وهـي عالقـ ٌة طالَـــها‬
‫صاحب هـذه األعامل كان‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلهمال إىل أن‬ ‫البحـث والـدرس‪ .‬قـد يعـود هـذا‬
‫يل مـن إيديولوجيـة التحليـل النفسي التـي يـرى‬ ‫معروفـاً مبوقفـه السـجا ِّ‬
‫ين ‪-‬‬ ‫خاصـ ٍة ذات شـكلٍ «شـمو ٍّ‬
‫يل وكلّيـا ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫خـــطابي ٍة‬ ‫أسـاس ِ‬
‫ِ‬ ‫أنهـا تقـوم على‬
‫‪ .(((»totalitaire‬ومـع ذلـك‪ ،‬فإن هذه املسـافة النقدية التـي اتَّخذها بارت‬
‫مـن إيديولوجيـة التحليـل النفسي مل متنعـه مـن أن يسـتخدم مفهومـات‬
‫التحليـل النفيس وموضوعاتـه‪ ،‬ومرجع ّياته‪ :‬النظريـة‪ ،‬والتطبيقية‪ ،‬انطالقاً‬
‫مـن مؤلَّـــفه النقـدي «عـــن راسين» (‪ ،)1960‬وصـوالً إىل مؤلَّـــفه «لـذّة‬
‫النـص» (‪ ،)1973‬لكـن ‪-‬باألسـاس‪ -‬مـع مؤلَّــفه‪« :‬س‪ /‬ز» (‪)1970‬؛ وفـوق‬ ‫ّ‬

‫‪(1) Eric Marty: Roland Barthes et le discours clinique, lecture de S / Z ; Essaim, 2005 / 2‬‬
‫‪N: 15, p 85.‬‬

‫‪23‬‬
‫ذلـك كلّـه‪ ،‬ميكـن أن نزعـم أن كتابات بـارت اإلبداعية التي صـدرت يف فرت ٍة‬
‫الحقـ ٍة‪ ،‬مثـل «روالن بـارت» بقلـم «روالن بـارت» (‪« - )1975‬شـذراتٌ مـن‬
‫متـارس التحليل النفيس‪ ،‬بشـكلٍ من‬
‫ُ‬ ‫خطـاب عاشـقٍ » (‪ ،)1977‬هـي كتابـاتٌ‬
‫ٍ‬
‫وخاصـ ًة مـا يُـس َّمــى «التحليـل الـذايت‪.»Auto-analyse-‬‬
‫ّ‬ ‫األشـكال‪،‬‬
‫قـد تبـدو هـذه العالقـة بالتحليـل النفسي مزدوجـة ومتناقضـة‪،‬‬
‫فبالنظـر إىل أعمال بـارت النقديـة‪ ،‬واإلبداعيـة‪ ،‬سـنالحظ أن هنـاك‬
‫عالقـة وثيقـة‪ ،‬لكـن بـارت يُـع ِّبــر‪ ،‬يف الوقـت نفسـه‪ ،‬عـن مواقـف ضـ ّد‬
‫إيديولوجيـة التحليـل النفسي‪ .‬والالفـت للنظـر أن العالقـة نفسـها‬
‫ميكـن أن نالحظهـا يف عالقتـه باملاركسـية التـي يُدمجهـا يف نسـقه‬
‫الفكـري‪ ،‬والنقـدي‪ ،‬مثـل التحليـل النفسي ‪-‬لكنـه يف الوقـت نفسـه‪-‬‬
‫يرفـض إيديولوجيَّتهـا الكلَّيانيـة الشـمولية‪ .‬يف الواقـع‪ ،‬ال ميكـن أن‬
‫إل إذا أخذنـا‬‫نفســـر هـذا النـوع مـن العالقـة املزدوجـة املتناقضـة‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫بعين االعتبـار أن الكتابـة عنـد روالن بـارت هـي هـذه التـي تنفتـح على‬
‫خطـاب التحليـل النفسي (أو على خطـاب املاركسـية)‪ ،‬مـن دون أن‬
‫بـكل إكراهاتـه والتزاماتـه‪ ،‬كأنهـا تريـد أن تكـون «كتابـ ًة بيديـن‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تلتـزم‬
‫إل مـن أجل أن تكـون اإلثارة‬ ‫ير هنـا مـا ترفضـه هناك‪ ،‬وهـي ال ترفض ّ‬ ‫تث ُ‬
‫على الوجـه األفضـل» ‪ ،‬أو كأنهـا تريـد أن تكـون كتابـة بي َديْـن‪ :‬تنتقـد‬
‫(((‬

‫ترغـب فيـه تلـك اليـد األخـرى؛ وهـي ‪-‬بـكل ذلـك‪ -‬ال تـرى‬‫ُ‬ ‫هـذه اليـ ُد مـا‬
‫خصـــه بـارت بدروسـه‪ ،‬سـنة ‪:1978‬‬ ‫َّ‬ ‫إل يف صـورة ذلـك الـذي‬ ‫نفسـها ّ‬
‫«املحايـد‪»Le Neutre-‬؛ والحيـاد‪ ،‬هنـا‪ ،‬ليـس مبعنـى الضعـف أو‬
‫العجز أو البحث عن تسـوية‪ ،‬بل مبعنى االنفالت من لوغوس التحليل‬
‫النفسي الضاغط‪ ،‬سعيــــاً إىل تحقيـق تلك الق ّوة القـادرة عىل خلخلة‬
‫مفهوماتـه وبنياتـه و ِقيَمـه؛ والحيـاد ليس مبعنى الوسـطية واالعتدال‪،‬‬
‫التوسـط‬
‫ُّ‬ ‫فـأن تتـذ َّوق معنـى املحايـد‪ ،‬عنـد بـارت‪ ،‬هـو أن تنفـر مـن‬
‫واالعتـدال‪ ،‬وأن تجعـل مـن الحيـاد مقولتـك األخالقيـة الرضوريـة مـن‬

‫‪(1) Bernard Comment: Roland Barthes vers le Neutre, Christian Bourgois Editeur, 1991,‬‬
‫‪p 15.‬‬

‫‪24‬‬
‫الخاصيّـة التـي التقبـل بالتسـامح‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أجـل أن تزيـل‪ ،‬عـن املعنـى‪ ،‬تلـك‬
‫الخاصيّـة االسـتبدادية التـي ال ت ُحت َمـــل ‪.‬‬
‫(((‬
‫ِّ‬ ‫تلـك‬
‫شـديد‪ :‬إن روالن بـارت‪ ،‬يف عالقتـه بالتحليـل النفسي‪ ،‬يبـدو‬ ‫ٍ‬ ‫بإيجـا ٍز‬
‫يحب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫األسـطوري أورفيـوس‪ ،‬فهو يعـود إىل ما‬
‫ِّ‬ ‫اإلغريقي‬
‫ِّ‬ ‫مثـل ذلـك البطـلِ‬
‫حـبي َبـتُــــه؛ أو ‪-‬لنقـل‪ -‬إن بارت يعود إىل‬
‫لكنـه يغـاد ُر من دون أن ترافــقَـــه َ‬
‫ي آخ َر غير الذي‬
‫بخطـاب تحليل ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫النفسي‪ ،‬لكنـه قـد يغـادره عائـدا ً‬ ‫ِّ‬ ‫التحليـل‬
‫رجـع إليه‪.‬‬
‫وخاصـ ًة يف كتابـه عن «راسين»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سـنحاول أن نـرى كيـف يعـود بـارت‪،‬‬
‫مؤســـس التحليل النفيس‪ ،‬سـيغموند فرويد (وميكن‬ ‫ِّ‬ ‫إىل املعلِّـــم األ َّول‪،‬‬
‫وخاص ًة يف مؤلَّــفــه «س ‪ /‬ز» إىل املعلِّـــم‬
‫َّ‬ ‫أن نتسـاءل كيـف يعـود بـارت‪،‬‬
‫الثـاين أيضـاً‪ ،‬إىل مجـدِّد التحليـل النفسي‪ ،‬جـاك الكان؟)‪ ،‬ومـا ينبغـي لـه‬
‫النفسي بي َديْن يف‬
‫َّ‬ ‫التحليل‬
‫َ‬ ‫ميارس بـارت‬
‫َ‬ ‫أن يشـ َّد أنظارنـا هـو‪ :‬ما معنـى أن‬
‫يرغب يف مامرسـة التحليـل النفيس‪ ،‬لكنه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كتاباتـه النقديـة؟ مـا معنى أنه‬
‫يف الوقـت نفسـه‪ ،‬يرفضـه؟ وإذا كان بـارت يعـود إىل فرويـد‪ ،‬فهـل يعـود‬
‫ي مختلف؟‬ ‫بخطـاب تحليل ِّ‬
‫ٍ‬ ‫منـه‬

‫بارت و فرويد‬
‫يبـدو أن مؤلَّـــف «عـن راسين»((( هـو الـذي يُـعبِّـــر ‪ -‬بشـكلٍ أفضل‪ -‬عن‬
‫النفسي سـيغموند‬
‫ِّ‬ ‫مبؤســس التحليـل‬
‫ِّ‬ ‫هـذه العالقـة الوثيقـة واملزدوجـة‬
‫وخاصـ ًة يف الدراسـة األوىل مـن هـذا املؤلَّـــف التي تحمـل عنوان‬
‫ّ‬ ‫فرويـد‪،‬‬
‫«اإلنسـا ُن الراسـيني» ‪ .‬ففـي هـذه الدراسـة األوىل‪ ،‬تـأيت «اللّغـة نفسـاني ًة‬
‫(((‬

‫‪(1) Ibid, p 64.‬‬


‫‪(2) Roland Barthes: Sur Racine, Club français du livre et Editions du Seuil, Paris, 1963.‬‬
‫((( يتألف هذا املؤلَّــف من ثالث دراسات كانت وليدة ظروف مختلفة‪ ،‬فاألوىل التي تحمل عنوان‪« :‬اإلنسان‬
‫الراسيني» يف الجزأين الحادي عرش‪ ،‬والثاين عرش من مؤلَّـف «املرسح الكالسييك الفرنيس» الذي نرشه‬
‫النادي الفرنيس للكتاب سنة ‪1960‬؛ والدراسة الثانية عنوانها «أن تقول راسني»‪ ،‬وقد ُنرشت يف مجلّة «مرسح‬

‫‪25‬‬
‫‪ ،»psychanalytique‬كما يقـول بـارت نفسـه‪ :‬لكـن املعالجـ َة قـلَّــمــا‬
‫ِ‬
‫مفهومـات‬ ‫كانـت كذلـك(((»؛ ونفهـم مـن ذلـك أن روالن بـارت يسـتخدم‬
‫التحليـل النفسي وموضوعاتِــــه‪ ،‬لكنـه يرفـض أن يقـوم باملعالجـة‬
‫النفسـانية‪ ،‬منبِّهـــاً إىل أن هناك معالج ًة نفسـاني ًة ممتاز ًة لراسين‪ ،‬أنجزها‬
‫الحقيقـي‬
‫َّ‬ ‫السـبب‬
‫َ‬ ‫شـارل مـورون((( الـذي يديـن لـه بالشيء الكثير(((؛ لكـن‬
‫التحليـل الـذي يقدّمـه يف هـذه الدراسـة‬ ‫َ‬ ‫الـذي ال يخفيـه بـارت‪ ،‬هـو أن‬
‫منشـغل بالبطـل الراسـيني؛‬ ‫ٌ‬ ‫تحليـل‬
‫ٌ‬ ‫م راسين مطلقـاً‪ ،‬بـل إنـه‬ ‫األوىل ال يَــه ُّ‬
‫الذهاب‬
‫ِ‬ ‫فاألمـر يتعلَّـق بدراسـ ٌة «تتفـادى أن تكون استنتاجاتُــها وليد َة ذلـك‬
‫يب إىل املؤلِّـــف‪ ،‬ومـن املؤلِّـــف إىل العمـل األديب‪، ».‬‬
‫(((‬
‫مـن العمـل األد ِّ‬
‫يف‬
‫النفسي البيوغـرا َّ‬ ‫َّ‬ ‫ميـارس ذلـك النقـ َد‬
‫َ‬ ‫يرفـض أن‬‫ُ‬ ‫ويعنـي ذلـك أن بـارت‬
‫يب بالرصاعـات الالواعيـة للكاتـب أو الشـاعر كام‬ ‫العمـل األد َّ‬
‫َ‬ ‫يفســــر‬
‫الـذي ِّ‬
‫خ طفولتـه‪ ،‬وال يريـد ملعالجتـه‪ ،‬يف هـذه الدراسـ ِة‪ ،‬أن تكـون‬ ‫يكشـفها تاريـ ُ‬
‫معين للمعالجـة النفسـاني ِة التـي تهدف إىل اكتشـاف‬ ‫َّ‬ ‫استنسـاخاً ملفهـوم‬
‫رص صدمـ ٍة مكبوتـ ٍة‪ ،‬وإىل إبـراز الرصاعـات الغريزيـة‪ ،‬وإىل البحـث‪،‬‬ ‫عنـا ِ‬
‫بعـض‬ ‫ُ‬ ‫يب‪ ،‬عـن العنـارص املسـ ِّبب ِة لألمـراض التـي تكشـفها‬ ‫يف العمـل األد ِّ‬
‫املعطيـات البيوغرافيـة‪ ،‬وإىل إقامـة عالقـ ٍة بين املظاهـر الباتولوجيـة‬
‫(امل َــ َرضية) لشـخصية املبـدع وبين محتـوى األثـر األديب‪.‬‬
‫هـذا النـو ُع مـن املعالجـة النفسـانية‪ ِ،‬الـذي يرفضـه بـارت‪ ،‬كان قـد‬
‫ُ‬
‫األكثر ازدهـارا ً‬ ‫أسسـه فرويـد نفسـه يف عـد ٍد مـن الدراسـات(((‪ ،‬وكان هـو‬ ‫َّ‬
‫يب عنـد أتبـاع فرويـد ‪ ،‬مـن الثالثينيـات إىل السـتينيات؛ وهو‬
‫(((‬
‫يف النقـد األد ِّ‬

‫«حوليات»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أما الثالثة‪ ،‬فهي بعنوان «تاريخ أم أدب؟»‪ ،‬وقد ُنرشت يف مجلّة‬‫شعبي»‪ ،‬العدد ‪ ،29‬مارس ‪1958‬؛ ّ‬
‫العدد ‪ ،3‬مايو‪ ،‬يونيو ‪.1960‬‬
‫‪(1) R. Barthes , Ibid, p 9.‬‬
‫‪(2) Charles Mauron: L’inconscient dans l’œuvre et la vie de Racine, Gap, Ophrys, 1957.‬‬
‫‪(3) R. Barthes: Ibid.‬‬
‫‪(4) Ibid.‬‬
‫((( نذكر منها‪« :‬ذكرى من طفولة ليونار دو فانيش» (‪)1910‬؛ «ذكرى من الطفولة عند جوته» (‪)1917‬؛‬
‫«دوستويفسيك وقتلُ األب» (‪.)1928‬‬
‫َــشــلُ بودلري» (‪)1931‬؛ ماري بونابارت‪ ،‬يف مؤلَّـفها «إدغار‬
‫((( نذكر منهم‪ :‬رونيه الفورج‪ ،‬يف مؤلَّفه النقدي «ف َ‬
‫بو‪ :‬حياته وأعامله» (‪)1933‬؛ جان دوالي «أندري جيد يف شبابه» (‪)1956‬؛ مارسيل موري‪« :‬جول فرين‪ ،‬هذا‬

‫‪26‬‬
‫األعمال األدبيّـ َة ليسـت مسـتقلّ ًة عن‬
‫َ‬ ‫يف ينطلـق مـن أن‬
‫نفسي بيوغـرا ّ‬
‫ّ‬ ‫نقـ ٌد‬
‫يرها إلّ بالعـودة إىل طفولتـه‪،‬‬ ‫الحيـاة الشـخصية للمبـدع‪ ،‬وال تجـد تفس َ‬
‫فَــمــ َهــ َّمـــ ُة الناقـد النفسي‪ ،‬مـن هـذا املنظـور‪ ،‬هـي دراسـ ُة ذلـك الرباط‬
‫يب وحيـاة األديـب‪ ،‬مـن خلال الرتكيـز على املوضوعـات‬ ‫بين العمـل األد ِّ‬
‫نفيس من‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫ناقـد‬ ‫الالواعيـة؛ وبهـذا‪ ،‬ال تصلـح أعمال الشـاعر ووثائقــه‪ ،‬عند‬
‫كلينيكي لِــ ُعــصـــاب الفشـل عنـد‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫وصـف‬ ‫مثـل رونيـه الفـورج‪ ،‬إلّ إلجـراء‬
‫بودلير‪ ،‬صاحـب «أزهـار الشر»‪.‬‬
‫يرفـض روالن بـارت أن يقـوم بهـذا النـوع مـن املعالجـة النفسـية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأن‬
‫النفسي الـذي كان سـائدا ً‬
‫ِّ‬ ‫ليـس معنـاه أنـه يرفـض هـذا النـو َع مـن النقـد‬
‫نفســه‪ ،‬عندمـا يط ِّبــق‬‫يف عصره‪ ،‬فقـط‪ ،‬بـل إنـه يعنـي أنـه يرفـض فرويـ َد َ‬
‫هـذا النـو َع مـن املعالجـة النفسـانية‪ ،‬على اإلبـداع واملبدعين؛ لكن ذلك‬
‫اليعنـي أنـه يرفـض فرويـد كلَّـــه‪ ،‬بـل إنـه ‪-‬كما نزعم‪ -‬سـينطلق مـن فرويد‬
‫نفسـها‪ ،‬منـذ‬ ‫َ‬ ‫ر لألسـئلة الجديـدة التـي بـدأت تفـرض‬ ‫آخـ َر يسـتجيب أكث َ‬
‫ين‬
‫الدرس اللسـا ُّ‬‫ُ‬ ‫وخاصـ ًة بعد أن بدأ‬
‫ّ‬ ‫بدايـة السـتينيات مـن القـرن املايض‪،‬‬
‫يحتـل الصـدار َة يف العديـد مـن املجـاالت املعرفيـة‪ .‬وميكـن أن‬ ‫ّ‬ ‫البنيـوي‬
‫ُّ‬
‫رييْـن من كبـار ذلك‬ ‫نذهـب بعيـدا ً‪ ،‬فنقـول إن الحـوا َر الـذي مل يقـع بين كب َ‬
‫‪-‬ربـا‪ ،‬بالضبط‪ -‬مـا يريـد أن يحقِّقه بارت‬ ‫العصر‪ ،‬فرويـد ودوسوسير‪ ،‬هـو َّ‬
‫يف هـذه الدراسـة املك َّرسـة للرتاجيـدي الحديـث جـان راسين‪ ،‬بالطريقـة‬
‫التـي تسـمح مبعالجـ ٍة هي‪ ،‬يف الوقت نفسـه‪ ،‬نفسـاني ٌة وبنيويـةٌ‪ .‬لنقرأ هذا‬
‫الترصيـح الـذي يحـدد نوعيـ َة التحليـل الـذي يطمـح إليـه بـارت‪ ،‬رابطـاً بني‬
‫فرويـد وسوسير؛ بين التحليـل النفسي والتحليـل البنيـوي‪:‬‬
‫مغلـق بطريقـ ٍة إراديـ ٍة‪ :‬أخـذتُ مـكاين داخـل عالَـــم‬
‫ٌ‬ ‫تحليـل‬
‫ٌ‬ ‫«إنـه‬
‫أصـف مـا فيـه مـن سـاكن ٍة (ميكننـا أن‬
‫َ‬ ‫راسين الرتاجيـدي‪ ،‬وحاولـت أن‬
‫نجعلهـا ‪-‬ببسـاط ٍة‪ -‬مجـ َّرد ًة بواسـطة مفهـوم «اإلنسـان الراسـيني‪Homo-‬‬
‫أي إحالـ ٍة على مصـد ٍر مـن هـذا العالَـــم (على‬
‫‪ ،»racinianus‬مـن دون ِّ‬

‫الفضو ُّ‬
‫يل الكبري» (‪.)1960‬‬

‫‪27‬‬
‫حاولـت إعادة بنائه‬
‫ُ‬ ‫َمــصد ٍر ُمـتَــحدِّر مـن التاريـخ أو البيوغرافيا‪ ،‬مثال)‪ .‬وما‬
‫هـو نـو ٌع مـن األنرثوبولوجيـة الراسـينية التـي تـأيت بنيويـ ًة وتحليليـةً‪ :‬هـي‬
‫بنيويـة يف العمـق‪ ،‬ألن الرتاجيديـا تُــ َعــالَــــج‪ ،‬هنـا‪ ،‬بوصفهـا نسقــــاً مـن‬
‫الوحـدات («الصـور‪ )»figures-‬والوظائـف؛ وهـي تحليلي ٌة يف شـكلها‪ ،‬ألين‬
‫ٍ‬
‫خوف‬ ‫أظـن أ َّن اللّغـ َة الوحيـد َة القـادر َة عىل التقاط مـا يف هذا العالَـــم من‬
‫النفسي‪ ،‬هـذا الـذي يبـدو يل مالمئـاً ملقابلـة هـذا اإلنسـان‬ ‫ُّ‬ ‫التحليـل‬
‫ُ‬ ‫هـي‬
‫املسـجون‪.» ..‬‬
‫(((‬

‫ري عن سوسير‪ ،‬ألن ما يشـغلنا هنا هو هذا الـــ(فرويد)‬ ‫َ‬


‫نقول الكث َ‬ ‫لن‬
‫محـل ذلـك الـــ (فرويـد)‬ ‫َّ‬ ‫يحـل‬
‫َّ‬ ‫الجديـ ُد الـذي بـدأ يظهـر مـن أجـل أن‬
‫الـذي وظَّفـه النقّـا ُد النفسـانيون البيوغرافيون السـابقون‪ .‬وهـذا الوج ُه‬
‫ين‪:‬‬ ‫ين متعالقتَ ْ‬ ‫َين مرتاكبتَ ْ‬‫الفرويـدي الجديـ ُد يتقـدَّم مـن خلال صورت ْ‬ ‫ُّ‬
‫اللغـوي‬
‫َّ‬ ‫العمـل‬
‫َ‬ ‫فيهـا‬ ‫س‬ ‫َ َ‬‫ر‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ة‬ ‫تحليليـ‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫أعما‬ ‫َّم‬
‫د‬ ‫قـ‬ ‫الـذي‬ ‫فرويـد‬ ‫صـورة‬
‫خارجـي‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫يب يف حـ ِّد ذاتـه مـن دون الرجـوع إىل مصـد ٍر‬ ‫العمـل األد َّ‬ ‫َ‬ ‫أو‬
‫أقرب مـن التحليـل البنيوي ؛ وصـورة فرويد‬
‫(((‬
‫َ‬ ‫تحليلتِـه‬
‫َ‬ ‫تجعـل‬
‫ُ‬ ‫بطريقـ ٍة‬
‫وذات مبدعـ ٍة مع َّينـ ٍة (ذات‬ ‫ٍ‬ ‫دراسـات ال تربـط بين اإلبـداع‬ ‫ٍ‬ ‫الـذي قـدَّم‬
‫املبـدع)‪ ،‬بـل تريـد أن تربـطَ بين اإلبـداع والذات اإلنسـانية مـن منظور‬
‫يسـتخلص‬ ‫َ‬ ‫أنرثوبولوجـي‪ :‬ففرويـد هـو ‪-‬أوالً‪ -‬الذي اسـتطاع أن‬ ‫ٍّ‬ ‫ين‬
‫نفسـا ٍّ‬
‫املركـزي‬
‫َّ‬ ‫اإلغريقـي‪ :‬أوديـب ملـكا‪ ،‬املفهـو َم‬ ‫ِّ‬ ‫الرتاجيـدي‬
‫ِّ‬ ‫النـص‬
‫ِّ‬ ‫مـن‬
‫األسـاس لإلنسـان؛ وهو ‪-‬ثانيـاً‪ -‬هذا الذي‬ ‫َ‬ ‫يفســـ ُر البني َة النفسـي َة‬ ‫ِّ‬ ‫الـذي‬
‫اعتبر األسـاطري‪ ،‬يف مؤلَّفـه «مقاالت يف التحليل النفسي التطبيقي»‪،‬‬
‫عبـار ًة عـن بقايـا مشـ َّوه ٍة مـن اسـتيهامات الرغبـة عنـد األمـم كاملـةً‪،‬‬
‫وعبـار ًة عـن أحلام عريق ٍة عند هذه اإلنسـانية الفَــ ِت ّية؛ وهـو ‪-‬ثالثاً‪ -‬هذا‬
‫الـذي أثـا َر عـددا ً مـن األسـئلة حـول املـوا ّد التـي وفَّرهـا اإلثنوغرافيـون‬
‫وخاصـ ًة يف مؤلَّــفــه «الطوطـم والتابـو» (‪)1912‬؛ وهـو‬ ‫ّ‬ ‫يف عصره‪،‬‬

‫‪(1) Roland Barthes: Sur Racine, p 9.‬‬


‫للنص‬
‫ّ‬ ‫خاصةً يف تحليله لألحالم املحكية‪ ،‬يف مؤلَّــفه األساس «تفسري األحالم» (‪)1900‬؛ أو يف تحليله‬‫ّ‬ ‫(((‬
‫ٍ‬
‫دراسات أخرى‪ ،‬من‬ ‫الروايئ يف دراسته املهمة‪« :‬الهذيان واألحالم يف رواية‪ :‬غراديفا ِلــجينسن» (‪)1907‬؛ أو يف‬
‫مثل‪« :‬اإلبداع األديب وحلم اليقظة» (‪)1908‬؛ «الغرابة املقلقة» (‪.)1919‬‬

‫‪28‬‬
‫بعـض تالمذتـه األوائـلِ على متابعـة األبحـاث يف‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫جــ َ‬
‫‪-‬رابعـاً‪َ -‬مــن ش َّ‬
‫هذا االت ِّجـاه(((‪..‬‬
‫بصفـ ٍة عا ّمـ ٍة‪ ،‬نفترض أن روالن بـارت قـد أعـاد االعتبـا َر ألعمال‪ ٍ،‬عنـد‬
‫ُ‬
‫اإلهمال‪ ،‬وأعـاد النظـ َر يف م َهـ َّمـــة املحلِّــل النفسـاين‪،‬‬ ‫فرويـد‪ ،‬طالهـا‬
‫البنيـوي يف تحليـل النصـوص‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫مفضِّ ـلاً ذلـك الـذي ميـارس‬
‫يف‪ ،‬يف تحليـل‬ ‫التحليـل البيوغـرا َّ‬‫َ‬ ‫األنرثوبولوجـي‪ ،‬ال‬
‫َّ‬ ‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫وميـارس‬
‫العالقـة بين األدب واإلنسـان‪ .‬ويف هـذا اإلطـار‪ ،‬البـ ّد أن نعـو َد إىل موقف‬
‫بـارت املـزدوج مـن شـارل مـورون؛ فهـو ال يريـد أن يكـ ِّرر عملا سـبق إليه‬
‫ن لـه‬ ‫رح بأنـه مديـ ٌ‬ ‫هـذا الناقـ ُد النفسي‪ ،‬لكنـه‪ ،‬يف الوقـت نفسـه‪ ،‬يص ِّ‬
‫إل إذا أخذنا‬‫املتناقـض ّ‬
‫َ‬ ‫املوقـف‬
‫َ‬ ‫بالشيء الكثير‪ ،‬وال ميكـن أن نفهـم هذا‬
‫بعين االعتبـار أن شـارل مـورون قـد كان سـبّاقاً إىل معالجـة النصـوص‬
‫بنيـوي مـن مثـل بـارت‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫األدبيّـة مـن الداخـل‪ ،‬وهـذا يشء يستحسـنه‬
‫االسـتعارات امللحاحـ ِة داخـل عمـلٍ أد ٍّ‬
‫يب‬ ‫ِ‬ ‫فقـد كان شـارل مـورون يلتقـ ُ‬
‫ط‬
‫بوسـائل جديـد ٍة‪ ،‬ليـس مـن أجـل إعطائهـا ترجمـ ًة رمزيـةً‪ ،‬بالضبـط‪ ،‬قدر‬ ‫َ‬
‫مـا هـو مـن أجـل إبـراز الشـبكة التـي تتكـ َّون مـن العالقـات الالواعيـ ِة التي‬
‫ِ‬
‫االسـتعارات امللحاحة‪ ،‬والتي تجعلنا نَـع ُبـــر إىل أنسـاقٍ‬ ‫توجـد بني هـذه‬
‫مـن الصـور الدراميـة الواسـعة جـ ّدا ً‪ ،‬واملعقـدة جـدا ً تؤلِّـــف مـا يسـ ِّميه‬
‫مـورون بــــ«األسـطورة الشـخصية»(((‪ ،‬لكـن شـارل مورون هـو‪ ،‬يف الوقت‬
‫النفسي الـذي يَعمـد‪ ،‬يف النهايـة‪ ،‬إىل االسـتعانة‬ ‫ُّ‬ ‫نفسـه‪ ،‬هـذا الناقـ ُد‬
‫بحيـاة املبـدع وبيوغرافيَّتـه على طريقـة النقـد النفسي البيوغـرايف‪،‬‬
‫ويؤسـس‬ ‫ِّ‬ ‫وهـو مـا يرفضـه روالن بـارت‪ ،‬بالضبـط؛ ألنـه يفكِّـر بنقـد جديد‪،‬‬
‫نقـد يتجـاوز النقـد البيوغـرايف التقليـدي‪ .‬بعبـار ٍة واحـد ٍة‪ ،‬نفترض‬ ‫ٍ‬ ‫لـه‪،‬‬
‫أن بـارت كان مـن األوائـل الذيـن دشَّ ـنوا نوعـاً جديـدا ً مـن النقـد النفسي‬

‫((( نذكر منهم‪ :‬كارل أبراهام‪ :‬الحلم واألسطورة (‪)1909‬؛ أوتو رانك‪ :‬أسطورة ميالد األبطال (‪)1909‬؛ وهناك‬
‫جيزا روحيم‪ ،‬وهو إثنولوجي ومحلِّل نفيس‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬ق ََّدم أعام ً‬
‫ال حول األساطري وحول أبناء ميالنيزيا‪.‬‬
‫ننوه بأربعة مؤلَّفات‪ :‬مدخل إىل تحليل نفيس‪ ،‬ملاالرمي‬ ‫الجيدة‪ ،‬ميكن أن ِّ‬
‫ِّ‬ ‫بيبليوغرافيته‬
‫َّ‬ ‫((( من خالل‬
‫(‪ - )1950‬الالوعي يف أعامل راسني‪ ،‬وحياته (‪- )1957‬من االستعارات امللحاحة إىل األسطورة الشخصية‪-‬‬
‫مدخل إىل النقد النفيس (‪ - )1963‬بودلري يف سنواته األخرية (‪.)1966‬‬

‫‪29‬‬
‫يتقـدَّم بديلاً عـن ذلـك النقـد النفسي البيوغـرايف التقليدي‪ ،‬وهـذا النوع‬
‫ٍ‬
‫قراءات‬ ‫الجديـد مـن النقـد قـد ازداد تطـ ُّورا ً يف العقود الالحقـة(((‪ ،‬فأنتـج‬
‫تتَّصـف بالنوعيّـة والجـدّة يف التصـ ُّورات النظريـة‪ ،‬واملنهجيـة‪ ،‬ألنهـا‬
‫النفسي مـن تلـك القيـود التـي‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫النقـد‬ ‫قـراءاتٌ ت َــعمل مـن أجـل تحريـر‬
‫النـص مجـ َّر َد وسـيل ٍة لتحليل الوعي املؤلِّــف والكشـف عن‬ ‫َّ‬ ‫كانـت ت َــعترب‬
‫يب إىل‬
‫النـص األد َّ‬
‫َّ‬ ‫عقـده ومكبوتاتـه وصدماته وهواجسـه‪ ،‬بطريق ٍة ت ُــح ِّول‬
‫النص‬
‫ّ‬ ‫ذات مطابق ٍة لذات املؤلِّـــف مطابَــقـــ ًة تؤدّي إىل إلغاء خصوصية‬ ‫ٍ‬
‫األديب‪ ،‬واسـتقالليَّته الذاتيـة‪.‬‬
‫مسـتقبل‬
‫َ‬ ‫والخالصـة أنـه‪ ،‬مـع كتـاب «عـن راسين»‪ ،‬بـدأ يتَّضـح أن‬
‫النفيس للأدب‪ ،‬الب ّد أن يكـون بعيدا ً‬
‫ِّ‬ ‫األبحـاث والدراسـات يف التحليـل‬
‫ع خـارج‬‫النـص األديب ينبغـي لـه أن يوضَ ــ َ‬
‫ّ‬ ‫عـن املؤلِّـــف‪ ،‬فمؤلِّـــف‬
‫اللعبـة‪.‬‬
‫الشـك يف أن روالن بـارت قـد اسـتعان‪ ،‬يف هـذه الدراسـة األوىل مـن‬ ‫َّ‬
‫الكتـاب‪ ،‬مبجموعـ ٍة مـن املوضوعـات واملفهومـات النفسـانية (اإليـروس‪،‬‬
‫االضطـراب‪ ،‬املشـهد اإليـرويس‪ ،‬العالقـة‪ ،‬العدوانيـة‪ ،‬االنقسـام‪ ،‬األب‪،‬‬
‫الخـوف‪)..‬؛ بقصـد إنجـاز تحليـلٍ للشـخصية الرتاجيديـة عند راسين‪ ،‬حتى‬
‫إنـه يبـدو‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬كأنـه يقـوم بتلـك املعالجـة النفسـانية التـي سـبق أن‬
‫رفضهـا‪ ،‬والفـرق أنـه‪ ،‬هنـا‪ ،‬ال يُـط ِّبـــقها على راسين بـل على شـخص ّياته؛‬
‫فالشـخصية الرتاجيديـة عنـد راسين هـي ‪-‬يف نظـر بـارت‪ -‬شـخصي ٌة‬

‫سيؤسس الناقد الفرنيس «جان بيلامن نويل» مقاربة نفسانية‬ ‫ِّ‬ ‫((( بدايةً من السبعينيات من القرن السابق‪،‬‬
‫جديدة يف عدد من مؤلفاته‪ :‬النظرية‪ ،‬والتطبيقية‪ ،‬منها‪ :‬التحليل النفيس واألدب (‪ ،)1978‬نحو الوعي النص‬
‫النص‬
‫ّ‬ ‫النص‪ ،Textanalyse-‬وهي مقاربة تدرس الوعي‬ ‫ّ‬ ‫سمى هذه املقاربة الجديدة بالتحليل‬ ‫(‪ ،)1979‬وقد ّ‬
‫بعيد ًا عن املؤلِّــف املبدع والوعيه‪ ..‬والشك يف أن للمقالة التي نرشها «أندري غرين»‪ ،‬سنة ‪ ،1973‬يف مجلّة‬
‫ال كبري ًا عىل هذا التطور الذي عرفه التحليل النفيس لألدب‪ ،‬إذ انتقل من‬ ‫‪ Critque‬الفرنسية (العدد ‪ )312‬فض ً‬
‫يحركه‬
‫نص الوعيـاً‪ ،‬هو الذي ِّ‬ ‫موضحـ ًا أن لكلِّ ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫النص»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫معالجة الوعي املؤلِّف إىل مقاربة نفسانية لــــ «ال وعي‬
‫نص‪ .‬كام أن للدراسة التي نرشها «برنار‬ ‫ٍ‬
‫الواعية داخل كلّ ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بنيات‬ ‫ويعملُ فيه‪ ،‬وأن البنيويني يقبلون بوجود‬
‫بانغو»‪ ،‬سنة ‪ ،1976‬يف مجلّة «املجلّة الجديدة للتحليل النفيس‪»Nouvelle Revue de Psychanalyse-‬‬
‫موضـحـ ًا أن‬
‫ِّ‬ ‫النص»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نفسه؛ ففي هذه املقالة يستخدم املحلِّـل النفيس مفهوم «الوعي‬ ‫َ‬ ‫(العدد ‪ ،)14‬الفضلَ‬
‫بالوعي مستقلٍّ ‪ ،‬بل باالنزياح الذي يقع بني ما يريد الكاتب أن يقوله وما انتهت الكتابةُ إىل أن‬ ‫ٍ‬ ‫األمر اليتعلّق‬
‫َ‬
‫ـد ُر عنه‪..‬‬
‫ـص ُ‬ ‫ـم شيئـ ًا َ‬
‫غري ما َي ْ‬ ‫ـض ُّ‬
‫يكتبـه‪ ،‬مع أنه ال َي ُ‬‫ينفلت من هذا الذي ُ‬
‫ُ‬ ‫فالنص‬
‫ّ‬ ‫تجعلَه يقوله‪،‬‬

‫‪30‬‬
‫عصبـي‪ ،»névropathe-‬يسـكنها الخوف مـن العالمات‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بـ«مـرض‬ ‫مصابـة‬
‫األسـاس بين الشـخصيات‬
‫ُ‬ ‫ويطاردهـا هـذا الخـوف مـن األب‪ ...‬والعالقـة‬
‫تتأسـس على عالقـة السـلطة والعنـف‪ ،‬بحيـث ال ميكـن الحديـث إلّ عـن‬ ‫َّ‬
‫الجلاد والضح ّيـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكـن‪ ،‬إذا أردنـا البحـث عـن مفهـوم يحيـل ‪-‬باألسـاس‪ -‬على تلـك‬
‫رصح بـارت‪ ،‬يف تصدير كتابه‪ ،‬بأنه سـيعيد‬‫األنرثوبولوجيـة الراسـينية التـي َّ‬
‫بنا َءهـا‪ ،‬فـإن املفهـو َم األكثرَ ترجمـ ًة لهـذا الطمـوح هـو‪ ،‬يف افرتاضنـا‪،‬‬
‫مفهـو ُم «العصبـة البدائيـة‪ »La horde primitive-‬الـذي مل يكـ ِّرس لـه‬
‫بـارت إلّ بعـض الصفحـات القليلـة مـن دراسـته (ص‪.)22 ،20‬‬
‫هكـذا‪ ،‬يوضِّ ـح روالن بـارت أن فرويـد قـد اسـتعار مفهومـاً أساسـاً مـن‬
‫دارويـن وأتكينسـون‪ ،‬هـو مفهـوم «العصبـة البدائيـة»؛ وهما يذهبـان إىل‬
‫ٍ‬
‫ــصبات‬ ‫النـاس قـد كانـوا‪ ،‬يف أزمنـ ٍة بعيـد ٍة جـ ّدا ً‪ ،‬يعيشـون داخـل ُع‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫كل ُعــصب ٍة خاضعـ ًة لل َّذكَـــر األكثر قـ ّو ًة وشـ ّدةً‪ ،‬الـذي‬‫حشـة؛ وكانـت ُّ‬ ‫متو ِّ‬
‫َ‬
‫واألطفـال واملمتلـكات‪،‬‬ ‫كل يش ٍء مـن دون متييـز؛ ميلـك النسـا َء‬ ‫ميلـك َّ‬
‫كل يش ٍء‪ ،‬فقـ ّوة األب متنعهـم مـن الحصـول‬ ‫وكان األبنـا ُء مج َّرديـن مـن ِّ‬
‫حـ َدثَ أن أثـاروا‬
‫على مـا يشـتهونه مـن النسـاء‪ :‬األخـوات أو األ ّمهـات؛ وإذا َ‬
‫غير َة األب‪ ،‬فإنهـم يُقتَلـون أو يُعذَّبـون أو يُطـ َردون من دون رحمـة‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫انتهـى األمـر بهـؤالء األبناء إىل االتِّحـاد من أجل قتـل األب والحلول محلّه؛‬
‫ـب الخلاف بني األبنـاء‪ ،‬ليتنازعوا حـول إرثه‬ ‫لكـن مـا إن مـات األب‪ ،‬حتى شَ َّ‬
‫وقـت طويـلٍ من الرصاعـات‪ ،‬سـينتهي اإلخـو ُة األعدا ُء‬ ‫ٍ‬ ‫ووراثتـه‪ ،‬وأنـه‪ ،‬بعـد‬
‫ٍ‬
‫واحـد عـن اشـتهاء األ ِّم‬ ‫كل‬ ‫َ‬
‫يتنـازل ُّ‬ ‫ٍ‬
‫عهـد معقـول‪ :‬أن‬ ‫إىل أن يتعاهـدوا على‬
‫تأسـس «تابـو» املحـارم ‪.‬‬
‫(((‬
‫أو األخـوات؛ ومـن هنـا َّ‬
‫وينطلـق بـارت مـن أن «هـذه الحكايـة‪ ،‬ولـو أنهـا ليسـت إلّ روايـةً‪ ،‬هـي‬
‫كل تراجيديات راسين‪ ،‬اإلحدى‬ ‫مرسح راسين كلُّه»(((‪ ،‬فسـواء أجعلنا من ّ‬
‫ُ‬

‫‪(1) R. Barthes: Sur Racine, p 20.‬‬


‫‪(2) Ibid.‬‬

‫‪31‬‬
‫عشرة‪ ،‬تراجيديـ ًة واحـد ًة أساسـية‪ ،‬أم جمعنـا بين هـذه الشـخصيات‬
‫الخمسين التـي تسـكن تراجيديّاته‪ ،‬فإننا لـن نجد إلّ «وجو َه هذه ال ُعــصبة‬
‫املطلق لحياة األبناء‪..‬؛ والنسـا ُء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املالك‬ ‫األب‪ ،‬ذلـك‬
‫البدائيـة‪ ،‬وأفعالَــها‪ُ :‬‬
‫ن‪ ،‬يف الوقـت نفسـه‪ ،‬أ ّمهـاتٌ وأخـواتٌ وعشـيقاتٌ ‪ ،‬مشـتَ َهيات دومـاً‪،‬‬ ‫وهـ َّ‬
‫ُ‬
‫والحصـول عليهـن نـاد ٌر‪..‬؛ واإلخـوةُ‪ ،‬وهـم أعـدا ٌء يتصارعـون‪ ،‬دومـا حـول‬
‫أب ليـس م ِّيتـاً متامـاً‪ ،‬وهـو يعـود مـن أجـل إنـزال العقـاب بهـم‪..‬؛‬ ‫إرث ٍ‬‫ِ‬
‫ن املتمـ ِّزق‪ ،‬حـ َّد املـوت‪ ،‬بين إرهـاب األب وبين رضورة أن‬ ‫وأخيرا ً‪ ،‬االبـ ُ‬
‫يعمـل على التخلُّـص مـن هـذا األب‪ ..‬ويف كلمـ ٍة واحـد ٍة‪ :‬إن زنـا املحـارم‪،‬‬
‫األسـاس‬
‫ُ‬ ‫ومقتل األب‪ ،‬وفسـا َد األبناء‪ ،‬هذه هي األحداثُ‬
‫َ‬ ‫وتنافـس اإلخـوة‪،‬‬
‫َ‬
‫يف مسرح راسين» ‪.‬‬
‫(((‬

‫النفسي‬
‫ِّ‬ ‫الالفـت للنظـر أن بـارت مل يذهـب بعيـدا ً يف هـذا التحليـل‬ ‫ُ‬
‫رصح بأنـه ال يعـرف ‪-‬بالضبـط‪ -‬مبـاذا يتعلَّـق‬ ‫األنرثوبولوجـي‪ ،‬بـل إنـه سـي ِّ‬
‫ِّ‬
‫عما إذا كان األمـ ُر متعلِّقـاً بفرضيّـة داروين‬ ‫األمـر يف هـذا اإلطـار‪ ،‬متسـائالً ّ‬
‫فولكلـوري قديـم جـ ّدا ً‪ ،‬وعـن حالـ ٍة لإلنسـانية ما‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫أسـاس‬ ‫التـي تتحـدَّث عـن‬
‫متعلـق بفرضيـة فرويد التـي تذهـب إىل أن حكاي َة‬ ‫ٌ‬ ‫قبـل االجتامعيـة؛ أم أنـه‬
‫ٍ‬
‫واحـد منـا‬ ‫كل‬ ‫العصبـة البدائيـة هـي الحكايـة األوىل للحيـاة النفسـية‪ ،‬وأن َّ‬
‫«املسرح‬
‫َ‬ ‫وكل مـا يدركـه بـارت ج ِّيـدا ً‪ ،‬هـو أ َّن‬ ‫يعيـد إنتاجهـا يف طفولتـه‪ُّ .‬‬
‫الراسـيني ال يجـد انسجا َمــه إلّ على مسـتوى هـذه الحكايـة القدميـة‬ ‫َّ‬
‫الخلفـي البعيـد مـن التاريـخ‪ ،‬ومـن النفسـية‬ ‫ِّ‬ ‫الجـزء‬ ‫هـذا‬ ‫إىل‬ ‫تعـود‬ ‫التـي‬
‫اإلنسـانية» ‪ .‬وباسـتثناء بعـض املالحظـات التـي ال تخلـو مـن أه ِّم ّيـة‬ ‫(((‬

‫(ومنهـا أن األمـر مل يعـد يتعلَّـق بـ«شـخص ّيات‪ ،»personnages-‬ألن هـذه‬


‫األخيرة قـد تح َّولـت‪ ،‬عند راسين‪ ،‬بفضل اسـتلهام تلـك الحكايـة القدمية‪،‬‬
‫إىل «ممثِّلين ‪ ،»acteurs‬أي إىل وجـو ٍه وأقنعـ ٍة‪ ،‬واالختلاف بين هـؤالء‬
‫املمثِّلين ال يعـود إىل الحالـة املدنية‪ ،‬بل إىل موقعهـا داخل ذلك الرتتيب‬
‫العـا ّم الراسـخ يف تلـك الحكايـة القدميـة‪ ،)..‬فـإن بـارت مل يذهـب بعيـدا ً‪،‬‬

‫‪(1) Ibid, p 20 - 21.‬‬


‫‪(2) Ibid, p 21.‬‬

‫‪32‬‬
‫يف تحليلـه النفسي األنرثوبولوجـي‪ ،‬بالطريقـة التـي تضيء مـا يريـد أن‬
‫يقولـه راسين‪ ،‬ال عن نفسـه‪ ،‬وال عن شـخصيّ ٍة مـن شـخصيّاته الرتاجيدية‪،‬‬
‫بـل عـن اإلنسـان؛ أي بالطريقـة التـي تكشـف عـن اإلنسـان كما يتصـ َّوره‬
‫خاصـ ًة أن بـارت قـد أعلـن بـأن مـا يه ّمـه هـو هـذا‬
‫ّ‬ ‫راسين يف تراجيديّاتـه‪،‬‬
‫«اإلنسـان الراسـيني»‪ .‬وقـد نزعـم أن بـارت مل يسـتطع التخلُّـص مـن تأثير‬
‫م‬
‫فرويـد يف هـذا اإلطـار؛ ففـي هـذه الحكايـة القدميـة‪ ،‬نجـد فرويـد اليهتـ ّ‬
‫إال مبقتـل األب‪ ،‬وبالصراع املريـر بين االبن واألب؛ وبارت نفسـه سـيعود‪،‬‬
‫يف هـذه الدراسـة‪ ،‬إىل موضوعـة األب‪ ،‬وسيشير‪ ،‬يف أكثر مـن مـكان‪ ،‬إىل‬
‫م راسين‪،‬‬ ‫هـذا الصراع بين االبـن وأبيـه‪ .‬لكـن‪ ،‬هل ذلك وحـده ما كان يَـ ُهــ ُّ‬
‫و يَـشغَـله؟‬
‫املالحـظ أن فرويـد‪ ،‬وبـارت مـن بعـده‪ ،‬مل يلتفتـا‪ ،‬يف هـذه الحكايـة‬
‫القدميـة‪ ،‬إلّ إىل هـذا الصراع بين األب واالبن(األبنـاء)‪ ،‬وذلـك أمـ ٌر مفهو ٌم‬
‫مؤســس التحليـل النفسي الذي ينطلـق من أن عقـد َة أوديب‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫ومقبـول مـن‬
‫النفسي لإلنسـان؛ لكن‬‫ُّ‬ ‫يتأسـس عليهـا الجهـا ُز‬
‫َّ‬ ‫هـي العقـد ُة األصليـ ُة التـي‬
‫هـذه الحكايـ َة القدميـ َة ال تتحـدَّث عـن هـذا الصراع فقـط‪ ،‬بـل َّ‬
‫‪-‬ربـا‪ -‬تركّز‬
‫ر على ذلك الصراع الالحق بني األبنـاء الذين قتلوا أباهـم‪ ،‬وهو الرصاع‬ ‫أكث َ‬
‫بين اإلخـوة األعـداء‪ ،‬الـذي مل مينحـه فرويـد وال بـارت اهتاممـاً مالمئـاً‪،‬‬
‫الفرويدي هـو أن جرمي َة‬
‫ِّ‬ ‫النفسي‬
‫ِّ‬ ‫األسـاس يف التحليـل‬
‫َ‬ ‫االفتراض‬
‫َ‬ ‫ربـا ألن‬
‫َّ‬
‫قتـل األب هـي الجرميـة األصليـة‪ ،‬سـواء يف تراجيديـة سـوفوكل‪« :‬أوديـب‬
‫امللـك» أو يف هـذه الحكايـة القدميـة التـي تُــحدِّثنا عـن تلـك العصبـة‬
‫حشـة‪.‬‬ ‫البدائيـة املتو ِّ‬
‫مـع ذلـك‪ ،‬ميكننـا أن نتسـاءل‪ :‬مـاذا لـو التفتنـا إىل هـذا الصراع بين‬
‫اإلخـوة األعـداء؟؛ ليـس ألن هـذه الحكايـة القدميـة تركِّـز عليـه‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬بل‬
‫أول مرسحيـ ٍة تراجيديـ ٍة سـيؤلِّفها جان راسين نفسـه‪ ،‬سـنة ‪ ،1664‬هي‬ ‫ألن َ‬
‫«مأسـاة طيبـة أو الشـقيقان» ‪ ،‬وكانـت ‪-‬بالضبـط‪ -‬عـن اإلخـوة األعـداء؛‬
‫(((‬

‫((( جان راسني‪ :‬مأساة طيبة أو الشقيقان‪ ،‬ترجمة‪ :‬أدونيس‪ ،‬منشورات‪ :‬من املرسح العاملي‪ ،‬العدد ‪،118‬‬
‫يوليو‪ ،1978 ،‬وزارة اإلعالم‪ ،‬الكويت‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫فهـو سـيعيد كتابـ َة الرتاجيديـا اإلغريقيـة ‪-‬تحديـدا ً‪ -‬تراجيديـة سـوفوكل‬
‫مؤسـس التحليل النفسي يف زمنٍ الحـقٍ ‪ ،‬لكن‬ ‫ِّ‬ ‫التـي سيسـتند إليهـا فرويـد‬
‫إعـادة الكتابـة‪ ،‬هنـا‪ ،‬ليسـت مـن أجـل الحديـث عـن أوديـب وأبيـه‪ ،‬أي عـن‬
‫االبـن وأبيـه‪ ،‬بـل مـن أجـل الرتكيز على أبنـاء أوديـب‪ ،‬أي على العالقة بني‬
‫اإلخـوة‪ ،‬وكيـف اقتتـل األخـوان عىل امل ُـــلك‪ ،‬وكيف قتـل إيتيوكليـس أخاه‬
‫ين كان يعيد االعتبا َر للمرسحية الثالثة عند سـوفوكل‬ ‫بولينيـس؛ وكأن راس َ‬
‫«أنتيغـون»‪ ،‬التـي لـن يوليهـا فرويـ ُد عنايـ ًة كبيرة‪ ،‬مركِّـزا ً على املرسحيـة‬
‫األوىل التـي تـدور حـول قتـل االبـن ألبيه‪.‬‬
‫والشـك يف أن السـؤال األسـاس الـذي تطرحـه أ َّول مرسحيـة‪ ،‬عنـد‬ ‫َّ‬
‫راسين‪ ،‬وتطرحـه‪ ،‬قبـل ذلـك‪ ،‬مرسحيـة سـوفوكل الثالثـة‪ ،‬هـو‪ :‬مـاذا لو‬
‫قتـل‬‫ركزنـا على هـذا الصراع بين اإلخـوة األعـداء؟ مـاذا لـو افرتضنـا أن َ‬
‫تسـتحق االنتبـاه؟ مـاذا لـو قمنـا باسـتخالص عقـد ٍة أخـرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األخ جرميـ ٌة‬
‫وسـ َّميناها عقـدة األخـوة‪ ،‬وقارنَّــا بينهـا وبين عقـدة أوديـب؟((( مـاذا لـو‬
‫استحرضنا أن أ َّو َل جرمي ٍة‪ ،‬وأ َّو َل حكاي ٍة‪ ،‬يف تاريخ اإلنسان‪ ،‬تبعـــاً للكتب‬
‫الدينيـة والتاريخيـة‪ ،‬هـي جرميـ ُة قتـلِ األخ؛ قتـل قابيـل ألخيـه هابيـل؟‬
‫النبـي يعقـوب وأخيـه عيـص‪ ،‬والصراع‬ ‫ّ‬ ‫مـاذا لـو اسـتحرضنا الصراع بين‬
‫بين يوسـف وإخوتـه؟ مـاذا لـو انتبهنـا إىل أن حكايـ َة اإلخـوة األعـداء قـد‬
‫وخاص ًة يف جنس‬ ‫ّ‬ ‫بقيـت حارضة‪ ،‬بعد زمن راسين‪ ،‬يف اآلداب الحديثـة‪،‬‬
‫رض روايـ َة الكاتـب‬‫الروايـة‪ :‬فمـن القـرن التاسـع عشر‪ ،‬ميكـن أن نسـتح َ‬
‫الـرويس دوستويفسكي «اإلخـوة كارامـازوف»؛ وروايـ ُة الكاتـب الفرنيس‬
‫تجسـد رصاع األخويـن‪« ،‬بيير‬ ‫ِّ‬ ‫يك دو موباسـان‪« :‬بيير وجـان» التـي‬
‫وجـان»‪ ،‬حـول اإلرث والنسـب؛ وروايـ ُة الكاتـب الفرنسي ألكسـندر دوما‬
‫حـب‬
‫ِّ‬ ‫«السـيِّدة الشـاحبة»‪ ،‬التـي تـروي حكايـة أخويـن يتصارعـان على‬
‫امـرأة‪ .‬أ ّمـا مـن القـرن العرشيـن‪ ،‬فمـن املمكـن أن نذكـ َر روايـ َة الـروايئ‬

‫س َحها الرتاجيدي‬
‫لقصة النبي يوسف يف القرآن‪ ،‬ومقارنتها بأسطورة أوديب التي َم ْ َ‬
‫((( نحيل‪ ،‬هنا‪ ،‬عىل دراستنا ّ‬
‫قصة النبي يوسف‪ ،‬عقدة األخوة أوىل من عقدة أوديب‪ ،‬مجلّة «تبني»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف‬ ‫نفسانية‬ ‫اإلغريقي سوفوكل‪ :‬قراءة‬
‫العدد ‪ ،10‬املجلَّد الثالث‪ ،2014 ،‬ص‪.47 ،37 :‬‬

‫‪34‬‬
‫اليونـاين كازانتـزايك «األخـوة األعـداء»؛ ومـن األلفيـة الجديـدة‪ ،‬وبعـد‬
‫رض روايـ َة الـروايئ الربتغـايل سـاراماغو‪:‬‬
‫رحيـل بـارت‪ ،‬ميكـن أن نسـتح َ‬
‫«قايين» (‪)2009‬؛ وروايـ َة ماكس جالو‪« :‬قايني وهابيل»‪ ،‬الجرمية األوىل‬
‫أنرتوبولوجـي‬
‫ٍّ‬ ‫نفسي‬
‫ٍّ‬ ‫ليسـمح بتحليـلٍ‬
‫َ‬ ‫(‪...)2011‬وغريهـا؟ أمل يكـن ذلـك‬
‫أكثرَ تحـ ُّررا ً مـن مسـلَّامت فرويـد؟‬
‫لكـن مـن املمكـن أن نتسـاءل‪ :‬ملـاذا يسـتعني بـارت بحكايـة العصبـة‬
‫البدائيـة؟‪ ،‬وملـاذا يـرى أن مسرح راسين ليـس إلّ إعـادة كتابـة لتلـك‬
‫الحكايـة القدميـة جـ ّدا ً‪ ،‬وأنـه ال يجد تفسيره إلّ انطالقاً منها؟ بعبـارة أدقّ ‪:‬‬
‫ملـاذا يسـتحرض حكايـة تطـرح مسـألة األب ومسـألة اإلخـوة‪ ،‬يف الوقـت‬
‫نفسـه؟‬
‫إذا اسـتع ّنا بالنقـد النفسي البيوغـرايف‪ ،‬وط َّبــقناه على مؤلِّـف‬
‫«عـن راسين» (هـو الـذي يرفـض هـذا النـوع مـن النقـد النفسي‬
‫البيوغـرايف)‪ ،‬واسـتحرضنا معطياتـه البيوغرافيـة‪ ،‬فإنـه مـن املمكـن‬
‫أن نزعـم أن عقـدة أوديب ال تعني شـيئاً بالنسـبة إىل روالن بارت الذي‬
‫عـاش يتيـم األب‪ ،‬هـذا الـذي مـات بعـد ميلاد ابنـه بسـنة؛ ذلـك ألنـه‬
‫ألب مـن أجـل أن يقتلـه‪ ،‬وال لعائلـ ٍة‬‫يف طفولتـه وحياتـه «ال وجـود ٍ‬
‫ٍ‬
‫لوسـط مـن أجـل إدانتـه‪ :‬إنهـا خيبـة أوديبية‬ ‫مـن أجـل أن يكرههـا‪ ،‬وال‬
‫ظـل‪ ،‬طيلـة حياتـه‪ ،‬يعيـش مـع‬ ‫َّ‬ ‫كبرى!»(((‪ ،‬واألكثر مـن ذلـك أنـه‬
‫وتـوف بعدهـا بسـنوات قليلـة‪ ،‬كأنـه‬ ‫ّ‬ ‫أ ِّمـه (إىل أن توفّيـت سـنة ‪،1977‬‬
‫مل يكـن يتح َّمـل رحيلهـا !)‪ ،‬فـكان يحظـى بتلـك األ ّم «التـي حافظـت‬
‫لـه على طفولتـه أكثر مـن سـتّني سـنة‪ ..‬وكانـت شـيئاً رضوريّـاً يف‬
‫حياتـه مل ّـا أصبـح رجلاً‪ .(((»...‬ويف عـدد مـن املؤلَّفـات (على سـبيل‬
‫التمثيـل‪ :‬روالن بـارت بقلـم روالن بارت ‪ -‬الغرفـة املضيئة‪ :‬تأ ُّمالت يف‬
‫الفوتوغرلفيـا‪ ،)..‬يتحـدَّث بـارت عـن هـذا األب الـذي مل يعرفـه أبـدا ً‪،‬‬
‫وعـن هـذه األ ّم التـي تـأيت يف صـور ٍة أخـرى مغايـرة للصـورة السـائدة‬

‫‪(1) Françoise Gaillard: Barthes juge de Roland, Communications,1982, P: 36 - 75.‬‬


‫‪(2) Edgar Morin: Le retrouvé et le perdu, Communications,1982,P 36.‬‬

‫‪35‬‬
‫ثقافيّـاً‪ :‬األ ُّم هنـا ال تلـد االبـن‪ ،‬بـل االبـن هـو الـذي يلـد األ ّم(((‪.‬‬
‫لكـن‪ ،‬يف حيـاة بـارت‪ ،‬معطًــى جزئ ّيـاً ميكنـه أن يضيء أشـياء‬ ‫َّ‬
‫أخـرى‪ ،‬فقـد كانـت أ ّمـه‪ ،‬يف فتر ٍة معينـ ٍة‪ ،‬على عالقـ ٍة بالف ّنـان أنـدري‬
‫ابـن مـن هـذا الف ّنـان‪ُ ،‬ولِـد سـنة ‪ ،1927‬اسـمه‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫سـالزيدو‪ ،‬وكان لهـا‬
‫منافـس‪ ،‬ولنالحـظ‬
‫ٌ‬ ‫ميشـال سـالزيدو(((‪ ،‬وبذلـك صـار لـروالن بـارت‬
‫املنافـس يـأيت يف صـور ٍة مزدوجة‪ :‬يف صـورة األب (زوج‬ ‫َ‬ ‫ج ِّيـدا ً أن هـذا‬
‫األ ّم أو عشـيقها)‪ ،‬ويف صـورة األخ (أخ غير شـقيق)‪ ،‬وهـذه الصـورة‬
‫املزدوجـة هـي التـي تؤلِّفهـا‪ ،‬يف الحقيقـة‪ ،‬تلـك الحكايـة القدميـة‬
‫مشـكل مـع األب‪ ،‬بخصـوص الحصـول على‬ ‫ٌ‬ ‫للعصبـة البدائيـة‪ :‬هنـاك‬
‫مشـكل مـع األخ؛ هـذا الوافـد الجديـد‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مـا ترغـب فيـه الـذات‪ ،‬وهنـاك‬
‫‪-‬ربـا‪ -‬ليـس مطروحـاً على مسـتوى‬ ‫َّ‬ ‫حـول املوضـوع نفسـه؛ واألمـر‬
‫بيوغرافيـة بـارت‪ ،‬فقـط‪ ،‬بـل ميكـن أن نالحـظ أن الحرفين البارزيـن‬
‫يف اسـم هـذا املنافـس املزدوج (ســالــــزيدو) هـي التي ستُـــشكِّــــل‬
‫م كتبـه‪ ،‬وبخـطٍّ فاصـلٍ يضعنـا ‪-‬حقًّـا‪ -‬أمـام هـذا الوجه‬ ‫عنـوانَ أحـد أهـ ّ‬
‫املـزدوج املزعـج‪ :‬س‪ /‬ز ‪.‬‬
‫(((‬

‫ليحـل‬
‫َّ‬ ‫لكـن‪ ،‬إذا أخذنـا بعين االعتبـار أن هـذا العشـيق الـذي جـاء‬
‫محـل األب‪ ،‬قـد رحـل باكـرا ً‪ ،‬وكان وجـوده مؤقَّتـاً‪ ،‬فـإن الـذي يزعـج‬
‫َّ‬
‫حـب األ ّم بعـد أن‬
‫ِّ‬ ‫ذاتـاً كانـت قـد سلَّــمت بـأن ال أحـد سينافسـها على‬
‫األب‪ ،‬منـذ زمـنٍ بعيـد‪ ،‬هـو هـذا الوافـد الجديـد‪ ،‬الـذي مل يكـن‬
‫ُ‬ ‫رحـل‬
‫ليخطـر يف البـال‪ ،‬هـذا األخ الصغير الـذي صـار هـو الـذي يلازم األ ّم‪،‬‬
‫إل أن يبقـى‪ ،‬هـذا املنافـس الحقيقي الذي يزاحـم ذاتاً كانت‬ ‫وال ميكـن ّ‬

‫‪(1) R. Barthes, «Commentaire Préface à Brecht, Mère Courage et ses enfants»,‬‬


‫‪dans: Écrits sur le théâtre, Seuil, Paris, 2002, p 294.‬‬
‫((( للمزيد من التفاصيل‪ ،‬نحيل عىل هذه الدراسة‪:‬‬
‫‪Fukuda Daisuke: «Lènfant qui jouait le jeu de la Mère. Le cas de Roland Barthes», Savoirs‬‬
‫‪et clinique 2009 2/ (n° 11) , p 46.‬‬
‫((( للمزيد من التفاصيل يف هذا املوضوع‪ ،‬نحيل عىل الدراسة التي ترجمناها يف هذا الكتاب‪:‬‬
‫‪Eric Marty: Roland Barthes et le discours clinique, lecture de S / Z ; Essaim, 2005 / 2 , N:‬‬
‫‪15, p: 85 - 100.‬‬

‫‪36‬‬
‫تتمتَّـع بـأرايض األ ّم‪ ،‬وحدهـا‪ .‬وروالن بـارت نفسـه يقـول‪« :‬منـذ زمـنٍ‬
‫يل‪ ،‬هـي أ ِّمـي‪ ،‬وبقريب هنـاك أخي؛‬ ‫ٍ‬
‫بعيـد‪ ،‬أصبحـت العائلـة‪ ،‬بالنسـبة إ َّ‬
‫ٍ‬
‫بعيـد‪ .(((»..‬ومـن هنـا‪ ،‬نزعـم أن‬ ‫قريـب وال مـن‬
‫ٍ‬ ‫وال يش َء آخـر‪ ،‬ال مـن‬
‫عقـدة األخـوة هـي التـي كانت تشـغل بـارت‪ ،‬عن وعـي أو الوعـي‪ ،‬وهي‬
‫التـي دفعتـه إىل قـراءة جان راسين‪ ،‬هـذا الـذي كان ‪-‬للمصادفة‪ -‬يتيم‬
‫األبويـن‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬ومنـذ طفولتـه األوىل‪.‬‬

‫‪(1) R. Barthes, La chambre claire, Note sur la photographie, Seuil, Paris, 1980, p. 116.‬‬

‫‪37‬‬
‫جان بيلمان نويل (‪▲ )1931‬‬
‫جـان بـيـلـمـان نـويـل‪:‬‬
‫الوعـي الـقـارئ‬
‫ِ‬ ‫الـنـص إلـى‬
‫ِّ‬ ‫الوعـي‬
‫ِ‬ ‫ِم ْ‬
‫ـن‬

‫يُــعت َبـــر مشروع جـان بيلامن نويـل(((‪ ،‬يف النقد النفسي املعارص‪ ،‬من‬
‫املرشوعـات األكثر أه ِّم ّيـ ًة يف الربـع األخير مـن القـرن العرشيـن وبدايـة‬
‫األلفيـة الجديـدة؛ وذلـك بفضـل نوعيـة القـراءات املقرتحـة‪ ،‬وبفضـل تلك‬
‫الجِـدّة يف التصـ ُّور النظـري‪ ،‬واملنهجـي الـذي كان يصاحـب‪ ،‬دومـــاً‪ ،‬تلـك‬
‫القـراءات‪ ،‬يف حـوا ٍر متواصـلٍ‪ :‬مـن جهـ ٍة أوىل‪ ،‬مع مختلف «علـوم النص»؛‬
‫ومـن جهـة ثانيـة‪ ،‬مـع نظريـات التحليـل النفيس املعـارص؛ ولهذا‪ ،‬سـيبقى‬

‫((( جان بيلامن نويل‪ :‬ناقد نفساين فرنيس معارص‪ُ ،‬و ِلد يف فرنسا سنة ‪ ،1931‬وهو ّ‬
‫مربز يف اآلداب الكالسيكية‪،‬‬
‫فقدم أطروحة حول أحد الشعراء الفالسفة (‪ ،)Milosz‬سنة ‪،1975‬‬ ‫ّ‬ ‫اكتشف التحليل النفيس سنة ‪،1948‬‬
‫اآلداب والقراء َة النفسانية للنصوص يف الجامعة الفرنسية‪ ،‬إىل حدود ‪ ،1992‬وأصدر العديد من الكتب‬
‫َ‬ ‫س‬ ‫ودر َ‬
‫َّ‬
‫متخصـصة‪ ،‬دارس ًا أعام ً‬
‫ال من اآلداب الحديثة‪ ،‬والحكايات‬ ‫ّ‬ ‫مجالت‬ ‫يف‬ ‫واملقاالت‬ ‫الدراسات‬ ‫ومن‬ ‫َّفات‪،‬‬
‫ل‬ ‫واملؤ‬
‫واملحكيات الفانتاستيكية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخرافية‪،‬‬

‫‪39‬‬
‫مرشوعـاً يتطـ َّور ويتجدَّد‪ ،‬ال يدَّعي االكتامل‪ ،‬لكنه مل يكن يركن إىل الجمود‪.‬‬
‫ويف هـذه املحاولـة التقريبيـة‪ ،‬نفترض ‪-‬أ َّوالً‪ -‬أ َّن جـان بيلمان نويـل‪،‬‬
‫بعـ َد أ ْن كان‪ ،‬يف مؤلَّفاتـه األوىل‪ ،‬يأخـذ ‪-‬يف رصامـ ٍة‪ -‬بالتصـ ُّور البنيـوي‬
‫للنـص األديب وبالتحليـل النفسي عنـد جـاك الكان‪ ،‬قـد رشعَ‪ ،‬منـذ بدايـة‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫الثامنينيـات‪ ،‬يف أخـذ مسـافة مـن بعـض املشـاريع النفسـانية التي تغايل‬
‫يف نزعتهـا الالكانيـة‪ ،‬ويف االنفتـاح على التصـ ُّورات التداوليـة ولسـانيات‬
‫التلفُّـظ‪ ،‬وإدمـاج عنارصهـا ومكتسـباتها داخـل مرشوعـه النقـدي‪ .‬ويبقـى‬
‫أنـه‪ ،‬يف هـذه املحطّـة األخيرة‪ ،‬كما يف محطَّتـه األوىل‪ ،‬كان جـان بيلامن‬
‫كل مـر ٍة‪ ،‬تصـ ُّورا ً نظريــــاً ومنهجيـــاً متقدِّمــــاً مقارنـ ًة‬
‫نويـل يقـدِّم‪ ،‬يف ّ‬
‫بالسـائد مـن التصـ ُّورات واملقاربـات يف التحليـل النفسي للأدب‪.‬‬
‫ونفترض ‪-‬ثانيـاً‪ -‬أن كتابـه الـذي صـدر سـنة ‪« 1978‬التحليـل النفسي‬
‫ــس للمحطَّة األوىل يف مساره‬ ‫املؤس َ‬
‫ِّ‬ ‫النظري‬
‫َّ‬ ‫واألدب»(((‪ ،‬يُـعت َبــر املؤلَّــف‬
‫النقـدي‪ ،‬بـل لـن نبالـغ إذا قلنـا إنـه تلـك العالمـة الكبرى على التحـ ُّول‬
‫الجـذري‪ ،‬الـذي بدأ يشـهده التحليـل النفيس للنصـوص األدب ّيـة‪ ،‬من بداية‬
‫ن بيلمان نويـل قـد أصـدر ‪-‬بالطبـع‪ -‬مؤل ٍ‬
‫َّفـات‬ ‫السـبعينيات إىل اليـوم‪ .‬لكـ َّ‬
‫أخـرى‪ ،‬سـابقة أو الحقـة‪ ،‬نظريـة أو تطبيقيـة‪ ،‬تنتمـي إىل هـذه املحطـة‬
‫النـص‬
‫ُّ‬ ‫األوىل‪ ،‬وتنتظـر نقلهـا إىل اللّغـة العربيّـة‪ ،‬ومنهـا مؤلَّفـان أساسـان‪:‬‬
‫النـص» (‪ .((()1979‬والشيء‬ ‫ّ‬ ‫النـص» (‪ ،((()1972‬و«نحـ َو الوعـي‬ ‫ّ‬ ‫ومـا قبـل‬
‫نفسـه بالنسـبة إىل مؤلَّفـات املحطّـة الثانيـة‪ ،‬التـي ال ميكـن ‪-‬لنقلهـا إىل‬
‫اللّغـة العرب ّيـة‪ -‬إلّ أن يسـاهم يف إثـراء نقدنا األديب عا ّمـةً‪ ،‬ونقدنا النفيس‬
‫(((‬
‫األخـص مؤلَّفاته اآلتيـة‪ :‬غراديفا باملعنى الحـريف (‪)1983‬‬
‫ّ‬ ‫خاصـةً‪ ،‬وعلى‬
‫ّ‬

‫‪(1) Jean Bellemin-Noel: Psychanalyse et littérature, coll. Que sais-je ?, P.U.F., 1978 (rééd.‬‬
‫‪1983 et 1989, 2012).‬‬
‫ويف سنة ‪ ،1997‬صدرت ترجمتنا األوىل لهذا الكتاب عن املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬يف القاهرة‪ ،‬تحت عنوان‪:‬‬
‫التحليل النفيس واألدب‪.‬‬
‫‪(2) Le texte et l’avant-texte, Larousse, Paris, 1972.‬‬
‫‪(3) Vers l›insconscient du texte, coll. Écriture, P.U.F., Paris, 1979.‬‬
‫‪(4) Gradiva au pied de la lettre, coll. Le Fil rouge, P.U.F., Paris, 1983.‬‬

‫‪40‬‬
‫بكل الوعيك (‪.((()2011‬‬
‫مصايص الدماء (‪- ((()2001‬أن تقرأ ّ‬
‫لَــذَّاتُ ّ‬
‫ومـن أجـل صـورة واضحة عـن املشروع وتط ُّوراته‪ ،‬أقترح املقابلة بني‬
‫واحـد منهما يعكـس البنـاء النظري‪ ،‬واملنهجـي املتقدّم‬‫ٍ‬ ‫كل‬
‫مؤلَّــفَـ ْيـــن‪ّ ،‬‬
‫بـكل محطّـ ٍة مـن املحطَّتَ ْ‬
‫ين اللتين تشكِّـلان مسـار بيلمان نويـل‬ ‫الخـاص ّ‬
‫ّ‬
‫النقـدي‪ :‬األ َّول هـو كتابـه «التحليـل النفسي واألدب»‪ ،‬والثـاين هـو كتابـه‬
‫بـكل الوعيـك»‪.‬‬
‫الـذي صـدر يف السـنوات القليلـة األخيرة «أن تقـرأ ِّ‬
‫ال ميكـن أن نتحـدَّث عـن هـذه املحطّـة األوىل‪ ،‬يف املسـار النقـدي‬
‫للناقـد النفسي جـان بيلمان نويـل‪ ،‬مـن دون أن نسـتحرض ذلـك السـياق‬
‫يتأسـس منذ بدايـة السـبعينيات من القـرن املايض؛ أي‬ ‫الجديـد الـذي بـدأ َّ‬
‫مـن دون أن نسـتحرض الـدور الـذي كان للنظريـات اللسـانية‪ ،‬والبنيويـة‪،‬‬
‫وللنظريـات النفسـانية الجديـدة‪ ،‬والالكانية‪ ،‬باألسـاس‪ ،‬يف تجديد الدرس‬
‫النقـدي‪ ،‬واألديب‪ .‬فقـد ظهـرت أسماء جديـدة يف النقـد النفسي‪ ،‬يعـود‬
‫ٍ‬
‫ومفهومـات هـي التـي تبناها جـان بيلامن‬ ‫إليهـا الفضـل يف ابتـكار تصـ ُّو ٍ‬
‫رات‬
‫نويـل‪ ،‬وعلى أساسـها شـيَّ َد مقاربتـه ‪ .‬لكـن ‪-‬بالطبـع‪ -‬يبقى أن هـذا األخري‬
‫(((‬

‫ظـل‪ ،‬مـن السـبعينيات إىل اليـوم‪ ،‬يقـدِّم‪ ،‬مـن‬


‫املخلـص الـذي َّ‬
‫ُ‬ ‫يف‬
‫هـو الـو ّ‬
‫املؤلَّفـات النظريـة‪ ،‬ومـن الدراسـات التطبيقيـة‪ ،‬مـا يسـاهم يف بنـاء هـذه‬
‫املقاربـة النفسـانية‪ ،‬وتطويرهـا‪ ،‬وتجديدهـا‪.‬‬
‫وبالنظـر إىل البنـاء والتأسـيس‪ ،‬تعـود أه ِّم ّيـة كتـاب «التحليـل النفيس‬

‫‪(1) Plaisirs de vampire, «Écriture», PUF, Paris 2001.‬‬


‫‪(2) Lire de tout son inconscient, Presses Universitaires de Vincennes, coll. “Essais et‬‬
‫‪Savoirs”, 2011.‬‬
‫((( الشك يف أن للمقالة التي نرشها أندري غرين‪ ،‬سنة ‪ ،1973‬يف مجلّة «‪ »Critque‬الفرنسية (العدد ‪،)312‬‬
‫التحول الذي عرفه التحليل النفيس لألدب‪ ،‬إذ انتقل من معالجة الوعي املؤلِّف إىل‬ ‫ُّ‬ ‫ال كبري ًا عىل هذا‬ ‫فض ً‬
‫موضحـ ًا‬‫ِّ‬ ‫النص»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتحدث عن «ال وعي‬ ‫َّ‬ ‫مقاربة نفسانية مغايرة؛ ففي هذه املقالة بدأ هذا املحلِّــل النفيس‬
‫يحركه‪ ،‬ويعملُ فيه‪ ،‬وأن البنيويني الذين يبدون التحفُّظ إزاء التحليل النفيس‪،‬‬ ‫نص الوعيـ ًا هو الذي ِّ‬ ‫أن لكلِّ ٍّ‬
‫نص‪ .‬كام أن للدراسة التي نرشها برنار بانغو‪ ،‬سنة ‪ ،1976‬يف مجلة‪:‬‬ ‫ٍّ‬ ‫كلّ‬ ‫داخل‬ ‫ٍ‬
‫الواعية‬ ‫ٍ‬
‫بنيات‬ ‫بوجود‬ ‫يقبلون‬
‫نفسه؛ ففي هذه املقالة يستخدم املحلِّـل‬ ‫َ‬ ‫‪( Nouvelle Revue de Psychanalyse‬العدد ‪ )14‬الفضلَ‬
‫بالوعي مستقلٍّ ‪ ،‬بل باالنزياح الذي يقع بني ما يريد‬
‫ٍ‬ ‫األمر ال يتعلّق‬
‫َ‬ ‫موضـحـ ًا أن‬
‫ِّ‬ ‫النفيس مفهوم «الوعي النص»‪،‬‬
‫ـم‬ ‫ُّ‬ ‫ـض‬
‫ُ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫أنه‬ ‫مع‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫يكتب‬
‫ُ‬ ‫الذي‬ ‫هذا‬ ‫من‬ ‫ينفلت‬
‫ُ‬ ‫«فالنص‬
‫ّ‬ ‫يقوله‪،‬‬ ‫َه‬
‫ل‬ ‫تجع‬ ‫أن‬ ‫إىل‬ ‫الكتابةُ‬ ‫الكاتب أن يقوله وما انتهت‬
‫ـد ُر عنه‪.».‬‬
‫ـص ُ‬ ‫شيئـ ًا َ‬
‫غري ما َي ْ‬

‫‪41‬‬
‫األسـاس الـذي وضـع اللبنـات األوىل‬ ‫ُ‬ ‫النظـري‬
‫ُّ‬ ‫املؤلــف‬
‫ُ‬ ‫واألدب» إىل أنـه‬
‫لهـذه املقاربـة النفسـانية الجديـدة واملتجـدِّدة التـي اشـتهر بهـا جـان‬
‫النصي ‪»Textanalyse -‬؛ فهـذا املؤلَّـــف ‪-‬يف‬ ‫ّ‬ ‫بيلمان نويـل «التحليـل‬
‫مجموعـه‪ -‬عبـارة عن قـراء ٍة تقوميي ٍة نقديـ ٍة يف تاريخ العالقـة بني التحليل‬
‫النفسي واألدب‪ ،‬تنتهـي إىل اقتراح مقاربـة نفسـانية تريد أن تكـون جديدة‬
‫مغايـرة ‪-‬جذريـاً‪ -‬للمقاربـات النفسـانية التقليديـة‪ ،‬مركِّـزة على التحليـل‬
‫النـص األديب‪ ،‬ال مؤلِّفَــه‪ ،‬موضوعــاً للتحليـل؛ فاملحلِّـــل‬ ‫َّ‬ ‫الـذي يختـار‬
‫ِّــف اإلنسـا َن‬
‫النصي ‪-‬على عكـس الناقـد النفسي التقليـدي‪ -‬يضـع املؤل َ‬ ‫ِّ‬
‫جانبـاً‪ ،‬مسـتهدفاً إنشـا َء مقاربـة نفسـانية للنصـوص األدب ّيـة تنطلـق من أ َّن‬
‫خطاب‬
‫ٍ‬ ‫يب يكـون معموالً بواسـطة‬ ‫النص األد َّ‬‫َّ‬ ‫نـص الوع َيــه‪ ،‬مبعنـى أن‬
‫لـكل ٍّ‬ ‫ِّ‬
‫النـص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الواعٍ‪ ،‬وأنـه مـن املمكـن وصـف هـذا العمـل الـذي يتحقَّـق داخـل‬
‫النصي؛ ‪-‬بعبـارة‬
‫ّ‬ ‫خاصـ ًة إذا انتقلنـا مـن التحليـل البيوغـرايف إىل التحليـل‬ ‫ّ‬
‫أخـرى‪ -‬قـد أعـاد جـان بيلامن نويـل‪ ،‬يف هذا الكتـاب‪ ،‬مسـاءلة العالقة بني‬
‫التحليـل النفسي واألدب‪ ،‬وأعـاد قـراءة فرويـد‪ ،‬مـن جديـد‪ ،‬وأعـاد فحص‬
‫العالقـة بين التحليل النفسي واألدب‪ ،‬بطريق ٍة تجمع بين التاريخ والنقد؛‬
‫مبعنـى أنـه اسـتحرض تاريـخ هـذه العالقـة مـن سـيجموند فرويـد إىل جاك‬
‫التاريخـي ق ْد َر ما قام بقـراء ٍة تاريخي ٍة تقوميي ٍة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫يكتـف بالعـرض‬ ‫الكان‪ ،‬ومل‬
‫النصــي بديلا يسـمح باالنتقـال‬ ‫ِّ‬ ‫انتهـى‪ ،‬مـن خاللهـا‪ ،‬إىل اقتراح التحليـل‬
‫مـن االهتمام مبؤلِّـف العمـل اإلبداعي إىل تركيـز النظر على العمل األديب‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫ويف قلـب هـذه املقاربـة الجديـدة‪ ،‬كما اقرتحهـا بيلمان نويـل يف‬
‫املحطـة األوىل مـن مسـاره النقـدي‪ ،‬نجد مفهومـات مركزية‪ ،‬عىل رأسـها‪:‬‬
‫النصي‪...،‬؛ وهـي‬
‫ّ‬ ‫للنـص‪ -‬التحليـل‬
‫ّ‬ ‫النـص ‪-‬االشـتغال الالواعـي‬
‫ّ‬ ‫الوعـي‬
‫مفهومـاتٌ خضعـت‪ ،‬باسـتمرارٍ‪ ،‬للتدقيـق والتعديـل والتطوير‪ ،‬عنـد الناقد‬
‫ِ‬
‫املفهومـات‬ ‫تكـف عـن إثـارة املشـاكل(((‪ ،‬لكنهـا تبقـى‬
‫نفسـه‪ ،‬مـن دون أن َّ‬

‫النص»؛‬
‫ّ‬ ‫«نحو الوعي‬
‫َ‬ ‫((( ميكن أن نستحرض كتابه التطبيقي األساس الذي ينتمي إىل هذه املحطّ ة األوىل‬
‫فقد أثار هذا الكتاب‪ ،‬يف طبعته األوىل (سنة ‪ ،)1979‬نقاش ًا واسعاً‪ ،‬ورأى النقّاد‪ ،‬يف مفهومه املركزي (الوعي‬

‫‪42‬‬
‫التـي يعـود إليهـا الفضـل يف تحريـر النقـد النفسي مـن تلـك القيـود التـي‬
‫النـص مجـ َّرد وسـيل ٍة لتحليـل الوعي املؤلِّــف‪ ،‬والكشـف عن‬ ‫َّ‬ ‫كانـت تَــعترب‬
‫عقـده ومكبوتاتـه وصدماتـه وهواجسـه‪ ،...‬وهـو مـا كان يسـمح لهـا بـأن‬
‫ذات مطابق ٍة لذات املؤلِّـــف مطابَــقـــ ًة تـؤدّي إىل إلغاء‬‫النـص إىل ٍ‬ ‫ّ‬ ‫تُــح ِّول‬
‫النـص األديب‪ ،‬واسـتقالل َّيته الذاتيـة؛ مـن هنـا‪ ،‬كانـت صياغـة‬ ‫ّ‬ ‫خصوصيـة‬
‫النصي عنـد جان بيلمان نويل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األسـئلة األوىل التـي انطلـق منهـا التحليـل‬
‫املؤســس‪ ،‬عىل هذا الشـكل‪ :‬ملاذا نريد‪ ،‬بجميع الوسـائل‬ ‫ِّ‬ ‫يف هذا املؤلَّف‬
‫النـص؟ وملاذا‬
‫ّ‬ ‫النصي إنسـاناً‪ ،‬وأن يكون اإلنسـا ُن موجـودا ً داخل‬ ‫ُّ‬ ‫أن يكـون‬
‫نفسـه‪،‬‬
‫ــعكس َ‬
‫َ‬ ‫النص إنسانـــــاً قبل أن يَ‬
‫ُّ‬ ‫ــعكس‬
‫َ‬ ‫نريد‪ ،‬بجميع الوسائل‪ ،‬أن يَ‬
‫للنـص أن يرشح‬ ‫ّ‬ ‫نـصـــه؟ أال ميكن‬
‫يشرح هـو َّ‬
‫َ‬ ‫وملـاذا نريـد مـن اإلنسـان أن‬
‫نفسـه بنفسه؟‬
‫وهـذه هـي األسـئلة التـي قـادت بيلمان نويـل إىل صياغـة فرضيّـات‬
‫أسـاس‪ ،‬هـي التـي حكمـت مقاربتـه النفسـانية يف هـذه املحطّـة األوىل‪،‬‬
‫م هـذه الفرضيّـات‪:‬‬
‫ومـن أهـ ّ‬
‫النـص هـو هـذا اليشء الـذي ‪-‬بواسـطته‪ -‬يكـون اإلنسـا ُن «مختلفاً»‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أ َّن‬
‫واالختلاف أو االختلاف امل ُــرجأ يكـون‪ ،‬هنـا‪ ،‬بالـذات‪ ،‬بلا نهايـة ذلـك؛‬
‫درس الـروايئ الفرنسي مارسـيل بروسـت)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ألن الكتابـ َة غرييـ ٌة (وهـذا هـو‬
‫واسـتقاللي ٌة ذاتيـ ٌة (وهـذا هـو درس الشـاعر الفرنسي بـول فاليري)؛‬
‫النص َّيـة‪ ،‬ويعنـي ذلـك أنـه‬
‫ِّ‬ ‫النـص ال يكـون مقـروءا ً إلّ داخـل فضـاء‬
‫َّ‬ ‫أ َّن‬
‫وخـارج السـببية (ال ميلـك‬
‫َ‬ ‫خـارج الواقـع (فـاألدب ليـس هـو الواقـع)‪،‬‬
‫َ‬ ‫يقـع‬
‫التخييـل مصـدرا ً آخـر غير أن يبـادر إىل اختلاق أو استرجاع تخييلاتٍ‬ ‫ُ‬
‫وخـارج الرشعيـة (فالكتابـة ليـس لهـا‬
‫َ‬ ‫كانـت‪ ،‬دومـاً‪ ،‬موجـودة مـن قبـل)‪،‬‬

‫النص)‪ ،‬الكثري من اإلثارة واالستفزاز؛ وهذا ما جعل جان بيلامن نويل يصدر الكتاب يف طبعة جديدة‪ ،‬سنة‬
‫النص مبعنى‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ ،1995‬ليسائلَ مفهومه الجديد‪ ،‬مبزيد من التدقيق أو التوضيح الذي قاده إىل تحديد الوعي‬
‫وخاصةً بعد أن صار الناقد النفساين‬
‫ّ‬ ‫للنص‪ ،‬وهي الصيغة التي لقيت الكثري من القبول‪،‬‬
‫ّ‬ ‫االشتغال الالواعي‬
‫ٍ‬
‫بطريقة غري دقيقة كثرياً‪ ،‬كام‬ ‫النص يف عالقته بالوعي القارئ‪ ،‬وإن كان‬
‫ّ‬ ‫الوعي‬ ‫يستحرض‬ ‫جان بيلامن نويل‬
‫سيحدث يف املحطّ ة الثانية‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫وخـارج مملكة‬
‫َ‬ ‫بـأي امتيـاز)‪،‬‬
‫معنـى واحـد‪ ،‬ومـا يقصـده املؤلِّـــف ال يتمتَّع ِّ‬
‫التبـادل واملردوديـة والتواصـل (هنـا‪ ،‬نحيل عىل الفيلسـوف الفرنيس جان‬
‫بودريـار)‪.‬‬
‫باختصـار‪ ،‬إن املبـدأ الـذي‪ ،‬على أساسـه‪ ،‬شـ َّيد جـان بيلمان نويـل‬
‫ـي بصفـ ٍة عا ّمـ ٍة‪،‬‬ ‫والعمـل الف ِّن َّ‬
‫َ‬ ‫يب‪،‬‬ ‫النـص األد َّ‬
‫َّ‬ ‫مقاربتـه النفسـانية هـو أن‬
‫هـو هـذا الشيء الـذي ال يكـون ُمطابِقـاً‪ ،‬وإذا جعلنـاه مطابقـاً للـذات‪ ،‬أو‬
‫للعالَــم‪ ،‬أو للوجـود‪ ،‬فـإن ذلـك سـيعني أننـا قـد اخرتنـا أنجـع الوسـائل‬
‫التـي سـتقود إىل تدميره وتحطيـم مفهومـه‪ .‬ومـن أجـل بنـاء مستقبَــلٍ‬
‫لألبحـاث يف «التحليـل النفسي للأدب»‪ ،‬يقترح جـان بيلمان نويـل أن‬
‫النـص األديب بواسـطة التحليـل النفسي‪( ،‬الفرويـدي‪ ،‬باألسـاس)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نقـرأ‬
‫النـص األديب ينبغـي لـه أن يوضـ َع‬ ‫ّ‬ ‫ولكـن بعيـدا ً عـن املؤلِّـــف‪ ،‬فمؤلِّـــف‬
‫خـارج اللعبـة(((‪ .‬وهكـذا‪ ،‬فمـن دون الرجـوع إىل الوعي املؤلِّـــف‪ ،‬كام كان‬
‫األمـر يف «النقـد النفسي البيوغـرايف ‪ ،»la psychobiographie -‬ومـن‬
‫معينٍ‪ ،‬كما يف‬ ‫َّ‬ ‫دون الرجـوع إىل الالوعـي يف األعمال الكاملـة ملؤل ٍ‬
‫ِّـف‬
‫«النقـد النفسي البيوغـرايف ‪ ،»la psychobiographie -‬مل يكـن أمـام‬
‫نصــيـــاً‪ ،‬إلّ‬
‫هـذا الناقـد النفسـاين الجديـد‪ ،‬الـذي يريـد أن يكـون محلِّــلا ِّ‬
‫النـص‪ ،‬موضِّ حـــاً أن ما يسـتهدفه هو أن‬ ‫ّ‬ ‫أن يتقـدَّم بهـذا االفتراض‪ :‬الوعـي‬
‫نـص‪ ،‬ال ينبغي لدراسـته أن‬ ‫يُـــدرِك‪ ،‬مـن جديـد‪ ،‬تلـك الداللـة الالواعية يف ٍّ‬
‫أي مرجعيـة خارجيـة‪ .‬لكـن‬ ‫ـــي‪ ،‬وال أن تحيـل على ِّ‬ ‫النص َّ‬
‫ِّ‬ ‫جـــه‬
‫تتجـاوز سيا َ‬
‫ـــي‪ ،‬باسـتمرار‪ ،‬ودف َعه‬ ‫النص َّ‬‫ِّ‬ ‫ِّـــل‬
‫السـؤال اإلشـكايل الـذي واجـه هـذا املحل َ‬
‫إىل إعـادة صياغـة تص ُّوراتـه ومفهوماتـه‪ ،‬يف أكثر من مناسـبة هو‪ :‬إذا مل‬
‫(((‬

‫موجود‪ ،‬دامئ ًا‬


‫ٌ‬ ‫أهم ّية املؤلِّــف‪ ،‬وال وجوده‪ ،‬فهو‬
‫سيوضح جان بيلامن نويل أنه ال ينكر ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫((( يف الفصل األخري‪،‬‬
‫َـنشط القراء ُة يف أحضانه؛ ومن الصعب عىل الناقد‪ ،‬بوصفه قارئ ًا‬ ‫ُ‬ ‫يل «الذي ت‬ ‫«الر ِحم االنفعا ِّ‬
‫ومسبقاً‪ ،‬داخل َّ‬
‫األمر يتعلّق بأن نعمل‪ ،‬من‬‫َ‬ ‫أي يشء؛ بل إن‬ ‫يترص َف كأنه ال يعرف عنه َّ‬ ‫َّ‬ ‫محرتفاً‪ ،‬أن يتجاهلَ املؤل َ‬
‫ِّــف‪ ،‬وأن‬
‫نسهر عىل ّأل يعود‪ ،‬فاألمر يعني اإلنكار؛ أي أن‬
‫َ‬ ‫الناحية املنهجية‪ ،‬ما أمكن ذلك‪ ،‬عىل «نسيان» املؤلِّــف‪ ،‬وأن‬
‫النص هو الذي ينبغي له أن يكون موضوع رؤيتنا‪ ،‬إذا كانت‬ ‫ّ‬ ‫موضوع رؤية‪ ،‬وأن نعرتف بأن‬ ‫َ‬ ‫ننكر املؤلِّــف بوصفه‬
‫األدبية هي التي تشغلنا‪.‬‬‫ّ‬ ‫إشكالية الكتابة‬
‫َــحو الوعي‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫«‬ ‫كتابه‬ ‫من‬ ‫الثانية‬ ‫الطبعة‬ ‫يف‬ ‫واألدب»؛‬ ‫النفيس‬ ‫«التحليل‬ ‫كتابه‬ ‫من‬ ‫الجديدة‬ ‫الطبعات‬ ‫((( يف‬
‫املؤسسة للمحطّ ة الثانية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫النص»؛ و‪-‬أساساً‪ -‬يف املؤلَّفات‬‫ّ‬

‫‪44‬‬
‫النـص أيَّـ ُة عالقـة بالوعـي املؤلِّــــف‪ ،‬فهـل الب َّد لهـذا الالوعي‬
‫ّ‬ ‫يكـن لالوعـي‬
‫النص) أو أصنامـــاً‬
‫ّ‬ ‫النصوص أشـيا َء (تشـييء‬
‫ُ‬ ‫ذات‪ ،‬إلّ إذا كانت‬ ‫الب َّد له من ٍ‬
‫النـص)؟‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وآلهـة (تأليـه‬
‫بـكل الوعيك»‬ ‫يوضِّ ـح جـان بيلمان نويـل‪ ،‬يف مؤلَّفـه األخير‪« ،‬أن تقرأ ِّ‬
‫النـص‪ ،‬قـد كان‪ -‬أ َّوالً‪ -‬بغـرض‬ ‫ّ‬ ‫(‪ ،)2011‬أن الرتكيـز على املنتـوج‪ ،‬أي‬
‫االسـتغناء عـن هـذا املبـدع الـذي مـا هـو إلّ صـور ًة وف ّيـ ًة ملـا يُــس َّمـــى‬
‫سـلَّمة نقديـة بطعـم ميتافيزيقـي)؛ وكان‪ -‬ثانيـاً‪ -‬بغرض‬ ‫بالخالـق األكبر ( ُم َ‬
‫االسـتجابة لحاجـة واقعيـة‪ ،‬فما أحوجنـا‪ ،‬يف النقـد األديب‪ ،‬والنفسـاين‪-‬‬
‫حـ ّد ذاتهـا‪ .‬لكنـه يعترف بـأن األفضليـة‬ ‫خاصـة‪ -‬إىل دراسـة للنصـوص يف َ‬ ‫ّ‬
‫النصي قـد أصبحـت تشـكو مـن النواقـص‬ ‫ّ‬ ‫التـي كان يبحـث عنهـا التحليـل‬
‫خاصـ ًة بعـد أن سـاهمت تصـ ُّورات هـذا التحليـل ومفهوماتـه‬ ‫ّ‬ ‫والعيـوب‪،‬‬
‫النـص‬
‫ّ‬ ‫يف دفـع العديـد مـن النقّـاد واللسـانيني والفالسـفة إىل معالجـة‬
‫بوصفـه «شـيئاً صنميـاً ‪ .»Objet fétichique -‬ويوضِّ ـح أنـه يبتعد‪ ،‬اليوم‪،‬‬
‫كل محاولة تسـعى إىل‬ ‫النـص‪ ،‬وعـن ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل محاولـة تسـعى إىل تشـييء‬ ‫عـن ّ‬
‫النـص مـن‬
‫ّ‬ ‫منحـه اسـتقاللية ذاتيـة؛ وذلـك ألنـه مـن الصعـب أن نفكّـر يف‬
‫النـص كام يف الـذات التي‬ ‫ّ‬ ‫دون التفكير يف الـذات‪ :‬يف الـذات التـي تصنـع‬
‫يدل‪ ،‬فهاتان الذاتان هام‪ -‬معــــاً‪ -‬تشتركان يف تح ُّمل املسـؤولية‪،‬‬ ‫تجعله ُّ‬
‫بـكل الوعيك‪،‬‬ ‫النـص وظهوره بوصفـه عمالً ف ِّن ّيـاً‪( .‬أن تقرأ ِّ‬
‫ّ‬ ‫مسـؤولية ميلاد‬
‫ص‪ 5 :‬و ‪)6‬‬
‫املنهجـي األسـاس‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ـــي قـد بقـي وفيّـاً ملبدئـه‬
‫النص ُّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّـــل‬
‫وإن كان املحل ُ‬
‫التخلُّـص مـن قبضـة املؤلِّـــف‪ ،‬فإنه قـد عمل‪ ،‬منـذ أكرث مـن عق َديْن‪ ،‬عىل‬
‫تطويـر تصـ ُّوره النظـري حـول القـراءة بواسـطة الالوعـي‪ ،‬وذلـك باالسـتناد‬
‫ٍ‬
‫مفهومـات جديـدة‬ ‫مفهومـات جديـد ٍة يف التحليـل النفسي‪ ،‬أو بابتـكار‬
‫ٍ‬ ‫إىل‬
‫بديلاً لبعـض املفهومـات النقدية السـائدة‪.‬‬
‫م هـذه املفهومـات التي تيضء‪،‬‬ ‫بإيجـاز شـديد‪ ،‬نقترح على القـارئ أه ّ‬
‫يب‬
‫النص األد َّ‬
‫َّ‬ ‫أكثر فأكثر‪ ،‬معنى أن تسـتخدم مفهوم الالوعـي‪ ،‬عندما تقـرأ‬
‫النص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بواسـطة التحليل‬

‫‪45‬‬
‫مـن بدايـة التسـعينيات‪ ،‬بـدأ جـان بيلمان نويـل يسـتند إىل مفهـوم‬
‫«التحويـل الـذايت ‪ ،»Auto-transfert -‬وهـو مفهوم متـدا َو ٌل بني املحلِّلني‬
‫النفسـانيني املامرسين؛ فالتحويـل الوجـداين بين املحلِّـــل واملريـض هو‬
‫اآلليّـة األسـاس التـي تسـمح بلقا ٍء بين الوعـي األ َّول والوعي الثـاين‪ .‬فعندما‬
‫واحـد منهام امتدادا ً‬‫ٍ‬ ‫كل‬
‫واملريض من قاعـة العالج‪ ،‬يخلق َّ‬
‫ُ‬ ‫ِّـــل‬
‫يخـرج املحل ُ‬
‫لذلـك العمـل‪ ،‬الـذي جعلاه‪ -‬معـاً‪ -‬ينطلـق داخـل القاعـة (اإلنصـات)‪،‬‬
‫وخارجهـا‪ ،‬ويحـاوالن أن يحتفظـا بهـذا العمـل ‪ /‬اإلنصـات نشـيطاً سعيـــاً‬
‫إىل أن يسترجعا (مـا أمكـن) ذلـك املـايض املكبـوت‪ .‬وهـذا االسـتمرار يف‬
‫العمـل التحليلي (حتـى خـارج قاعـة العالج) هـو الـذي يعتربه فرويد نفسـه‬
‫جوهريّــــاً يف عمـل املحلِّـل؛ وذلـك ألنـه يفترض أن هنـاك بين «األنـا ‪le -‬‬
‫‪ »Je‬و«أنـا أخـرى ‪ »un Moi -‬نوعـــاً مـن الحـوار الالمـريئ‪ ،‬هـو مـا يُــس َّمـــى‬
‫بـكل الوعيـك‪ ،‬ص‪.)7‬‬ ‫بــــالتحويل الـذايت (أن تقـرأ ّ‬
‫يب‪ ،‬من‬ ‫العمـل األد َّ‬
‫َ‬ ‫والفرضيـة التـي يقرتحهـا جـان بيلمان نويل هـي أ َّن‬
‫ين متامي َزيْـن‪:‬‬ ‫َين ذات َّي ْ‬ ‫زاويـة الالوعـي‪ ،‬يتقـدَّم كأنـه نقطـة لقـا ٍء بين تحويل ْ‬
‫يف ملبادئـه‬ ‫النصي الـو َّ‬‫َّ‬ ‫ِّـل‬
‫أحدهما للمؤلِّـف‪ ،‬واآلخـر للمتلقّـي‪ .‬لكـن املحل َ‬
‫ٍ‬
‫أحـد‬ ‫يب ال قيمـة لـه يف غيـاب‬ ‫املنهجيـة األسـاس يوضِّ ـح أن الشيء األد َّ‬
‫برر عمـل الف ّنـان‪،‬‬ ‫مـا يتأ َّملـه‪ ،‬ويسـتمع إليـه‪ ،‬ويقـرأه‪ ،‬فالقـارئ هـو الـذي ي ِّ‬
‫يب هـو الـذي يحقِّـق‪ -‬عمل ّياً‪ ،‬وبشـكل‬ ‫العمـل األد َّ‬
‫َ‬ ‫ووجـوده‪ ،‬مـع الوعـي بـأن‬
‫ين (التأليـف والتلقّـي) تدخلان يف‬ ‫ملمـوس‪ -‬ذلـك الرتكيـب بين عمل َّيتَ ْ‬
‫حـوا ٍر متناغـم هـو الـذي مينـح الوجـود للعمـل األديب‪ ،‬وهـو الـذي يجعلـه‬
‫موجـودا ً بوصفـه عملا أدب ّيـــــاً (املصـدر السـابق نفسـه‪ ،‬ص‪ 7:‬و ‪ .)8‬ويف‬
‫وعـي‬ ‫ٍ‬ ‫الحالـة العاديـة‪ ،‬ال أحـد مـن الفاعلَــ ْيـــن (املؤلِّـــف واملتلقّـي) على‬
‫م تأليفـه أو مبـا لـه عالقـة بالالوعـي‪ .‬لكـن‪ ،‬قد يكـون هنـاك ف ّنا ٌن‬ ‫تـا ٍّم مبـا تـ َّ‬
‫الخـاص‪ ،‬مـن‬ ‫ّ‬ ‫نفسي ذايتٍّ‪ ،»auto-analyse -‬لحسـابه‬ ‫ٍّ‬ ‫بـ«تحليـلٍ‬ ‫يقـوم‬
‫أجـل أن يكتشـف مـا يركِّـز خيالُـــه اإلبداعـي على تشـغيله؛ كما قـد نفكِّـر‬
‫وعـي مبـا يجـري يف داخلـه‪ ،‬بوصفـه الوعيـــاً‪ ،‬أو يف قـارئٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يف قـارئٍ على‬
‫مسـتنريٍ يُــحسن اإلنصـات إىل االهتـزازات التـي تُــثــــار يف أعامقـه‪ ،‬عندما‬
‫بنـص من النصـوص‪ ،‬أي عند احتكاكـه باالسـتيهامات الالواعية التي‬ ‫ٍّ‬ ‫يحتـك‬

‫‪46‬‬
‫النصي هو هذا‬
‫ّ‬ ‫وضعهـا املؤلِّـــف يف عملـه األديب‪ .‬باختصار‪ :‬إن املحلِّـــل‬
‫يب معيَّـــنٍ ‪ ،‬يعمـل‪ ،‬مـن دواخلـه‬ ‫نـص أد ٍّ‬‫الـذي‪ ،‬عندمـا ينخـرط يف قـراءة ٍّ‬
‫وأعامقـه‪ ،‬اسـتنادا ً إىل التحويـل الـذايت‪ ،‬على أن يصـو َغ لق ّرائـه ولآلخرين‪،‬‬
‫ٍ‬
‫معطيـات قـد تكـون غري كافية‪ ،‬لكنها توفِّر بُــعدا ً إضاف ّيـاً يف املعنى‪ ،‬يكون‬
‫النص‬
‫ّ‬ ‫النـص‪ ،‬ويكـون قادرا ً عىل تفسير ملـاذا نصف هـذا‬ ‫ّ‬ ‫قـادرا ً على إغنـاء‬
‫بـكل الوعيـك‪ ،‬ص‪ 8 :‬و ‪.)9‬‬ ‫يب (أن تقـرأ ّ‬
‫عمـل أد ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫بأنـه‬
‫يب مـن هـذه الزاويـة أمـ ٌر يجعلـه يفقـد جزءا ً‬
‫النـص األد َّ‬
‫َّ‬ ‫لكـن‪ ،‬أن نـدرك‬
‫مسـتقلً بذاته؛ ذلـك ألن مفهوم‬
‫ّ‬ ‫كبيرا ً مـن وضعه االعتباري‪ ،‬بوصفه شـيئاً‬
‫النـص كأنـه‬
‫ّ‬ ‫التحويـل الـذايت هـو الـذي يسـاعدنا على أن ننظـر إىل هـذا‬
‫َي‪ ،‬وكأنه فضا ٌء لتوليد مع ًنـــى هو‪ -‬يف الوقت نفسـه‪-‬‬ ‫ميـدا ُن لقـا ٍء بين ذات ْ‬
‫ضبـاب مـن‬
‫ٍ‬ ‫م يف‬‫شـبح عائـ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مؤقـت ومتجـ ِّد ٌد إىل مـا النهايـة‪ ،‬وكأنـه‬
‫ٌ‬ ‫مع ًنـى‬
‫الـدالالت أكثر مما هـو كتلـ ٌة مـن الرخـام تحـت أشـ ّع ٍة مـن أشـ ّعة شـمس‬
‫بـكل ال وعيـك‪ ،‬ص‪.)9‬‬ ‫املعنـى (أن تقـرأ ّ‬
‫للنـص‪ ،‬من هـذه الزاويـة‪ ،‬يف نظر جان‬ ‫ّ‬ ‫بهـذا املعنـى‪ ،‬يقتضي إدراكنـا‬
‫«املتنـاص‬
‫ّ‬ ‫بيلمان نويـل‪ ،‬أن نناقـش‪ -‬قليلاً‪ -‬هـذه السـلطة التـي يسـعى‬
‫«النـص‬
‫ّ‬ ‫الشـاب‬
‫ّ‬ ‫‪ »l’Intertexte -‬إىل مامرسـتها إىل جانـب هـذا األمير‬
‫النصي)‬ ‫ّ‬ ‫«التنـاص (التفاعـل‬
‫ّ‬ ‫‪ ،»Texte-‬ويقتضي أن نسـتبدل عبـارة‬
‫‪ »Intertextualité -‬بعبـار ٍة أكثر مالءمـة‪ ،‬هـي «التفاعـل القـرايئ ‪-‬‬
‫‪»Interlecture‬؛ وذلـك ألن هـذا األخير‪ -‬وإن كان يف إضاءتـه بعـض‬
‫األبعـاد‪ ،‬يعمـل‪ ،‬هـو اآلخـر‪ ،‬على اسـتدعاء عنـارص أو أشـياء تقـع خـارج‬
‫الهـروب‬
‫َ‬ ‫ج ميـارس‬ ‫التنـاص)‪ ،‬بوجـو ٍد خـار ٍ‬
‫ّ‬ ‫النـص‪ -‬اليعتقـد (على عكـس‬‫ّ‬
‫النصي‬ ‫ّ‬ ‫النـص تحـت تأثير سـح ٍر مـن سـاح ٍر مجهـول‪ .‬فالتحليـل‬ ‫ّ‬ ‫داخـل‬
‫وتناصاته‬ ‫ّ‬ ‫النص وعالقاته‬
‫ّ‬ ‫كل اإلضـاءات القادرة عىل إبراز تضاريـس‬ ‫يعتبر ّ‬
‫إضـاءات صـادرة عـن ذات ّيـة القـارئ‪ ،‬مـن دون أن نتجاهل أو نخفـي أنها قد‬
‫تتناسـب وذاتيـة املؤلِّف‪ ،‬أو تسـتجيب لها‪ ،‬أيضـاً‪ .‬وإذا كان من البديهي أن‬
‫التنـاص‪ ،‬فإن اإلشـارة إليها ال تصـدر إلّ عن‬ ‫ّ‬ ‫االقتباسـات‪ ،‬مثلاً‪ ،‬تخلـق آثـار‬
‫التفاعـل القـرايئ؛ ويف الواقـع‪ ،‬بإمكان تلقّـي املكتوب (وهو يكـون‪ ،‬دوماً‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫بصيغـة املفـرد‪ ،‬وال ميكـن أن نتوقَّـع ك ِّميّتـه‪ ،‬وال نوعيَّتـه) أن يذهـب إىل‬
‫النـص وتضميناتـه ومسـكوتاته‪ ،‬مـن دون أن يفقـد‬ ‫ّ‬ ‫حَـد ّ الجهـل بتلميحـات‬
‫ّ‬
‫بالشـك‪ -‬سـيكون تلقِّيـاً بسـيطاً وفقيرا ً؛‬ ‫القـدرة على بنـاء املعنـى‪ ،‬لكنـه‪-‬‬
‫النـص إذا كان مسـؤوالً عـن ثرواتـه‪ ،‬فـإن القـارئ هـو املسـؤول‬ ‫َّ‬ ‫وذلـك ألن‬
‫بـكل ال وعيـك‪ ،‬ص‪ .)10‬والقـارئ‪ ،‬يف الواقـع‪ ،‬هو هذا‬ ‫عـن إفقـاره (أن تقـرأ ّ‬
‫النـص‪ ،‬اليشء‬‫ّ‬ ‫محـل‬
‫َّ‬ ‫يحـل‬
‫ُّ‬ ‫كل قـراء ٍة مـن قراءاتـه‪ ،‬ومـا‬
‫الـذي يتجـدَّد يف ّ‬
‫يف ذاتـه هـو هـذه «القـراءة ‪ -‬الحـدث ‪.»Lecture - événement‬‬
‫هكـذا‪ ،‬ميكـن أن نفترض أننا أمام تحـ ُّوالت مه ّمة‪ ،‬يف بعـض افرتاضات‬
‫النصي عنـد جـان بيلمان نويـل‪ ،‬لكنهـا التحـ ُّوالت التـي ال تزيـد‬
‫ّ‬ ‫التحليـل‬
‫اإلشـكال إلّ استشـكاالً‪ ،‬وال تطلـب إلّ املزيـد مـن التوضيحات‪ ،‬وال تكشـف‬
‫إال هـذه الحاجـة املتواصلـة إىل مالمسـة األسـئلة الجوهريـة؛ لهـذا‪ ،‬إن‬
‫الالفـت للنظـر هـو أن جـان بيلمان نويـل سـيبقى هـو هـذا الناقد النفسـاين‬
‫يكـف‪ -‬على طـول مسـاره النقدي‪ -‬عـن إعادة‬ ‫الجديـد واملتجـدِّد‪ ،‬الـذي مل َّ‬
‫صياغـة أسـئلته‪ ،‬والعمـل على تعميـق تص ُّوراتـه‪ ،‬وتجديـد افرتاضاتـه‪،‬‬
‫وتطويـر مفهوماتـه‪.‬‬
‫كلمات قليلـ ٍة‪ ،‬هذا املسـار النقدي عند‬‫ٍ‬ ‫لكـن‪ ،‬إذا أردنـا أن نختـزل‪ ،‬يف‬
‫ين‪ ،‬قـد‬ ‫جـان بيلمان نويـل‪ ،‬فإننـا سـنقول إنـه يتألـف مـن محطَّتَ ْ‬
‫ين كُربيَ ْ‬
‫تكـون الثانيـة أكثر تطـ ُّورا ً مـن األوىل‪ ،‬لكن بينهما عالقات وثيقـة‪ ،‬بحيث ال‬
‫ميكننـا اسـتيعاب بعـض التح ُّوالت يف املحطّـة الثانية‪ ،‬من دون اسـتيعاب‬
‫ماجـرى يف املحطّـة األوىل‪ ،‬فهام تشتركان‪ -‬معـــاً‪ -‬يف املبادئ املنهجية‬
‫األساس (التخلُّص من قبضة املؤلِّـــف)‪ ،‬وتساهامن‪ -‬معـــاً‪ -‬يف بناء تص ُّو ٍر‬
‫ومنهجـي لقـراءة األدب قراءةً‪ ،‬يُـراد لها أن تبقى وفيّةً‪ ،‬ال للمؤلِّـــف‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫نظـري‬
‫ٍّ‬
‫للنـص‪ ،‬والقارئ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بـل‬
‫يف املحطّـة األوىل‪ ،‬كان جـان بيلمان نويـل يتحـدّث‪ ،‬يف تنظرياتـه كام‬
‫للنـص؛ مبعنـى أن نعطـي‪ -‬بشـكلٍ‬
‫ّ‬ ‫يف تطبيقاتـه‪ ،‬عـن االشـتغال الالواعـي‬
‫مـن األشـكال‪ -‬املبـادرة لهـذا التأويـل الـذي يركّـز على العنـارص املؤلِّفـة‬
‫التناصيّـة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫للنـص األديب (دوالّـه‪ -‬مدلوالتـه‪ -‬بنياتـه الجنسـية‪ -‬حموالتـه‬
‫ّ‬

‫‪48‬‬
‫النصـــي باعتباره‬‫ِّ‬ ‫امليتانصية‪...‬وغريهـا)‪ .‬وكان يتحـدَّث عـن املحلِّل‬‫ِّ‬ ‫ثنياتـه‬
‫ٌ‬
‫منهمك يف تعليقٍ ذايتٍّ تُــغذِّيه‬ ‫النص‪ ،‬ألنـه‬
‫ّ‬ ‫هـذا الـذي يدَّعي أنـه هو صوت‬
‫النـص بواسـطة هـذا االنسـجام الداخلي‬ ‫ّ‬ ‫تلـك القـوى املوضوعـة يف هـذا‬
‫يف لغتـه وجهـازه التصويـري (الصـور البالغيـة‪ -‬التمثُّلات التـي تخاطـب‬
‫املتخ ّيـل‪ -‬مـا يسـ ّميه جـان فرانسـوا ليوطـار «الصـوري ‪.)»Le figural -‬‬
‫النصي باعتبـاره هـذا الـذي يعمـل جاهـدا ً‬ ‫ّ‬ ‫وكان يتحـدَّث عـن هـذا املحلِّـل‬
‫النـص‪ ،‬الـذي صـار‬ ‫ّ‬ ‫الخاصـة‪ ،‬مانحـــاً هـذا‬
‫ّ‬ ‫مـن أجـل التقليـل مـن ذات َّيتـه‬
‫ُمشَ ـ َّيئاً ومؤلَّهـاً‪ ،‬تلـك القدرة على اإلشـارة «التـدالل ‪ ،»faire signe -‬وهي‬
‫القـدرة التـي كان الع َّرافـون‪ ،‬قدميـاً‪ ،‬يسـندونها إىل اآللهـة!‪.‬‬
‫لكـن جـان بيلمان نويـل سـيعود‪ ،‬يف املحطّـة الثانيـة‪ ،‬إىل السـؤال‬
‫األسـاس‪ :‬مـاذا يعنـي أن مننـح مكانـ ًة عاليـ ًة لهـذا العمـل الـذي تقدِّمـه‬
‫القـراءة يف شـكل إنصـات؟ أيعنـي ذلـك أن نَـــزي َد مـن اسـتقاللية القـارئ‪،‬‬
‫النـص؟‪ ،‬وهو‪ -‬بهذه األسـئلة‪ -‬يـدرك أن األمر مل يعد‬ ‫ّ‬ ‫عوضـاً عـن اسـتقاللية‬
‫يتعلَّـق مبجـ َّرد فصـلٍ للمؤلَّـــف عـن مؤلِّـــفه‪ ،‬وأن األمـر مل يعـد يعنـي أن‬
‫مننـح القـارئ تلـك اإلمكانية الكبرية التي كانت تسـمح له بأن يضع الوعيَــه‬
‫ومحـل الوعـي باقـي القـ ّراء املفرتضين‪ ،‬وإلّ فإننـا‬
‫َّ‬ ‫محـل الوعـي املؤلِّـف‪،‬‬ ‫َّ‬
‫سـنعود‪ ،‬بذلـك‪ ،‬إىل النزعـة االنطباعيـة يف إحـدى صورهـا األكثر رداءةً‪،‬‬
‫النصـــي أن املسألة األساس‬ ‫ِّ‬ ‫ِّـــل‬
‫مادامت سـتدَّعي العلمية‪ .‬ويوضح املحل ُ‬
‫سـتبقى هـي نفسـها‪ ،‬دامئـاً‪ :‬كيـف يكـون بإمـكان هـذا القـارئ الـذي يقـرأ‬
‫منوذجـي‪ ،‬صالحاً‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫ي الـذي أقدِّمه على أنه‬‫قـراءيت النقديـة أن يعتبر تأويل َ‬
‫ٍ‬
‫انخراط لـذايت التـي مارسـت تحويلاً ذاتياً‪،‬‬ ‫ناتـج عـن‬
‫ٌ‬ ‫تأويـل‬
‫ٌ‬ ‫مـع العلـم أنـه‬
‫والتـي ال تسـتم ّد السـلطة إلّ مـن ذاتهـا؛ مـن أجـل أن تؤكِّـد أننـي محلِّـل‪/‬‬
‫مـؤ ِّو ٌل مؤ َّه ٌل؟‬
‫كل‬
‫م َّ‬ ‫ٌ‬
‫ومعقـول‪ ،‬يف نظـر جـان بيلمان نويـل‪ ،‬ويهـ ُّ‬ ‫ين‬ ‫ٌ‬
‫سـؤال عقلا ٌّ‬ ‫وهـذا‬
‫املناهـج واملقاربـات‪ ،‬ألنهـا كلّهـا رسعـان مـا تصطـدم بإشـكالية الحجـج‪.‬‬
‫وعلى سـبيل التمثيـل‪ ،‬إن مـؤ ِّرخ األدب الـذي مـن املفترض أن يكـون‬
‫أفضـل تسلُّحـــاً مـن أجـل الحصـول على ضامنـات املوضوعيـة‪ ،‬نجـده‬

‫‪49‬‬
‫يخضـع‪ ،‬يف املقـام األ َّول‪ ،‬ملعرفـ ٍة باملحيـط التاريخـي‪ ،‬هـي معرفـة ال‬
‫ميكـن لهـا أبـدا ً أن تدَّعـي الشـمولية؛ ويخضـع‪ ،‬يف املقـام الثـاين‪ ،‬لتصـ ُّو ٍر‬
‫رات أخـرى عـن معنـى «التاريخيـة ‪»l’historicité -‬؛ ويف‬ ‫مـن بين تصـ ُّو ٍ‬
‫أديـب مـا دخـوالً بنسـب ٍة‬
‫ٍ‬ ‫كاتـب أو‬
‫ٍ‬ ‫املقـام الثالـث‪ ،‬يكـون دخولـه إىل حيـاة‬
‫أو بدرجـ ٍة معيَّنـة‪ ،‬ويخضـع لصيغـ ٍة محـدَّدة‪ .‬والشيء نفسـه ميكـن أن‬
‫نقولـه عـن الناقـد السوسـيولوجي‪ ،‬بـل عـن هـذا الباحـث الـذي يدافـع عن‬
‫ٍ‬
‫«بنيـات‬ ‫أنرثوبولوجـي (جلبير دوران)‪ ،‬ويبحـث عـن الجـذور يف‬‫ٍّ‬ ‫متخيَّــلٍ‬
‫ٍ‬
‫كونيـ ٍة وعابـرة للتاريـخ‪ ..‬ويبقـى السـؤال‪ :‬مـا هـي املرشوعيـة التـي ميلكها‬
‫الالوعي؟ بالنسـبة إىل جان بيلمان نويل‪ ،‬يبدو أن‬ ‫َ‬ ‫تأويـل يسـتدعي‬
‫ٌ‬ ‫تحليـل ‪/‬‬
‫ٌ‬
‫عم يقـع يف قاعة العلاج‪ ،‬باسـتثناء أن صالحية‬ ‫الوضعيـة التختلـف كثيرا ً ّ‬
‫العلاج‪ ،‬ميكـن التأكُّـد منهـا بالنظـر إىل مـا اسـتفاده املريـض؛ يف حني أن‬
‫يعرف‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬ما الذي سـاهم‪ ،‬من داخـل ذاتيَّته‪ ،‬يف أن‬ ‫َ‬ ‫القـارئ العـادي لـن‬
‫النصـــي‪،‬‬‫ِّ‬ ‫يب الذي استكشـفه رفق َة املحلِّـــل‬ ‫العمل األد َّ‬
‫َ‬ ‫يجعلـه يجـد ذلـك‬
‫مدهشـاً أو ناجحـاً‪.‬‬
‫ويبقـى االفتراض أن املحلِّـــل النفسي هـو نفسـه ال ميلـك حقيقـ َة ِّ‬
‫كل‬
‫الجوهري يف عملـه هو هـذه الذاتية الشـاملة التي‬ ‫َّ‬ ‫مـا يجـري‪ ،‬لكـن الشر َ‬
‫ط‬
‫ميكنـه بلوغها كلّام أحسـن الوع ُيـــه اإلنصاتَ إىل ذلـك الالوعي اآلخر‪ ،‬فهو‬
‫نص ّيـاً إلّ إذا عـرف كيـف يكتـب‪ ،‬هـو نفسـه‪ ،‬مـا يشـعر به‪،‬‬ ‫لـن يكـون محلِّلاً ِّ‬
‫السية عنـد القارئ؛ ومن‬ ‫بطريقـة تـؤدّي إىل تحفيـز أو انخـراط تلك الـروح ِّ ِّ‬
‫أجل ذلك‪ ،‬من املفروض فيه أن ينخرطَ‪ ،‬يف أثناء القراءة‪ ،‬انخراطـــاً كلِّ ّيا‪،‬‬
‫ن‬
‫بكل الوعيه‪ ،‬بغرض أن يُــحس َ‬ ‫بـكل طاقاته‪ِّ ،‬‬
‫بـكل قدراته‪ِّ ،‬‬
‫بـكل ذات َّيتـه‪ِّ ،‬‬
‫أي ِّ‬
‫النـص األديب‪ ،‬إىل مـا فيـه مـن هذا الشيء الـذي «ال يُقال ‪le‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلنصـات إىل‬
‫‪ ،»non-dit‬ومـن هـذا اليشء الذي «ال يَـــقبل الوصـف ‪.»l’indicible -‬‬

‫‪50‬‬
‫(الفصل الثاين)‬

‫فــرويــد‪ ،‬الكـــان‪ ،‬وسؤال الــتــرجــمــة‬

‫‪51‬‬
‫جاك الكان (‪▲ )1981 - 1901‬‬
‫ــمـة بــال حــدود‬
‫تـرجـمـة فـرويــد َم َـه َّ‬
‫ـــمـــة مـسـتـحـيـلة‬
‫وتــرجــمــة الكـــان َم َـه َّ‬

‫‪ -‬الرتجمـة والتحليـل النفسي‪ :‬هـل يجـوز الربط بني الرتجمـة والتحليل‬


‫النفسي‪ ،‬أم أن هـذا الربـط قـد يبدو غريباً وغير مقبول؟‬

‫قـد يبـدو هـذا الربـط غريبـاً يف حياتنـا العلميـة‪ ،‬والثقافيـة العرب ّيـة‬
‫الراهنـة‪ ،‬فلـم يسـبق يل أن اطَّلعـت على دراسـة عربيّـة تتنـاول‪ ،‬بالـدرس‬
‫والتحليـل‪ ،‬العالقـات املمكنة بين الرتجمة والتحليل النفسي‪ .‬لكن الواقع‬
‫مهماً مـن الدراسـات األجنبيـة التـي تناولـت هـذا الربـط‬
‫ّ‬ ‫أن هنـاك عـددا ً‬
‫م عنـارص التقـارب بين‬
‫مما أثـار أهـ َّ‬
‫بالـدرس‪ ،‬أتوقَّـف‪ ،‬هنـا‪ ،‬عنـد بعضهـا ّ‬
‫املجالين‪ :‬يف نظـر جنيث ميشـو‪ ،‬ينبغي أن نأخذ بعني االعتبـار أن التحليل‬
‫ترجمـي متم ِّيــٌـز‪ ،‬ذلك‬
‫ٌّ‬ ‫أمنـوذج‬
‫ٌ‬ ‫تأسـس‪ ،‬منـذ بداياتـه‪ ،‬على أنه‬
‫النفسي قـد َّ‬
‫ألن التحليـل النفسي يعتبر ‪-‬أ َّوالً‪ ،‬وأخيرا ً‪ -‬ترجمـ ًة ّ‬
‫للوعي‪ ،‬وهـذا ما يجعل‬

‫‪53‬‬
‫الجسـور بين الرتجمـة والتحليـل النفسي متعـدِّدة ومتن ِّوعـة(((‪.‬‬
‫أ ّمـا بالنسـبة إىل فرانسـوا بريالـدي(((‪ ،‬فـان هـذا الربـط بين التحليـل‬
‫معين مـن املرتجمني‬ ‫َّ‬ ‫النفسي والرتجمـة سـيبدو غريبـاً بالنسـبة إىل نـوع‬
‫واملحلِّلين النفسـانيني الذيـن ينظرون إىل نشـاطهم عىل أنه مجـر ُد عملي ٍة‬
‫خاصـة‪ ،‬دون أن ينتبهـوا إىل أن هنـاك شـيئاً مشتركاً بني النشـاطني‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫تقنيـ ٍة‬
‫لغـوي‬
‫ٍّ‬ ‫ي إىل نظـام‬ ‫لغـوي أصل ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫بالنـص‪ ،‬مـن نظـام‬
‫ّ‬ ‫الرتجمـة هـي االنتقـال‪،‬‬
‫آخـر‪ ،‬والتحليـل النفسي هـو االنتقـال باملريـض مـن نظـام من السـلوكات‬
‫والتمثلات الباتولوجيـة إىل نظـام مـن السـلوكات والتمثُّلات التـي تُـعت َبـــر‬
‫ُّ‬
‫«طبيعيـة»؛ ففـي املجالين معـاً‪ ،‬هنـاك االنتقـال‪ ،‬بشي ٍء مـا‪ ،‬مـن نظـام‬
‫معين إىل نظـام آخـر‪.‬‬
‫َّ ٍ‬
‫كل ذلـك‪ ،‬يضيـف بريالـدي أن هنـاك نوعـاً مـن املرتجمين‬ ‫وفـوق ّ‬
‫نظـري‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫يؤسسـون نشـاطهم على أسـاس‬ ‫واملحلِّلين النفسـانيني الذيـن ِّ‬
‫ألنهـم يدركـون أن هنـاك أشـياء عديـدة‪ ،‬وقـد تكـون مه ّمـة‪ ،‬تضيـع يف‬
‫ّ‬
‫الـدال‪ ،‬يف‬ ‫معي(اإلهامل الـذي يلقاه‬
‫َّ‬ ‫طريـق االنتقـال مـن نظـام إىل نظـام‬
‫الرتجمـة‪ ،‬لصالـح املدلـول‪ ،‬واإلقصـاء الـذي تلقـاه بعـض األعـراض‪ ،‬يف‬
‫التحليـل النفسي‪ ،‬لصالـح البحـث عـن النـواة الطبيعيـة السـليمة)‪.‬‬
‫واألكثر مـن ذلـك أنـه‪ ،‬على هـذا املسـتوى النظـري‪ ،‬يبرز سـؤال‬
‫التقـارب املمكـن بين التحليل النفسي والرتجمة‪ .‬ويف الواقـع‪ ،‬إن اليشء‬
‫الـذي بخصوصـه ينتـج املرتجمـون واملحلِّلـون النفسـانيون نظريّاتهـم‪،‬‬
‫عندمـا يحاولـون التفكير يف نشـاطهم ومامرسـتهم‪ ،‬هـو الشيء نفسـه‪:‬‬
‫لغـة الـذات اإلنسـانية‪.‬‬
‫ويف نظـر بريالـدي‪ ،‬من الرضوري‪ ،‬اليوم‪ ،‬أن يأخذ املرتجمون التص ُّور‬
‫النفسـاين للغـة الـذات اإلنسـانية‪ ،‬بعين االعتبـار‪ ،‬يف تنظرياتهـم كما‬

‫‪(1) Ginette Michaud: Psychanalyse et traduction, voies de traverse, in: Traduction,‬‬


‫‪Terminologie, rédaction, vol.11, n2, 1998, p 937-.‬‬
‫‪(2) François Peraldi: Psychanalyse et traduction, in: Meta, Journal des traducteurs,‬‬
‫‪vol.27, n 1, 1982,p 925.‬‬

‫‪54‬‬
‫يف مامرسـاتهم للرتجمـة‪ .‬فاللّغـة ليسـت سـلوكاً‪ ،‬فحسـب‪ ،‬كما يذهـب‬
‫إىل ذلـك املدافعـون عـن النزعـة السـلوكية‪ ،‬وهـي ليسـت مجـ َّرد أداة‬
‫للتواصـل‪ ،‬كما يف نظريّـات التواصـل‪ ،‬كما أنهـا ليسـت مجـ َّرد نظـام مـن‬
‫العالمـات‪ ،‬كما يفترض اللسـانيون‪ ،‬بـل إن اللّغـة‪ ،‬يف نظـر التفسـانيني‪،‬‬
‫وخاصة‬
‫ّ‬ ‫كل عالقـ ٍة ممكنـ ٍة بالعـامل الـذي يسـكنه اإلنسـان‪،‬‬
‫يل يف ّ‬ ‫رش ٌ‬
‫ط أ َّو ٌّ‬
‫إذا اعتربنـا اإلنسـان ذاتـا‪ ،‬أي باعتبـار أن اإلنسـان عندمـا يتكلَّـم‪ ،‬فهـو يف‬
‫الوقـت نفسـه متكلِّـم ومتكلَّـم‪ .‬ذلـك أن الـكالم‪ ،‬باعتبـاره وظيفـة مـن‬
‫وسـيط أو أدا ٍة توجد رهن إشـارة الذوات‪ :‬فقد‬
‫ٍ‬ ‫وظائـف اللّغـة‪ ،‬ليـس مج َّر َد‬
‫كل إنسـان‪ ،‬ألنـه هـو‬ ‫ين التحليـل النفسي أن للـكالم تأثيرا كبيرا ً على ّ‬ ‫ب َّ‬
‫ير‪ ،‬من الوضـع الحيواين إىل الوضـع االعتباري‬ ‫الـذي ينتقـل بـه‪ ،‬وهو صغ ٌ‬
‫للـذات االجتامعيـة؛ ومـن هنـا‪ ،‬تكـون اجتامعيـة الـذات‪ ،‬أي انتامؤهـا‬
‫وانخراطهـا يف املجتمـع‪ ،‬محكومـة ومرشوطـ ٌة ومحـدَّدة بوظيفـة الـكالم‬
‫كل لحظ ٍة من‬ ‫يكـف املحلِّـل النفسي‪ ،‬يف ّ‬
‫داخـل حقـل اللّغـة؛ ولهـذا‪ ،‬ال ّ‬
‫لحظـات مامرسـته‪ ،‬عـن التحقُّـق مـن هذه املسـألة‪ :‬هـل اللّغة مـن إنتاج‬
‫الـذات اإلنسـانية‪ ،‬أم أن الذات اإلنسـانية هي التي تعترب مـن إنتاج اللّغة؟‬
‫ين بعين االعتبار‪ ،‬فإن‬
‫وإذا أراد املرتجمـون أن يأخـذوا التصـ ُّور النفسـا َّ‬
‫األمـر يفـرض أن نأخذ بعين االعتبار القضايـا اآلتية‪:‬‬
‫النـص‬
‫ّ‬ ‫م مبدلـوالت‬ ‫‪ -‬يف نظـر بريالـدي(((‪ ،‬ال ينبغـي للمرتجـم أن يهتـ ّ‬
‫ّ‬
‫الـدوال أيضـاً‪ ،‬وأن‬ ‫وإيحاءاتـه‪ ،‬فقـط‪ ،‬بـل عليـه أن يحسـن اإلصغـاء إىل‬
‫يعمـل مـن أجـل أن ينجـح يف متريرهـا مـن خلال هـذا الجسر الـذي‬
‫ّ‬
‫الـدوال قـد ال يخلـو مـن أه ِّم ّيـة‪ ،‬وقـد‬ ‫نسـ ّميه الرتجمـة‪ ،‬فما قـد تقولـه‬
‫الـدال يف ترجمة الذات‬ ‫ّ‬ ‫تكـون قيمتهـا أكبر‪ ،‬إذا أخذنا بعين االعتبار ق ّوة‬
‫اإلنسـانية‪.‬‬
‫‪ -‬يف نظـر جنيـت ميشـو‪ ،‬إذا ركَّزنـا على املـادّة املشتركة بين‬

‫‪(1) François Peraldi: Psychanalyse et traduction, in: Meta, Journal des traducteurs,‬‬
‫‪vol.27, n 1, 1982.‬‬

‫‪55‬‬
‫التحليـل النفسي والرتجمـة؛ أي لغـة الـذات اإلنسـانية‪ ،‬فالبـ َّد أن نأخـذ‬
‫بعين االعتبـار تلـك التعديلات والتغييرات الذاتيـة التـي ميكـن أن يقـوم‬
‫بهـا املرتجـم أو املحلّـل النفسي تحـت تأثير مفعـوالت الـكالم‪ .‬وهنـا‪،‬‬
‫يسـتحرض جنيـت ميشـو رصاع التأويلات‪ ،‬أي رصاع الذاتيـات‪ ،‬الـذي‬
‫تعرفـه ترجمـة نصـوص فرويـد‪ ،‬وإعـادة ترجمتهـا إىل اللّغـة الفرنسـية‪،‬‬
‫النـص الفرويـدي إىل اللّغـة االنجليزيـة ال يثير سـجاالً‬
‫ّ‬ ‫مـع أن ترجمـة‬
‫يتبين أن النقـاش الـذي يـدور حـول‬
‫َّ‬ ‫أو رصاعـاً‪ ،‬ولكـن ‪-‬مـن جهـة أخـرى‪-‬‬
‫نقـاش يوضـح أن عالقـة التحليـل النفسي‬
‫ٌ‬ ‫شـكل الكلمات واملفهومـات‬
‫ــكس بعض‬
‫ِّ‬ ‫بالكلمات ليسـت عالقـة تقنيـة بسـيطة‪ ،‬فالتحليـل النفيس يُ‬
‫الكلمات أو يعيـد تركيبهـا بشـكل آخـر‪ ،‬فيحـ ِّول دالالتهـا‪ ،‬ويحـدث فيهـا‬
‫«تحـ ُّوالً دالل ّيـاً جذريّـاً»‪ ،‬كما وضَّ ح ذلك جـاك دريدا‪ ،‬يف إحدى دراسـاته‪.‬‬

‫‪ -‬بالنسـبة إىل جابرييـل لويـس موايـال((( ‪،Gabriel Louis Moyal‬‬


‫نبيـل‪ ،‬ومـا يجعـل هـذا الفعـل ممكنـاً هـو فعـل‬
‫ٌ‬ ‫فعـل ذايتٌّ‬
‫ٌ‬ ‫فالرتجمـة‬
‫االعتقـاد‪ ،‬فهـذا األخير هـو الـذي يدفـع املرتجـم إىل ركـوب املخاطـر‪،‬‬
‫وبـذل املجهـود‪ ،‬وتكريـس وقتـه للرتجمـة‪ .‬وال ينفصـل فعـل االعتقـاد‪،‬‬
‫هنـا‪ ،‬عـن هـذا النـزوع امللازم للطبيعـة اإلنسـانية‪ :‬البحـث عـن املعنـى‬
‫إل شـهادة متجـدِّدة‬
‫نـص أو خطـاب ليسـت ّ‬
‫يف هـذا العـامل‪ ،‬فرتجمـة ّ‬
‫على إمكانيـة ترجمـة العـامل إىل معنـى‪ .‬وباملقابـل‪ ،‬ميكـن للرتجمـة أن‬
‫تكـون فعلاً خطيرا ً بسـبب التغييرات الذاتيـة التـي قـد يجريهـا املرتجـم‬
‫النـص األصلي‪ ،‬وخاصـة عندمـا تتدخـل رغبـة املرتجـم‬ ‫ّ‬ ‫على مقاصـد‬
‫َ‬
‫السـياق‬ ‫وشـخصيته‪ ،‬عـن وعـي أو الوعـي‪ ،‬يف ترجمتـه‪ ،‬أو عندمـا يحكِّــم‬
‫يف الـذي ينتمـي إليـه‪.‬‬
‫العلمـي أو الثقـا َّ‬
‫َّ‬

‫‪(1) Gabriel Louis Moyal: Interprétation et fétiches: entre traduction et psychanalyse, in:‬‬
‫‪Traduction, terminologie, rédaction, vol.11, n2, 1998, p 131 - 151.‬‬

‫‪56‬‬
‫ترجمة فرويد‪َ :‬م َـه َّـمــة بال حدود‬
‫ين‪ :‬اإلنجليزيـة‪ ،‬والفرنسـية‪ :‬يف إحـدى‬
‫‪ -‬ترجمـة فرويـد إىل اللغ َت ْ‬
‫رسـائله إىل إرنسـت جونـس‪ ،‬كتـب فرويـد يقـول‪:‬‬
‫ي أن أكتـب‪Le moi et le :‬‬
‫«أحيانـاً‪ ،‬يتملَّكنـي الشـعور بأنـه مل يكـن عل ّ‬
‫‪ »ça‬مبـا أن «‪ »le ça‬عبـارة‪ ،‬ال متكـن ترجمتهـا إىل اإلنجليزيـة» ‪.‬‬
‫(((‬

‫قـد تفيـد هـذه القولـة أن ترجمـة فرويـد إىل اإلنجليزيـة سـتعرتضها‬


‫‪-‬الشـك‪ -‬صعوبـات كبيرة‪ ،‬إلّ أن املالحـظ أن الرتجمات اإلنجليزيـة التثير‬ ‫ّ‬
‫الكثير مـن السـجال والنقـاش مقارنة بالرتجمات الفرنسـية‪ ،‬دون أن يعني‬
‫ذلـك عـدم وجـود انتقـادات قويّـة للطريقـة التـي تُـــرجِـــم بهـا فرويـد إىل‬
‫اإلنجليزيـة‪ .‬ومـن ذلـك‪ ،‬ميكـن أن نسـتحرض مقالـة قويّـة لصاحبهـا برونـو‬
‫بتلهايـم‪ ،Bruno Bettelheim-‬يوضِّ ـح فيهـا كيـف أن ترجمـة جيمـس‬
‫سرتاشـاي‪ ،James Stachey-‬ملجمـوع أعمال فرويـد‪ ،‬وهـي الرتجمـة‬
‫التـي نرشتهـا ‪ ،Standard Edition‬قـد عملـت على تحويـل مـا ينبغـي‬
‫لـه أن يكـون علماً مـن العلـوم اإلنسـانية إىل علـم مـن العلـوم الطبيعيـة‪،‬‬
‫رض يف أعامل املنظِّـــر‬
‫الشـخيص الحـا َ‬
‫َّ‬ ‫يت‬
‫وهـي ‪-‬بذلـك‪ -‬تلغـي البعـد الـذا َّ‬
‫واملحلِّـل النفسي سـيجموند فرويـد‪. .‬‬
‫(((‬

‫مـع ذلـك‪ ،‬ففـي اللّغـة الفرنسـية (وهـي اللّغـة التـي غالبـا مـا نقـرأ بهـا‬
‫ٍ‬
‫وإعـادات للرتجمـة تتجدَّد‬ ‫فرويـد يف املغـرب)‪ ،‬نجـد الرتجمات العديدة‪،‬‬
‫باسـتمرار؛ مـا يوحـي بأن ترجمـة فرويد َمه ّمـة المحدودة‪ ،‬تثري‪ ،‬باسـتمرار‪،‬‬
‫نقاشـات وسـجاالت ورصاعـات‪ ،‬هـي ‪-‬يف النهايـة‪ -‬رصاع تأويلات قلّـما‬
‫نجـد لـه نظيرا ً يف اللّغـة اإلنجليزيـة‪ .‬ففـي فرنسـا‪ ،‬تبدو مسـألة نقـل تراث‬
‫ربـا ألن الرتجمة نفسـها‪،‬‬ ‫الحـل النهايئ؛ َّ‬
‫ّ‬ ‫فرويـد كأنهـا مسـألة بعيـدة عـن‬
‫فـكل ترجمة‪،‬‬‫ّ‬ ‫كما يقـول عبـد السلام بنعبـد العـايل‪ ،‬هي عمل ّيـة النهائ ّيـة‪،‬‬

‫‪(1) Lettre de Freud à Jones du 7 - 3 - 1926, publiée in: The complete correspondance of‬‬
‫‪Sigmund Freud and Ernest Jones, The Belknap Press of Havard university press, 1993.‬‬
‫‪(2) Gabriel Louis Moyal, ibid.‬‬

‫‪57‬‬
‫والحالـة هـذه‪ ،‬هـي نسـخة عـن نسـخة‪ ،‬وتأويـل لتأويل‪.‬‬
‫ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن للمرتجمـة واملحلِّــلة النفسـية األملانيـة مارجريـت‬
‫خاصـ ًة أنهـا أملانيـة قـرأت‬
‫ّ‬ ‫مهماً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كانيتـزر‪ ،‬رأي آخـر يف املوضـوع‪ ،‬نـراه‬
‫فرويـد يف لغتـه األصليـة‪ ،‬ومحلّلـة نفسـانية‪ ،‬وخبيرة يف الرتجمـة اطَّلعت‬
‫على الصعوبـات التـي تعترض زمالءهـا الفرنسـيني‪.‬‬
‫يف مقالتهـا‪« :‬ترجمـة فرويـد‪َ ،‬م َه ّمـة بلا حـدود»(((‪ ،‬توضِّ ـح أن الرتجمة‬
‫هـي إعـادة إنتـاج‪ ،‬داخـل لغـة االسـتقبال‪ ،‬للمقابـل الطبيعـي األكثر قربـاً‬
‫(مـا أمكـن ذلـك) مـن الخطـاب يف لغتـه األصليـة‪ :‬أ ّوالً مـن خلال املعنى‪،‬‬
‫وثانيـاً مـن خلال األسـلوب‪ .‬واملرتجـم‪ ،‬بهـذا املعنـى‪ ،‬ليـس مجـ َّرد «تقني‬
‫ين بتاريخهما‪ .‬واملرتجـم‬ ‫ين مصحوبتَ ْ‬ ‫«لغـوي‪ ،‬بـل هـو وسـيط بين ثقافتَ ْ‬
‫النـص األصيل‪ ،‬وهو يعـرف أن من واجبه‬‫ّ‬ ‫كأي قـارئ‪ ،‬فهـو «يسـتقبل»‬
‫ليـس ِّ‬
‫اسـتنباته داخـل سـياق ثقـايف جديـد؛ مـا يعنـي أن الفهم عنـد املرتجم هو‬
‫ٍ‬
‫أحـد ما‪.‬‬ ‫نصـاً مـا مـن أجـل‬
‫أن يفهـم ّ‬
‫ويف نظـر املرتجمـة املحلِّلـة النفسـانية‪ ،‬البـ ّد للمرتجـم مـن األملانيـة‬
‫أن يأخـذ بعين االعتبـار مـا تتم َّيـز بـه النصـوص العلميـة‪ ،‬ومنهـا نصـوص‬
‫فرويـد‪ ،‬يف هـذه اللّغـة‪:‬‬
‫التخصـص مكانـة واسـعة‪ :‬مصطلحـات تقنيـة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬تَـــشغل مصطلحـات‬
‫كلمات مركَّبـة‪...‬؛‬
‫‪ -‬األولويّة للرتكيب االسمي مقارن ًة بالرتكيب الفعيل؛‬
‫‪ -‬غياب التعابري ذات اإليحاءات العاطفية؛‬
‫‪ -‬األسـلوب متـداول‪ ،‬دون أن يخلـو مـن جاملية كلّما كان املؤلِّف قادرا ً‬
‫عىل التعبير الجاميل‪.‬‬

‫‪(1) Margarette Kanitzer: Traduire Freud, une mission sans limite, in: Analuein, Le‬‬
‫‪Journal de la F.E.D.E.P.S.Y., n2, Avril 2002, Strasbourg.‬‬

‫‪58‬‬
‫النـص العلمـي يف اللّغـة األملانيـة إلّ حيِّـزا ً ضيِّقـاً‬
‫ّ‬ ‫وهكـذا‪ ،‬ال يترك‬
‫النـص األديب‪ .‬ففرويـد شـيَّ َد مصطلحاتـه بإعطـاء‬ ‫ّ‬ ‫للتأويـل‪ ،‬على عكـس‬
‫معـانٍ جديـدة ملصطلحـات موجـودة مسـبقاً‪ ،‬ولهـا يف الغالـب مرجعيـة‬
‫رشه سـنة‬ ‫نـص‪ ،‬ن َ‬ ‫كيميائيـة أو فيزيائيـة‪ .‬وهـذا مـا وضحـه فرويـد نفسـه يف ٍّ‬
‫‪ ،1919‬تحـت عنـوان‪« :‬املقارنـة الدقيقـة بين العمـل التحليلي للطبيـب‬
‫وعمـل الكيميـايئ»‪ .‬لكـن هنـاك مصطلحـات اسـتمدَّها فرويـد مـن اللّغـة‬
‫العاديّـة‪ ،‬ويسـتعملها‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬مبفهومها النفسـاين‪ ،‬ويسـتخدمها‪ ،‬أحياناً‬
‫أخـرى‪ ،‬مبختلـف معانيهـا يف اللّغـة العاديـة‪.‬‬
‫بعـد أن اسـتحرضت كانيتـزر هـذه العنارص‪-‬املبـادئ‪ ،‬عـادت إىل تأ ُّمـل‬
‫جلة‪ ،‬يف البدايـة‪ ،‬أن أعمال فرويـد‬ ‫فرويـد يف اللّغـة الفرنسـية‪ ،‬مسـ ِّ‬
‫متوفِّـرة‪ ،‬بأكملهـا‪ ،‬يف اللّغـة الفرنسـية‪ ،‬وبرتجمات مختلفـة‪ ،‬إىل حـ ّد أن‬
‫أحـد نصوصـه «‪ ،»La négation‬قـد عـرف إىل حـدود ‪ ،1982‬سـبع عشرة‬
‫ّ‬
‫والشـك يف أن هـذا العـدد قـد ازداد‪ ،‬اليـوم‪.‬‬ ‫ترجمـة‪،‬‬
‫جل املرتجمـة واملحلّلـة النفسـانية أن أغلـب هـذه الرتجمات‪،‬‬ ‫وتسـ ِّ‬
‫ألعمال فرويـد‪ ،‬فيهـا أخطـاء‪ ،‬وتتاميز فيما بينها يف األسـلوب واملصطلح‬
‫واملقروئ ّيـة‪ .‬فالرتجمات األوىل التي أنجزت ‪-‬بالخصوص‪ -‬من طرف برمان‪-‬‬
‫‪ ،Berman‬وبونابـارت‪ ،Bonaparte-‬وجانكيليفيتـش‪Jankélévitch-‬‬
‫ترجمات مقـروءة بشـكلٍ جيِّد‪ ،‬لكنها ال تحترم املعنى دامئـا‪ ،‬وتبتعد ‪-‬يف‬
‫النص األصلي‪ .‬أ ّما الرتجمات الالحقة‪ ،‬فعىل الرغـم من أنها‬‫ّ‬ ‫الغالـب‪ -‬عـن‬
‫حـح األخطاء‪ ،‬ال متلـك كفاءة الرتجمات التي جاءت‬ ‫تـأيت مـن أجـل أن تص ِّ‬
‫مـن أجـل أن تنتقدها‪.‬‬
‫ففـي سـنة ‪ ،1981‬نشرت جريـدة ‪ Le Monde‬مقـاالً‪ ،‬لصاحبـه سيرج‬
‫موسـكوفتيش‪ ،Serge Moscovici-‬تحـت عنـوان‪« :‬متـى سـنرتجم فرويـد‬
‫لنـص‬
‫ّ‬ ‫إىل الفرنسـية؟»‪ ،‬وفيـه ينتقـد الرتجمـة التـي أنجزهـا جانكيليفيتـش‬
‫فرويـد «السـيكولوجية الجامعيـة وتحليـل األنـا»‪ ،‬مشيرا ً إىل األخطـاء‬
‫املرتكبـة‪ ،‬سـاعياً إىل تصحيحهـا‪ ،‬لكنـه‪ ،‬هـو األخـر‪ ،‬مل ُ‬
‫ينـج مـن الفخـاخ‬
‫التـي يسـقط فيهـا الهـواة‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ هـذه الفقـرة التـي ترجمهـا جانكليفيتـش على هـذا‬،‫مـن أمثلـة ذلـك‬
:‫الشـكل‬
«L’hypnose peut à bon droit être considérée comme une
foule à deux; pour pouvoir s’appliquer à la suggestion, cette
définition a besoin d’être complétée: dans cette foule à
deux, il faut que le sujet qui subit la suggestion soit animé
d’une conviction qui repose non sur la perception ou sur le
raisonnement, mais sur une attache érotique.».
:‫مل يوافـق موسـكوفتيش على الرتجمـة املقرتحـة للجملـة التـي تفيـد‬
:‫ فاقرتح البديل األيت‬،»compléter la définition de la suggestion«
«Pour la suggestion est superflue la définition d’une
conviction qui n’est pas fondée sur la perception et le travail
mental mais sur un lien érotique.».
‫ يتحـدَّث جانكليفيتـش‬:ً‫قـد يبـدو نقـد موسـكوفيتيش مقبـوالً وسـليام‬
‫ يف حين أن مـا يقصـده فرويـد‬،‫عـن التعريـف الـذي يحتـاج إىل االكتمال‬
‫مؤســـس‬
ِّ ‫ يقصـد عكس مـا يرمي إليه‬-‫بذلـك‬- ‫ وهـو‬،‫هـو التعريـف الفائـض‬
.‫التحليـل النفسي‬
،‫ يرتكـب خطـأً آخـر‬،‫ وهـو يحـاول تصحيـح خطـأ‬،‫لكـن موسـكوفيتيش‬
‫ هـي التي‬،‫ بهـذا الصدد‬،‫ والرتجمـة الصحيحـة‬،‫يف نظـر مارجريـت كانيتـزر‬
:Payot ‫ يف دار النشر الفرنسـية‬،1981 ‫ظهـرت سـنة‬
«L’hypnose peut prétendre à juste titre à cette appellation:
une foule à deux ; il reste comme définition de la suggestion:
une conviction qui n’est pas fondée sur la perception et le
travail de pensée, mais sur un lien érotique.».
‫ مل‬،‫ وموسـكوفتيش‬،‫ جانكليفيتـش‬:‫ين‬ ْ ‫ يبـدو أن املرتج َم‬،‫مـن هنـا‬
‫ هـذه العبـارة التـي مل تَــعد‬،erübrigen :‫ العبـارة األملانيـة‬-ً‫معـا‬- ‫يفهما‬

60
‫تُـستع َمـــل‪ ،‬اليـوم‪ ،‬باملعنـى الـذي كان يقصـده فرويـد‪ :‬بقـي‪. rester ،‬‬
‫لكـن ينبغـي للمرتجـم املحترف أن يبحث عـن معنى عبار ٍة مـا‪ ،‬يف عالقتها‬
‫بسـياقها التاريخـي‪.‬‬
‫ويف نظـر املرتجمـة واملحلِّلـة النفسـانية األملانيـة‪ ،‬نجـد هـذا النـوع‬
‫وخاص ًة تلك‬
‫ّ‬ ‫مـن املشـاكل يف الرتجمات الجديـدة ألعامل فرويـد‪ ،‬أيضـاً‪،‬‬
‫التـي نرشتها املنشـورات الجامعية الفرنسـية ‪ ،PUF‬تحـت إرشاف البالنش‬
‫ضع تحتها سـطر‪،‬‬ ‫‪Laplanche‬؛ ومثـال ذلـك هـذه الجملـة الغريبـة التي ُو ِ‬
‫يف هـذه الرتجمة‪:‬‬
‫‪«(…) avec la vacance du complexe d’Œdipe, l’enfant a dû‬‬
‫‪renoncer aux investissements d’objet intenses qu’il avait‬‬
‫‪placés chez ses parents…».‬‬
‫بلا ّ‬
‫شـك‪ ،‬سيتسـاءل القارئ‪ :‬مـا معنى هذا الـكالم؟ واملعنـى لن يظهر‬
‫إلّ مـع الرتجمـة الصحيحـة التـي نرشتهـا دار ‪ ،Gallimard‬سـنة ‪،1984‬‬
‫وهـي مـن ‪-‬إنجـاز زيتلين‪:Zeitlin -‬‬
‫‪«(…) en abandonnant le complexe d’Œdipe , l’enfant a dû‬‬
‫»…‪renoncer aux investissements d’objets‬‬
‫والعبـارة األملانيـة التـي خلقـت مشـكالً‪ ،‬يف هـذه الجملـة‪ ،‬هـي‪:‬‬
‫‪ ،Auflassen‬التـي ميكـن ‪-‬فعلاً‪ -‬أن تفيـد يف اللّغـة العاديـة‪laisser« :‬‬
‫‪ ،»ouvert‬لكنهـا‪ ،‬هنـا‪ ،‬مسـتخدَمة مبعنـى‪ ،‬ال نجـده إلّ يف النمسـا‪:‬‬
‫غـادر‪ .Abondonner-‬وينبغـي للمرتجـم الخبير أن يأخـذ بعين االعتبـار‬
‫االسـتعامالت ‪-‬الجهويـة‪ -‬للعبـارة‪.‬‬
‫وهـذه الرتجمات الجديـدة التـي ظهـرت يف املنشـورات الجامعية‬
‫الفرنسـية‪ ،‬تثير ‪-‬يف نظـر مارجريـت كانيتـزر‪ -‬مشـاكل أخـرى؛ ذلك أن‬
‫الفريـق الـذي تكلَّـف بهذه الرتجمات يريد أن يعيد بنـاء فرويد‪ ،‬انطالقاً‬
‫مـن فرويـد نفسـه‪ ،‬بإعـادة إنتـاج الرتكيـب األملـاين‪ .‬وهكـذا‪ ،‬عمـل‬
‫الفريـق على تغيير بعـض االصطالحـات القامئـة‪:‬‬

‫‪61‬‬
‫«‪ »souvenir - couverture‬بالنسـبة إىل «‪ ، »souvenir - écran‬أو‬
‫«‪ »refusement‬بالنسـبة إىل «‪ ...»frustration‬إلـخ‪.‬‬
‫وعمـل الفريـق على إحـداث العديـد مـن التغييرات يف املصطلحـات‬
‫م إلغـاء تعـدُّد معـاين املصطلـح الواحـد الـذي‬ ‫الفرنسـية‪ ،‬كما تـــــ َّ‬
‫يسـتعمل يف سـياقات مختلفـة‪ ،‬مـن أجـل الحفاظ عىل مـا يسـ ّميه الفريق‬
‫«االسـتمرارية»‪ .‬ورصنـا ‪-‬تقـول املرتجمـة واملحلّلـة النفسـانية األملانيـة‪-‬‬
‫أمـام فرويـد جديـد‪ ،‬لكنـه ‪-‬بالطبـع‪ -‬مل يعـد هـو فرويـد األصـل‪.‬‬
‫خاصة؛ ولهذا‬
‫ّ‬ ‫يعتقـد هـذا الفريق أن فرويد يسـتعمل األملانية بطريقـة‬
‫خاصة‪ ،‬فال ب ّد للرتجمـة أن تؤدّي غريب‬
‫ّ‬ ‫مـن الضروري ترجمته إىل فرنسـية‬
‫اللّغـة األجنبيّـة وغرابتهـا‪ ،‬أي الجرمنـة‪ ،‬وهذه امله ّمة ال ميكـن أن يقوم بها‬
‫إال «املرتجم الفرويدي‪.»traducteur freudologue-‬‬
‫لكـن الواقـع ‪-‬تقـول مارجريـت كانيتـزر‪ -‬أن فرويـد مل يكن يسـتعمل إلّ‬
‫املصـادر الطبيعيـة للغتـه األملانيـة‪ ،‬بينما نجد هـذه الرتجامت الفرنسـية‬
‫الجديـدة تسـتدعي مصادر لغة غريبـة‪ ،‬وهم ‪-‬بذلك‪ -‬يتعارضـون مع املبدأ‬
‫الـذي انطلقنـا منه‪ :‬إعادة إنتاج‪ ،‬أي أن نُــعيد‪ ،‬داخل لغة االسـتقبال‪ ،‬إنتاج‬
‫املقابـل الطبيعـي األكثر قربـــاً‪ ،‬ما أمكـن ذلك‪ ،‬من اللّغـة األصلية‪.‬‬
‫يرفـض هذا الفريـق «الفرنجليزيـة‪ ،»le franglais-‬باعتبارها لغة تقدِّم‬
‫تراكيـب أو كلمات متزج بني الفرنسـية‪ ،‬واإلنجليزية‪ ،‬لكنهم ال يرتدَّدون يف‬
‫تغيير صـورة اللّغـة الفرنسـية‪ ،‬وذلك بتغيير بنيتها يف الرتكيب واألسـلوب‬
‫وبنـاء الكلمات‪ ،‬أو بـإدراج كلمات غريبـة وحشـية‪ ،‬جذورهـا وحدهـا التـي‬
‫بـكل ذلـك‪ ،‬وهـذا هـو وجـه التناقـض‪ ،‬مـن‬‫تبقـى فرنسـية‪ .‬ويقـوم الفريـق ّ‬
‫أجل «فرنسـية أملانية» أو «فرنسـية» مصنوعة يف أملانيا «تد ِّمـــر املظاهر‬
‫الطبيعيـة للّغة الفرنسـية‪.‬‬
‫ويف األحـوال كلِّهـا‪ ،‬مـن الضروري أن يسـتخدم املرتجـم املصـادر‬
‫الطبيعيـة للغتـه‪ ،‬واليشء يسـمح لـه ‪-‬يف نظـر الخبيرة األملانيـة يف‬
‫الرتجمـة والتحليـل النفسي‪ -‬بابتـكار مصطلحـات جديدة أو إحيـاء كلامت‬

‫‪62‬‬
‫ميّتـة‪ ،‬مل يعـد يفهمهـا أحـد‪ .‬وتنطبـق هـذه املالحظـة ‪-‬مثلاً‪ -‬على كلمـة‪:‬‬
‫«‪ »sehnsucht‬التـي تعني «الرغبـة العنيفة املوجعة»‪ ،‬وهي عبارة ترتجم‬
‫بطـرق مختلفـة‪ ،‬حسـب السـياق‪ ،‬فالرغبـة هاتـه يف التقاعـد‪ ،‬ليسـت مثـل‬
‫الرغبـة يف أن تكـون محبوبـاً مثلاً‪ .‬وتبعـا للسـياق‪ ،‬تختلـف إيحـاءات هـذه‬
‫الكلمـة‪ ،‬ويسـتعمل فرويـد هذه الكلمـة يف معانيها الطبيعيـة الجارية‪ ،‬يف‬
‫حين نجـد هـذا الفريق مـن املرتجمين الفرنسـيني الجـدد يلجـأ إىل كلمة‬
‫فرنسـية قدميـة‪ ،‬ال ميكن للقارئ أن يـدرك حمولتها‪ ،»désirance« :‬فيبدو‬
‫األمـر كما لـو أننـا أمـام ترجمـة تحتـاج‪ ،‬هـي األخـرى‪ ،‬إىل ترجمـة‪ ،‬ويـزداد‬
‫األمـر تعقيـدا ً عندمـا نجـد مصطلحـات أخـرى أشـ ّد غرابة يف ترجمات هذا‬
‫الفريـق‪ ،‬مـن قبيل‪:‬‬
‫‪«surmontement», «influencement», «significativité»,‬‬
‫‪«consciencialité», «le devenir - conscient»,..‬‬
‫إجماالً‪ ،‬تختفـي‪ ،‬يف هـذه الرتجمات الجديـدة ألعمال فرويـد إىل‬
‫الفرنسـية‪ ،‬تختفـي بسـاطة فرويـد وأسـلوبه السـلس البسـيط وراء معجـم‬
‫اصطناعـي وتركيـب أكثر تص ُّنعـاً‪ ،‬بادِّعـاء ترفضـه الخبيرة األملانيـة يف‬
‫الرتجمـة والتحليـل النفسي‪ ،‬وهـو أن فرويـد ميثِّـل‪ ،‬هـو نفسـه‪ ،‬الغرابـة‬
‫داخـل لغتـه األصليـة‪.‬‬
‫‪ -‬مـاذا عـن ترجمـة فرويـد إىل اللّغـة العرب ّيـة؟‪ :‬هـل نقـول إن العرب ّيـة‬
‫كتـاب عنـد فرويـد «تفسير األحالم» قـد قام‬ ‫ٍ‬ ‫م‬
‫قـد كانـت محظوظـة ألن أهـ َّ‬
‫برتجمتـه املحلِّـل النفسي مصطفـى صفـوان‪ ،‬املعـروف بالرتجمـة عـن‬
‫األملانيـة‪ ،‬ويُـــقال إن ترجمتـه لهـذا املؤلَّــــف املهـم أفضـل مـن الرتجمة‬
‫الفرنسـية نفسـها؟‬
‫تعـود هـذه الرتجمـة إىل أواخـر الخمسـينيات مـن القـرن املـايض‪،‬‬
‫واألمـر ‪-‬رمبَّـا‪ -‬ال يدعـو إىل التفـاؤل يف الوقـت الراهـن؛ إذ يكفـي أن نالحظ‬
‫جــــم عن اللّغـة الفرنسـية أو اإلنجليزية العن‬
‫أن أغلـب أعمال فرويـد تُـــرت َ‬
‫لغتهـا األصليـة؛ مـا يجعـل خيانتنـا‪ ،‬بحسـب تعبير عبـد السلام بنعبـد‬
‫العـايل‪ ،‬خيانـة مضاعفـة‪ .‬واألكثر مـن ذلـك‪ ،‬يكفـي أن نتسـاءل‪ :‬هـل أعاد‬

‫‪63‬‬
‫العـرب ترجمـة فرويـد كما جـرى يف فرنسـا‪ ،‬مثلاً؟ وهـل فرويـد متوفّـر‪،‬‬
‫بالكامـل‪ ،‬يف العربيّـة‪ ،‬برتجمات ال تدعو إىل إعـادة الرتجمة؟ وهل انتقلت‬
‫ترجمـة فرويـد‪ ،‬عندنـا‪ ،‬مـن وضـع أفضـل إىل وضـع أسـوأ؟‬
‫يف مقالـة تحـت عنـوان «شـجرة تكشـف الغابـة‪ ،‬الرتجمات العرب ّيـة‬
‫للمصطلحـات الفرويديـة»(((‪ ،‬تشـدِّد الجامعيـة واملحلِّلـة النفسـانية‬
‫التونسـية رجـاء بـن سلامة‪ ،‬على رضورة وضـع ترجمـة فرويـد يف إطـار‬
‫مسـألة مامرسـة الرتجمـة يف العـامل العـريب‪ ،‬وهـي مسـألة بنيويـة‬
‫واإلقليمـي‬
‫ّ‬ ‫ي‪،‬‬
‫ي‪ :‬املحل ّ‬‫مؤسسـ ّية على املسـتويَ ْ‬ ‫ّ‬ ‫تتعلَّـق بغيـاب قاعـدة‬
‫م‪ ،‬خلال سـنة ‪ ،2006‬إنشـاء «فريـق املحلّلين‬ ‫لهـذه املامرسـة؛ فقـد تـ ّ‬
‫ال ّنفسـان ّيني ال ّناطقين بالعرب ّيـة» يف ال ّربـاط‪ ،‬لك ّنـه مل يبـدأ العمـل بعد‪،‬‬
‫م عقـد عـدّة مؤمتـرات‪ ،‬لكـن املؤمتـرات ال ميكنهـا أن تغنـي عـن‬ ‫كما تـ ّ‬
‫تحـل محلّهـا‪.‬‬‫ّ‬ ‫املؤسسـات‪ ،‬أو أن‬
‫ّ‬
‫وعلينـا (تقـول الجامعيـة التونسـية) ‪-‬أ َّوالً‪ -‬أن نالحـظ عـدم وجـود‬
‫ين من أجـل ترجمة التّحليل ال ّنفسي‪ ،‬ونرشه يف العامل‬‫مرشو َعين رضوريَّ ْ‬
‫العـريب‪:‬‬
‫التجمـة‬
‫‪ -‬مشروع نشر األعمال الكاملـة لفرويـد‪ :‬فجميـع محـاوالت ّ‬
‫كانـت فرديّـة أو بين فر َديْـن‪ ،‬إذ حمل جـورج طرابييش ‪-‬وحده‪ ،‬عىل سـبيل‬
‫نصـاً من نصوص فرويـد‪ ،‬وقد اقترصت‬ ‫املثـال‪ -‬عـبء ترجمـة ثالثة وثالثني ّ‬
‫بدايـات املأسسـة على فريـق‪ ،‬كان يقـوده مصطفـى زيـور (أساسـيّات‬
‫التّحليـل ال ّنفسي)‪ ،‬وهـو مـا أدّى إىل ترجمـة األعمال التّاليـة‪:‬‬
‫«حيـايت والتّحليـل ال ّنفسي»‪ ،‬عبـد املنعـم املليجـي ومصطفـى زيـور‪،‬‬
‫‪« - 1957‬تفسير األحلام»‪ ،‬مصطفـى صفـوان‪« - 1958 ،‬املوجز يف التّحليل‬
‫السلام القفّـاش‪«- 1962 ،‬ثلاث‬‫ي وعبـد ّ‬‫ال ّنفسي»‪ ،‬سـامي محمـود عل ّ‬
‫ي‪« - 1963 ،‬خمس حاالت‬ ‫مقـاالت يف نظريّـة الجنـس»‪ ،‬سـامي محمود عل ّ‬

‫‪(1) Raja Ben Slama: L’arbre qui révèle la foret, Traductions arabes de la terminologie‬‬
‫‪freudienne, in: TansEuropéennes, revue internationale de Pensée critique, 2012.‬‬

‫‪64‬‬
‫فسي»‪ ،‬صلاح مخيمـر وعبـده ميخائيـل رزق‪- 1973 ،‬‬ ‫ّ‬ ‫مـن التّحليـل ال ّن‬
‫«خمـس محـارضات يف التّحليـل ال ّنفسي»‪ ،‬نيفين زيـور‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -‬مشروع توحيـد املعجـم االصطالحـي‪ :‬ففـي حين تعـود املحـاوالت‬
‫األوىل لتوحيـد املصطلحـات الفرنسـ ّية‪ ،‬للتّحليل ال ّنفيس‪ ،‬إىل سـنة ‪1926‬‬
‫(تاريـخ تأسـيس اللّجنـة اللّغويّـة لتوحيـد مصطلحـات التّحليـل ال ّنفسي‬
‫أي جهـد مـن هـذا القبيـل‪ ،‬يف العـامل‬ ‫الفرنسـ ّية)‪ ،‬فإنّنـا نالحـظ انعـدام ّ‬
‫جل ذلـك الباحـث‬ ‫يب؛ ذلـك أن املصطلـح النفسي العـريب ‪-‬كما سـ َّ‬ ‫العـر ّ‬
‫املغـريب يف علـم النفـس الدكتـور أحمـد املطيلي يشـكو مـن اختاللَ ْ‬
‫ين‬ ‫(((‬

‫رييْـن‪ :‬األ َّول اختلال ك ّمـي‪ ،‬ويتَّخـذ هـذا االختلال ثالثة مظاهر أساسـية‪:‬‬ ‫كب َ‬
‫خماً‬ ‫التضخُّـم‪ ،‬والقصـور‪ ،‬والتعـدُّد‪ ،‬فبعـض املصطلحـات تعـرف تض ُّ‬
‫أي مقابـل‪ ،‬يف العرب ّيـة‪ ،‬للعديـد‬ ‫وتعـدُّدا ً يف الرتجمات‪ ،‬يف حين ال نجـد ّ‬
‫ي‪:‬‬‫كيفـي‪ ،‬ويتـوزَّع إىل فر َع ْ‬
‫ّ‬ ‫مـن املصطلحـات النفسـية؛ واالختلال الثـاين‬
‫اختلال منهجي يتَّصـل بالطرق والقواعد املتَّخـذة يف وضع املصطلحات‪،‬‬
‫ي الفرنسية‪،‬‬ ‫واختالل مرجعي يتَّصل بانحصار الرتجامت العرب ّية يف اللغتَ ْ‬
‫واإلنجليزيـة‪ ،‬دون االنفتـاح عىل املرجعيات النفسـانية باللغات اإلنسـانية‬
‫األخـرى‪ ،‬ودون اسـتحضار املصطلحـات النفسـية العرب ّيـة املوروثـة‪ .‬ومن‬
‫أجـل تجـاوز هـذا الوضع‪ ،‬يقترح الباحث املغـريب معالجة مشـكل البحث‬
‫العلمـي ودعـم حركـة التدريـس والتأليـف والنشر يف مجـال علـم النفـس‬
‫داخـل الوطـن العـريب‪ .‬أما املحللة النفسـانية التونسـية رجاء بن سلامة‪،‬‬
‫فهـي تـرى أن ال ّنهـوض بعـبء التحدِّيـات ال ّراهنـة‪ ،‬بال ّنسـبة إىل ترجمـة‬
‫أعمال فرويـد يف العـامل العـريب‪ ،‬يتطلّـب‪:‬‬
‫فسي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مؤسسـ ّية لرتجمـة مؤلَّفـات التّحليـل ال ّن‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬رضورة وجـود قاعـدة‬
‫يب‪.‬‬
‫وهـو مـا نفتقـر إليـه‪ ،‬حتّـى اآلن‪ ،‬يف العـامل العـر ّ‬
‫جعـي السـائد‪ ،‬اليـوم‪ ،‬يف فرنسـا‬
‫ـجل التف ّ‬
‫الس ّ‬
‫التجمـة مـن ّ‬
‫‪ -‬إخـراج ّ‬

‫«العربية والرتجمة»‪ ،‬العددان‪ 5 :‬و‪ ،6‬خريف ‪/2010‬‬


‫ّ‬ ‫((( أحمد املطييل‪ :‬أزمة املصطلح النفيس العريب‪ ،‬مجلّة‬
‫شتاء ‪ ،2011‬ص‪.127- 79 :‬‬

‫‪65‬‬
‫النـص األصـل‪ ،‬فقـدان اآلبـاء املرتجمين‬ ‫ّ‬ ‫كما يف العـامل العـريب‪ :‬فقـدان‬
‫اإلبداعـي لل ّنظائـر‪ ،‬بـدل‬
‫ّ‬ ‫األوائـل‪ ،‬بإحاللهـا (أي الرتجمـة) يف إطـار البنـاء‬
‫املؤســـس أو املعلِّمين األوائـل‬
‫ِّ‬ ‫نـص املعلِّـم‬
‫سـجل فقـدان ّ‬‫ّ‬ ‫إحاللهـا يف‬
‫الذيـن ترجمـوا أعاملـه‪.‬‬
‫التجمـة والتّحليـل ال ّنفسي‪ .‬ويكفـي أن نتأ َّمـل هـذه‬‫‪ -‬إبـراز خصوص ّيـة ّ‬
‫األمنيـة التـي أعرب عنهـا فرويد بشـأن ترجمة كتابه «تفسير األحالم»‪« :‬يف‬
‫رس فرويـد لغاسـتون غاليمار‬ ‫‪ 24‬كانـون األ ّول‪ /‬ديسـمرب‪ ،‬مـن سـنة ‪ ،1921‬أ ّ‬
‫قائلاً‪ …« :‬على املرتجـم… أن يكـون يف أعامقـه محلّلاً نفسـيّاً‪ ،‬ويسـتبدل‬
‫جميـع األمثلـة بأمثلـ ٍة من لغتـه األ ّم»‪.‬‬

‫ترجمة الكان‪َ :‬م َـه َّـمــة ُمـستحيلة‬


‫أخيرا ً‪ ،‬ويف عالقـة مبسـألة ترجمـة املؤلَّفـات الكبرى‪ ،‬يف التحليـل‬
‫ٍ‬
‫وقـت غير قليـل‪ ،‬موضـوع‬ ‫النفسي‪ ،‬إىل اللّغـة العربيّـة‪ ،‬يشـغلني‪ ،‬منـذ‬
‫آخـر‪ :‬مـاذا عن ترجمة أعامل املعلِّـــم الثـاين‪ ،‬يف التحليـل النفيس‪ :‬جاك‬
‫الكان؟‬
‫ذلـك ألن ترجمـة الكان َم َه ّمـة عسيرة‪ ،‬وتطـرح صعوبـات كبيرة‪ ،‬ليس‬
‫بالنسـبة إىل العرب ّيـة‪ ،‬فقـط‪ ،‬بـل إىل باقـي اللغات‪ ،‬أيضـاً‪ .‬واألكرث من ذلك‬
‫لسـبب وجيـ ٍه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أن الفرنكفونيين ليسـوا حالـة اسـتثنائية‪ ،‬بهـذا الخصـوص؛‬
‫حـدَّده أكسـندر لوبـان‪ Alexandre Leupin-‬بقولتـه اآلتيـة‪ :‬أن تقـرأ جاك‬
‫الكان يعنـي أن ترتجمه‪.‬‬
‫ومـن خلال هـذه العبـارة‪« :‬أن تقـرأ الكان يعنـي أن ترتجمـه»‪ ،‬يتَّضـح‬
‫كما يقـول الدكتـور أكسـندر لوبـان(((‪ ،‬أن هـذا املحلَّـل النفسي حالـة‬
‫خاصـة؛ ألنـه يتقـدَّم ‪-‬أساسـاً‪ -‬بوصفـه رجـل الـكالم‪ ،‬فمحارضاتـه ولقاءاته‬
‫ّ‬

‫‪(1) Alexandre Leupin: Babel ou la cristallinité: Traduire Lacan, in: Squigle, février, 2007.‬‬

‫‪66‬‬
‫ومداخالتـه الشـفاهية أكرث من كتاباته؛ ويف فضاء الـكالم‪ ،‬ينخرط املحلِّل‬
‫النفسي‪ ،‬بكامل جسـده‪ ،‬يف دعـم خطابه‪ :‬التشـكُّالت املنطقية‪ ،‬الغمزات‬
‫السـاخرة‪ ،‬حـاالت الضحـك‪ ...‬وهـذه أشـياء تختفـي يف حالـة املكتـوب‪،‬‬
‫خاص‪ ،‬مـع أن كتاباته ‪-‬يف غالب‬
‫ّ‬ ‫لتترك املـكان لعمليّات أسـلوبية مـن نوع‬
‫األحيـان‪ -‬هـي إعـادة كتابـة ملحارضاته‪.‬‬
‫ويضاعـف أسـلوب الكان مـن األرضار‪ ،‬عندمـا يكـون الهـدف نقـل فكـره‬
‫إىل لغـة أخـرى‪ .‬فرتجمـة الكان إىل االنجليزيـة ‪-‬يوضّ ـح لوبان‪ -‬قد سـقطت‬
‫ح ْرفية األمانـة‪ ،‬لكنها‬
‫ح ْرفيـة‪ ،‬وتدّعـي النزعـة ال َ‬
‫خ ال َ‬
‫كلّهـا أو معظمهـا يف فـ ّ‬
‫يف‪ ،‬النهايـة‪ ،‬تخـون فكـر الرجـل‪ .‬ومـن األمثلـة املفاتيـح‪ ،‬التـي ميكـن‬
‫االستشـهاد بهـا ‪-‬حسـب لوبـان‪ -‬نذكـر مـا يـأيت‪:‬‬
‫‪ :»demande« -‬يعنـي هـذا املصطلـح‪ ،‬عنـد الكان‪ ،‬األمنيـة التـي‬
‫تتعـارض مـع مـا تفرضـه الحاجة مـن رضورة وإلـزام‪ .‬وتنتمي هـذه العبارة‪،‬‬
‫يف الفرنسـية‪ ،‬إىل معجـم املحبّـة وتقديـر املخاطـب‪ ،‬هـذا الـذي ليـس‬
‫ملزمـاً إطالقـاً‪ ،‬باالسـتجابة للطلـب‪ .‬ويف الرتجمات األوىل إىل اإلنجليزية‪،‬‬
‫تُرجـم هـذا املصلـح إىل «‪ ،»demand‬وهـي تعنـي اإللـزام والضرورة‬
‫واألمـر‪ ،‬أي عكـس معناهـا يف الفرنسـية‪ .‬وبانتقـال املعنى مـن األمنية إىل‬
‫م تدمير متاسـك املفاهيـم الالكانيـة‪ ،‬والرتجمـة املناسـبة‪ ،‬يف‬ ‫األمـر يتـ ّ‬
‫نظـر لوبـان‪ ،‬هـي‪.»request« :‬‬
‫‪ :»Il n’ya pas de rapport sexuel« -‬متثِّـل هـذه القولـة نـواة مه ّمـة‬
‫يف النظريـة الالكانيـة‪ ،‬وتكشـف نوعيـة الكـوارث التـي ميكـن أن تحصـل‬
‫جـم ‪-‬حرف ّيـاً‪ -‬إىل اللّغـة اإلنجليزيـة على هـذه الصـورة‪There« :‬‬ ‫عندمـا تُرت َ‬
‫كل واحـد م ّنـا‪ ،‬مـن هـذه‬‫‪ ،»are no sexual relationship‬ومـا يفهمـه ّ‬
‫الرتجمـة الحرفيـة‪ ،‬ال ميكـن إال أن يرفضـه انطالقـاً مـن تجربته الشـخصية‪.‬‬
‫والحـال أن مـا يريـد أن يوضِّ حـه جـاك الكان‪ ،‬مـن خالل هذه القولـة‪ ،‬هو أن‬
‫ــــب بطريقـ ٍة منطقي ٍة‪ ،‬وأن ترجمتها‬
‫العالقـة بني الجنسين ال ميكن أن تُــكتَ َ‬
‫إىل اإلنجليزيـة‪( ،‬يقترح لوبـان) ينبغـي لها أن تكون عىل هذا الشـكل‪ ،‬مثالً‪:‬‬
‫‪»There is no logical relationship between the genders« -‬‬

‫‪67‬‬
‫أ ّمـا يف اللّغـة العربيّـة‪ ،‬وباسـتثناء بعـض الرتجمات القليلـة جـ ّدا ً يف‬
‫حـدود علمـي(((‪ ،‬فلا ميكـن للقـارئ العـريب أن يصـادف ترجمات كثيرة‬
‫ظ العـرب‪ ،‬والفرنكفونيين‪،‬‬ ‫وربـا يبقـى مـن حـ ّ‬
‫َّ‬ ‫لكتابـات جـاك الكان‪.‬‬
‫باألخـص‪ ،‬أن هنـاك مـن نَــعرتف له‪ ،‬اليـوم‪ ،‬بأنـه أفضل القـ ّراء املرتجمني‬ ‫ّ‬
‫لفكـر الكان‪ ،‬ونقصـد مصطفى صفـوان الذي رافـق الكان‪ ،‬وتتلمذ عليه منذ‬
‫أواخـر األربعينيـات‪ ،‬ويؤلّـف‪ ،‬بالفرنسـية‪ ،‬مشـ ِّكالً بذلـك امتـدادا ً متجـدِّدا ً‬
‫للفكـر اللاكاين‪ ،‬ومـن حسـن الحـظّ‪ ،‬كذلـك‪ ،‬أن بعـض مؤلَّفاتـه تَعـرف‬
‫طريقَــهـــا إىل اللّغـة العربيّـة‪.‬‬

‫((( نذكر هنا ترجمة مصطفى املسناوي‪ :‬اللّغة‪ ،‬الخيايل والرمزي‪ ،‬منشورات االختالف‪.2006 ،‬‬

‫‪68‬‬
‫غـيـر قــابــلٍ للـــفــهــم!‬
‫ُ‬ ‫نـــص‬
‫جــاك الكــان‪ٌّ :‬‬

‫الشـك يف أن العديـد مـن القـ ّراء يجـدون صعوبـ ًة يف فهـم بعـض‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫النصـوص النظريـة‪ ،‬فال يدركون ما قد تعنيـه بعض العبارات واملفهومات‪،‬‬
‫وملـاذا تكـون بعـض الرتاكيب ملتويـة معقَّدة‪ ،‬تجعل الوصـول إىل املعنى‬
‫املقصـود أمـرا ً متعـذِّرا ً‪ ،‬إن مل يكن مسـتحيالً‪ ،‬وال يصلـون ‪-‬يف النهاية‪ -‬إىل‬
‫النص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ِّــف‬
‫ما قـد يرمي إليـه م َؤل ُ‬
‫نظـري‬
‫ٍّ‬ ‫نـص‬‫عـادي أمـام ٍّ‬
‫ّ‬ ‫وقـد يبـدو األمـر طبيعيّـاً عندمـا يتعلّـق بقـارئ‬
‫ن‬ ‫بعيـد عـن مجـال اهتاممـه أو مجـال اختصاصـه؛ لك َّ‬ ‫ٍ‬ ‫غـارقٍ يف التنظير أو‬
‫ص خبيرٍ يجد صعوب ًة‬ ‫متخص ٍ‬
‫ِّ‬ ‫األمـ َر يعـود أكثرَ أه ّميّ ًة عندمـا يتعلّق بقـارئ‬
‫ّ‬
‫والشـك يف أ َّن‬ ‫نصـوص نظريـ ٍة تدخـل ضمـن مجـال اختصاصـه؛‬ ‫ٍ‬ ‫يف فهـم‬
‫املتخصصين الخرباء يكتمـون هذا األمـر‪ ،‬وال يجرؤون‬ ‫ِّ‬ ‫العديـ َد مـن القـ ّراء‬
‫على الترصيـح بـه؛ إمـا خوفـاً مـن اتِّهامهـم يف كفاءتهـم وخربتهـم‪ ،‬وإ ّمـا‬
‫خوفــاً مـن توجيـه النقـد إىل منظِّــرين تح َّولـوا إىل أصنـام‪ ،‬بحيـث يبـدو أن‬

‫‪69‬‬
‫ال أحـد يقبـل بوضـع نصوصهـم وتنظرياتهـم موضـع املالحظـة والتحليـل‬
‫واملسـاءلة‪.‬‬
‫شـك‪ -‬يحتـاج إىل جـرأة‪ ،‬إىل تأ ُّمـل‪ ،‬إىل تحليـل‪ ،‬إىل‬ ‫ّ‬ ‫واألمـر ‪-‬بلا‬
‫مسـاءلة‪ :‬وهـذا هـو مـا نجـده يف مقالـة‪ ،‬نرشهـا املحلِّـل النفسي والناقـد‬
‫األديب الفرنسي املعـارص بيير بيـار‪ ،‬سـنة ‪ ،2008‬تحـت عنـوان‪ :‬كيـف‬
‫ٍ‬
‫نقـط‬ ‫ٍ‬
‫شـديد‪ ،‬ولكـن يف‬ ‫ير قابـلٍ للفهـم؟(((؛ وباختـزا ٍ‬
‫ل‬ ‫النـص غ َ‬
‫َّ‬ ‫تجعـل‬
‫ُ‬
‫م مضامني هـذه املقالة يف ما يـأيت من الـكالم‪ ،‬وغايتنا‬ ‫محـدَّدة‪ ،‬نقـدِّم أهـ ّ‬
‫أن نالحـظ كيـف يحلـل الناقـد النفسي تحليلاً نفسـ ّياً ذلـك السـؤال الـذي‬
‫يطرحـه قـ َّراء جـاك الكان‪ :‬ملـاذا نجـد صعوبـة يف قـراءة نصـوص املعلّـم‬
‫الثـاين‪ ،‬وفهمهـا؟‬
‫ــح بيير بيـار أن هنـاك العديـد مـن النصـوص النظريـة امل ُـكَــ َّرسة‬ ‫يوضِّ ُ‬
‫املفـروض فيـه أنه‬‫َ‬ ‫ٍ‬
‫صعوبـات يف فهمهـا واسـتيعابها‪ ،‬مـع أ َّن‬ ‫للأدب‪ ،‬يجـد‬
‫نـص‬‫ـص يف املجـال؛ ويقـدِّم أمنوذجــاً عـن ذلـك متمثِّلاً يف ٍّ‬ ‫متخص ٌ‬
‫ّ‬ ‫ير‬
‫خب ٌ‬
‫نص يعـود إىل بداية‬ ‫للمحلـل النفسي الفرنسي الشـهري جـاك الكان‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫س‬ ‫النـص مك َّر ٌ‬
‫َّ‬ ‫ويحمـل عنوانــاً مثيرا ً يوحـي‪ ،‬يف غرابـ ٍة‪ ،‬بـأ َّن‬
‫ُ‬ ‫السـبعينيات‪،‬‬
‫ات‪،‬‬ ‫النـص عـدّة مـ َّر ٍ‬
‫َّ‬ ‫للأدب‪ :(((»Litturaterre«-‬لقـد قـرأ بيير بيـار هـذا‬
‫مما‬
‫و‪-‬عـاد إليـه العديـد مـن املـ ّرات‪ ،‬وعلى طـول سـنوات‪ ،‬وعلى الرغـم ّ‬
‫وخبرات يف القـراءة والنقـد‪ -‬ال يفهـم‪ ،‬إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كفايـات‬ ‫ميتلكـه‪ ،‬اليـوم‪ ،‬مـن‬
‫النص‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫م مـا الـذي يريـد جـاك الكان أن يقوله يف هـذا‬ ‫حـدود اليـوم‪ ،‬ال يفهـ ُ‬
‫‪ -‬مـن بين الفرضيـات املمكنـة‪ ،‬هنـاك واحـدة ‪-‬يوضِّ ـح بيـار‪ -‬مل تلفـت‬
‫الغمـوض ليـس حدثــاً عابـرا ً‪ ،‬وليـس نتيجـة مـن نتائـج‬
‫َ‬ ‫االنتبـاه‪ :‬إن هـذا‬
‫النزعـة العلميـة التـي أضحـت تحكـم النصـوص النظريـة‪ ،‬بـل إنـه‪ ،‬يف‬

‫‪(1) Pierre Bayard, Comment rendre un texte incompréhensible ?, Dossier Banlieues de la‬‬
‫‪littérature, l’Agenda de la pensée contemporaine, 10, printemps, 2008.‬‬
‫‪(2) Jacques Lacan, Litturaterre,1971, dans: Autres écrits, Seuil, Paris, 2001, Voir aussi:‬‬
‫‪Jacques Lacan, «Leçon sur Lituraterre», dans Le Séminaire, Livre XVIII, D’un discours‬‬
‫‪qui ne serait pas du semblant, [1971], Seuil Paris, 2006.‬‬

‫‪70‬‬
‫غمـوض مقصـودٌ‪ ،‬يريـده امل ُـ َنـظِّــ ُر‪ ،‬ويطلبـه‪ ،‬ومـن أجـل ذلـك‬
‫ٌ‬ ‫الواقـع‪،‬‬
‫يسـتخدم مجموعـة مـن الوسـائل‪:‬‬
‫نصـاً من نصوصنا‬ ‫نجعل ّ‬
‫َ‬ ‫أ َّو ُل وسـيلة ميكـن أن نسـتخدمها‪ ،‬مـن أجل أن‬
‫ير قابـلٍ للفهـم‪ ،‬أ ْن نلجـأ إىل اسـتعامل أكبر عـد ٍد مـن الكلمات التـي‬ ‫غ َ‬
‫ـب‪ ،‬يف عنايـة فائقـ ٍة‪ ،‬تعريفَــها وتحديدَهـا؛‬ ‫يجهلهـا القـارئ‪ ،‬وأن نتج َّن َ‬
‫لنصه‬ ‫ل على ذلـك تلك العبـارة التـي جعلها جـاك الكان عنوانــاً ِّ‬ ‫ير مثـا ٍ‬
‫وخ ُ‬
‫عمـل الكان عىل توضيحهـا يف بداية‬ ‫َ‬ ‫النظـري‪ ،»Lituraterre« :‬هـذه التـي‬
‫و‪-‬ربـا‪ -‬بطريق ٍة تزيد األمر غموضــاً‪ .‬وهناك‬
‫َّ‬ ‫أقـل وضوحاً‪،‬‬‫النـص‪ ،‬بطريقـة ّ‬
‫ّ‬
‫النـص‪ ،‬مـن دون تحديـد املقصـود‬ ‫ّ‬ ‫عبـاراتٌ أخـرى يسـتعملها على طـول‬
‫تقـل أه ِّم ّي ًة‬
‫النص‪ ،‬وال ّ‬
‫ّ‬ ‫بهـا‪ ،‬مـع أنها قـد تكون مـن املفهومات األسـاس يف‬
‫عـن كلمـة‪.»lettre« :‬‬
‫ى الوسـيلة الثانيـة يف اللجـوء إىل الرتاكيـب املعقَّـدة التـي‬ ‫وتتجل ّ‬
‫النص‪ ،‬وتيسير الوصـول إىل معنـاه ومراده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التسـاعد على تبسـيط قـراءة‬
‫رصفـه‪ ،‬وتضيـع طريقـه إىل املعنـى‪ ،‬وتو ِّعـر‬
‫فهـي تعثر فكـر القـارئ يف مت ّ‬
‫‪-‬ربـا‪ -‬قسـمت فكـره‪ ،‬وشـ َّعبت ظ ّنـه‪ ،‬وأدخلتـه إىل‬ ‫َّ‬ ‫مذهبـه نحـوه‪ ،‬بـل‬
‫متاهـات املعنـى‪ ،‬بـل إىل دائـرة الالمعنـى‪.‬‬
‫َّـب على غمـوض الكلمات‪ ،‬بالرجـوع‬ ‫وإذا كان مـن املمكـن أن نتغل َ‬
‫نحـل مشـكلة الرتاكيـب املعقَّـدة بحـذف بعـض‬ ‫َّ‬ ‫إىل املعاجـم‪ ،‬وأن‬
‫أفضـل وسـيل ٍة ميكـن أن تثير الالفهـم‪ ،‬وأن تجعـل مـن‬ ‫َ‬ ‫الزوائـد‪ ،‬فـإن‬
‫تحديـد مصـدر الغمـوض أمـرا ً صعبــاً‪ ،‬هي اللعـب باملرجعيـة؛ فام من‬
‫نصـوص أخـرى‪ ،‬وإذا مل ت ُـذكَــر هـذه النصوص‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫ويحيـل على‬
‫ُ‬ ‫إل‬
‫نـص ّ‬ ‫ٍّ‬
‫النص البـ ّد أن يتأث َّ َر بذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وضـوح‬
‫َ‬ ‫إذا ُذكِــ َرت بطريقـ ٍة غير واضحـة‪ ،‬فإ َّن‬
‫النص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أ ّمـا الوسـيلة الرابعـة التـي ميكـن أن تخلق تشويشـاً يف فهـم‬
‫فهـي أن نجعلـه مكثَّفــاً جـ ّدا ً‪ ،‬وذلـك بـأن نجعـل امللفوظـات النظريـة‬
‫مخت َزلـة‪ ،‬مـا أمكـن ذلك‪ ،‬وأن نسـتخدم‪ ،‬يف الفقرة الواحـدة‪ ،‬مفهومات‬
‫النـص‪ ،‬مبـا يجعـل‬
‫ّ‬ ‫متجـاورة‪ ،‬مل يسـبق أن جـرى توضيحهـا على طـول‬
‫الفقـرة الواحـدة‪ ،‬يف مجموعهـا مكثَّفـة غامضـة يصعـب النفـاذ إليهـا‪:‬‬

‫‪71‬‬
‫ي‬‫وهـذا حـال فقـرة مكثَّفـة مختزلة‪ ،‬اسـتعمل فيهـا جـاك الكان مفهو َم ْ‬
‫بطريقـ ٍة متجاورة‪ ،‬ومل يسـبق له أن وضَّ ـــح املقصود بهما‪l’objet a/« :‬‬
‫‪.»la chose‬‬
‫ير قابـلٍ للفهـم‪ ،‬هـي اللعـب‬ ‫نـص غ ِ‬
‫ٍّ‬ ‫والوسـيلة الخامسـة إلنتـاج‬
‫النـص وترابطاته‪ ،‬أي اللعـب ببنيته العا ّمـة‪ ،‬وبالطريقة التي‬
‫ّ‬ ‫بتمفصلات‬
‫النص‪ ،‬أو اسـتبيان‬
‫ّ‬ ‫يصعـب تجـزيء‬
‫ُ‬ ‫ط بهـا مختلـف أجزائـه‪ ،‬بحيـث‬ ‫ترتابـ ُ‬
‫االنتقـاالت التـي ت َــح ُدثُ من جز ٍء إىل آخر‪ ،‬أو الكشـف عـن الكيفية التي‬
‫َي‬ ‫ترتابـط بهـا األجـزاء منطق ّيـاً‪ :‬هكـذا‪ ،‬نجـد جـاك الكان يحكي‪ ،‬يف ثلث ْ‬
‫نصـه‪ ،‬عـن سـفره األخير إىل اليابـان‪ ،‬مـن دون أن تكـون رضورة‬ ‫مـن ّ‬
‫االنتقـال مـن جـزء إىل جـزء آخـر واضحـة‪ ،‬أو رضورة العبـور مـن فقـر ٍة‬
‫إىل أخـرى مفهومـة‪.‬‬
‫ري‬
‫النص غ ُ‬‫ّ‬ ‫الغرض مـن‬
‫َ‬ ‫الواضح غائبــاً‪ ،‬يعنـي أ َّن‬
‫ُ‬ ‫م‬
‫وأن يكـون التقسـي ُ‬
‫النـص هو الذي يسـمح‬ ‫ّ‬ ‫ح‪ ،‬أيضــاً‪ ،‬مـع أن وضـوح هـذا الغـرض مـن‬ ‫واضـ ٍ‬
‫وربا تكون الوسـيلة األكثر فاعليّ ًة‬‫َّ‬ ‫النـص بطريقة سـهلة؛‬
‫ّ‬ ‫بتتبُّـع جريـان‬
‫كل الوسـائل السـابقة الذكـر‪ ،‬هـي أن تترك الهـدف العـا ّم مـن‬ ‫مـن بين ّ‬
‫النـص أمـرا ً غامضاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫السـت (مفهومـات غير محـدَّدة‪ ،‬تركيـب معقَّـد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وهـذه الوسـائل‬
‫مرجع ّيـات غامضـة‪ ،‬مبالغـة يف التكثيـف واالختـزال‪ ،‬عيـوب يف الربط‬
‫إل عوامل‬ ‫والتمفصـل‪ ،‬غـرض غير مؤكَّـد‪ ،‬وهـدف غير واضـح) ليسـت ّ‬
‫مـن بين أخـرى كثيرة‪ ،‬وليسـت‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬بالوسـائل الوحيدة‪ .‬ومـع ذلك‪،‬‬
‫نـص مـا إىل جهـا ٍز كامـلٍ‬
‫ٍّ‬ ‫غمـوض‬
‫ُ‬ ‫هـي وسـائل تكشـف كيـف يسـتن ُد‬
‫مـن العنـارص واملعطيـات العديـدة التـي تسـتدعي مجموعـة مـن‬
‫املالحظـات‪.‬‬
‫ميكـن أن نالحـظ‪ ،‬يف البدايـة‪ ،‬أن هـذا الغمـوض ليـس أمـرا ً ال ميكن‬
‫جـة أنـه مـن املمكـن أن ينقلـب هـذا الغمـوض إىل ضـدّه‪،‬‬ ‫تج ُّنبـه‪ ،‬والح ّ‬
‫فقـد كان بإمـكان الكان أن يُــ َق ِّد َم بعـض التوضيحـات والرشوحات‪ ،‬لكن‬
‫الواقـع أن الغمـوض مل يكـن‪ ،‬هنـا‪ ،‬أمـرا ً طارئــاً أو حدثـاً عابـرا ً‪ ،‬بـل هـو‬

‫‪72‬‬
‫النـص‬
‫ُّ‬ ‫وعـي أو عـن غير وعـي‪ ،‬هدفُــ ُه أن يكـو َن‬
‫ٍ‬ ‫ع مقصـودٌ‪ ،‬عـن‬
‫مشرو ٌ‬
‫ير قابـلٍ للفهم‪.‬‬
‫غ َ‬
‫نص جاك الكان يشـتغل بواسـطة الحـذف واالقتطاع‬ ‫مـن الواضح أن َّ‬
‫نـص معق ٍَّد بواسـطة حذف بعـض العنارص‬ ‫والنقصـان‪ ،‬وهـو يتحـ َّول إىل ٍّ‬
‫التـي تسـاعد على القـراءة‪ ،‬وهـي عنـارص تتعلَّـق بداللـة الكلمات‬
‫والجمـل أو برتابـط األفـكار أو بوضـوح الغـرض والهـدف‪ .‬وسـواء أ كانت‬
‫هـذه العنـارص محذوفـة‪ ،‬بعـد أن كانت موجودة‪ ،‬أم كانـت موضوعة يف‬
‫ٍ‬
‫حلقـات‬ ‫النـص بطريقـة ال تسـمح بالوصـول إليهـا‪ ،‬فإنهـا عنـارص متثـل‬ ‫ّ‬
‫نـص نظـري‬
‫م كيـف يشـتغل ٌّ‬ ‫غائبـةً‪ ،‬البـ ّد أن ننتبـه إليهـا إذا أردنـا أن نفهـ َ‬
‫غامض‪.‬‬
‫ووراء هـذا العمـل‪ ،‬الـذي يبـدو مغلقــاً‪ ،‬ووراء هـذا الظهـور مبظهـر‬
‫النـص غير القابـل للفهـم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الجـدار غير القابـل لالختراق‪ ،‬نكتشـف أن‬
‫إل من‬‫نـص متقطـع ال يتألَّـف ّ‬
‫مثقـوب‪ ،‬كأمنـا هـو ّ‬
‫ٌ‬ ‫َــص‬
‫هـو ‪-‬يف الواقـع‪ -‬ن ٌّ‬
‫صعـب‬
‫َ‬ ‫مقاطـع وشـذرات‪ ،‬وكأمنـا هنـاك جـزء آخـر غير ظاهـ ٍر يبقـى‬
‫بالنـص الواضـح املفهوم؛ وكل مـا يتبقى‬
‫ّ‬ ‫املنـال‪ ،‬مـع أنـه هو ما يسـمح‬
‫إل عىل سـبيل االفرتاض‪ .‬وما‬ ‫مـن هـذا الجـزء هو شَ ـبَـحــه الذي ال يبقـى ّ‬
‫كيف‬‫م َ‬‫قـد نحتاجـه هنـا ‪-‬إذا ً‪ -‬هـو نظريـة للثقـوب‪ ،‬تسـاعدنا عىل أن نفهـ َ‬
‫صعـب املنـال‪ ،‬إىل هـذه الدرجـة‪.‬‬
‫َ‬ ‫لنـص مـا أن يبقـى‬
‫ٍّ‬ ‫ميكـن‬
‫وينبغـي لهـذه النظريـة أن تسـعى إىل متييز مختلف أمنـاط الحلقات‬
‫ل مختلفـة مـن‬ ‫التـي تع َّرضـت للحـذف‪ ،‬وهـي حلقـاتٌ تتعلَّـق بأشـكا ٍ‬
‫م الكلامت املسـتعملة‪ ،‬أو املرجعيات‪ ،‬أو‬ ‫الرشح أو التفسير (الذي يه ُّ‬
‫التكثيـف واالختـزال‪ ،‬أو التمفصلات والرتابطـات‪ ،‬أو املشروع العا ّم‪..،‬‬
‫إلـخ)‪ ،‬و‪-‬بعبـار ٍة أخـرى‪ -‬إن ال ُبــعد امليتـا‪ -‬لغـوي هـو املعنـي‪ ،‬هنـا‪ ،‬يف‬
‫العمـق‪ ،‬أي الطريقـة التـي نشرح بهـا‪ ،‬لآلخريـن‪ ،‬طريقـ َة اسـتخدامنا‬
‫للكلمات بالشـكل الذي يسـمح لهم بالنفـاذ إىل طريقتنا الشـخصية يف‬
‫اسـتعامل اللّغة‪.‬‬
‫جل أن ظاهرة التكثيف الشـديد والشـامل يف النسـيج‬
‫وميكـن أن نسـ ِّ‬

‫‪73‬‬
‫النصي‪ ،‬قـد تجد تفسيرها األفضل إذا وضعناها يف عالقـ ٍة مبكانة اآلخر‬ ‫ّ‬
‫الناقصـة واملحذوفـة‬
‫ّ‬ ‫النـص النظـري‪ ،‬فاإلكثـار مـن الحلقـات‬ ‫ّ‬ ‫داخـل‬
‫النـص‪ ،‬والعمـل على إبعـاده‬‫ّ‬ ‫يـؤدّي إىل منـع اآلخـر مـن الدخـول إىل‬
‫واسـتبعاده‪ ،‬كأمنـا املؤلِّـف يريـد‪ ،‬يف النهايـة‪ ،‬أن يتحدَّث إىل نفسـه‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬
‫أحـد غيره‪.‬‬ ‫إىل‬
‫ومـا قـد ينتـج عـن هـذا اإلبعـاد أو االسـتبعاد‪ ،‬هـو إبعـا ُد الـذات‬
‫ير مرئية‪،‬‬
‫تتحصـن وراء الجـدران‪ ،‬وتصبح غ َ‬ ‫َّ‬ ‫النـص‬
‫ّ‬ ‫واسـتبعادها‪ ،‬فـذات‬
‫أي يش ٍء عـن ذاتـه‪،‬‬ ‫ويصعـب الوصـول إليهـا‪ :‬ال يقـول جـاك الكان َّ‬ ‫ُ‬
‫نصـه‬ ‫ٍ‬
‫باسـتثناء حكايـات طريفـة عـن سـفره إىل اليابـان‪ ،‬ولـن نجـد‪ ،‬يف ّ‬
‫ـصـــه يحرمنـا‪ ،‬نحـن ‪-‬الق ّراء‪ -‬مـن أفكاره‬ ‫أي تعريـ ٍة للـذات‪ ،‬ف َن ُّ‬
‫النظـري‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫وآرائـه ووجهـات نظـره الشـخصية‪.‬‬
‫م‬
‫هـل بإمكاننـا أن نسـتعني بالتحليـل النفسي‪ ،‬يف محاولتنـا فهـ َ‬
‫غمـوض بعـض النصـوص النظريـة‪ ،‬وتعقيدهـا؟‬
‫بعـض التدابير الكاملـة تجـاه هـذا التعقيـد‬ ‫َ‬ ‫إذا أردنـا أن نتَّخـذ‬
‫يف النصـوص النظريـة‪ ،‬فالبـ ّد مـن أن نتحـ َّر َر مـن عـد ٍد مـن البدهيـات‬
‫واملسـلَّامت السـائدة؛ حتـى يكـون مـن املمكـن أن نواجـه املشـكلة‪:‬‬ ‫َ‬
‫إل‬ ‫أ َّول هـذه البدهيـات تلـك التـي تذهـب إىل أن امل ُـ َنـظِّــر ال يسـعى ّ‬
‫وراء التنظير؛ فـإذا كان البـ ّد لهـذا القصـد أن يكون حارضا ً ومشـاركاً يف‬
‫املشروع‪ ،‬فإنـه مـن الصعـب‪ ،‬مـن منظـور التحليـل النفسي‪ ،‬أن يكـون‬
‫ط‬ ‫هـو الحافـز املركـزي الوحيـد؛ ومـن املحتمـل أن نفكِّـر يف أن النشـا َ‬
‫النظـري‪ ،‬مثـل العديد من أنشـطة التفكير‪ ،‬هو جز ٌء مـن رضور ٍة داخلي ٍة‬
‫هـي التـي تسـمح للـذات بـأن تكـون متامسـكة‪ ،‬وأن تحتمـي مـن الحمـق‬
‫النـص‬
‫ّ‬ ‫والجنـون؛ فهـذه الضرورة الداخليـة‪ ،‬هـي التـي تجعـل مـن‬
‫يئ((( ‪Travail‬‬ ‫متـارس الذاتُ عملهـا البنـا َّ‬
‫َ‬ ‫ــل أل ْن‬
‫النظـري املـكان املفضَّ َ‬

‫ٍ‬
‫مختلفة‪ ،‬بقصد السيطرة عىل املثريات التي تصل إليه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫سياقات‬ ‫((( هو «العمل الذي ينجزه الجهاز النفيس‪ ،‬يف‬
‫يتعرض تراكمها ألن يصبح مولِّد ًا للمرض‪ ،»...‬نقال عن‪ :‬جان البالنش‪ ،‬وجان برتراند بونتاليس‪ :‬معجم‬
‫َّ‬ ‫والتي‬

‫‪74‬‬
‫ير‪.‬‬
‫رضوري وخط ٌ‬
‫ٌّ‬ ‫عمـل‬
‫ٌ‬ ‫‪ ،d’élaboration‬وهـو ‪-‬بالنسـبة إليهـا‪-‬‬
‫والبدهيـة الثانيـة هـي التـي تقـول إن امل ُـ َنــظِّ َر يسـعى‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬إىل‬
‫أن يكـون مفهومــاً؛ وقـد يكـون ذلـك صحيحــاً‪ ،‬على مسـتوى الوعـي‪،‬‬
‫و‪-‬ربـا‪ -‬عنـد جميعهـم‪ ،‬لكـن ذلك ليس‬ ‫َّ‬ ‫عنـد العديـد مـن املنظِّـــرين‪،‬‬
‫وخاصـ ًة على مسـتوى الالوعي‪ :‬قد يسـعى امل ُـ َنـظِّــر‪ ،‬عن غريِ‬ ‫ّ‬ ‫يقيـنــــاً‪،‬‬
‫وعـي‪ ،‬إىل أن ال يكـو َن مفهومــاً‪.‬‬
‫ٍ‬
‫م األ َّول‪ ،‬عند امل ُـنـظِّــر‪ ،‬هو أن يكون مفهومـاً‪ ،‬يعني أن‬
‫أن يكون ال َهــ ُّ‬
‫العالقـة بالقـارئ‪ ،‬وهـذه هـي البدهيـة الثالثـة‪ ،‬هـي عالقة شـفّافة خالية‬
‫لبـس؛ بيـد أنـه مـن الصعـب أن نتصـ َّور‪ ،‬يف التحليـل النفسي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫مـن ِّ‬
‫النـص النظـري‪ ،‬مثل‬
‫ّ‬ ‫عالقـات مـن هـذا النـوع‪ ،‬ذلـك ألن العالقـة بقـارئ‬‫ٍ‬
‫باقـي العالقـات‪ ،‬هـي عالقة تنتسـج بطريقـ ٍة معقَّد ٍة‪ ،‬وتتل َّبسـها مشـاعر‬
‫مركَّبـة ومعقَّدة‪.‬‬
‫(سـعي امل ُـنـظِّــر وراء التنظير‪،‬‬
‫ُ‬ ‫إ َّن مواجهـة هـذه البدهيـات الثلاث‬
‫ووراء أن يكون مفهوماً‪ ،‬ووراء تأسـيس عالق ٍة بقارئ) هي التي ستسـمح‬
‫بتكويـن فكـر ٍة دقيقـ ٍة عـن الرهانـات الالواعيـة املرتبطـة بفعـل التنظري‪،‬‬
‫وبالتناقـض الـذي يالزمـه؛ باعتبـار أن النظريـة‪ ،‬هنـا‪ ،‬تـأيت مـن أجـل أن‬
‫تعـرض ذاتهـا‪ ،‬لكنهـا ‪-‬يف الوقـت نفسـه‪ -‬تتحفَّـظ مـن عـرض ذاتها‪.‬‬ ‫َ‬
‫إذا اعتربنـا النظريـة نشاطــاً يسـاعد الـذات على البناء وإعـادة بناء‬
‫النـص النظـري الغامـض‬ ‫ّ‬ ‫ذاتهـا‪ ،‬فإننـا نجدهـا (أي النظريـة) يف هـذا‬
‫كل‬
‫واملعقَّـد‪ ،‬تعـود إىل عـرض ذاتهـا‪ ،‬فالنشـاط النظـري هـو تصويـر ّ‬
‫ٍ‬
‫نشـاط ثقـايف‪ ،‬عـددا ً‬ ‫كل‬
‫أو جـزيئ للعـامل‪ ،‬وهـو يسـتخدم‪ ،‬مثلـه مثـل ّ‬
‫معيَّنـاً مـن االسـتيهامات‪ ،‬وأبرزهـا هنـا هـو اسـتيهام القـدرة الكلّيّـة‪-‬‬
‫‪ ،Toute-puissance‬وهـو اسـتيهام ينتظـم العديـد مـن النصـوص‬
‫األخـص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النظريـة‪ ،‬والسياسـية منهـا‪ ،‬على‬

‫العربية للرتجمة‪ ،2011 ،‬ص‪.120‬‬


‫ّ‬ ‫مصطلحات التحليل النفيس‪ ،‬ترجمة‪ :‬مصطفى حجازي‪ ،‬منشورات املنظمة‬

‫‪75‬‬
‫وبهـذا املعنـى‪ ،‬النشـاط النظـري هـو أقـرب مـا يكـون إىل الهذيـان‪،‬‬
‫هـذا الذي تحدَّث عنه فرويد و َمــن جاء بعده؛ ومـن املنظور الفرويدي‪،‬‬
‫ليـس الهذيـان نتاجـاً اسـتدالليّاً أو عقليـاً‪ ،‬بل إنـه ‪-‬عىل العكـس‪ ،‬متاماً‪-‬‬
‫ذلـك ألنـه يعتبر محاولـة إلقامـة النظـام داخـل العـامل‪ ،‬وداخـل الذات‬
‫األخـص؛ وبهـذا‪ ،‬فإنه يُـعتبَــ ُر شـكالً من أشـكال التنظير‪ .‬وانطالقاً‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫تنظريي قريباً‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫كل نشـاط‬
‫كل ذلـك‪ ،‬ال ينبغـي لنا أن ننزعج من اعتبار ّ‬ ‫مـن ّ‬
‫مـن النشـاط الهذيـاين‪ ،‬ومـن اعتبار الحـدود بينهام صعبـة اإلدراك‪.‬‬
‫نفترض ‪-‬يقـول بيير بيـار‪ -‬أن العديـد مـن‬ ‫َ‬ ‫بصفـ ٍة عا ّمـ ٍة‪ ،‬ميكـن أن‬
‫يصـاب اآلخـ ُر بالحمق‬
‫َ‬ ‫النصـوص النظريـة تسـتهدف بطريقـ ٍة الواعيـ ٍة أن‬
‫والجنـون؛ ذلـك ألنـه ليـس هنـاك من طريقـ ٍة أفضـل لحامية الـذات من‬
‫تعمـل الـذاتُ على‬
‫َ‬ ‫الخـاص مـن هـذه الوسـيلة‪ :‬أن‬
‫ّ‬ ‫حمقهـا أو جنونهـا‬
‫ٍ‬
‫حصـص مـن معاناتهـا إىل اآلخـر‪.‬‬ ‫تصديـر‬

‫‪76‬‬
‫(الفصل الثالث)‬

‫نَــحــ َو تــطــبــيــق األدب عــلــى الـتـحـلــيــل الــنــفــســي‬

‫‪77‬‬
‫خورخي لويس بورخيس (‪▲ )1986 - 1899‬‬
‫ــعــيــد كـتــابــةَ فــرويـــد؟‬
‫ُ‬ ‫كــان بــورخــيــس ُي‬
‫َ‬ ‫هــلْ‬

‫الكاتـب والشـاع ُر‬


‫ُ‬ ‫يف السـن ِة األخير ِة مـن القـرنِ التاسـع عشر‪ُ ،‬ولِـــد‬
‫األرجنتينـي خورخـي لويـس بورخيـس‪ ،‬ويف األسـابيع األخير ِة مـن هـذه‬ ‫ُّ‬
‫كتاب يحمل‬
‫ٍ‬ ‫َّـــف «تفسير األحالم»(((‪ ،‬وهو أ َّو ُل‬ ‫السـن ِة ِ‬
‫نفســها سـيظهر مؤل ٌ‬
‫خ قليلـ ٍة)‪،‬‬ ‫ِ‬
‫رفـوف املكتبـات (ويف نسـ ٍ‬ ‫توقيـ َع فرويـد وحـده‪ ،‬ويظهـر على‬
‫خلال األسـابيع األخير ِة مـن القـرن التاسـع عشر‪ ،‬وهـو ِّ‬
‫يؤســـس لعلـم‬
‫ٍ‬
‫جديـد (التحليـل النفسي)‪ ،‬فـكان هـو الحـدث األبرز خلال القـرن الالحق‪،‬‬
‫ِّّ‬
‫األقـل‪ -‬يف نصفـه األ َّول‪.‬‬ ‫أو ‪-‬على‬

‫الحلم ‪،La science du rêve‬‬ ‫((( يف بداية األمر‪ ،‬نقلَ املرتجمون الفرنسيون «‪ »Die Traumdeutung‬إىل‪ِ :‬ع ُ‬
‫لم ُ‬
‫وكانت عبارة «علم» غري مقبولة من املنظور اإلبيستيمولوجي‪ ،‬و ً‬
‫ال تَنقُلُ ‪ ،‬بأمانة‪ ،‬ما تعنيه كلمة‪،Deutung :‬‬
‫والجمع «أحالم» سيكون أفضلَ من املفرد‪ّ .‬‬
‫أما‬ ‫ُ‬ ‫وستكون الكلمة الجديدة املالمئة هي‪ :‬تفسري ‪،interprétation‬‬
‫املرصي مصطفى صفوان تحت عنوان‪ :‬تفسري األحالم‪ ،‬وذلك عن دار‬ ‫ُّ‬ ‫ين‬
‫العربية‪ ،‬فقد ترجمه النفسا ُّ‬
‫ّ‬ ‫يف اللّغة‬
‫املعارف يف مرص‪ ،‬سنة ‪.1959‬‬

‫‪79‬‬
‫النفيس عند فرويد؟‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫التحليل‬ ‫يرفض‬
‫ُ‬ ‫بورخيس‬
‫ُ‬ ‫هل كان‬
‫ٍ‬
‫جديـد‪ ،‬أو ‪-‬عىل‬ ‫علمي‬
‫ٍّ‬ ‫صاحـب مشروع‬ ‫َ‬ ‫إذا اسـتحرضنا فرويـدَ‪ ،‬بوصفـه‬
‫صاحـب فكـر ٍة جديد ٍة ألحقت بالكائن اإلنسـاين جرحـــاً ثالثـــاً أصابه‬ ‫َ‬ ‫األقـل‬
‫ّ‬
‫الخاص»)‪ ،‬بعد جرح كوبرنيك‬ ‫ّ‬ ‫يف حــ ِّبـــه لذاته («األنا ليسـت بسـ ِّيد ِة بيتها‬
‫(«أصل اإلنسـان‬‫ُ‬ ‫(«كوكـب األرض ليـس مبركـ ِز العالَــــم»)‪ ،‬وجـرح دارويـن‬
‫بورخيس‪،‬‬
‫َ‬ ‫رث حظّـــاً مـن الحيوانات األخرى»)(((‪ ،‬وإذا اسـتحرضنا‬ ‫مل يكـن أك َ‬
‫ير‬
‫ير الكب ُ‬‫صاحـب رؤيـ ٍة موسـوعي ٍة للمكتبـة الكونيـ ِة كان لهـا التأث ُ‬ ‫َ‬ ‫بوصفـه‬
‫رات النقديـ ِة والفلسـفي ِة املعـارص ِة (بالنشـو‪،‬‬ ‫م التصـ ُّو ِ‬‫واملدهـش على أهـ ِّ‬
‫ُ‬
‫السـؤال الـذي يفـرض‬ ‫َ‬ ‫فوكـو‪ ،‬جنيـت‪ ،‬كامبانيـون‪ ،‬بيـار‪ ،‬كيليطـو‪)..‬؛ فـإن‬
‫بورخيس‪ ،‬وفرويـد؟ ملاذا ال نـكاد نجد أثـرا ً ظاهرا ً‬ ‫َ‬ ‫نفسـه هنـا هـو‪ :‬ماذا عـن‬ ‫َ‬
‫بورخيس النظري ِة‪ ،‬ويف ترصيحاتـه اإلعالمية؟ هل كان‬ ‫َ‬ ‫لفرويـ َد يف نصـوص‬
‫النفسي؟‪ ،‬وإ ْن كان األم ُر صحيحــــاً‪ ،‬فلماذا؟ وإن مل يكن‬ ‫َّ‬ ‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫يرفـض‬
‫النفسي؟‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫أعمال فرويـ َد يف التحليـل‬ ‫بورخيـس‬
‫ُ‬ ‫ذلـك صحيحـاً‪ ،‬فهـل قـرأ‬
‫بورخيـس النظريـ ِة‬
‫َ‬ ‫النفسي يف نصـوص‬‫ِّ‬ ‫ولكـن‪ ،‬مـاذا عـن حضـور التحليـلِ‬
‫والتخييلية؟‬
‫باألخص)‪ ،‬نفرتض‬
‫ّ‬ ‫بالنظـر إىل نصوص بورخيس التخييليـة (القصصية‪،‬‬
‫أن هـذا الكاتـب األرجنتينـي‪ ،‬صاحب الرؤية الشـمولية للمكتبـة الكونية‪ ،‬مل‬
‫الفرويـدي‪ ،‬بـل كان يعيـد كتابتـه‪ ،‬باملعنـى‬
‫َّ‬ ‫النفسي‬
‫ّ‬ ‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫يكـن يجهـل‬
‫و‪-‬ربـا‪ -‬تقوميـه‬
‫َّ‬ ‫البورخيسي نفسـه؛ أي أنـه يعيـد قراءتـه ومسـاءلته‪،‬‬
‫عكـس مـا قـد تدَّعيـه بعـض الدراسـات مـن‬
‫ُ‬ ‫وتطويـره‪ .‬وهـذا االفتراض هـو‬
‫أن بورخيـس يجهـل فرويـد‪ ،‬ومل يقـرأ أعاملـه‪ ،‬أو أنـه ‪-‬يف أحسـن األحوال‪-‬‬
‫لسـبب من األسـباب؛ ولهـذا‪ ،‬قبل االحتجـاج لالفرتاض‬
‫ٍ‬ ‫يتجاهلـه ويرفضـه‪،‬‬
‫الـذي نتقـدَّم بـه يف هـذه املحاولـة‪ ،‬أقترح أن نتواصـل قليالً‪ ،‬ومـن منظور‬
‫النفسي‪ ،‬مع دراسـ ٍة من هـذه الدراسـات للناقدة وأسـتاذة األدب‬
‫ّ‬ ‫التحليـل‬

‫مقدمة كتاب «التحليل النفيس واألدب»‪ ،‬تأليف‪ :‬جان‬


‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ملزيد من التفصيل يف هذه النقطة‪ ،‬نحيل عىل‬ ‫(((‬
‫بيلامن نويل‪ ،‬ترجمة‪ :‬حسن املودن‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة‪.1997 ،‬‬

‫‪80‬‬
‫خاصـ ًة أنهـا تنطلق مـن ترصيحـات بورخيس‬
‫ّ‬ ‫اإلسـباين مرسـيديس بالنكـو‪،‬‬
‫اإلعالميـة‪ ،‬ومـن نصوصـه النظريـة‪ ،‬ومـن نصوصـه األوتوبيوغرافيـة‬
‫ومعطياتـه البيوغرافيـة‪.‬‬
‫تالحـظ مرسـيديس بالنكـو أنه من غري املمكن أن من ِّيـــ َز ما كان يَــعرفه‬
‫بورخيـس عـن فرويـد‪ ،‬فلا ترصيحاتُـــه وال أعاملُـــه تسـاعدنا على ذلـك؛‬ ‫ُ‬
‫النفسي‬
‫ّ‬ ‫التحليـلِ‬ ‫على‬ ‫ة‬‫َ‬ ‫القليلـ‬ ‫ِ‬
‫اإلحـاالت‬ ‫تلـك‬ ‫أن‬ ‫هـو‬ ‫ين‬
‫َ‬ ‫اليق‬ ‫ء‬
‫َ‬ ‫الشي‬ ‫ن‬
‫لكـ َّ‬
‫يف كتاباتـه‪ ،‬تـأيت مختزلـ ًة وسـطحي ًة ومتهكِّـــمة ‪ .‬وتعـود الناقـد ُة إىل‬
‫(((‬

‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫بورخيـس مـا بين ‪ 1926‬و‪ ،1937‬يَعتبر فيهـا‬ ‫ُ‬ ‫نصـوص(((‪ ،‬نرشهـا‬ ‫ٍ‬
‫النفسي نوعـــاً من الفانتازيا‪ ،fantaisie-‬ونوعــــاً مـن الصبيانية‪ ،‬من دون‬ ‫َّ‬
‫النفيس‪ ،‬رافضــــاً أن‬
‫ِّ‬ ‫التحليل‬ ‫مشـعوذي‬ ‫عن‬ ‫َّث‬‫د‬ ‫يتح‬ ‫بل‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫علميـ‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫مصداقيـ‬
‫اإلبداعـات الفانتاسـتيكي ِة‪ ،‬عند‬
‫ِ‬ ‫حق هؤالء املشـعوذين إخضـا ُع‬ ‫يكـو َن مـن ِّ‬
‫كاتـب مـا‪ ،‬لتأويالتهم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫النفيس‪ ،‬فام‬
‫َّ‬ ‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫بورخيس يرفض‬
‫َ‬ ‫ويبقـى السـؤال‪ :‬إذا افرتضنـا أن‬
‫السـبب يف ذلك؟‬
‫ُ‬
‫منهـج فرويـ َد يف تفسير األحلام؛ فالناقـد ُة‬ ‫ُ‬ ‫السـبب هـو‬
‫ُ‬ ‫قـد يكـون‬
‫يرفـض‬
‫ُ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬تكشـف كيـف‬
‫َ‬ ‫نصـوص أخـرى عنـد‬ ‫ٍ‬ ‫بالنكـو((( تعـود إىل‬
‫بر إيجـا َد مع ًنـى‬
‫النفسي‪ ،‬وكيـف يَعت ُ‬
‫ِّ‬ ‫الرمـزي يف التحليـل‬ ‫ِّ‬ ‫منهـج التأويـلِ‬
‫َ‬
‫كل األشـياء يف‬ ‫الرمزي لعبـ ًة فارغةً‪ ،‬ألن َّ‬
‫ِّ‬ ‫التأويـلِ‬ ‫بواسـطة‬ ‫األحلام‪،‬‬ ‫داخـل‬
‫َ‬
‫ج‬
‫نقده ملنه ِ‬‫وبورخيس‪ ،‬يف ِ‬
‫ُ‬ ‫الرمزي‪ ،‬يف نظـره؛‬
‫ِّ‬ ‫هـذا العالَـــم قابلـ ٌة للتأويلِ‬
‫فرويـدَ‪ ،‬يلتقـي مـع يونـج(((‪ ،‬هـذا الـذي نجـده حـارضا ً يف نصـوص الكاتـب‬

‫‪(1) Mercedes Blanco: «Borges et l’aversion pour la psychanalyse», Savoirs et clinique,‬‬


‫‪2005 / 1,N: 6, p 103.‬‬
‫خاصة يف‪:‬‬
‫ّ‬ ‫((( بهذا الخصوص‪ ،‬تعتمد الناقدة عىل بعض نصوص بورخيس التي تشري إىل التحليل النفيس‪،‬‬
‫‪* «Cuentos del Turquestán», in: Textos Recobrados (1919- 1929), Barcelona, Emecé,1997,‬‬
‫‪p. 261. * «Lord Dunsany», in: Textos cautivos,. Obras Completas, Published by Alianza‬‬
‫‪Editorial, Madrid, 1998.‬‬
‫‪(3) Mercedes Blanco: «Borges et l’aversion pour la psychanalyse», p 104.‬‬
‫«أهمية األحالم»‪« ،‬وظيفة‬
‫ِّ‬ ‫((( بالنسبة إىل يونج‪ ،‬متكن العودة إىل الفصول التي تحمل هذين العنوانني‪:‬‬
‫األحالم»‪ ،‬يف كتابه‪:‬‬

‫‪81‬‬
‫نفســـه‪ ،‬هنـا‪ ،‬هو‪ :‬هل مـن املمكن‬
‫ـــفرض َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والسـؤال الـذي يَ‬ ‫األرجنتينـي(((؛‬
‫يونـج‪ ،‬مـن دون أن يكـون عىل علـم بفرويدَ؟‬
‫َ‬ ‫بورخيـس‬
‫ُ‬ ‫أن يتب َّنـــى‬
‫السـبب هـو الروايـة السـيكولوجية؛ فتبعـــاً للناقـدة بالنكو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقـد يكـون‬
‫املغامـرات والروايـ ِة‬
‫ِ‬ ‫كتـب بورخيـس‪ ،‬سـنة ‪ ،1953‬مقارِنـاً بين روايـ ِة‬
‫السـيكولوجي ِة(((‪ ،‬موضِّ حـاً أن هـذه األخير َة تتقـدَّم على أنهـا واقعيـةٌ‪ ،‬يف‬
‫حين أنهـا اصطناعيـة‪ ،‬وأ ّمـا األوىل فهـي تتقـدَّم على أنهـا اصطناعيـةٌ‪،‬‬
‫يرفـض الجـز َء‬
‫ُ‬ ‫خ الواقـع‪ ،‬ولهـذا‪ ،‬هـو‬ ‫مـن األلـف إىل اليـاء‪ ،‬وال تدَّعـي نسـ َ‬
‫ِ‬
‫تقنيات تيا ِر‬ ‫السـيكولوجي يف الروايـ ِة الواقعيـ ِة للقرن العرشين‪ ،‬ويتجاهـل‬
‫َّ‬
‫تقنيات يف الرواي ِة الكالسـيكية (رسفانتس‬ ‫ٍ‬ ‫الوعـي‪ ،‬ويبحـثُ ‪-‬باملقابلِ ‪ -‬عـن‬
‫تقنيـات الواقعيـ ِة يف األهجيـة‪،La satire-‬‬ ‫ِ‬ ‫ومـا بعـد رسفانتـس)‪ ،‬وعـن‬
‫رفض‬‫َ‬ ‫وتقنيـات الواقعـ ِة الصغير ِة التي يجـري إدراكُـــها مبك ٍر كريـم‪ ..‬وكأن‬
‫ِ‬
‫القص َة والشـع َر‬‫ّ‬ ‫الروايـ ِة (الروايـة التـي مل يكتبها بورخيـس‪ ،‬وهو الذي كتب‬
‫بورخيـس يرفض‪،‬‬‫ُ‬ ‫السـيكولوجي(((‪ .‬فهـل كان‬
‫ِّ‬ ‫واملقالـةَ‪..‬؟) هـو قطيعـ ٌة مع‬
‫سـيكولوجي؟‬
‫ٌّ‬ ‫كل مـا هـو‬
‫فعلاً‪َّ ،‬‬
‫التحليل‬
‫َ‬ ‫بورخيس يرفـض‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫افتراض أن‬ ‫هنـاك معطيـان‪ ،‬قـد يدفعـان إىل‬
‫بورخيـس‬
‫َ‬ ‫م النفـس (السـيكولوجيا)‪ :‬األ َّو ُل أن‬‫يرفـض علـ َ‬
‫ُ‬ ‫النفسي‪ ،‬لكنـه ال‬
‫ّ‬
‫يئ وأسـتا ُذ‬
‫ِّـف اسـ ُمه ميكائيـل أينيـس (‪)1994 - 1906‬؛ وهـو روا ٌّ‬ ‫ينـ ِّوه مبؤل ٍ‬
‫لسـبب‬
‫ٍ‬ ‫معـروف برواياتـه البوليسـي ِة وبدراسـاتِه النقديـة‪ ،‬وذلـك‬‫ٌ‬ ‫األدب‪،‬‬

‫‪Jung: Essai d’exploration de l’inconscient, Laffont, Paris, 1964.‬‬


‫نص حول الكاتب األمرييك ناثانيال هوثورن (‪ ،)1864-1804‬يستحرض بورخيس‬ ‫((( عىل سبيل التمثيل‪ ،‬يف ٍّ‬
‫منشور ضمن الجزء الثاين من أعامله الكاملة املنشورة ‪-‬أصالً‪ -‬باإلسبانية‪ ،‬تحت عنوان‪ :‬األعامل‬
‫ٌ‬ ‫والنص‬
‫ّ‬ ‫يونج؛‬
‫الكاملة‪Obras completas-‬؛ والجزء الثاين من هذه األعامل منشور يف «دار غاليامر»‪ ،‬باللّغة الفرنسية‪ ،‬يف‬
‫طبعات عديدة‪.‬‬
‫بنص هو ‪-‬يف األصل‪ -‬تقديم من بورخيس لرواية صديقه الكاتب األرجنتيني أدولفو بيوي‬ ‫ّ‬ ‫((( يتعلّق األمر‬
‫كاساريس‪ ،‬املعروف برواياته يف األدب الفانتاستييك‪ ،‬والخيال العلمي‪ ،‬والرواية بعنوان‪ :‬ابتكار موريل‪،‬‬
‫والنص منشور ضمن أعامله الكاملة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪Borges, Jorge Luis. Œuvres complètes [Œuvres], ed. J.P. Bernès, 2 vol, «La Pléiade,‬‬
‫‪Gallimard, Paris, 1993 et 1999.‬‬
‫‪(3) Mercedes Blanco: «Borges et l’aversion pour la psychanalyse», p 111.‬‬

‫‪82‬‬
‫النفسي(((؛ وكأن‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫بتقنيـات التحليلِ‬ ‫أسـاس‪ :‬ألن سيكولوجيَّتَــه ال عالقـ َة لها‬ ‫ٍ‬
‫النفسي‪ ،‬ويفصـل بينهما‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫بورخيـس مييِّـز بين علـم النفـس والتحليـلِ‬ ‫َ‬
‫م النفس يف مدرسـ ٍة‬ ‫بورخيـس كان يـد ِّرس علـ َ‬
‫َ‬ ‫أب‬
‫واملعطـى الثـاين هـو أن َ‬
‫ترك مهن َة املحامـاة؛ فهل يعني هذا‬ ‫إنجليزيـ ٍة يف بونـوس آيريـس‪ ،‬بعد أن َ‬
‫بورخيس‬
‫َ‬ ‫يب مـن علم النفـس‪ ،‬انتصارا ً للأب؟ هل يعنـي أن‬ ‫املوقـف اإليجـا ُّ‬
‫ُ‬
‫الحقيقـي وبني وجـ ِه فرويـ َد الذي صار أبــــاً‬
‫ِّ‬ ‫يفصـل بين وجـه أبيـه‬‫َ‬ ‫يريـد أن‬
‫ـاب واملنظِّريـن والنقّـا ِد يف هـذا العصر؟‬ ‫ِ‬
‫للعديـد مـن الكتّ ِ‬
‫م‬
‫كل َمــن اهت َّ‬‫بورخيـس بأبيه‪ُّ :‬‬
‫َ‬ ‫تفـرض هـذه األسـئل ُة أن نعـو َد إىل عالقة‬ ‫ُ‬
‫م بالتأثيرِ الحاسـمِ الـذي كان ألبيـه‬ ‫األرجنتينـي‪ ،‬البـد أن يَــعل َ‬
‫ِّ‬ ‫الكاتـب‬
‫ِ‬ ‫بهـذا‬
‫نصوصــه األوتوبيوغرافيـ ِة «بشـكلٍ ‪ ،‬يبـدو معـه‬ ‫ِ‬ ‫واضـح يف‬‫ٌ‬ ‫عليـه‪ ،‬وهـذا‬
‫طبـق األصـل أو كأنـه نسـخ ٌة ثانيـ ٌة من‬
‫َ‬ ‫ل نظـر ٍة‪ -‬كأنـه نسـخ ٌة‬ ‫بورخيـس ‪-‬أل َّو ِ‬
‫ُ‬
‫بورخيـس وأبيـه تناولَهـا البيوغرافيون‬
‫َ‬ ‫بين‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫الوثيقـ‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫العالقـ‬ ‫وهـذه‬ ‫أبيـه»(((‪.‬‬
‫الدراسـات النفسـاني ِة التـي كانـت‬
‫ِ‬ ‫راح‪ ،‬كما كانـت نقطـ َة انطلاقٍ يف‬ ‫والش َّ‬
‫بورخيـس موضـو َع تحليلِهـا ‪.‬‬
‫(((‬
‫َ‬ ‫حالـ ُة‬
‫بالنسـبة إىل األب (والـد بورخيـس) فإنـه مـن أ ٍّم إنجليزيـة تنتمـي‪ ،‬مـن‬
‫جهـة أبيهـا‪ ،‬إىل سلالة مـن العسـكريني مـن الدرجـة العاليـ ِة يف تاريـخ‬
‫األرجنتين‪ ،‬وكان «فوضويًّـا‪ ،»anarchiste-‬ومثقَّفــــاً وقارئاً نهمــــاً مولعاً‬
‫األب لالبـن‪ ،‬فهـو املكتبـة‪.‬‬ ‫رمـزي أو َرثـه ُ‬
‫ٍّ‬ ‫بالقـراءة‪ ،‬وإذا كان هنـاك مـن ٍ‬
‫إرث‬
‫يعمل هذا‬
‫َ‬ ‫الالفـت هـو ذلـك االتِّفاقُ الـذي كان بين ِ‬
‫األب وابنـه‪ :‬أن‬ ‫َ‬ ‫لكـن‬
‫ينشـغل بالحصـول على‬
‫َ‬ ‫ير مـن أجـل أن يكـون كاتبــــاً‪ ،‬مـن دون أن‬
‫األخ ُ‬
‫األب‪ ،‬هـذا القـارئ‬
‫فـاألب سـيتكفَّل باالبـن مـن تلـك الناحيـة‪ .‬وكأن َ‬
‫ُ‬ ‫مهنـة‪،‬‬

‫((( مرسيديس بالنكو‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪104‬؛ وهنا تنقل الناقدة عبارة بورخيس املذكورة ضمن‬
‫أعامله الكاملة‪:‬‬
‫‪«Death at the President’s Lodge», de Michael Innes. Textos Cautivos. Obras Completas.‬‬
‫‪(2) Mercedes Blanco:ibid, p. 105.‬‬
‫‪(3) Didier Anzieu: «Le corps et le code dans les contes de Borges», in: Le corps De l’œuvre,‬‬
‫‪Gallimard, Paris, 1981, p. 282- 332.‬‬

‫‪83‬‬
‫يسـتكمل‬
‫َ‬ ‫بعـض الكتابات(((‪ ،‬يريـد من ابنه أن‬
‫ُ‬ ‫‪-‬ربـا‪-‬‬
‫الكبير الـذي كانـت له َّ‬
‫ِ‬
‫طموحـات‬ ‫الكاتـب الكبير التـي كانـت ‪-‬بلا ّ‬
‫شـك‪ -‬مـن‬ ‫ِ‬ ‫تلـك الصـورةَ‪ ،‬صـور َة‬
‫األب ينحـدر مـن سلال ِة شـعرا ِء وكتَّـاب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫خاصـ ًة أن‬
‫ّ‬ ‫األب وأحال ِمـــه‪،..‬‬
‫ِ‬
‫مـن أه ِّمهـم ‪Juan Crisostomo Lafinur (1797 - 1824( -‬؛ (‪Alvaro‬‬
‫‪Melian Lafinur (1889 - 1958‬؛ (‪Evaristo Corriego (1883 - 1912‬؛‬
‫ي‬
‫االنتسـاب العائل َّ‬
‫َ‬ ‫((((‪ .Charles de Soussens (1865 - 1912‬ويبـدو كأن‬
‫األب‪ ،‬كان هو الدرس األسـاس‬ ‫إىل هـذه السلال ِة األدبيّ ِة‪ ،‬التـي ينحدر منها ُ‬
‫ير على نقلِــه إىل ابنه‪.‬‬ ‫الـذي عمـل هـذا األخ ُ‬
‫رض أبـاه‪ ،‬يف‬ ‫بورخيـس يسـتح ُ‬‫َ‬ ‫ن‬‫ل كلِّهـا‪ ،‬مل يكـن االبـ َ‬ ‫ويف األحـوا ِ‬
‫نصوصـه وأوتوبيوغراف ّياتـه‪ ،‬إلّ بنبر ِة االحترام الكبير‪ ،‬فقـد كانـت بينهما‬ ‫ِ‬
‫ن يعـود إىل األب‪:‬‬‫الفضل يف مـا صار إليه االب ُ‬ ‫َ‬ ‫عالقـ ٌة وثيقـ ٌة جـ ّدا ً‪ ،‬ويبـدو أن‬
‫م النفـس‪ ،‬وهـو مهنـ ُة‬ ‫بورخيـس علـ َ‬
‫ُ‬ ‫م‬‫ألهـذا مل يكـن مـن املمكـنِ أن يهاجـ َ‬
‫النفسي إىل تلـك الصـور ِة التـي‬
‫ِّ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬للتحليـل‬
‫َ‬ ‫أبيـه؟ أتعـود كراهيـ ُة‬
‫بورخيـس بأبيـه على‬
‫َ‬ ‫يقدمهـا عـن العالقـ ِة بين االبـن واألب؟ أكانـت عالقـ ُة‬
‫سـوفوكل «امللـك أوديب» ‪،‬‬
‫(((‬
‫َ‬ ‫بـاألب يف مرسحي ِة‬
‫ِ‬ ‫النقيـض مـن عالقـة االبنِ‬
‫النفسي؟‬
‫ِّ‬ ‫التـي ينطلـق منهـا فرويـ ُد يف التحليـل‬
‫يقتـل أبـاه‪ ،‬بـل إنـه وجـ ٌه آخـ ُر مـن أبيـه‪ :‬إنـه‬
‫ْ‬ ‫بورخيـس مل‬
‫َ‬ ‫قـد يبـدو أن‬
‫ن أعـا َد إحيـا َء األب‪ ،‬هـو الـذي منـح فرصـ َة حيـا ٍة أخرى للأب؛ بهذا‬‫هـو َمـــ ْ‬
‫النفسي‪ ،‬عنـد‬
‫ِّ‬ ‫بورخيـس للتحليـل‬
‫َ‬ ‫نفترض أن كراهيـ َة‬
‫َ‬ ‫املعنـى‪ ،‬ميكـن أن‬
‫فرويـدَ‪ ،‬هـي طريقـ ٌة ينتصر بهـا ألبيـه‪ ،‬هـي طريقـ ٌة للتعبيرِ عـن وجـود‬
‫ٍ‬
‫واحتماالت أخـرى‪ ،‬عندمـا يتعلّق األمر بالعالقة بين االبن واألب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫إمكانـات‬

‫((( يقول بورخيس عن أبيه‪« :‬لقد ترك رواية تاريخية‪ ،‬كام كتب‪ ،‬وأتلف العديد من الكتب»‪ُ ،‬ينظَ ر‪:‬‬
‫‪J.L. Borges, V. Ocampo: Dialogue, ed. Bartillat, 2014.‬‬
‫األدبية لبورخيس‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫ّ‬ ‫((( ملزيد من التفاصيل حول الساللة العائلية‬
‫‪Sergio Miceli: «Jorge Luis Borges, Histoire sociale d’un «Ecrivain-né», Actes de la‬‬
‫‪recherche en sciences sociales, 2007 / 3 (N: 168), p: 82- 101.‬‬
‫((( سفوكليس‪ :‬امللك أوديب‪ ،‬ترجمة‪ :‬عامر أحمد حامد‪ ،‬دار العائدي للنرش والدراسات والرتجمة‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫ط‪.2005 ،2‬‬

‫‪84‬‬
‫النفسي يف املركزي ِة ليسـت بالواحد ِة‬ ‫ُّ‬ ‫التحليـل‬
‫ُ‬ ‫وأن العالقـ َة التـي يجعلهـا‬
‫نفترض أن كراهيـ َة التحليـلِ‬ ‫َ‬ ‫والوحيـدة؛ لكـن‪ ،‬أليـس مـن املمكـنِ أن‬
‫النفسي‬
‫ُّ‬ ‫النفسي هـي طريقـ ٌة للتعبيرِ عـن كراهيـ ِة األب‪ ،‬مـا دام املحل ُ‬
‫ِّـــل‬ ‫ِّ‬
‫األب مد ِّرســـاً لعلـم النفـس‪،‬‬ ‫ليـس إلّ صـور ًة لِــعالِـــم النفـس؛ فـإذا كان ُ‬
‫(بورخيس)‪ ،‬يكره‬
‫َ‬ ‫ن‪،‬‬
‫ن يكـره فرويـدَ‪ ،‬فـإن ذلك قد يعني أن االبـ َ‬ ‫وإذا كان االبـ ُ‬
‫ِ‬
‫بعبـارات‬ ‫رض أبـاه‬ ‫بورخيـس عندمـا يسـتح ُ‬ ‫َ‬ ‫ظ هـو أ َّن‬ ‫حـ َ‬‫خاصـ ًة أن املال َ‬
‫ّ‬ ‫أبـاه‪،‬‬
‫ي‪ ،‬بـل يسـتحرض‬ ‫األبـوي والعائل ّ‬
‫ِّ‬ ‫املنسـوب إىل‬
‫َ‬ ‫األب‬
‫رض َ‬ ‫التقديـر‪ ،‬ال يسـتح ُ‬
‫األب الـذي كان‬ ‫َ‬ ‫األدب والفكـر‪ ،‬ذلـك‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رجـاالت‬ ‫األب الـذي ينتمـي إىل‬ ‫َ‬ ‫ذلـك‬
‫بورخيس يعلن انتسابَـــه إىل‬ ‫َ‬ ‫ن العـارشة‪ ..‬كأن‬ ‫يقـرأ له أفالطو َن وهو يف سـ ّ‬
‫األديب الذي ينحدر‬ ‫ِ‬ ‫األب‬
‫االجتامعـي‪ ،‬ال إىل ذلـك ِ‬‫ِّ‬ ‫ي‬
‫البيولوجـي العائل ِّ‬
‫ِّ‬ ‫األب‬
‫ِ‬
‫مـن سلال ِة الشـعرا ِء والكتَّـاب»‪.‬‬

‫فرويد؟‬
‫َ‬ ‫ــعيد كتابةَ‬
‫بورخيس ُي ُ‬
‫ُ‬ ‫هل كان‬
‫نفترض‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ونصوصـــه النظريـة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ترصيحـات بورخيـس‬ ‫ِ‬
‫النقيـض مـن‬ ‫على‬
‫النفسي‪ ،‬وكان يتب َّنـى‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫نصوصـه التخييليـ ِة‪ ،‬كان ينتصر للتحليـل‬ ‫أنـه‪ ،‬يف‬
‫ات أخـرى؛ أدبيّ ٍة‬ ‫الفرويدي بشـكلٍ من األشـكال‪ ،‬ولكـن من مرجعيّ ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫السـؤال‬
‫‪-‬ربا‪ -‬مـن تلك التي يسـتند إليها‬ ‫وثقافيـ ٍة‪ ،‬فكريـ ٍة وفلسـفي ٍة‪ ،‬أوسـع وأكبر َّ‬
‫فرويـد‪ ،‬وأقترح أن نعـود إىل بعـض نصوصـه القصصيـة الشـهرية‪.‬‬
‫قصـ ٌة قصير ٌة بعنـوان‪« :‬بورخيـس وأنـا»(((؛ ففـي‬ ‫ِ‬
‫النصـوص ّ‬ ‫أول هـذه‬ ‫ُ‬
‫نفسـه‪ ،‬أن املبـدأَ الـذي‬ ‫ِ‬ ‫النـص القصيرِ‪ ،‬يبـدو واضحـاً‪ ،‬مـن العنـوانِ‬
‫ِّ‬ ‫هـذا‬
‫النفسي عنـد فرويـد‪« :‬األنـا ليسـت بسـيِّد ِة بي ِتـــها‬
‫ُّ‬ ‫التحليـل‬
‫ُ‬ ‫ـــس عليـه‬
‫تأس َ‬ ‫َّ‬
‫القصـة القصير ُة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـــس عليـه هـذه‬
‫تتأس ُ‬
‫َّ‬ ‫نفسـه الـذي‬ ‫ُ‬
‫الخـاص»‪ ،‬هـو املبـدأ ُ‬‫ِّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بورخيـس‪ :‬يف الـذات الواحـدة‪ ،‬هنـاك «أنـا» مـن جهـة أوىل‪ ،‬وهنـاك‬ ‫َ‬ ‫عنـد‬
‫يصعب‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫«بورخيـس» مـن جهة ثانيـة‪ ،‬واالثنان يشـكِّالن الذات‪ ،‬معاً‪ ،‬بشـكلٍ‬
‫ُ‬

‫العربية‬
‫ّ‬ ‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬بورخيس وأنا»‪ ،‬ضمن مؤلَّــف‪ :‬سداسيات بابل‪ ،‬مختارات نقلها إىل‬
‫حسن نارص‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،2013 ،‬ص‪.156- 155 :‬‬

‫‪85‬‬
‫النـص‪ ..« :‬حتى‬
‫ّ‬ ‫كاتب هذا‬
‫ُ‬ ‫معـه‪ ،‬يف النهايـ ِة‪ ،‬أن نحـ ِّد َد ‪-‬بالضبط‪َ -‬مــن هـو‬
‫َــتب هـذه السـطور»(((‪.‬‬
‫ن م َّنــــا ك َ‬ ‫ُ‬
‫أعـرف‪ ،‬اآلن‪َ ،‬مـــ ْ‬ ‫إن ال‬
‫ِّ‬
‫تتمش يف بوينس‬ ‫ّ‬ ‫تحـب أن‬
‫ُّ‬ ‫شـك‪ ،‬هنـاك متايزاتٌ بني االثنني‪ :‬فاألنا‬ ‫بلا ّ‬
‫ُ‬
‫وتترك‬ ‫تعيـش‬
‫ُ‬ ‫ـل شـيئاً أثـا َر انتبا َهـــها‪..‬؛ إنهـا‬
‫آيريـس‪ ،‬وقـد تتوقَّـف لتتأ َّم َ‬
‫بورخيـس تَــح ُدثُ لـه أمـو ٌر أخرى‪،‬‬
‫َ‬ ‫لعيشـها وحياتِـــها؛ يف حين أ َّن‬ ‫ِ‬ ‫نفسـها‬
‫َ‬
‫األدب‪ ،‬ويظهـ ُر يف‬‫َ‬ ‫الربيـد واملؤلَّفـات‪ ،‬وهـو ميـارس‬ ‫ِ‬ ‫بر‬
‫فأخبـا ُره تصـل ع َ‬
‫معـروف بطريق ِتــه‬
‫ٌ‬ ‫بعـض معاجـمِ األعلام‪ ،‬وهـو‬ ‫ِ‬ ‫قامئـة األكادمييين أو يف‬
‫السـمج ِة التـي تجعـل األشـيا َء تبـدو كأنها مجـ َّر َد متثيـل وتص ُّنـــع‪ ،‬كام أنه‬
‫معـروف بطريقتـه املضلِّـــل ِة يف تشـوي ِه األشـياء وتهويلِـــها‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫بر‬
‫النـص‪-‬أ ْن نعت َ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫يقـول‬ ‫ن‪ ،‬سـيكون مـن املبالغـة واملغـاالة‪ ،‬كما‬ ‫لكـ ْ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عالقتَـــهام عــــــدائيةً‪ ،‬أل َّن هنـاك أشـياء مشتركة ومتداخلـة بينهام؛ فهام‬
‫الطباعـي للقـرن‬
‫َّ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫السـاعات الرمليـةَ‪ ،‬والخرائـطَ‪ ،‬والفـ َّ‬ ‫معــــاً يُـحبَّــــان‬
‫م القهوة‪ ،‬ونثرَ ستفنسـن‪ ..‬واألكرث‬ ‫وأصـول الكلمات‪ ،‬وطعـ َ‬ ‫َ‬ ‫الثامـن عشر‪،‬‬
‫برر وجـو َد األنـا‪ ،‬وإ ْن كان‬ ‫(بورخيـس) هـو الـذي ي ِّ‬
‫َ‬ ‫أدب اآلخـر‬
‫مـن ذلـك‪ ،‬أن َ‬
‫ير قـاد ٍر على إنقاذهـا مـن ضياعهـا ومصريهـا‪ ،‬فـإ َّن هناك بِــض َع شـذراتٍ‬ ‫غ َ‬
‫األديب هو‬
‫َ‬ ‫مـن األنـا لـن تنجـو إلّ من خلال ذلـك الرجـل‪ :‬بورخيـس‪ ..‬وكأن‬
‫ُ‬
‫يقـول‬ ‫ن ذلـك اآلخَـر‪ ،‬آخَـ ِر األنـا‪ ..‬وهـو ال‬ ‫األدب هـو موطـ ُ‬
‫َ‬ ‫آخَـ ُر األنـا‪ ،‬وكأن‬
‫ُ‬
‫يقول شيئـــاً‬ ‫ٍ‬
‫يقول إال شـذرات منهـا‪ ،‬لكنه وحدَه‬ ‫َ‬ ‫األنـا كاملـةً‪ ،‬وال ميكنـه أن‬
‫األدب يتحـ َّدثُ عـن األنـا‪ ،‬وعـن آخـ ِر األنـا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عنهـا‪ ،‬وحـده‬
‫«بورخيـس» مـن جهـ ٍة ثانيـ ٍة‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬ ‫هنـاك «أنـا» مـن جهـ ٍة أوىل‪ ،‬وهنـاك‬
‫مـا يعنـي أ َّن الـذاتَ هـي األنـا ونقيضُ ـــها‪ ،‬أ َّن الـذاتَ «هـي نـو ٌع مـن التناشـز‬
‫النص‬
‫ُّ‬ ‫خـارج الـذات؛ ولذلك يسـ ّميه‬
‫َ‬ ‫واالنفصـام»(((‪ ،‬واآلخـ ُر هـو يش ٌء يقـع‬
‫«ذلـك الرجـل‪ »..‬يف أكثرَ من مكانٍ ‪ ،‬فالحيا ُة التي تعيشـها األنا يف شـوارع‬
‫ِ‬
‫الجرائد‬ ‫بورخيس عىل صفحـات‬‫ُ‬ ‫ير الحياة التي يعيشـها‬ ‫بوينيـس آيريـس غ ُ‬

‫((( بورخيس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.156‬‬


‫العربية‬
‫ّ‬ ‫إىل‬ ‫نقلها‬ ‫مختارات‬ ‫بابل‪،‬‬ ‫سداسيات‬ ‫َّــف‪:‬‬
‫ل‬ ‫مؤ‬ ‫ضمن‬ ‫وأنا»‪،‬‬ ‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬بورخيس‬
‫حسن نارص‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪86‬‬
‫واحد منهام حياتَــه‬‫ٍ‬ ‫لكل‬
‫وقوائـم األكادمييِّين ومعاجم األعلام‪ ،‬ويبدو كأ َّن ِّ‬
‫النـص يُـــقدِّم مـن الدالئـلِ مـا يكشـف أ َّن مـا بينهما ليـس‬ ‫َّ‬ ‫ن‬
‫الخاصـةَ؛ لكـ َّ‬
‫َّ‬
‫عـدا ًء‪ ،‬بـل إنـه نـو ٌع مـن التامهـي‪ ،‬واألنـا ‪-‬على ال ُّرغـم مـن محاوالتهـا‪-‬‬
‫مل تسـتط ْع التحـ ُّر َر مـن ذلـك اآلخـر‪« :‬أ ّمـا أنـا فسـأبقى على الـدوام يف‬
‫كنـت‪ ،‬يف الحقيقـ ِة‪ ،‬كائنـــاً مـا)‪،(((»..‬‬ ‫ُ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬وليـس يف نفسي (إذا‬ ‫َ‬
‫الشـك يف وجودهـا‪ ،‬باعتبارهـا كائنـاً حقيقيّـاً‪ ،‬ذلـك‬ ‫ِّ‬ ‫فاألنـا تذهـب إىل حـ ِّد‬
‫ألن وجودَهـا ال يكـون إلّ مـن خلال ذلـك اآلخـر‪ :‬فاألنـا هـي اآلخـر ‪ ،‬ألنـه‬
‫(((‬

‫ير األنا هو النسـيان‪ ،‬ووحده ذلك اآلخ ُر سـيبقى‪:‬‬ ‫‪-‬يف النهايـة‪ -‬سـيكون مص ُ‬
‫ٍ‬
‫كل يشء يف النسـيان‬ ‫انتهـت األشـيا ُء جميعـاً إىل خسـارة‪ ،‬سـقط ُّ‬ ‫ِ‬ ‫«لقـد‬
‫ن‬
‫الكاتـب ال يَـــعرف‪ ،‬يف النهايـة‪َ ،‬مـــ ْ‬
‫ُ‬ ‫يـد ذلـك الرجـل‪ »..‬؛ ولهـذا‪،‬‬
‫(((‬ ‫أو يف ِ‬
‫بورخيـس‪ ،‬أم هام معـاً؟ وهو مـا يعني‬ ‫ُ‬ ‫النـص؛ أهـو «أنـا» أم‬ ‫ِّ‬ ‫كاتـب هـذا‬
‫ُ‬ ‫هـو‬
‫النـص‪ ،‬بـل ‪-‬ربَّــما‪ -‬ليسـت بكاتبتـه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أ َّن األنـا ليسـت الوحيـدة التـي تَـــكتب‬
‫َ‬
‫يقـول شـيئاً (ولـو‬ ‫فاآلخـ ُر قـد يكـون هـو الكاتـب‪ ،‬لكنـه الـذي ال ميكنـه أن ال‬
‫عالقـات‪ ،‬فاألنا هـي اآلخر؛ مبـا يعني أن‬ ‫ٍ‬ ‫قليلاً) عـن األنـا‪ ،‬لِــ َمــا بينهما مـن‬
‫اآلخـ َر هـو األنـا‪ ،‬ولو جزئ ّيـاً‪ ..‬لكن الذي يبقـى هو ذلك «الرجـل اآلخر» الذي‬
‫ينتمـي إىل نظـام الكتابـة واألدب‪ .‬أ ّمـا األنـا التـي تنتسـب إىل نظـام الواقـع‬
‫والعالَـــم فإنهـا تنتهـي إىل املـوت والنسـيان‪.‬‬
‫األقـل‪ ،‬كأنه يعيـ ُد كتاب َة‬
‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬على‬
‫ِّ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬يف هـذا‬
‫ُ‬ ‫إجماالً‪ ،‬يبـدو‬
‫النفسي إىل مائـد ِة النقـاش‪ :‬مـاذا عن‬
‫ِّ‬ ‫فرويـدَ‪ ،‬كأنـه يعيـ ُد أسـئل َة التحليـل‬
‫حــد ٌة منسـجم ٌة وسـيِّد ُة بي ِتهـا أم أنهـا منقسـم ٌة منفصلـ ٌة‬ ‫األنـا؟ أهـي مو َّ‬
‫يتأسـس هذا االنقسـا ُم بني األنـا واآلخر؟ مـا دو ُر اآلخر يف‬ ‫منفصمـة؟ كيـف َّ‬
‫تشكيلِ ال ُهــويّة؟ ما دو ُر الغرييّة يف بناء الذاتيّة؟ كيف ميكن أن أكون آخ َر‪،‬‬

‫العربية‬
‫ّ‬ ‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬بورخيس وأنا»‪ ،‬ضمن مؤلَّــف‪ :‬سداسيات بابل‪ ،‬مختارات نقلها إىل‬
‫حسن نارص‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪.‬‬
‫آخر» هي‪ ،‬أيضاً‪ ،‬قولة مشهورة للشاعر «أرتور رامبو» يف إحدى رسائله التي تعود إىل ‪ 15‬مايو‪،‬‬ ‫((( «األنا هي َ‬
‫‪1871‬؛ وهي عنوان كتاب ألحد أكرب املنظِّ رين لألتوبيوغرافيا يف العرص الراهن‪ :‬فيليب لوجون‪ ،‬يف كتابه‪« :‬األنا‬
‫آخر»‪ ،‬الصادر عن «دار سوي»‪ ،‬يف باريس‪ ،‬سنة ‪.1980‬‬ ‫هي َ‬
‫العربية‬
‫ّ‬ ‫إىل‬ ‫نقلها‬ ‫مختارات‬ ‫بابل»‪،‬‬ ‫«سداسيات‬ ‫َّــف‪:‬‬
‫ل‬ ‫مؤ‬ ‫ضمن‬ ‫وأنا»‪،‬‬ ‫«بورخيس‬ ‫بورخيس‪:‬‬ ‫لويس‬ ‫خورخي‬ ‫(((‬
‫حسن نارص‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪87‬‬
‫األدب يف إطار هذه املسـألة‪ :‬ما‬ ‫َ‬ ‫بورخيـس يُدرج‬
‫َ‬ ‫ن‬‫أنـاي؟‪ ..‬لكـ َّ‬
‫َ‬ ‫بالنسـبة إىل‬
‫يقـول األنـا يف كلِّيَّتهـا وشـموليَّتها‪ ،‬أم أنـه‬
‫َ‬ ‫األدب باألنـا؟ أبإمكانـه أن‬
‫ِ‬ ‫عالقـ ُة‬
‫ٍ‬
‫ال يقولهـا إلّ جزئيّـاً‪ ،‬مـن خلال بِــضعِ شـذرات منهـا؟ أيقول األنـا‪ ،‬أم يقول‬
‫َ‬
‫َـــؤول األنا‬ ‫اآلخَـ َر؛ آخَـ َر األنـا؟ أليـس اآلخ ُر بالـذي يبقى يف النهايـة بعد أن ت‬
‫األدب هـو هـذا الـذي يحتفـظ وحـده‪ ،‬ولـو‬ ‫َ‬ ‫إىل النسـيان؟ أال يعنـي ذلـك أ َّن‬
‫بقليـلٍ مـن األنـا‪ ،‬فهو قـد ال يقولهـا يف كلِّيَّتها‪ ،‬لكنـه يحتفظ َّ‬
‫‪-‬ربـا‪ -‬بالكثري‬
‫مـن آخَرها؟‬
‫نــصــــاً آخ َر عند‬ ‫رض ّ‬‫خاصـ ًة عندما نسـتح ُ‬ ‫ّ‬ ‫هـي أسـئلة تزداد استشـكاالً‪،‬‬
‫النـص‪ ،‬يُخربنـا السـار ُد أ َّن األمـ َر‬
‫ِّ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬عنوانُـــه «اآلخـر»(((‪ .‬مـن بدايـة‬ ‫َ‬
‫أحـد أيّـامِ فرباير‪/‬شـباط‪ ،1969 ،‬وهـو حـدثٌ‬ ‫ِ‬ ‫صبـاح‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َــــ‬ ‫ق‬‫و‬‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ـدث‬ ‫يتعلّـق ِب َ‬
‫ح‬
‫بـأي محاولـ ٍة لتدوي ِنــه‪ ،‬يف ذلـك الوقـت؛‬ ‫م ِّ‬ ‫عاشـه هـو نفسـه‪ ،‬لكنـه مل يقـ ْ‬
‫نفسـه‪ .‬وهـو‬ ‫بورخيـس ُ‬
‫ُ‬ ‫الكاتـب‪ ،‬أي‬
‫ُ‬ ‫وهـذا يعنـي أ َّن الحـدثَ عاشـه السـار ُد‬
‫بـأي محاولـ ٍة لتدوينـه‪ ،‬ألنـه كان يريـد نسـيا َن مـا وقـع؛‬ ‫م ِّ‬ ‫يوضِّ ـح أنـه مل يقـ ْ‬
‫سـنوات‪ ،‬قـام بتسـجيله على‬ ‫ٍ‬ ‫خوفــــــاً على عقلـه‪ ،‬لكنـه‪ ،‬بعـد انقضـاء‬
‫قصـةٌ‪ ،‬و‪-‬ثانيـاً‪ -‬من أجل‬ ‫الـورق‪ :‬أ َّوالً‪ ،‬مـن أجـل أ ْن يقـرأه اآلخـرون على أنـه ّ‬
‫قصـ ٍة بالنسـبة إليـه‪ ،‬أيضــــاً؛ وهـذا يعنـي أن السـار َد‬ ‫أ ْن يتحـ َّو َل إىل مجـ َّرد ّ‬
‫ير الواقع‪،‬‬ ‫القص َة (لنقـل الكتابة؟) شيئـــاً آخ َر غ َ‬ ‫ّ‬ ‫الكاتـب (بورخيـس) يعتبر‬ ‫َ‬
‫تنقـل مـا وقـع‪ ،‬فالواقـ ُع عندمـا يُـروى‪ ،‬أي عندمـا‬ ‫ُ‬ ‫وإن كانـت تبـدو كأنهـا‬
‫ينتقـل إىل نظـام التدويـن والكتابـة‪ ،‬قـد يتحـ َّو ُل إىل يش ٍء آخـ َر؛ ولهـذا‪،‬‬
‫يـروي ما حـدث‪ ،‬من أجـل أن يقرأه‬ ‫َ‬ ‫سـنوات‪ ،‬قبـل أن‬ ‫ٍ‬ ‫الكاتـب‬
‫ُ‬ ‫انتظـر السـار ُد‬
‫قصـ ٍة بالنسـبة إليـه‪،‬‬ ‫قصـةٌ‪ ،‬ومـن أجـل أن يتحـ َّو َل إىل ّ‬ ‫اآلخـرون على أنـه ّ‬
‫أيضاً‪.‬‬
‫النص‪ ،‬وبشـكلٍ مفـارقٍ ‪ ،‬يوضِّ ح‪ ،‬من بدايته‪ ،‬أن مـا حدثَ قد حدثَ‬ ‫ّ‬ ‫لكـن‬
‫الكاتـب يريـد مـن القـارئِ أ ْن يقتنـ َع بهـذه الجزئيةِ‬
‫ُ‬ ‫فعلاً وحقيقـةً‪ ،‬والسـار ُد‬
‫األسـاس‪ ،‬بنقطـ ِة انطلاقٍ ‪-‬ربَّــما‪ -‬هي رضوريـ ٌة إ ْن أرا َد القـارئُ أن يتص َّو َر ما‬

‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن‪« :‬كتاب الرمل»‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعيد الغامني‪ ،‬اإلصدار الثاين‪ ،‬أزمنة‬
‫للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪.1999 ،‬‬

‫‪88‬‬
‫الكاتب‬
‫ُ‬ ‫يسـتوعب مـا وقـع‪ ،‬وأن يُ َ‬
‫ـدرك أبعـا َد مـا عاشـه السـار ُد‬ ‫َ‬ ‫حـدث‪ ،‬وأ ْن‬
‫يف ذلـك الصبـاح مـن أيّـام فرباير‪/‬شـباط‪ .1969 ،‬لكـن‪ ،‬مـا الـذي حـدث؟‬
‫وقـت حدوثه؟ ومـاذا عن‬
‫َ‬ ‫الكاتـب على تدويـن مـا حـدث‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يعمـل‬
‫ْ‬ ‫وملـاذا مل‬
‫ِ‬
‫الحـدث‪ ،‬عندمـا ينتقـل إىل نظـام التدويـنِ والكتابة؟‬
‫الكاتـب يريد‬
‫ُ‬ ‫العقـل؛ ولهذا كان السـار ُد‬
‫ُ‬ ‫مـا حـدثَ هـو يش ٌء ال يتصـ َّوره‬
‫أن ينسى مـا عاشـه خوفــــاً على عقلـه‪ ،‬بالضبـط؛ فالحـدثُ كان ‪-‬بحسـب‬
‫تعبيره‪« -‬مرعبــــاً عندمـا وقـع‪ ،‬وكان أكثرَ رعبــــاً يف ليـايل األرقِ التـي‬
‫ٍ‬
‫سـنوات‪،‬‬ ‫الكاتـب‬
‫ُ‬ ‫الرعـب‪ ،‬انتظـر‬
‫ِ‬ ‫كل هـذا‬ ‫أعق َبـــتْـــه»(((‪ .‬وعلى ال ُّرغـم مـن ِّ‬
‫رث مـن ذلك‪ ،‬هـو يوضح أ َّن‬ ‫نقـل مـا حـدثَ رواي ًة وكتابـةً‪ .‬واألك ُ‬ ‫قبـل أن يقـ ِّر َر َ‬
‫أثـ َر مـا وقـع‪ ،‬بالنسـبة إليـه‪ ،‬لن يكـون ‪-‬بالضرورة‪ -‬هو األثر نفسـه بالنسـبة‬
‫ن هـذا ال يعنـي أن روايـ َة مـا حـدثَ‬ ‫إىل مجـ َّر ِد قـارئٍ لهـذا الـذي وقـع‪« :‬لكـ َّ‬
‫شـخص آخـ َر‪ ،‬بالضرورة»(((؛ وذلـك أل َّن الحـدثَ كما عاشـه‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬
‫سـته ُّز َّ‬
‫يره عندمـا انتقـل إىل نظـام الروايـة والتدويـن‪ ،‬وأن أث َره عىل‬ ‫الكاتـب‪ ،‬هـو غ ُ‬
‫ُ‬
‫ن قـرأه‪ ،‬وأ َّن هناك فرقـــاً بني‬ ‫ريه على َمـــ ْ‬ ‫ن عاشـه فعلاً وحقيقـ ًة هـو غ ُ‬ ‫َمـــ ْ‬
‫نظـام الواقـع والعالَـــم ونظـام الكتابـة والقـراءة‪.‬‬
‫ِ‬
‫أحـد‬ ‫بورخيـس كان يجلـس فـوق‬ ‫َ‬ ‫حـدثَ هـو أن خورخـي لويـس‬ ‫مـا َ‬
‫تطـل على نهـر «تشـارلز»‪ ،‬وكانـت السـاع ُة حـوايل العـارشة‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫املقاعـد التـي‬
‫جالس عىل‬‫ٌ‬ ‫شـخص‬
‫ٌ‬ ‫صباحاً من أحد أيّام فرباير‪/‬شـباط‪ ،1969 ،‬وكان هناك‬
‫ُ‬
‫التعـارف‬ ‫ير ليبـدأ‬
‫وقـت كث ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الحافّـة األخـرى مـن املقعـد ِ‬
‫نفســه‪ ،‬ولـن ميـ َّر‬
‫الجالـس‬
‫َ‬ ‫الشـخص‬
‫َ‬ ‫وليكتشـف خورخـي لويـس بورخيـس أن هـذا‬ ‫َ‬ ‫بينهما‪،‬‬
‫قريبـاً منـه‪ ،‬اسـ ُمه خورخـي لويـس بورخيـس أيضـاً‪ ،‬لكـن مـع وجـود فارق‪:‬‬
‫جنيـف‬ ‫َ‬ ‫كامبردج‪ ،‬أواخـ َر السـتينيات‪ ،‬والثـاين يعيـش يف‬
‫َ‬ ‫األ َّو ُل يعيـش يف‬
‫يف العقـد الثـاين مـن القـرن العرشيـن‪ ،‬أي أن األ َّو َل أك ُ‬
‫رب س ّنــــاً من الثاين‪،‬‬

‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن «كتاب الرمل»‪ ،‬ترجمة سعيد الغامني‪ ،‬اإلصدار الثاين‪ ،‬أزمنة‬
‫للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪ ،1999 ،‬ص ‪.14‬‬
‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن «كتاب الرمل»‪ ،‬ترجمة سعيد الغامني‪ ،‬اإلصدار الثاين‪« ،‬دار‬
‫أزمنة» للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪.1999 ،‬‬

‫‪89‬‬
‫فبورخيس األ َّو ُل‬
‫ُ‬ ‫بورخيـس يلتقـي بالـذي كانه يف زمنٍ مىض وانقضى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كأ َّن‬
‫املسـتقبل‪ ،‬يف حين نجـد الثـاين ميَـــثِّــــل املـايض‪ ..‬ودار حوا ٌر‬
‫َ‬ ‫ميَــثِّـــــل‬
‫طويـل بينهما‪ ،‬حـول حقيقـ ِة ما يقع لهما وعالق ِتـه بالحلم‪ ،‬حـول املايض‬ ‫ٌ‬
‫الكتـب والكتابـة‪ ..‬وهـو الحـوا ُر الـذي كشـف عـن عـد ٍد‬ ‫ِ‬ ‫واملسـتقبل‪ ،‬حـول‬
‫مـن االختالفـات بين االثنني حول النـاس والقـراءات واألذواق‪ ،‬بحيث يبدو‬
‫م الواحـ ُد منهما اآلخـ َر‪،‬‬‫ير قاد َريْـن على التفاهـم‪ ،‬أو على أ ْن يفهـ َ‬ ‫أنهما غ ُ‬
‫َين ج ّدا ً» ‪ ..‬وقبـل أن يفرتقا‪ ،‬اتَّفقا عىل‬
‫(((‬
‫ي ج ّدا ً ومختلف ْ‬ ‫فقـد كانا «متشـاب َه ْ‬
‫َي‬ ‫َين ومكان ْ‬‫اللقـاء يف اليـوم التـايل «على املقعد نفسـه املوجود يف زمان ْ‬
‫والشـك يف‬‫َّ‬ ‫بورخيـس األ َّو َل مل يحضر يف اليوم التايل‪،‬‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َين»(((؛ لكـ َّ‬
‫مختلف ْ‬
‫رض‪ ،‬أيضـــاً‪.‬‬ ‫أن اآلخـ َر مل يح ْ‬
‫ٍ‬
‫شـديد‪ ،‬وأفترض أنـه يطرح‪ ،‬مـن منظور‬ ‫َّـص مـا حـدثَ بإيجـا ٍز‬
‫هـذا ملخ ُ‬
‫مسـائل‪:‬‬
‫َ‬ ‫التحليـل النفسي‪ ،‬ثالثَ‬
‫ر من مكانٍ ‪،‬‬ ‫حـدة متجانسـة؟‪ :‬يف أكث َ‬ ‫‪ -‬هـل األنـا منقسـمة متنافـرة ال مو َّ‬
‫م به‪ ،‬فـــ«ليس هناك‬ ‫معروف ومسـلَّ ٌ‬‫ٌ‬ ‫النص ما يؤكد أن انقسـا َم األنا أم ٌر‬ ‫ِّ‬ ‫يف‬
‫لبورخيس‬
‫َ‬ ‫نفســه مع نفســه يف اليقظـة‪ ، »..‬وهذا ما حـدثَ‬
‫(((‬ ‫ِ‬ ‫ن ال يجـد َ‬ ‫َمـــ ْ‬
‫نفسـه مـع‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫يف ذلـك الصبـاح مـن أحـد أيّـام فرباير‪/‬شـباط‪ ،1969 ،‬وجـد‬
‫حـدِّث‬ ‫نفسـه‪ ،‬لكـن ليـس مبعنـى أنـه اختلى بنفسـه‪ ،‬وليـس مبعنـى أنـه يُ َ‬
‫نفسـه يف مونولـوج داخلي مثالً؛ ذلك ألن هناك شيئــــاً مختلفــــاً يف هذه‬ ‫َ‬
‫يئ‪« :‬عـدا أننـا اثنـان» ‪:‬‬
‫(((‬
‫بورخيـس بهـذا الشـكل االسـتثنا ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الحالـة‪ ،‬صاغـه‬
‫ير بينهما‪،‬‬ ‫ين‪ ،‬هنـاك تشـاب ٌه كب ٌ‬ ‫ين اث َن ْ‬ ‫بورخيس ْ‬
‫َ‬ ‫فالجديـدُ‪ ،‬هنـا‪ ،‬أننـا أمـام‬
‫واحـد منهما منفصلاً مختلفـاً‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬
‫ن هنـاك مـا يفصـل بينهما ويجعـل ُّ‬ ‫لكـ ْ‬
‫عـن اآلخـر‪ :‬هنـاك «األنـا»‪ ،‬وهناك «األنـا اآلخـر»‪ ،‬وبينهام اختالفـاتٌ كثريةٌ‪،‬‬

‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن «كتاب الرمل»‪ ،‬ترجمة سعيد الغامني‪ ،‬اإلصدار الثاين‪« ،‬دار‬
‫أزمنة» للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪.1999 ،‬‬
‫((( املصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن‪ :‬كتاب الرمل‪ ،‬ترجمة سعيد الغامني‪ ،‬اإلصدار الثاين‪«،‬دار أزمنة»‬
‫للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪ ،1999 ،‬ص ‪.16‬‬
‫((( املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪90‬‬
‫ي‪ ،‬وبالنسـبة إىل األنـا‪،‬‬ ‫مسـتويات عديـدة‪ :‬فعلى املسـتوى العائل ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫وعلى‬
‫ـت‪ ،‬والجـدّة ميِّتـ ٌة كذلـك‪ ،‬لكنهـم كلّهـم أحيا ُء‪،‬‬ ‫واألب ميِّ ٌ‬
‫ُ‬ ‫األ ُّم حيَّـ ٌة تُـــرزَق‪،‬‬
‫كاتـب مشـهو ٌر‬
‫ٌ‬ ‫الشـخيص‪ :‬األنـا‬
‫ِّ‬ ‫بالنسـبة إىل األنـا اآلخَـر؛ وعلى املسـتوى‬
‫كامبردج‪ ،‬أمـا األنا اآلخـ ُر فإنه ال يـزال يف بداياته‪ ،‬يقـرأ رواي ًة‬ ‫َ‬ ‫رض يف‬‫ومحـا ٌ‬
‫وواضـح أ َّن بينهما اختالفـاتٍ‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫لدوستويفسكي التـي مل تَ ُعـد األنـا تتذكَّرهـا؛‬
‫واحـد منهما للقـراءة والكتابـة‪ :‬فاألنـا اآلخـ ُر يتحـدث‬ ‫ٍ‬ ‫كبرى يف تصـ ُّو ِر ِّ‬
‫كل‬
‫جـــ ٌه إىل الجمهـور األعظم‬ ‫كتـاب يحتفـل فيـه بأخـ ّوة اإلنسـانِ وهـو مو َّ‬ ‫ٍ‬ ‫عـن‬
‫مـن املضط َهــدين واملنبوذيـن‪ ،‬يف حين توضـح األنـا أن فكـر َة «الجمهور»‬
‫ن‪ ،‬يف‬ ‫تجريديـةٌ‪ ،‬إذ ال وجـودَ‪ ،‬يف الواقـع‪ ،‬إلّ لألفـراد؛ واألنـا اآلخـ ُر يؤمـ ُ‬
‫ن األنـا بتلـك‬ ‫اسـتعادات جديـد ٍة أو اكتشا ِفـــها‪ ،‬فيما تؤمـ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫األدب‪ ،‬بابتـكار‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫االسـتعارات التي‬ ‫االسـتعارات التي تَــحمل شَ ـبَــهــــاً حميمياً واضحاً‪ ،‬تلك‬ ‫ِ‬
‫ارتضاهـا خيالُـــنا سـلفاً (الشـيخوخة والغـروب‪ ،‬األحلام والحياة‪ ،‬انسـياب‬
‫الزمن وامليـاه‪.)..‬‬
‫َين جـ ّدا ً‪ :‬يف واق ِعهما ومصريِهما‪،‬‬ ‫ين مختلف ْ‬ ‫والخالصـ ُة أننـا أمـام اث َن ْ‬
‫يف أفكارهما وتص ُّوراتهما‪ ،‬يف قراءاتهما وكتاباتهما‪ ..‬وكان الحـوا ُر بينهام‬
‫ٍ‬
‫واحـد منهما يبـدو‬ ‫كل‬
‫ير مـن التشـابه‪ ،‬فـإن َّ‬‫صعبــــاً‪ ،‬وإ ْن كان بينهما الكث ُ‬
‫واحـد منهما أن‬‫ٍ‬ ‫كأنـه «نسـخ ٌة كاريكاتوريـ ٌة لآلخَـر» ‪ ،‬كأنـه ال ميكـن ِّ‬
‫ألي‬ ‫(((‬

‫يكـون صـور ًة طبـق األصـل مـن اآلخـر‪ ،‬ألن هنـاك وج َه الشـبه كما أن هناك‬
‫أنـوات مختلف ٍة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وجـ َه االختلاف‪ ،‬وهـو مـا قد يعنـي أن هناك أنا تنقسـم إىل‬
‫وإ ْن كان هنـاك شـب ٌه بينهـا‪ :‬أي أن األنـا ليسـت وحـد ًة متطابق ًة ومنسـجمة‪،‬‬
‫حـد ًة ومتجانسـة‪ ،‬بـل إنهـا وحـد ٌة تنقسـم وتنفصـل‪ ،‬تتضاعـف وتتعدَّد‪،‬‬ ‫مو َّ‬
‫النص نفسـه؟‬
‫ِّ‬ ‫ير ذلـك‪ ،‬انطالقـاً مـن‬
‫تختلـف وتتعـارض‪ ..‬فما تفس ُ‬
‫نفترض أن‬
‫ُ‬ ‫ويغيهـا؟‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫يقسـم األنـا‪ ،‬ويُعدِّ دهـا‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ن هـو الـذي‬ ‫هـل الزمـ ُ‬
‫ِ‬
‫القصـة‪ ،‬هي‬
‫ّ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬مـن خالل هـذه‬
‫ُ‬ ‫الفكـر َة الرئيسـ َة التـي يدافـع عنهـا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ن يف حياة األنا ووجودها‪،‬‬
‫رضور ُة االنتبـاه إىل الـدور الكبري الذي يؤدّيه الزم ُ‬

‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن «كتاب الرمل»‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعيد الغامني‪ ،‬اإلصدار الثاين‪« ،‬دار‬
‫أزمنة» للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن ‪.1999‬‬

‫‪91‬‬
‫األسـاس‬
‫ُ‬ ‫يف انقسـامها وتعدُّدهـا‪ ،‬يف اختالفها وتنافرها‪ ..‬وهكذا‪ ،‬الخالص ُة‬
‫ريها‪ ،‬يف الوقت‬ ‫التـي انتهـت إليهـا األنا هي أنها يف زمنٍ مىض وانتهـى هي غ ُ‬
‫األسـاس‪ ،‬يف هـذه التغيرات‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫الحـارض أو يف الزمـن املسـتقبل‪ ،‬والعنص ُ‬
‫ًصيـب األنـا‪ ،‬فتجعلهـا منقسـم ًة متعـدِّدة‪ ،‬هـو الزمـن‪ ،‬فهـذا هـو مـا‬
‫ُ‬ ‫التـي ت‬
‫انتهـت إليـه األنـا بعـد ذلـك الـذي حـدث يف فرباير‪/‬شـباط‪ ،1969 ،‬مل َّـــا‬
‫خ َر يعـود إىل بداية القـرن العرشين‪:‬‬ ‫التقـت األنـا‪ ،‬اآلخـ َر وهو يعيـش زمنا آ َ‬
‫و‪-‬ربا‪ -‬ك ّنا‬
‫َّ‬ ‫«‪ ..‬وإنسـا ُن األمس غري إنسـان اليوم»‪ ،‬كام قال أح ُد اإلغريق‪،‬‬
‫كامربدج دليالً عىل ذلك‪. ».‬‬
‫(((‬
‫َ‬ ‫جنيف أو‬
‫َ‬ ‫نحن الجالسين عىل هذا املقعد يف‬
‫وليـس مـن دون داللـ ٍة أن يكـون مـا فكـرتْ فيـه األنا‪َ ،‬‬
‫قبـل أن يَحـدثَ ما‬
‫ير بالزمـن‪ ،‬مـن خالل صـور ِة النهـر عنـد هرياقليطس‪:‬‬ ‫حـدثَ ‪ ،‬هـو التفك ُ‬
‫تطـل على نهـر «تشـارلز»‪..‬‬
‫ُّ‬ ‫كنـت جالســـاً فـوق أحـد املقاعـد التـي‬
‫ُ‬ ‫«‪..‬‬
‫الجليـدي‪ .‬وقـد دفعنـي ذلـك إىل‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الطـوف‬ ‫كانـت امليـا ُه الرماديـ ُة تدفـع‬
‫التفكير بالزمن‪-‬صـورة هرياقليطـس قبـل ألـف عـام‪. ».‬‬
‫(((‬

‫نفسـها الفكر ُة التي‬


‫بورخيـس‪ ،‬تخييل ّياً‪ ،‬هي ُ‬
‫ُ‬ ‫وهـذه الفكـر ُة التي يصوغها‬
‫يوضحهـا يف نصوصـه النظريـ ِة‪ ،‬ففي مقالته حول «الزمـن»‪ ،‬نجده يقول‪:‬‬
‫ن‪ ،‬دامئـاً‪ ،‬نهـ َر هرقليطـس‪ ،‬فنحـن دامئـاً نرجـع إىل هـذا‬ ‫«يشـبه الزمـ ُ‬
‫هرقليطس يتأمل ظلَّـــه يف مياه النهر‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬ ‫املجـاز القديـم‪ ...‬فنحـن دامئاً‬
‫تغيرت‪ ،‬ويفكِّـر‬
‫َّ‬ ‫يفكِّـر يف أن هـذا النهـ َر ليـس هـو هـو‪ ،‬ألن امليـا َه فيـه قـد‬
‫نفسـه‪ ،‬ألنـه كان شـخصاً آخـ َر بين اللحظة‬ ‫هرقليطـس َ‬
‫َ‬ ‫أيضـاً يف أنـه ليـس‬
‫التـي رأى فيهـا النهـ َر يف املـ ّرة الفارطـة‪ ،‬وبين اللحظـة الراهنـة‪. »..‬‬
‫(((‬

‫ـف‬
‫بورخيـس الـذي نيَّ َ‬
‫ُ‬ ‫نفسـه‪ ،‬يف اللحظـة ِ‬
‫نفسـها‪ ،‬يلتقـي‬ ‫يف املقعـد ِ‬

‫((( خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن «كتاب الرمل»‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعيد الغامني‪ ،‬اإلصدار الثاين‪« ،‬دار‬
‫أزمنة» للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪ ،1999 ،‬ص ‪.19‬‬
‫((( املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص‪18 ،‬‬
‫((( بورخيس‪« :‬الزمن»‪ ،‬ضمن مؤلَّــف «بورخيس صانع املتاهات»‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬محمد آيت لعميم‪ ،‬املركز‬
‫الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،2016 ،‬ص ‪.83‬‬

‫‪92‬‬
‫ن؛ أي يلتقـي‬ ‫الشـاب الـذي مل يبلـغ العرشيـ َ‬‫ُّ‬ ‫وبورخيـس‬
‫ُ‬ ‫على السـبعني‪،‬‬
‫ير هـو‬ ‫مسـتقبل األنـا اآلخَـر‪ ،‬وهـذا األخ ُ‬
‫ُ‬ ‫املـايض واملسـتقبل‪ ،‬فاألنـا هـي‬
‫وبورخيـس‪ ،‬يف اللحظـة الراهنـ ِة‪ ،‬هـو االثنـان معـاً‪ .‬وبالنظـر‬‫ُ‬ ‫مـايض األنـا‪،‬‬
‫إىل طبيعـ ِة عقولنـا وعقائدنـا وإدراكاتنا‪ ،‬من غري املمكـنِ أن نقبل بإمكانية‬
‫يلتقي‬
‫َ‬ ‫أن يلتقـي أحدكـم بذلـك الشـخص الذي كانـه يف الزمن املـايض‪ :‬أن‬
‫ٍ‬
‫عقـد‬ ‫وشـخصك يف‬
‫ُ‬ ‫شـخصك يف األلفيـة الجديـد ِة‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫نفسـها‬ ‫يف اللحظـة‬
‫َّـــمت بـأ َّن مـا مىض قـد انتهى‬
‫ْ‬ ‫مـن زمـنِ األلفيـ ِة املنرصمـة‪ ،‬ألن عقولَــنا سل‬
‫دالئـل على موتـه ونهايتـه‪ ،‬ألن األمـ َر‬ ‫َ‬ ‫ومـاتَ ‪ ،‬والواقـ ُع أ ْن ليـس هنـاك مـن‬
‫الصحيـح‪ ،‬ولهذا سـيكتب‬ ‫ُ‬ ‫ال يتعلّـق إال بتصـ ُّو ٍر للزمـن‪ ،‬سلَّـــمنا بأنـه وحـدَه‬
‫«دحـض جدي ٌد للزمـن» ‪،‬‬
‫(((‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫شـديد الداللـة‪:‬‬ ‫بورخيـس مقالـ ًة نظريـ ًة بعنـوانٍ‬
‫ُ‬
‫يوضِّ ـح فيهـا مفهو َمــه لألنـا وللزمـن‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ن‪ .‬إنـه منـ ٌر يفرتسـني‪ ،‬لكننـي أنـا‬
‫ن نهـ ٌر يَجرفنـي‪ ،‬لكننـي أنـا الزمـ ُ‬
‫«الزمـ ُ‬
‫النمـ ُر‪ ،‬إنـه النـا ُر التـي تلتهمنـي لكننـي النـا ُر‪ ،...‬فأنـا بورخيـس» ‪.‬‬
‫(((‬

‫ننتهـي إليـه هـو أن مفهـو َم األنـا ال ميكـن تصـو ُره مـن‬


‫َ‬ ‫مـا ميكـن أن‬
‫دون أن نأخـ َذ بعين االعتبـار مفهو َم الزمـن‪ ،‬وأنَّ تلك العالقـ َة الجدلي َة‬
‫ر لنـا ملـاذا ينبغـي لنـا أن نجـد َد مـن‬ ‫بينهما هـي التـي ميكـن أن تفس َ‬
‫الضروري أن ننظـ َر إىل األنـا على أنهـا‬
‫ِّ‬ ‫مفهوماتنـا‪ :‬ملـاذا يكـون مـن‬
‫ليسـت وحـد ًة موحـد ًة متطابقـ ًة منسـجم ًة متجانسـة‪ ،‬بـل إنهـا على‬
‫عكـس ذلـك وحـد ٌة منقسـم ٌة متنافـر ٌة ال تعـرف االنسـجا َم والتجانس؟‬ ‫ِ‬
‫ير‬
‫األمـس غ ُ‬
‫َ‬ ‫الضروري أن نأخـ َذ بعين االعتبـار أنَّ‬
‫ِّ‬ ‫وملـاذا يكـون مـن‬
‫رض قـد يكـون هو ذلك‬ ‫ير املسـتقبل‪ ،‬لكـن الحـا َ‬ ‫املـايض غ ُ‬
‫َ‬ ‫اليـوم‪ ،‬وأن‬
‫واملسـتقبل معاً‪ ،‬كام قد ال‬
‫ُ‬ ‫كلَّــــه‪ ،‬أي أن اللحظـ َة الراهنـ َة هي املايض‬
‫ير موجود‪ ،‬ما يوجـ ُد هو املايض‬ ‫أي يش ٍء‪ ،‬كأنـه غ ُ‬ ‫رض َّ‬‫يكـونُ هـذا الحـا ُ‬
‫ل كلِّـــها‪ ،‬إن مفهو َمــنا للزمـن ولألنا يحتاج‬ ‫املسـتقبل‪ ..‬ويف األحـوا ِ‬
‫ُ‬ ‫أو‬

‫((( مقالة مذكورة ضمن حوار مع ألربتو مانغويل‪ ،‬مرتجم ومنشور ضمن مؤلَّــف «بورخيس صانع املتاهات»‪،‬‬
‫املذكور سابقاً‪.‬‬
‫((( املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.132 - 131 :‬‬

‫‪93‬‬
‫نفسـه؟‬
‫ُ‬ ‫الزمن‬
‫ُ‬ ‫يغيهـا الزمـن باسـتمرار‪ ،‬لكنهـا هي‬
‫ِّ‬ ‫إىل التغيير‪ :‬فاألنـا‬
‫هـل الحلـم هـو املفتـاح؟‪ :‬فكَّـ َرتْ األنـا كثيرا ً يف هـذا اللقـاء الـذي مل‬
‫املفتـاح‪« :‬كان اللقـا ُء‬ ‫َ‬ ‫تـ ْرو ِه ألحـد‪ ،‬واعتقـدتْ ‪ ،‬يف النهايـة‪ ،‬أنهـا وجـدتْ‬
‫حقيق ّيـاً‪ .‬أ ّمـا اآلخـ ُر فـكان يحلـم عندمـا تَحـا َو َر معـي» ؛ وهـذا يعنـي أ َّن‬
‫(((‬

‫بورخيـس يف‬
‫ُ‬ ‫الحـدثَ ‪ ،‬حـدثَ اللقـاء‪ ،‬قـد كان حقيقيـاً بالنسـبة إىل األنـا‪:‬‬
‫شرف عىل السـبعني سـنة‪ ،‬بإمكانه أن يتعـ َّر َف إىل‬ ‫ُ‬ ‫اللحظـ ِة الراهنـة‪ ،‬وهـو يُ‬
‫ن بعـدُ‪ ،‬فهـو يعرفـه ج ِّيـدا ً‪ ،‬ألنـه‬ ‫نفسـه مل ّـا كان شابّــــاً مل يبلـغ العرشيـ َ‬
‫الشـاب مل يعش‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ن األنـا اآلخ َر‪ ،‬أي ذلك الــــ «بورخيس»‬ ‫عاشـه فعل ّيـاً؛ لكـ َّ‬
‫بورخيـس السـبعني سـنة‪ ،‬ولذلـك ال ميكـن للِّقـا ٍء أن يكـو َن حقيقيـاً‬ ‫َ‬ ‫بعـدُ‪،‬‬
‫بالنسـبة إليـه‪ ،‬وال ميكنـه أن يكـو َن إال حلماً؛ ولهـذا تقـول األنـا‪« :‬لقـد حلم‬
‫يب اآلخَـ ُر‪ ،‬ولكنـه مل يحلـم يب متامـاً‪(((»..‬؛ ومعنى هـذا أن ما حدثَ ال ميكن‬
‫يك‬
‫الطريـق املل ُّ‬
‫ُ‬ ‫م عنـد فرويد هو‬ ‫يره إلّ بهـذا املفتـاح‪ :‬الحلـم‪ ،‬والحلـ ُ‬ ‫تفس ُ‬
‫إىل الالوعـي ‪ ،‬والـذي يحلـم يف أثنـاء الحلـم ليس هـو األنا (الوعـي؟)‪ ،‬بل‬ ‫(((‬

‫(((‬
‫النفيس‪ ،‬إ َّن اآلخ َر هـو الالوعي؟‬ ‫ِّ‬ ‫نقول‪ ،‬مع التحليـل‬ ‫ُ‬ ‫إنـه األنـا اآلخَـر‪ ،‬فهل‬
‫النفيس‪ ،‬لهـا أبعاد‬ ‫ُّ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬وإ ْن كان لهـا هـذا البعـ ُد‬
‫َ‬ ‫لكـن املسـأل َة عنـد‬
‫الشـاب الذي‬‫ُّ‬ ‫بورخيس‬
‫ُ‬ ‫الزمني‪ :‬فاآلخ ُر هو‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫‪-‬باألسـاس‪ -‬البعـ ُد‬ ‫أخـرى‪ ،‬ومنها‬
‫ببورخيـس الشـيخ‪ ،‬أي أ َّن اآلخ َر هـو املايض الذي‬ ‫َ‬ ‫يحلـم مبسـتقبله‪ ،‬يحلـم‬
‫و‪-‬ربا‪ -‬أن هـذه الفكر َة تعاكس فكـر َة فرويد التي تقول‬ ‫َّ‬ ‫يحلـم باملسـتقبل؛‬
‫الالوعـي يسـتعيد حدثـاً من‬ ‫َ‬ ‫ي رغبـ ٍة مكبوتـ ٍة منسـ ّية‪ ،‬أي أن‬ ‫م محك ُّّ‬ ‫إن الحلـ َ‬
‫حلم ّيـاً‪ ،‬يف زمنٍ الحقٍ ؛ ذلك‬ ‫املـايض مل تنجـزه األنا فعل ّيـا‪ ،‬وحصل إنجازه ُ‬
‫ألن بورخيـس يقلـب األدوار‪ :‬املـايض هـو الـذي يحلـم باملسـتقبل وليـس‬
‫يره ومنتهـاه‬ ‫يعـرف مص َ‬ ‫َ‬ ‫العكـس‪ ،‬املـايض هـو الـذي يحلـم كأنـه يريـد أن‬
‫ومسـتقبلَه‪ ..‬وقـد يتعلّـق األمـر بشي ٍء آخـر‪ ،‬كأن تكـون تلـك الفكـرة‪ ،‬عنـد‬
‫فرويـد‪ ،‬بـأن الالوعـي ال يَعـرف الزمـن هـي التـي يحـاول بورخيـس بَلْ َو َرتهـا‬

‫((( بورخيس‪ :‬اآلخر‪ ،‬ص ‪.20‬‬


‫((( بورخيس‪ :‬اآلخر ص ‪.20‬‬
‫((( جان بيلامن نويل‪ :‬التحليل النفيس واألدب (سبق ذكره)‪ ،‬الفصل الثاين‪ :‬قراءة يف الالوعي‪.‬‬
‫‪(4) Roland Chemama: Dictionnaire de la psychanalyse, ed. Larousse, Paris, 1993, p 28.‬‬

‫‪94‬‬
‫بورخيـس يترك النافـذ َة مفتوحـ ًة أمام أسـئل ٍة مقلق ٍة‬ ‫َ‬ ‫وتطوي َرهـا!‪ ..‬يبقـى أن‬
‫وغريبـ ٍة دارتْ بين األنـا واألنا اآلخَـر‪َ :‬من الحاملُ؟‪ ،‬و َمــن املحلـوم به‪ :‬األنا‬
‫م ومل‬ ‫أم األنـا اآلخَـر؟ مـا الفـرقُ بين الحلـم والعالَـم؟ ماذا لـو اسـتم َّر الحل ُ‬
‫م‪ ،‬مثل الواقع‪،‬‬ ‫يتوقَّـف؟‪ ..‬أسـئل ٌة متنح املسـأل َة بُعـدا ً وجوديّاً‪ ،‬أي أ َّن الحلـ َ‬
‫بورخيـس) «أن‬
‫َ‬ ‫هـو مسـت ًوى آخـر مـن الحيـاة والوجـود‪ ،‬والبـ ّد (يقـول ُّ‬
‫نـص‬
‫نقبـل بالحلـم‪ ،‬متامـاً كما نقبـل بالعالَـــم‪ ،‬وبأننا نولـد‪ ،‬ونـرى ونتنفَّس» ‪.‬‬
‫(((‬
‫َ‬

‫النفيس؟‬
‫ِّ‬ ‫األدب عىل التحليل‬
‫َ‬ ‫هل كان بورخيس ُي َ‬
‫ـط ِّـبــق‬
‫بورخيـس قد قرأ فرويدَ‪ ،‬وأنه قد أعا َد كتابتَـــه بشـكلٍ‬
‫َ‬ ‫أسـتخلص أن‬
‫ُ‬ ‫هـل‬
‫مـن األشـكال؛ مبعنى أنه يسـائله‪ ،‬ويق ِّومه‪ ،‬ويط ِّوره؟‬
‫ِ‬
‫األسـاس‬ ‫ينطلـق مـن الفرضي ِة‬ ‫ُ‬ ‫حاولنـا أن نوضِّ ـح أن بورخيـس ‪ -‬وإ ْن كان‬
‫الخـاص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفرويـدي بـأن األنـا ليسـت بسـ ِّيدة بيتهـا‬
‫ِّ‬ ‫النفسي‬
‫ِّ‬ ‫يف التحليـل‬
‫أنـوات متعـدّد ٍة وغيرِ‬ ‫ٍ‬ ‫أي أنهـا ليسـت وحـد ًة متطابقـةً‪ ،‬وأنهـا تنقسـم إىل‬
‫ـــلفت االنتبـا َه إىل أبعـا ٍد أخـرى للمسـألة‬ ‫ُ‬ ‫كل التجانـس‪ ،‬يُ‬ ‫متجانسـ ٍة َّ‬
‫ات فرويـدَ‪ ،‬رأســــاً عىل عقب‪:‬‬ ‫بعـض ف ْرضيّ ِ‬
‫َ‬ ‫ــقلب‬
‫ُ‬ ‫النفسـانية‪ ،‬ويبـدو كأنـه يَ‬
‫املـايض هـو الـذي يَحلـم باملسـتقبل‪ ،‬وليس املسـتقبل بحـامل باملايض؛‬
‫م ليـس مج َّرد اسـتعاد ٍة ملا عاشـته األنا يف املايض؛ ذلـك أل َّن الحل َ‬
‫م‬ ‫الحلـ ُ‬
‫م آخـ ُر‪ ،‬هو مسـتوى آخـ ُر من الحيـاة والوجـود‪ ..‬وبورخيـس‪ ،‬بذلك‬ ‫هـو عالَـ ٌ‬
‫النفيس على األدب‪ ،‬لكنـه يفضّ ل‬ ‫ِّ‬ ‫تطبيـق التحليـل‬
‫َ‬ ‫كلِّـه‪ ،‬يبـدو كأنـه يرفـض‬
‫النفسي‪ ،‬باملعنـى الـذي بَلْـ َوره أحـ ُد قـ َّراء‬ ‫ِّ‬ ‫تطبيـق األدب على التحليـلِ‬ ‫َ‬
‫رص بيري بيـار ‪،‬‬
‫(((‬
‫الفرنسي املعـا ُ‬
‫ُّ‬ ‫النفسي‬
‫ُّ‬ ‫واملحلـل‬
‫ُ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬وهـو الناقـ ُد‬
‫َ‬
‫ذلـك ألن األدب هـو الـذي يتجـدَّد باسـتمرار‪ ،‬وهو األقدر عىل تجديد أسـئلة‬
‫التحليـل النفسي‪ ،‬ومفهوماتـه‪ ،‬وتص ُّوراتـه حـول اإلنسـان‪ ،‬ولغتـه‪ ،‬وأدبـه‪.‬‬

‫((( بورخيس‪ :‬اآلخر‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫‪(2) Pierre Bayard: Peut-on appliqué la littérature à la psychanalyse, ed. Minuit, Paris, 2004.‬‬

‫‪95‬‬
‫يعمـل على تجديـد‬ ‫ُ‬ ‫ن إعـاد َة قـراءة فرويـدَ‪ ،‬وإعـاد َة كتاب ِتـه‪ ،‬مبـا‬ ‫لكـ َّ‬
‫النفسي‪ ،‬لـن يكـون ممكنـاً إذا مل نأخـ ْذ بعين االعتبـار أن‬ ‫ِّ‬ ‫أسـئلة التحليـل‬
‫ٍ‬
‫بورخيـس يعمـل‪ ،‬قبـل ذلـك‪ ،‬عىل اشتراط مفهـومٍ جديـد للكتابـة األدبيّة‪،‬‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ألنـه البـ َّد مـن تصـ ُّو ٍر جديـد للأدب يكـون قـادرا ً على مقاربـة جديـدة لتلـك‬ ‫ٍ‬
‫النـص‬ ‫ِّ‬ ‫وخاصـ ًة مـع‬ ‫ّ‬ ‫األسـئلة النفسـانية‪ ،‬والفلسـفية‪ .‬وقـد رأينـا أعلاه‪،‬‬
‫بورخيـس عـن كتابـ ٍة (وإ ْن كانـت تنطلـق مـن الواقـع‬ ‫ُ‬ ‫الثـاين‪ ،‬كيـف يتحـدَّث‬
‫املعيـش) رسعـا َن مـا تحلّـق عاليـاً نحـو فضـاءات الخيـال والرمـز‬ ‫ِ‬ ‫اليومـي‬
‫ِّ‬
‫ن‬ ‫أسـاس يف الكتابة‪ ،‬لـكــ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫فالتفاصيـل اليومي ُة ما ّد ٌة‬
‫ُ‬ ‫والغرابـة والالمعقـول‪.‬‬
‫ن‬ ‫هـذه األخير َة ال تكتفـي بالنسـخ والتسـجيل‪ ،‬بـل تقـوم بالنبـش يف أماكـ َ‬
‫الغريـب يف واقعنـا ووجودنـا‪ ،‬ومسـاءل ِة‬ ‫ِ‬ ‫ومسـالك أخـرى القتنـاص ذلـك‬ ‫َ‬
‫والتاريخـي‪ ..‬وتتقـدَّم‬ ‫ِّ‬ ‫الذهنـي‪ ،‬واالجتامعـي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ين واشـتغالنا‬ ‫قدرِنـا الكـو ِّ‬
‫بورخيس استشـباحي ًة (فانتاسماغورية) لألنا‬ ‫َ‬ ‫نصوص‬
‫ُ‬ ‫الرؤيـ ُة التي تنسـجها‬
‫نعـرف‪:‬‬ ‫َ‬ ‫بورخيـس‪ ،‬أن‬
‫َ‬ ‫قصـة‬
‫والزمـن‪ ،‬للوجـود والحيـاة‪ ..‬فمـن الصعـب يف ّ‬
‫أيتعلّـق األمـ ُر بحكاي ٍة «واقعية» «حقيقي ٍة»‪ ،‬أم أنها مج َّر ُد حلم أو اسـتيهام‪،‬‬
‫أيتعلّـق األمـ ُر بواقعـ ٍة حدثـت‪ ،‬فعلاً‪ ،‬يف الزمن واملـكان‪ ،‬أم أن األم َر كلَّــه‬
‫النـص‬ ‫ُّ‬ ‫مجـ َّر ُد تهيُّـؤات وتخيُّلات وأحلام؟ وكأن األمـ َر يتعلّـق بلغـ ٍز يحـاول‬
‫كل‬ ‫والوصـول إىل حقيقتـه‪ ،‬لكنـه بقـي مفتوحـاً على ّ‬ ‫َ‬ ‫فـك أرساره‬ ‫ي َّ‬
‫التخييل ُّ‬
‫ينغلـق على حقيقـ ٍة مـا على أنهـا «الحقيقـة»‪ ،‬وتبقى‬ ‫َ‬ ‫االحتماالت‪ ،‬دون أن‬
‫بورخيـس‬
‫َ‬ ‫األسـئل ُة مطروحـة دو َن جـواب‪ :‬هـل حـدثَ اللقـا ُء‪ ،‬فعلاً‪ ،‬بين‬
‫الشـاب والشـيخُ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الشـاب؟ هـل مـن املمكـن أن يجتمع‬ ‫ّ‬ ‫وبورخيـس‬
‫َ‬ ‫الشـيخ‬
‫نفسـه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املقعـد‬ ‫ي‪ ،‬يف‬ ‫َين‪ ،‬وإن كانـا متشـاب َه ْ‬ ‫ين منفصل ْ‬ ‫باعتبارهما كائ َن ْ‬
‫َين؟‬ ‫واحـد منهما يوجـد يف تلـك اللحظـة‪ ،‬بزمـانٍ ومـكانٍ مختلف ْ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫ن َّ‬ ‫لكـ َّ‬
‫م؟ َمـن الحـاملُ؟ و َمـن املحلـو ُم بـه؟ مـا الفـرقُ بين‬ ‫هـل األمـ ُر واقـ ٌع أم حلـ ٌ‬
‫م شـكالً آخـ َر مـن الحيـاة والوجـود؟‬ ‫الحلـم والواقـع؟ أليـس الحلـ ُ‬
‫تطبيـق التحليـل‬
‫َ‬ ‫النفسي‪ ،‬ال‬
‫ِّ‬ ‫تطبيـق األدب على التحليـل‬ ‫َ‬ ‫يبـدو يل أ َّن‬
‫النفسي‬
‫َّ‬ ‫التحليـل‬
‫َ‬ ‫الطريـق املثمـ ُر الناجـع‪ ،‬ألن‬
‫ُ‬ ‫النفسي على األدب‪ ،‬هـو‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬
‫سـلَّامته عىل أنها «الحقيقـة كلُّها»‪ ،‬يف حني‬ ‫كسـول‪ ،‬رسعـا َن ما يركن إىل ُم َ‬ ‫ٌ‬
‫َ‬
‫السـؤال هو‬ ‫بورخيس‪ ،‬ال يعني ‪-‬يف األصل‪ -‬إلّ أن‬
‫َ‬ ‫وخاصـ ًة مـع‬
‫ّ‬ ‫األدب‪،‬‬
‫َ‬ ‫نجـد‬

‫‪96‬‬
‫هـذا الـذي يبقى حيّــــاً متواصلاً النهائيـاً‪ ،‬وأن اله ّز َة املطلوبـ َة يف القارئ ال‬
‫اسـتوعب أن الكتابـ َة هي هذه التـي ال تنتهي إىل يقنيٍ‪ ،‬أي هي‬
‫َ‬ ‫تتحقَّـق إلّ إذا‬
‫ِ‬
‫تلعـب لعب َة االحتماالت‪ ،‬وتُـــراكم أسـئل ًة عديد ًة تبقـى من دون‬ ‫ُ‬ ‫هـذه التـي‬
‫ٍ‬
‫فكل يشء يبقى معلَّـــقـــــاً‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أي يشء‪ُّ ،‬‬ ‫م َّ‬
‫جـواب‪ ،‬وتنتهـي من دون أن تحسـ َ‬
‫ذلـك ألن الكتابـ َة ال تقـول «الحقيقـةَ» قـد َر مـا تقـول االحتماالت كلَّـــها‬
‫ٍ‬
‫مخبـوءات ال ننتبه إليها‪،‬‬ ‫باألخص)‪ ،‬وتكشـف عـن‬
‫ِّ‬ ‫(املنفيّـ َة املغيّبـ َة منهـا‪،‬‬
‫ِّ‬
‫والشـك والاليقني‪.‬‬ ‫يف حياتنـا ووجودنـا‪ ،‬وهـي التـي تدفعنـا إىل القلـقِ‬
‫باألخـص)‪ ،‬تكمـن‬‫ِّ‬ ‫هكـذا‪ ،‬يبـدو أن قيمـ َة الكتابـ ِة األدب ّيـة‪( ،‬القصصيـ ِة‪،‬‬
‫يف الـذات‪ ،‬كما الحـظ بيير بيـار‪ ،‬يف هـذه «الالبَتِّــ ّية‪،»Indécidabilité-‬‬
‫يبـت يف األمـر‪ ،‬وال يحسـم‪ ،‬ويترك األمـ َر داخـل نـوع مـن‬ ‫ّ‬ ‫فـاألدب ال‬
‫ُ‬
‫ير ممكـنٍ ‪،‬‬ ‫ن وغ ُ‬ ‫الغمـوض وااللتبـاس والتر ِّد ِد والحيرة‪ ،‬فاألمـ ُر ممكـ ٌ‬
‫ين معـا‪:‬‬ ‫النص ْ‬ ‫َّ‬ ‫ألي تفسيرٍ حاسـم يف‬ ‫نفسـه‪ ،‬فلا وجـو َد ِّ‬ ‫ِ‬ ‫يف الوقـت‬
‫تنفتح عىل‬
‫َ‬ ‫بورخيـس وأنـا؛ اآلخَـر‪ ،‬ومـا يشـغل الكتابـ َة األدب ّيـ َة أكثرَ هـو أن‬
‫الفضـاءات امللتبسـة واالحتماالت املتعـدِّدة؛ فهـذا مـا يجعلهـا نقيضـاً‬
‫َ‬
‫امتلاك‬ ‫النفسي) التـي تدّعـي‬ ‫ِّ‬ ‫خطـاب التحليـل‬‫ُ‬ ‫لـكل الخطابـات‪( ،‬ومنهـا‬ ‫ّ‬
‫واملتاهـات مـن دون أن يوصلَــــك‬ ‫ِ‬ ‫فبورخيـس يُعـ ِّد ُد مـن املرايـا‬
‫ُ‬ ‫الحقيقـة‪،‬‬
‫يئ‪ ،‬بـل العكـس‪ ،‬متامـاً؛ ذلـك ألن األمـ َر قـد يقـود إىل‬ ‫ج نهـا ٍّ‬ ‫إىل َمـــخ َر ٍ‬
‫ذهب بعيدا ً‬
‫َ‬ ‫املزيـد من األسـئلة والشـكوك‪ ،‬إىل حـ ِّد أ َّن أنطونيو تابويك قـد‬
‫البورخيسي‪ ،‬عندمـا تسـاءل‪ :‬هـل ُوجـد بورخيـس فعلاً‪ ،‬أم أنـه‬ ‫ّ‬ ‫بالتفكير‬
‫مجـ َّر ُد اختراع من كتَّـاب ومثقَّفني مـن األرجنتني‪ ،‬وأن حياتَه مجـ َّر ُد كتابة؟‬
‫بورخيس هو شـخصي ٌة من‬ ‫َ‬ ‫نقـول إن خورخي لويـس‬ ‫َ‬ ‫«مـن املسـموح لنـا أن‬
‫ن لـه وجـو ٌد باعتبـاره هـو» ‪.‬‬
‫(((‬
‫يحمـل اسـ َمه‪ ،‬مل يكـ ْ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫شـخص‬ ‫ابتـداع‬

‫((( أنطونيو تابويك‪« :‬هل وجد بورخيس فعالً؟»‪ ،‬ضمن مؤلَّــف «بورخيس صانع املتاهات»‪ ،‬ص‪.251‬‬

‫‪97‬‬
‫بيير بيار (‪▲ )1954‬‬
‫بيري بيار‪:‬‬
‫تـطـبـيــق األدب عـلـى الـتـحـلـيـل الـنـفـســي؟‬
‫ُ‬ ‫يـمـكــن‬
‫ُ‬ ‫هـلْ‬

‫شـهد الربـع األخير مـن القـرن املـايض وسـنوات األلفيـة الجديـدة‬


‫إثـرا ًء جديـدا ً واسـتثنائياً للنقـد النفسي‪ ،‬وذلـك مـن خلال استكشـاف‬
‫النصي ومـا قبـل‬
‫ّ‬ ‫ل جديـدة للـدرس والنقـد (مـن أه ّمهـا‪ :‬التكويـن‬ ‫حقـو ٍ‬
‫النـص‪ -‬تطبيـق األدب على التحليـل‬ ‫ّ‬ ‫النصي والوعـي‬
‫ّ‬ ‫النـص ‪-‬التحليـل‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وإشـكاالت‬ ‫َّفـات نقديـ ٍة‪ :‬نظرية وتطبيقية‪ ،‬بأسـئل ٍة‬
‫النفسي)‪ ،‬وصـدور مؤل ٍ‬
‫تتجـاوز تلـك التـي حكمـت مؤلَّفـات النقـد النفسي التقليـدي‪ ،‬وبتص ُّورات‬
‫ومقاربـات الميكـن إلّ أن يكـون لهـا تأثير على مسـتقبل النقـد األديب‪،‬‬
‫بصفـة عا ّمـة‪.‬‬
‫ومـن أبـرز األسماء يف النقـد النفسي الجديـد‪ ،‬ميكـن أن نذكـر‪:‬‬
‫جـان بيلمان نويـل‪ ،‬وأنـدري غريـن‪ ،‬وجـان بيـم‪ ،‬وبرينـار بانغـو‪ ،‬وبـول‬
‫لـوران أسـون‪ ،‬وفيليـب ويلمارت‪ ،‬لكـن األكرثهـم انتظـارا ً‪ ،‬اليـوم‪ ،‬مـن‬

‫‪99‬‬
‫ِقبَـل النقّـاد والقـ ّراء‪ ،‬هـو بيير بيار الـذي يـكاد يخلق «الحـدث» األديب‪،‬‬
‫كل مـ ّرة يَــصدر لـه كتـاب‪.‬‬
‫والثقـايف يف ّ‬
‫والناقـد الفرنسي بيير بيار‪ ،‬املحلّــل النفيس وأسـتاذ األدب بجامعة‬
‫باريـس‪ ،‬ألَّــف العديـد من الدراسـات‪ :‬النظريـة‪ ،‬والتطبيقيـة‪ :‬فمن ‪1978‬‬
‫إىل ‪ ،2016‬يكـون قـد أصـدر مـا يقـارب عرشيـن كتابـاً أو يزيـد‪ .‬والالفـت‬
‫للنظـر‪ ،‬يف مجمـل أعاملـه‪ ،‬أنهـا توظّــف السـخرية واملفارقـة لصالـح‬
‫كل عمـلٍ ‪ ،‬يـأيت املؤلِّــف بشي ٍء مثيرٍ وغير‬ ‫تحليـلٍ أد ِّ‬
‫يب متجـدِّد؛ ففـي ّ‬
‫منتظـر‪ ،‬يفاجـئ القـارئَ باكتشـافاته ومراجعاتـه‪ ،‬بتحقيقاتـه وتعديالته‪،‬‬
‫مختصــاً‬
‫ّ‬ ‫ُسـلَّامت‪ .‬وإذا كان بيري بيار‬
‫بتنقيحاتـه ومسـاءالته لألحكام وامل َ‬
‫يفســر ملـاذا‬
‫ّ‬ ‫يف التحليـل النفسي للأدب‪ ،‬بالـذات‪ ،‬فـإن هـذا هـو مـا‬
‫يجمـع أسـلوبه بين الجـ ِّد واللعـب‪ ،‬وكيـف يقلـب العبـارات‪ ،‬ال مـن أجل‬
‫الكمال ويطمـح إىل الهيمنة‪ ،‬بل مـن أجل فتح‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫جديـد يدَّعـي‬ ‫بنـاء منهـج‬
‫آفـاق جديـدة للتفكير يف األدب بسـخري ٍة الذعـ ٍة ال تؤمـن كثريا ً باألسـس‬
‫الصلبـة التـي يقـوم عليهـا النقـد أو النظريـة‪ .‬ويف إطـار هـذا األسـلوب‬
‫الجديـد‪ ،‬يف التحليـل والتفكير‪ ،‬تنـدرج العديـد مـن مؤلَّفاتـه‪ ،‬التـي‬
‫سـنحاول أن نقـدِّم عـن بعضهـا ورقـة وجيـزة‪ ،‬حتـى يأخـذ القـارئ فكـرة‬
‫خاصـةً‪ ،‬والنقـد األديب عا ّمةً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عـن التحـ ُّوالت التـي يعرفها النقـد النفيس‬
‫األقـل‪ ،‬يف اآلداب الفرنسـية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫أصـدر بيير بيـار‪ ،‬سـنة ‪ ،2004‬كتابــاً تحـت عنـوان «هـل ميكـن تطبيـق‬
‫األدب على التحليـل النفسي؟»(((‪ ،‬يقرتح فيـه‪ ،‬وبغري قليلٍ من السـخرية‪،‬‬
‫نظريـة جديـدة‪ :‬تطبيـق األدب على التحليـل النفسي‪ .‬فـإذا كان املألـوف‬
‫هـو تطبيـق التحليـل النفسي على األدب‪ ،‬فـإن بيير بيـار يدعونـا إىل قلـب‬
‫تطبيـق األدب على التحليـل النفسي؛ وهنـاك‬‫َ‬ ‫األدوار‪ ،‬وذلـك بـأن نجـ ِّرب‬
‫العديـد مـن األسـباب التـي تدعـوه إىل مراجعـة العالقـة بين االثنين‪ ،‬مـن‬
‫النفيس على األدب قد أصابه‬
‫َّ‬ ‫التحليل‬
‫َ‬ ‫أه ِّمهـا أن النقـد األديب الـذي يط ِّبــق‬

‫‪(1) Pierre Bayard, Peut-on appliquer la littérature à la psychanalyse, Minuit, Paris, 2004.‬‬

‫‪100‬‬
‫اإلفلاس‪ ،‬ويعـود السـبب‪ ،‬يف ذلـك‪ ،‬إىل أن تطبيـق التحليـل النفسي على‬
‫العمـل األديب‪،‬‬
‫َ‬ ‫م االنطلاق منهـا‪ ،‬وال ييضء‬
‫األدب يؤكِّـد النظريـة التـي تــــ َّ‬
‫م االعتماد على منهـج يقلـب األشـياء‪ ،‬يكـون بإمـكان‬ ‫و‪-‬بالعكـس‪-‬إذا تَـ َّ‬
‫األدب أن يقـول أشـياء عديـدة للتحليـل النفسي‪.‬‬
‫فســـــر بيير بيـار كيـف أن املعرفـة اإلنسـانية‬ ‫ويف االتِّجـاه نفسـه‪َّ ،‬‬
‫عـرف انطالقتَــــه القويّـ َة يف‬
‫َ‬ ‫حـول الجهـاز النفسي‪ ،‬مل تكـن مسـارا ً بطيئـاً‬
‫وخاصـ ًة يف أواخـره‪ ،‬مـع سـيجموند فرويـد‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫القـرن التاسـع عشر‪،‬‬
‫يعتقـد البعـض‪ ،‬وقـد حـان الوقـت ‪-‬يف رأيـه‪ -‬إلعـادة قـراءة مـا «قبـل»‬
‫مهماً‪ ،‬سـنة ‪ ،1994‬عنوانه‬ ‫ّ‬ ‫التحليـل النفسي‪ ،‬ويف هـذا اإلطـار أصـدر كتاباً‬
‫«موباسـان‪ ،‬بالضبـط‪ ،‬قبل فرويـد»(((‪ ،‬يقرأ فيه املؤلِّــف سـيجموند فرويد‪،‬‬
‫كاتـب سـابق هو موباسـان‪ ،‬كام نجـده يعمل على فحص أعامل‬ ‫ٍ‬ ‫مبسـاعدة‬
‫بعـض املعارصين لــفرويد‪ ،‬وهم الفرويديّون‪ ،‬من مثل بيسـوا‪ ،‬وبروسـت‪،‬‬
‫ــاب ظهـروا بعـد فرويـد‪ ،‬مـن مثـل أنـدري‬ ‫وعلى االنتقـال إىل أعمال كُـتّ ٍ‬
‫بروتـون‪ ،‬وبـول فاليري‪ ،‬وسـارتر‪ ،‬وأجاتـا كريسـتي‪ ...‬وغريهـم‪.‬‬
‫والالفـت‪ ،‬هنـا‪ ،‬أن الناقـد النفسي ‪-‬بهـذا األسـلوب الجديـد‪ -‬يقـوم‬
‫باكتشـاف اإلمكانـات النظريـة التـي ميكـن أن توجد يف فعل الكتابة نفسـه‪،‬‬
‫اكتشـاف هوميروس‪ ،‬وسـوفوكل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ويعلّمنـا كيـف نُـــعيد ‪-‬بلـ َّذ ٍة جديـد ٍة‪-‬‬
‫ح‬
‫كل ذلـك أن يوضِّ َ‬ ‫وشكسـبري‪ ،‬وموباسـان‪ ،‬وهنري جيمـس‪ ...‬وغايتـه مـن ّ‬
‫يكف عن الخلق واإلبداع‪ ،‬ويُـــقدِّم «نظريّ ٍ‬
‫ات‬ ‫الخاص‪ ،‬ال ُّ‬‫ّ‬ ‫أ َّن األدب‪ ،‬مبنطقه‬
‫أخـرى» قابلـة لالكتشـاف‪ ،‬وميكنهـا أن تكـون أكثر تقدُّمــاً ّ‬
‫مما يُــقــدِّمه‬
‫التحليـل النفسي‪.‬‬
‫ُ‬
‫جــــل ‪-‬بسـخري ٍة الذع ٍة‪ -‬أن التحليل النفيس‬ ‫وهو‪ ،‬يف هذا السـياق‪ ،‬يس ِّ‬
‫م بالجهـاز النفيس‪ ،‬وقـام بابتالع‬‫قـد هيمـن على أشـكال املعرفة التي تهتـ ّ‬
‫كل املعـارف املمكنـة‬‫األدب‪ ،‬بشـكلٍ مـن األشـكال‪ ،‬وجلـس على عـرش ّ‬
‫حـول الجهـاز النفسي‪ ،‬مش ّبـهــاً نظـا َم تفكريه‪ ،‬كما ميا َرس اليـوم‪ ،‬بأنظمة‬

‫‪(1) Pierre Bayard, Maupassant, juste avant Freud, Minuit, Paris, 1994.‬‬

‫‪101‬‬
‫املعلوميـات‪ ،‬فالتحليـل النفسي هـو‪ ،System Windows :‬الـذي مـن‬
‫دونـه ال ميكـن الدخـول إىل الجهـاز النفسي‪ ،‬والفرويديـة قـد احتلَّـت‪ ،‬يف‬
‫مقاربـة الجهـاز النفسي‪ ،‬مـكان «مايكروسـوفت» للحواسـيب الفردية‪.‬‬
‫وبالنسـبة إىل بيير بيـار‪ ،‬إذا أردنـا االسـتمرار يف إنتـاج الـــفكر حـول‬
‫الــــذات أو حـول العالقـات بين الكائنـات اإلنسـانية‪ ،‬فـإن سـؤاالً أساسـاً‬
‫يفـرض نفسـه‪ :‬كيـف الخـروج مـن هـذا النظـام يف التفكير؛ نظـام تفكير‬
‫التحليـل النفسي؟‬
‫ويذهـب بالسـؤال بعيـدا ً‪ ،‬فيتسـاءل‪ :‬كيـف الخـروج مـن التحليـل‬
‫جـه نحـو املسـتقبل؟ والجـواب‬ ‫النفسي؛ البالرجـوع إىل الـوراء‪ ،‬بـل بالتو ُّ‬
‫األقـل‪-‬‬
‫ّ‬ ‫الـذي يقرتحـه هـو‪ :‬األدب‪ ،‬مبعنـى أنـه يقترح تطبيـق األدب ‪-‬على‬
‫يف أعاملـه الكبرى‪ ،‬يف دراسـة الجهـاز النفسي؛ فـاألدب ‪-‬يف نظـره‪ -‬ينتـج‬
‫مفهومـات‪ .‬وإذا عدنـا إىل أعمال باسـكال‪ ،‬ورسفانتس‬‫ٍ‬ ‫الخاصـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بطريقتـه‬
‫وفلوبير وبروسـت‪ ،‬وفاليري‪ ،‬وبروتـون‪ ،‬وناتـايل سـاروت‪ ،‬وموباسـان‪،‬‬
‫مفهومـات أخـرى مـن أجـل قـراءة الجهـاز‬‫ٍ‬ ‫وبورخيـس‪ ،‬وزوال‪ ...‬سـنجد‬
‫النفيس‪ .‬ويعطي بيار أمثلة مه ّمــة عن املفهومات التي ميكن اسـتخراجها‬
‫مـن األعمال األدب ّيـة‪ ،‬ويؤكِّـد عىل أن قـ َّوة النامذج األدب ّية تعـود إىل ضوئها‬
‫الهـارب‪ ،‬واسـتبدالها املفهومـات بالكلمات‪ ،‬وعـدم دقَّتهـا النظريـة‪ ،‬وهـي‬
‫‪-‬يف الواقـع‪ -‬التحتـوي إلّ على ممكنـات أو مقاطع نظرية تسـتلزم مشـاركة‬
‫قـ ّراء قادريـن على إبـراز هـذه العملية األ َّوليـة التي تسـبق عمليـة التنظري‪،‬‬
‫والتـي انطالقـاً منهـا يفكًّـر األدب‪ ،‬ويدفـع اآلخريـن إىل التفكير‪ .‬و‪-‬مبعنـى‬
‫آخـر‪ -‬مـن أجـل أن نجعـل مـن النماذج األدبيّـة نسـقاً منافسـاً لألمنـوذج‬
‫الفرويـدي‪ ،‬البـ ّد من تحويل الكلمات إىل مفهومات؛ وهو ما يعني اسـتيالد‬
‫التحليـل النفسي مـن األعمال األدبيّـة نفسـها‪.‬‬
‫وخاصـ ًة كتابـه «هـل ميكـن تطبيق‬
‫ّ‬ ‫إجماالً‪ ،‬إن أه ّم ّيـة أعمال بيير بيـار‪،‬‬
‫التحليـل النفسي على األدب؟»‪ ،‬تعـود إىل أنـه أحـدث تحـ ُّوالً يف هويـة‬
‫الناقـد‪ ،‬املحلِّـل النفسي للأدب‪ ،‬فهـو مل يعـد ذلـك الـذي ينطلـق مـن‬
‫معرفـ ٍة نفسـاني ٍة جاهـز ٍة‪ ،‬يطبِّــقها على مختلف النصـوص‪ ،‬بل إنـه هو هذا‬

‫‪102‬‬
‫م مبختلـف النظريات النفسـانية املوجـودة‪ ،‬عىل‬ ‫الـذي يعمـل‪ ،‬بعد أن يُــل َّ‬
‫كل معرفـة جاهـزة‪ ،‬وهـو هذا الذي يوسـع من قراءاتـه بطريقة‬ ‫التحـ ُّرر مـن ِّ‬
‫تسـمح بتطويـر معارفـه النفسـانية‪ ،‬وتجديدهـا باسـتمرار؛ وهـذا كلـه هـو‬
‫مـا يسـمح بالحديـث عـن املحلِّـل القـارئ‪ ،‬باملعنـى الـذي يقصـده جـان‬
‫فرانسـوا شـيانتاريتو(((‪ ،‬هـذا الذي وضَّ ــح أن األمـر ال يتعلّق‪ ،‬هنـا‪ ،‬باملحلِّل‬
‫النفسـاين الـذي ميلـك املعرفـةَ‪ ،‬والحقيقـ َة كلّها‪ ،‬فلا وجود ملحلِّــلٍ بهذا‬
‫‪-‬فحسـب‪ -‬صيرور ُة محــلِّلٍ البـ ّد مـن بنائهـا باسـتمرار‪،‬‬
‫ُ‬ ‫املعنـى‪ ،‬بـل هنـاك‬
‫وهـذا البنـاء‪ ،‬باسـتمرار‪ ،‬ال يتحقَّـق إلّ بالقـراءة املتواصلـة التـي التعـرف‬
‫الجمـود واالنقطـاع؛ مبعنـى أن األمـر يفرض الحديـث عن املحلِّــل القارئ‬
‫الـذي ال ميكـن اختزاله يف محلِّـــل الجلسـات العالجية؛ فاملحلِّــل القارئ‬
‫املنطلـق الاملنتهى‪،‬‬
‫َ‬ ‫هـو الـذي يقرأ باسـتمرار‪ ،‬هو الـذي يجعل من القراءة‬
‫فتتجـدَّد قراءاتـه األدبيّـة انطالقــاً مـن جديـد األدب‪ ،‬ومـن قدميـه‪ ،‬وال‬
‫يسـتند إىل معرفـ ٍة نقديـة نفسـاني ٍة جاهـزة‪ ،‬بـل إنـه يجـدِّد معرفتـه األدبيّة‬
‫ومعرفتـه النفسـانية انطالقاً مـن قراءاته املتواصلة‪ ،‬بالشـكل الذي يخلق‪،‬‬
‫النص واملنهج‬ ‫ّ‬ ‫باسـتمرارٍ‪ ،‬حـوارا ً داخليّاً بني األدب والتحليل النفسي‪ ،‬بني‬
‫والنظريـة‪ ،‬مـن أجـل فهـمٍ متجـ ِّد ٍد لإلنسـان‪ ،‬ولغتـه‪ ،‬وأدبه‪.‬‬
‫مؤسـس التحليـل النفسي سـيجموند‬
‫ِّ‬ ‫بإيجـاز‪ :‬يكفـي أن نسـتحرض أن‬
‫وروائيي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫اعترف بأن أعمال املبدعني‪ ،‬من شـعراء‬ ‫فرويـد‪ ،‬هـو نفسـه من‬
‫مما يعرفـه املحلِّـل النفيس‪:‬‬
‫تعـرف أكثر ّ‬
‫«إن الشـعرا َء والروائ ِّيين هـم أعـ ُّز حلفائنـا‪ ،‬وينبغـي لنـا أن نُــقدِّر‬
‫ن تقدير‪ ،‬ألنهم يعرفون أشياء‪ ...‬مل تتمكَّن‪ ،‬بعدُ‪ ،‬حكمتُـنا‬ ‫شهادتَـهم أحس َ‬
‫املدرسـية مـن الحلم بها‪ .‬فهـم يف معرفة النفس ُمـ َعـلِّــمونا نحن ‪-‬معرش‬
‫العا ّمـة‪ -‬ألنهـم ينهلـون من مـوارد‪ ،‬مل نفلح‪ ،‬بعدُ‪ ،‬يف تسـهيل ورودها عىل‬
‫العلم» (((‪.‬‬

‫‪(1) Jean- François Chiantaretto, De l’acte autobiographique, le psychanalyste et l’écriture‬‬


‫‪Autobiographique, Seyssel, Champ Vallon, 1995.‬‬
‫‪(2) S. Freud -Délire et rêves dans la GRADIVA de JENSEN, NRF, 1970, p 127.‬‬

‫‪103‬‬
‫(الفصل الرابع)‬

‫مـا مـعــنـى أنْ يـكــون الـنـقــد محـكـيـًّـا نظــريـًّـا؟‬

‫‪105‬‬
‫النفيس كتابةَ الرواية البوليسيـّة‬
‫ّ‬ ‫عندما ُيـعيد الناقد‬

‫مسـتقلً؛ بوصفهـا‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬


‫الشـك يف أن للروايـة البوليسـية‪ ،‬اليـوم وجـودا ً‬
‫جنسـاً أدبيـاً لـه مـا مي ّيـزه‪ ،‬شـكالً وموضوعـاً ‪ ،‬اعرتفـت بـه العديـد مـن‬
‫(((‬

‫الدراسـات األدب ّيـة‪ :‬النظريـة والتطبيقيـة (بورخيـس‪ ،‬كايـوا‪ ،‬ولسـون‪،‬‬


‫تـودوروف‪ ،‬بيـار‪ .)...‬وقـد ت َ َبلْـ َور هـذا الجنـس األديب يف القـرن التاسـع‬
‫عشر(((‪ ،‬بفضـل التطـ ُّورات التـي عرفتهـا املدينـة األوربيـة ومعارفهـا‬
‫وفنونهـا وتقنياتهـا ومناهجهـا يف التحقيـق والبحث عـن الحقيقة‪ ،‬وعرف‬
‫تطـ ُّورات ملحوظـة جعلـت الدارسين يعملـون على تصنيفـه إىل أنـواع‬
‫وأشـكال‪،‬إل أنـه غالبـاً مـا يختـزل تعريفـه يف اعتبـاره شـكالً ف ِّن ّيـاً يطـرح‬
‫ّ‬

‫((( ُينظَ ر‪:‬‬


‫‪Marc Lits: Le roman policier, introduction à la théorie et à l’histoire d’un genre littéraire,‬‬
‫‪Liège, ed. CEFAL, 2eme édition, 1999, p. 21.‬‬
‫جداً‪ ،‬فبيري بيار يرى يف «امللك‬
‫((( مع أن أصول هذا الجنس أو بداياته األوىل‪ ،‬يجدها بعض الباحثني قدمية ّ‬
‫وضح‬
‫أوديب» اإلغريقية البداية األوىل‪ّ ،‬إل أن الرواية البوليسية‪ ،‬بخصائصها الحديثة‪ ،‬تكون قد تبلورت‪ ،‬كام َّ‬
‫مارك ليتس يف الكتاب املذكور أعاله (ص ‪ ،)27‬يف القرن التاسع عرش‪ ،‬مع إدغار آالن بو‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫للحـل‪ ،‬ويتألَّف من مجموعة عنارص أسـاس‪:‬‬
‫ّ‬ ‫لغـزا ً جرميــاً واحـدا ً أو أكرث‬
‫جرميـة مسـتعصية على التفسير‪ ،‬ضح ّيـة‪ ،‬محقِّـق‪ ،‬اسـتدالل افرتايض‬
‫حـل نهـايئ‪...‬‬
‫اسـتنباطي‪ ،‬و‪-‬أخيرا ً‪ّ -‬‬
‫وإذا كان صحيحــاً أن هـذا الجنـس األديب قـد طالـه التهميـش النقـدي‬
‫واألكادميـي مـدّة طويلـة حتـى يف ديـاره الغربيـة‪ ،‬بالرغـم مـن انتشـاره‬
‫األصـح أنـه نـال اهتاممــاً الفتــاً‪ ،‬نهايـة القـرن‬
‫ّ‬ ‫ي‪ ،‬فـإن‬
‫وشـعبيَّته الواسـ َع ْ‬
‫األخـص يف النقـد والفلسـفة‬
‫ّ‬ ‫العرشيـن وبدايـة األلفيـة الجديـدة‪ ،‬وعلى‬
‫والتحليـل النفسي‪.‬‬
‫وإذا اسـتحرضنا األدب الـروايئ العـريب‪ ،‬فـإن الالفـت للنظـر هـو قلّـة‬
‫اإلنتـاج يف هـذا الجنـس مـن الروايـة‪ ،‬يف البلاد العرب ّيـة‪ ،‬فكُـتَّــاب الروايـة‬
‫أقـل بكثري؛ إلّ أنه‪ ،‬يف السـنوات‬ ‫البوليسـية قلّـة قليلـة يف بلداننـا‪ ،‬ونقّادها ّ‬
‫القليلـة األخيرة‪ ،‬ظهـرت مقـاالت وكتابـات نقديـة تطـرح ‪-‬بإلحـاح‪ -‬أسـئلة‬
‫يف املوضـوع‪ :‬ملـاذا مل تظهـر الروايـة البوليسـية‪ ،‬يف البلـدان العربيّـة‪،‬‬
‫بالقـ ّوة والنوعيـة اللتين ظهـرت بهما يف أكثر مـن منطقـة يف العـامل‪،‬‬
‫ومنـذ مـدة بعيـدة يف بعـض مناطقـه؟ ماذا عـن نقـد الرواية البوليسـية يف‬
‫النقـد العـريب املعـارص؟ ملـاذا طـال اإلهمال الكتابـات النقديـة للروايـة‬
‫مم حقَّقته مـن تراكامت وتحـ ُّوالت يف املنهج والرؤية‬
‫البوليسـية‪ ،‬بالرغـم ّ‬
‫وتغيير النظـرة إىل الروايـة البوليسـية؟‬
‫ومـن أجـل لفـت األنظـار إىل الروايـة البوليسـية‪ ،‬كما إىل نقدهـا‬
‫يؤسسـها بيير‬
‫املعـارص‪ ،‬نتوقَّـف قليلاً عنـد هـذه العالقـة الجديـدة التـي ِّ‬
‫بيـار‪ ،‬بوصفـه ناقـدا ً ومحلِّلاً نفسـياً‪ ،‬بالروايـة البوليسـية‪.‬‬
‫مـن الكتـب الالفتـة التـي أصدرها بيير بيـار‪ ،‬تلك التـي ك ّرسـها للروايات‬
‫ن قَتَل روجري أكرويد؟‬‫واملحك ّيـات البوليسـية‪ ،‬ويتعلّق األمر بثالثة كتـب‪َ :‬م ْ‬
‫م (‪ -)2002‬قضيّة كلب آل‬
‫(‪- )1998‬تحقيـق يف قضيّـة هاملت‪ ،‬أو حوار الصـ ّ‬

‫‪108‬‬
‫باسـكرفيل (‪ .((()2008‬ونشير‪ ،‬برسعة‪ ،‬إىل أه ِّميّة هذه الكتب‪ ،‬وذلك بطرح‬
‫م املحلِّـل النفسي‬ ‫ين يف هـذا املقـام‪ :‬ملـاذا يهتـ ّ‬
‫سـؤالني يبـدوان رضوريَّ ْ‬
‫(وخاص ًة رواية‬
‫ّ‬ ‫يخـص‪ ،‬بالتحليل‪ ،‬أعامالً أدبيّـة‬
‫ّ‬ ‫بالروايـة البوليسـية؟ وملاذا‬
‫أجاثـا كريسـتي «مقتـل روجير أكرويـد»‪ ،‬ومرسحيـة شكسـبري «هاملـت»)‪،‬‬
‫أسـالت الكثير من املداد‪ ،‬ودرسـها الكبار من النقّــاد؟‬
‫ي‬
‫يتأ َّمـل بيير بيـار تاريـخ العالقـة بين التحليـل النفسي واملحك ّ‬
‫البوليسي‪ ،‬الفتــاً النظـر إىل التأثري الباطني الذي مارسـه الثاين عىل األ َّول‪،‬‬
‫مشيرا ً إىل ثالثـة أعمال أدبيّـة أث ّـرت كثيرا ً يف نظريـة التحليـل النفسي‪:‬‬
‫امللـك أوديـب ‪-‬هاملت‪ -‬الرسـالة املرسوقـة‪ ،‬وهي ‪-‬يف نظره‪ -‬أعمال أدبيّة‬
‫ين‪:‬‬‫َين جوهريَّتَ ْ‬
‫يتأسـس على فكرت ْ‬ ‫َّ‬ ‫«بوليسـية»‪ ،‬جعلـت التحليـل النفسي‬
‫تفك لغزا ً‪ ،‬والثانيـة أن هناك حقيقة‬ ‫األوىل تفيـد أن إنتـاج املعنـى يعنـي أن ّ‬
‫موجـودة يف مـكانٍ مـا‪ ،‬وأن بحثــاً أو تحقيقــاً مـا ميكنـه إبرازهـا؛ مـن هنـا‪،‬‬
‫يفك لغزا ً‪ ،‬وأن يبحـث عن الحقيقة؛‬ ‫تكـون وظيفة املحلّــل النفيس هـي أن ّ‬
‫مبعنـى آخـر‪ :‬مل يعـد دور املحلّـل هـو دراسـة العمـل األديب أو كاتبـه‪ ،‬بل‬
‫إنـه لـن يكـون محلِّلاً حقيق ّيـاً إلّ إذا أدّى دور الباحـث املحقّــق‪ ،‬منافســاً‬
‫بذلـك أكبر املحقّــقني يف األدب البوليسي‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ينطلق بيري بيار‪ ،‬يف هذه الدراسـات الثالث‪ ،‬من أسـئلة أسـاس‪:‬‬
‫مـاذا لـو كانـت هنـاك حقيقـة أخـرى داخـل العمـل األديب «البولييس» غري‬
‫التـي اقتنـع بهـا القـ ّراء والنقّـاد لزمـن قـد يصـل إىل قـرون‪ ،‬كما يف حالـة‬
‫«هاملـت» لشكسـبري؟ مـاذا لـو كانـت الروايـة البوليسـية‪ ،‬هـي األخـرى‪،‬‬
‫مرسحــاً لألخطـاء القضائيـة والتحقيقـات الخاطئـة؟ أمل يسـبق لفولتير‬
‫معبرا ً عـن تحفّــظاته مـن املسـؤولية‬
‫ّ‬ ‫أن قـام بهـذا النـوع مـن التحقيـق‪،‬‬
‫الجنائيـة للملـك أوديـب؟ مـاذا لـو كان املحقّــقون يف الروايات البوليسـية‬
‫مخطئني يف اسـتدالالتهم ومنطقهم وخالصاتهم‪ ،‬كام هو الشـأن بالنسـبة‬

‫‪(1) Pierre Bayard: Qui a tué Roger Ackroyd?,ed. Minuit, Paris, 1998. ,Enquête sur Hamlret,‬‬
‫‪Le dialogue des sourds, Minuit, Paris, 2002, L’Affaire du chien des Baskerville, Minuit,‬‬
‫‪Paris, 2008.‬‬

‫‪109‬‬
‫إىل املحقِّـق هرقـل بـوارو يف روايـة «مقتـل روجير أكرويـد»‪ ،‬أو كما هـو‬
‫األمـر بالنسـبة إىل املحقِّـق رشلوك هوملـز يف «قضيّة كلب باسـكريفيل»؟‬
‫وهـذه األسـئلة هـي التـي دفعـت بيير بيـار إىل وضـع منطلقـات جديدة‬
‫للنقـد النفسي للروايـة البوليسـية‪ ،‬مـن أه ِّمهـا أن مه ّمــة املحلّــل هـي أن‬
‫يقـوم بتحقيـق مضادّ‪ ،‬فاملجرمون‪ ،‬يف األدب كما يف الحياة‪ ،‬قادرون عىل‬
‫اإلفالت من تحقيقات املحقّــقني‪ ،‬والشـخصيات األدب ّية ليسـت شخصيات‬
‫ورقيـة‪ ،‬بـل هـي شـخصيات ح ّيـة ميكنهـا أن ترتكـب جرائـم مـن دون علـم‬
‫ن هنـاك‪ ،‬دامئاً‪ ،‬فرصة إلعـادة التحقيقـات من جديد‪،‬‬ ‫الكاتـب املؤلّـف‪ ،‬لكـ ّ‬
‫وكشـف النقـاب عـن الحقيقة‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬يطـرح بيير بيار‪ ،‬يف كتابـه «تحقيق يف قض ّية هاملـت‪ ،‬أو حوار‬
‫قتل والد األمري هاملت؟ وهل كلوديوس‬ ‫ن َ‬ ‫م» السـؤال من جديد‪َ :‬مـــ ْ‬ ‫الصــ ّ‬
‫ّ‬
‫هـو القاتـل‪ ،‬فعلاً‪ ،‬كما اعتقـد القـ ّراء‪ ،‬لقـرون؟ ويخلـص بيـار‪ ،‬يف كتابـه‬
‫هـذا‪ ،‬إىل اتِّهـام هاملـت نفسـه بقتـل أبيـه؛ اسـتنادا ً إىل حجـج ومنطـق يف‬
‫التحليـل يدفعـان‪ ،‬فعلاً‪ ،‬إىل إعـادة النظـر يف القض ّيـة‪ .‬ويف كتابـه «قض ّية‬
‫كلـب آل باسـكريفيل»‪ ،‬يفترض بيـار أن املحقِّـق رشلـوك هوملـز قـد أخطـأ‬
‫الحقيقـي ينفلت‬
‫َّ‬ ‫القاتل‬
‫َ‬ ‫يف تحقيقـه املشـهور باتِّهـام حيـوانٍ بائس‪ ،‬وت َ‬
‫َـرك‬
‫مـن يـد العدالـة‪ .‬إجماالً‪ ،‬بغري قليـلٍ من السـخرية‪ ،‬واقتناعــاً بأن الكُــتّاب‬
‫بعض الكُــتّاب‬
‫َ‬ ‫كل يشء عـن أعاملهـم‪ ،‬يالحظ بيير بيار كيف أن‬ ‫اليعلمـون َّ‬
‫قـد يخطئـون بخصـوص مرتكبـي الجرائـم يف أعاملهـم‪ ،‬وهـم‪ ،‬بذلـك‪،‬‬
‫يرتكـون املجرمني أحـرارا ً!‪.‬‬
‫وال تعـود أه ِّم ّيـة هـذه الدراسـات إىل كونهـا تكشـف االسـم الحقيقـي‬
‫ين‪ :‬األوىل أنهـا دراسـات‪،‬‬ ‫ين اثنتَ ْ‬
‫للقاتـل‪ ،‬بـل إن قيمتهـا تتعلّـق بخاص َّيتَ ْ‬
‫تقترح علينـا التفكير‪ ،‬مـن جديـد‪ ،‬يف عمـل املـؤ ِّول أو القـارئ وطريقـة‬
‫اشـتغاله‪ ،‬والثانيـة أن بيير بيار نجح يف تأسـيس نوع جديد مـن النقد‪ ،‬نقد‬
‫يؤسـس نوعــــــاً أدبيـاً جديدا ً‬
‫األصـح أنه اسـتطاع أن ِّ‬
‫ّ‬ ‫الروايـة البوليسـية‪ ،‬أو‬
‫يقـوم على ثالثـة عنـارص‪ :‬روايـة بوليسـية‪ ،‬وكتـاب حـول القـراءة‪ ،‬وتفكير‬
‫يك البوليسي النظري؛‬ ‫يف التأويـل؛ وهـو نـوع أديب ميكـن أن نسـ ّميه‪ :‬املح ّ‬

‫‪110‬‬
‫كل دراسـ ٍة من هذه الدراسـات الثلاث‪ ،‬نجده يقدِّم‬‫ذلـك ألن بيير بيـار‪ ،‬يف ّ‬
‫روايـة بوليسـية داخـل الرواية البوليسـية‪ ،‬وقاتالً وراءه قاتل آخـر‪ ،‬وتحقيقاً‬
‫وراءه تحقيـق آخـر‪.‬‬
‫وهـذا املنهـج الجديـد يف نقد الرواية البوليسـية‪ ،‬كان قد بـدأه بيري بيار‬
‫يف كتابـه األ َّول مـن نوعـه «مـن قَتَـل روجير أكرويـد»؟(((‪ ،‬وعنـوان الكتـاب‬
‫دال على أن بيـار يعـود‪ ،‬بالتحقيـق‪ ،‬إىل نقطة الصفر‪ ،‬فالقاتل الذي عيَّـــنه‬ ‫ٌّّ‬
‫املحقّــق هركيـول بـوارو‪ ،‬يف الروايـة‪ ،‬ليس هـو القاتل الحقيقـي؛ من هنا‪،‬‬
‫البـ ّد مـن العـودة إىل نقطـة البدايـة‪ :‬مـن قتل روجير أكرويـد؟‪ ،‬أي الب ّد من‬
‫ملـف روجيـه أكرويـد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫محقِّـق آخـر (هـو بيير بيـار نفسـه) يعيـد النظـر يف‬
‫كل قارئٍ ‪،‬‬‫وينطلـق بحثــاً عـن املجـرم الـذي مل يَ َنلْـه العقـاب‪ ،‬كأمنـا على ِّ‬
‫بعـد قـراءة روايـة بوليسـية‪ ،‬أن ميـ َّد العدالـة بكافّـة املعلومـات التي يكون‬
‫ٍ‬
‫لغرض‬ ‫قـد حصـل عليهـا‪ ،‬ومل ينتبه إليها املحقِّـق األ َّول‪ ،‬أو كان قد أخفاها‬
‫مـن األغراض‪.‬‬
‫وألن األمـر يتعلّـق بتحقيـقٍ مضـادّ‪ ،‬يبـدو كتـاب بيير بيـار «مـن قَتَـل‬
‫روجيـه أكرويـد؟»‪ ،‬كأنـه «روايـة بوليسـية على روايـة بوليسـية»‪ ،‬كأمنـا‬
‫الناقـد يـأيت بديلاً للكاتـب‪ ،‬كأمنـا الروايـة تسـتبدل مؤلِّفهـا‪ :‬كيـف ذلـك؟‬
‫دعونـا نستكشـف األمـر‪:‬‬
‫يحيـل عنـوان الكتـاب‪« :‬مـن قَتَـل روجير أكرويـد؟»(((‪ ،‬الصـادر سـنة‬
‫‪ ،1998‬على الروايـة املشـهورة للكاتبـة االنجليزيـة أجاثـا كريسـتي(((‪:‬‬
‫«مقتـل روجير أكرويـد»‪ ،‬الصـادرة سـنة ‪ .1926‬يف هـذه الروايـة‪ ،‬تحـاول‬

‫العربية‪ ،‬وصدر يف القاهرة عن «دار رؤية» للنرش والتوزيع‪ ،‬سنة ‪،2015‬‬ ‫ّ‬ ‫((( ترجمت هذا الكتاب إىل اللّغة‬
‫بعنوان‪« :‬الرواية البوليسية والتحليل النفيس‪َ ،‬مــن قَتلَ روجيه أكرويد؟»‬
‫العربية لهذه الرواية‪ ،‬نستعني بالرتجمة التي أصدرتها «دار األجيال» للرتجمة والنرش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫((( بخصوص الرتجمة‬
‫(املرتجم)‪.‬‬
‫((( أجاثا كريستي‪ :‬كاتبة إنجليزية‪ُ ،‬ولدت يف جنوب إنجلرتا عام ‪ ،1890‬وتعترب من كبار مؤلِّفي الرواية‬
‫البوليسية‪ ،‬بروايات عديدة تدلّ عىل ذكاء خارق‪ ،‬ومقدرة مذهلة عىل رواية األلغاز‪ ،‬وتوفِّيت سنة ‪ ،1976‬بعد‬
‫أن كتبت سريتها الذاتية‪ :‬من رواياتها‪ :‬جرمية قتل يف قطار الرشق الرسيع ‪-‬موت عىل النيل‪ -‬جرمية يف العراق‬
‫‪-‬الستارة‪ -‬األربعة الكبار‪ -‬جرمية قتل باملرتو‪ -‬جرمية يف املرآة‪ -‬ثالثة عرش لغزاً‪...‬‬

‫‪111‬‬
‫الكاتبـة أن تكشـف من خالل محقّــقها املشـهور(((‪ ،‬السـيِّد بـوارو‪ ،‬حقيقة‬
‫مقتـل روجير أكرويـد‪ ،‬لتصـل‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬هـي ومحقّــقها‪ ،‬إىل أن القاتل‬
‫هـو السـارد نفسـه‪ ،‬وهـذه الخالصـة هـي التـي مل يقتنـع بهـا بيير بيـار‪،‬‬
‫داعيـاً إىل تحقيـقٍ مضـادٍّ‪ ،‬وإىل طـرح سـؤال املنطلـق‪ ،‬مـن جديـد‪َ :‬مـــ ْ‬
‫ن‬
‫قتـل روجير أكرويـد؟‬
‫أحـب السـيِّدة فيرارز‪ ،‬وطلبهـا‬ ‫َّ‬ ‫غنـي‪ ،‬أرمـل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫رجـل‬
‫ٌ‬ ‫وروجير أكرويـد‪،‬‬
‫للـزواج‪ .‬لكـن‪ ،‬يبـدو أنـه عـرف أكثر م ّمــا ينبغـي لـه؛ فقـد عـرف أن املـرأة‬
‫م‪ ،‬وعرف أن شـخصاً ما‬ ‫التـي أحبّــها قـد قتلـت زوجها الراحل بواسـطة السـ ّ‬
‫يبت ّزهـا‪ ،‬وجـاءه الخبر الجديـد بأن هذه املـرأة قد انتحرت‪ ،‬ومل ّـا حمل إليه‬
‫م اسـم الرجل الـذي كان يبتـ ّز السـ ِّيدة املنتحرة‪،‬‬ ‫بريـد املسـاء رسـال ًة تضـ ّ‬
‫ن يقتلـه ويتخلّـص منـه‪ .‬وبالنسـبة إىل السـ ِّيد بـوارو‪ ،‬املحقِّـق يف‬ ‫يـأيت َمـ ْ‬
‫جرميـة قتـل السـ ِّيد أكرويـد‪ ،‬القاتـل هـو الدكتـور شـيبارد الذي مل يكـن إلّ‬
‫السـارد نفسه‪.‬‬
‫والشـك يف أن هـذه النهايـة التـي انتهـى إليهـا املحقِّـق‪ ،‬ثـم الكاتبـة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تفس‬
‫ِّ‬ ‫جعلـت مـن هـذه الرواية أشـهر الكتب يف التاريـخ األديب‪ ،‬وهـي التي‬
‫حضورهـا يف دراسـات نقّـاد كبـار‪ ،‬مـن مثـل روالن بـارت‪ ،‬وأمربتـو إيكـو؛‬
‫ذلـك ألن هـذه النهايـة تكشـف أن القاتـل هو الدكتور شـيبارد الـذي مل يكن‬
‫ٍ‬
‫بسـيط هو أنه‪ ،‬هو نفسـه‪ ،‬السـارد يف‬ ‫لسـبب‬
‫ٍ‬ ‫شـك من ِقبَل الق ّراء‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫موضع‬
‫هـذه الرواية‪.‬‬
‫بهـذه النهايـة‪ ،‬تكـون الكاتبـة أجاثـا كريسـتي قـد خلقـت املفاجـأة‪،‬‬
‫رضوري يف هـذا النـوع مـن األدب‪ ،‬لكنهـا ‪-‬بذلـك‪ -‬تكـون قـد‬
‫ٌّ‬ ‫ر‬
‫وهـي عنص ٌ‬
‫انتهكـت عنصرا ً جوهريـاً يف ميثـاق القـراءة الضمنـي الـذي يربـط بين‬
‫مؤلِّـف الروايـة البوليسـية وجمهورهـا‪ ،‬ومـن مقتضيـات هـذا امليثـاق أن‬
‫القاتـل لـن يكـون‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬هـو السـارد‪ .‬ويف روايـة «مقتـل روجير أكرويد»‪،‬‬

‫وكرست له‬
‫((( ظهر املحقِّق بوارو يف إحدى الروايات األوىل ألجاثا كريستي «جرمية غامضة يف ستايلز»‪ّ ،‬‬
‫الكاتبة أكرث من ثالثني رواية ليصبح من أشهر رجال التحقيق‪ ،‬إىل جانب رشلوك هوملز‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫مل يكـن القـارئ ليتصـ َّور أن السـارد الـذي يجمعه به ميثاق ثقـ ٍة هو القاتل‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫الـكل بـأن السـارد هـو القاتـل‪ ،‬واسـمه هـو الدكتـور‬
‫ّ‬ ‫هكـذا‪ ،‬اقتنـع‬
‫شـيبارد‪ ،‬الـذي قـ ّرر أن ينتحر‪ ،‬بعـد أن اتَّهمه املحقِّق هركيـول بوارو‪ .‬وبدا‬
‫ل للتفكري يف‬‫للقـ ّراء والنقّـاد‪ ،‬على السـواء‪ ،‬أنـه مل يعـد هنـاك مـن مجـا ٍ‬
‫حقيقـة القاتـل‪ ،‬وأن املجـال الوحيد الذي يبقى للـدرس والتفكري هو بناء‬
‫القاتـل هو السـارد نفسـه؟‬
‫ُ‬ ‫الروايـة‪ :‬كيـف يكـون‬
‫وبعيـدا ً عـن الدراسـات التـي اقتنعـت بالنهايـة املقرتحـة مـن طـرف‬
‫املحقِّـق هركيـول بـوارو‪ ،‬وانكبّـت على معالجـة املشـاكل النظريـة التـي‬
‫تطرحهـا خصائـص البنـاء وخصائـص السـارد يف هـذه الروايـة‪ ،‬هاهـو‬
‫محقّـق غير مشـكوك يف أمـره‪ ،‬يدخل إىل خشـبة املسرح؛ إنه بيير بيار‬
‫الـذي مل يقتنـع بتلـك النهايـة‪ ،‬ومل يقـ ِّرر االهتمام باملشـاكل النظريـة‬
‫التـي ترتت َّـب عـن رواية تجعل السـارد نفسـه هـو القاتل‪ ،‬بل قـ ّرر أن يطرح‬
‫السـؤال مـن جديـد‪ :‬مـن قَتَـل روجير أكرويـد؟‪ ،‬وأن يعـود بالتحقيـق إىل‬
‫نقطـة الصفـر‪ ،‬واضعــاً النتائـج التـي َّ‬
‫توصـل إليهـا املحقِّـق‪ ،‬ثـم الكاتبـة‪،‬‬
‫شـك وسـؤالٍ‪ ،‬مفرتضــاً أن عـامل الروايـة يتجـاوز الحـدود التـي‬ ‫ٍّ‬ ‫موضـع‬
‫يضعهـا لـه مؤلِّفـه‪.‬‬
‫يف كتابـه « َمـــن قَتَـل روجير أكرويـد؟»‪ ،‬يعيـد بيير بيـار البحـث‬
‫بـكل يش ٍء‪ ،‬واضعــاً يـده‬‫ِّ‬ ‫والتحقيـق‪ ،‬غير مقتنـع بـأن الكاتبـة على علـمٍ‬
‫عما أصـاب‬ ‫النقـاب ّ‬
‫َ‬ ‫على تناقضـات املحكي والشـخصيات‪ ،‬وكاشفــــــاً‬
‫املحقِّـق‪ ،‬والقـارئ‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬مـن ع ًمى أمام أمـور وقرائن واضحـة وبديهية‪،‬‬
‫عما إذا مل تكـن «أنـا» هـي «آخَـر»‪.‬‬ ‫ومتسـائالً يف النهايـة‪ّ ،‬‬
‫هكـذا‪ ،‬وتبعــاً للتحقيـق الـذي أجـراه بيير بيـار‪ ،‬واسـتنادا ً إىل حجـج‬
‫النـص‪ ،‬يكـون القاتـل الحقيقـي هـي كارولين شـيبارد‪ ،‬أخـت‬ ‫ّ‬ ‫واضحـ ٍة يف‬
‫الدكتـور شـيبارد‪ ،‬الـذي ات َّهمـه املحقِّـق هركيـول بـوارو؛ فهـي ‪-‬مقارنـ ًة‬
‫ر األقـوى يف العائلـة‪ ،‬وتلعـب دو َر األ ِّم بالنسـبة إىل‬ ‫بأخيهـا‪ -‬العنص ُ‬
‫أخيهـا‪ ،‬وهـي مسـتعدّة للقتـل مـن أجـل حاميته‪ ،‬وشـخصيَّتها أقـرب إىل‬

‫‪113‬‬
‫حب متبادل‪ :‬هـي التي قتلت‬ ‫شـخصية القاتـل‪ ،‬وبينهـا وبني أخيها عالقـة ٍّ‬
‫أكرويـد ألنـه كان يعـرف أن أخاهـا الدكتـور شـيبارد يبتـ ّز السـيِّدة فيرارز‪،‬‬
‫وأخوهـا الطبيـب يتَّهـم نفسـه‪ ،‬أو يقبـل أن يُتَّهـم بالقتـل‪ ،‬وينتحر لحامية‬
‫أختـه؛ القاتـل الحقيقـي‪ .‬وبهـذا‪ ،‬تتحـ َّول الحكايـة‪ ،‬يف هـذه الروايـة‪ ،‬من‬
‫ل بين أخ وأختـه‪ ،‬وميكـن‬ ‫حـب متبـاد ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫ل قـذر ٍة إىل حكايـة‬
‫حكايـة أمـوا ٍ‬
‫‪-‬باملعنـى النفسي‪ -‬أن نقـول إنهما شـخصية واحـدة‪ ،‬وهـي املسـؤولة‬
‫عـن مـوت روجير أكرويـد‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬تكـون الحقيقـة الوحيـدة يف روايـة أجاثا كريسـتي هـي مقتل‬
‫روجير أكرويـد‪ ،‬وتبقـى البقيـة موضـع تأويـل‪ .‬والتأويـل الـذي تب ّنـاه‬
‫املحقِّـق بـوارو ليـس خاطئـاً فحسـب‪ ،‬بـل هـو جرميـة قتـل؛ ذلـك ألنـه‬
‫التأويـل الـذي دفـع الدكتـور شـيبارد إىل االنتحـار‪ .‬ويف نظـر بيير بيـار‪،‬‬
‫ليسـت هـذه هـي املـ ّرة األوىل التـي يَ ْقتَـل فيهـا هركيـول بـوارو‪ ،‬ففـي‬
‫روايـة‪« :‬السـتارة» قتـل رجلاً ببرودة دمٍ بعـ َد أن عـرف أنـه املجـرم‪ ،‬لكن‬
‫الجديـد يف روايـة «مقتـل روجري أكرويـد» هو أن تأويـل املحقّق بوارو مل‬
‫يكن محكمــاً وصارمــاً‪ ،‬كام يدَّعي‪ ،‬بل كان نوعـــــــاً من الهذيان العنيف‬
‫الـذي أجبر الدكتـور شـيبارد على االنتحـار‪.‬‬
‫التعـود أه ِّميّـة كتـاب بيير بيـار «مـن قَتَـل روجير أكرويـد؟» إىل كونه‬
‫يكشـف االسـم الحقيقـي للقاتـل يف روايـة أجاثا كريسـتي «مقتـل روجري‬
‫أكرويـد»‪ ،‬بـل إنـه ‪-‬مـن خلال ذلـك‪ -‬يدعـو إىل التفكير‪ ،‬مـن جديـد‪ ،‬يف‬
‫عمـل املـؤ ِّول أو القـارئ وطريقـة اشـتغاله‪ ،‬الفتــاً النظـر إىل موضـوع‬
‫م‪ :‬التأويـل باعتبـاره هذيانـاً‪.‬‬‫نظـري مهـ ّ‬
‫أقـل مـن الجنـون‪ ،‬أو أنـه نقيضه‬ ‫يف التصـ ُّور الفرويـدي‪ ،‬الهذيـان هـو ُّّ‬
‫وضـدّه‪ ،‬فهـو محاولـة يف تنظيـم الجنـون‪ ،‬و‪-‬بهذا املعنى‪ -‬مـا من هذيان‬
‫إل ويتنظَّــم‬
‫نظري ّ‬
‫ٍّ‬ ‫نظري ما‪ ،‬كام أنه ما من عملٍ‬‫ٍّ‬ ‫ويتأسـس عىل صوغ‬ ‫َّ‬ ‫إل‬
‫ّ‬
‫بجـز ٍء مـن الهذيـان‪ .‬وإذا كان األمـر كذلـك‪ ،‬تبعــــــاً لهـذا التصـ ِّور‪ ،‬فهـل‬
‫ميكـن أن نسـائل بيير بيـار‪ ،‬الـذي أعلـن أن صوغـه النظـري سـيكون جادّا‬
‫وصارمــاً وبعيـدا ً عـن الفرضيـات الهذيانيـة والشـعرية‪ :‬أليـس‪ ،‬يف بحثه‬

‫‪114‬‬
‫وتحقيقـه املصـوغ صوغــاً نظريـاً محكمــاً‪ ،‬جز ٌء مـن الهذيان الـذي ات ّهم‬
‫بـه بـوارو يف تأويلـه؟ أال ميكن أن نعترب هذه الرغبـة هذياناً‪ ،‬عند املؤ ِّول‪،‬‬
‫حـب عجيبة؟‬‫ٍّ‬ ‫يف تحويـل حكايـة املـال القـذرة إىل حكاية‬
‫كل ذلـك‪ ،‬يبقـى بيير بيـار هـو هـذا الناقـد الـذي يجمـع بين‬ ‫مـع ّ‬
‫الشـك واإلصغـاء‬ ‫ّ‬ ‫التخييـل والتنظير‪ ،‬بطريقـ ٍة مدهشـ ٍة‪ ،‬ويـزاوج بين‬
‫كل م ّرة‪ -‬إىل عدم التسـليم‬ ‫الحكيـم للكلمـة‪ ،‬كلمـة اآلخَـر‪ ،‬ويدعونـا ‪-‬يف ّ‬
‫بسهولة‪ ،‬وعدم االقتناع بالحقائق التي ت ُـــقدَّم إلينا‪ ،‬وأن نتعلَّــــم البحثَ‬
‫بـأدوات مغايرة‪ ،‬وأن نتَّخذ من اللعب أو السـخرية أسلوبــاً‬ ‫ٍ‬ ‫عـن الحقيقـة‬
‫يف التحليـل والتفكير‪.‬‬
‫وال ينبغـي أن ننسى أن الفرضيـة التـي انطلـق منهـا بيير بيـار يف هـذا‬
‫الكتـاب‪ ،‬ال تسـتم ّد ق َّوتهـا إال مـن كونهـا تقترح ‪-‬باكتشـافها قاتلاً آخـر‪-‬‬
‫بالنص‬
‫ّ‬ ‫النـص‪ ،‬بـل إنهـا تلتـزم‬
‫ّ‬ ‫نهايـة أخـرى للروايـة دون أن «تخـرج» عـن‬
‫ح ْرف َّيتـه وكلّ َّيتـه‪ ،‬كأمنـا األمـر يتعلّـق بإعادة كتابـة الرواية‪ ،‬مـن ألَ ِفها‬
‫يف َ‬
‫إىل يائهـا‪ :‬روايـة بوليسـية على رواية بوليسـية‪.‬‬
‫وألن بيير بيـار قـد أصـدر‪ ،‬سـنة ‪ ،2010‬كتابـاً تحـت عنـوان «وإذا مـا‬
‫يصـح‬
‫ّ‬ ‫بدّلـت األعمال األدبيّـة مؤلِّـ ِفـيــها؟»‪ ،‬فإننـا نتسـاءل‪ :‬إىل ّ‬
‫أي حـ ٍّد‬
‫أن نقـول إن روايـة «مقتـل روجيـه أكرويـد»‪ ،‬ملؤلِّــفتها أجاتا كرسـتي‪ ،‬قد‬
‫ِّــف آخـ ُر هـو بيير بيار؟‬‫أصبـح لهـا مؤل ٌ‬

‫‪115‬‬
‫سافر إىل مكان َبـعيد؟‬
‫َ‬ ‫يف األدب‪ ،‬ما َمــعنى أن ُت‬

‫بعـد أن أصـدر الناقـد النفسي الفرنيس املعارص بيري بيار كتابــاً‪ ،‬سـنة‬
‫دوي‬
‫ّ‬ ‫‪ ،2007‬تحـت عنـوان «كيـف نتحـدَّث عـن كتـب مل نقرأهـا؟» (وكان لـه‬
‫كبير يف األوسـاط النقديـة‪ ،‬والثقافيـة‪ ،‬والرتبويـة‪ ،‬وسـنعود إليـه يف ورقة‬
‫بكتـاب جديـد تحـت عنـوان «كيـف‬ ‫ٍ‬ ‫مسـتقلّ ٍة)‪ ،‬فاجـأ قـ ّراءه‪ ،‬سـنة ‪،2012‬‬
‫نتحـدَّث عـن أمكنـة‪ ،‬مل نزرهـا مـن قبـل؟» ‪ ،‬ويبدو مـن عنوانه أنـه ال يخلو‬
‫(((‬

‫مـن غرابـة‪ :‬هـل ميكـن‪ ،‬فعلاً‪ ،‬أن نتحـدَّث عـن أمكن ٍة‪ ،‬مل يسـبق لنا أن ك َّنــا‬
‫فيهـا؟ هـل سـيقودنا الكتـاب إىل الطرائـق التـي تسـمح بالكتابـة عـن مكانٍ ‪،‬‬
‫بعيـد‪ ،‬من دون‬ ‫ٍ‬ ‫ننتقـل إليـه فعليّـاً؟ وما قيمـة الكتابة عن مكانٍ‬
‫َ‬ ‫مـن دون أن‬
‫الكاتـب مكانـه األصيل؟‬
‫ُ‬ ‫أن يغـاد َر‬
‫ينطلـق الناقـد‪ ،‬يف مقدِّمـة كتابه‪ ،‬مـن أن «اليشء‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬يقول إن‬
‫و‪-‬بالعكس‪-‬كل‬
‫ّ‬ ‫السـفر هو أفضل وسـيل ٍة الكتشـاف مدينـ ٍة أو ٍ‬
‫بلد ال نعرفـه‪.‬‬

‫‪(1) Pierre Bayard: Comment parler des lieux ou l’on n’a pas été, Minuit, Paris, 2012.‬‬

‫‪117‬‬
‫املـؤشات تدفعنـا إىل التفكير يف أن أفضـل وسـيل ٍة‪ ،‬للحديـث عـن مـكانٍ‬‫ِّ‬
‫مـا‪ ،‬هـي أن تلازم بيتـك‪ ،‬وتجربـة العديـد مـن الكُـتَّــاب موجـود ٌة مـن أجـل‬
‫تعزيـز هذا اإلحسـاس»‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬ال تتعلـق املسـألة مبعرفـة مـا توفِّـره املعرفـة بأمكنـ ٍة غريب ٍة‪،‬‬
‫كل صاحـب فكـ ٍر منفتـح‪ ،‬بـل إن املسـألة‬ ‫فزيارتهـا ال ميكـن إلّ أن تفيـد َّ‬
‫هـي أن نعـرف مـا إذا كان مـن الضروري أن تقـوم بهـذه الزيـارة‪ ،‬بطريقـ ٍة‬
‫ل أخـرى غري التنقُّل‬ ‫مبـارش ٍة‪ ،‬أو أن األفضـل هو أن منارسـها من خالل أشـكا ٍ‬
‫الفيزيقـي إىل املـكان عينـه‪.‬‬
‫س لنـوع مـن الكتَّـاب الذيـن يسـ ّميهم بيير‬ ‫مـن هنـا‪ ،‬هـذا الكتـاب مكـ َّر ٌ‬
‫بيـار‪ :‬املسـافر امللازم لبيتـه‪ ،»voyageur casanier-‬فاألمـر يتعلّـق‪،‬‬
‫أوتوبيوغرافيين وصفـوا بطريقـ ٍة ‪-‬دقيقـ ٍة‪ -‬أمكنـ ًة مل يسـافروا‬
‫ِّ‬ ‫اب‬
‫هنـا‪ ،‬بكُــتَّ ٍ‬
‫إليهـا أبـدا ً؛ فبفضـل قـ ّوة كتابتهـم‪ ،‬نجحـوا يف أن يجعلوا تلـك األمكنة أكرث‬
‫َ‬
‫االنتقـال إىل تلـك‬ ‫ن يـرى أ ْن مـن الضروري‬ ‫حضـورا ً م ّمــا قـد يقـوم بـه َمــ ْ‬
‫األمكنـة‪.‬‬
‫كل َمـن‬ ‫م بالكُـتَّــاب‪ ،‬فقـط‪ ،‬فهـو يسـتحرض َّ‬ ‫ن هـذا الكتـاب ال يهتـ ّ‬
‫لكـ َّ‬
‫ميـارس الكتابـة‪ ،‬بحكـم املهنـة أو بطريقـة عابـرة‪( :‬علماء األنرتوبولوجيا‪-‬‬
‫بعـض اللحظـات مـن وجودهـم إىل‬ ‫ُ‬ ‫الصحافيون‪-‬الرياضيـون)‪ ،‬قا َدتْــهم‬
‫‪-‬ألسـباب مختلفـ ٍة‪ -‬أن انتقلـوا إليهـا‪ ،‬فعليّـاً‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وصـف أمكنـ ٍة‪ ،‬مل يسـبق لهـم‬
‫فـوق ذلـك كلّـه‪ ،‬إن طمـوح هـذا الكتـاب هـو «التفكير يف العالقـة التي‬
‫خاصـ ًة مـع األمكنـة التـي‬
‫ّ‬ ‫يقيمهـا األدب مـع العـامل الـذي يقـوم بوصفـه‪،‬‬
‫ــاب يجعلون من أمكن ٍة ال يعرفونها أمكن ًة‬
‫يسـتقبلها»‪ :(((.‬أن يكون هناك كُـتَّ ٌ‬
‫واقعيـة‪ ،‬وأن مينحوهـا شـكالً يف الوجـود مقبـوالً‪ ،‬أمـ ٌر يطـرح‪ ،‬يف الواقـع‪،‬‬
‫مسـألة مه ّمـة تتعلَّـق مبعرفـة طبيعة الفضاء الـذي يعالجـه األدب‪ ،‬وكيف‬
‫يتمكَّـن هـذا الفضـاء مـن أن يجـد لـه مكانـاً داخـل اللّغـة(((‪ .‬واألكبر مـن‬

‫‪(1) Pierre Bayard: Comment parler des lieux ou l’on n’a pas été, Minuit, Paris, 2012.‬‬
‫((( املصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪118‬‬
‫مسـألة الفضـاء األديب‪ ،‬أن مسـألة الحقيقـة داخـل األدب هـي التـي تفرض‬
‫نفسـها‪ ،‬هنـا‪ ،‬مـن خلال هـذه التخييلات ِ‬
‫الخــطابية‪ .‬وبطريقـ ٍة موازية‪ ،‬إذا‬
‫كان علـم الجغرافيـا يقـدِّم حقيقـة علميـة حـول األمكنة‪ ،‬فإنـه توجد صورة‬
‫أخـرى لحقيقـة العالَــم يف كتابـات هـؤالء املسـافرين الذيـن ال يغـادرون‬
‫بيوتهـم‪ ،‬وال ينتقلـون‪ ،‬فعليّـاً‪ ،‬إىل األمكنـة؛ موضـوع وصفهـم ورسدهـم‪.‬‬
‫ونكتفـي‪ ،‬هنـا‪ ،‬بتقديـم منـاذج مـن هـؤالء الكُــتَّاب الذيـن تحدَّثـوا عـن‬
‫أمكنـ ٍة‪ ،‬مل يسـبق لهـم أن زاروهـا مـن قبـل‪.‬‬
‫حلات‪ ،‬يف التاريـخ‪ ،‬رحلات ماركـو بولـو (‪)1324-1274‬‬
‫مـن أشـهر الر ّ‬
‫‪ ،Marco Polo‬هـذا الرحالـة الـذي ارتبـط اسـمه باملغامـرة واكتشـاف‬
‫األرايض املجهولـة‪ ،‬فصـار‪ ،‬بذلـك‪ ،‬رمـزا ً لهـذا الجمـع بين املعرفـة‬
‫والشـجاعة البدنيـة‪ .‬ومـا كان يشـ ُّد انتبـاه جمهـوره هـو محكيّاتـه املوث َّقـة‬
‫النسـاخ منـذ قرون‪ ،‬وهـي محكياتٌ تقـدِّم معرفة متم ِّيـزة ج ّدا ً‬
‫ّ‬ ‫التـي تناقلهـا‬
‫بالعالَــــم األسـيوي يف القـرون الوسـطى‪ ،‬وخاصـة باإلمرباطوريـة الصينية‬
‫التـي كانـت يف ذلـك العصر مجهولـ ًة عنـد الغـرب‪.‬‬
‫لقـد كان ماركـو بولـو يدَّعـي أنـه اسـتق َّر يف الصين مـ ّد ًة طويلـة‪ ،‬وكان‬
‫أي أث ٍر‬
‫تكليفـه مبهـا ّم كبيرة‪ ،‬لكـن وثائق اإلمرباطوريـة املحفوظة ال تحمـل َّ‬
‫كل ذلـك‪ ،‬وهنـاك ثغـراتٌ كبير ٌة يف محك ِّيـه؛ إذ نقـرأ وصفـاً للصني يف‬
‫عـن ّ‬
‫صفحـات عديـد ٍة‪ ،‬مـن دون إشـارة واحـدة إىل سـور الصين العظيـم الـذي‬‫ٍ‬
‫حالة قـد عبَــــره م ّر ٍ‬
‫ات‬ ‫ميتـ ّد آالف الكيلـو ميترات‪ ،‬والـذي البـد أن يكـون الر ّ‬
‫عديـدة‪ .‬وألنـه كان شـديد االنتبـاه إىل العديـد مـن الطرائـف‪ ،‬مل يجـد مـا‬
‫يقولـه عـن ربـط األقـدام عنـد الصينيّـات‪ ،‬أو عـن حفلات الشـاي‪ ،‬أو عـن‬
‫الخاصـة يف الصيـد‪ ،‬أو عـن خصائصهـم اللسـانية الالفتـة‬
‫ّ‬ ‫بعـض طرقهـم‬
‫لالنتباه‪.‬‬
‫وهـذه املالحظـات وغريهـا‪ ،‬هـي التـي قـادت بعـض املؤلِّفين من ذوي‬

‫‪119‬‬
‫فعال‪ ،‬بالد‬
‫الفكـر اليقـظ(((‪ ،‬إىل أن يشـكّكوا يف أن يكـون ماركـو بولو قـد زار‪ً ،‬‬
‫جالً أن كتابـه يتقـدَّم كأنه جم ٌع مـن البطاقات أكرث م ّمــا يظهر‬ ‫الصين‪ ،‬مسـ ِّ‬
‫حقيقي‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫سـ َف ٍر‬
‫يك َ‬
‫باعتبـاره مح َّ‬
‫انطالقـاً مـن هـذه الشـكوك‪ ،‬يتقـدَّم بيير بيـار‪ ،‬بافتراض أن ماركـو بولو‬
‫مل يغـادر‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬قسـطنطينية‪ ،‬هـذه املدينـة التـي بهـا كانت عائلتـه تعمل‬
‫فيهـا‪ ،‬يف التجـارة البح ّريّـة‪ ،‬ويف نقـل العديـد مـن املسـافرين الذيـن‪،‬‬
‫شـك‪ ،‬كان لهـم الفضـل يف تغذيـة أحلام يقظـة ماركـو بولـو بواسـطة‬ ‫ّ‬ ‫بلا‬
‫جله ‪-‬يف نظـر بيير بيـار‪ -‬هـو أن‬‫محك ّياتهـم‪ .‬ولكـن مـا ينبغـي لنـا أن نسـ ّ‬
‫ي السـفر هـو أفضل‬ ‫ملاركـو بولـو خيـاالً واسـعاً‪ ،‬وأن رحالتـه تؤكـد أن محك ّ‬
‫مـكانٍ ملامرسـة التخييـل‪.‬‬
‫ل آخـر يفـرض السـفر‪ ،‬فهـو األنرثوبولوجيـا‪،‬‬ ‫وإذا كان هنـاك مـن مجـا ٍ‬
‫حـ ّد أننـا نجـد ليفـي ستراوس يبـدأ كتابـه املشـهور «مـدارات حزينـة‪-‬‬ ‫إىل َ‬
‫‪ »Tristes tropiques‬بجمل ٍة مثري ٍة‪« :‬أكره األسـفار واملستكشـفني»‪ ،‬قبل‬
‫مفصـل عن أيّامـه يف أمريكا الالتينية‪ ،‬بطريق ٍة تكشـف‬
‫َّ‬ ‫ي‬
‫أن يشرع يف محك ٍّ‬
‫م يف مهنـة األنرتوبولوجـي‪.‬‬‫أن السـف َر حاسـ ٌ‬
‫وهـل كان مـن املمكـن أن نعـرف شيئــاً مـا عـن «جـزر السـاموا‪Iles-‬‬
‫‪ ،»de Samoa‬وعـن الحيـاة الجنسـية لسـكّانها‪ ،‬بـل عـن الحيـاة الجنسـية‬
‫لإلنسـان‪ ،‬بصفـة عا ّمـة‪ ،‬لـوال أعمال مارجريـت ميـد (‪)1978 - 1901‬‬
‫‪ ،Margaret Mead‬ولـوال أسـفارها يف الثالثينيـات مـن القـرن املـايض‪،‬‬
‫شـعوب أخـرى‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫التـي خدمـت العلـم‪ ،‬وسـاعدت على اكتشـاف‬
‫واألطروحـة املركزيـة يف كتابهـا‪Mœurs et sexualité en ،‬‬
‫الجنـس‬
‫َ‬ ‫‪ Océanie, 1928 et 1935‬الـذي حقَّـق لهـا نجاحـاً عامليّـاً‪ ،‬هـي أن‬
‫ر ح ِّريّـ ًة مـن الجنـس عنـد الغربيين‪ ،‬فشـباب‬ ‫يف جـزر السـاموا أكث ُ‬
‫السـاموا يكثرون مـن التجـارب الجنسـية قبـل الـزواج‪ ،‬وال متنعهـم عـن‬

‫‪(1) Frances Wood, Did Marco Polo go to China ?, Westview Press, 1996.‬‬

‫‪120‬‬
‫أي ممنوعـات مسـتبطنة‪ ،‬كما نالحـظ عنـد شـباب أميركا الشمالية؛‬ ‫ذلـك ّ‬
‫لهـذا‪ ،‬ليسـت املرا َهقـة يف جـزر السـاموا‪ ،‬مرحلـة أزمـة أو توتُّـر‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬بـل‬
‫‪-‬بالعكـس‪ -‬تتميَّـز بكونهـا تطـ ُّورا ً هادئـاً نحـو مرحلـة النضـج‪ ،‬والشـباب يف‬
‫الحـب الرومانسي كما يعرفـه شـباب الغـرب‪ ،‬ألن‬ ‫ّ‬ ‫هـذه الجـزر يجهلـون‬
‫ط بفكـرة الزوجـة الواحـدة‪ ،‬وبالوفـاء والغيرة وغريها من‬ ‫الحـب مرتبـ ٌ‬
‫ّ‬ ‫هـذا‬
‫األفـكار واملقـوالت التـي تحكـم املجتمـع الغـريب‪.‬‬
‫يف عصر مارجريـت ميـد‪ ،‬كان لهـذه األطروحـة صـدًى كبيرا ً وط ِّيبـاً يف‬
‫األوسـاط العلميـة‪ ،‬واألوسـاط الثقافيـة‪ ،‬وبـدأ السـؤال عـن الـدور الـذي‬
‫أي حـد ميكن اعتبار‬ ‫تلعبـه الثّقافـة يف تحديـد السـلوكات وتوجيههـا‪ ،‬وإىل ِّ‬
‫م من املكتسـبات الفطرية لإلنسان‪.‬‬ ‫مكتسـبات املحيط السوسـيوثقايف أه َّ‬
‫وكان التح ُّول الجذري‪ ،‬الذي سـيعرفه النقاش حول أطروحة مارجريت‬
‫ميـد وكتابهـا‪ ،‬مـع صـدور كتـاب األنرثوبولوجـي ديريـك فرميـان‪Derek-‬‬
‫‪ ،Freeman‬الصـادر سـنة ‪ ،1984‬تحـت عنـوان‪Margaret Mead and :‬‬
‫‪Samoa, The Making and Unmaking of an anthropological‬‬
‫املتخصص يف‬
‫ِّ‬ ‫‪ .myth‬ففـي هـذا الكتاب ذي النربة السـجالية‪ ،‬وضَّ ــح هذا‬
‫جـزر السـاموا أننـا قضينا الكثري من الوقـت يف تأويل الوقائـع التي وصفتها‬
‫مارجريـت ميـد‪ ،‬مـن دون أن نعمـل عىل أن نفحـص ‪-‬أوالً‪ -‬مـا إذا كانت تلك‬
‫الوقائـع موجـودة فعلاً‪ ،‬فالح ّريّـ ُة الجنسـي ُة عنـد شـباب السـاموا‪ ،‬التـي‬
‫جعلـت العـاملَ‪ ،‬جميعــاً‪ ،‬يحلـم بهـا ليسـت إلّ أسـطورة ال وجـود لهـا عىل‬
‫أرض الواقـع‪.‬‬
‫م الناحيـة النظريـة‪ ،‬ذلـك أن األطروحـة ذات النزعة‬
‫جـة األوىل تهـ ّ‬
‫والح ّ‬
‫الثقافيـة التـي تدافـع عنهـا مارجريـت ميـد يف رسـالتها الجامعيـة‪ ،‬هـي‬
‫السـائدة يف عرصهـا يف الواليـات املتَّحـدة‪ ،‬بـل إن مـن أكبر املدافعين‬
‫عنهـا هـو فرانز بـواس‪ ،‬املرشف على أطروحتهـا‪ .‬وقد تعاملت مـع الوقائع‬
‫بـكل الطـرق االنتقائيـة‪ ،‬واإلسـقاطية التـي تسـمح باالنتصـار ألطروحـة‬ ‫ّ‬
‫أسـتاذها‪.‬‬
‫جـة الثانيـة تعنـي الناحيـة العمليـة؛ ذلـك أن مارجريـت ميـد مل‬
‫والح ّ‬

‫‪121‬‬
‫تقـض إلّ عشرة أيّـام يف بلـد ٍة بجـزر السـاموا‪ ،‬ثـم قـ َّررت‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬مـن‬
‫ِ‬
‫أجـل إقامـ ٍة مريح ٍة‪ ،‬أن تسـتق َّر يف الجوار عند عائلة أمريكيـة‪ .‬وبهذا‪ ،‬كانت‬
‫محرومـ ًة مـن املالحظـة املبـارشة التـي ستسـمح لهـا بفحـص فرضيّاتهـا‪،‬‬
‫يوسـع مـن املسـافة التـي تفصلها عـن الذوات‬ ‫وكان جهلهـا بلغـة السـاموا ِّ‬
‫التـي تريد دراسـتها‪.‬‬
‫جـة الثالثـة أن مارجريـت ميـد كانـت تسـتعني‪ ،‬وهـي بعيـدة عـن‬ ‫والح ّ‬
‫مجـال املالحظة‪ ،‬بشـهادات مجموع ٍة من الشـباب الذيـن يقومون بزيارتها‬
‫يوم ّيـاً‪ ،‬وهـي شـهاداتٌ تنتمي إىل خياالتهـم وأحالمهم أكرث م ّمــا تنتمي إىل‬
‫الواقع‪.‬‬
‫إجماالً‪ :‬إن تقـوم الباحثة بوصف مكان‪ ٍ،‬عن بُــعد‪ ،‬مـع إعطاء األفضلية‬
‫لشـهادات املخربيـن أكثر مـن مالحظاتها الشـخصية‪ ،‬هو مـا قادها إىل أن‬
‫ِّــف ‪-‬دون علـم منهـا‪ -‬رواي ًة تخييلي ًة حقيقيةً‪ ،‬تب َّنــــاها القـرا ُء والعلام ُء‪،‬‬
‫تؤل َ‬
‫ٍ‬
‫ألجيـالٍ‪ ،‬من دون فحـص وتدقيق‪.‬‬
‫ومـع ذلـك‪ ،‬فهـذا التمثُّـل لجـزر السـاموا قـد حقَّـق نجاحــاً كبيرا ً‬
‫تعمـل هـذه األرايض‬
‫َ‬ ‫أفـق انتظـا ٍر عـام‪ :‬أن‬
‫عبر العـامل‪ ،‬ألنـه كان يناسـب َ‬
‫الجديـدة املستكشـفة على إعـادة الحيـاة إىل هـذه املنطقـة املسـتهامة‬
‫‪ ،fantasmée-‬التـي ذقنـا فيهـا طعـم السـعادة‪ ،‬ولكننـا انفصلنـا عنهـا‬
‫م أن يكـون هـذا التمثُّـل صحيحــاً أو غ َ‬
‫ير‬ ‫منـذ زمـن طويـل‪ ،‬فقـد ال يهـ ُّ‬
‫لسـبب أسـاس؛ إليـه يعـود الفضـل يف تذكرينـا بأنـه مـن‬ ‫ٍ‬ ‫صحيـح‪ ،‬وذلـك‬
‫الصعـب النفـاذ إىل مـكانٍ مـا مـن دون أن نُـس ِقــط عليـه‪ ،‬مبـارشةً‪ ،‬شـبك ًة‬
‫مـن االسـتيهامات الشـخصية املشـبعة بهـذا الحلم الـذي يسـكننا‪ :‬الحياة‬
‫الجنسـية السـعيدة‪.‬‬
‫(خاصـ ًة إىل الخـارج)؛‬
‫ّ‬ ‫وتفـرض مهنـة الصحافـة‪ ،‬هـي األخـرى‪ ،‬السـفر‬
‫ُــعتب مهنـة خطيرة‪ ،‬وقـد ال نسـتطيع َعــ َّد عـددِ‬
‫َ‬ ‫ورمبـا لهـذا السـبب ت‬
‫كل سـنة‪ ،‬بحيواتهـم مـن أجـل أن ينقلـوا‬‫حـون‪ ،‬يف ّ‬ ‫الصحافيين الذيـن يض ّ‬
‫إىل ق ّرائهـم أخبـارا ً موثوقـة‪ .‬مـن هنـا‪ ،‬قـد يطـرح بعـض الصحافيين هـذا‬
‫السـؤال‪ :‬أليـس مـن األفضـل أن يقـوم الصحـايف باملالحظة عن بُــ ْعد‪ ،‬فال‬

‫‪122‬‬
‫يخاطـر بحياتـه‪ ،‬وقد يسـمح لـه ذلك برؤي ٍة شـامل ٍة من دون أن يتـو َّرط كثريا ً‬
‫كما يحـدث للعديـد مـن الصحافيين الذيـن ينتقلـون إىل املـكان عينـه؟‬
‫نهايـة شـهر أبريـل‪ ،2003 ،‬وجـد جايسـون بلير ‪،Jayson Blair -‬‬
‫الصحـايف يف جريـدة نيويـورك تاميـز ‪ ،New york Times -‬نفسـه‬
‫يف وضعيـة صعبـة‪ ،‬هـي التـي يحكيهـا يف بدايـة كتابـه األوتوبيوغـرايف‬
‫«‪ »Burning down my Master’s House‬لقـد كان مدعـوا ً إىل اجتما ٍ‬
‫ع‬
‫ل نشره‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫توضيحـات منـه بخصـوص مقـا ٍ‬ ‫نظمـه زملاؤه الذيـن يريـدون‬
‫مؤخـرا ً‪ ،‬يف نيويـورك تاميـز‪ ،‬فهنـاك أوجه شـبه غريبة بينه وبين مقا ٍ‬
‫ل آخر‬
‫ظهـر قبـل أيّـام يف جريـدة أخـرى هـي ‪.San Antonio Express-News‬‬
‫جنـدي يف عقـده الثالـث‪ ،‬اختفـى يف‬ ‫ٍّ‬ ‫وكان مقـال بلير حـول عائلـة‬
‫العـراق (‪ ،)le sergent Edward Anguiano‬وقـد ادَّعـى الصحـايف أنـه‬
‫قـد اسـتجوب هـذه العائلـة يف مدينتهـا لـوس فريسـنوس ‪Los Fresnos -‬‬
‫القريبـة مـن الحـدود املكسـيكية‪ .‬ومل يكن هـذا املقال لِـيَـ ُمــ َّر من دون أن‬
‫يلفـت األنظـار‪ ،‬فقـد ظهـر يف الصفحـة األوىل مـن نيويـورك تاميـز‪ ،‬وهـذا‬
‫كل صحـايف مـن صحافيِّـي أكبر جريـد ٍة يف‬ ‫م ِّ‬‫أمـ ٌر الميكـن إلّ أن يكـون حلـ َ‬
‫العامل‪.‬‬
‫وقـد وضَّ ـح لزمالئـه الظـروف التـي أنجـز فيهـا املقـال‪ ،‬إذ كان يحتفـظ‬
‫بالعديـد مـن الوثائـق والبطاقـات يف حاسـوبه‪ ،‬ومنهـا فقـرات مـن ذلـك‬
‫ّ‬
‫والشـك يف أن األمـر قـد اختلط‬ ‫املقـال اآلخـر املنشـور يف جريـدة أخـرى‪،‬‬
‫عليـه‪ ،‬فاعتبر تلـك الفقـرات جـزءا ً مـن مالحظاتـه الشـخصية‪ ،‬وقـد اقتنـع‬
‫بعـض زمالئـه بتوضيحاتـه‪ ،‬فهـذه مـن أخطـاء املهنـة املألوفـة‪ ،‬لكـن‬
‫جايسـون بلير كان‪ ،‬بينـه وبين نفسـه‪ ،‬يعـرف أن األمـر أكبر مـن ذلـك‪،‬‬
‫فالحقيقـة هـي أنـه مل يغـادر‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬شـقَّته يف بروكلين‪.‬‬
‫لكـن بعـض زمالئـه مـا انفكّـوا يحارصونـه‪ ،‬على مـ ِّر األيّـام‪ ،‬بأسـئل ٍة‬
‫كل العنـارص‬ ‫مقلقـ ٍة ومزعجـ ٍة‪ ،‬فكانـوا يطلبـون منـه أن يحـدِّد‪ ،‬بدقّـة‪ّ ،‬‬
‫التـي كانـت األصـل يف الخلط بين املقالني‪ ،‬وكانـوا يبحثون عـن فاتورات‬
‫إل أن‬ ‫النفقـات التـي تعـود إىل سـفره إىل لـوس فرينـوس‪ ،‬فما كان منـه ّ‬

‫‪123‬‬
‫حـ ٍة مـن‬
‫قـ َّرر االسـتقالة مـن جريـدة نيويـورك تاميـز‪ ،‬والدخـول إىل مص ّ‬
‫أجـل االستشـفاء‪.‬‬
‫مل يكـن األمـر يتعلّـق باملـرة األوىل التـي يصـف فيهـا بلير أمكنـ ًة يف‬
‫مقاالتـه‪ ،‬مـن دون أن يكـون قـد انتقـل إليهـا وزارهـا‪ ،‬فما يوضِّ حـه‪ ،‬يف‬
‫حــ ِّول تقنيـة املالحظة عن‬‫مجمـوع كتابـه‪ ،‬هـو كيف بدأ ‪-‬شـيئاً فشـيئاً‪ -‬يُـ َ‬
‫عــد‬ ‫ٍ‬
‫مقاالت عن بُـ ْ‬ ‫عد إىل عـاد ٍة‪ ،‬بل إىل فلسـفة‪ ،‬ففـي الواقع‪ ،‬إن كتابة‬ ‫بُــ ْ‬
‫مل تفـرض نفسـها عليـه دفعـ ًة واحـدة‪ ،‬بـل تبعـاً لسلسـلة مـن الظـروف‪.‬‬
‫تفســـر‬
‫وميكن أن نسـتخلص من كتابه األوتوبيوغرايف ثالثة توضيحات ِّ‬
‫هـذا السـلوك‪ ،‬الـذي صار عـاد ًة مألوفـة يف حياتـه الصحافية‪ :‬أ َّولهـا حالته‬
‫النفسـية التـي تتَّصف بالهـوس االكتئايب‪ ،‬وهي التي جعلته يَـ ُمــ ُّر مبحط ٍ‬
‫ّات‬
‫مـن االضطـراب واإلحبـاط واالكتئـاب‪ ،‬ودفعتـه إىل رضورة االستشـفاء يف‬
‫حـة‪ ،‬بعـد اسـتقالته؛ والثانيـة هـي إدمانـه الكحـول واملخـدِّرات التـي‬ ‫مص ّ‬
‫يلجـأ إليهـا العديـد مـن زمالئـه من أجـل مواجهة إكراهـات مهنـة الصحافة‬
‫وتوتُّراتهـا؛ والثالثـة أن بلير مل يعـد يشـعر بالراحة يف جريدتـه التي صارت‬
‫تفضِّ ـل بعـض املقـاالت مـن أجل الرفـع من املبيعـات‪ ،‬عىل الرغـم من أن‬
‫تلـك املقاالت غير عميقة‪.‬‬
‫أي يشء‪ ،‬بـل‬ ‫جل أن بلير مل يكـن يف مقاالتـه يحكي َّ‬ ‫لكـن‪ ،‬البـ َّد أن نسـ ِّ‬
‫كان حريصـاً على الدقّـة‪ ،‬ولـو عـن بُـ ْعــد‪ ،‬وكان حريصاً على الحصول عىل‬
‫املعنيين‪ ،‬وبواسـطة‬
‫ِّ‬ ‫املعلومـات‪ ،‬بواسـطة االتِّصـال هاتف ّيـاً باألشـخاص‬
‫جمـع مـا أمكـن من الوثائـق‪ ،‬حول املوضـوع؛ وقد يحـدث أن يضيف بعض‬
‫التفاصيـل عندمـا تبـدو لـه رضوريـة مـن أجـل الرفـع مـن درجـة الشـعور‬
‫بواقعيـة األشـياء‪ .‬وانشـغاله بالتفاصيـل كان هـو ورطتـه يف العديـد مـن‬
‫أب آخَر‬‫املقـاالت‪ :‬يف مقـال يعـود إىل ‪ 27‬مـارس‪ ،2003 ،‬سـتكون مفاجـأة ٍ‬
‫لجنـدي كان قـد اختفـى‪ ،‬هـو اآلخـر‪ ،‬يف العـراق؛ فـاألب‬ ‫ٍّ‬ ‫أب‬
‫كبيرةً‪ ،‬وهـو ٌ‬
‫مفتـوح عىل‬
‫ٌ‬ ‫مدخـل بيتـه‬
‫َ‬ ‫جريجـوري النـش سـيقرأ‪ ،‬يف نيويـورك تاميـز‪ ،‬أن‬
‫املراعـي وحقـول التبـغ‪ ،‬وهـذا مـا مل يكـن يتصـ َّوره يومـاً ما‪.‬‬
‫وإذا تركنـا جانبـاً أخالقيات املهنة ‪-‬يقول بيري بيار‪ -‬فإن حكاية جايسـون‬

‫‪124‬‬
‫بلري تطرح مسـألة شـبه فلسـفية‪ :‬ما معنى أن تكو َن يف مكانٍ ما؟‬
‫تــأيت تجربــة الكتابــة‪ ،‬هنــا‪ ،‬مــن أجــل أن تقــول مــا يعرفــه أنصــار‬
‫األديــان ج ِّيــدا ً‪ :‬الحضــور الفيزيقــي ليــس إلّ صيغــة مــن صيــغ الحضــور‪،‬‬
‫وهــو ليــس ‪-‬بالــرورة‪ -‬األكــر عمقــاً‪ .‬ويف حياتنــا الشــخصية أو العا ّمــة‪،‬‬
‫نجــد ع ـدّة مشــاهد تفــرض أن نفصــل بــن الحضــور الفيزيقــي والحضــور‬
‫النفــي‪ :‬قــد أكــون حــارضا ً‪ ،‬فيزيق ّيــاً‪ ،‬يف قاعــ ٍة للمحــارضات يف‬
‫الجامعــة‪ ،‬لكننــي‪- ،‬نفسـ ّياً‪ -‬أحــر يف مــكانٍ آخــر‪ ،‬يف مــرح آخــر ألجــأ‬
‫إليــه بــإراديت منفيــاً أو ُمـغَـ َّيـبــاً‪ .‬وفــوق ذلــك‪ ،‬فالتحليــل النفــي يوضــح‬
‫أن الحضــور الفيزيقــي ال يــؤدّي دورا ً كبــرا ً يف حياتنــا النفســية‪ ،‬ذلــك‬
‫ألن هنــاك عــددا ً مــن الغائبــن واألمــوات الذيــن يــؤدّون دورا ً كبــرا ً يف‬
‫حيواتنــا‪ ،‬واألكــر مــن ذلــك أننــا نشــعر أنهــم أكــر حضــورا ً مــن األحيــاء‬
‫الحارضيــن معنــا‪ ،‬فيزيق ّيــاً‪.‬‬
‫وبالطبـع‪ ،‬هـذه االعتبـارات ال قيمـة لهـا يف مهنـة الصحافة‪ ،‬لكـن يبقى‬
‫أن قـ ّوة الكتابـة عنـد جايسـون بلري تطـرح من األسـئلة ما ال ميكـن تجاهله‪،‬‬
‫فـإذا كان هـذا الصحـايف يخترق القواعـد األ َّوليـة يف مهنة الصحافـة‪ ،‬فإنه‬
‫رصف‪ ،‬يف الوقت نفسـه‪ ،‬باعتباره كاتبــاً حقيق ّيــاً‪.‬‬
‫كان يت َّ‬
‫حـة انتقـال الصحـايف‪ ،‬فعليّــاً‪ ،‬إىل لـوس فرسـنوس‬ ‫إن السـؤال عـن ص ّ‬
‫ي سـفره‬ ‫أي حـ ّد كان محك ّ‬‫يحجـب سـؤاالً آخـر ال يخلـو مـن أه ِّميّـة‪ :‬إىل ِّ‬
‫يسـمح لقـ ّراء الجريـدة بِـفَــهم آالم عائلات الجنـود الذيـن جـرى إرسـالهم‬
‫إىل العـراق؟ أال تقتضي الكتابـة‪ ،‬هنا‪،‬حضـورا ً ينبغـي لـه أن يكـون نفسـيّاً‪،‬‬
‫ال فيزيقيّـاً‪ ،‬بالرغـم مـن أننـا قـد ال نتصـ َّور‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬آالم بعـض النـاس إلّ‬
‫بزيارتهـم؟‬
‫ي‪ :‬هنـاك حقيقـة صحافيـة‪ ،‬التـي بسـببها‪،‬‬ ‫والبـ ّد أن من ِّيـز بين حقيــقتَ ْ‬
‫حوكِـم جايسـون بلير‪ ،‬وهي تبحث عـن تلك املطابقـة بني اللّغـة والعامل‪،‬‬
‫وهـذا مـا يفـرض الدقّـة يف الوصـف؛ وهناك حقيقـة أدب ّية‪ ،‬وهـي تبحث عن‬
‫يش ٍء آخـر‪ ،‬والبلـدان املتَـخَـ َّيــلة التـي تنفـذ إليها‪ ،‬ال تفرض على واصفيها‬
‫أن ينتقلـوا إليهـا فعل ّيــاً‪ ،‬فهـي ال تفـرض أن نَــنقل الواقـع حرف ّيـاً‪ ،‬بـل أكثر‬

‫‪125‬‬
‫مـا تفرضـه هـو‪ :‬إنتـاج تجربـة انفعاليـة وجدانيـة‪ ،‬والبحـث عـن الوسـائل‬
‫الكاتب التجربـ َة يف دواخله‪ ،‬وأن يعمـل ‪-‬وهذا هو‬
‫ُ‬ ‫التـي تسـمح بـأن يعيـش‬
‫األصعـب‪ -‬على اقتسـامها مـع القارئ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وتحليلات أخـرى‪ ،‬ويطـرح أسـئلة عميقة‬ ‫منـاذج‬
‫َ‬ ‫يقـدِّم كتـاب بيير بيـار‬
‫حـول عالقـة الكتابـة بالفضـاء‪ ،‬ومـا إذا كان مـن الضروري أن نسـافر‪،‬‬
‫فيزيقيـاً‪ ،‬مـن أجـل الكتابـة عـن مـكانٍ بعيـد‪ ،‬ويدعـو‪ ،‬يف خامتتـه‪ ،‬إىل ٍ‬
‫نقد‬
‫يتأ َّمـل‪ ،‬بهـدو ٍء وعمـقٍ ‪ ،‬مسـألة الحـدود بني فضـاء الكتابة وفضـاء الواقع‪،‬‬
‫ــاب‬
‫كتـاب جديـد‪ :‬هـل هنـاك كُـتَّ ٌ‬
‫ٍ‬ ‫ويثير أسـئلة أخـرى قـد تكـون موضـوع‬
‫وقـ َّرا ٌء ميارسـون السـفر «فعل ّيـاً» داخـل عـوامل الكتابـة‪ ،‬وقـد تكـون هنـاك‬
‫َ‬
‫الرحـال إىل عاملنـا الواقعـي؟ هـل هنـاك فضـاءات‬ ‫شـخصياتٌ أدب ّيـ ٌة تشـ ُّد‬
‫متداولـة بين مختلـف األعمال األدب ّيـة‪ ،‬وبعـض شـخص ّياتها يسـافرون من‬
‫هـذا الفضـاء إىل ذاك‪ ،‬مـن دون احترامٍ للحـدود الظاهـرة؟‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫(خامتة)‬

‫ن جـديـــد‪ ،‬إلــى فــرويـد؟‬


‫هــل نـعــو ُد‪ ،‬مــ ْ‬
‫ْ‬

‫‪127‬‬
‫إذا اسـتحرضنا مجموعـة مـن مؤلَّفـات سـيجموند فرويـد‪ ،‬ميكـن‬
‫مؤسـس التحليـل النفسي كان يحلـم بـأن يكتـب شيئــاً‬ ‫ِّ‬ ‫أن نفترض أن‬
‫رسديّـاً‪ ،‬كأن يكتـب روايـة‪ ،‬أو يكتـب شـيئاً ينتمـي إىل جنـس الروايـة!‪:‬‬
‫أمل يكـن هـذا الجنـس األديب يعـرف ازدهـارا ً كبيرا ً يف زمنـه وعصره‪،‬‬
‫مؤسـس التحليـل النفسي كما يف‬ ‫ِّ‬ ‫وكان حضـوره الفتـاً يف قـراءات‬
‫كتاباتـه؟‬
‫وهكـذا‪ ،‬ميكـن أن نالحـظ أن أ َّول كتـاب ألَّــفه فرويـد هو «دراسـات‬
‫املؤسـس‬
‫ِّ‬ ‫النـص‬
‫َّ‬ ‫يف الهسـترييا»(((‪ ،‬وصـدر سـنة ‪ ،1895‬وهـو يُــعت َ‬
‫ب‬
‫جل فيه املحلِّـل النفيس‬‫للتحليـل النفسي‪ ،‬ولكنـه املؤلَّـف الذي يسـ ِّ‬
‫أن مالحظاتـه حـول املـرىض ميكـن أن ت ُـــــق َرأ باعتبارها قصصـاً‪ ،‬وأنها‬
‫ع العلم(((‪.‬‬
‫ال تحمـل بسـبب ذلـك‪ ،‬طابـ َ‬

‫‪(1) Sigmund Freud, Joseph Breuer: Études sur l›hystérie. Traduit de l’allemand par Anne‬‬
‫‪Berman. Paris: Presses Universitaires de France. 1956.‬‬
‫((( نق ً‬
‫ال عن‪:‬‬
‫‪M. Borch- Jacobsen: Freud, un style réaliste, in: Fictions de la psychanalyse, Le‬‬
‫‪magazine littéraire, N: 544, Juin 2014, p 48.‬‬

‫‪129‬‬
‫النـص القصير الـذي كان لـه تأثير كبير يف التحليـل‬
‫ّ‬ ‫وهنـاك ذلـك‬
‫النفسي كما يف النقـد األديب‪ ،‬ونرشه فرويد سـنة ‪ ،1909‬تحت عنوان‬
‫«الروايـة العائليـة عنـد العصابيني» ضمـن كتاب أوتو رانك‪« :‬أسـطورة‬
‫ميلاد البطل(((»‪.‬‬
‫كتاب ألَّــفه فرويد‪ ،‬سـنة وفاتـه‪ ،‬وهو «موىس‬
‫ٍ‬ ‫وميكـن أن نذكر آخر‬
‫النبـي‬
‫ّ‬ ‫والتوحيـد»(((‪ ،‬الـذي اعتبره روايتـه التاريخيـة حـول أصـول‬
‫مـوىس‪ ،‬وروايتـه العائليـة‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬يبـدو األمـر كأن فرويـد كان يريـد أن يكتـب روايـة‪ ،‬وكان‬
‫يعتبر عملـه عملاً رسديّـاً أقـرب إىل األدب منـه إىل العلـم؛ وال غرابـة‬
‫يف ذلـك‪ ،‬كما وضَّ ـح العديد مـن النقّـاد واملحلِّلني النفسـانيِّني؛ فقد‬
‫جــل املحلِّـل النفسـاين ج‪.‬ب‪ .‬بونتاليـس أن فرويـد قـد كـ َّرس أربـع‬ ‫س َّ‬
‫عشرة دراسـة لألعمال الف ّن ّيـة‪ ،‬واألدب ّيـة ‪ ،‬وفـاز بجائـزة جوتـه يف‬
‫(((‬

‫م‬
‫األدب‪ ،‬سـنة ‪1930‬؛ ورصـد الناقـد النفسـاين جـان بيلمان نويـل أهـ ّ‬
‫األسماء األدبيّـة التـي ظلَّـت حـارضة يف مؤلَّفـات فرويد‪ :‬أرسـطوفان‪،‬‬
‫بـوكاس‪ ،‬رسفانتـس‪ ،‬ديـدرو‪ ،‬جوتـه‪ ،‬هيبل‪ ،‬هني‪ ،‬هيسـيود‪ ،‬هوفامن‪،‬‬

‫النص القصري الشهري «الرواية العائلية عند العصابيني» إىل أوتو رانك من أجل‬
‫ّ‬ ‫قدم فرويد هذا‬
‫((( يف البداية‪َّ ،‬‬
‫إدراجه يف كتابه‪« :‬أسطورة ميالد البطل»‪ ،‬وهو كتاب صدر سنة ‪ ،1909‬وظهر يف طبعة منقَّحة‪ ،‬سنة ‪ ،1913‬ثم‬
‫النص‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬يف كتاب فرويد‪:‬‬
‫ّ‬ ‫موسعة‪ ،‬بتقديم من إليوت كالين‪ ،‬سنة ‪ِ ،1922‬‬
‫ونش‬ ‫َّ‬ ‫يف طبعة‬
‫‪Freud, Sigmund , 1973, «Le roman familial des névrosés (1909)», in: Névrose,‬‬
‫‪psychose et perversion. PUF, p: 157 -160.‬‬
‫النص هو الذي اعتربته الناقدة مارت روبري أساس كتابها «رواية األصول وأصول الرواية»‪ ،‬الذي نرش سنة‬
‫ّ‬ ‫وهذا‬
‫‪.1972‬‬
‫((( هو آخر كتاب ألَّفه فرويد سنة وفاته (‪ ،)1939‬وصدرت الرتجمة اإلنجليزية يف السنة نفسها‪ ،‬من طرف‬
‫كاترين جونس‪ ،‬تحت عنوان‪« :‬موىس والتوحيد»‪ ،‬وظهرت أول ترجمة فرنسية من إنجاز آن برمان‪ ،‬سنة ‪،1948‬‬
‫ويف سنة ‪ ،1986‬ظهرت ترجمة أخرى إىل الفرنسية مراجعة ومنقَّحة تحت عنوان‪:‬‬
‫؛‪L’homme Moïse et la religion monothéiste‬‬
‫ُينظَ ر‪:‬‬
‫‪Moïse et le Monothéisme, 1939, dans L’homme Moïse et la religion monothéiste,‬‬
‫‪Gallimard, ou dans Œuvres complètes - psychanalyse: vol. 20: 1937- 1939, (OCF), PUF,‬‬
‫‪2010.‬‬
‫‪(3) J.B. Pontalis, E.G.Mongo, Freud avec les écrivains, ed. Gallimard, Paris, 2012.‬‬

‫‪130‬‬
‫هوميروس‪ ،‬هـوراس‪ ،‬لوتـاس‪ ،‬ميلتـون‪ ،‬موليير‪ ،‬رابليـه‪ ،‬شـيلر‪،‬‬
‫شكسـبري‪ ،‬سـوفوكل‪ ،‬سـويفت‪ ،‬دوستويفسكي‪ ،‬فلوبير‪ ،‬أناطـول‬
‫فرانـس‪ ،‬إبسـن‪ ،‬كيبلين‪ ،‬تومـاس مـان‪ ،‬مـارك تويـن‪ ،‬أوسـكار وايلـد‪،‬‬
‫زوال‪ ،‬اسـتيفان زويـج‪ ،(((...‬والحـظ الناقـد األديب إريـك لوبـروي‬
‫ظـل طيلـة حياتـه يتق َّمـص شـخصية بعـض‬ ‫َّ‬ ‫ديكاردونـوي أن فرويـد‬
‫هـؤالء ال ُكتَّـاب‪ ،‬معتبِــرا ً إيّاهم مناذج تسـمح‪ ،‬بطريقـ ٍة مثالية‪ ،‬بالربط‬
‫بين اإلبـداع الف ّنـي والبحـث العلمـي (ليونـارد دي فانشي‪ ،‬وجوتـه‪،‬‬
‫األخـص((()‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫كل ذلـك أن فرويـد كان يرفـض اللقـاء‬ ‫لكـن األغـرب مـن ّ‬‫ّ‬
‫بالكاتـب النمسـاوي أرتـور شـنيتزلر؛ بدعـوى أنـه يـرى فيـه نوعـاً مـن‬
‫‪Doppelganger‬؛ أي ذلـك القريـن أو الضعـف الـذي يرعبـه أن‬
‫يواجهـه وجهـاً لوجـه(((؛ فقـد اعترف فرويـد‪ ،‬يف رسـالة إىل هـذا‬
‫الكاتـب‪ ،‬أنـه يتج َّنـب اللقـاء به‪ ،‬فهو شـبيهه الـذي يجـد‪ ،‬يف إنتاجاته‪،‬‬
‫تخـص املحلِّـل‬
‫ّ‬ ‫وخلـف مظهرهـا الشـعري‪ ،‬الفرضيّـات والنتائـج التـي‬
‫تخصـه هـو نفسـه‪ :‬كاتبـاً أو محلّلاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النفسـاين‪ ،‬أي التـي‬
‫كل ذلـك‪ ،‬وصف فرويـد‪ ،‬يف رسـالة إىل س‪ .‬فرانزي ‪Sandor‬‬ ‫فـوق ّ‬
‫‪ ،Ferenczi‬مؤلَّفاتـه بأنهـا سلسـلة متواليـة‪ :‬تتألَّـف ‪-‬أ َّوالً‪ -‬مـن أالعيب‬
‫ٍ‬
‫قـاس باسـم‬ ‫جريئـة صـادرة عـن املخيِّلـة‪ ،‬وتتألَّـف ‪-‬ثانيـاً‪ -‬مـن نقـد‬
‫الواقـع؛ وهـذا‪ ،‬وغيره‪ ،‬هـو مـا دفـع بعـض الباحثين املعارصين إىل‬
‫أن يسـتنتجوا أن التحليـل النفسي ليـس‪ ،‬يف النهايـة‪ ،‬إال مرشوعــاً‬
‫يف السرد(((‪ ،‬بـل إن هـذا مـا دفـع الكاتبـة واملحلِّلـة النفسـانية ليديـا‬

‫((( ُينظَ ر‪« :‬جان بيلامن نويل‪ :‬التحليل النفيس واألدب»‪ ،‬ترجمة‪ :‬حسن املودن‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،1997 ،‬ص‪.13‬‬
‫‪(2) E. Leroy Du Cardonnoy, Le divan et la plume, in: Fictions de la psychanalyse, Le‬‬
‫‪magazine littéraire, N:544, Juin, 2014, p 41.‬‬
‫‪(3) Ibid, p 40.‬‬
‫‪(4) E. Loroy Du Cardonnoy, Le divan et la plume, p 40.‬‬

‫‪131‬‬
‫ين‪:‬‬
‫أساس ْ‬
‫َ‬ ‫فليـم((( إىل التنبيـه إىل أمريـن‬
‫يؤسسـها فرويد عـن الالوعي‪،‬‬ ‫‪ -‬خطـورة الفصـل بين املعرفة التي ِّ‬
‫والطريقـة التـي يكتـب بهـا هـذه املعرفـة؛ ففـي مؤلَّفاتـه ليـس هنـاك‬
‫فصـل بين األكادميـي واألديب‪ ،‬بـل هنـاك زواج بينهما‪ ،‬والتحليـل‬
‫النفسي هـو هـذا الـذي يعلِّمنـا كيـف ميكـن لإلسـتيتيقا أن تكـون‬
‫والفـن‪ ،‬بني النظـري والبيوغرايف‬
‫ّ‬ ‫منهجـاً‪ ،‬ذلـك ألنـه يزاوج بين العلم‬
‫واألوتوبيوغـرايف‪ ،‬بطريقـة إبداعيـة‪ ،‬ميتـزج فيهـا االندفـاع والتعقُّـل‪،‬‬
‫التحقيـق والتخييـل؛ فالطريـق التـي تقـود املحلِّـل النفسـاين إىل‬
‫الالوعـي متـ ّر عرب لُــعب ٍة مـن الكلامت والرتابطـات التي تنسـج الرسد‪،‬‬
‫مدهـش‪ ،‬مـن مجـالٍ إىل آخـر‪ ،‬مـن املـريئ إىل‬ ‫ٍ‬ ‫وتتنقـل‪ ،‬بشـكل‬
‫املجـ َّرد‪ ،‬مـن اليومـي إىل النظـري‪ ،‬مـن العلـم إىل الشـعر والتخييـل‪.‬‬
‫‪ -‬أن فرويـد قـد قـ َّد َم مرشوعـاً يف الكتابـة‪ ،‬أي أن أعاملـه هـي‬
‫كاتـب‪ ،‬فهو يَــحيا يف الفضـاء الحميمي للكلامت‪ ،‬يف سـحرها‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫أعمال‬
‫وأصواتهـا وصورهـا‪ :‬أ ّوالً‪ ،‬نجـده ال يقـدِّم عملا كاملاً وتا ّمـاً‪ ،‬بـل نجده‬
‫يسـ ّمي دراسـاته محاولـة أو مالحظـات أو مسـاهمة أو مدخلاً‪ ...‬كأنـه‬
‫يفتـح ورشـاً ليبقـى‪ ،‬دومـاً‪ ،‬مفتوحاً؛ وهـو ‪-‬ثانياً‪ -‬يحاول أن يكتب شـيئاً‬
‫للوعـي‪ ،‬ويعلـم أن تنزيـل ذلـك الشيء الالمـريئ لغويـاً هـو‬ ‫المرئ ّيــاً ّ‬
‫املشـكلة العظمـى‪ ،‬ومـن هنـا اهتاممـه بـاألدب‪ ،‬ألن الروائـع األدب ّيـة‬
‫يئ؛ وهـو ‪-‬ثالثـاً‪ -‬يحـاول أن يفهـم كيـف‬ ‫نجحـت يف كتابـة هـذا الالمـر ّ‬
‫ينكتـب الالوعـي يف مجموعـة مـن الظواهـر والخطابـات مـن أه ّمهـا‬
‫والنص الباطـن‪ ،‬وركَّز انتباهه عىل‬
‫ّ‬ ‫النـص الظاهر‬
‫ّ‬ ‫الحلـم‪ ،‬فتحـدَّث عن‬
‫آليّـات التكثيـف والتحويـل والتمظهـر التـي تتحكَّـم يف الحلـم‪ ،‬فـكان‬
‫‪-‬بذلـك‪ -‬يخـوض يف مسـألة أسـاس‪ ،‬جعلتـه‪ ،‬يف نظـر جـاك دريـدا‪،‬‬
‫متقدِّمـاً على عصره‪ :‬إنها مسـألة اسـتعارية الكتابة‪ ،‬فقـد كان فرويد‪،‬‬
‫النصي للحلـم‪ ،‬مركِّـزا ً نظـره على‬
‫ّ‬ ‫يف نصوصـه‪ ،‬يسـائل بنيـة املشـهد‬

‫‪(1) Lydia Flem, Freud poète de l’inconscient, Alliage, N: 37 -38,1998.‬‬

‫‪132‬‬
‫الجسـد التعبيري‪ ،‬ال باعتبـاره مجـ َّر َد ظاهـ ٍر حامـلٍ لباطـنٍ ثابـت‪ ،‬بـل‬
‫باعتباره جسـدا ً اسـتعارياً متعدِّد املعنى يسـتحيل سـجنه يف مدلولٍ‬
‫ٍ‬
‫واحـد ووحيد‪.‬‬
‫إجماالً‪ ،‬ميكـن أن نفترض ‪-‬اسـتنادا ً إىل العديـد مـن الدراسـات‬
‫املعـارصة‪ -‬أن مؤلَّفـات فرويـد‪ ،‬يف مجموعهـا‪ ،‬ال تشكِّـــل إال مؤلَّفـاً‬
‫روائيـاً ضخماً‪ ،‬وأن التجـارب والحـاالت املرضيـة التـي يسـتند إليهـا‬
‫إل أثـرا ً أسلوبيــاً‪effet-‬‬ ‫التحليـل النفسي ليسـت‪ ،‬يف النهايـة‪ّ ،‬‬
‫‪ ،stylistique‬ومحك ّيـات املحلِّـل النفسي ليسـت أكثر واقع ّيـ ًة مـن‬
‫إل حين متطـر السماء(((‪.‬‬‫قـوس قـزح الـذي النـراه ّ‬
‫إذا كان فرويـد يحلـم بأن يكون كاتباً‪ ،‬وأن يكتب رواية‪ ،‬أو أن يؤلِّــف‬
‫شـيئاً رسديـاً‪ ،‬فـإن الالفـت لالنتبـاه‪ ،‬يف السـنوات األخيرة‪ ،‬أن فرويد‪،‬‬
‫مؤسـس التحليـل النفسي‪ ،‬قـد تحـ َّول‪ ،‬هـو نفسـه‪ ،‬إىل شـخصي ٍة مـن‬ ‫ِّ‬
‫شـخصيات التخييل األديب‪.‬‬
‫يبـدو كأن فرويـد هـذا الـذي كان ‪-‬يحيـا‪ ،‬منـذ صغـره‪ ،‬يف الفضـاء‬
‫به‪ ،‬أنْ ال يشء‬‫الحميمـي للكلمات والنصوص‪ ،‬هذا الـذي أدرك‪ ،‬يف كِ َ‬
‫ــقال خـارج اللّغـة‪ ،‬وأنَّ لغـة األدب هـي األقـدر على النفاذ‬‫َ‬ ‫ميكـن أن يُ‬
‫األدب بالرغـم مـن أنـه قد‬
‫َ‬ ‫إىل مـا يتعـذَّر النفـاذ إليـه‪ ،‬مل يغـادر‪ ،‬بعـ ُد‬
‫األصـح أن نقـول إن فرويـد مل‬
‫ّ‬ ‫و‪-‬ربـا‪-‬‬
‫َّ‬ ‫غادرنـا منـذ عقـود غير قليلـة؛‬
‫ميـت بعـدُ‪ ،‬واسـألوا الروائ ّيين املعارصيـن إن كنتـم ال تصدِّقـون‪،‬‬
‫ُ‬
‫يـرزق يف أرض الروايـة والتخييـل‪ ،‬وكأن للكتابة‬ ‫فـــفرويد ال يـزال ح ّيــاً‬
‫واآلداب آلهـة مل تأمـر‪ ،‬بعـدُ‪ ،‬مبوتـه‪.‬‬
‫‪-‬ربـا‪ -‬أن نشير إىل منـاذج مـن أعمالٍ روائيـة صـدرت يف‬‫َّ‬ ‫ويكفـي‬
‫السـنوات األخيرة‪ ،‬وهـي تؤكِّـد أن فرويـد شـخصية ح ّيـة فاعلـة‪ ،‬وإن‬
‫مل يكـن ذلـك يف عاملنـا «الواقعـي»‪ ،‬ففـي عـوامل األدب والتخييـل‬

‫‪(1) M. Borch- Jacobsen: Freud, un style réaliste, p 49.‬‬

‫‪133‬‬
‫م هـذه النماذج‪ ،‬روايـة جيـد‬ ‫تقـل حيـا ًة وحيويـةً‪ :‬مـن أهـ ّ‬
‫ُّ‬ ‫التـي ال‬
‫روبينفيلـد «تفسير الجرائـم» ‪ ،‬التـي ظهـرت‪ ،‬باللّغـة االنجليزيـة‪،‬‬
‫(((‬

‫سـنة ‪ ،2006‬وت ُرجِمـت إىل اللّغـة الفرنسـية سـنة ‪ :((( 2007‬عنـوان‬


‫أسـاس يف التحليـل النفسي‪ ،‬مؤلَّــف يُـعتبَــ ُر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يذكِّرنـا بعنـوان مؤلَّـف‬
‫جديد اسـمه التحليل النفيس‪« :‬تفسير‬ ‫ٍ‬ ‫هـو نفسـه‪ ،‬عنـوانَ ميالد علـمٍ‬
‫بوليســي يروي كيف قام‬ ‫ٍّ‬ ‫محكــي‬
‫ِّ‬ ‫األحالم»(((‪ .‬وتتقدَّم الرواية يف شكل‬
‫فرويـد‪ ،‬سـنة ‪ ،1909‬برحلـة إىل نيويـورك رفقة بعـض تالمذته‪( ،‬يونج‪،‬‬
‫وفرنـزي)‪ ،‬وكيـف ألقـى مجموعـة مـن املحـارضات يف ضيافـة طبيـب‬
‫ٍ‬
‫بحث‬ ‫شـاب‪ ،‬وكيـف وجد نفسـه ‪-‬وهـو املريض املتعـب‪ -‬منخرطـاً يف‬ ‫ّ‬
‫ـشـفَــت جثَّتهـا‬ ‫يجريـه أحـد املحقِّقين حـول جرميـة قتـل شـاب ٍة‪ ،‬اكتُ ِ‬
‫مؤخَّـرا ً‪ ،‬لحظـة حضـور فرويـد وتالمذتـه إىل نيويـورك‪.‬‬
‫وقبـل ذلـك‪ ،‬يف سـنة ‪ ،2000‬ظهـرت روايـة باللّغـة الفرنسـية‪،‬‬
‫س العظمـة عنـد فرويـد» ألسـتاذ تاريـخ األفـكار‬ ‫تحـت عنـوان «ه َــ َو ُ‬
‫م العثـور عليـه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مخطـوط‪ ،‬تـ َّ‬ ‫إ‪.‬روزنفيلد(((‪.‬هنـا‪ ،‬يتعلّـق األمـر بحكايـة‬
‫وهـو يعيـد ابتـكار شـخصية فرويـد‪ ،‬ويحـدث اضطرابـاً يف نظريَّتـه‪،‬‬
‫ي يجمـع بين العلـم والخيـال‪ ،‬ويخلـط بين األصـول‬ ‫بواسـطة محك ّ‬
‫والشـخصيات واملرجعيـات‪ ،‬ويخلـق أوهامـاً ومغالطـات‪ ،‬ويريـد‬
‫اللعـب‪ ،‬وأن مينـح الفرصـة لحقيقـ ٍة أخـرى حتـى تنجلي‬ ‫َ‬ ‫ميـارس‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫يؤسـس شـخصيَّتنا‬ ‫هـوس العظمة أو جنون َهــا هو ما ِّ‬
‫َ‬ ‫وتنكشـف عـن أنَّ‬
‫وحضارتنـا‪.‬‬

‫& ‪(1) Jed Rubenfeld, The Interpretation of Murder, published by Henry Holt‬‬
‫‪September, 2006.‬‬
‫‪(2) Jed Rubenfeld, L’interprétation des meurtres, ed. Du Panama, 2007.‬‬
‫‪(3) Sigmund Freud, Die Traumdeutung,, ed. Franz Deuticke, Vienne, 1900.‬‬
‫فض ً‬
‫ال أن يصدر‬ ‫‪ -‬كان من املمكن أن يصدر الكتاب يف السنة األخرية من القرن التاسع عرش‪ ،‬لكن فرويد ونارشه َّ‬
‫مرة‪ -‬سنة ‪ ،1926‬تحت عنوان «علم األحالم‪-‬‬ ‫‪-‬ألول ّ‬
‫بداية القرن الجديد (القرن العرشين)‪ ،‬و ُترجم إىل الفرنسية َّ‬
‫‪ ،»Science des rêves‬وظهرت ترجمة أخرى بعد ذلك‪ ،‬تحت عنوان «تأويل األحالم ‪L’interprétation -‬‬
‫العربية‪ ،‬عىل يد املحلَّل النفيس‬
‫ّ‬ ‫‪ ،»des rêves‬وهو العنوان املتداول إىل اليوم‪ .‬وقد ُتـرجم الكتاب‪ ،‬إىل اللّغة‬
‫مصطفى صفوان‪ ،‬تحت عنوان «تفسري األحالم»‪.‬‬
‫‪(4) Israel Rosenfield, La mégalomanie de Freud, ed. Seuil , Paris, 2000.‬‬

‫‪134‬‬
‫ومـن هـذه األعمال مـا يركـب السـخرية‪ ،‬كالروايـة التـي أصدرهـا‬
‫إمربتـو إيكـو باللّغـة اإليطاليـة‪ ،‬سـنة ‪ ،2010‬تحـت عنـوان «مقبرة‬
‫بـراغ»(((‪ ،‬وفيهـا نجـد شـخصية شـابّة اسـمها ‪( Froïde‬بـدل االسـم‬
‫الحقيقي لفرويد‪ ،)Freud :‬وهي يف باريس‪ ،‬خالل سـنة ‪ ،1897‬ترشح‬
‫للسـارد الـذي يعـاين‪( ،‬دون علـمٍ منـه) مـن انقسـام الشـخصية‪ ،‬ومن‬
‫صعوبـات يف تذكُّــر ماضيـه‪ ،‬كما تشرح كيـف تكـون بعـض الظواهـر‬
‫يف حياتنـا النفسـية الواعيـة‪ ،‬ويكون بإمكانهـا أن تحدّد الجـزء الواعي‬
‫ٍ‬
‫ومشـكوك فيهـا‪.‬‬ ‫مـن حياتنـا‪ ،‬بطريقـة غامضـ ٍة‬
‫ِ‬
‫«مريضــي‬ ‫وأصـدر تـويب ناتـان روايـة‪ ،‬سـنة ‪ ،2011‬تحـت عنـوان‬
‫كل مـا قـام تالمـذة فرويـد‬ ‫سـيجموند فرويـد»(((؛ وهنـا‪ ،‬نكتشـف َّ‬
‫وأتباعـه بإخفائـه‪ :‬عالقة فرويد بالجنـس‪ ،‬وباملال‪ ،‬وباملخـدِّرات‪،...،‬‬
‫مـن خلال مذك ٍ‬
‫ِّـرات عثر عليهـا أحدهـم‪ ،‬سـنة ‪ ،2003‬وتعـود إىل أحد‬
‫الخفـي‬
‫ّ‬ ‫أب التحليـل النفسي‪ ،‬وتكشـف ذلـك الوجـه اآلخـر‬ ‫تالمـذة ِ‬
‫إل حارصته‬ ‫انكشـف أمامه هـذا الوجـ ُه ّ‬
‫َ‬ ‫لهـذا األخير‪ ،‬لكـن مـا من أحـد‬
‫كل ناحيـة‪ ،‬فهل ميكـن الحديث عن يش ٍء اسـمه‪ :‬لعنة‬ ‫املصائـب مـن ّ‬
‫ُ‬
‫فرويـد؟‬
‫أقـل لـك ‪-‬عزيـزي القـارئ‪ -‬إن فرويـد ال يـزال حيّــاً يـرزق يف‬
‫ّ‬ ‫أمل‬
‫أرض الكتابـة والتخييـل‪ ،‬تلـك األرض التـي اختـار‪ ،‬مبكِّـرا ً‪ ،‬أن تكـون‬
‫ـسـكَـ َنــه األبـدي‪ ،‬وعيــاً منـه بـأن التحليـل النفسي‪ ،‬مثـل األدب‪،‬‬
‫َم ْ‬
‫ـجـبر على املـرور مـن خلال التعبير األديب‪ ،‬ومـن خلال السرد‬ ‫ٌَ‬ ‫ُم‬
‫والتخييـل‪ ،‬وإدراكــاً منـه بـأن األدب‪ ،‬مثـل التحليـل النفسي‪ ،‬هـو هذا‬
‫الـذي يصعد ‪-‬بحسـب تعبير الكاتب جورج أرتور جولدشـميت‪َ -‬مـ َمــ َّر‬
‫هـذا القطـار الـذي يطمـح‪ ،‬دومــاً‪ ،‬إىل العـودة إىل محطّـة االنطلاق‪،‬‬

‫‪(1) Le Cimetière de Prague (titre original: Il Cimitero di Praga) est le sixième roman du‬‬
‫‪sémioticien et écrivain Umberto Eco, publié le 29 octobre 2010aux éditions Bompiani. La‬‬
‫‪traduction française, signée Jean-Noël Schifano, est parue chez Grasset en mars, 2011.‬‬
‫‪(2) Tobie Nathan, Mon patient Sigmund Freud, roman, Points, Seuil, Paris, 2011.‬‬

‫‪135‬‬
‫أي إىل الالوعـي؛ إىل هـذا الـذي يكـون حـارضا ً عىل الدوام‪ ،‬مـع أنه مل‬
‫يكـن موجـودا ً‪ ،‬أبـدا ً‪.‬‬
‫كاتب روايـ ٍة ضخم ٍة‬
‫َ‬ ‫إجماالً‪ :‬هـل ميكـن أن نقـول إن فرويد قـد كان‬
‫م‬‫اسـمها التحليـل النفسي‪ ،‬وأنـه‪ ،‬اليوم‪ ،‬شـخصية مثرية يف عـد ٍد مه ّ‬
‫مـن الروايـات واألعمال التخييليـة‪ ،‬وأن العالقـة بني فرويد والكُــتَّاب‪،‬‬
‫قيـد حياتـه‪ ،‬وبعد وفاته‪ ،‬هي عالق ٌة غريبة ومقلقة‪ ،‬عجيبة ومدهشـة‪،‬‬
‫مم‬‫وأن العالقـة بين األدب والتحليـل النفسي أكثر تداخلاً وتعقيـدا ً ّ‬
‫لسـبب بسـيط وأسـاس هـو أنهما ميثِّلان‪ ،‬معـاً‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫و‪-‬ربـا‪-‬‬
‫َّ‬ ‫نتصـور‪،‬‬
‫أرض غرائزنـا وأحالمنـا‪ ،‬أرسارنـا ورغائبنـا‪ ،‬جراحاتنـا وآالمنـا الدفينـة‪،‬‬ ‫َ‬
‫الســ ِّريَّـــة؟‬
‫وحميم َّيتنا ِّ‬

‫‪136‬‬
‫الئحة املصادر واملراجع‬

‫‪ - 1‬باللّغة العرب ّية‪:‬‬


‫‪ -‬بورخيـس‪ ،‬خورخـي لويـس‪« :‬بورخيس وأنا»‪ ،‬ضمن مؤلَّـــف‪ :‬سداسـيات بابل‪،‬‬
‫مختـارات نقلهـا‪ ،‬إىل العربيّة‪ ،‬حسـن نـارص‪ ،‬دار الكتاب الجديـد املتَّحدة‪.2013 ،‬‬
‫‪ -‬بورخيـس‪ ،‬خورخـي لويـس‪« :‬اآلخـر»‪ ،‬ضمـن‪ :‬كتـاب الرمـل‪ ،‬ترجمـة‪ :‬سـعيد‬
‫الغامنـي‪ ،‬اإلصـدار الثـاين‪ ،‬أزمنـة للنشر والتوزيـع‪ ،‬األردن‪.1999 ،‬‬
‫‪ -‬بورخيـس‪ ،‬خوخـي لويـس‪« :‬الزمـن»‪ ،‬ضمـن مؤلَّـــف‪ :‬بورخيـس صانـع‬
‫املتاهـات‪ ،‬ترجمـة وتقديـم‪ :‬مح َّمـد آيـت لعميـم‪ ،‬املركـز الثقـايف العـريب‪،‬‬
‫البيضـاء‪ ،‬بيروت‪.2016 ،‬‬
‫‪ -‬بيلمان نويـل‪ ،‬جـان‪ :‬التحليـل النفسي واألدب‪ ،‬ترجمـة حسـن املـودن‪،‬‬
‫املجلـس األعلى للثقافـة‪ ،‬القاهـرة‪.1997 ،‬‬
‫‪ -‬تابـويك‪ ،‬أنطونيـو‪« :‬هـل وجـد بورخيـس فعلاً؟»‪ ،‬ضمـن مؤلَّـــف‪ :‬بورخيـس‬
‫صانـع املتاهـات‪ ،‬ترجمـة وتقديـم مح َّمـد آيـت لعميـم‪ ،‬املركـز الثقـايف العـريب‪،‬‬
‫البيضـاء‪ ،‬بيروت‪.2016 ،‬‬
‫‪ -‬راسين‪ ،‬جـان‪ :‬مأسـاة طيبـة أو الشـقيقان‪ ،‬ترجمـة أدونيـس‪ ،‬منشـورات‪ :‬مـن‬
‫املسرح العاملـي‪ ،‬العـدد ‪ ،118‬يوليـو‪ ،1978 ،‬وزارة اإلعلام‪ ،‬الكويـت‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫‪ -‬سـوفوكليس‪ :‬امللـك أوديـب‪ ،‬ترجمـة‪ :‬عامّر أحمـد حامـد‪ ،‬دار العائدي للنرش‬
‫والدراسـات والرتجمة‪ ،‬دمشـق‪ ،‬ط‪.2005 ،2‬‬
‫‪ -‬فرويـد‪ ،‬سـيجموند‪ :‬تفسير األحلام‪ ،‬وذلـك عـن دار املعـارف يف مصر‪ ،‬سـنة‬
‫‪.1959‬‬
‫‪ -‬البالنـش‪ ،‬جـان؛ وبونتاليـس‪ ،‬جـان برترانـد‪ :‬معجـم مصطلحـات التحليـل‬
‫النفسي‪ ،‬ترجمـة‪ :‬مصطفى حجـازي‪ ،‬منشـورات املنظَّمة العرب ّيـة للرتجمة‪.2011 ،‬‬
‫‪ -‬املسـناوي‪ ،‬مصطفى‪ :‬اللّغة‪ ،‬الخيايل والرمزي‪ ،‬تأليف‪ :‬جاك الكان‪ ،‬منشـورات‬
‫االختالف‪.2006 ،‬‬
‫‪ -‬املطيلي‪ ،‬أحمد‪ :‬أزمة املصطلح النفيس العـريب‪ ،‬مجلّة «العربيّة والرتجمة»‪،‬‬
‫العددان‪ 5 :‬و‪ ،6‬خريف ‪ / 2010‬شتاء ‪ ،2011‬ص‪.127-79 :‬‬
‫قصـة النبـي يوسـف‪ ،‬عقـدة األخـوة أوىل‬
‫‪ -‬املـودن‪ ،‬حسـن‪ :‬قـراءة نفسـانية يف ّ‬
‫«تبين»‪ ،‬العـدد ‪ ،10‬املجلَّـد الثالـث‪ ،2014 ،‬ص‪.47 - 37‬‬
‫ُّ‬ ‫مـن عقـدة أوديـب‪ ،‬مجلّـة‬
‫‪ -‬التحليـل النفسي واألدب‪ ،‬تأليف جان بيلامن نويـل‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪،‬‬
‫القاهرة‪.1997 ،‬‬
‫َتل روجيـه أكرويـد؟ تأليف‪ :‬بيري‬
‫‪ -‬الروايـة البوليسـية والتحليـل النفسي‪َ ،‬مـــن ق َ‬
‫بيـار‪ ،‬دار رؤيـة للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهـرة‪.2015 ،‬‬

‫‪138‬‬
:‫ باللّغة األجنبية‬- 2
- Althusser, Louis: Écrits sur la psychanalyse, Freud et Lacan, Livre
de poche, 1993.
- Anzieu, Didier: «Le corps et le code dans les contes de Borges», in:
Le corps de l’œuvre, Gallimard, Paris, 1981,.
- Balzac, Honoré de: La Comédie humaine, tome XVI, préface et
notes de Roland Chollet, Lausanne, éditions Rencontre, 1969.
- Barthes, Roland: Œuvres Complètes, 5 vol., Seuil, Paris, 2002.
- Le Neutre, (texte établi, annoté et présenté par Thomas Clerc),
Seuil, Paris, 2002.
- Sur Racine, Club français du livre et Editions du Seuil, Paris, 1963.
- «Commentaire Préface à Brecht, Mère Courage et ses enfants»,
dans: Écrits sur le théâtre, Seuil, Paris, 2002.
- La chambre claire, Note sur la photographie, Seuil, Paris, 1980.
- Bayard, Pierre: Peut-on appliquer la littérature à la psychanalyse,
Minuit, Paris, 2004.
- Maupassant, juste avant Freud, Minuit, Paris, 1994.
- Qui a tué Roger Ackroyd?,ed. Minuit, Paris, 1998.
- Enquête sur Hamlret, Le dialogue des sourds, Minuit, Paris, 2002.
- Comment parler des livres que l’on n’a pas lus, Minuit, Paris, 2007.
- Comment rendre un texte incompréhensible ?, Dossier Banlieues de
la littérature, l’Agenda de la pensée contemporaine, 10, printemps, 2008.
- L’Affaire du chien des Baskerville, Minuit, Paris, 2008.
- Bellemin-Noel, Jean: Psychanalyse et littérature, coll. Que
sais-je?, P.U.F., 1978 (rééd. 1983 et 1989, 2012).
- Le texte et l’avant-texte, Larousse, Paris, 1972. Vers l’insconscient
du texte, coll. Écriture, P.U.F, Paris, 1979.
- Gradiva au pied de la lettre, coll. Le Fil rouge, P.U.F., Paris, 1983.

139
- Plaisirs de vampire, «Écriture», PUF, Paris 2001.
- Comment parler des lieux ou l’on n’a pas été, Minuit, Paris, 2012.
- Lire de tout son inconscient, Presses Universitaires de Vincennes,
coll. “Essais et Savoirs”, 2011.
- Ben Slama, Raja: L’arbre qui révèle la foret, Traductions arabes de la
terminologie freudienne, in: TansEuropéennes, revue internationale
de Pensée critique, 2012.
- Blanco, Mercedes: «Borges et l’aversion pour la psychanalyse»,
Savoirs et clinique, 2005.
- Borch- Jacobsen, M: Freud, un style réaliste, in: Fictions de la
psychanalyse, Le magazine littéraire, N544, Juin 2014.
- Borges, J-L. ; Ocampo, V: Dialogue, ed. Bartillat, 2014.
- Chemama, Roland: Dictionnaire de la psychanalyse, ed. Larousse,
Paris, 1993.
- Chiantaretto Jean - François: De l’acte autobiographique, le
psychanalyste et l’écriture Autobiographique, Seyssel, Champ
Vallon, 1995.
- Comment, Bernard: Roland Barthes vers le Neutre, Christian
Bourgois Editeur, 1991.
- Daisuke, Fukuda: «L›enfant qui jouait le jeu de la Mère. Le cas de
- Roland Barthes., Savoirs et clinique 2 - 2009 (n° 11).
- Deleuze, Gilles: Logique du sens, Minuit, Paris, 1969.
- Flem, Lydia: Freud poète de l’inconscient, Alliage, N: 3738,- 1998.
- Freud, Sigmund: L’interprétation des rêves, PUF, Paris, 2003.
- Délire et rêves dans la GRADIVA de JENSEN, NRF, 1970. , «Leroman
familial des névrosés (1909)», in: Névrose, psychose et perversion.
PUF, Paris, 1973.
- Gaillard, François: Barthes juge de Roland, Communications, 36, 1982.
- Kanitzer, Margarette: Traduire Freud, une mission sans limite, in:

140
Analuein, Le Journal de la F.E.D.E.P.S.Y., n2, Avril, -2002, Strasbourg.
- Lacan, Jacques: Ecrits, Seuil, Paris, 1966.
- Litturaterre, 1971, dans: Autres écrits, Seuil, Paris, 2001, Voir aussi:
Jacques Lacan,
- «Leçon sur Lituraterre», dans Le Séminaire, Livre XVIII, D’un
discours qui ne serait pas du semblant, [1971], Seuil Paris, 2006.
- Autres Écrits, Seuil, Paris, 2001.
- Lavagetto, Mario: Freud à l’épreuve de la littérature, éd. Seuil, 2002.
- Le Galliot, Jean: Psychanalyse et langages littéraires, Nathan,
Imprimerie Aubin, 1977.
- Leroy Du Cardonnoy, E.: Le divan et la plume, in: Fictions de la
psychanalyse, Le magazine littéraire, N:544, Juin,2014.
- Leupin, Alexandere: Babel ou la cristallinité: Traduire Lacan, in:
Squigle, février, 2007.
- Lits, Marc: Le roman policier, introduction à la théorie et à
l’histoire d’un genre littéraire, Liège, ed. CEFAL, (2eme) édition, 1999.
- Maniglier, Patrice: Surdetermination et duplicité des signes: de
Saussure à Freud, in: revue Savoirs et clinique, Transferts littéraires,
N: 6- 7, Octobre, 2005.
- Marty, Eric: Louis Althusser, un sujet sans procès, «L’infini»,
Gallimard, Paris, 1999.
- Roland Barthes et le discours clinique, lecture de S / Z; Essaim,
2005 / 2, N: 15.
- Mauron, Charles: L’inconscient dans l’œuvre et la vie de Racine,
Gap, Ophrys, 1957.
- Miceli, Sergio: Jorge Luis Borges, Histoire sociale d’un «Ecrivain-né»,
Actes de la recherche en sciences sociales, 2007 / 3 (N: 168), p 82 - 101.
- Michaud, Ginette: Psychanalyse et traduction, voies de traverse,
in: Traduction, Terminologie, rédaction, vol.11, n2, 1998, p:937.
- Miller, Jacques - Alain: «Action de la structure», 1964, repris dans:

141
Un début dans la vie, Le Promeneur, 2002.
- Milner, Jean - claude: Linguistique et psychanalyse, Encyclopaedia
Universalis France.
- Morin, Edgar: Le retrouvé et le perdu, Communications, 36, 1982.
- Moyal, Gabriel Louis: Interprétation et fétiches: entre traduction
et psychanalyse, in: Traduction, terminologie, rédaction, vol.11, n2,
1998, p:131 - 151.
- Nathan, Tobie: Mon patient Sigmund Freud, roman, Points, Seuil,
Paris, 2011.
- Pacaly, Josette: «Une bévue: la castration dans S / Z», dans: Barthes
après Barthes, colloque de Pau, R. Salado et C. Coquio, Publications de
l’Université de Pau, 1993.
- Peraldi, François: Psychanalyse et traduction, in: Meta, Journal
des traducteurs, vol 27, n 1, 1982,p: 9 - 25.
- Pontalis, J.B ; Mongo, E.G: Freud avec les écrivains, Gallimard,
Paris, 2012.
- Reboul, Jean: «Sarrasine ou la castration personnifiée», Cahiers
pour l’analyse, N: 7, Mars - Avril, 1967.
- Rosenfield, Israel: La mégalomanie de Freud, Seuil , Paris, 2000.
- Rubenfeld, Jed: The Interpretation of Murder, published by Henry
Holt & Co, September ,2006.
- L’interprétation des meurtres, ed. Du Panama, 2007.
- Safouan, Mustapha: Le structuralisme en psychanalyse, Seuil,
Paris, 1979.
- Starobinski, Jean: Les mots sous les mots, Les anagrammes de
Ferdinand de Saussure, Gallimard, Paris, 1971.
- Wood Frances: Did Marco Polo go to China ?, Westview Press, 1996.

142
‫الفهرس‬

‫‪5‬‬ ‫مـقـــــدمــة ‪....................................................‬‬


‫ّ‬

‫‪13‬‬ ‫األول‪( :‬فــي البداية‪ ،‬هناك العودة إىل فرويد) ‪.....‬‬


‫الـــفــــصــــــل َّ‬
‫‪ -‬ماذا عن العالقة بني فرويد‪ ،‬وسوسري‪ ،‬والكان؟‪.‬‬
‫آخر‪.‬‬
‫‪ -‬روالن بارت‪ :‬هناك فرويد َ‬
‫النص إىل الوعي القارئ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬جان بيلامن نويل‪ ،‬من الوعي‬
‫‪51‬‬ ‫الـفـصـل الــثــانــي‪( :‬فـرويـد‪ ،‬والكــان‪ ،‬وسـؤال الـتـرجـمــة) ‪.....‬‬
‫ـمـــة‬
‫ـه َّ‬
‫وترجمة الكان َم َ‬
‫ُ‬ ‫ـمـــة بال حدود‪،‬‬
‫ـه َّ‬
‫ترجمة فرويد َم َ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫مستحيلة‪.‬‬
‫غري قابلٍ للفهم!‪.‬‬
‫َــص ُ‬ ‫‪ -‬جاك الكان ن ٌّ‬
‫‪77‬‬ ‫َـحو تطبيق األدب عىل التحليل النفيس) ‪.....‬‬
‫الـفـصل الــثالث‪( :‬ن َ‬
‫ـعيد كتابةَ فــرويــد؟‬
‫كـان بــورخـيـس ُي ُ‬
‫َ‬ ‫‪َ -‬هـلْ‬
‫ـطبيق األدب عـلـى التحليل النفيس؟‬
‫ُ‬ ‫ـمـكـن َت‬
‫ُ‬ ‫‪َ -‬هـلْ ُي‬
‫‪105‬‬ ‫َظرياً؟) ‪.......‬‬
‫حكي ًا ن ّ‬
‫النقد َم ّ‬
‫ُ‬ ‫كون‬
‫أن َي َ‬‫الفصـل الرابع‪( :‬ما َمعنى ْ‬
‫الناقد النفيس كتابةَ الرواية البوليسية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ـعيد‬
‫‪ -‬عندما ُي ُ‬
‫ـسافر إىل مكانٍ بعيد؟‬
‫َ‬ ‫أن ُت‬
‫‪ -‬يف األدب‪ ،‬ما معنى ْ‬
‫‪127‬‬ ‫َـعود ِم ْ‬
‫ـن جديد إىل فرويد؟) ‪.................‬‬ ‫ُ‬ ‫خــاتــمــة‪َ :‬‬
‫(هــلْ ن‬
‫صدر يف سلسلة‬

‫‪2011‬‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫‪2012‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬
‫ّ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫واملدنية‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم بني العلم‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫الصديق‬
‫ّ‬ ‫عبقرية‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫‪2013‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫السياسية‬
‫ّ‬ ‫الكتابات‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫مجموعة مؤلفني‬ ‫العربية‬
‫ّ‬ ‫فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة‬ ‫‪31‬‬
‫‪2014‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫عامليني)‬
‫ّ‬ ‫ِساج ُّ‬
‫الرعاة (حوارات مع كُ تاب‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل ِح ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬
‫َ‬ ‫عن‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشيل سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫(تأمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬
‫تزفيتان تودوروف ُّ‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الف ّنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري»‬ ‫‪43‬‬
‫‪2015‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫جرجي زيدان‬
‫ُ‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫عباد يف سنواته األخرية باألرس‬
‫بن َّ‬
‫ُعتمد ُ‬
‫ُ‬ ‫امل‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف ذَ نّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫‪2016‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫والفن والحضارة)‬
‫ّ‬ ‫واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب‬
‫ّ‬ ‫بني الج ْزر‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫ظلّ الذّ اكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مجلّة الدوحة»‬ ‫املرصية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬
‫ّ‬ ‫الرحلة الف ّنية إىل الديار‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫(مختارات ِش ْع ّ‬
‫رية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫براعم األمل ُ‬
‫ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫ال ّتوت امل ُّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ِ‬
‫جلجامش‬ ‫ملحمة‬
‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬
‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫‪2017‬‬
‫محمد فريد سيالة‬
‫ّ‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬ ‫فن َ‬ ‫ّ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫ك ِف َم ْع ِر َف ِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ‬
‫ك‬ ‫َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫َ‬
‫األخلق‬ ‫كتاب‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْح َلةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْح َلةٌ َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ريةُ ِف قَطَ ر)‬ ‫صةُ ا ْلق ِ‬
‫َص َ‬ ‫ارات ِمن َا ْل ِق َّ‬
‫(مخ َت َ‬ ‫ِق ْ‬
‫ـطاف ُ‬ ‫‪77‬‬
‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج‪ 1 :‬جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫‪78‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية‪ .‬ج‪2 :‬‬ ‫‪79‬‬
‫‪2018‬‬
‫إسحق موىس الحسيني‬ ‫مذكرات دجاجة‬ ‫‪80‬‬
‫نورمان ج‪ .‬فينكلستاين‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد زراقي‬ ‫ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟‬ ‫‪81‬‬
‫د‪ .‬نزار شقرون‬ ‫نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب‬ ‫‪82‬‬
‫إس‪ .‬إس‪ .‬بيو ‪ -‬ترجمة‪ :‬يعقوب رصوف ‪ -‬فارس منر‬ ‫والعظَ َم ِء الق َُدماء‬
‫ُ‬ ‫ِمن ِس َي ا َ‬
‫ألبْطَ ال‬ ‫‪83‬‬
‫إغناطيوس كراتشكوفسيك‬ ‫العريب‬
‫ّ‬ ‫مقاالت ِف األدب‬ ‫ٌ‬ ‫‪84‬‬
‫صوف‬
‫صموئيل ساميلز ‪ -‬ترجمة‪َ :‬يعقُوب َ ُّ‬ ‫س ال َّن َج ِ‬
‫اح‬ ‫ِ ُّ‬ ‫‪85‬‬
‫ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور‬ ‫ِم ْن آ َثا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور‬ ‫‪86‬‬
‫أحمد الهاشمي‬ ‫الع ْ ِ‬
‫ص َّية‬ ‫ات َ‬ ‫اء املُكَ ات ََب ِ‬
‫ِنش ُ‬
‫إ َ‬ ‫‪87‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالرحمن الخمييس وآخرين‬ ‫السوفْيي ِّتي‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫الش‬
‫ِّ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ارات‬
‫ٌ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫خ‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫أجراس‬ ‫‪88‬‬
‫اختارها وترجمها‪ :‬جربا إبراهيم جربا‬ ‫حكايات من الفونتني‬ ‫‪89‬‬
‫ألبريطو مانْغيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬إبراهيم الخطيب‬ ‫مع بورخيس‬ ‫‪90‬‬
‫لوسيان جولدمان‪ ،‬ناتايل ساروت‪ ،‬آالن روب‬ ‫الرواية الجديدة والواقع‬ ‫‪91‬‬
‫غرييه‪ ،‬جينفياف مويلو‪ .‬ترجمة‪ :‬رشيد بنحدو‬
‫‪2019‬‬

‫إميل الوست ‪ -‬ترجمة‪ :‬إدريس امللياين‬ ‫أمازيغية)‬


‫َّ‬ ‫شعبية‬
‫َّ‬ ‫(حكايات‬
‫ٌ‬ ‫غزالن الليل‬ ‫‪92‬‬
‫املؤلف‪ :‬جورج النغالن ‪ -‬ترجمة‪ :‬خليفة ه ّزاع‬ ‫الذُّ َب َ‬
‫ابةُ‬ ‫‪93‬‬
‫عبد اللطيف الوراري‬ ‫ترجمة النفس (السرية الذاتية عند العرب)‬ ‫‪94‬‬
‫أحمد الصفريوي ‪ -‬ترجمة‪ :‬رشيد مرون‬ ‫صندوق العجائب‬ ‫‪95‬‬
‫كارلوين وفيلو ‪ -‬ترجمة‪ :‬كيتي سامل‬ ‫النقد األديب‬ ‫‪96‬‬
‫ترجمة‪ :‬خالد الريسوين‬ ‫شعرية)‬
‫ّ‬ ‫خوان مانويل روكا‪َ ..‬صا ِن ُع امل ََر َايا (مختارات‬ ‫‪97‬‬
‫ميشيل بوتور‪-‬ترجمة‪ :‬فريد أنطونيوس‬ ‫الجديدة‬
‫الر َواية َ‬
‫بحوث يف ّ‬ ‫‪98‬‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like