Professional Documents
Culture Documents
الرسالة والنبوة:
أما مقام النبوة ،فمقام مدح واجتباء واصطفاء ،ونعمة ومنة وتفضيل وثناء على صفوة خلق هللا
تعالى ،وهو األصل واملبتدأ ،إذ يوحي هللا لكل نبي بشرعة ومنهاج 1في كتاب منزل( 2خاص به أو أنزل على
نبي قبله) ،ويبعثه هللا تعالى لينهض بمهمة التبليغ والدعوة والبشارة والنذارة ،والحكم بين الناس فيما
اختلفوا فيه ، 3فينبئ (أي يخبر) الناس بكتب هللا ورساالته ،فال يكون الرسول رسوال مبلغا عن هللا تعالى
ًا
إال بعد أن ينال مقام النبّو ة أوال ،وال يكون النبي نبي إال بمعجزٍة تثبت صدق إخباره عن هللا تعالى ،وال
ُف
يوص بالنبوِة أحٌد من البشِر إال من اصطفاُه هللا تعالى لذلك املقام ،أما الرسوُل فمقام ثناء ،وشرف
ُف
ومنة واصطفاء ،وُر ُس ُل ِهللا هم صفوة الصفوةّ ،ض لوا ،ورفع بعضهم فوق بعض درجات في املنزلة
السامقة ،ومقام الرسالة أخص من مقام النبوة ،وُي ستعمل فيما يستعمل فيه لفظ النبوة ،من التبليغ
ًا
والدعوة إلى دين هللا تعالى ،ويمتلك أيض املعجزة التي تثبت صدق إرساله ونبوته ،ويستعمل كذلك في
اللغة في أي رسول يرسل إلى الغير برسالة ما ،كرسل رسول هللا ﷺ إلى امللوك ،ومثلهم ال يكون صاحب
معجزة ،لكن اسم الرسول بمعناه الشرعي ال يقع إال على من خصه هللا برسالة خاصة به ،قال تعالى
َّل َخ َت َّن َن ُك َٰل َأ َأ َك َن
﴿َّم ا ا ُم َح َّم ٌد َب ا َح ٍد ِّم ن ِّر َج اِل ْم َو ِك ن َّر ُس وَل ال ِه َو ا َم ال ِب ِّي ي ﴾ ،وملا كانت رتبة الرسول ال
ُت
نال إال بعد رتبة النبوة ،اكتفى الشارع بنفي نبوة أي نبي بعد الرسول محمد ﷺ ،داللة على انتفاء
الرسل أيضا من بعده ،فهو خاتم النبيين وخاتم املرسلين من باب أولى.
واملدح بصفة النبي يشتمل على معان شريفة خاصة ،واملدح بصفة الرسول يشتمل على معان عالية
خاصة أخرى ،لذلك صوب النبي ﷺ قول البراء رضي هللا عنه حين حاول استذكار الدعاء الذي نصه:
«آمنت بكتابك الذي أنزلت ،وبنبيك الذي أرسلت» حين قال البراء :فقلت أستذكرهن" :وبرسولك الذي
أرسلت؟" فقال ﷺ «ال ،ونبيك الذي أرسلت» رواه البخاري ،ليجمع النبي ﷺ بين مدائح وصف النبوة
وخصوصياتها ،إلى مدائح وصف الرسالة وخصوصياتها ،وتخصيصه بفضائل الوصفين ،وليكون أجزل
4أنظر :الفروق اللغوية ألبي هالل العسكري ،الفرق بين النبي والرسول ،وكذلك :املستدرك على معجم املناهي اللفظية للشيخ بكر أبو
زيد.
5أنظر :الشخصية اإلسالمية ،الجزء األول ،تقي الدين النبهاني ،باب :األنبياء والرسل.
ًا
النبوة هو األصل واملبتدأ ،يصطفي هللا من خلقه صفوتهم ،ويوحي للنبي بوحي فيصير نبي ،ثم يأمره
ّل ُن
بالتبليغ أي يرسله ليب غ ما بئ به ،فإن كان شَّر فه هللا برسالة خاصة فقد شَّر فه بلقب نبي رسول ،أما
ُل
إذا اصطفاه واجتباه من الخلق ونبأه برسالة رسول آخر في َّق ب بالنبي ،ومع ذلك فإنه يؤمر بتبليغ تلك
ًا ًا
الرسالة أيض ،والنبوة أيض :الرفعة والشرف واملقام الرفيع ،والنبوة تشتق أيضا من النباوة ،وهي
الطريق الواضحة املوصلة إلى مرضاة هللا عز وجل ،والرسول مأخوذ من اإلرسال أي البعث والتوجيه،
أو هو حامل الرسالة املكّل ف بتبليغها ،والنبُّي مرسٌل أيضا من هللا ،قال تعالىَ﴿ :و َم ا َأ ْر َس ْل َن ا ْن َق ْب َك ْن
ِم ِل ِم
ٌف اَل َن ٓاَّل َذ َت
َر ُس وٍل َو ِب ٍّى ِإ ِإ ا َم َّن ٰى ٓ﴾ [الحج ]2أي إن النبي مرسٌل ،وهو معطو على الرسوِل فيشتركان في
مصدر النبوة والرسالة وهو الوحي ،وفي وظيفتها وهو التبليغ ،أي إنه مبلغ عن ربه للرسالة التي نبئ بها
ًة ًة ًة
سواء كانت رسال خاص به أو خاص برسوٍل غيره ،وقال النبي ﷺ «آمنت بكتابك الذي أنزلت،
وبنبيك الذي أرسلت» ،من هنا يخطئ من يظن النبي هو الذي يوحى إليه بشرٍع وال يؤمر بتبليغ ما أوحي
إليه ،إذ إن أصل هذه الفكرة هي من الفرق اللغوي بين النبي والرسول ،فتحتمل اللغة أن ال تحّم ل
النبيء مهمة اإلخبار بما أنبأته به ،بخالف الرسول ،فال بد أن يتحمل مهمة اإلبالغ ،ورد في كتاب
الفروق اللغوية ألبي هالل العسكري " :اإلنباء عن الشيء قد يكون من غير تحميل النبأ ،بينما اإلرسال
ال يكون إال بتحميل" لكن مصطلحي (لفظي) النبي والرسول شرعيان ،لكل منهما معنى شرعي خاص
يستنبط من الوحي ،ونصوص القرآن أوضحت أن األنبياء ال بد أن يبِّل غوا ويحملوا الدعوة للغير ،وأن
هللا أرسلهم.
ويفتري على هللا الكذب من يدعي أن النبوة تتضمن آراء شخصية أو اجتهادات للنبّي لم يوَح إليه بها،
ًا
فال تجب طاعته فيها ،وسيأتي -بحول هللا -إثبات عدم جواز أن يكون النبي ﷺ مجتهد بعد قليل،
َن َأ ْلَٰن َٰش َّن َٰٓي َأ َك
َو ُي ِّذ ُب القرآُن الكريُم ادعاَء هم هذا بقوله تعالىُّ ﴿ :ي َه ا ٱل ِب ُّى ِإ َّن ٓا ْر َس َك ِه ًد ا َو ُم َب ِّش ًر ا َو ِذ يًر ا﴾
ًا ًا ُأ ًا
[األحزاب ،]45فهو بوصفه نبّي قد أرسَل أي مَر النبُّي بالتبليغ وكان مبشر ونذير ،أي أوحي إلى النبي
ُق َّن ُأ ُك ْل ًا
بوصفه نبي بشرع فيه بشارة ونذارة وأمر بتبليغه ،وقال تعالى أيضاْ ﴿ :ل ِإ َم ا نِذ ُر م ِب ا َو ْح ِي ﴾
[األنبياء ،]45و ﴿ِإ َّن َم ا﴾ عند الجمهور للحصر قيل باملنطوق ،وقيل :باملفهوم" ،6صيغة حصر وتوكيد،
فهو بوصفه نبي له مهمة اإلنذار ،وحصر ما ينذر به بالوحي بنص القرآن الكريم نفسه ،فال مدخل ألي
رأي بشري فيما ينذر به النبي ﷺ ،وقد أمر القرآن الكريم باتباعه بعد أن وصفه بالرسول النبي األمي،
وال يأمر ُهللا تعالى باتباٍع مطلٍق غير مقيٍد إال ملعصوٍم عن الخطأ في التبليغ .من هنا قلنا أعاله" :أما حين
النظر من زاوية التبليغ فكل رسول نبي ،وكل نبي رسول ،ألن النبي والرسول كليهما أمرا بالتبليغ،
اَل َن ٓاَّل َذ َت َق َأ ْل
وأرسلهما هللا تعالى إرساال للناس برساالته" ﴿َو َم ا ْر َس َن ا ِم ْن ْب ِل َك ِم ْن َر ُس وٍل َو ِب ٍّى ِإ ِإ ا َم َّن ٰى ٓ﴾ فكل
6السيوطي رحمه هللا :اإلتقان في علوم القرآن :النوع الخامس والخمسون في الحصر واالختصاص.
َذ َط َّل َٰٓيَأ
نبٍّي ُم رَس ٌل من هللا ،فهو رسوٌل بهذا االعتبار ،قال تعالىُّ ﴿ :ي َه ا ٱلَّن ِب ُّى ِإ ا ْق ُت ُم ٱلِّن َس ٓاَء ﴾ [الطالق ،]1
ُق َٰٓيَأ
فيها حكم شرعي يعم املسلمين كلهم في أحكام الطالق والعدة ،أمر النبي بتبليغه! ﴿ ُّي َه ا ٱلَّن ِب ُّى ل
ٱُمْلْؤ يَن َأِّل ْز َٰو َك َو َب َن ا َك َو َس ٓا ٱُمْلْؤ يَن ُي ْد يَن َع َل ْي َّن ن َج َٰل ي َّن ﴾ [األحزاب َٰٓ﴿ ،]59يَأ ُّي َه ا ٱلَّن ُّى َح
ِب ِّر ِض ِم ِن ِب ِب ِه ِه ِم ِن ِت ِن ِء ِم ِن ِج
َت َع َل ْل
ى ٱ ِق اِل ۚ ﴾ [األنفال ،]65أي إن هللا تعالى خاطب النبي ﷺ بصفة النبوة وأمره بتبليغ تشريعات ربانية
ُي لزم بها املسلمين ،وقد أمر هللا تعالى باتباع النبي األمي ،واالتباع يتضمن االنقياد ،والطاعة عالمة
االنقياد ،فكذب من ادعى أن القرآن خال من آيات تأمر بطاعة النبي ﴿ٱَّل ِذ يَن َي َّت ُع وَن ٱلَّر ُس وَل ٱلَّن َّى
ِب ِب
َن َّن ُأْل َّل ُي ْؤ ُن َّل َو َك َٰم َو َّت ُع ُه َل َع َّلُك َف َٔـ ْا َّل ُأْل
و ﴾ َتُد ْه َت ْم ٱ ِّم َّى ﴾ ﴿ اِم ُن و ِب ٱل ِه َو َر ُس وِل ِه ٱل ِب ِّى ٱ ِّم ِّى ٱ ِذ ى ِم ِب ٱل ِه ِل ِتِه ۦ ٱ ِب و
[األعراف 157و " ،]158والقرآن الكريم هو أول ما يرُّد على منكري السنة زعَم هم الفصل بين مقام
النبوة ومقام الرسالة ،وادعاءهم بأن مقام النبوة بشري يصيب ويخطئ ،وليس مختصا بالرسالة،
اًل
فإَّن هم ادعوا أن النبي يعني الجانب البشري ،فال يبِّل غ عن هللا إال حال كونه رسو ،وهو قوٌل ناجٌم عن
عدم قراءة القرآن؛ إذ نجد فيه قول هللا الصريحُ﴿ :ق وُل وا آَم َّن ا الَّل َو َم ا ُأ ْن َل َل ْي َن ا َو َم ا ُأ ْن َل َل ى ْب َر ا يَم
ِز ِإ ِإ ِه ِب ِه ُأ ِز ِإ
َو ْس َم ا يَل َو ْس َح اَق َو َي ْع ُق وَب َو اَأْل ْس َب ا َو َم ا ُأ و َي ُم وَس ى َو يَس ى َو َم ا و َي الَّن ُّي و ْن َر ْم ُنَف ُق َبْي َن
اَل َن
ِّر ِم ِّب ِه ِت ِب ِع ِت ِط
َل
َأ ِإ ِع ِإ
َّن َّن َن ُه ُن ْح َح ْن ُه ْم َو َن
ُم ْس ِل ُم و ﴾ [البقرة ،]136 :فأثبت هللا لألنبياء أ هم أوتوا الكتب ،وأ هللا أنزل إليهم ٍد ِم
َن ُم ْس ُم ُه َو َن ْح ُن َل
ِل و ﴾ ،فصفة النبوة ال تعني الجانب الكتب ،وأمر باالستسالم والخضوع واالنقياد لهم﴿ ،
البشري؛ بل النبي أصله من اإلنباء أي الذي يؤتى النبوة أي يوحى إليه ،ويؤتى الكتاَب ليقضي في أمور
الناس ،وهو أمٌر شرعي بحت ووحي من هللا سبحانه وتعالى ،على خالف ادعاء املنكرين بأن تحُّم ل الكتاب
َمَل َو ْذ َأ َخ َذ َّل َث
ال ُه ِم ي اَق الَّن ِب ِّي يَن ا وتبليغه إ ما هو مهمة الرسول فقط دون النبي ،ومثلها قوله تعالىِ ﴿ :إ
َّن
ْك َت ُك
آ ْي ُت ْم ِم ْن ِك َت اٍب َو ِح َم ٍة ﴾ [آل عمران ،]81 :فهؤالء األنبياء وصفهم هللا بالُّن بوة ومع ذلك فقد أوتوا
ُّن َة
الكتاب ...ولم يصف ُهللا ال بو فقط بأَّن أهلها قد أوتوا الكتاب -وإن كان هذا كافًي ا في رد زعم
منكري السنة -بل قد أثبت هللا لألنبياء من األعمال ما أثبته للرسل ،وهي التي ينفونها ويزعمون أَّن
األنبياء ال يقومون بها وإنما هي خاصة بالرسل ،وذلك مثل التبليغ عن هللا ،فإن كان قولهم هذا حقا
فماذا يصنعون بقوله تعالىَ﴿ :ك اَن الَّن اُس ُأ َّم ًة َو ا َد ًة َف َبَع َث الَّل ُه الَّن يَن ُم َب يَن َو ُم ْن يَن َو َأ ْن َز َل َم َع ُه ُم
ِذ ِر ِّش ِر ِب ِّي ِح
ْخ َل ُك َن َّن ْل ْل َت
ا ِك اَب ِب ا َح ِّق ِل َيْح َم َبْي ال اِس ِف يَم ا ا َت ُف وا ِف يِه ﴾ [البقرة]213 :؟! فليس األنبياء قد أوتوا الكتب
حسب هذه اآلية فحسب؛ بل بعثهم هللا ليبشروا وينذروا ،ويحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه ،في كل
شأن يحصل فيه خالف وعليه نذارة ،في كل أنظمة الحياة ولكل أنواع سلوك البشر وعالقاتهم تلك ،وإذ
يحكم بينهم بالحق ،فإنه يقيم العدل والقسط ،وهو عين ما وصف به الرسل حين قال تعالىَ﴿ :ل َق ْد
ْل ْل َأ ْل َل ْل َأ ْل
ْر َس َن ا ُر ُس َن ا ِب ا َب ِّي َن اِت َو نَز َن ا َم َع ُه ُم ا ِك َت اَب َو اِمْل يَز اَن ِل َي ُق وَم الَّن اُس ِب ا ِق ْس ِط ﴾ [ 25الحديد] فوظيفة
الكتب التي أرسلت مع األنبياء والرسل ،ووظيفة الرسل واألنبياء أن يحكموا بين الناس بالحق ،ويقيموا
ميزان العدل والقسط ،وهي أعمال الرسل فقط حسب زعم املنكرين ،لكن هذه اآلية جعلتها أعمال
ًا 7
األنبياء أيض ".
ولو احتمل مقام النبوة أن يخطئ النبي فحاش هلل أن يأمر باتباعه في الخطأ ،وهذا وحده ينسف
افتراءاتهم كلها ،وهذا يقودنا لبحث ملخص عنوانه:
العصمة ،والذنوب واملعاصي :هل يذنب األنبياء؟
العصمة في معجم مقاييس اللغة(" :عصم) العين والصاد وامليم أصل واحد صحيح يدل على إمساك
ومنع ومالزمة .واملعنى في ذلك كله معنى واحد .من ذلك العصمة :أن يعصم هللا -تعالى -عبده من سوء
يقع فيه .واعتصم العبد باهلل -تعالى ،-إذا امتنع .واستعصم :التجأ".
واملعصية ،في معجم مقاييس اللغة(" :عصو/ى) العين والصاد والحرف املعتل أصالن صحيحان ،إال
أنهما متباينان يدل أحدهما على التجمع ،8ويدل اآلخر على الفرقة .واألصل اآلخر :العصيان واملعصية.
يقال :عصى ،وهو عاص ،والجمع عصاة وعاصون .والعاصي :الفصيل إذا عصى أمه في اتباعها"،
و"العصيان :خالف الطاعة ،عصى العبُد رَّب ُه ،إذا خالف أمره" كما قال في لسان العرب.
َخ َخ َّذ ْن َّل
وهناك فروق 9بين الُج رم والُج ناِح وال َم ِم والَج َن ِف وال ِب والَّس يئة والَّز لل وال طأ وال طيئة
ْل ْغ َغ ْل ُّط
واملعصية واإلثم 10والُب هتاِن والِو ْز ِر والِف ْس ِق والظلم والُع دواِن ،وال غياِن َ ،و ا َب َي ِب ْي ِر ا َح ِّق ،والفاحشة
ُة
7طاع الرسول ﷺ في القرآن ..بين فهِم مثبتي الُّس َّن ة وعبِث منكريها ،فرحات عياط ،الجزائر بتصرف كبير.
8قال ابن فارس" :فاألول العصا ،سميت بذلك الشتمال يد ممسكها عليها ،ثم قيس ذلك فقيل للجماعة عصا .يقال :العصا :جماعة
اإلسالم ،فمن خالفهم فقد شق عصا املسلمين .وإذا فعل ذلك فقتل قيل له :هو قتيل العصا ،وال عقل له وال قود فيه .قال أبو عبيد:
وأصل العصا االجتماع واالئتالف .وفي لسان العرب" :روى األصمعي عن بعض البصريين قال :سميت العصا عصا :ألن اليد واألصابع
تجتمع عليها ،مأخوذ من قول العرب عصوت القوم أعصوهم ،إذا جمعتهم على خير أو شر".
ًا
9ملخص بتصرف كبير من كتاب الفروق اللغوية للعسكري ،ومعجم املصطلحات الفقهية للدكتور محمود عبد الرحمن عبد
املنعم ،وكتاب الكليات أليوب الكفوي ،وتفسير الرازي ،وابن عاشور ،واآللوسي ،وإسالم ويب ،ومنهل الثقافة التربوية د .أحمد محمد أبو
عوض ،ومعاجم اللغة.
َّن َو ُه َو ْل ُب ْط ُء َو َّت َأ ُّخ ُر ُي َق ُل َن َق ٌة َم ٌة َأ ْي ُم َت َأ َر ٌة َو ْص َأ َث َم ْل َه ْم َز ُة َو َّث ُء َو ُم َتُد ُّل َع َل َأ
ال .ا :ا آِث ِّ : ،خ ،أي متأِّخ رة في سيرها .أل ذا ا ى ٍل اِح ٍد ، ال ا اِمْل ي 10اإلثم ) ( :ا
اإلثِم بطيء عن الخير متأِّخ ر عنه (مقاييس اللغة) ،وملا كانت الذنوب تحول دون وصول الخيرات إلى اإلنسان فقد سميت "إثما" .واآلثام:
اسم لألفعال املبطئة عن الثواب وعن الخيرات .قال أبو حيان في البحر املحيط 2/291في تفسير آية [البقرة " :]85اإلثم فيه قوالن:
َّل َّذ
أحدهما أنه الفعل الذي يستحُّق عليه صاحبه ال َّم واللوم .والثاني :أنه الذي تنفر منه النفس وال يطمئن إليه القلب" .ود ت عبارته بعد
ذلك على ترجيحه للمعنى الثاني؛ حيث ساق حديث النبي ﷺ« :اإلثم ما حاك في صدرك» .ونحن نذهب إلى ترجيح الوجه الذي رَّج حه أبو
ُف ُف
حيان في تفسيره لإلثم؛ ألن النبي ﷺ فَّس ره ،والُّس َّن ة ُم َب ِّي نة للقرآن بال نزاع .وفى اإلثم معنى التعُّم د حيث ِّس ر الَج َن في آية [البقرة ]182
بامليل عن الحق على سبيل الخطأ ،واإلثم بتعُّم د الجور والظلم واألذى .وفى آية [النساء ُ ]112ع ِط ف اإلثم على الخطيئة ب "أو" ،وعلى
البهتان بالواو ،والعطف بـ "أو" يدل على املغايرة في املعنى بين اإلثم والخطيئة ،وللمفسرين في ذلك أقوال عديدة ،فبعضهم جعلهما بمعنى
واحد ،وأكثرهم رَّج ح أن املراد بالخطيئة :صغائر الذنوب ،وباإلثم :كبائر الذنوب ،وثمة أقوال أخرى غير ذلك .على أن األرجح من بين هذه
ُذ َن ْظ
األقوال كما يوحى به ُم اآلية الكريمة -حيث العطف يوجب املغايرة ،وفى ضوء استقراء النصوص األخرى التي ِك َر فيها اإلثم -أن
املراد بالخطيئة :املعصية الصغيرة ،أو فعل خالف األولى ،واملراد باإلثم :املعصية الكبيرة .وهذا ما ذهب إليه أكثر املفسرين [الكشاف
والُح وب والُّس حِت والكبيرة ،مع مالحظة مهمة وهي أنه في الوقت الذي يطلق على كل منها اسم الذنب،
َظ ًا
أو الجريمة ،أو السيئة ،أو املعصية ،أو اإلثم ،أو املنكر ولكن يمكن أن تتدرج تصاعديا ِع م ،بحسب
نوعها وتقُّص د القيام بها ،ونوع الزجر الذي تخالفه أو اإلصرار عليها ،فتنقلب من ملٍم وصغيرٍة إلى
خطيئٍة 11محيطٍة ،12وكبيرٍة وسحٍت ماحٍق للطاعاِت .ونستفيد من وضع اليد على الفروق بينها في فهم
آيات ذكرت غفران ذنب الرسول ﷺ ،أو وضع الوزر عنه ،أو أن آدم عصى ربه ،لنفهم عصمة األنبياء
في ضوء هذه الفروق اللغوية الشرعية.
فاإلثم ،بتتبع معانيه في القرآن وفي السنة وفي اللغة :بدء حديث النفس باملعصية أو بامليل عن الحق،
أو بإيقاع الجور والظلم واألذى ،أو بفعل قبيح يستوجب الذم واللوم ،أو يؤخر عن الخيرات ،فإن تعمد
َّث
الوقوع فيه يقال أثم ،أو ارتكب إثما ،وإن أحجم عنه يقال تأ َم ،وبحسب نوع هذا الجور أو املعصية أو
الفعل القبيح يتراوح اإلثم من الذنب الصغير الذي يبطئ صاحبه عن نيل الثواب ،أو يؤخر الخيرات
َّل َف َق ْف َت ْث ْش
عنه ،إلى أعظم الذنوب :الشرك باهلل ،الذي وصف بأنه إثم عظيم ﴿َو َم ْن ُي ِر ْك ِب ال ِه ِد ا َر ى ِإ ًم ا
َع ِظ يًم ا﴾ [النساء .]48
َّذ ْن ْل ْنَق
والجرم َم ا َي ِط ع ِب ِه َع ن ا َو اِج ب ،و (َج َر م) أيضا كسب( .الصحاح) ،والُج ْر ُم ال ُب ،
ًا ًا
ألنه كسب والكسب اقتطاع( .مقاييس اللغة) .والذنب 13مطلق الجرم -عمد أو سهو -بخالف اإلثم،
ْث َف
،1/563البحر املحيط ،3/346التحرير والتنوير ،5/196التفسير الوسيط ]3/400واألثيم املتمادي ِف ي االثم واآلثم اعل اِإْل م.
ًا ْث اَّل اَل ْل َخ َئ
11وا ِط ي ة (صغائر الذنوب) قد تكون من غير تعمد َو يكون اِإْل م ِإ تعمدا (الفروق اللغوية للعسكري) ،فالخطيئة ،إذا كانت عمد ،
ْخ ُط
فإنها تطابق اإلثم .بمعنى الذنب ،وأصلها من خطا َي و ،أي تعَّد ى الشيء وذهب عنه ،ويقال ملن تعدى الخير وتركه :أخطأ ،وفَّر ق ابن
ْط ْط َخ َط
منظور بين ال ِأ والخطيئة ،فنقل عن بعض اللغويين" :الخطأ :ما لم ُي َت َع َّم ْد .والِخ ُء والخطيئة :الذنب على عمد" والِخ ُء ذنب عظيم،
َخ َئ َّل َأ ْط َأ ْغ
وفى آية ﴿َو ا ِذ ي َم ُع ْن َي ِف َر ِل ي ِط ي ِت ي َي ْو َم الِّد يِن ﴾ [الشعراء ]82أضيفت الخطيئة إلى الخليل إبراهيم عليه سالم هللا ،مما يقطع بأنها
صغيرة ،بل فعل خالف األولى ،ألن األنبياء -صلوات هللا وسالمه عليهم -معصومون من الكبائر ،وألن السنة فّس رت ما كان من إبراهيم
عليه سالم هللا بثالث كذبات من املعاريض كما سيأتي ،وأنها خالف األولى ،فهذه هي الخطيئة ،وهكذا يتضح أن الخطيئة تعني :الذنب
ُّل
الصغير ،أو فعل خالف األولى "وأكثر استعماالتها فيما ال يكون مقصوًد ا لنفسه ،بل يكون القصد سبًب ا لتو د ذلك الفعل منه ،كمن رمى
ُّذ ُن َذ َأ ْأ َث ُّلَغ ْث
صيًد ا فأصاب إنساًن ا [مفردات األصفهاني (خ ط أ)] .واِإْل م ِف ي أصل ال ة الَّتْق ِص ير ثٌم َي م ِإ ذا قّص ر ،ثَّم كثر ِل ك َح َّت ى سميت ال وب
َز ْل َخ َط َك
ككلها اَي اَ ،م ا سميت إسرافا ،وأصل اإلسراف ُم َج او ة ا َح د ِف ي الَّش ْي ء.
12من أحاطت به خطيئته ،ليس بمؤمن ،فقد كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ،إذ إن املؤمن ال تحيط به خطيئته ،بل ال يخلو من عمل
صالح.
َج ُة ُم ْر ُج
13أما الذنب ( :باب الذال والنون وما يثلثهما) (ذنب) الذال والنون والباء أصول ثالثة أحدها الجرم( ،مقاييس اللغة)( ،ال ) و(ال ريم )
َت
الذنب تقول منهَ( :ج َر َم ) و(أْج َر َم ) و(اْج َر م) .و (َج َر م) أيضا كسب( .الصحاح)( ،جرم) الجيم والراء وامليم أصل واحد يرجع إليه الفروع.
فالجرم القطع .قولهم جرم أي كسب ألن الذي يحوزه فكأنه اقتطعه وفالن جريمة أهله أي كاسبهم ،والجرم والجريمة الذنب وهو من
ُّل َغ ْل َذ َأ َأ ْل
األول ألنه كسب والكسب اقتطاع( .مقاييس اللغة) "والجرم َم ا َي ْنَق ِط ع ِب ِه َع ن ا َو اِج بَ ،و ِل َك ن صله ِف ي ال ة ا قطع َو ِم ْن ه قيل للصرام
الجرام َو ُه َو قطع الَّت ْم ر،
َق َت َت َل َّذ َأ َّذ ًا ًا
والفرق بين الذنب واإلثم :أن الذنب مطلق الجرم -عمد أو سهو -بخالف اإلثم .وال نُب َم ا يتبعُه ال م و َم ا ُي َّب ُع َع ْي ِه الَع ْب د من ِب يح
َّت اَل ْل ْل ْن ْل َك َذ َأ
فعلهَ ،و ِل َك ن أصل ا ِل َم ة ااِل ِّت َب اع ،ومنه قيل ذنب الدابة ألنه كالتابع لها ،والذ ب ُه َو ا َق ِب يح من ا ِف ْع ل َو ُي ِف يد معنى ال ِب َع ة .ويجوز أن
فإنه -حال اإلقدام عليه -متعمٌد .والذنب دون اإلثم ،أو الذنب هو انقطاٌع عن الواجب إذ تساوي
معاجم اللغة بين الجرم وبين الذنب ،والسيئة في االستعمال القرآني :الذنب القبيح الذي يسوء صاحبه،
أو يسوء في عيون الناس ،أي ُي ْس َتْق َب ح ،وهي ضد الحسنة ،والخطيئة (صغائر الذنوب) مخالفة ال عمد
فيها ،ويقرب منها اللمم ،واملعصية مخالفة الطاعة ،أو مخالفة األمر ،والوزر 14ثقل الذنب ،واإلثم تعمد
املعصية ،وتعمد التقصير،
ْلَك َأ َذ َق َت َت َل َأ َّذ َّذ
وال نُب َم ا يتبعُه ال م و َم ا ُي َّبُع َع ْي ِه الَعْب د من ِب يح فعلهَ ،و ِل َك ن أصل ا ِل َم ة ااِل ِّت َب اع ،ومنه
َذ َن
قيل ُب الدابة ألنه كالتابع لها ،فهذه األنواع تكون في ذنب يكون فيه فعل معصية أو ترك واجب،
ْث ُذ َّل َق
وثمة نوع أخر من الذنوب ،وهو ما ْد ُي ؤاِخ ال ُه َع لى َم ِل ِه من كان في منزلة عالية سامقٍة لو حصل
منه ،فيهبط به عن تلك املكانة ،ال ألنه مخالفة أو جريمة ،بل -وقد علمنا أن الذنب لغة قد يقع سهوا،
َت َت
وبال قصد ،وبال َّب ٍع ،وبال ذم -فيكون مثال حاله :أن ال يبلغ حق شكر تلك املنزلة بالعمل ،أو أن يعمل
َّق
خالف األولى ،أو أن يتخلف -أحيانا قليلة -عن فعل مندوب ُي َت َو ُع ِم َّم ْن هو في منزلته أن يفعله ،أو أن
ًا َذ
يفعل في أحياٍن قليلٍة مكروه ال َّم عليه ،ولكنه ال يتوقع من مثله ،ويبقى في دائرة الذنب وال يصل
ملرحلة اإلثم املستحق للعقوبة أو املؤاخذة والتتبع.
والذنب الكسُب ،ويتعلق بسيئٍة ،أو فعل رذل أو قبيح ،والقبح هنا من حيث املفهوم قد يتراوح بين
ًا
أن يكون كبيرة أو فعال شائن إذا ما قيس بشرع أو عرف ،أو أن يكون صغيرة ،أو أن يكون فعال ال يليق
َت َت َئ َك
بمقام الفاعلَ ،و معنى ونه َس ِّي ة (أي يسوء صاحبه) أو إثما (أي ُي َّبُع عليه صاحبه ،ويذم) أو ذنبا
َت َت
(وقد يتتبع عليه صاحبه (كالكبائر من الذنوب) ،أو ال ُي َّبُع عليه صاحبه ،بحسب نوع الذنب،
والتتبع املعاقبة والذم ،وما ال يتتبع عليه فمغفور ومعفو عنه) :ومثل هذا النوع يخرج َص احبه َع ن
ْذ َذ َت
يقال االثم هو القبيح الذي عليه ِب َع ة ،والذنب هو القبيح من الفعل وال يفيد معنى التبعةَ ،و ِل َه ا قيل للَّص ِب ّي قد أ نب (مجازا)َ ،و لم نقل
َذ َن ْن َّل ْل َّذ َأْل َأ
قد ثمَ ،و ا ْص ل ِف ي ال نب الرذل من ا ِف ْع ل كالذنب ا ِذ ي ُه َو أرذل َم ا ِف ي َص احبه" (معجم الفروق اللغوية) ،إذ إن :الذ َب :مصدر َب ،
ْل َذ َأ َأ َأ ْل َذ َن
يقال َب الشرطُّي اللَّص تبعه فلم يفارق أثره .وا ُح وب ُي ِف يد نه مزجور َع نُه َو ِل َك ن صله ِف ي ا َع َر بَّي ة الّز جر.
َق َت َل ّث َأ َأ ْل
14وأما الفرق بين اإلثم والوزر فوصفي ،إذ إن الوزر وضٌع للقوة .وا وزر ُي ِف يد نه يثقل َص احبه َو صله ال قلَ ،و ِم ْن ه ْو له َع ا ى ﴿ووضعنا
ْن َّل ْن
َع ك ِو ْز َر َك ا ِذ ي أنقض ظهرك﴾ ،فالوزر ثقل الذنب أو الحمل الثقيل﴿ .ووضعنا َع ك﴾ :عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك ،لو
كان ذلك الذنب ممكن الحصول( ،تخيل حال النبي ﷺ لو أذنب ،كم كان ذلك ليشق عليه وينقض ظهره ،ولكن هللا وقاه ذلك الحمل
ًا ًا
الثقيل وعصمه) فسمى العصمة وضع مجاز ،ووضع اإلثم للذة ،ألن الشرور لذيذة .وأما املعصية والذنب فهما بمعنى ،ألنهما اسم لفعٍل
محرٍم يقصد املرء فعل الحرام بالوقوع فيه.
أما السيئة في اللغة :فالذنب القبيح يشين صاحبه ،وهي ما يتعلق بها الذنب في العاجل والعقاب في اآلجل .وأما الفاحشة فهي ما عظم فيه
اَّل ْأ ْل َش ًة
من األقوال واألفعال ،وتطلق الفاحشة على الزنا كناي ،قال تعالىَ﴿ :و ال ِت ي َي ِت يَن ا َف اِح ة﴾ [النساء ،]15:وأما الحرام والسحت ،فُي َق ال
َأ َق َأ اَل َظ َأ اَل
حَر ام سحٌت َو ُي َق ال سحٌت حَر اٌم َ ،و قيل الُّس حت ُي ِف يد نه حَر اٌم اهٌر ،فقولنا حَر ام ُي ِف يد نه سحٌت َ ،و ْو لَن ا سحٌت ُي ِف يد نه حَر اٌم ،
َق َّط َّل ْل َأ
َو يجوز ن ُي َق ال ِإ ن الُّس حت ا َح َر ام ا ِذ ي يستأصل ال اَع ات من ْو لَن ا سحته ِإ ذا استأصلته .يقول أبو هالل العسكري رحمه هللا" :الفرق
بين الفسق والفجور :أن الفسق هو الخروج من طاعة هللا بكبيرة .والفجور االنبعاث في املعاصي ،والتوسع فيها" والفاحشة القول أو
الفعل عظيم القبح ،والحوب الوقوع في أمر مزجور عنه ،والسحت حرام يستأصل الطاعات.
َأ َذ َف َق
م ام املقربينُ ،ي حرم درجاتهمَ ،و ِل َك ِم َّم ا يسوء من ُي ِر يد ن يكون من املقربين ،15أي يهبط بدرجة
صاحبه عن املكانة السامقة التي كان ليصلها لو لم يفعله ،كحال سيدنا إبراهيم كان ليكون شفيعا
للخالئق ،وهو مقام لم يدركه باستعماله املعاريض ،وهذا يدل على أن الرسول ﷺ إذ أدرك هذا
املقام ،فإنه لم يرتكب أي ذنب ،أو ما يهبط بمقامه عن تلك املنزلة السامقة البتة،
فكما ترى ،فإن لكل من هذه املصطلحات معنى مخففا ،ومعنى مثقال ،فاإلثم يتراوح بين فعل يذم
ويالم فاعله ،وبين فعل يحوك في الصدر تخشى أن يطلع عليه الناس ،لعدم اطمئنان القلب لصالحه،
وقد ال يتحول لفعل ،بل يبقى حبيس الصدر ،قال اإلمام النووي :معنى «َح اَك في صدرك» أيَ :ت حَّر َك
َت
فيه و َر َّد َد ،ولم ينشرح له الَّص در ،وحصل في القلب منه الَّش ُّك وخوف كونه ذنًب ا (صحيح مسلم بشرح
النووي).
َو ْل َف َو َش اَّل َب َر َك َن َت َّل
وقد يكون ملما ،وقد يتحول إلثم كبير وفاحشة﴿ ،ا ِذ يَن َيْج ُب
ِن و اِئ اإلثم ا اِح ِإ
الَّل َم َم ﴾ ،فقد وصف من يجتنب كبائر اإلثم والفواحش باإلحسان في اآلية السابقةَ﴿ ،و َيْج َي ٱَّل يَن
ِز ِذ
َأ ُن ْا ْل َن
ْح َس و ِب ٱ ُح ْس ى﴾ ،واستثناء اللمم استثناء منقطع ألن اللمم ليس من كبائر اإلثم وال من الفواحش.
فاالستثناء بمعنى االستدراك ،ووجهه أن ما سمي باللمم ضرٌب من املعاصي املحذر منها في الدين ،فقد
15فإبراهيم الخليل عليه السالم عّد "كذباته" التي وقعت منه هلل؛ وكانت على الحقيقة معاريض ال كذبات ،وكانت في سبيل الخير والصالح
وإقامة الحجة على الكفار ،عَّد ها سيئة ،واعتذر بسببها عن أن يكون أهال ألن يشفع في الناس ،أي أنه بسببها هبط عن مقاٍم يستحقه وهو
مقام الشفاعة ال أنه اقترف ذنبا ،كما روى البخاري ( ،)3361ومسلم ()194؛ قال النبي ﷺ" :لم يكذب إبراهيم النبي عليه السالم قط إال
َٰه َذ َف َل َك َق
ثالث كذبات ،ثنتين في ذات هللا .قولهِ﴿ :إ ِّن ي َس ِق يٌم ﴾ ،وقوله ﴿ :اَل َب ْل َع ُه ۥ ِب يُر ُه ْم ا﴾ ،وواحدة في شأن سارة ،فإنه قدم أرض جبار
ومعه سارة ،وكانت أحسن الناس ،فقال لها :إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك ،فإن سألك فأخبريه أنك أختي ،فإنك أختي في
ًا
اإلسالم ،فإني ال أعلم في األرض مسلم غيري وغيرك ...الحديث" .وهذا لفظ مسلم ،فقوله أنها أخته في اإلسالم من املعاريض ،وفيها
ُت
مندوحة عن الكذب ،وهو ما ُص ور ه الكذب عند السامع ،لكنه ليس كذلك عند القائل ،بل يقول ما يقصُد ُه هو من اللفظ والذي يحتمل
معاني متعددة منها املعنى املستعمل ،أو ينطبق على الواقع بصورة غير التي يفهمها السامع ،ولكنها صورة صحيحة حقيقية ،فاملسلم أخو
املسلمة أخّو ة عقيدة ال رابطة دم تحّر مهما ،والكذب يجوز في حالة الخوف الصرف وليس بذنب ،وال ُي ذم عليه ،فإن كان املرء بين أن
يكذب أو ُي قتل ظلما وجورا ،فإن الكذب في حقه عندها يكون حسنة ،وقد يكون واجبا ،كمثل الكذب على األعداء في الحرب ،وهو واجب،
َٰه َذ َك ُن ْا َٰه َذ َف َٔـُل َف َل َك َق
والكذب في قوله ﴿ اَل َب ْل َع ُه ۥ ِب يُر ُه ْم ا ْس وُه ْم ِإ ن ا و َي نِط ُق وَن ﴾ [األنبياء ،]63وفي قوله ﴿ :ا َر ِّب يۖ ﴾ [األنعام ،]77قاله على
طريق االستفهام الذي يقصد به التوبيخ ،أو على طريق االحتجاج على قومه تنبيًه ا على أن الذي ال ينطق وال يفهم ما يدور حوله ،وال
ْك ُن َظ
يستطيع منع من يقوم بتكسير نظرائه ليس بإله( ،وثم ثالث احتماالت للفهم :أولها :عدم منِعِه َم ْن َي ِس ُر َر اَء ُه ِف ْع ٌل للتكسير أو مشاركة
ٌة
فيه -مجازا ،-إذ يفترض في الصنم لو كان إلها القدرة على املنع ،فإحجامه عنها لو كان عن قصٍد ،مع قدرته على املنِع مشارك في الفعل بل
ًا ُّل َك
هو وحده من يتحمل مسئولية الفعل حقيقة عندها ،لذلك قالِ ﴿ :ب يُر ُه ْم ﴾ فك هم كان إله في نظرهم ولم يستطع أي منهم منع رجٍل من
ٌة
تكسير نفسه أو نظيره ،وثانيها :أن إيمان قومه بقدرته على املنع ،وعدم قيامه باملنع مشارك فيه في حقهم ومما يلزم عن اعتقادهم،
َٰه َذ
وثالثها :أن إشراكه في الفعل ونسبته إليه تنبيٌه على االحتمالين السابقين) ومثل ذلك يقال في قوله ﴿ ا َر ِّب يۖ ﴾ بصورة االستفهام أو
َف
االحتجاج على أن الشمس والقمر املتغيران ليسا بآلهة ،وال يصلحان للربوبية .وأما قوله ﴿ َق اَل ِإ ِّن ي َس ِق يٌم ﴾ [الصافات ،]89فمن
َأل َأ َأ
املعاريض أي يقصد فيها معناه ِإ ني س ْس ُق ُم فيما ستقبل ِإ ذا حان ا جُل ،وهذا من معارض الكالم ،كما قال تعالىِ﴿ :إ َّن َك َم ِّي ٌت وِإ ِّن هم
َم ِّي تون﴾؛ املعنى ِإ نك َس َت ُم وت وإنهم سيموتون؛ كما في لسان العرب ،فال كذب على الحقيقة نهائيا ثمة.
ٌة
يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر اإلثم فلذلك حق االستدراك ،وفائدة هذا االستدراك عام
ٌة
وخاص ،أما العامة فلكي ال يعاِم ل املسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر ،وأما الخاصة
ًة
فرحم باملسلمين الذين قد يرتكبونها فال َي ُف ّل ارتكابها من نشاط طاعة املسلم ،ولينصرف اهتمامه إلى
ٌة
تجنب الكبائر .فهذا االستدراك بشار لهم ،وليس املعنى أن هللا رخص في إتيان اللمم .واللمم الفعل
الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم ،وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفى منهم
بعدم اإلكثار من ارتكابه .وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع اآلخر
بالكبائر ،ويتمثل اللمم في الشهوات املحرمة بالنظرة تتبع النظرة ،ومن املفسرين من فسر الَّل مم الَه ّم
ِب
بالسيئة وال يفعلها فهو إملام مجازي (ابن عاشور) (كحديث النفس أو الشهوة التي ال تتحرك لتتحول
لفعل حرام) ،وال يكون اللمم بهذا املعنى فعال للحرام ،وهذا املعنى أقرب للصحة تفسيرا لآلية الكريمة،
ْث
بدليل وصف املسَت َن يَن باملحسنين ،ووجه إحسانهم أنهم ملا حاك اإلثم أو الشهوة في صدورهم ،خافوا
هللا ولم يترجموها إلى فعل تفعله الجوارح ،فكانوا بهذا محسنين ،16وقد يسمى باسم اإلثم أيضا هنا
وكما أسلفنا نوٌع من أنواع اإلثم أن يحوك في الصدر وال يتقبله ،وينفر منه القلب وال تحققه الجوارح
فعال!
ُت ُث
من هنا ،فقد َح ِّد الرجَل نفُس ُه باإلثم أو باملعصية أو يهم بها ،وال يفعلها ،فيغفر هللا له حديث
نفسه ،وهذا ال يجعله مرتكبا ملعصية ،ويسمى فعله بالذنب مجازا ،خصوصا إذا كان مقامه عاليا
سامقا ،ولم يلحق هللا تعالى أمثال هؤالء بما وصف به من يرتكب كبائر اإلثم والفواحش ،وأبقى عليهم
وصف املحسنين ،وحمل بعض العلماء إمكان حصول مثل هذه الصغائر من األنبياء وال يطعن هذا وال
يقدح في عصمتهم وال في إحسانهم.
18حيث إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ،وحيث إن شرائع األنبياء قبلنا اختلفت في بعض املواطن فكان بعضها يحل األمر وبعضها
يحرمه ،وال مجال لالقتداء بها في هذا ،فإن اآلية تشير إلى اقتداء النبي ﷺ بفعل األنبياء في التبليغ ،وفي صفاتهم التي امتازوا به كصفة
الشكر لداود ،وصفة الصبر أليوب ،والعزيمة في التبليغ لنوح ،حتى تجتمع فيه ﷺ صفات الخير كلها ،وفي االقتداء بالهدي الذي أنزل
ًة ْل ُك ُك
عليهم باإليمان به وتصديقه ،لكن بالعمل وفقا لشرعة هللا التي نزلت عليه ﷺِ﴿ ،ل ٍّل َج َع َن ا ِم ن ْم ِش ْر َع َو ِم ْن َه اًج ا﴾ [املائدة .]48
ْث َف َف َخ ْط ْق َخ ْط َت َّث ْق ْق ْق ْق ُت ْق َت
19ا َتَد ْي ،أ ِد يِ ،ا َت ِد ،مصدر ِا ِت داٌء ِ :ا َتَد ى َو ُه ِ :ا َتَف ى َو ُه ،م َل ِب ِه ،أْي َع ل ِم ثَل ِف ْع ِل ِه َ .ع ل ِم َل ِف ْع ِل ه تشُّبًه ا به ،وقال تعالى
عن الكفار في اتباعهم األفكار التي وجدوا آباءهم عليهاَ﴿ :و َك َٰذ ِل َك َم ا َأ ْر َس ْل َن ا ِم ن َق ْب ِل َك ي َق ْر َي ٍة ِّم ن َّن ِذ ي اَّل َق اَل ُم ْت َر ُف وَه ا َّن ا َو َج ْد َن ا آَب اَء َن ا َع َل ٰى
ِإ ٍر ِإ ِف ُأ
ْق َت َن َل َث
َّم ٍة َو ِإ َّن ا َع ٰى آ اِر ِه م ُّم ُد و ﴾ [الزخرف ،]23أي على ملة ودين ،اعتقاد ونظام عيش اقتدينا بهم فيه أي حملنا عين األفكار التي حملوها.
ْل َغ ْل َغ
20و ﴿ا ْي ِب ﴾ :مصدر غاب إذا استتر وخفي عن األنظار وتعريفه تعريف الجنس ،أي جنس الغيب ،وإضافة صفةَ﴿،ع اِل ُم ﴾ إلى ﴿ا ْي ب﴾
ًا
تفيد العلم بكل الحقائق املغيبة سواء كانت ماهيات أو أفراد ،فيشمل املعنى املصدري للغيب ،مثل علم هللا بذاته وصفاته ،ويشمل األمور
الغائبة بذاتها مثل املالئكة والجن .ويشمل الذوات املغيبة عن علم الناس مثل الوقائع املستقبلة التي يخبر عنها أو التي ال يخبر عنها ،فإيثار
املصدر هنا ألنه أشمل ِإل حاطة علم هللا بجميع ذلك ،وتعريف املسند مع تعريف املسند إليه املقدر يفيد القصر ،أي هو عالم الغيب ال أنا.
َف ْظ َل َغ َأ
وفرع على معنى تخصيص هللا تعالى بعلم الغيب جملة ﴿ ال ُي ِه ُر َع ى ْي ِب ِه َح ًد ا﴾ ،فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم املفرع إتمام
َف ْظ َل َغ َأ
للتعليل وتفصيل ألحوال عدم االطالع على غيبه ،ومعنى ﴿ ال ُي ِه ُر َع ى ْي ِب ِه َح ًد ا﴾ ال ُي طلع وال ينبئ به ،وهو أقوى من يطلع
َل ْظ
ألن ﴿ُي ِه ُر ﴾ جاء من الظهور وهو املشاهدة ولتضمينه معنى :يطلع ،عدي بحرف ﴿َع ى﴾ ،ووقوع الفعل في حّي ز النفي يفيد العموم،
وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حّي زه يفيد العموم،
أي شك إلى صحة ودقة الرسالة كلها ،واإلحاطة الكاملة تلك الرسالة التي ستقوم حجة قاطعة على
الخالئق ،واستثنى من نفي إظهار وإطالع الغير على علمه بالغيب ،من ارتضاه ليطلعه على بعض
الغيب" ،أي على غيب أراد هللا إظهاره من الوحي فإنه من غيب هللا ،وكذلك ما أراد هللا أن يؤيد به
ّال ًا ًا َت
رسوله ﷺ من ِإ خبار بما سيحدث ،فقوله﴿ :اْر َض ى﴾ مستثنى من عموم ﴿أَح د ﴾ لتقدير :إ أحد
ارتضاه ،أي اختاره لالطالع على شيء من الغيب لحكمة أرادها هللا تعالى ،واِإل تيان باملوصول والصلة في
َت َّال
قوله ﴿ِإ َم ِن اْر َض ى ِم ن َّر ُس وٍل ﴾ لقصد ما تؤذن به الصلة من اِإل يماء إلى تعليل الخبر ،أي يطلع هللا
بعض رسله ألجل ما أراده هللا من الرسالة إلى الّن اس ،فُيْع لم من هذا اِإل يمان أن الغيب الذي يطلع هللا
عليه الرسل هو من نوٍع ما له تعلق بالرسالة ،وهو غيٌب ما أراد هللا إبالغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو
أن يفعلوه ،وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور اآلخرة ،أو أمور الدنيا ،وما يؤيد به الرسل
عن اِإل خبار بأمور مغيبة و ﴿ِم ن رسوٍل ﴾ بيان ِإل بهام ﴿َم ِن ﴾ املوصولة ،فدل على أن َم ا ْص َد َق ﴿َم ِن ﴾
ّال ٌة
جماع من الرسل ،أي إ الرسل الذين ارتضاهم ،أي اصطفاهم .وشمل ﴿رسول﴾ كّل مرسل من هللا
تعالى فيشمل املالئكة املرسلين إلى الرسل بإبالغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السالم .وشمل الرسل من
البشر املرسلين إلى الناس بإبالغ أمر هللا تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صالحهم .وهنا أربعة
ضمائر غيبة :األول ضمير ﴿فإنه﴾ وهو عائد إلى هللا تعالى .والثاني الضمير املستِت ر في ﴿يسلك﴾ وهو ال
محالة عائد إلى هللا تعالى كما عاد إليه ضمير ﴿فإنه﴾ .والثالث والرابع ضميَر ا ﴿ ن َبْي َي َد ْي َو ْن
ِم ِن ِه ِم
ًا َخ ْل
ِف ِه ﴾ ،وهما عائدان إلى ﴿رسوٍل ﴾ أي فإن هللا يسلك أي يرسل للرسول رَص د 21من بين يدي الرسول
ًا
ﷺ ومن خلفه رصد ،أي مالئكة يحفظون الرسول ﷺ من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما
أطلعه هللا عليه من غيبه[ ،ويحفظون الرسالة من أن يختلط بها أي أمر ينقصها ،أو يتسرب إليها من
خارجها (من خارج دائرة الوحي)].
ْن َس َل َأ َأ ُت َس َلْك ْل
الشيء في الشيء فا ك ي دخلته فيه فدخل؛ (لسان العرب). والَّس ُك ،بالفتح :مصدر
ُأ ُل
والسلك 22في اآلية :أي يرسل إليه مالئكة متجهين إليه ال يبتعدون عنه حتى َيْب َغ إليه ما وحي إليه
من الغيب ،كأّن هم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم .وهذا من جملة الحفظ
َل َل ُظ ْك َن َن ْل
الذي حفظ هللا به ذكره في قولهِ﴿ :إ َّن ا ْح ُن َّز َن ا الِّذ َر َو ِإ َّن ا ُه َح اِف وَن ﴾ [الحجر ]9
َل َأ َق َأ َل ُغ
23الواو واو الحال أو اعتراضية ألن مضمونها تذييل لجملة ﴿ِل َيْع َم ن ْد ْب وا ِر َس االِت َر ِّب ِه ْم ﴾ ،أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ
َأ َط َل
وغيره ،وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك ،فقوله ﴿َو َح ا ِب َم ا َد ْي ِه ْم ﴾ تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلِم ه بتبليغهم ما أرسل إليهم ،وقوله
ُك َأ
﴿َو ْح َص ى َّل َش ْي ٍء َع َد ًد ا﴾ تعميم أشمل بعد تعميٍم َّم ا.
24تفسير ابن عاشور ،بتصرف بسيط
25ولم يرد عن األنبياء والرسل عليهم الصالة والسالم أي دليل نقلي قاطع سواء في كتاب هللا أو في سنة متواترة لرسول هللا على معصية
ارتكبها أحد منهم بعد الرسالة ،وما ورد جاء في أدلة ظنية الداللة ،والظني ال يعاِر ُض الدليل العقلي القطعي على العصمة ،بل الدليل
القطعي يقضي عليه كما يقضي املحكم على املتشابه ،فيفهم في ضوئه ،وأي معنى يعارض القطعي يصار إلى رفضه مباشرة ،فالوحي ال
يناقض بعضه بعضا ،أي إنه قد أسيء فهم هذه األدلة ،كما سنثبت في هذا الفصل بخصوص ما ينسب إلى الرسول ﷺ من أمور قيل إنه
أخطأ فيها -حاشاه .-أما ما ورد عن آدم عليه الصالة والسالم في القرآن الكريم من أكله من الشجرة بعد أن نهاه هللا عنها ،فإن هذا ال
يناقض مقتضى العصمة الناتجة عن تبليغ الرسالة للناس في الدنيا ،ألن ما حدث من آدم عليه السالم كان في الجنة لحكمٍة يعلمها هللا
وهو موضوع آخر ألن العصمة متعلقة بالرسالة للناس على األرض في الدنيا ،و"العصمة مسبب ،وسببها النبوة؛ ألنه ال تقوم الحجة إال
بمعصوم ،وهذا يقتضي أن النبي ال يكون معصوما قبل النبوة ،وبمثل هذا نفهم قوله سبحانهَ﴿ :و َع َص ٰى آَد ُم َر َّب ُه َف َغ َو ٰى * ُث َّم اْج َت َب اُه َر ُّب ُه
َل َف
َت اَب َع ْي ِه َو َه َد ٰى ﴾؛ فاجتباؤه واصطفاؤه نبيا كان بعد املعصية ،فحصلت له بذلك العصمة" (علي أبو الحسن).
اختلف العلماء فيها ،فمنهم من قال إنهم غير معصومين عنها ،ألنها ليست معصية ،ومنهم من قال إنهم
ًا
معصومون عنها ألنها معصية .والحق أن كل ما كان طلب فعله أو طلب تركه جازم -أي جميع الفروض
واملحرمات -هم معصومون بالنسبة لها ،معصومون عن ترك الواجبات ،وعن فعل املحرمات ،سواء
أكانت كبائر أو صغائر .أي معصومون عن كل ما يسمى معصية ويصدق عليه أنه معصية .وما عدا ذلك
من املكروهات واملندوبات وخالف األولى ،فهم غير معصومين عنه ،ألنه ال يتناقض مع النبّو ة والرسالة
حسب الدليل العقلي .فيجوز عليهم فعل املكروه وترك املندوب ،ألنه ال يترتب عليه إثم ،ويجوز عليهم
فعل خالف األولى ،وهو فعل بعض املباحات دون البعض ،ألن ذلك في جميع وجوهه ،ال يدخل تحت
ًال
مفهوم كلمة معصية .هذا ما يحتمه العقل ويقتضيه كونهم أنبياء ورس ".26
وعصمتهم ال تعني سلب قدرتهم على االختيار ،وجبرهم على الحق والهدى ،إذ أشارت اآليات إلى
َف َّل
استطاعتهم فعل النقيض ،لكن تقواهم العالية ،وعلمهم وفضلهم يحجبهم قال تعالىَ﴿ :و ِإ ن ۡم َتۡف َع ۡل َم ا
ُل َك ُن َل َأ ْش ُك َل َط َل َّل
َب ۡغَت ِر َس ا َتُه ۚۥ﴾ ،وقال عن األنبياءَ﴿ :و ْو َر وا َح ِب َع ْن ُه م َّم ا ا وا َي ْعَم وَن ﴾ [األنعام ،]88وهذا كله
من كمال املنزلة أن تصدر العصمة عن نفس تقية نقية مجتباة مختارة ،اجتمع ذلك فيها مع تسديد روح
القدس ،ومع توفيق هللا تعالى وهدايته ،وصرفه عنهم السوء والفحشاء.
ال يجوز في حق النبي ﷺ أن يكون مجتهدا،
ًا ًا
وال يجوز في حق الرسول ﷺ أنه مجتهٌد ،27كما ذهب بعض العلماء قديم وحديث ،حتى إن بعضهم
ًا
جزأ الوحي ،فأخرج منه ما حسبه اجتهاد من الرسول ﷺ ،من باب أن املجتهد يصيب ويخطئ ،فإن
أخطأ صَّو به الوحي ،ولكنه مع ذلك قبل "تصويب الوحي" يحتمل الخطأ ،وكالمهم خطأ محض ،بدليل
أن الدليل الشرعي القطعي الداللة دَّل على أن تبليغه الرسالة في كلياتها ،وجزئياتها إنما كان عن الوحي،
وهو ﷺ معصوم ،فقد أمر هللا بطاعته ،واألمر بطاعة الرسول ﷺ على سبيل الجزم والقطع يدل داللة
ًا
قاطعة على أنه ﷺ معصوم عن الخطأ" ،إذ لو لم يكن معصوم عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على
ًا
الخطأ يكون ُهللا قد أمر بمتابعته ،فيكون ذلك أمر بفعل ذلك الخطأ ،والخطأ لكونه خطأ منهٌّي عنه،
فهذا يفضي إلى اجتماع األمر والنهي في الفعل الواحد باالعتبار الواحد[ ،أي اجتماع األمر باتباع الخطأ،
والنهي عن اتباعه في آٍن ] وهو محال" ،28ويناقض حصر النذارة بالوحي ،فيصرح في أن الرسول ﷺ ال
ينطق عن الهوى ،وأنه وحي يوحى ،فيكون افتراض صدور الخطأ عنه أن يكون الوحي مصدرا للخطأ
ًا
نفسه ،وهذا تناقض فج .فال يجوز في حقه ﷺ الخطأ في التبليغ مطلق ،ألن جواز الخطأ على الرسول
26الشخصية اإلسالمية ،الجزء األول ،تقي الدين النبهاني ،باب :عصمة األنبياء.
27يراجع فصل :عصمة األنبياء ،وفصل :ال يجوز في حق الرسول ﷺ أن يكون مجتهدا ،في كتاب :الشخصية اإلسالمية ،الجزء األول ،تقي
الدين النبهاني ،فيهما تفاصيل كثيرة ورد على سائر الشبهات املتعلقة باملوضوع برد مفصل دقيق حري أن يكتب بماء الذهب الخالص!
28تفسير مفاتيح الغيب للرازي ،تفسير اآلية 59من سورة النساء.
ﷺ ينافي الرسالة والنبّو ة ،ويخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ وحصر النذارة بالوحي ،وال
تستقيم مع االعتقاد بأن كل فعل من أفعاله ﷺ وكل قول من أقواله سنة وشريعة هو وحي من هللا ،إذ
إن احتمال الخطأ في أي جزئية من التشريع يعني أن يتسرب الشك إلى التشريع كله ،لذلك ،فما ثبت أنه
ًا
سنة عن رسول هللا ﷺ فقد ثبت صدوره عن املعصوم ،قطعيه قطعي ،وظنيه ظني ،ثبوت (أي اتصاال
بالوحي) وداللة.
وال ينفي ادعاء "تصويب الوحي" له احتمال نقل االجتهاد الخطأ عنه ،دون نقل التصويب ،مما
ًا
يدخل الشك للتبليغ جملة وتفصيال ،وهو محال ،أو يجعل اتباعه في الخطأ واجب ما بين صدوره عنه
وتصويب الوحي له ،وهذا أيضا محال ألنه يوجب اتباع الخطأ وينهى عنه في آن .على أن الواقع يضج
َت ْش ُك َج ْتُه َأ ُة َأ ْو
و بحوادث لم يجتهد فيها الرسول ﷺ ،مع الحاجة املاسة للبيان ،فقد اَء اْم َر ِس ْب ِن الَّص اِم ِت
إَل ْي ِه َأ ْو ًس اَ ،ف َل ْم ُي ِج ْبَه ا َح َّت ى َن َز َل َع َل ْي ِه َ﴿ :ق ْد َس ِم َع الَّل ُه َق ْو َل اَّل ِت ي ُت َج اِد ُل َك ِف ي َز ْو ِج َه ا﴾َ ،و َج اَء ُه اْل َع ْج اَل ِن ُّي
َي ْق ُف اْم َر َأ َت ُه َ ،ف َق اَل َ :ل ْم ُي ْن َز ْل يُك َم ا َو اْنَت َر ا اْل َو ْح َي َ ،ف َل َّم ا َأ ْن َز َل الَّل ُه َع َّز َو َج َّل َع َل ْي َ :د َع اُه َم اَ ،و اَل َع َن
ِه ِظ ِف ِذ
َمل ّخ َّل َأ َك
َبْي َن ُه َم اَ ،م ا َم َر ال ُه َع َّز َو َج َّل ،فلو جاز له االجتهاد ا أ ر الحكم بل يجتهد ،وبما أنه كان يؤخر الحكم
حتى ينـزل الوحي فدَّل على أنه لم يجتهد ،ودل على أنه ال يجوز له االجتهاد ،إذ لو جاز ملا أَّخ ر الحكم مع
ًا
الحاجة إليه .ولم يحـصـل من الرسـول اجتهاد في تبليغ أي حكم من أحكام هللا مطلق ،بل الثابت بنص
ًا
القـرآن وبصحيح السنة أنه كان يبلغ عن الوحي ،وال يبلغ شيئ من التشريع والعقائد واألحكام
ونحوها إال إذا جـاءه عن طريق الوحي .وأنه كان حين ال ينـزل الوحي في حادثة ينتظره حتى ينـزل.
َأل ُظ
وأما ما َّن أنه اجتهاد منه فكان فعل خالف ا ْو لى ،أو كان يعمل بحكم سابق معلوٍم له (كحكم
َم َك َن َن
الذي نزل في سورة محمدَأْلوقد نزلت قبل األنفال) فدلت اآلية الالحقة في األنفال ﴿ ا ا ِل ِب ٍّى َأ
األسرى
ْث َل َأ ُك
ن َي وَن ُه ٓۥ ْس َر ٰى َح َّت ٰى ُي ِخ َن ِف ى ٱ ْر ِض ۚ ﴾ [األنفال ]67أيضا على جواز األسر لكن بعد إثخان أكثر مما
حصل في بدر ،فحكم األسرى لم ينزل في آية األنفال ،67بل نزل حكم األسرى قبل ذلك في سورة
ٰٓى َذ َق َّل َك ْا َف َف َذ َل
محمد ،وكان معروفا ،وبه عمل الرسول ﷺِ ﴿ :إ ا ِق يُت ُم ٱ ِذ يَن َف ُر و َض ْر َب ٱلِّر اِب َح َّت ِإ ٓا
َه َر َز ْو َأ ْث َخ ُت ُم ُه ْم َف ُش ُّد ْا ْل َو َث َق َف َّم َم ًّۢن َب ْع ُد َو َّم َد ًء َح َّت ٰى َت َض َع ْل َح ْر ُب َأ
ا اۚ ﴾ [محمد ]4واملراد ٱ ِإ ا ِف ٓا و ٱ ا ِإ ا ا ن و
ًا ًا َت َق
باإلثخان هو القتل والتخويف الشديد .وال شك أن الصحابة لوا يوم بدٍر خلق عظيم وكسبوا
املعركة ،وليس من شرط اإلثخان في األرض قتل جميع الناس .ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة.
وهذا جائز من آية سورة محمد التي هي سورة القتال ومن هذه اآلية نفسها ،فإنها تدل على أنه بعد
اإلثخان يجوز األسر .فال يكون الرسول قد اجتهد في حكم األسرى حين أسر وجاءت اآلية تصحح
ًا
اجتهاده ،وال يكون األسر الذي فعله الرسول في بدر تشريع فجاءت اآلية تبين خطأه .وكذلك ال يكون
ًا ًا
هذا األسر ذنب مخالف للحكم الذي نزل ،ولكن يدل على أن الرسول في تطبيق حكم األسرى الوارد في
ٰٓى َذ َأ ْث َخ
آية محمد ﴿َح َّت ِإ ٓا نُت ُم وُه ْم ﴾ على هذه الحادثة في غزوة بدر كان األولى أن يكون القتل أكثر حتى
يكون اإلثخان أبرز ،فنزلت اآلية تعاتب النبي ﷺ على تطبيقه الحكم على وجه خالف األولى ،فهي عتاب
ًا ًا ًا
على فعٍل قام به تطبيق لحكٍم سابٍق وليست تشريع لحكم جديد وال تصحيح الجتهاد،29
ومثل ذلك أيضا حين أذن الرسول ﷺ ملن يستأذن في تبوك ،في اآلية 43من سورة التوبة ،فإنه أذن
لهم بناء على جواز أن يأذن ملن شاء منهم كما في سورة النور اآلية 62التي نزلت قبل سورة التوبة ،وأما
َأل
عتابه في قصة ابن أم مكتوم فكان لفعله خالف ا ْو لى ،ولم يكن عن خطأ ارتكبه -حاشاه ﷺ" -فإن
ًا
الرسول ﷺ مأمور بتبليغ الدعوة للناس جميع ،وبتعليم املسلمين اإلسالم .وكال األمرين للرسول ﷺ
أن يقوم به في كل وقت .وعبد هللا بن أم مكتوم أسلم وتعلم اإلسالم .وقد أتى رسول هللا وعنده
صناديد قريش ،عتبة وشيبه ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد املطلب وأمية بن خلف
والوليد ابن املغيرة يدعوهم إلى اإلسالم ،رجاء أن يسلم بإسالمهم غيرهم ،فقال ابن أم مكتوم للنبي ﷺ
وهو في هذه الحالة يا رسول هللا أقرئني وعلمني ّم ما علمك هللا ،وكرر ذلك وهو ال يعلم تشاغله بالقوم،
فكره رسول هللا قطعه لكالمه وعبس وأعرض عنه ،فنـزلت هذه السورة ،فالرسول ﷺ مأمور
بالتبليغ ،ومأمور بتعليم اإلسالم ،فقام بالتبليغ وأعرض عن تعليم من طلب التعليم النشغاله بالتبليغ.
وكان األولى أن يعِّل م ابن أم مكتوم ما سأله ،ولكنه لم يفعل فعاتبه هللا على ذلك ،إذ كان إعراضه ﷺ
عن ابن أم مكتوم خالف األولى ،فعاتبه هللا على قيامه بما هو خالف األولى وليس في هذا أي اجتهاد في
حكم وال تصحيح الجتهاد ،وإنما هو تطبيق لحكم هللا في حادثة معينة على خالف األولى عاتبه هللا على
هذا".30
َٰٓ 31يَأ ُّي َه َّن ُّي َم ُت َح ُم َم َأ َح َّل َّل ُه َلَۖك َت ۡب َت َم ۡر َض َت َأ ۡز َٰو َۚك
ِج ا ِغ ي ٱل ِّر ٓا وأما عتابه في ابتغائه مرضاة أزواجه ﴿ :ا ٱل ِب ِل
َّل َغ
َو ٱل ُه ُف وٞر َّر ِح يٞم ﴾ [التحريم ،]1فالتحريم هنا هو االمتناع عن االنتفاع (بجاريته مارية ،أو بالعسل)
مع اعتقاده بأنه حالل ،وإنما كره أن يخرج منه ريح مغافير ،وهي ريح كريهة ،فألزم نفسه بأن ال يتناوله
ثانية ،وهذا أمر ال خطأ فيه وال معصية ،فأكل العسل حالل ،ويمكن أن يمتنع املرء عنه ،وعن أي أكل
مباح يخرج ريحا كريهة ،ومثل ذلك يجوز له أن يمتنع عن وطء جاريته ،ومعروف أن من اعتقد حرمة
ما أحل هللا يكفر ،فال يمكن فهم اآلية بأنه ﷺ غّي ر في حكم هللا وشرعه ،وعلى هذا ،فال معصية وال
خطأ في الواقعة ،قال النووي في «شرح مسلم»( :الصحيح أن اآلية في قصة العسل ال في قصة مارية
ًا ًال
املروية في غير «الصحيحين» ،ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نق عنه أيض :
29يراجع فصل :ال يجوز في حق الرسول ﷺ أن يكون مجتهدا ،في كتاب :الشخصية اإلسالمية ،الجزء األول ،تقي الدين النبهاني ،لتفاصيل
أكثر تتعلق باملوضوع لم ننقلها اختصارا ،وتجيب على كل التساؤالت املتعلقة بهذه القضايا بالتفصيل الشديد.
ًا
30الشخصية اإلسالمية ،الجزء األول ،تقي الدين النبهاني ،باب :ال يجـوز في حـق الـرسـول أن يكون مجتهد
31تفسير الرازي ،واآللوسي وابن عاشور.
ُت
الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي هللا تعالى عنها)" ،واالستفهام في قوله ﴿ِل َم حِّر م﴾
َّل
مستعمل في معنى النفي ،أي ال يوجد ما يدعو إلى أن تحّر م على نفسك ما أحّل ال ه لك ،ذلك أنه ملا
ًا ًا
التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزام بيمين أو بدون يمين أراد االمتناع منه في املستقبل قاصد
ْأل
بذلك تطمين أزواجه الالئي تما َن عليه ِل فرط غيرتهن ،أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في
ًا
املعاشرة 32إن كانت فيما ال هضم فيه لحقوقهن ،وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حرام
كما في قوله تعالى ﴿قل من حرم زينة هللا التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ [األعراف ،]32وفي
ًا
قوله ﴿تبتغي مرضات أزواجك﴾ عذر للنبي ﷺ فيما فعله من أنه أراد به خير ،وهو جلب رضا األزواج
ألنه أعون على معاشرته مع اإلشعار بأن مثل هذه املرضاة ال يعبأ بها".
َي ْغ َر َل َك َّل ُه َم َتَق َّد َم َذ ۢن َك َو َم َت َأ َّخ
َر ﴾ ،هل أذنب الرسول ﷺ؟ ا ِم ن ِب ٱل ا ﴿ِّل ِف
وأما اآليات واألحاديث التي ذكرت مغفرة الذنوب وأمرت باالستغفار في حق النبي ﷺ ،فقال
الشافعي في "األم" (ُ" :)7/310ث َّم َأ ْن َز َل َع َل ى َن َأ ْن َق ْد َغ َف َر َل ُه َم ا َتَق َّد َم ْن َذ ْن َو َم ا َت َأ َّخ َر َ .ي ْع ي َو َا لَّل ُه
ِن ِم ِب ِه ِب ِّي ِه
ْن َض اُه َع ْنُه َو َأ َّنُه ُل َأ ْع َل ُم َم ا َتَق َّد َم ْن َذ ْن َق ْبَل اْل َو ْح َ ،و َم ا َت َأ َّخ َر َ :أ ْن َي ْع َم ُه َف اَل ُي ْذ ُب َف َع َم َم ا َي ْف َع
ِب ِه ِم ِر ِل ِن ِص ِي ِم ِب ِه
َأ َّو ُل َش َو ُم َش َّف َيْو َم ْل َي َم َو َس ُد ْل َخ اَل
ا ِق ا ِة ِّي ا ِئ ِق " انتهى .ويؤيد هذا منطوق القرآن الكريم في حق موسى ٍع ٍع اِف
ُل َأ َأ َل
َو ُه ْم َع َل َّى َذ ۢن ٌب َف َخ ُف
ا ن َي ْق ُت وِن ﴾ [الشعراء ]14ويعني قتله رجال منهم قبل النبوة ،كما عليه السالم﴿ :
ًال َف اًّل َك
يدل عليه قوله تعالى في حق رسوله ﷺَ﴿ :و َو َج َد َض ٓا َه َد ٰى ﴾ [الضحى ]7أي ضا قبل الوحي فهدى
بالنبوة.
َل َذ َّل
قال تعالى في سورة الفتح ﴿ َي ْغ َر َك ال ُه ما َتَق َّد َم ن ْن َك وما َت أَّخ َر وُي َّم ْعَم َتُه َع ْي َك وَي ْه َي َك َل
ِد ِت ِن ِم ِب ِل ِف
َّس ْت ْظ ًط
ِص را ا ُم ْس َت ِق يًم ا﴾ [الفتح ،]2جاء في معجم مقاييس اللغة" :غفر :الغين والفاء والراء ُع ُم باِب ه ال ر،
َغ ًا َغ ُّذ
ثم يِش عنه ما ُي ذكر .فالَغْف ر :الَّس تر .والُغْف ران والَغْف ُر بمعَن ًى .يقالَ :ف ر هللا ذنبه ْف ر " انتهى فأصل
َّط ْت
الغفران في اللغة الستر ،والستر حجاب وغطاء" ،الِّس ُر :ساترِ ،ح جاب ،ما ُي ستتر به وُي تغ ى" ،جاء في
ْت ًا ٌة
مقاييس اللغة" :السين والتاء والراء كلم تدُّل على الِغ طاِء ،تقول :سترت الشيء ستر ،والُّس َر ة :ما
استترت به".
وللغفران صور منها التجاوز والستر والعفو واملسامحة عن الذنوب والخطايا بعد وقوعها ،أو
الوقاية منها والستر منها في حال إمكان وقوعها ،قبل وقوعها ،أي أن يجعل بينك وبينها حجابا وسترا
وغطاء يحول بينك وبينها ،فيصلح حالك فال تقع في الذنب املمكن ،33ففي اللغة "غفر األمر أصلحه"،
34رد املنار على الناقد لذكرى املولد النبوي ،محمد رشيد رضا ،ربيع األول 1337 -هـ املنار.
َت َأ
يحصل منه ذنب قبلها ،أي إن داللة ﴿َو َم ا َّخ َر ﴾ التي لم تترجم في الواقع على صورة أي ذنب ،تدل على
ًا َتَق
أن داللة ﴿َم ا َّد َم ﴾ كذلك أيض ،فيحمل معنى املغفرة على الستر والوقاية والتطهير من الذنب املمكن
وقوعه ،ال على ذنب وقع فعال .كذلك ،ومما يعضد ذلك أن القرآن الكريم نقل لنا كل فعل منه ﷺ
ًا
خالف فيه األولى ،أو حدث به نفسه وأخفاه ،فأبداه هللا تعالى ،ولو كان ارتكب معصية أو ذنب ،لنقله
الوحي من باب أولى ،ولم يحصل شيء من ذلك ،بل لقد أثبت لنا القرآن استحالة ذلك بقوله تعالى:
ْل ُث َل َق َط ْل َأَل َخ ْذ َن َأْل َق َل َل َتَق
ا ِم ْنُه ِب ٱ َي ِم يِن َّم ْع َن ا ِم ْنُه ٱ َو ِت يَن ﴾ [الحاقة ،]46-44 ﴿َو ْو َّو َل َع ْي َن ا َب ْعَض ٱ اِو يِل
وهذا ينفي عنه أي قول غير صادر عن الوحي ،أو مناقض للوحي ،يتقّو له على هللا تعالى ،وهدده لو فعل
ذلك لقطع نياط قلبه ،والوتين عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات منه اإلنسان ،فلو قدر أن الرسول -
ًا
حاشا وكال -تقّو ل على هللا لعاجله بالعقوبة ،وأما عن الفعل والقول مع ومخالفة املنهج أي املعصية،
واألخذ من غير الوحي من البشر ،فقال تعالى -نافيا إمكان حصول ذلكَ﴿ :-و َل ْو ٓاَل َأ ن َث َّب ْت َٰن َك َل َق ْد دَّت
ِك
َف َمْل ُث اَل َت َل َل َن َف ْل ًذ َأَّل َذ ْق َٰن َت َك َل َش ًٔـ َق ًال
َك ِض ْع ٱ َح َيٰو ِة َو ِض ْع ٱ َم اِت َّم ِج ُد َك َع ْي َن ا ِص يًر ا﴾ ْر ُن ِإ ْي ِه ْم ْي ا ِل ي ِإ ا
[اإلسراء ،]75-74فلو قال أو فعل فعال يخرجه عن جادة الصراط ،يقترب فيه من منهج الكفار ويبعد
فيه عن منهج الحق ،أو أن يعصي أمرا من الشرع ،لعاجله بالعقوبة املغلظة .وهللا تعالى أعلى وأعلم
وأحكم.
ومن العلماء من رآى أنها من باب التقصير عن بلوغ حق شكر هللا على نعمه على النبي ،والتقصير في
العبادة بما يليق بمقام هللا تعالى ،إذ لن يستطيع البشر بلوغ شيء من ذلك حق شكره وحق عبادته،
واعتبرها الرسول ﷺ خطيئة ،إذ إن حسنات األبرار سيئات املقربين ،فمقام النبوة السامق العالي
يقتضي سموا في العمل ال يدانيه سمو ،وهمة نفسه ﷺ ترى أنه ما بلغ حق شكر ربه وعبادته ،فاعتبر
ًا
ذلك خطيئة وإسراف في حقه ،وليس ذلك من باب املعصية بل من باب فعل األولى ،أو أنه إنما كان
ُي عِّل ُم املسلمين هذا الدعاء الراقي ،ليستغفروا به عن أخطائهم وإسرافهم ،قال القرطبي في تفسيره
"الجامع ألحكام القرآن" (َ" :)20/233ف ْن يَل َ :ف َم اَذ ا ُي ْغَف ُر لَّن ﷺ َح َّت ى ُي ْؤ َم َر ا ْس ْغَف ا ؟ يَل َل ُه َ :ك اَن
ِب اِل ِت ِر ِق ِل ِب ِّي ِإ ِق
َل َأ ْنَت َأ ُك َأ َئ َخ ْغ
ْع ُم ِب ِه ِم ِّن ي. الَّن ِب َّي ﷺ َي ُق وُل ِف ي ُد َع اِئِه َ« :ر ِّب ا ِف ْر ِل ي ِط ي ِت ي َو َج ْه ِل يَ ،و ِإ ْس َر اِف ي ِف ي ْم ِر ي ِّل ِه َ ،و َم ا
َأ َق َّل ْغ ُك َذ َخ َط َّل ْغ
ال ُه َّم ا ِف ْر ِل ي ِئ ي َو َع ْم ِد يَ ،و َج ْه ِل ي َو َه ْز ِل يَ ،و ُّل ِل َك ِع ْن ِد ي .ال ُه َّم ا ِف ْر ِل ي َم ا َّد ْم ُت َو َم ا َّخ ْر ُت َ ،و َم ا
َظ َف َك َق َأ ُمْلَق َأ َأ َل
ْع ْنُت َو َم ا ْس َر ْر ُت ْ ،نَت ا ِّد ُم وأنت املؤخر ،إنك على شي ِد يٌر » .اَن ﷺ َي ْس َتْق ِص ُر َنْف َس ُه ِ ،ل ِع ِم َم ا
َذ ُذ ُن ْل ُق َل َّل َأ ْن
َعَم ال ُه ِب ِه َع ْي ِه َ ،و َي َر ى ُص وَر ُه َع ِن ا ِق َي اِم ِب َح ِّق ِل َك وًب ا" انتهى .هذا ،وقد سبق أن بينا معنى كلمة
خطيئة( ،الصغائر) بمخالفة ال عمد فيها ،ويقرب منها اللمم ،حديث نفس ال تحققه الجوارح في الواقع.
ونختم بنقل عظيم من العالمة ابن عاشور في تفسيره إذ يقول" :وَق ْو ُل ُه ﴿ِل َي ْغ ِف َر َل َك الَّل ُه ﴾ َب َد ُل
َل ْت َّل َل َف ّن َف َل ْش
ا ِت ماٍل ِم ن َض ِم يِر َك .والَّتْق ِد يُر :إ ا َت ْح نا ْت ًح ا ُم ِب يًن ا أِل ْج ِل َك ِل ُغْف راِن ال ِه َك وإ ماِم ِن ْعَم ِتِه َع ْي َك ،
ُغ ْف َن و داَي َك راًط ا ُم ْس َت يًم ا وَن ْص َك َن ْص ًر ا َع يًز ا .فاَملْع نى :أَّن الَّل َه َج َع َل ْنَد ُح ُص و َه ذا الَف ْت
را ِح ِل ِع ِز ِر ِق ِه ِت ِص
الَف ْض َج ي ما َق ْد ُي ؤا ُذ الَّل ُه َع لى َم ْث ُر ُس َل ُه َح ّت ى ال َيْب قى َر ُس و ﷺ ما َي ْق ُص ُر َع ْن ُب ُل و هاَي
ِل ِغ ِن ِة ِب ِه ِل ِه ِل ِل ِه ِخ َنِم ِع
َّت َن ْج ُأ َّل ْع ْت ُه َل
ا َر َج زاًء َع َة ْغَمل َه َج َع َف ُل َملْخ َبْي
لى إ ماِم أ ماِل ِه ا ِت ي ْر ِس َل أِل ِل ها ِم ال ْب ِل يِغ والِج هاِد ا وقاِت َ .ل ِذ ِه ِف
والَن َص والَّر ْغ َب إلى الَّل .وَل ْي َس ْت إاّل َم ْغ َر َة َج ي الُّذ ُن و سا ها وما َع سى أْن َي ْأ َي نها ّم ا َي ُع ُّد ُه
ِت ِم ِم ِب ِب ِق ِم ِع ِف ِه ِة ِب
الَّن يُء ﷺ َذ ْن ًب ا َّد الَخ ْش َي ن أَق الَّتْق ي َك ما ُي قاُل َ :ح َس ناُت األْب را َس ئاُت اُملَق َّر يَن ،وإْن كاَن
ِب ِر ِّي ِص ِر ْأ ِة ِم ِّل ِل ِش ِة ِب
ُف َّتْش َمل َّن َة َل ُذ َخ َد ْن
ْع
ْي ِه .وقاَل ا ِط َّي :وإ ما ا نى ال ِر ي ِب َه ذا َع ُن ْب َع ُي
وًم ا ِم ن أ ِت َي ها ِب ما ؤا ْع َب َي ْعُص َم الَّن ِب يُء ﷺ
الُح ْك وَل ْو َل ْم َتُك ْن َل ُه ُذ ُن وٌب ،واُملراُد ـ ﴿ما َتَق َّد َم ﴾َ :ت ْع يُم اَملْغ ِف َر ِل لَّذ ْن َك َق ْو ِل ِه ﴿َي ْع َل ُم ما َبْي َن أْي ِد ي ْم
ِه ِة ِب ِم ِب ِم
وما َخ ْل َف ُه ْم ﴾ [البقرة ،]255فَال َي ْق َت ي َذ َك أَّنُه َف َر َط نُه َذ ْن ٌب أْو أَّنُه َس َي َق ُع نُه َذ ْن ٌب وإَّن ما اَملْق ُص وُد
ِم ِم ِض ِل
ْع َم َب ٌء َش َم ْد َق ُه ُه ُر ُد ُص َر ُق ْو َل ْن َذ َذ َر َف َع َق ْد َر ُه َر ْف َع َة َع َد ُمل َخ َّنُه َت
و ِم ن ،و ضى ْي ِم ن ياِن نى ِّد ِب ٍب ِة ؤا ا ِم - عالى أ -
َك ْن َذ َتْغ َت َق ْنَد َّذ ْن
35
ال ِب ِع ْو ِل ِه عالى ﴿واْس ِف ْر ِل ِب ﴾ [محمد ]19في ُس وَر ِة الِق تاِل ".
هذا ،ويجب الحمل على هذه الوجوه من التفسير لألسباب التي ذكرناها أعاله والتي تقتضي
وجوب العصمة في حق األنبياء ،وقد قلنا بأن القطعي يقضي على الظني ،واملحكم يقضي على املتشابه،
فلما كان أي تأويل للذنب أو الخطيئة بمعنى املعصية يتنافى مع الدليل القطعي على العصمة ،فوجب
حمله على معاٍن ال يتعارض فيها مع األدلة القطعية ،وهذه الوجوه التي أثبتناها في تأويل اآليات مبنية
على فهم دقيق للغة واستعماالتها ملعاني الكالم ،ومبنية على فهم صحيح للمعاني الشرعية املحتملة
للمغفرة ،ولدرجات الذنوب والسيئات واملعاصي التي أوضحناها سابقا ،وعلى النقل التاريخي الذي لم
ينقل لنا فيه الوحي وال أصحاب الرسول ﷺ ،وال أزواجه وال حتى أعداؤه أي ذنب أو معصية أو مخالفة
َل َل ُخ ُل
ملا يأمر به ﷺ ،وتكفيه شهادة ربه تعالى فيهَ﴿ :و ِإ َّنَك َع ٰى ٍق َع ِظ يٍۢم ﴾ [القلم ،]4أي لعلى دين وخلق
عظيم ،وعلى سلوك قويم ،في كل ما تأتيه وما تتركه من أقوال وأفعال ،والتعبير بلفظ ﴿لعلى﴾ يشعر
َف ْل َيْح َذ َّل َن ُي َخ ُف َن َع ْن َأ ْم َأ
ِر ِه ٓۦ ن ِر ٱ ِذ ي اِل و بتمكنه ﷺ ورسوخه في كل خلق كريم .وهذا أبلغ رد ،قال تعالى ﴿
َذ َأ ٌة َأ ُت
ِص يَبُه ْم ِف ْتَن ْو ُي ِص يَبُه ْم َع اٌب ِل يٌم ﴾ ،وال يتصور بعد هذا البيان اإللهي أن يكون الرسول نفسه ﷺ
خالف األمر وعصى.
لقد تبين لنا بكل وضوح أن هللا تعالى نفى نفيا قاطعا أن يدخل الرسالة أي أثر بشري يخالط الوحي
فيها ،إذ إن نفيه نطق الرسول ﷺ عن الهوى نفي لكل أثر نفسي ،ونفيه لوجود االجتهاد واحتمال
تسرب الخطأ في الرأي نفي لكل أثر عقلي ،ونفيه التباع الكفار وامليل إليهم قيد أنملة نفي لكل أثر للتأثر
بالعادات واألعراف ،والحضارات والثقافات البشرية ،ونفي لتقليد القوانين البشرية ،وتقريره القاطع
باملراقبة الحثيثة من بين يدي الرسول ومن خلفه ،لرصد كل ما يبلغه وليعلم أن الرساالت وصلت