Professional Documents
Culture Documents
ا
أوًل :املستوى التركيبي /البنية التركيبية والظواهر األسلوبية:
أسلوب اًلستفهام: -1
ويلحظ أن بنية التراكيب اًلستفهامية -في دالية املتنبي -توزعت على ثنائية الحضور (الخطاب)
والغياب ،أما على صعيد الحضور فإن اًلستفهام كغيره من أساليب الطلب يأوي الباث فيه إلى
إسهام املخاطب الذي يتحول من متقبل مجرد إلى طرف مشاركّ ،
ولعل الحضور السياقي لآلخر
على هيئة (أنا) أو (أنت) من أبرز مظاهر املتقبل في الناتج الدًللي ،وآية ذلك األبيات اآلتية:
عيد ...بما مض ى أم بأمرفيك تجديدُ عيد ب َأ ّية حال ُعدت يا ُ
ٌ
ٍ ٍ ِ
ُ
وتسهيد أخمرفي كؤوسكما ...أم في كؤوسكما ٌّ
هم ٌ يا سا ِق َّ
يي
ٌ
أ صخرة أنا؟ ما لي ال تحركني ...هذي املدام وال هذي األغار ُيد
ُ ُ ُ
محسود باك منهماذا لقيت من الدنيا وأعجبه ...أني بما أنا ٍ
حينا إلى /أنت ٌ /ا
سواء كان يتمثل في الزمن (العيد) اًلستفهام في األبيات السابقة يتوجه
ا
أم يتمثل في (ساقيي الخمر) ،ويتوجه حينا آخر إلى /أنا /وهو الشاعر نفسه ،ونرى
امتعاض املتنبي لنفسه عبر توجيه الخطاب إلى ذاته.
ّ
ويتكرر اًلستفهام على نسق الغياب في النص الشعري خمس مرات ،ومثال ذلك قوله في
األبيات اآلتية:
ص َر َت ْم ُ
هيد يد ُه َ ...أو َخ َان ُه َف َل ُه في م ْ السوء َس َ ُّ بدال َع ُ َ َ ُ َّ ْ َ
ت ـأ كلما اغ
ِ ِ
الصيدُ ُ
آباؤ ُه ّ ُ ُ ُ َّ َ ْ ُ َ ً َ َ َ َ عل ََّ
ِ أم يض الب
ِ ه وم ق أ ... ة م ر ك م ي ملخص
ِ ا األسود م من
بال َف ْل َس ْين َم ْر ُ
دود
ْ
وهو ه دامية َ ...أ ْم َق ْد ُر ُ
ً
خاس
ّ
الن ي د ّأ ْم أذنه في َ
ي
ِ ِ ِ
صي ُة ُّ
السودُ فكيف الخ َ َ َ ٌ َ َ ُ َّ َ
ِ الجميل
ِ عاجزة ...ع ِن البيض ِ وذاك أن الفحول ِ
وجه
تتمركز داللة االستفهام يف األبيات حول الغياب ،ولو ذكر الشاعر املخاطب (كافور) أو ّ
إليه اخلطاب مباشرةً ،الحنصرت إحياءات األسلوب يف كافور اإلخشيدي وحده وال يشمل
غريه ،وهذا ما جيعل دالالت األبيات منفتحة على الكل ال منغلقة على اجلزء ،فضالً عن أن
نسق الغياب يساعد املتنيب يف إضفاء ٍ
لون من التعتيم على النص حىت ال تصل املعاين اهلجائية
الالذعة إىل كافور على حنو مباشر ،ألن التلميح ابهلجاء أغىن دالل ًة من التصريح به.
وهبذا ميكننا القول :إ ّن "االستفهام هو املالذ الرئيسي الذي ينقذ القصيدة من الوقوع يف شرنقة
السكون" ،ومن الطريف ان نلحظ أ ّن االستفهام أصبح تقنية تعمل على تشكيل بنية مدورة
تتمثل يف التوافق بني املطلع واخلامتة ،فالنص الشعري يبدأ ابالستفهام وينتهي ابالستفهام
أيضاً ،ممّا يؤكد حركية القصيدة وانطالقتها إىل ما هو أبعد لتجسيد االنفعاالت الوجدانية اليت
متور يف نفس الشاعر.
-2أسلوب النفي:
يشكل أسلوب النفي ـ الصريح والضمين ـ أحد أبرز الظواهر األسلوبية يف القصيدة ،وقد
متت تشكيالته أبدوات متنوعة (لوالـ مل ـ ما ـ ليس ـ ال) ،غري أن األداة األكثر دوراانً يف
مكررة كما يف األبيات اآلتية: النص هي (ال) ،وغالبًا ما أتيت ّ
ْي وال ِجي ُد الد ِ ِ
هر م ْن قَ لْيب وال كبدي ...شيئاً تُتيّ ُمهُ َع ٌْ مل يرتُك َّ ُ
أ صخرةٌ أان؟ مايل ال حتركين ...هذي املدام وال هذي األغاري ُد
ود
سان فال كانُوا وال اجلُ ُ ودهم ِ ...من اللِّ ِ ِ ود َّ ِ
َ الرجال من األيدي َو ُج ُ ُ ُج ُ
ِ ْن ُمن َفتِ ٍق ...ال يف َّ ِ ِ
النسوان َم ْع ُدود الرجال وال م ْن ُك َّل ِر ْخ ٍو ِوكاء البَط َ
مرد هذا االستخدام الكثيف وذلك التوزيع املتوازن إىل أ ّن األداة (ال) تقوم بوظيفة
لعل ّ
ّ
اجملال للشاعر لكي ينفس عن امتعاضه آن واحد ،فهي تتيح َ داللية وفنية مزدوجة يف ٍ
الداخلي ،كما تكشف عن شدة غضبه على كافور اإلخشيدي.
-3أسلوب االعرتاض:
يؤدي االعرتاض بني ُركين اجلملة دوراً ابلغ األمهية يف إثراء النص ابملعاين اإلضافية اليت يبغي
الشاعر إاثرهتا ،من ذلك قوله:
ُ
حمسود
ُ ابك منه- َ َُ يت ِم َن ُّ
الدنيا وأَعجبهُ ...أََن -مبا َأان ٍ ماذا لَِق ُ
إن االعرتاض الذي وقع بني اسم إن وخربها يصور الواقع النفسي املؤمل الذي يعيشه
الشاعر ،مثلما يوحي إبساءة اإلخشيدي إليه ،فضالً عن أن االعرتاض هو الذي يعطي
القيمة الداللية لالستفهام الوارد يف بداية الصدر (ماذا) ،ولعجبه يف هناية الصدر
(وأعجبه).
َ َ ُ ُتط ُ وب م ْش َف ُر ُ َ َ ُ
عاد ُيد
ِ َّ
الر يط
ر اض الع ذي يع ُ
ه ِ ... ه ِ
املثق َ َّ
وأن ذا األسود
ّ
للمهجو استهز ااء به وسخرية. املشفر في األصل للبعير ،وقد جعله املتنبي سمة
-2التشخيص:
فيك َت ْج ُ َ
عيد ...بما َم َض ى أم بأمر َ ُ َ
دت يا ُ ٌ
عيد ب َّ
ديد ِ ٍ ع حال
ٍ ةِ أي ِ
تحول العيد إلى عاقل يشارك املتنبي همومه.
ُ
الحنين بالشاعر إلى استذكار أهله راح يخاطب البيداء على طريقة التشخيص وحين استبد
ا
أيضا:
يد
ً
يدا ُدونها ب ُ ب دونك
َ
فليت ... داء ُد ُ
ونه ُ
م ّأما األح ّب ُة َف َ
الب ْي ُ
ِ ِ ِ
-3الكناية:
َ
النسوان َم ْع ُد ُ الب ْط َن ُم ْن َف ِتق ...ال في َّ
م ْن ُك َّل ر ْخو وكاء َ
ود ِ وال جال الر ٍ ِ ٍ ِ ِ ِ
كناية عن أنه ًل يمسك ما في بطنه من ريح ،فهو دائم الفساء.
بال َف ْل َس ْين َم ْر ُ
دود
ْ
وهو دامية َ ...أ ْم َق ْد ُر ُ
ه
ً
اسخ
ّ َّ
الن يد ّأ ْم أذنه في َ
ي
ِ ِ ِ
إن البيت كله أسلوب كنائي يرسم املهجو ،وهو في قبضة ّبياع الرقيق (النخاس) الذي
عبدا ،والنخاس يريد أن يبيعه بثمن بخس (فلسين) لكنهيمسك أذنه علمة على كونه ا
مع ذلك ًل يشتريه أحد ،كناية عن تفاهته وحقارته.
-4املفارقة:
املقصود بها :تعبير لغوي بأسلوب بليغ يهدف إلى استثارة القارئ وتحفيز ذهنه لتجاوز
املعنى الظاهري املتناقض للعبارة والوصول إلى املعاني الخفية التي هي مرام الشاعر
الحقيقي.
والتناقض سمة بارزة في حياة املتنبي ،ألنه عاش في صراع دائم بين الواقع واملثال ،وبين األمل
واليأس ،وبين الحزن والسرور ،فكان شعره صورة لنفسه املضطربة املتناقضة.
ُ َ َّ ْ ُ َ َ َّ ُ ّ ّ
موجود البيضاء
ِ أبي َ
ل ث م
ِ نوأ ... دواقوال توه ْمت أن الناس قد ِ
ف
كنى عن كافور اإلخشيدي بأبي البيضاء ،مع أنه كان أسود ،بل شديد السواد ،ومن خلله ّ
يمكن القول بان الدًللة العميقة لهذا التناقض الدًللي هو السخرية اللذعة من لون
اإلخشيدي وهيأته بإعطائه صفة التضاد.
ُ َ َ ُ َ ُّ ْ َ َ ُ ُ َ
محسود باك منه
ماذا ل ِقيت ِمن الدنيا وأعجبه ...أني بما أنا ٍ
إنها املفارقة الكبرى التي تعكس لنا شدة أمله ،فرغم بؤسه وشقائه لكنه محسود من الناس.
-5جمع التكسير:
وردت جموع التكسير بنسبة عالية يبلغ عددها ثلثين صيغة (ثعالبها ،العناقيد ،أنجاس،
ّ
مناكيد ،الخصية السود ،آباؤه البيض ،اللئام ،العبيد ،) ...وجلها ترتبط باملعاني السلبية
الرامية إلى التقليل من قدر املهجو و الحط من منزلته ،والجمع بدوره يكثف الطاقة األسلوبية
لأللفاظ ،وكأن الشاعر يوحي إلى القارئ بأن اإلخشيدي هو مجمع السيئات وملتقى الرذائل،
ويلحظ أن الصيغة التي وردت عليها غالبية جموع التكسير هي صيغ الكثرة وصيغ منتهى
الجموع.
ا
ثالثا :املستوى الصوتي /البنية اإليقاعية:
البعد األول :قد أطلق الباحثون املحدثون على التوافقات الصوتية الداخلية مصطلح "التوازي"، ُ
ٌ
وهو "عبارة عن عنصر بنائي في الشعر يقوم على تكرار أجزاء متساوية".
-1يتجلى أول مظهر من مظاهر التوازي بوضوح في مطلع القصيدة من خلل لجوء املتنبي إلى
(التصريع):
فيك َت ْج ُ َ
عيد ...بما َم َض ى أم بأمر َ
دت يا ُُ َ ٌ
عيد ب َّ
ديد ِ ٍ ع حال
ٍ ة
ِ أي ِ
ا ا ا ُ -2ي ُّ
عد التصدير (ر ّد العجزعلى الصدر) من صور التوازي التي تحدث تناظرا صوتيا وتناسبا
ا
إيقاعيا بين الشطرين ،ويظهر ذلك في قوله:
الج ُ ُ
كانوا وال ُ َ ّ َ ُ ُ ُ ُ ُ َّ
ود سان فال
األيدي وجودهم ِ ...من ِ ِ
الل جال من ِ جود الر ِ
-3وقد حفلت القصيدة بلو ٍن آخر من ألوان التوازي الصوتي ،وهو (الجناس) الذي يجمع
بين التماثل الصوتي والتكثيف الدًللي ،وتتجسد هذه املوازاة املوسيقية في أبيات متفرقة
ُ
(جود//عود)، (جيد //بيد)( ،تسهيد//تمهيد)( ،مفقود//مفؤود)، بين دوال عديدة هي ِ
(محسود //محمود)( ،مولود //موجود)( ،محدود//معدود)ُ ،ويلحظ أن الجناسات كلها
قار في القصيدة ،وهو القافيةُ ،ويعرف هذا بـ (جناس القوافي).
قد استقرت في موقع ّ
ّأما ُ
البعد الثاني من البنية اإليقاعية فيتمثل في الوزن والقافية ،فالقصيدة من البحر البسيط،
بحر غزير املوسيقي ،متدفق النغم ،يصلح ًلستيعاب كل املشاعر ذات الصلة بالشجن أو وهو ُ
ا
الحزن أو الغضب ،وهذه القصيدة ًل تخرج عن تلك األطر املعنوية املذكورة ،إذ بنيت أساسا ـ من
ٌ
التعبير عن الحزن الشديد ،واآلخر السخرية القائمة على حيث املضمون ـ على محورين ،أحدهما
الغضب املستعر.
والقصيدة بنيت على روي (الدال) ،وهو حرف لساني مجهور شديد يتسم بوضوح سمعي ٍ
عال،
مما يؤكد الشدة في التعبير عن األحاسيس املندفعة في حزنها ووجعها ا
حينا ،وفي سخريته وهجائه
ا ا ا ا
حينا آخر .وكأنه ويرفع صوته ويصيح في وجه املهجو غاضبا ومنفعل مرة أخرى.