You are on page 1of 330

‫مشاهد‬

‫من المقاصد‬
‫الحقوق‬
‫تأليف‪ :‬عبدهللا بن الشيخ املحفوظ بن بيه‬
‫الطبعة الخامسة‪2018 :‬‬
‫‪ -‬الترقيم الدولي‪978 9948 18 348 8 :‬‬

‫‪ -‬الهاتف‪+971505957039 :‬‬
‫‪ -‬الفاكس‪+97124412054 :‬‬
‫‪ -‬اإليميل‪Researches@almuwatta.com :‬‬
‫‪ -‬الفئة العمرية‪E :‬‬
‫‪ -‬تم اإلذن بالطباعة من طرف املجلس الوطني لإلعالم‬
‫بدولة اإلمارات العربية املتحدة‬

‫‪ -‬تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تالئم محتوى الكتب‬


‫وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن املجلس الوطني لإلعالم‬

‫مسار للطباعة والنشر – دبي‬


‫‪info@hapc.ae‬‬
‫‪Dubai-IMPZ‬‬
‫‪ -‬الهاتف‪+97144484000 :‬‬
‫‪-‬الفاكس‪+97144484111 :‬‬
‫الفهرس‬

‫مدخل ‪15....................................................‬‬
‫المشهد األول‪ :‬تعريف المقاصد ‪25 ..........................‬‬
‫• تعريف المقاصد لغة ‪27 ................................‬‬
‫اصطالحا ‪31 ...........................‬‬‫ً‬ ‫• تعريف المقاصد‬
‫• مستويات المقاصد ‪47 ...................................‬‬
‫• خالصة تعريف مقاصد الشريعة ‪51 .....................‬‬
‫المشهد الثاين‪ :‬مسيرة العمل والتعامل مع المقاصد وبها ‪53 ...‬‬
‫• المقاصد عند الصحابة والتابعين ‪55 ....................‬‬
‫• المقاصد عند أئمة المذاهب ‪60 ..........................‬‬
‫• تعريف العقل عند الغربيين ‪71 ...........................‬‬
‫• العقل يف الشريعة اإلسالمية ‪75 .........................‬‬
‫• هل للعقل حدود؟ ‪76 ...................................‬‬
‫المشهد الثالث‪ :‬موازنات المقاصد ‪91 .......................‬‬
‫• القضية األولى‪ :‬المصلحة بين العقل والنقل‪93 .......... .‬‬
‫ِ‬
‫معقوليــــــــــة المعنَى‬ ‫بين‬ ‫ِ‬
‫الشـــــــريعة َ‬ ‫ُ‬
‫دوران‬ ‫• القضية الثانية‪:‬‬
‫والتعبد‪106 ................................................. :‬‬ ‫ُّ‬
‫• القضية الثالثة‪ :‬التجاذب بين الكــلي والجزئي‪117 ..... :‬‬
‫المشهد الرابع ‪ :‬أصناف المقاصد ‪125 .......................‬‬
‫األول ‪ :‬شعب المقاصد ‪127.....................‬‬ ‫• التقسيم َّ‬
‫• التقسيم الثاين ‪ :‬الكلية ‪ -‬العامة ‪ -‬الخــــــاصة ‪128 ........‬‬
‫• تقسيم الشاطبي ‪ :‬األصلية والتبعية ‪129 .................‬‬
‫• مناقشة تقسيم الشاطبي ‪135 ............................‬‬
‫• أصناف أخرى من المقاصد ‪137 ........................‬‬
‫• تقسيـــم األصوليين ‪ :‬الضروري ‪ -‬الحاجي ‪ -‬التحسيني ‪..‬‬
‫‪141.......................................................‬‬
‫• المقاصــد الكبـرى ‪148..................................‬‬
‫• أولاً ‪ :‬معيــــار االنتماء إلى المقصد الضروري‪154...... :‬‬
‫• ثان ًيا ‪ :‬تذبذب االنتـــــماء لبعض القضايا بين الضـــــروري‬
‫والحاجي ‪155 ............................................‬‬
‫المشهد الخامس ‪ :‬استنباط المقاصــــد واستخراجها ‪165 ......‬‬
‫• جهات استنباط المقصد لدى الشاظبي ‪167 .............‬‬
‫• استنباط المقاصد عند ابن عاشور ‪177 ....................‬‬
‫• مقصد الرتك ‪183 ...................................... :‬‬
‫• طـرق التعرف على المقاصد عند ابن عاشور ‪225........‬‬
‫المشهد السادس‪ :‬االستنجاد بالمقاصد واسثمارها‪243 .........‬‬
‫• تصرف المجتهدين ‪245..................................‬‬
‫ُ‬
‫مداركها ‪249..........................‬‬ ‫المقاص ِد و‬
‫ِ‬ ‫• مناحى‬
‫• خالصة القول ‪287.......................................‬‬
‫• ضوابط التعامل مع المقاصد ‪288........................‬‬
‫• مجاالت االستنجاد بالمقاصد ‪294......................‬‬
‫خاتمة ‪321.....................................................‬‬
‫مشاهد من المقاصد‬
‫مدخل‬
‫قاص ِد ُيعتربُ ُم َك ِّملاً‬ ‫إن هذا الكتاب الذي نُخصصه للم ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الفات» ‪ -‬الذي‬ ‫ِ‬ ‫االختِ‬
‫الالت و َمجالي ْ‬ ‫ِ‬ ‫لكِتَابِي « َأمالِي الدَّ‬
‫ِ‬ ‫باح ِ‬
‫األول لم ِ‬
‫الالت األلفاظ‪،‬‬ ‫ث َد‬ ‫َ َ‬ ‫���ز َءه‬ ‫صصت ُج ْ‬ ‫ُ‬ ‫َخ‬
‫ِ‬
‫الكتاب‬ ‫الالت المعاين‪ -‬وأص ُ��ل هذا‬ ‫ِ‬ ‫والجز َء الثاين ل��دَ‬ ‫ُ‬
‫مركز ِدراسات‬ ‫ُ‬ ‫الو ِج ِيز ُمحاضر ٌة بمك َة المكرمة َن َّظمها‬ ‫َ‬
‫الشريعة اإلسالم ّية‪ ،‬وقد أردن��اه ورق�� ًة تعريفي ًة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مقاصد َّ‬
‫والر ِ‬ ‫بالج ِ‬ ‫ف هذا االسم ِ‬
‫سم‪،‬‬ ‫نس وال َفص ِل َّ‬ ‫َ‬ ‫عر ُ‬ ‫للمقاصد‪ُ ،‬ت ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رسم َمسير َة َتش ُّك ِل‬
‫االستكشاف‬ ‫َ‬
‫وتاريخ‬ ‫المقاصد‪،‬‬ ‫و َت ُ‬
‫واالستشفاف‪ ،‬ال��ذي كان ُمنطل ُقه دع��و ًة رباني ًة قرآني ًة‬ ‫ِ‬
‫التفكير والتد ُب ِر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الم ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان يف‬ ‫ركب يف‬ ‫إلعمال العق ِل ُ‬
‫ِ‬
‫ودالالت‬ ‫الخ ْل ِق‬
‫��ات َ‬ ‫��رق النَّظر(‪ )1‬يف آي ِ‬ ‫وتنبيهه على ُط ِ‬

‫‪1‬ـ النظر هو‪ :‬الفكر والت�أمل واالعتبار واملقاي�سة ور ّد ما غاب عن احل�س �إىل ما وجد‬
‫العلم به فيه؛ ال�ستوائهما يف املعنى‪ ،‬واجتماعهما يف العلة‪�( .‬أبو احل�سن الأ�شعري)‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫كتاب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فالكون‬ ‫واألم��ر ِصنوين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الخلق‬ ‫ِ‬
‫باعتبار‬ ‫ِ‬
‫األم��ر؛‬
‫كل منهما‬ ‫المسطور‪ُ ،‬يصدِّ ُق ٌُّ‬
‫ُ‬ ‫واألمر كتا ُبه‬
‫المنشور‪ ،‬خۡ ُ‬
‫َ ُ‬ ‫اهلل‬
‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلل َر ُّب ٱل َعٰلم َ‬‫ار َك هَّ ُ‬ ‫َ‬ ‫أۡ‬
‫ٱلل ُق َوٱل ۡم ُر ۗ َت َب َ‬ ‫ۡ‬ ‫هَ‬ ‫اَ‬
‫اآلخر }أل ُل َ‬
‫ني{‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫يعة ّم َِن أۡٱلَمرۡ‬ ‫ع رَش َ‬ ‫ُ َّ َ َ ۡ َ َ ٰلَىَ‬
‫(األع��راف‪} .)54:‬ثم جعلنٰك‬
‫ِ‬ ‫ِ ٖ‬
‫َ َّ‬
‫فٱتب ِ ۡع َها{ (الجاثية‪.)18:‬‬
‫طلب شرعي‪ُ ،‬فهم من القرآن‬ ‫البحث عن المقاصد َم ٌ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫صريح‪ ،‬وثانيهما بالتلميح‬ ‫ٌ‬ ‫الكريم يف سياقين‪ :‬أو ُلهما‬
‫من خالل تضافر نصوص التعليل يف مقامات اإليجاب‬
‫والتحريم والتحليل‪:‬‬
‫فالسياق األول‪ :‬دعو ٌة إلى التد ُّب ِر والتف ُّكر يف آيات الكون‬
‫وهي دعو ٌة إلى اكتناه أسرار الخلق وحكم‬ ‫وآيات الوحي‪ِ ،‬‬
‫األمر « َأال َل ُه ا ْل َخ ْل ُق َوالأْ َ ْم ُر»‪.‬‬
‫ِ‬
‫الحكمة‪،‬‬ ‫وإبراز‬
‫ُ‬ ‫تعليل األحكا ِم‪،‬‬‫ُ‬ ‫أما السياق الثاين‪ :‬فهو‬
‫والمصلحة يف نصوص القرآن الكريم‪ ،‬وهو تنبي ٌه على‬ ‫ِ‬
‫لألمة على البحث عنها كما أب��رزه‬ ‫ِ‬ ‫المقاصد‪ ،‬وتربي ٌة‬
‫األصوليون يف كتاب القياس‪.‬‬
‫ِ‬
‫الخلق‬ ‫الحكمة مِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النظر يف‬ ‫يف السياق األول الدعو ُة إلى‬
‫واألمر‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫َ‬
‫وأرسل‬ ‫ٍ‬
‫بالغة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لحكمة‬ ‫البارئ جل وعال خلق خل َقه‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫حۡ َ ّ لَىَ‬ ‫ۡ َۡ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫دامغة } بَل نقذِف بِٱل ِق ع‬ ‫بحجة‬ ‫إليهم رس َله‬
‫ُ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱل َبٰ ِط ِل ف َي ۡد َمغ ُهۥ فإِذا ه َو َزاه ‪ِٞ‬ق ۚ{ (األنبياء‪َ } ،)18:‬و َما‬
‫َ َ ۡ َ َّ َ ٓ َ َ أۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ُ َ َ اٗ‬
‫خلقنا ٱلسماء وٱلۡرض وما بينهما ب ٰ ِطل ۚ{ (ص‪،)27:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫حۡ‬ ‫َ أۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ُ َ ٓ اَّ‬ ‫} َما َخلَ ۡق َنا َّ َ َ‬
‫ت وٱلۡرض وما بينهما إِل بِٱل ِق{‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫والتدبر يف وحيه‬ ‫ِ‬ ‫بالتفكر يف ِ‬
‫خلقه‬ ‫ِ‬ ‫(األحقاف‪ .)3:‬وأمر‬
‫َّ َ َ َ أۡ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َََۡ َ ُ‬
‫ۡرض‬ ‫ت وٱل ِ‬ ‫ٰ‬
‫وت ٱلسمو ِ‬ ‫ٰ‬ ‫وأمره قال‪}:‬أولم ينظروا يِف ملك ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ٱق رَ َ‬ ‫يَ ۡ َ َ ۡ َ ىَ ٰٓ َ َ ُ َ َ ۡ‬ ‫َو َما َخلَ َق هَّ ُ‬
‫ت َب‬ ‫ٱلل مِن شءٖ وأن عس أن يكون ق ِد‬
‫َۡ َُ ُۡ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ُُ ۡ َ َ‬
‫(األعراف‪،)185:‬‬ ‫َ أۡ َ‬ ‫ِيث بعدهۥ يؤمِنون{‬ ‫أجلهمۖ فبِأ ِي حد ِۢ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫ۡرض‬ ‫ت وٱل ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ } :‬و َيتفك ُرون يِف خل ِق ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫َّ‬
‫َ َّ َ َ َ َ ۡ َ َ َ‬
‫ت هٰذا َب ٰ ِطل{ (آل عمران‪ ،)191:‬وقال‬ ‫ربنا ما خلق‬
‫َ َ اَ َ َ َ َّ ُ َ ۡ ُ ۡ َ َ‬
‫ان{ (النساء‪،)82:‬‬ ‫سبحانه وتعالى‪} :‬أ َفل يتدبرون ٱلقرء ۚ‬
‫ْ َۡ َ‬ ‫ََ‬
‫وقال جل وعال‪ }:‬أفل ۡم يَ َّدبَّ ُروا ٱلق ۡول{ (المؤمنون‪،)68:‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ ُ ْ ُ ْ أۡ َ ۡ‬ ‫ّ َ َّ َّ ُ ٓ ْ َ َ‬
‫ب{‬ ‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ٱل‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ر‬‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫يِ‬ ‫و‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ت‬‫ٰ‬ ‫اي‬ ‫وقال تعالى‪ }:‬يِلدبروا ء‬
‫(ص‪.)29:‬‬
‫بالتفكر والتَّد ُب ِر قد ورد بصيغة الخرب واالستفهام؛‬ ‫ِ‬ ‫فاألمر‬
‫ُ‬
‫ليكون أبلغ يف التقرير وأ ْدع��ى إلى التفكير‪.‬وإنَّما كان‬

‫‪17‬‬
‫ِ‬
‫والمصلحة‬ ‫ِ‬
‫الخلق‬ ‫ِ‬
‫حكمة‬ ‫التفكير والتد ُّب ُر وسيل ًة الستكناه‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫النظر‬ ‫ُ‬
‫إعمال‬ ‫التَي تتضمنها أحكا ُم الحق‪ .‬فالتفكير‪:‬‬
‫ِ‬
‫األمور وعواقبها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مئاالت‬ ‫النظر يف‬ ‫والتدبر‪:‬‬ ‫ِ‬
‫والخاطر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أما السياق الثاين‪:‬‬
‫الشاطبي ‑ وهو يتحدَّ ث عما سماه بقصد‬ ‫ُّ‬ ‫فقد ع َّبر عن ُه‬
‫وضع‬
‫َ‬ ‫الشارع يف وض��ع الشريعة ابتداء ‑ بقوله‪َّ :‬‬
‫«إن‬
‫الشرائع إنَّما هو لمصالح العباد يف العاجل واآلجل م ًعا‪.‬‬
‫وهذه دعوى ال بد من إقامة الربهان عليها صح ًة أو فسا ًدا‪،‬‬
‫الخالف فيها يف علم‬ ‫ُ‬ ‫وليس هذا موضع ذلك‪ ،‬وقد وقع‬
‫أن أحكام اهلل ليست ُمع َّلل ًة بع َّلة‬ ‫الكالم‪ .‬وزعم الرازي َّ‬
‫أن‬‫وأن المعتزل َة اتفقت على َّ‬ ‫أن أفعاله كذلك‪َّ ،‬‬ ‫ألبتة‪ ،‬كما َّ‬
‫أحكا َمه تعالى معللة برعاية مصالح العباد‪ ،‬وأنَّه اختيار‬
‫أكثر الفقهاء المتأخرين‪ ،‬ولما اض ُط َّر يف علم أصول الفقه‬
‫إلى إثبات العلل لألحكام الشرعية؛ أثبت ذلك على أنَّه‬
‫المعرفة لألحكام خاصة‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫يع َّلل بمعنى العالمات‬
‫حاجة إلى تحقيق األمر يف هذه المسألة‪.‬‬
‫وضعت‬‫ْ‬ ‫والمعتمدُ إنَّما هو‪ :‬أنَّا استقرينا يف الشريعة أنَّها‬
‫غيره‪:‬‬ ‫العباد استقراء ال ينازع ِ‬
‫ِ‬ ‫لمصالحِ‬
‫الرازي وال ُ‬ ‫ُّ‬ ‫فيه‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪18‬‬
‫اٗ‬ ‫ِِ‬
‫األصل‪ُّ }:‬ر ُسل‬ ‫لَىَ‬ ‫يقول اَّيف بعثه للرس ِل َ‬
‫وهو‬ ‫اهلل تعا َلى ُ‬ ‫فإن َ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫هَّ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّمبَ ّ رِش َ‬
‫اس ع ٱللِ حجُۢة‬ ‫ين َومنذِرِين لئِ ل يكون ل ِلن ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ اَّ َ مۡ َ ٗ‬
‫َب ۡع َد ٱلرس ِلۚ{ (النساء‪} ،)165:‬وما أرسلنك إِل رحة‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ني{ (األنبياء‪.)107:‬‬ ‫ّل ِۡل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ذَّ‬
‫وقال يف أصل الخلقة‪َ }:‬و ُه َو ٱلِي َخل َق َّ َ َ‬
‫ت‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫ع ٱل ۡ َمآءِ يِلَ ۡبلُ َو ُكمۡ‬ ‫َّ َ َّ َ اَ َ َ ۡ ُ ُ لَىَ‬ ‫َ أۡ َ َ‬
‫وٱلۡرض يِف سِتةِ أيا ٖم وكن عرشهۥ‬
‫ت ٱلنَّ‬ ‫جۡ‬ ‫ك ۡم أَ ۡح َس ُن َع َم اٗل ۗ{ (ه��ود‪َ } ،)7:‬و َما َخلق ُ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ ُّ ُ‬
‫أي‬
‫ِ‬
‫َ ََ‬ ‫ذَّ‬ ‫اَّ‬ ‫إۡ‬
‫ون{(‪( )1‬الذاريات‪ } ،)56:‬ٱلِي خلق‬ ‫ِ‬ ‫نس إِل يِلَ ۡع ُب ُد‬ ‫َوٱل َ‬
‫ِ‬
‫ۡ‬ ‫اٗ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ ۡ َ َ َ َ ٰ َ َ ۡ َ ۡ ُّ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حۡ‬
‫ك ۡم أ ۡح َس ُن ع َمل ۚ َو ُه َو ٱل َعز ُ‬
‫يز‬ ‫ٱلموت وٱليوة يِلبلوكم أي‬
‫ِ‬
‫ور{ (الملك‪.)2:‬‬ ‫ۡٱل َغ ُف ُ‬
‫والسنَّة؛‬
‫ُ‬ ‫وأما التعاليل لتفاصيل األحكام يف الكتاب‬
‫أن ُتحصى؛ كقوله تعالى يف آية الوضوء‪َ } :‬ما يُر ُ‬
‫يد‬ ‫فأكثر من ْ‬
‫ِ‬
‫ُ ُ ُ َ ّ َ ُۡ‬ ‫هَّ ُ َ ۡ َ َ َ َ ۡ ُ ّ ۡ َ َ َ َٰ‬
‫كن ي ِريد يِلط ِهركم‬
‫ٱلل يِلجعل عليكم مِن حر ٖج ول ِ‬
‫َ َ ُ َ َّ ُ َ ۡ ُ َ‬
‫َو يِلُت ِ َّم ن ِۡع َم َت ُهۥعل ۡيك ۡم ل َعلك ۡم تشك ُرون{ (المائدة‪،)6:‬‬
‫‪ - 1‬هذه الآية �أ�شكلت على بع�ض املف�سرين‪ ،‬وم�ؤدى اال�شكال �أنهم لو خلقوا للعبادة ما‬
‫تخلف �أحد عنها‪ ،‬ونحن نرى �أكرثهم معر�ض ًا عن عبادته تعاىل‪ ،‬فتعني الت�أويل فذهب‬
‫ابن عا�شور �إىل تنوع الإرادة‪ ،‬وذهب بع�ض �شيوخنا �إىل �إ�ضمار الأمر‪�- ،‬أي لآمرهم‬
‫بعبادتي‪ -‬بدليل} َو َما �أُ ِم ُروا �إِلاَّ ِل َي ْع ُبدُوا هَّ‬
‫الل{ قال ابن بونه‪:‬‬
‫والالم يف �إال ليعبدوين لال�ستعارة بال تخمني‬

‫‪19‬‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ ُ‬
‫ب َعل ۡيك ُم‬ ‫وقال يف الصيام‪} :‬يأيها ٱلِين ءامنوا كت ِ‬
‫ُ َ َّ ُ‬
‫ِين مِن ق ۡبل ِك ۡم ل َعلك ۡم‬
‫َ‬ ‫ع ذَّٱل َ‬
‫ّ َ ُ َ َ ُ َ لَىَ‬
‫ٱلصيام كما كتِب‬ ‫ِ‬
‫َّ َّ َ ٰ َ َ ۡ ٰىَ‬ ‫َ َّ ُ َ‬
‫تتقون{ (البقرة‪ ،)183:‬ويف الصالة‪} :‬إِن ٱلصلوة تنه‬
‫ۡ َ‬ ‫َۡ َ ٓ‬
‫َع ِن ٱلف ۡحشا ِء َوٱل ُمنك ِرۗ{ (العنكبوت‪ ،)45:‬وقال يف‬
‫ُ َ‬ ‫اَّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ ُّ ْ‬
‫اس‬ ‫القبلة‪}:‬ف َولوا ُو ُجوهك ۡم ش ۡط َرهُۥ لئِ َل يَكون ل َِّلن ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ‬
‫َعل ۡيك ۡم ُح َّجة{ (البقرة‪ ،)150:‬ويف الجهاد‪} :‬أذِن‬
‫ٌ‬ ‫ذَّ َ ُ َ ٰ َ ُ َ َ َّ ُ ۡ ُ ُ ْ َّ هَّ َ لَىَ ٰ َ رۡ ۡ َ َ‬
‫صهِم لقدِير{‬
‫ۡ‬ ‫ل ِلِين يقتلون بِأنهم ظل ِم ۚوا ِإَون ٱلل ع ن ِ‬
‫َ ُ‬
‫اص‬ ‫(ال��ح��ج‪ ،)39:‬ويف القصاص‪َ }:‬ولك ۡم يِف ٱلقِ َص ِ‬
‫َ َ ٰ ‪ ْ ُ ٰٓ َ ٞ‬أۡ َ ۡ َ ٰ َ َ َّ ُ ۡ َ َّ ُ َ‬
‫ب لعلكم تتقون{ (البقرة‪،)179:‬‬ ‫حيوة يأو يِل ٱللب ِ‬
‫َ َ ۡ ُ َ ّ ُ ۡ َ ُ ْ َ ٰىَ‬
‫ويف التقرير على التوحيد‪} :‬ألست بِربِكمۖ قالوا بل‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ ۡ َ ٓ َ َ ُ ُ ْ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َّ ُ َّ َ ۡ َ ٰ َ َ‬
‫ش ِهدنا ۚ أن تقولوا يوم ٱلقِيمةِ إِنا كنا عن هذا غفِل ِني{‬
‫(األعراف‪ ،)172:‬والمقصود التنبيه‪.‬‬
‫دل االستقراء على هذا‪ ،‬وكان يف مثل هذه القضية‬ ‫وإذا َّ‬
‫مستم ٌّر يف جميع‬ ‫ِ‬ ‫مفيدً ا للعلم؛ فنحن نقطع ب َّ‬
‫��أن األم��ر‬
‫تفاصيل الشريعة»(‪.)1‬‬
‫الرعي ِل األول‬ ‫آذان واعي ٌة من َّ‬ ‫إن تلك الدعو َة قد َتلقفتها ٌ‬ ‫َّ‬

‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪.13 - 8/ 2 :‬‬

‫‪20‬‬
‫ِ‬
‫شاهدة النبي‬ ‫هود الوحي و ُم‬‫كانت له ميز ُة ومزي ُة ُش ِ‬
‫ْ‬ ‫الذي‬
‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫روح‬‫األعظم ﷺ ُفأشربت أحكامهم وفتاويهم َ‬
‫اإلسالمي ألهنا ُتقدم‬
‫ِّ‬ ‫أصبحت الح ًقا فلسف َة التَّشريع‬
‫ْ‬ ‫التي‬
‫ٍ‬
‫أساسية‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫أسئلة‬ ‫ِ‬
‫لثالثة‬ ‫إجاب ًة‬
‫األول‪ :‬ما مدى استجابة التشريع اإلسالمي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫السؤال‬
‫بعض القدماء‬ ‫للقضايا البشرية المتجددة وهو ما سماه ُ‬
‫بالقضايا الالمتناهية كابن رشد يف البداية‪.‬‬
‫السؤال الثاين‪:‬ما مدى ُمالءمة هذا التشريع للمصالح‬ ‫ُ‬
‫اإلنسانية وضرورات الحياة؟‬
‫ِ‬
‫لالجتهاد‬ ‫السؤال الثالث‪ :‬ما هي المكان ُة الممنوح ُة‬ ‫ُ‬
‫المؤطر بالوحي اإللهي يف التشريع‬ ‫البشري العقلي ُ‬ ‫ِّ‬
‫اإلسالمي؟‬
‫وإذا كان لدى الغربيين ما ُيسمى بروحِ القوانين ويف‬
‫والمحامون القواني َن ويتأولونَها َّ‬
‫فإن‬ ‫َ‬ ‫ضوئها ُيفسر القضا ُة‬
‫ِ‬
‫الغرب قدْ ال تبدو شمولي ًة مستوعب ًة‬ ‫فلسف َة التشري ِع يف‬
‫بنظرية المقاصد يف الشريعة‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والمكان إذا قيست‬ ‫ِ‬
‫للزمان‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫المقاصد ُيجيب إيجاب ًيا على تلك‬ ‫ِ‬ ‫إن التَّعا ُم َل مع‬ ‫َّ‬
‫الث قضايا لم تبت‬ ‫األسئلة مع اإلشارة بادئ ذي بدء إلى َث ِ‬
‫أسباب‬ ‫َ‬ ‫ختصر إلى حدِّ ٍ‬
‫كبير‬ ‫َ‬ ‫أن َت‬
‫فيها نظرية المقاصد ُيمكن ْ‬
‫زال َماثلاً‬‫اختالف ال َي ُ‬‫ٌ‬ ‫اختالف المتعاملين بالمقاصد وهو‬ ‫ِ‬
‫شيخ‬ ‫والعملية لم َي ُح َّلها ُ‬ ‫ِ‬ ‫لفيف من ال َقضايا الع ِ‬
‫قدية‬ ‫ٍ‬ ‫يف‬
‫َ‬
‫انحاز‬
‫َ‬ ‫كان قد‬ ‫وإن َ‬ ‫الشاطِبي الذي ْ‬ ‫إسحاق َّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫المقاصد أبو‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫لظاهر‬ ‫ملة من القضايا‪ ،‬فإنَّه َتح َّي َـز‬ ‫للنظري ِة المقصدية يف ج ٍ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫اآلخر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫البعض‬ ‫َّص يف‬ ‫الن ِ‬
‫َّف‬ ‫أن تصن َ‬ ‫مر من القضايا ُيمك ُن ْ‬ ‫الز ُ‬ ‫هذه القضايا أو هذه ُّ‬
‫تحت هذه العناوين‪:‬‬ ‫َ‬
‫العقل أم‬ ‫ُ‬ ‫ف المصلحةَ؟‬ ‫عر ُ‬ ‫األول‪َ :‬م ْن ُي ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العنـــوان‬ ‫•‬
‫النقل؟‬ ‫ُ‬
‫المع ُقول ِ َّي ِة والتَّع ُب ِد‪.‬‬
‫بادات َب ْي َن َ‬ ‫الع ُ‬ ‫• العنــوان الثاين‪ِ :‬‬
‫زئي َأ ُّيهما ُي َقـدَّ ُم؟‬
‫والج ُّ‬‫ُ‬ ‫لي‬ ‫ُ‬
‫• العنوان الثالث ‪ :‬الك ُّ‬
‫وسنخصص مشهدً ا من هذا الكتاب لهذه القضايا‬
‫الثالث لتوضيح وجه اإلشكال‪ ،‬وليس لحسم اختالف‬
‫التجاذب بين المصالح‬ ‫ُ‬ ‫األقوال التي يمثل قطب رحاها‬
‫ملحوظ ًة بالعقل البشري ُأ ُن ًفا وبين النقول موضوع ًة‬
‫‪22‬‬
‫من الشارع‪ ،‬وبخاصة يف جزئياهتا التي تتناز ِع أحيانًا‬
‫أن يقوم بناؤها لوال‬ ‫المرجعيات مع كليات ما كان لها ْ‬
‫نات الجزئيات‪.‬‬‫لبِ ُ‬
‫باإلضافة إلى قضايا دعت الحاجة إلى إبرازها كقضية‬
‫«العقل يف اإلسالم»‪ ،‬رد ًا على بابا الفاتيكان‪ ،‬وقضية «بدعة‬
‫الرتك» بين النفاة والدعاة يف مسعى لإلصالح بين تيارين‬
‫من أهل السنة دعواهما واحدة‪ ،‬وتناول جديد بالنوع ْ‬
‫وإن‬
‫لم يكن جديد ًا بالجنس لالستنجاد بالمقاصد‪ ،‬ومشهد‬
‫خاص بمجاالت تطبيق المقاصد‪.‬‬
‫وسيكون هذا الكتاب عبارة عن مشاهد من المقاصد‬
‫مفتتحا بالتعريف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وليس مستوع ًبا لكل المقاصد‪،‬‬
‫فالتعرف‪ ،‬فالتصنيف‪ ،‬فاالستنجاد واالسرتشاد؛ ولهذا‬ ‫ّ‬
‫سميناه «مشاهد من المقاصد»‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫المشهد األول‬

‫تعريف المقاصد‬
‫• تعريف المقاصد لغة ‪:‬‬
‫أردت‬
‫َ‬ ‫بفتح َما قبل آخره ‑ إذا‬ ‫مقصد ‑ ِ‬ ‫جمع َ‬ ‫ُ‬ ‫المقاصدُ‬
‫المكان بمعنَى‪ِ :‬‬
‫جهة‬ ‫َ‬ ‫أردت‬
‫َ‬ ‫المصدر بمعنَى‪ :‬القصد‪ ،‬وإذا‬
‫القصد ف ُيكسر ما قبل آخره‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مفعل التي يكون فع ُلها من باب‬ ‫القياس ِفي ِ‬ ‫ُ‬ ‫هو‬
‫وهذا َ‬‫َ‬
‫الماضي وكس ِر المضا ِرع‪ ،‬قال ُ‬
‫ابن‬ ‫ِ‬ ‫بفتح‬
‫ِ‬ ‫��ر َب» أي‬ ‫َ‬
‫«ض َ‬
‫ِ‬
‫األفعال‪:‬‬ ‫المي ِة‬
‫مالك يف َّ‬ ‫ٍ‬
‫ت‬ ‫ِ‬
‫الثــــــالثة ال َيـــــ ْف ِع ْل َ‬
‫لــــــ ُه ا ْئ ِ‬ ‫ِم ْن ِذي‬
‫أو ما فيه قد ُع ِمال‬
‫ـــــــعلٍ لمصد ٍر ْ‬ ‫بِ َم ْف َ‬
‫إلى أن يقول بعد بيتين‪:‬‬
‫مصدرا وسوا ُه‬ ‫ً‬ ‫يف َغي ِر َذا عينَه ْ‬
‫افتح‬
‫وشذ الذي َعن َ‬
‫ذلك اعتزَ ال‬ ‫اكســــــــر َّ‬
‫ْ‬
‫و«قصد» لها معان عدة مذكورة يف محلها من كتب‬
‫اللغة‪ ،‬كالمقاييس البن ف��ارس‪ ،‬واللسان البن منظور‪،‬‬
‫والقاموس المحيط للفيروزابادي‪.‬‬
‫والنهود‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والعزم‬
‫ُ‬ ‫التوجه‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫بالمراد َهو‪:‬‬ ‫ُ‬
‫اللصيق‬ ‫والمعنَى‬
‫قلت‪:‬‬ ‫المحيط‪« :‬القصدُ ‪َ :‬‬
‫األ ُّم»‪ُ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القاموس‬ ‫صاحب‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫قال‬

‫‪27‬‬
‫التوجه‪َ ،‬فأ َّمه بمعنَى قصدَ ه‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫األ ُّم‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫رض نِس ًيا َت ُق ُّصــــــ ُه‬ ‫األ ِ‬ ‫َك َأنَّ َلهــــــا يف َ‬
‫ت‬ ‫مـــــك َت َبل ِ‬
‫َ‬ ‫َعــــلى َأ ِّمها َوإِن ُت َك ِّل‬
‫الصناعة‪« :‬أص��ل (ق ص د)‬ ‫ِ‬ ‫اب��ن جنِّي ِف��ي س ِّ��ر‬ ‫ق��ال ُ‬
‫والنهود‬
‫ُ‬ ‫والتوجه‬
‫ُ‬ ‫االعتزام‬
‫ُ‬ ‫العرب‪:‬‬ ‫وموقعها ِفي كال ِم َ‬ ‫ُ‬
‫اعتدال كان ذلك أو َج ْو ٍر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشيء‪ ،‬ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫نحو‬
‫والنهوض َ‬ ‫ُ‬
‫بعض‬ ‫ِ‬ ‫خص يف‬ ‫هذا أص ُله يف الحقيقة‪ ،‬وإن كان قد ُي ُّ‬
‫دون ميلٍ ‪ ،‬أال َترى أ َّنك تقصدُ‬ ‫ِ‬
‫االستقامة َ‬ ‫ِ‬
‫بقصد‬ ‫المواضع‬
‫ِ‬
‫والتوج ُه‬ ‫ُّ‬ ‫فاالعتزام‬
‫ُ‬ ‫العدل أخرى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الجور تار ًة كما تقصدُ‬ ‫َ‬
‫جميعا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫شامل لهما‬ ‫ٌ‬
‫قصده وإليه يقصد بكسر اآليت قصدً ا (‪.)1‬‬
‫قيام عن‬ ‫النهوض ٌ‬ ‫ُ‬ ‫النهوض‪ ،‬ويقال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫هو‬
‫النهود َ‬
‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫هنوض على كل حال‪ .‬كما‬ ‫ٌ‬ ‫أعم فهو‬ ‫قعود‪ ،‬أما النهود فهو ُّ‬
‫يف التاج واللسان يف مادة هند‪.‬‬
‫ُ‬
‫أربعة‬ ‫ِ‬
‫الباب‬ ‫المستعملة ِفي هذا‬ ‫ُ‬ ‫وتصرفات «قصد»‬‫ُ‬
‫ألفاظ هي‪:‬‬ ‫ٍ‬

‫‪ - 1‬املرت�ضى الزبيدي‪ ،‬تاج العرو�س‪ :‬مادة ق�صد‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫قال‬‫مقيس ل َف َع َل المتعدِّ ي َ‬ ‫ٌ‬ ‫مصدر‬
‫ٌ‬ ‫أولاً ‪ :‬القصدُ ‪َ ،‬‬
‫وهو‬
‫األلفية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫مالك ِفي‬
‫ٍ‬ ‫ابن‬
‫ُ‬
‫ثـــــال َث ٍة َك َر َّد ر َّدا‬
‫ِمن ِذي َ‬ ‫الم َعـدَّ ى‬ ‫اس َم ْص َد ِر ُ‬ ‫َف ْع ٌل ِق َي ُ‬
‫قبل آخ ِره َ‬
‫كان‬ ‫َّ��ه‪:‬إن ُفتح ما َ‬ ‫ا‪:‬المقصدُ ‪ ،‬وقد بي َّنا أن ْ‬ ‫َ‬ ‫ثان ًي‬
‫دل على الفعلِ‬ ‫وهو‪َ :‬ما َّ‬ ‫اسم مصد ٍر‪َ ،‬‬ ‫ويطلق ِ‬
‫عليه ُ‬ ‫ُ‬ ‫مصدرا‪،‬‬
‫ً‬
‫بواسطة المصد ِر‪ .‬ويمتاز الميمي عن غيره من أسماء‬ ‫ِ‬
‫المصدر بداللته المباشرة على الفعل‪ ،‬وبأنه مقيس دون‬
‫سواه‪.‬‬
‫قال العالمة ابن َزين رحمه اهلل تعالى يف الزيادات على‬
‫الالمية‪:‬‬
‫ِ‬
‫دئـــــــه‬ ‫بم ْب‬ ‫ِ‬
‫سـمـا ُة َمـ ْبـنـا ُه مــــــا زيـدَ ْت َ‬
‫راك مـــــــا ُع ِقـال‬ ‫اإلش ُ‬ ‫ميم بكِ ْل َمتِها ْ‬ ‫ٌ‬
‫أو ما خلت من حـــــــــروف الفعل بنيته‬
‫لف ًظا وقصــدً ا وما أعطى به بــــدال‬
‫ـــــــــــسـ ُه وال‬
‫ْ‬ ‫والميمي ِق‬
‫َّ‬ ‫ومنه االعـــال ُم‬
‫ولكــن َن ْق ُلــــــــه ُقبِـال‬
‫ْ‬ ‫ت َِقس سوا ُه‬
‫��دل على‬ ‫المقصدُ بكسر ما قبل آخ��ره‪ ،‬وهو ي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ثال ًثا‪:‬‬
‫ِ‬
‫القصد‪.‬‬ ‫المكان‪ ،‬أي على ِ‬
‫جهة‬
‫‪29‬‬
‫راب ًعا‪ :‬المقصو ُد‪ ،‬وهو اسم مفعول مقيس‪.‬‬
‫ألن القصدَ ‑ وهو‬ ‫ومعاين ه��ذه األل��ف��اظ متقاربةٌ؛ َّ‬
‫قال فِي‬
‫اسم المفعول‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يستعمل مرا ًدا به ُ‬ ‫المصدر ‑ قد‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫‪:‬ويحصل القصدُ بشر ِع‬ ‫ِ‬
‫النظم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نشر البنود عندَ قوله في‬
‫«إن القصدَ هنَا بمعنَى المقصود»‪.‬‬ ‫الحكم‪َّ ِ:‬‬
‫َ‬
‫ستعمل َف ْعل‬ ‫أن ُت‬ ‫ِ‬
‫اللغة ْ‬ ‫معروف فِي‬ ‫أمر‬
‫ٌ‬ ‫وهو ٌ‬
‫قلت‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫ال يوجدُ‬‫منسوج‪ ،‬مع أنَّه َ‬ ‫بمعنَى مف ُعول‪َ ،‬كن َْسج بمعنَى ُ‬
‫المفعول فِي فع ِل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واسم‬ ‫ِ‬
‫المصدر‬ ‫كبير فِي المعنَى بي َن‬ ‫ٌ‬
‫فرق ٌ‬
‫«قصد» و َما فِي معنا ُه كعمد‪ .‬قال السيالكويت يف «حاشيته‬
‫على الشمسية» وهو يتحدث عن (المعنى) أهو مصدر‬
‫اسم مكان‪« :‬وكذا لفظ المقصد‪ ،‬وال حاجة‬ ‫ميمي منه أو ُ‬
‫حين كونه مصدر ًا إلى جعله بمعنى المقصود‪ ،‬نص عليه‬
‫‪ -‬قدس سره ‪ -‬يف تحقيق لفظ المجاز يف حواشي شرح‬
‫مختصر األصول‪ ،‬وأما كونه اسم مكان فمبني على تشبيه‬
‫ما وقع عليه القصد بما وقع فيه‪( ،‬قوله أي المقصد) هذا‬
‫الوجه أقرب من حيث المعنى واألول من حيث اللفظ»(‪.)1‬‬
‫التوجه‪ ،‬والمقصو ُد ه َ��و الشي ُء‬ ‫ُّ‬ ‫إال َّ‬
‫أن القصدَ ه َ��و‬
‫‪� - 1‬شروح ال�شم�سية ‪ ،232 /1‬الطبعة الأوىل باملطبعة الأمريية ‪1905‬م‬

‫‪30‬‬
‫المصدر فإنَّه فِي‬ ‫ُ‬ ‫وهو‬
‫المقصدُ بالفتح َ‬ ‫َ‬ ‫إليه‪ ،‬أ َّما‬ ‫المتوجه ِ‬
‫َّ‬
‫معنى ما تقدم‪.‬‬
‫بعض‬ ‫فيحمل َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫القصد‪،‬‬ ‫وهو جه ُة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالكسر َ‬ ‫المقصد‬ ‫أما‬
‫يكون‬‫َ‬ ‫أن‬‫وهو أن ُه يمك ُن ْ‬ ‫روق‪َ ،‬‬ ‫بعض ال ُف ِ‬ ‫الشيات التِي ُتفيدُ َ‬ ‫ِ‬
‫األكيد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القصد‬ ‫مباشرةً‪ ،‬وعلى‬ ‫ِ‬
‫المراد‬ ‫المفتوح دالاً ع َلى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫األخرى‬ ‫ِ‬
‫القصود‬ ‫على‬ ‫ويكون الثاين دا ًّ‬ ‫َ‬ ‫أو االبتدائِ ِّي‪،‬‬
‫َ‬ ‫ال َ‬
‫ِ‬
‫المظنونة‬ ‫ِ‬
‫التابعة ِ‬
‫أو‬ ‫ِ‬
‫القصود‬ ‫يدل عليها بالتعليل‪ ،‬أو‬ ‫التِي ُّ‬
‫ِ‬
‫اليقين‪.‬‬ ‫المقاصد فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تفاوت‬ ‫ِ‬
‫باعتبار‬
‫اصطالحا ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫• تعريف المقاصد‬
‫الفقهاء واألصوليي َن‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫استعمل يف كال ِم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫إن َ‬
‫لفظ‬ ‫َّ‬
‫الشارع من عمل أو‬ ‫أي َما َيقصدُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫تار ًة لمقاصد الشريعة‪ْ ،‬‬
‫وبعبارة أخ َ��رى‪« :‬مرا ُد‬ ‫ٍ‬ ‫الحكم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كف أو ما يقصد بشر ِع‬
‫الذي‬ ‫الخلق»‪ .‬وهو ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحق سبحانَه وتعا َلى يف شرعه مِن‬ ‫ِّ‬
‫َ‬
‫نصوص الشرعِ؛ فيتماهى أحيانًا بالعل ِل‬ ‫ِ‬ ‫العقول مِن‬ ‫ُ‬ ‫تج ِّل ِ‬
‫يه‬
‫ٍ‬
‫‪،‬وبخاصة عندَ‬ ‫ِ‬
‫الشيات‬ ‫ِ‬
‫بعض‬ ‫اختالف فِي‬ ‫ٍ‬ ‫مع‬ ‫ِ‬
‫والحكم‪َ ،‬‬
‫وعالمات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أمارات‬ ‫مجر َد‬ ‫َ‬
‫العلل َّ‬ ‫كالرازي ِ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫َمن َيرى ‪-‬‬
‫ٍ‬
‫وغايات‪.‬‬ ‫كما‬ ‫ْ ِ‬
‫وليست ح ً‬

‫‪31‬‬
‫ويجب ْ‬
‫أن ننبه هنا‪ ،‬قبل الخوض يف عبارات الباحثين‬
‫عن التعرف على المقاصد‪ ،‬على َّ‬
‫أن كل ما ورد يف كالم‬
‫القدماء والمحدثين من تعريف أو تفسير للمقاصد إنما‬
‫يحاول إيصال فكرة عن المقاصد مقيدة بالشريعة أو‬
‫التشريع إلى المتلقي دون تدقيق يف شكل التعريف ليكون‬
‫بالحد الذي يستلزم جنسًا وفصالً‪ ،‬أو الرسم سواء كانا‬
‫تامين أو ناقصين‪ .‬وإنما اكتفوا بالمعنى العام وهو‪َّ :‬‬
‫«أن‬
‫تصور ذلك‬
‫َ‬ ‫تصوره‬
‫ُ‬ ‫المعرف للشيء هو الذي يستلزم‬
‫ِّ‬
‫الشيء أو امتيازه عن كل ما عداه»‪ – .‬كما يقول صاحب‬
‫«الشمسية» يف المنطق‪.‬‬
‫ولهذا نجد القدماء كالغزالي والشاطبي يعرفون‬
‫المقاصد أو القصد بالتشريع بأنه رعاية المصالح وهو‬
‫تعريف بالغاية التي أصبحت بمنزلة الفصل يف التعريف‬
‫باعتبار المقاصد تمثل الجنس‪ ،‬وهذا يعني َّ‬
‫أن الغايات‬
‫التي ال هتدف إلى المصالح خارجة عن الحد‪ ،‬وهبذا يصبح‬
‫تعريف المقاصد بالغايات فقط إنما هو من التفسير‪ ،‬أي‬
‫إبدال لفظ برديف أشهر‪ ،‬وليس تعريفًا‪ .‬وال بأس بكل‬
‫ذلك يف تعريف المصطلحات فكما يقول السيد الجرجاين‬

‫‪32‬‬
‫يف حاشيته على شرح «الشمسية»‪«:‬وأما المفهومات‬
‫فإن اللفظ إذا وضع‬ ‫اللغوية واالصطالحية فأمرها سهل‪َّ ،‬‬
‫يف اللغة أو االصطالح لمفهوم مركب فما كان داخالً فيه‬
‫كان ذاتيًا له وما كان خارجًا عنه كان عرضيا له‪ .‬فتحديد‬
‫المفهومات يف غاية السهولة‪ ،‬وحدودها ورسومها تسمى‬
‫حدود ًا ورسومًا بحسب االسم‪ .‬وتحديد الحقائق يف غاية‬
‫الصعوبة‪ ،‬وحدودها ورسومها تسمى حدود ًا ورسومًا‬
‫بحسب الحقيقة»(‪.)1‬‬
‫معرفة‬
‫ال يف سياق المصلحة‪ِّ ،‬‬ ‫ووردت المقاصد محمو ً‬
‫معرفة بصيغة اسم المفعول‪.‬‬ ‫بصيغة اسم الفاعل وليست َّ‬
‫هذا المعنَى(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬
‫مختلفة َعن َ‬ ‫ٍ‬
‫بعبارات‬ ‫وقد ع َّبر العلما ُء‬
‫‪� - 1‬شروح ال�شم�سية ‪340 /1‬‬
‫‪� -2‬إنَّ م�صطلح الق�صد له داللة معا�صرة �أحببت �أن �أنبه عليها القارئ‪ :‬الق�صد‬
‫م�صطلح ذو مرجعيات فل�سفية مت�شعبة والق�صد اجتاه العقل �إىل املو�ضوع وهو ي�شري‬
‫�إىل اجلانب الإرادي يف الإن�سان وي�شرتطه بع�ض الفال�سفة من �أجل �إقامة احلكم �أو‬
‫الإثبات‪ .‬وي�شري الق�صد يف جملى من جماليه البعيدة �إىل املخيلة املنتجة واملخيلة‬
‫التابعة باملعنى الكانتي‪ ،‬فهو خميلة منتجة عندما يكون حا�ضر ًا متوجه ًا لإقامة حكم‬
‫على مو�ضوع (الأحكام الرتكيبية) وهو خميلة تابعة عندما يكون متوجها �إىل املو�ضوع‬
‫تبع ًا (الأحكام التحليلية)‪ .‬وال �شك �أنَّ مفهوم الق�صد مفهوم م�ؤ�س�س يف فل�سفة ه�سرل‬
‫عن الظاهريات‪ .‬كما ي�ؤ�س�س م�صطلح الق�صدية اجلانب الإرادي يف فل�سفة بول ريكور‬
‫يف مواجهته مع اجلانب ال�ضروري �أو الال�إرادي وهو مو�ضوع املهم لكتاب الإرادي‬
‫واللإرادي‪ (.‬كريين‪ :‬دوائر الهريمينوطيقيا �ص‪ 27‬ترجمة‪ :‬مندي) وانظر متييز بول‬
‫ريكور بني الق�صد لأجل والق�صد لأنَّ ‪ .‬كما يفرق بيار جاكوب بني الق�صدية الأ�صلية‬

‫‪33‬‬
‫بقوله‪«:‬نعنِي‬ ‫ِ‬ ‫الغزالي المصلح َة المعتدَّ هبا‬ ‫ُّ‬ ‫ف‬‫عر َ‬ ‫فقدْ َّ‬
‫مقصود الشار ِع(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫بالمصلحة المحافظ َة على‬ ‫ِ‬
‫حفظ‬ ‫ِ‬ ‫ترجع إ َلى‬ ‫ٍ‬
‫مصلحة َ‬
‫ال‬ ‫«فكل‬‫ُّ‬ ‫اهلل‪:‬‬ ‫وق َ‬
‫ُ‬ ‫��ال رحم ُه ُ‬
‫وكانت مِن‬‫ْ‬ ‫الكتاب والسن َِّة واإلجماعِ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مقصود ُف ِه َم مِن‬ ‫ٍ‬
‫فهي‬ ‫ِ‬ ‫الغريبة التِي ال‬ ‫ِ‬ ‫المصالحِ‬
‫تالئم تصرفات الشرعِ‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫مقصود‬ ‫ِ‬
‫حفظ‬ ‫رجعت إ َلى‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫مصلحة‬ ‫ُّ‬
‫ٌ ‪...‬وكل‬ ‫باطل ٌة م َّط َرحة‬
‫بالكتاب والسن َِّة واإلجماعِ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫شرعي ُعلم كونُه مقصو ًدا‬ ‫ٍّ‬
‫قياسا‪ْ ،‬بل‬ ‫ِ‬
‫خارجا من هذه األصول‪ ،‬لكنَّه َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يسمى ً‬ ‫ال َّ‬ ‫ً‬ ‫فليس‬
‫َ‬
‫مصلح ًة مرسلةً»(‪.)2‬‬
‫ِ‬
‫بالمحافظة على‬ ‫فسرنا المصلح َة‬ ‫أن َ‬ ‫إلى ْ‬
‫قال‪« :‬وإذا ّ‬
‫يجب‬ ‫اتباعها‪ْ ،‬بل‬ ‫للخالف فِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫مقصود الشرع‪ ،‬فالَ وج َه‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫حجة»(‪.)3‬‬ ‫ِ‬
‫القطع بكونها َّ‬ ‫ُ‬
‫للمقاصد ْبل تعري ًفا‬ ‫ِ‬ ‫الغزالي ال يعتربُ تعري ًفا‬ ‫وك�لا ُم‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫المقصود‬ ‫حيث كوهنا محافظ ًة ع َلى‬ ‫ُ‬ ‫للمصلحة مِ��ن‬
‫ِ‬
‫الكتاب والسنَّة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫المفهو ِم مِن‬
‫والق�صدية املتفرعة‪ .‬وكل هذا ينظر يف جماله مع الوعي بحمولته وداللته مقارنة‬
‫باملق�صد الأ�صلي والتبعي وما يتفرع منهما عند ال�شاطبي‪.‬‬
‫‪ - 1‬الغزايل‪ ،‬امل�ست�صفى‪.416 /1 :‬‬
‫‪ - 2‬نف�س املرجع‪.430 /1 :‬‬
‫‪ - 3‬نف�س املرجع‪ ،‬ونف�س ال�صفحة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫توضيحا يف «شفاء الغليل» دون‬
‫ً‬ ‫وزاد الغزالي األمر‬
‫ربط المصلحة بقصد الشارع إلثبات المناسبة لتعليل‬
‫األحكام بل طلب المنفعة ودفع المضرة لتكون مقاصد‬
‫المكلفين مبينة لمناسبة الوصف للتعليل حيث يقول‪:‬‬
‫المعاين المناسبة‪ :‬ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراهتا‪.‬‬
‫ويف إطالق لفظ المصلحة أيضا نوع إجمال؛ والمصلحة‬
‫ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرة‪ .‬والعبارة الحاوية‬
‫لها‪ :‬أن المناسبة ترجع إلى رعاية أمر مقصود‪.‬‬
‫أما المقصود فينقسم‪ :‬إلى ديني وإلى دنيوي‪ .‬وكل واحد‬
‫ينقسم إلى تحصيل وإبقاء‪ .‬وقد يعرب عن التحصيل بجلب‬
‫المنفعة‪ .‬وقد يعرب عن اإلبقاء بدفع المضرة‪ .‬يعني أن ما‬
‫قصد بقاؤه‪ :‬فانقطاعه مضرة وإبقاؤه دفع للمضرة‪ .‬فرعاية‬
‫المقاصد عبارة حاوية لإلبقاء ودفع القواطع وللتحصيل‬
‫على سبيل االبتداء‪ .‬وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى‬
‫رعاية المقاصد‪ .‬وما انفك عن رعاية أمر مقصود‪ ،‬فليس‬
‫مناس ًبا‪ .‬وما أشار إلى رعاية أمر مقصود فهو‪ :‬المناسب(‪.)1‬‬
‫إن هذا النص يعرف مقاصد المكلفين المعتربة والتي‬ ‫َّ‬
‫‪ - 1‬الغزايل‪� ،‬شفاء العليل ‪ ،159‬حتقيق د‪� .‬أحمد الكبي�سي‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫برعايتها تكون المناسبة‪ ،‬و ُيعرف المناسب ال��ذي هو‬
‫ملتقى الديني والدنيوي‪ :‬قصد الشارع وقصد المكلف؛‬
‫فتحصيل المصالح هو مقصد للمكلفين وتحصيلها على‬
‫وجه معين من الشرع هو أيضا قصد الشارع من شرع‬
‫الحكم‪ ،‬وبالتقائهما تدرك المناسبة التي تؤسس للتعليل‪،‬‬
‫وتتحقق المقاصد التي ترجع جميع المناسبات إلى‬
‫رعايتها‪.‬‬
‫أن نعرف المقاصد بأهنا جلب‬ ‫وبعبارة أخرى‪ ،‬يمكن ْ‬
‫المنفعة ودفع المضرة بناء على قوله‪ :‬فرعاية المقاصد‬
‫عبارة حاوية لإلبقاء ودف��ع القواطع وللتحصيل على‬
‫أن المصالح هي‬ ‫سبيل االب��ت��داء‪ .‬ومعنى ه��ذا الكالم َّ‬
‫أصل المقاصد‪ ،‬وهذا ما أكده الشاطبي بقوله‪« :‬المسأل ُة‬
‫الشارع قد قصد بالتشريع إقامة‬ ‫ثبت َّ‬
‫أن َّ‬ ‫السابعة‪ :‬إ ًذا‪َ ،‬‬‫َّ‬
‫ٍ‬
‫المصالح األخروية والدنيوية‪ ،‬فذلك على وجه ال ُّ‬
‫يختل‬
‫ِ‬
‫الجزء‪ ،‬وسوا ٌء‬ ‫لها به نظا ٌم‪ ،‬ال بحسب ال ُك ِّل وال بحسب‬
‫الضرور َّيات أو الحاج َّيات أو‬
‫يف ذلك ما كان من قبيل َّ‬
‫أن‬‫التَّحسين َّيات‪ ،‬فإنَّها لو كانت موضوع ًة بحيث يمكن ْ‬
‫موضو ًعا‬
‫َّشريع ُ‬‫ُ‬ ‫يختل نظا ُمها أو َّ‬
‫تنحل أحكا ُمها‪ ،‬لم يكن الت‬ ‫َّ‬

‫‪36‬‬
‫لها‪ ،‬إِ ْذ ليس كوهنا مصالح إِ ْذ ذاك بأولى من كوهنا مفاسد‪،‬‬
‫أن تكون مصالح على اإلطالق‪،‬‬ ‫الشارع قاصدٌ هبا ْ‬ ‫لك َّن َّ‬
‫وض ُعها على ذلك الوجه أبد ًّيا و ُك ِّل ًّيا وعا ًّما‬ ‫أن يكون ْ‬ ‫فال ُبدَّ ْ‬
‫يف جميع أنواع التَّكليف والمك َّلفين من جميع األَحوال‪،‬‬
‫وكذلك وجدنا األمر فيها‪ ،‬والحمد هَّلل‪.‬‬
‫الشريعة‪،‬‬ ‫أن األمور ال َّثالثة ك ِّل َّي ٌة يف َّ‬ ‫وأيضا‪ ،‬فسيأيت بيان َّ‬ ‫ً‬
‫ات‪ ،‬فعلى‬ ‫لت إلى الجزئِي ِ‬ ‫تنز ْ‬‫تختص على الجملة‪ ،‬وإِ ْن َّ‬ ‫ال‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫بعضا‪َ ،‬ف َع َلى َن َظ ِر ا ْل ُك ِّل ِّي‪ ،‬ك ََما َأن ََّها‬ ‫خص ْت ً‬ ‫وجه ُك ِّل ٍّي‪ ،‬وإِ ْن َّ‬
‫ات‪َ ،‬فالنَّ َظ ُر ا ْل ُك ِّل ُّي‬ ‫إِ ْن كَان َْت ُك ِّل َّيةً‪َ ،‬فلِ َيدْ ُخ َل َت ْحت ََها ا ْل ُج ْزئِ َّي ُ‬
‫ات لاَ َي ْخ ِر ُم ك َْو َن ُه‬ ‫ات‪ ،‬و َتن َُّز ُله ل ِ ْلج ْزئِي ِ‬ ‫فِيها من َِّز ٌل ل ِ ْلج ْزئِي ِ‬
‫َ ُ ُ َّ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫ال النِّ َظا ِم في‬ ‫ُك ِّل ًّيا‪َ ،‬و َه َ��ذا ا ْلم ْعنَى إِ َذا َث َب َت َد َّل َع َلى كَم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الت َّْش ِريعِ‪َ ،‬وك ََم ُال النِّ َظا ِم فيه َي ْأ َبى َأ ْن َين َْخ ِر َم َما ُوض َع له‪،‬‬
‫وهو المصالح»(‪.)1‬‬
‫وقد تقدم قول الشاطبي يف هذا المعنى أن وضع الشرائع‬
‫إنما هو لمصالح العباد يف العاجل واآلجل معًا‪.‬‬
‫أما القرايف فعرف المقاصد يف سياق تعريف األحكام‬
‫وهي المتضمن ُة‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫بقوله‪ :‬األحكا ُم على قسمين‪ :‬مقاصدُ ‪َ :‬‬
‫‪62 /2‬‬ ‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات‬

‫‪37‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الطرق‬ ‫وهي‬ ‫للمصالحِ والمفاسد في أنفسها‪ .‬ووسائل‪َ :‬‬
‫إليها(‪.)1‬‬ ‫المفضي ُة َ‬
‫تتبع المقاصدَ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ويقول فِي‬‫ُ‬
‫ٌ‪«:‬الوسائل ُ‬ ‫الذخيرة‪ :‬قاعدة‬
‫سائر‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكذلك‬ ‫المحرم محرم ٌة‬ ‫َّ‬ ‫فِ��ي أحكامِها فوسيل ُة‬
‫األحكام»ِ(‪.)2‬‬
‫قسمين‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫أن األحكا َم ع َلى‬ ‫ا‪«:‬والجواب َّ‬
‫ُ‬ ‫أيض‬ ‫ويقول ً‬
‫إليه وسيلةٌ‪،‬‬ ‫ووسائل‪ ،‬فالمقاصدُ كالحج‪ ،‬والسفر ِ‬ ‫ُ‬ ‫مقاصدُ‬
‫ِّ‬
‫الكلمة مقصدٌ ‪ ،‬والجها ُد وسيل ٌة‬ ‫ِ‬ ‫ونصر‬ ‫ِ‬
‫الدين‬ ‫��زاز‬
‫وإع ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫ُ‬
‫والمندوبات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والمحرمات‬ ‫ِ‬
‫الواجبات‬ ‫��ك مِن‬ ‫ونحو ذل َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫والمكروهات والمباحات‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫اختالط‬ ‫ِ‬
‫مفسدة‬ ‫الزنا مقصدٌ ؛ الشتمالِه ع َلى‬ ‫فتحريم ِّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫العيدين‬ ‫والنظر وسيلةٌ‪ ،‬وصال ُة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتحريم الخلوة‬ ‫ِ‬
‫األنساب‪،‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫األعاجم‬ ‫والمشي إليها وسيلةٌ‪ ،‬ورطان ُة‬ ‫مندوب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مقصدٌ‬
‫ُ‬
‫الطيبات مقصدٌ‬ ‫ِ‬ ‫إليه‪ُ ،‬‬
‫وأكل‬ ‫مكروهةٌ‪ ،‬ومخالطتُهم وسيل ٌة ِ‬

‫‪ - 1‬القرايف‪ :‬الفروق ‪.33 /2‬‬


‫‪ -2‬القرايف‪ :‬الذخرية ‪.260 /4‬‬
‫‪ - 3‬قد نفهم من هذا �أننا �إذا تو�صلنا �إىل و�سيلة لن�صرة احلق بال جهاد مبعنى القتال‬
‫كان ذلك م�سقط ًا للجهاد بالقتال مع بقاء اجلهاد يف عموم معناه‪ ،‬وهو كما يقول تقي‬
‫الدين ابن تيمية‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ٍ‬
‫وسيلة‬ ‫كل‬ ‫وحكم ِّ‬ ‫واالكتساب ل ُه وسيل ٌة مباحةٌ‪.‬‬ ‫مباح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫كانت‬ ‫ْ‬ ‫ال�ترك ْ‬
‫وإن‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫ِ‬
‫مقصدها فِي اقتضاء الفع ِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫حكم‬ ‫ُ‬
‫الباب ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أخفض من ُه في َ‬
‫ذلك‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫المقاصد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعيين‬ ‫يكون فِي‬ ‫ُ‬ ‫هذا فاالجتها ُد قدْ‬ ‫تقرر َ‬ ‫إ َذا َّ‬
‫ِ‬
‫األجنبية‪.‬‬ ‫األخت مِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كتمييز‬
‫ِ‬
‫المياه‬ ‫ِ‬
‫أوص��اف‬ ‫كاالجتهاد فِي‬
‫ِ‬ ‫يقع يف الوسائ ِل‬ ‫وقدْ ُ‬
‫هو الطهورية‪.‬‬ ‫المقدار‪ ،‬والمقصدُ َ‬ ‫َ‬ ‫ومقاديرها عندَ َمن يعتربُ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫المقصد‬ ‫ِ‬
‫الوسيلة إ َلى‬ ‫ِ‬
‫إفضاء‬ ‫مهما تب َّي َن عد ُم‬ ‫والقاعد ُة أنَّه َ‬
‫الذي اجتهدنَا فِي‬ ‫أن الماء ِ‬
‫َ‬ ‫اعتبارها‪ ،‬كما إ َذا تيقنَّا َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بطل‬
‫يجب إعاد ُته»(‪.)1‬‬ ‫ورد منقط ٍع فإنُّه‬ ‫أوصافِه ماء ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫قسمان‪:‬‬ ‫أيضا‪«:‬قاعد ُة األحكا ِم ك ِّلها‬ ‫وقال القرايف ً‬
‫أنفسها‪.‬‬ ‫للحكم فِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهي المتضمن ُة‬ ‫مقاصدُ ‪َ ،‬‬
‫الوجوب‬ ‫ِ‬ ‫للمقاصد فِي أحكامِها مِن‬ ‫ِ‬ ‫ووسائل تابع ٌة‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫تلك‬ ‫وهي المفضي ُة إ َلى َ‬ ‫وغيرهما‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والتحريم‬
‫َ‬
‫وهي‬ ‫‪،‬‬ ‫وسائل‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫حيث ِ‬
‫ه‬ ‫أنفسها مِن ُ‬ ‫الحكم فِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫عن‬‫خالية ِ‬
‫َ‬
‫المقاصد‪ ،‬فالجمع ُة واجب ٌة مقصدً ا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أخفض رتب ًة مِن‬ ‫ُ‬
‫والزنا محر ٌم مقصدً ا‪ ،‬والخلو ُة‬ ‫واجب وسيلةً‪ِّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫والسعي‬
‫ُ‬
‫‪129 /2‬‬ ‫‪ - 1‬القرايف‪ :‬الذخرية‬

‫‪39‬‬
‫سائر األحكام‪.‬‬ ‫وكذلك ُ‬ ‫َ‬ ‫محرم ٌة وسيلةً‪،‬‬ ‫َّ‬
‫والوسائل أقسا ٌم‪:‬‬ ‫ُ‬
‫المقصد‪ ،‬كزراعةِ‬ ‫ِ‬ ‫حكم‬ ‫مِنها َما يبعدُ جدّ ًا‪ ،‬فالَ ُيع َطى‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الخمر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المفضية إ َلى‬ ‫ِ‬
‫العنب‬
‫ِ‬
‫الخمر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كعصر‬ ‫ِ‬
‫المقصد‬ ‫حكم‬ ‫وما يقرب جدّ ًا فيع َطى‬
‫َ‬
‫فيختلف العلما ُء‬ ‫ِ‬
‫والبعيد؛‬ ‫ِ‬
‫القريب‬ ‫هو مرت ِّد ٌد بي َن‬
‫ُ‬ ‫وما َ‬
‫الخمر للتخليلِ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كاقتناء‬ ‫فيه‪،‬‬
‫األنساب باجتما ِع‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اختالط‬ ‫(‪)1‬‬
‫والمحرم مقصدً ا ها هنا‬ ‫َّ‬
‫السابق والالحق‪ ،‬والعقدُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرحم من الزوجِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المائين فِي‬ ‫ِ‬
‫والتصريح‬ ‫ِ‬
‫��وطء‪،‬‬ ‫تحريم الوسائ ِل إلفضائِه إ َلى ال‬ ‫حرا ٌم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الوسيلة‪ ،‬ولما بعد‬ ‫ِ‬ ‫فهو وسيل ُة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫كذلك إلفضائه للعقد‪َ ،‬‬
‫واإلكنان أبعدُ منْ ُه»(‪.)2‬‬ ‫ُ‬ ‫لم يحر ُم‬ ‫ِ‬
‫التعريض َعن المقصد ْ‬ ‫ُ‬
‫عن‬‫يتحدث ِ‬ ‫ُ‬ ‫وهو‬ ‫عبارة ِ‬ ‫ِ‬ ‫وال يبعدُ َ‬
‫ابن الق ِّيم َ‬ ‫ذلك ع ْن‬
‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫ِ‬
‫تحريم‬ ‫هو مِن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تحريم ر َبا النساء الذي َ‬ ‫الفرق بي َن‬
‫تحريم الوسائ ِل(‪. )3‬‬ ‫ِ‬ ‫هو مِن‬ ‫ِ‬
‫وتحريم ر َبا الفض ِل ال��ذي َ‬ ‫ِ‬
‫منصب ع َلى‬ ‫يدل ع َلى أنَّه‬ ‫المقاصد ُّ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التحريم إ َلى‬ ‫فإضاف ُة‬
‫ٌّ‬
‫‪ - 1‬يعني النكاح يف العدة‬
‫‪192/4‬‬
‫‪ - 2‬القرايف‪ :‬الذخرية‬
‫‪ - 3‬ابن القيم‪� :‬إعالم املوقعني ‪107 /2‬‬

‫‪40‬‬
‫ِ‬
‫الحكم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المقصود بشر ِع‬ ‫ِ‬
‫المفسدة‬ ‫ِ‬
‫درء‬
‫فالمفهوم المشار إليه عند القرايف وابن القيم ال يفرق‬
‫بين القصد االبتدائي أو القصد المفهوم من العلة بل‬
‫يستند على األصالة يف األمر والنهي مع تلميح إلى تضمين‬
‫المصلحة أو المفسدة‪ ،‬الذي هو المستوى الثاين عند‬
‫الشاطبي‪ .‬فالوسائل عند القرايف هي يف الحقيقة مقاصد‬
‫عند الشاطبي ولكنها تبعية‪.‬‬
‫فيكون للقرايف موقف مميز يجعل األوامر االبتدائية‬
‫والنواهي مقاصد إذا اشتملت على الحكمة والمصلحة‬
‫المقصودة‪ ،‬وإذا لم تكن كذلك فليست كذلك؛ بل هي‬
‫وسائل‪ ،‬وهو ما أراده الشاطبي باالبتدائي كما فسره‪ ،‬إال‬
‫أنه صرح أحيانًا أن كل أمر أو هني يتضمن مصلحة حتى‬
‫ولو لم يكن ابتدائيا ‪ -‬كما سرتى يف النص الالحق ‪،-‬‬
‫وخال ًفا لمن يرى أن األمر والنهي ليسا مقصدين بإطالق‪.‬‬
‫ولنعد إلى المصلحة التي كانت موضو ًعا عند الغزالي‬
‫يف جل تعريفاته‪ ،‬سوى ما أشار فيه إلى مماهاهتا للمقاصد‬
‫لتكون عينها‪ ،‬لنراها تتحول إلى محمول عند الشاطبي يف‬
‫إن أحكام الشريعة تشتمل‬ ‫النص التالي‪«:‬وكذلك نقول ّ‬
‫‪41‬‬
‫على مصلحة كلية يف الجملة وعلى مصلحة جزئية يف‬
‫كل مسألة على الخصوص‪ ،‬أما الجزئية فما يعرب عنها‬
‫كل دليل لحكم يف خاصته وأما الكلية فهي أن يكون كل‬
‫مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع يف جميع‬
‫حركاته وأقواله واعتقاداته فال يكون كالبهيمة المسيبة‬
‫تعمل هبواها حتى يرتاض بلجام الشرع»(‪.)1‬‬
‫فإذا كانت أحكام الشريعة ال تخلو عن مصلحة جزئية‬
‫فإن المقاصد هي هذه المصالح‪.‬‬ ‫وكلية‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫للشريعة‬ ‫فيعرف المقاصدَ العا َّمة‬ ‫ُ‬
‫الشيخ اب ُن عاشور ِّ‬ ‫أما‬
‫والح َكم‬‫ِ‬ ‫بقولِه‪« :‬مقاصد التشريع العامة هي‪ :‬المعاين‬
‫الملحوظة للشارع يف جميع أحوال التشريع أو معظمها‪،‬‬
‫خاص مِن‬ ‫ٍّ‬ ‫بالكون فِي نو ٍع‬
‫ِ‬ ‫تختص مالحظتُها‬ ‫ّ‬ ‫بحيث ال‬
‫ِ‬
‫الشريعة‪.‬‬ ‫أحكا ِم‬
‫الشريعة وغايتُها العا َّم ُة‬ ‫ِ‬ ‫أوص��اف‬
‫ُ‬ ‫فيدخل فِ��ي َ‬
‫ه��ذا‬ ‫ُ‬
‫التشريع َعن مالحظتِها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال يخ ُلو‬ ‫والمعانِي ا َّلتي َ‬
‫ليست‬‫ْ‬ ‫الحكم‬ ‫��ان مِ��ن ِ‬ ‫��ض��ا م��ع ٍ‬ ‫وي��دخ ُ��ل فِ��ي َ‬
‫ه��ذا أي ً‬
‫سائر أنوا ِع األحكا ِم‪ ،‬ولكنَّها ملحوظ ٌة فِي‬ ‫ِ‬ ‫ملحوظ ًة فِي‬
‫املوافقات ‪123 /3‬‬ ‫‪ -1‬ال�شاطبي‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫ٍ‬
‫كثيرة منها»(‪.)1‬‬ ‫أنوا ٍع‬
‫وهذا التعريف الموسع ليس حد ًا منضب ًطا بالجنس‬
‫والفصل لمقاصد الشريعة‪ ،‬وإنما هو لنوع من المقاصد‬
‫وهو المقاصد العامة‪.‬‬
‫َّ‬
‫فقال‪«:‬إن‬ ‫وحاول عالل الفاسي اإليجاز فحذف العامة‬
‫واألس���رار التِي‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫الشريعة الغاي ُة منها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بمقاصد‬ ‫المرا َد‬
‫حكم مِن أحكامِها»(‪.)2‬‬‫ٍ‬ ‫الشارع عندَ ِّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫وضعها‬
‫َ‬
‫وهذا التعريف وإن كان قريبًا مما ذكره ابن عاشور إال‬
‫أنه اختصر المسافة‪.‬‬
‫ويالحظ أهنما لم يشيرا إلى المصالح‪ ،‬كما فعل الغزالي‬
‫والشاطبي بل اكتفيا بالغايات واألس��رار‪ ،‬ولعل ذلك ما‬
‫الحظه الشريف أحمد الريسوين عندما عرف المقاصد‬
‫بأهنا‪ :‬الغايات التي وضعت الشريعة ألج��ل تحقيقها‬
‫لمصلحة العباد‪.‬‬
‫الح َكم واألسرار والغايات يف‬ ‫إال أنه عندما نتحدث عن ِ‬
‫فإن ذلك يستبعد المعنى اللغوي الذي‬ ‫تعريف المقاصد َّ‬

‫‪ - 1‬الطاهر ابن عا�شور‪ :‬مقا�صد ال�شريعة ‪ 165 /3‬حتقيق ال�شيخ احلبيب بلخوجة‪.‬‬
‫‪ - 2‬عالل الفا�سي‪ :‬مقا�صد ال�شريعة ومكارمها �ص ‪ ،111‬دار ال�سالم ط‪.2013 /2‬‬

‫‪43‬‬
‫قد يستعمل اللفظ فيه‪ ،‬أو المعاين األولى والثانوية التي‬
‫قد تفهم من الداللة اللغوية يف عدة مستويات والتي قد‬
‫تكون أوال تفسير ًا للفظ بمرادف كقولهم يريد بالقروء‬
‫َ رَ َ َّ ۡ َ َ ُ‬
‫س ِه َّن‬
‫األطهار أو الحيض يف قوله تعالى﴿يتبصن بِأ ِ‬
‫نف‬
‫ََََ ُ‬
‫ثلٰثة ق ُر ٓوءٖ ۚ﴾ (البقرة‪ ،)228:‬وهو ما يسمى بالمجمل‪،‬‬
‫أو كداللة العام على أفراده أو بعضها يف العام المراد به‬
‫الخصوص أو داللة اللفظ على معناه الحقيقي أو العريف‬
‫أو الشرعي أو المجازي‪ ،‬أو داللة األمر على الوجوب أو‬
‫الندب‪ ،‬أو داللة النهي على التحريم أو الكراهة‪.‬‬
‫وكذلك الدالالت الثانوية يف المركبات عند البيانيين‬
‫مما تشير إليه أس��رار البالغة‪ ،‬فكل ذل��ك ال يدخل يف‬
‫المقاصد بمفهوم اب��ن عاشور وع�لال الفاسي خال ًفا‬
‫للشاطبي‪.‬‬
‫وإن كان ابن عاشور بتقييده بالعامة ال يرد عليه الدرك‬ ‫ْ‬
‫يف عدم ذكره للمقاصد االبتدائية‪ ،‬ومع ذلك فإنه يف تعريفه‬
‫للمقاصد الخاصة لم يشأ تعريف المقاصد الجزئية‬
‫المبثوثة يف أبواب الفقه والتي يفرتض أن تكون أساس‬
‫المقاصد الخاصة وإنما تحدث عن كيفيات مقصودة‬

‫‪44‬‬
‫للشارع لضبط تصرفات الناس‪ ،‬مما يدل على أنه يتحدث‬
‫كلي إذ قال‪« :‬الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق‬ ‫عن ِّ‬
‫مقاصد الناس النافعة‪ ،‬أو لحفظ مصالحهم العامة يف‬
‫تصرفاهتم الخاصة كي ال يعود سعيهم يف مصالحهم‬
‫الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم‬
‫العامة إبطاال عن غفلة أو استزالل هوى وباطل شهوة»‪.‬‬
‫لكنه ختمها بما يمكن أن يعترب كلمته األخيرة يف تعريف‬
‫المقاصد بقوله‪«:‬كل حكمة روعيت يف تشريع أحكام‬
‫تصرفات الناس»‪ .‬وذلك ما يدل على النظرة الكلية للشيخ‬
‫الطاهر وإصراره – رحمه اهلل تعالى‪ -‬على الحكمة‪ ،‬مما‬
‫يستبعد الطلب االبتدائي إليقاع الفعل أو الكف عنه من‬
‫قبل الشارع فهو مقصد بغض النظر عن ظهور الحكمة أو‬
‫تواريها وكموهنا‪.‬‬
‫واستعملت المقاصد يف مضمون آخر يتعلق بنوايا‬
‫المكلفين وإراداهتم التي تؤثر يف العبادات والمعامالت‪،‬‬
‫سل ًبا وإيجا ًبا‪ ،‬إيجا ًدا أو عدما‪ ،‬وهو ما عرب عنه الشاطبي‬
‫بمقاصد المكلفين‪ ،‬ومن ذلك القاعدة المعروفة «األمور‬
‫بمقاصدها»‪.‬وهي من القواعد الخمس الكربى التي بني‬
‫‪45‬‬
‫عليها الفقه راجع «األشباه والنظائر» للسيوطي وابن نجيم‬
‫وغيرهما‪ ،‬ونشر البنود عند شرح قوله‪:‬‬
‫الض َر ْر‬‫الف ْق ُه على َر ْفــــ ِع َّ‬ ‫َقدْ ُأســــــــس ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫الوطــــــــــــ َْر‬
‫ـب َ‬ ‫ــق َي ْج ُل ُ‬ ‫وأ َّن َمــــــــا َي ُش ّ‬‫َ‬
‫َـك ْ‬
‫وأن‬ ‫بالشـــــــ ِ‬
‫و َن ْفي َر ْف ِع ال َق ْطــــــــ ِع ّ‬
‫ـــــــــــن َف َط ْن‬
‫ْ‬ ‫ف وزا َد َم‬ ‫ّـم العــــــــ ُْر ُ‬‫ُي َحك َ‬
‫ِ‬
‫اصــــد‬ ‫الم َق‬ ‫ِ‬ ‫َـــــــو َن األُ‬
‫َبــــــع َ‬
‫َ‬ ‫مــــور ت‬ ‫ك ْ‬
‫وار ِد‬
‫ــــــــــــــــض ِ‬
‫ِ‬ ‫مــــــــع َت َك ُّل ٍ‬
‫ــــف بِ َب ْع‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وهي قاعدة ترجع إلى الحديث الصحيح المشهور‪«:‬إنما‬
‫لكل امرئ ما نوى»(‪.)1‬‬ ‫األعمال بالنيات‪ ،‬وإنما ِّ‬
‫مجاالت تطبيقاهتا التعبديات ذات اللبس‪ ،‬فهي‬ ‫ِ‬ ‫وأهم‬
‫ُّ‬
‫تفرق بين العبادات والعادات وبين العبادات يف أنفسها؛‬
‫ولهذا يقول الزقاق يف المنهج‪:‬‬
‫ـــــــــــص لِل َّت َع ُّبد‬
‫ُ‬ ‫ُــــــــــــل َما ُيخْ َل‬
‫ُّ‬ ‫َوك‬
‫َــــــــــــــــــان َغالِبًا بِن ِ َّي ٍة بـــــــــــــــــــ ُِدي‬
‫َ‬ ‫َأ ْو ك‬

‫‪� -1‬أخرجه البخاري يف �صحيحه يف مواطن كثرية وم�سلم وغريهما كلها من حديث‬
‫عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه ومل ي�صح �إال من حديثه‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ٍ‬
‫ـــــس َو َما ت ََم َّح َضــــا‬ ‫إِ ْن كــــــــ َ‬
‫َان َذا َل ْب‬
‫ــــــــو ا ْل َق َضا‬ ‫ٍ‬
‫يــــــــة ن َْح‬ ‫َأعنِــــي لِمع ُقولِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ـــــــس َفـــــــلاَ ا ْفــــــت َق ْار‬ ‫ت َكن ََج‬‫َأ ْو َغ َل َب ْ‬
‫‪....................................................‬‬

‫كما َتجدُ مجالاً رح ًبا يف كِنايات الطالق واأليمان ويف‬


‫ِ‬
‫باأللفاظ‬ ‫بالقصود والمعانِي ال‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تكون‬ ‫العقود أحيانًا ُ‬
‫حيث‬
‫والمبانِي‪.‬‬
‫• مستويات المقاصد ‪:‬‬
‫أن المقاصدَ قد تكون أحكا ًما جزئية‬ ‫وبما تقدم نُدرك َّ‬
‫ُ‬
‫تكون‬ ‫أو كلية مقصودة بمنطوق الخطاب أو فحواه‪ ،‬وتار ًة‬
‫ِح َك ًما و َغايات فهمت من معقول النص فتصير علالً‬
‫تؤسس لتوسيع دائرة النص خارج الداللة اللفظية‪ ،‬وتوليد‬
‫الحكم وتار ًة تكون نوايا المكلفين‬ ‫أحكام ُتح ِّقق تلك ِ‬
‫وغاياهتم‪ ،‬وهي يف األصل المعاين المصلحية‪.‬‬
‫ونختم بحثنا هذا يف التعريف مع الشاطبي لنصل على‬
‫ضوء قطوف من نصوصه إلى تعريف مالئم‪ ،‬فالشاطبي‬
‫عرف المقاصد بأهنا مصالح العباد يف العاجل واآلجل‪،‬‬
‫وقد سبقه الغزالي عندما قال إن المقصود ينقسم إلى‬

‫‪47‬‬
‫أن الشاطبي عندما تعرض للتقسيم‬ ‫ديني ودنيوي‪ ،‬إال َّ‬
‫وضع المقاصد يف نطاق الحدود اللغوية الفسيحة وهي‬
‫المعاين‪ ،‬مركز ًا على درجات المقاصد ومستوياهتا بين‬
‫قصود ابتدائية تصريحية جزئية تتعلق بكل أمر أو هني‬
‫على حده داال على قصد الشارع إيجاد الفعل أو الكف‬
‫عنه‪ ،‬وهذا النوع يمكن أن يكون جوا ًبا عن ماذا؟ أي ماذا‬
‫قال الشارع وبأي شيء أمر؟ وهذا هو المستوى األول‬
‫الذي استبعده ابن عاشور ومن تبعه‪ ،‬وكان الشاطبي يف‬
‫ألن المقاصد االبتدائية هي‬ ‫ذلك مصي ًبا كل اإلصابة؛ ّ‬
‫أصل المقاصد وأم الكتاب فيها‪ ،‬وهي لبنات األساس يف‬
‫بناء صرح المقاصد‪ ،‬فاستبعاد األمر والنهي من مقاصد‬
‫الحكم والعلل باإلبطال‪ ،‬فإنه ما أمر‬ ‫الشارع يعود على ِ‬
‫اَّ‬
‫ول إِل‬ ‫إال ليطاع وما هني إال ليم َت َث َل‪َ }،‬و َما ٓ أَ ۡر َس ۡل َنا مِن َّر ُ‬
‫س‬
‫ٍ‬ ‫ُْ‬
‫هَّ‬ ‫َ ۡ‬
‫يِلُ َطاع بِإِذ ِن ٱللِۚ{ (النساء‪ ،)64:‬فكيف نقول بعدها أن‬
‫األمر ليس مقصدا وبأي لغة نفهم المقصد؟‬
‫أما المستوى الثاين الذي قد يكون جوا ًبا عن لماذا؟‬
‫وهو الموسوم بالغايات والحكم واألس��رار فإنه يمثل‬
‫مقاصد منتجة ومولدة ألحكام خارج النص‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫وشرح هذه الجهة شرحًا يدور حول التعليل وموارده‪،‬‬
‫فالنكاح لمصلحة التناسل‪ ،‬والبيع لمصلحة االنتفاع‬
‫بالمعقود‪ ،‬والحدود لمصلحة االزدجار‪ ،‬منبها على َّ‬
‫أن‬
‫العلة تعرف بمسالكها المعلومة يف أصول الفقه‪.‬‬
‫وناقش ما إذا كانت العلة غير معلومة جازمًا بالتوقف‬
‫عن الجزم بقصد الشارع‪ ،‬وبالتالي بعدم تعدية الحكم إلى‬
‫المحل المسكوت‪ ،‬حيث انتهى إلى الفرق بين العبادات‬
‫والعادات‪ ،‬حيث تراعى المعاين يف األخيرة‪ ،‬ويتوقف مع‬
‫النصوص يف األولى‪ ،‬وسنناقش ذلك الحقًا‪.‬‬
‫الحكم والتي قد تكون‬ ‫وهذا هو مجال التعليل ومناط ِ‬
‫جزئية أو كلية حسب متعلقها‪.‬‬
‫المستوى الثالث والذي هو يف حقيقته تقسيم باعتبار‬
‫آخر؛ أي باعتبار األصالة أو التبعية‪ .‬وسيأيت للشاطبي‬
‫تفسيرها يف تصنيفه للمقاصد‪.‬‬
‫بأن القصود التابعة هي التي عرفت من‬‫ونكتفي بالقول َّ‬
‫خالل علل األحكام السالفة‪ .‬مؤكدة لغايات وحكم أخرى‬
‫تختلف عنها يف الدرجة والمستوى ضرورة اختالف التابع‬
‫عن المتبوع لهذا فهي وإن كانت قد ترد من حيث الصيغة‬
‫‪49‬‬
‫ابتدائية لكنها بحكم انبنائها على المقاصد األصلية فإنه‬
‫أفردها يف جهة ثالثة‪ .‬وسنورد عليه إشكا ً‬
‫ال‪.‬‬
‫وهذه الجهة قد ال يظهر أهنا مما ُتعرف به المقاصد؛‬
‫التعرف عليها بالوسائل‬ ‫ُّ‬ ‫ألهن��ا تصنف المقاصد بعد‬
‫األخرى‪ ،‬التي تشير إليها الجهة الثانية‪ ،‬أي بالمسالك كما‬
‫الحظه األستاذ عبد اهلل دراز‪ ،‬رحمه اهلل تعالى‪ ،‬مشير ًا إلى‬
‫عرف بمسلك المناسبة‪ ،‬معلقًا على كالم الشاطبي‪،‬‬ ‫أهنا ُت َ‬
‫معترب ًا َّ‬
‫أن جعلها جهة ثالث ًة فيه ٌ‬
‫نظر‪.‬‬
‫أن جعلها جهة ثالثة ناشئ عن كوهنا‬ ‫وال��ذي يظهر َّ‬
‫عرف العالقة والفرق بين المقاصد األصلية والمقاصد‬ ‫ُت ِّ‬
‫أن األخيرة ُمقوية لحكمة األولى‪،‬‬ ‫التابعة‪ ،‬الذي يقوم على َّ‬
‫مستدعية لطلبها وإدامتها‪ ،‬سواء كانت منصوصة أو مشار ًا‬
‫َّعرف على المقصد الذي يكون‬ ‫إليها‪ ،‬فالكالم هنا عن الت ُ‬
‫منصوصًا‪ ،‬فال داع��ي لتخصيص مسلك المناسبة عن‬
‫غيره‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫أما المستوى الرابع أو الجهة الرابعة فإهنا ال ُتضيف‬
‫جديدً ا يف تعريف المقاصد بل إهنا تتعلق بجهة أخرى‬
‫للتعرف على قصد الشارع إذا سكت‪ ،‬ويمكن أن توضع‬

‫‪50‬‬
‫يف خانة المقاصد االبتدائية ألهنا تقرر ُحكما غايته رفع‬
‫الحرج يف كل مسكوت عنه على حدة حسب الحال التي‬
‫بينها‪ ،‬أو مقصدا كل ًيا كما أراد أبو إسحاق الشاطبي رحمه‬
‫اهلل تعالى أن يؤسسه يف مسألة البدعة‪ ،‬وسنناقشه الحقًا‬
‫عندما نذكر نصوص الشاطبي وتعليقنا عليها يف المشهد‬
‫الخامس‪.‬‬
‫• خالصة تعريف مقاصد الشريعة ‪:‬‬
‫وبناء على ما تقدم يمكن أن نركب التعريف التالي‪:‬‬
‫مقاصد الشريعة ه��ي‪ :‬المعاين الجزئية أو الكلية‬
‫المتضمنة لحكم أو حكمة‪ ،‬المفهومة من خطاب الشارع‬
‫ابتداء‪ ،‬منها مقاصد أصلية وأخرى تابعة‪ ،‬وكذلك المرامي‬
‫والمرامز والحكم والغايات المستنبطة من الخطاب‪ ،‬وما‬
‫يف معناه من سكوت بمختلف دالالته‪ ،‬مدرك ًة للعقول‬
‫البشرية متضمنة لمصالح العباد معلومة بالتفصيل أو يف‬
‫الجملة‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫المشهد الثاني‬
‫مسيرة العمل والتعامل‬
‫مع المقاصد وبها‬
54
‫• المقاصد عند الصحابة والتابعين ‪:‬‬
‫السلف تلك الدعو َة القرآنية التي أشرنا إليها‬‫ُ‬ ‫لقد فهم‬
‫واستشفاف ِح َكمها‪ ،‬فتج َّلى‬
‫ِ‬ ‫كشف مقاصد الشريعة‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬
‫الراسخين يف العلم من أصحاب رسول‬ ‫َ‬ ‫ذلك الفهم يف فقه‬
‫وبخاصة الخلفا َء الراشدين رض��ي اهلل عنهم‬ ‫ِ‬ ‫اهلل ﷺ‬
‫وغيرهم من الصحابة والتابعين‪.‬‬
‫ِ‬
‫الزكاة‪،‬‬ ‫فقاتل أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه مانعي‬
‫ورشح‬ ‫وورث الجدَ دون اإلخ��وة‪ّ ،‬‬ ‫المصحف‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وجمع‬
‫الخليف َة من بعده‪.‬‬
‫عمر رضي اهلل عنه نفي الزاين البكر بعد أن طب َقه‪،‬‬ ‫وأوقف ُ‬‫َ‬
‫عام الرمادة وأحل‬ ‫ووضع الخراج‪ ،‬وع َّلق حدَّ السرقة َ‬ ‫َ‬
‫الديوان محل عاقلة النسب لما فهم من قصد الشارع نوط‬
‫الحكم بروح التضامن والنصرة‪.‬‬
‫وباع عثمان رضي اهلل عنه ضال َة اإلبل‪ ،‬ووضع ثمنها‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫األخالق‬ ‫بيت المال لما رأى من خراب ِّ‬
‫الذمم وتغي ِر‬ ‫يف ِ‬
‫تماضر الكلبية من‬‫َ‬ ‫وورث‬‫مع ثبوت ال َّنهي عن التقاطها‪َّ ،‬‬
‫زوجها عبدالرحمن بن عوف عليه الرضى الذي أبا َنها يف‬
‫مرض الموت‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫علي رضي اهلل عنه الص َّناع وق��ال‪«:‬ال ُيصلح‬ ‫وضمن ُّ‬ ‫َّ‬
‫وكف‬ ‫َّ‬ ‫أن كانت يدُ الصانع يدَ أمانة‪.‬‬‫الناس إال ذاك» بعد ْ‬ ‫َ‬
‫أقام عليهم‬‫أن َ‬ ‫هيجوا‪ ،‬وقاتلهم بعد ْ‬ ‫عن الخوارج حتى َّ‬
‫الحج َة ولم يأخذ بحديث بروع بنت واشق‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من قضاياهم وفتاويهم رضي اهلل عنهم يف‬
‫أمر منه عليه الصالة والسالم‪،‬‬ ‫حكم أو ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أمو ِر لم يسبق فيها‬
‫فخصصوه يف الزمان‪.‬‬‫عموم َّ‬
‫ٌ‬ ‫حكم أو‬
‫ٌ‬ ‫أو سبقَ فيها‬
‫كأم المؤمنين عائشة‬ ‫بعض الصحابة ‪ِّ -‬‬ ‫وكذلك كان ُ‬
‫وأم سلمة رضي اهلل عنهما وغيرهما من أمهات المؤمنين‬
‫والصحابة اآلخرين كابن عباس وابن مسعود وابن عمر‬
‫ومعاذ وأبي موسى األشعري وغيرهم ‪ -‬يفتون فيما تجدَّ د‬
‫من قضايا؛ اعتما ًدا على ما حفظوه من الوحيين‪ ،‬وتار ًة‬
‫اعتما ًدا على ما فهموه من داللة المقاصد‪.‬‬
‫إم��ام الحرمين عن القاضي الباقالين قو َله‬ ‫ُ‬ ‫فقد نقل‬
‫مراسم‬
‫َ‬ ‫عن الصحابة‪« :‬كانوا رضي اهلل عنهم ال يقيمون‬
‫الة على‬ ‫المرام ِز الدَّ ِ‬
‫الجمع والتحرير ويقتصرون على َ‬
‫المقاصد»(‪.)1‬‬
‫‪� - 1‬إمام احلرمني‪ :‬الربهان ‪. 1064 /2‬‬

‫‪56‬‬
‫أن الصحابة كانوا يكتفون بالمعاين المقصدية دون‬ ‫ومع َّ‬
‫فإن األصوليين بعد ذلك حولوا تلك المادة‬ ‫ضبط مقنن‪َّ ،‬‬
‫األصلية من قضايا الصحابة وفتاويهم إلى بناء رائع مربع‬
‫الزوايا كرتبيع الكعبة الشريفة‪ ،‬وكل بناء مربع يسمى كعبة‬
‫كما يف قول األسود بن يعفر اإليادي‪:‬‬
‫الخ َورنق والسدير و َب ٍ‬
‫ارق‬ ‫أهل َ‬
‫ِ‬
‫سنداد‬ ‫ِ‬
‫الكعبات من‬ ‫والقصر ذي‬
‫فكانت الزاوية األولى‪ :‬إلحاق جزئي بجزئي منصوص‬
‫عليه وهو القياس‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬استثناء جزئي والعدول به عن كلي تخفي ًفا‬
‫لمعنى اجتاله ل��ض��رورة ح��اق��ة أو ح��اج��ة م��اس��ة وهو‬
‫االستحسان‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬إلحاق جزئي بكلي مصلحي استقرائي وهو‬
‫االستصالح‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬استثناء من أصل إباحة بناء على مئال متوقع‬
‫وهو المعرب عنه بسد الذرائع‪.‬‬
‫ففي الحالتين األخيرتين مراعاة المصلحة من جهة‬
‫الوجود يف األولى ومن جهة العدم يف الثانية فعاد األمر‬
‫‪57‬‬
‫إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة‪.‬‬
‫وامتدَّ مسلك الصحابة يف االستنباط يف عصر التابعين‬
‫متفاوتة « َف َسا َل ْت َأ ْو ِد َي ٌ��ة بِ َقدَ ِر َها» (الرعد‪،)17:‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بنسب‬
‫بنصيب‪ ،‬ومع ذلك كانت اإلشار ُة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫مدرسة‬ ‫وأخذت ُّ‬
‫كل‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫المقاصد؛ إذ منها‬ ‫ُ‬
‫مدرسة‬ ‫ِ‬
‫المدينة بأ َّنها‬ ‫مدرسة أهلِ‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬
‫أهلها على منهج ما ورثوه‬ ‫عمل ِ‬ ‫واستمر ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫السبعة‪،‬‬ ‫الفقهاء‬
‫ُ‬
‫النبوة ومنهج الصحابة يف رعي المقاصد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من ُت ِ‬
‫��راث‬
‫دليل على جوا ِز الوقف‪ ،‬حسب‬ ‫أوقافهم قائم ًة ُ‬ ‫ِ‬ ‫فوجود‬
‫ُ‬
‫مالك رحمه اهلل تعالى‪.‬‬
‫أهل‬‫لهذا يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية‪«:‬ففي الجملة ُ‬
‫منعا‬‫وفقهاء الحديث مانعون من أن��واع الربا ً‬ ‫ُ‬ ‫المدينة‬
‫ِ‬
‫الشريعة وأصولها»(‪.)1‬‬ ‫مراعين لمقاصد‬ ‫َ‬ ‫محكما‬ ‫ً‬
‫ومن كثرة أخذ مالك رضي اهلل عنه بالمقاصد َّادعى‬
‫أبو بكر بن العربي أ َّنه انفرد بذاك قائلاً ‪« :‬وأما المقاصدُ‬
‫والمصالح فهي أيضا مما ان��ف��ر َد به مالك دون سائر‬
‫العلماء»(‪.)2‬‬

‫‪ -1‬جمموع الفتاوى ‪.30/29‬‬


‫‪ -2‬ابن العربي‪ :‬القب�س ‪ ،786/2‬حتقيق حممد عبداهلل ولد كرمي‪ ،‬دار الغرب الإ�سالمي‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫يحمل إعجا ًبا‪«:‬ما(‪ )1‬كان‬‫ُ‬ ‫وقال أيضا عن مالك تعج ًبا‬
‫المقاصد‪ ،‬وما كان أعر َفه بالمصالح»(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫أغوصه على‬ ‫َ‬
‫الوريث الشرعي لهذا الفقه‪ ،‬فراعاه‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫مالك هو‬ ‫إذ كان‬
‫ِ‬
‫جهة الوجود‬ ‫يف اتجاهين‪ ،‬وهما‪ :‬مراعا ُة المصالح من‬
‫جلب المصالحِ  ‪ .‬ومن جهة العدم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بقاعدة‬ ‫وهو المع َّبر عنه‬
‫المع َّبر عنه بقاعدة درء المفاسد‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مالك‬ ‫الناصعة ما اختُص به‬‫ِ‬ ‫والذي كان من تجلياته‬
‫ِ‬
‫ودرء‬ ‫ِ‬
‫المرسلة حيث كان مج ِّل ًيا فيه‪،‬‬ ‫من إعمال المصالحِ‬
‫المفاسد‪ ،‬الذي يم ِّثل الجانب اآلخر للنظرية المقاصدية‪،‬‬
‫متمثلاً يف مبدإ سد الذرائع ‪.‬‬
‫وهكذا يقول القاضي ابن العربي ‪ -‬عن مالك الذي‬
‫زاد على األحاديث التي تدور عليها البيوع أصلين‪:-‬‬
‫«فإن مال ًكا زا َد يف األص��ول مراعا َة الشبهة‪ ،‬وهي التي‬
‫يسميها أصحابنا الذرائع وهو األصل الخامس‪ .‬والثاين‬
‫وهو السادس‪ :‬المصلحةُ‪ ،‬وهو يف كل معنى قام به قانون‬
‫‪ -1‬تنبيه‪ :‬هذه «ما» تعجبية‪ :‬ب�أفعل انطق بعد ما تعجبا‪� .‬أما كان بعدها فهي زائدة‪ :‬وقد‬
‫تزاد كان يف ح�شو كما كان �أ�صح علم من تقدما‪.‬‬
‫واال�ست�شهاد من ابن مالك يف الألفية وفيه �إ�شارة �إىل �صحة علم مالك‪- .‬افرتا�ضا‪-‬‬
‫لدخوله يف املتقدمني‪.‬‬
‫‪ -2‬املرجع نف�سه ‪.1098 /3‬‬

‫‪59‬‬
‫الشريعة‪ ،‬وحصلت به المنفع ُة العام ُة يف الخليقة‪ .‬ولم‬
‫يساعده على هذين األصلين أحد من العلماء‪ ،‬وهو يف‬
‫القول هبما أق��و ُم قيلاً وأه��دَ ى سبيلاً ‪ ،‬وقد بينا وجوب‬
‫القول هبما والعمل بمقتضاهما يف أصول الفقه ومسائل‬
‫الخالف»(‪.)1‬‬
‫لكنه يعود مرة أخرى ليقول إن األم َة متفق ٌة يف الجملة‬
‫على اعتبار المقاصد؛ حيث يقول‪« :‬القاعدة العاشرة‪ :‬هي‬
‫بسط المقاصد والمصالح التي أشرنا إليها قبل هذا‪ ،‬وقد‬
‫ا َّتفقت األم ُة على اعتبارها يف الجملة‪ ،‬وألجلها َوضع ُ‬
‫اهلل‬
‫استصالحا للخلق‪ ،‬حتى‬
‫ً‬ ‫والزواجر يف األرض‬
‫َ‬ ‫الحدو َد‬
‫تعدَّ ى إلى البهائم»(‪.)2‬‬
‫• المقاصد عند أئمة المذاهب‪:‬‬
‫وإذا كانت مراعا ُة المقاصد ظلت ماثلة يف فقه األئمة‪،‬‬
‫مبكرا يف اجتهادهم اتسا ًعا وضي ًقا‪ ،‬لصو ًقا‬
‫فإن التباين ظهر ً‬
‫بالنص وبعدً ا منه‪.‬‬
‫ويصف الشاطبي هذه االتجاهات المتعارضة يف موقفها‬

‫‪ -1‬املرجع نف�سه ‪.778 /2‬‬


‫‪-2‬ابن العربي‪ :‬القب�س ‪. 801 /2‬‬

‫‪60‬‬
‫من التعامل مع النص ‪ -‬أنقل عنه بالمعنى‪.-‬‬
‫يهتم بالمعانِي‪ ،‬وإنما‬
‫فأولاً ‪ :‬االتجاه الظاهري الذي ال ُّ‬
‫َّ‬
‫مظان‬ ‫يقتصر على ظواهر النصوص‪ ،‬وهم يحصرون‬
‫العلم بمقاصد الشارع يف الظواهر والنصوص كموقف‬
‫أهل الظاهر من األصناف الزكوية واألن��واع الربوية يف‬
‫المطعومات والنقود فيقتصرون على مورد النص وال‬
‫يجرون حكم العلة على المماثل فال زكاة يف الرز وال يف‬
‫الذرة وال ربوية يف غير األصناف المنصوصة‪.‬‬
‫أن مقصدَ الشارع ليس يف الظواهر‪،‬‬ ‫واالتجاه الثاين‪ :‬يرى َّ‬
‫متمسك‪،‬‬‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ظاهر‬ ‫ويطر ُد هذا يف جميع الشريعة‪ ،‬فال يبقى يف‬
‫هم الباطنة وظهر هذا االتجاه يف القرن األول مع‬ ‫ِ‬
‫وهؤالء ُ‬
‫الجعد بن درهم أيام الخليفة هشام بن عبدالملك فكان‬
‫أول من أنكر خلة إبراهيم عليه السالم وتكليم موسى عليه‬
‫ظاهر اآلية ليس مقصو ًدا‬
‫َ‬ ‫السالم متمس ًكا بالباطن وهو َّ‬
‫أن‬
‫وقد أقام عليه الحدَ خالد بن عبداهلل القسري أمير العراقين‬
‫من قبل هشام ي��وم األضحى يف القصة المشهورة(‪،)1‬‬
‫ِ‬
‫خالفت‬ ‫ُ‬
‫بحيث لو‬ ‫غرق يف ِ‬
‫طلب المعنى‬ ‫وأ ْل َح َق هبؤالء َمن ُي ُ‬
‫‪ -1‬انظر الوايف بالوفيات لل�صفدي وغريه‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫كانت م َّطرحة‪.‬‬
‫النظري ْ‬‫َّ‬ ‫النصوص المعنَى‬
‫ُ‬
‫والذي نرتضيه هو االتجاه الثالث الذي شرحه الشاطبي‬
‫بقوله‪:‬‬
‫األمرين جميعا‪ ،‬على وجهٍ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫«والثالث‪ :‬أن َ‬
‫يقال باعتبار‬
‫ً‬
‫لتجري الشريع ُة‬
‫َ‬ ‫خل فيه المعنى بالنَّص‪ ،‬وال بالعكس؛‬ ‫ال ُي ُّ‬
‫تناقض‪ ،‬وهو الذي‬ ‫َ‬ ‫اختالف فيه وال‬
‫َ‬ ‫على نظام واحد ال‬
‫ِ‬
‫العلماء الراسخين؛ فعليه االعتماد»ُ(‪.)1‬‬ ‫أكثر‬
‫أ ّمه ُ‬
‫قلت‪ :‬وهذا االتجاه الثالث الوسطي مذهب األئمة‬
‫األربعة الذين أجروا علل األحكام المعللة على أمثالها‪،‬‬
‫فشبيه الحالل حالل وشبيه الحرام ح��رام‪ ،‬وفرقوا بين‬
‫المعامالت والعبادات‪ ،‬فتوسعوا يف اعتبار المقاصد يف‬
‫األولى وضيقوا حدود المقاصد يف الثانية‪ ،‬وإن كان قد نقل‬
‫عن بعضهم التعليل يف العبادات كما أجاز األحناف أخذ‬
‫القيم يف الزكاة والكفارات بدلاً من األنواع المنصوصة‬
‫اعتبارا للمعنى والمقصد‪.‬‬
‫ً‬
‫تقسيم دقيق‪ ،‬إال أنَّه يحتاج إلى‬ ‫ٌ‬ ‫تقسيم الشاطبي‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫تجلية تتمثل باختصار فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪.134 /3‬‬

‫‪62‬‬
‫لقد اختلفت المدارس الفقهية بين متمسك بظاهر‬
‫النصوص مع دليل واحد هو االستصحاب‪ ،‬وهؤالء هم‬
‫أهل الظاهر(‪.)1‬‬
‫بينما ق��ال الشافعية مع الظاهرية بظاهرها وزادوا‬
‫القياس‪ ،‬مع اضطراب يف مذهبهم حول االستصالح‪.‬‬
‫وهؤالء أقرب إلى حرفية النص‪.‬‬
‫وزادت المدارس المالكية والحنبلية والحنفية على‬
‫الظاهر والقياس فقالت باالستدالل‪ ،‬وهو لغة‪ :‬طلب‬
‫الدليل‪ .‬قال الشوكاين‪« :‬وهو يف اصطالحهم ما ليس بنص‬
‫وعرفه يف نشر البنود على مراقي‬ ‫وال إجماع وال قياس»‪َّ .‬‬
‫طلب الدليلِ‪ ،‬ويطلق يف‬
‫ُ‬ ‫السعود بقوله‪« :‬االستدالل لغ ًة‬
‫العرف على إقامة الدليل مطل ًقا من نص أو إجماع أو‬
‫غيرهما‪ ،‬وعلى نوع خاص من الدليل وهو المراد هنا‪،‬‬
‫ويطلق أيضا على ذكر الدليل»‪ .‬قال يف النظم‪:‬‬
‫‪ -1‬تنبيه‪ :‬اعلم �أن الظاهرية التي �أ�شار �إليها ال�شاطبي هنا ال تخت�ص با�ستنباط الفروع‬
‫من الن�صو�ص‪ ،‬بل �إنها تتعدى �إىل من يتم�سك بالظواهر يف املجال العقدي‪ ،‬ويرف�ض‬
‫الت�أويل ولو كان �صحيح امل�أخذ وا�ضح املنزع واملهيع‪ .‬يقول �إمام احلرمني يف «الإر�شاد»‪:‬‬
‫و«احل�شوية الظاهرية‪ »...‬بل �إن الظاهرية يو�صف بها النحوي �إذا كان ي�صدف عن‬
‫التعليل وين�صرف عن الت�أويل �أحيان ًا‪ ،‬وقد و�صف ال�شاطبي الإمام ابن مالك ب�أنه من‬
‫�أهل الظاهر‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫يل‬ ‫باإل ْج َما ِع والت َّْمثِ ِ‬
‫ليل و َل ْي َس ِ‬ ‫َّص ِم ْن الدَّ ِ‬ ‫ما َل ْي َس بالن ِ‬
‫تعرتف بالمعنَى‬ ‫ُ‬ ‫أن المدرس َة المقاصدي َة التي‬ ‫وهذا يعني َّ‬
‫ٍ‬
‫وزان‬ ‫واحدة وال على‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫درجة‬ ‫ليست على‬ ‫النص‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ومعقول ِّ‬
‫اعتبار‬ ‫أقرب إلى الظاهرية‪ ،‬بينما يمكن‬ ‫واحد‪ ،‬فالشافعي ُة‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أقرب إلى نظرية‬ ‫ِ‬
‫والحنفية‬ ‫ِ‬
‫والحنبلية‬ ‫ِ‬
‫المالكية‬ ‫ِ‬
‫المدارس‬
‫َ‬
‫المقاصد؛ لقولِهم باالستدالل الذي يشمل المصالح‬
‫المرسلة وسد الذرائع واالستحسان‪ ،‬على تفاوت يف‬
‫درجة األخذ؛ فحينما يقول المالكية بالمصالح المرسلة‬
‫وبثالثة أنواع من االستحسان ‑ يبالغ األحناف يف األخذ‬
‫باالستحسان ليستغنوا به عن االستصالح‪ ،‬ويأخذ الحنابلة‬
‫مع المالكية بسد الذرائع وبطرف من االستحسان‪ ،‬ويرتدد‬
‫النقل عنهم يف األخذ بالمصالح المرسلة‪.‬‬
‫ِ‬
‫المشهد‬ ‫تتبلور ص��ور ُة‬ ‫القرن الثانِي ب ْ‬
‫��دأت‬ ‫ِ‬ ‫ويف آخ ِ��ر‬
‫ُ‬
‫والمتساكن والمتداخ ِل والمتقابِل‪ ،‬وإن كان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المتباين‬
‫ِ‬
‫والحنبلية لم‬ ‫ِ‬
‫والمالكية‬ ‫ِ‬
‫الحنفية‬ ‫ِ‬
‫الثالثة‬ ‫ِ‬
‫المذاهب‬ ‫أئم ُة‬
‫المتناثرة فِي‬
‫ِ‬ ‫خالل اجتهاداتِهم‬ ‫ِ‬ ‫يعلنوا َعن هو َّيتهم إال من‬
‫قواعد‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ٍ‬ ‫تجسدت فيما بعدُ فِي‬ ‫ْ‬ ‫المسائ ِل الفقهية التِي‬
‫اإلمام الشافعي رحمه اهلل س َّطر أصو َله التي كان لدالالت‬
‫‪64‬‬
‫ُّ‬
‫والحظ األوىف‪ ،‬ولم يكتف‬ ‫النصيب األوفر‬
‫ُ‬ ‫األلفاظ فيها‬
‫بذلك فقد أوضح موقفه من اآلخرين‪ ،‬وبذلك قدَّ م لنا‬
‫مواق َفهم كما يراها‪ ،‬فتحدَّ ث عن االستحسان‪ ،‬وعن‬
‫الذرائع‪ ،‬معلنًا موقفه المبدئي الحاسم منها‪.‬‬
‫وهكذا تم َّيزت اتجاهات داخل المذاهب األربعة التي‬
‫روابط نسب العلم باألخذ المباشر بين أئمتها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تجمع بينها‬
‫وكما شدَّ د الشافعي يف رفضه لالستحسان باعتباره‬
‫تشري ًعا مع أن الشافعي لم يبعد أحيانًا من األخذ بشيء من‬
‫االستدالل ‪ -‬كما يقول إمام الحرمين ‑ فقد ر َّد القاضي‬
‫أبو بكر الباقالين ‪ -‬وهو مالكي‪ -‬االستصالح بعبارات‬
‫«إن فتْح هذا الباب ليس‬ ‫تجاوز فيها الحدّ قائلاً ‪َّ :‬‬
‫َ‬ ‫قوية‬
‫أصل‪ ،‬ويفضي إلى أن يبقى ُ‬
‫أهل النظر بمنزلة األنبياء‬ ‫له ٌ‬
‫عليهم السالم‪ ،‬ولم ينسب ما يرونه إلى الشريعة‪ ،‬وهو‬
‫ذريعة إلى إبطال أهبة الشريعة‪ ،‬وإلى أن يفعل كل واحد ما‬
‫يرى‪ .‬ثم يختلف ذلك باختالف الزمان والمكان وأصناف‬
‫الخلق‪ ،‬فيبطل ما درج عليه األولون‪ ،‬وألنه لو جاز ذلك‬
‫لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه السياسات إذا راجع‬
‫المفتين يف حادثة وأعلموه أهن��ا ليست منصوصة وال‬
‫‪65‬‬
‫أصل لها يضاهيها يجوز له حينئذ العمل باألصوب عنده‬
‫صعب ال يستجرئ‬ ‫ٌ‬ ‫والالئق بطريق االستصالح؛ وهذا‬
‫الناس أيا َم‬
‫ُ‬ ‫عليه متد ِّين‪ ،‬ولو ساغ ما قاله مالك ال َّتخذ‬
‫كسرى أنوشروان يف العدل والسياسة معتربهم؛ وهذا‬
‫وتجر ٌؤ على االنحالل عن الدين بالكلية»‪- .‬‬ ‫ُّ‬ ‫ممنوع‬
‫انتهى كالمه بنقل الجويني يف الربهان(‪.)1‬‬
‫الجدل قد بلغ أش��دَّ ه يف القرن الثالث مع تقديم‬ ‫َ‬ ‫إن‬
‫األحناف رؤيتهم األصولية مستنبطة من فروع مذهبهم مع‬
‫عيسى بن أبان‪ ،‬لتكتمل مع أبي الحسن الكرخي وتلميذه‬
‫الجصاص الرازي‪.‬‬
‫اعتبار تداعيات موقف الشافعي من‬ ‫ُ‬ ‫ولهذا يمكن‬
‫االستحسان والذرائع وما ُعزي للقاضي الباقالين وهو‬
‫ِ‬
‫ووص���ف المستصلحِ‬ ‫مالكي م��ن رد لك ِل استصالح‬
‫ِ‬
‫لرحلة‬ ‫ضبط الشرع بداي ًة‬‫ِ‬ ‫كاالنحالل مِن‬
‫ِ‬ ‫تليق‬ ‫ٍ‬
‫بصفات ال ُ‬
‫ِ‬
‫صياغة المقاصد‪.‬‬
‫معروف مجدِّ ُد األصول يف القرن‬ ‫ٌ‬ ‫والباقالين كما هو‬
‫الرابع وقد ر َّد إمام الحرمين على القاضي بأن‪ :‬ما ذكره‬
‫‪� -1‬إمام احلرمني‪ :‬الربهان ‪.1115 /2‬‬

‫‪66‬‬
‫بط والمصير إلى انحالل ورد‬ ‫الض ِ‬ ‫ِ‬
‫األمر عن َّ‬ ‫من خروج‬
‫األمر إلى آراء ذوي األحالم‪ ،‬فهذا إنما يلزم مال ًكا رضي‬
‫اهلل عنه ورهطه إن صح ما روي عنه (‪.)1‬‬
‫وش�� َّن إم���ا ُم الحرمين حمل ًة َش�� ْع��واء على مالك يف‬
‫االستصالح‪ ،‬وقد رد عليه المالكي ُة بما هو معروف‪.‬‬
‫الجويني حملتَه باالعرتاف بأن مال ًكا يعتمدُ‬ ‫ُّ‬
‫ويستهل‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بار‪ ،‬إال أنَّه بعد‬ ‫على أقضية الصحابة التي ال ُيشق له فيها ُغ ُ‬
‫ٍ‬
‫بتأويالت‬ ‫ِ‬
‫األقضية‬ ‫ِ‬
‫االعرتاف دعا مال ًكا إلى تأويل هذه‬ ‫هذا‬
‫ٍ‬
‫بعيدة اقرتحها عليه‪.‬‬
‫وخرجت من عباءة هذا الجدل المقاصدُ ‪.‬‬
‫ومن المفارقات أن يكون الشافعية يف طليعة مؤسسي‬
‫الفكر المقاصدي من خ�لال مقوالت إم��ام الحرمين‬
‫الجويني وردوده الالذعة على مذهب مالك وأبي حنيفة‪،‬‬
‫وتلتك الرباهي ُن‬ ‫ُّ‬ ‫يلج النزاع ويحتدم الجدال‬ ‫فعندما ُّ‬
‫على حياض االجتهاد‪ ،‬يف محاولة لضبط أوجهه خارج‬
‫نصوص الكتاب والسنة واإلجماع والقياس فيما سمي‬
‫والمعيار‬
‫َ‬ ‫الح ًقا باالستدالل ‑ كانت المقاصدُ الوسيل َة‬
‫‪ -1‬املراجع نف�سه ‪.1119 /2‬‬

‫‪67‬‬
‫ِ‬
‫بتفاريق‬ ‫لهذا الضبط؛ ألهنا كلي ٌة مشك ِّكة‪ ،‬وإن كانت قطعية‬
‫ِ‬
‫عبارة الغزالي تقري ًبا‪.‬‬ ‫حسب‬ ‫ٍ‬
‫أدلة شتَّى‬
‫َ‬
‫فلذلك ف��إن البحث العلمي المقنن الستكشاف‬
‫المقاصد بدأ مع رسالة الشافعي التي ظهرت يف خضم‬
‫الطور الثالث من أطوار تدوين الشريعة التي أشار إليها‬
‫سيدي أحمد زروق يف كتابه «قواعد التصوف» والذي‬
‫ٍ‬
‫أط��وار‪:‬‬ ‫ِ‬
‫بثالثة‬ ‫مر‬
‫ذكر فيه بأن نقل الشريعة وتدوينها َّ‬
‫الصحابة حتى هناية‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عصر‬ ‫الغالب على‬ ‫طور الرواية وهو‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عصر تدوين السنة بأمر عمر بن‬ ‫ُ‬ ‫القرن األول‪ ،‬حيث بد َأ‬
‫عصر‬‫ُ‬ ‫عبدالعزيز رضي اهلل عنه المتوىف سنة ‪102‬هـ ‪ .‬ثم‬
‫التفقه ويف رأينا أن رسالة الشافعي كانت صوى بارزة يف‬
‫هذا الطور‪ ،‬والشافعي رضي اهلل عنه تويف سنة ‪204‬هـ‪.‬‬
‫البحث عن المقاصد انطال ًقا من الرسالة‪ ،‬ور ِّد‬ ‫ُ‬ ‫وقد بد َأ‬
‫اشرتك فيه علما ٌء من‬ ‫َ‬ ‫والجدل حولها‪ ،‬الذي‬‫ِ‬ ‫الفعل عليها‬
‫أرسخهم القاضي أبو بكر الباقالين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مختلف المذاهب‪:‬‬
‫إال أن الفلسف َة المقاصدي َة كانت مع الجويني(‪ )1‬المتوىف‬
‫‪ - 1‬يقول عبد املجيد ال�صغري عن �إمام احلرمني‪� :‬إنه مت ّيز عن �سالفيه ومعا�صريه‬
‫ب�شيئني اثنني‪ :‬طرحه لأول مرة مو�ضوع مقا�صد ال�شريعة كعلم جديد متميز بقواطع‬
‫�أدلته وبتجاوزه للخالف وا�ستقالله عن املذاهب الفقهية الفروعية بل وعن �أ�صول الفقه‬

‫‪68‬‬
‫سنة ‪ 478‬هـ ‪ ،‬وتلميذه أبي حامد الغزالي (سنة ‪ 505‬هـ )‪،‬‬
‫وتلميذ الغزالي أبي بكر ابن العربي (سنة‪ 543‬هـ)‪ ،‬والعز‬
‫بن عبدالسالم (سنة‪ 660‬هـ)‪ ،‬وتلميذ هذا األخير القرايف‬
‫(سنة ‪ 682‬هـ)‪ .‬مع آخرين كأبي الحسين البصري وأبي‬
‫الخطاب والرازي وغيرهم من األصوليين والمتكلمين‪.‬‬
‫َ‬
‫ليكون يف القرن‬ ‫ْ‬
‫وإن َّ‬
‫تأخر ر ُّد فع ِل األحناف على الرسالة‬
‫ِ‬
‫وغيرهم يف‬ ‫ٍ‬
‫جدل مع الشافعية‬ ‫الثالث فإنَّهم انخرطوا يف‬
‫بعضها إلى دالالت‬
‫رجع ُ‬
‫مختلف قضايا الخالف‪ ،‬التي َي ُ‬
‫وبعضها إلى معقول النص أي المقاصد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫األلفاظ‪،‬‬
‫وكانت موافقات الشاطبي ‪ -‬التي يحتفي هبا األصوليون‬
‫باعتبارها خاتمة النظر األصولي‪ -‬مقارنات بين أصول‬
‫المتكلمين والفقهاء‪ ،‬وبه نقلت المقاصد من ظواهر‬
‫إلى قوانين أو فلنقل من فن إلى علم‪ .‬وهي اليوم أحوج‬
‫ما تحتاج إلى من يقرؤها قراءة تخرج أفكارها من ركام‬
‫الظنية نف�سها؛ ثم �إناطته بهذا العلم املتم ّيز �أخطر مهمة‪ ،‬مهمة الإنقاذ ال�سيا�سي‬
‫واالجتماعي للعامل الإ�سالمي من الهوة التي ر�آها و�شيكة الوقوع‪ .‬ويف هذا ت�صميم على‬
‫ربط مفهوم مقا�صد ال�شريعة بامل�شكل ال�سيا�سي واالجتماعي‪(.‬عبداملجيد ال�صغري‪:‬‬
‫الفكر الأ�صويل و�إ�شكالية ال�سلطة العلمية يف الإ�سالم ‪.)355‬‬
‫قلتُ ‪� :‬إال �أنه يالحظ �أن �إمام احلرمني عندما يتحدث يف مبحث املنا�سب يف �أ�صول‬
‫الفقه «الربهان» يختلف عن توجهاته يف كتبه ال�سيا�سية «الغياثي»‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫التبسيطات والقراءات الظاهرية التي ُأغرقت هبا يف هذا‬
‫القرن‪.‬‬
‫ِ‬
‫الكالمية‬ ‫ِ‬
‫المدارس‬ ‫تدخل‬‫إال أنَّه تجدر اإلشارة إلى أن ُّ‬
‫كاألشعرية والماتريدية والمعتزلة والشيعة أ ْث َرى يف مسار‬
‫أسسا جديدة للحوار‬ ‫الفكر المقاصدي وأوجدَ ً‬ ‫َ‬ ‫التأصيل‬
‫طرح إشكالية‬ ‫ِ‬
‫الدائر حول المسألة المقاصدية‪ ،‬من خالل ْ‬
‫التحسين والتقبيح العقليين‪ ،‬ووجوب الصالح واألصلح‬
‫‑ أساسا لتعليل أحكام الباري جل وعال وأفعاله‪ ،‬مما‬ ‫ً‬
‫أوجد مفهوم الباعث يف وصف مناط الحكم‪ ،‬وقد تحايل‬
‫إن المراد بالبعث بعث‬ ‫عليه األصوليون األشاعرة ليقولوا َّ‬
‫مار‬ ‫لخوض ِغ ِ‬
‫ِ‬ ‫األصولي مدفو ًعا‬ ‫المكلفين (‪ .)1‬فكان الفقي ُه‬
‫ُّ‬
‫علم الكالم‪ ،‬وأحيانًا السباحة يف بحر الفلسفة األرسطية‪،‬‬
‫دون أن يكون قد أعدَّ لها زورقها‪.‬‬
‫الحاكم هل هو العقل أو الشرع؟‬ ‫ِ‬ ‫هكذا ُطرحت مسأل ُة‬
‫بعض أهل السنة‬ ‫فأ َّدى هذا الجدل إلى شطط أحيانًا جعل َ‬
‫ِ‬
‫بدهية‬ ‫تعليل األحكام؛ ألهنا كاألفعال‪ ،‬ويتخ َّلص من‬ ‫َينفي َ‬
‫إن العل َة أمار ٌة منصوب ٌة على الحكم‪.‬‬ ‫التعليل بالقول‪َّ :‬‬
‫‪ - 1‬قال يف املراقي‪ :‬وو�صفها بالبعث ما ا�ستبينا منه �سوى بعث املكلفينا‬

‫‪70‬‬
‫• تعريف العقل عند الغربيين ‪:‬‬
‫شرحا عن العقل قبل الخوض يف التفريعات‬ ‫ً‬ ‫وسنقدم‬
‫األصولية‪:‬‬
‫العقل عند الغربيين ‪ Rjaison‬من الكلمة الالتينية‬
‫‪ Ratio‬يف تعريف مبسط هو‪ :‬ملكة خاصة باإلنسان من‬
‫خاللها يمكن أن يفكر(‪.)1‬‬
‫وهو أداة رقابة الخاطر وسيرورة حركة الفكر إلى‬
‫القرار والحركة والباعث على الحركة والفعل‪ .‬وهو‬
‫أيضا مجموعة المبادئ وطرق التفكير التي تتيح صواب‬ ‫ً‬
‫الحكم على األشياء واآلراء‪.‬‬
‫إنه من الكلمات غير المحددة المعنى‪ ،‬كالحق والخير‬
‫والشر وليس كالسواد والتمر والرب‪.‬‬
‫وقد عرف الغزالي العقل يف «معيار العلم» فقال‪« :‬وأما‬
‫العقل فهو اسم مشرتك‪ ،‬تطلقه الجماهير والفالسفة‬
‫والمتكلمون على وج���وه مختلفة لمعان مختلفة‪،‬‬
‫والمشرتك ال يكون له حد جامع‪.‬‬
‫‪� -1‬أ�صل هذا تعليق عن العقل ال �صلة له مبا�شرة باملقا�صد كان ردًّا على ت�صريحات بابا‬
‫روما بندكت ال�ساد�س ع�شر التي ا�ست�شهد فيها مبقولة تتهم دين الإ�سالم بالالعقالنية‬
‫�أثبتناه هنا للفائدة‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫أما الجماهير فيطلقونه على ثالثة أوجه‪ :‬األول‪ :‬يراد به‬
‫صحة الفطرة األولى يف الناس‪ ،‬فيقال‪ :‬لمن صحت فطرته‬
‫األولى‪ :‬إنه عاقل‪ ،‬فيكون حده أنه‪ :‬قوة هبا يجود التمييز‬
‫بين األمور القبيحة والحسنة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬يراد به ما يكتسبه اإلنسان بالتجارب من األحكام‬
‫الكلية‪ ،‬فيكون حده أنه‪ :‬معان مجتمعة يف الذهن‪ ،‬تكون‬
‫مقدمات يستنبط هبا المصالح واألغراض‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬معنى آخر يرجع إلى وقار اإلنسان وهيأته‪،‬‬
‫ويكون ح��ده أن��ه‪ :‬هيئة محمودة لإلنسان يف حركاته‪،‬‬
‫وسكناته‪ ،‬وهيآته‪ ،‬وكالمه‪ ،‬واختياره‪.‬‬
‫ولهذا االش�ت�راك يتنازع الناس يف تسمية الشخص‬
‫الواحد عاقالً‪.‬‬
‫فيقول واح��د‪ :‬هذا عاقل‪ ،‬ويعني به صحة الغريزة‪،‬‬
‫ويقول اآلخر‪ :‬ليس بعاقل ويعني به عدم التجارب‪ ،‬وهو‬
‫المعنى الثاين‪.‬‬
‫وأما الفالسفة‪ ،‬فاسم العقل عندهم مشرتك يدل على‬
‫ثمانية معان مختلفة‪:‬‬
‫العقل الذي يريده المتكلمون‪ ،‬والعقل النظري‪ ،‬والعقل‬

‫‪72‬‬
‫العملي‪ ،‬والعقل الهيوالين‪ ،‬والعقل بالملكة‪ ،‬والعقل‬
‫بالفعل‪ ،‬والعقل المستفاد‪ ،‬والعقل الفعال‪.‬‬
‫فأما األول‪ :‬فهو الذي ذكره أرسطو طاليس يف كتاب‬
‫«الربهان» وفرق بينه وبين العلم‪ ،‬ومعنى هذا العقل هو‬
‫التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة‪،‬‬
‫والعلم م��ا يحصل للنفس باالكتساب‪ ،‬ففرقوا بين‬
‫المكتسب والفطري‪ ،‬فيسمى أحدهما عقالً واآلخ��ر‬
‫علمًا‪ ،‬وهو اصطالح محض‪.‬‬
‫وهذا المعنى هو الذي حد المتكلمون العقل به‪ ،‬إذ قال‬
‫القاضي أبو بكر الباقالين يف حد العقل‪ :‬إنه علم ضروري‬
‫بجواز الجائزات‪ ،‬واستحالة المستحيالت‪ ،‬كالعلم‬
‫باستحالة كون الشيء الواحد قديمًا وحديثًا‪ ،‬واستحال‬
‫كون الشخص الواحد يف مكانين‪.‬‬
‫وأما سائر العقول فذكرها الفالسفة يف «كتاب النفس»‪.‬‬
‫أما العقل النظري‪ :‬فهي قوة للنفس تقبل ماهيات األمور‬
‫الكلية‪ ،‬من جهة ما هي كلية‪.‬‬
‫وه��ي اح�تراز عن الحس ال��ذي ال يقبل إال األم��ور‬
‫الجزئية‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫وكذا الخيال‪.‬‬
‫وك��أن ه��ذا هو ال��م��راد بصحة الفطرة األصلية عند‬
‫الجماهير كما سبق‪.‬‬
‫وأما العقل العملي‪ :‬فقوة للنفس‪ ،‬هي مبدأ التحريك‬
‫للقوة الشوقية إلى ما تختاره من الجزئيات‪ ،‬ألجل غاية‬
‫مظنونة‪ ،‬أو معلومة‪.‬‬
‫وهذه قوة محركة‪ ،‬ليس من جنس العلوم‪ ،‬وإنما سميت‬
‫عقلية ألهنا مؤتمرة للعقل‪ ،‬مطيعة إلشاراته بالطبع‪ ،‬فكم‬
‫من عاقل يعرف أنه مستضر باتباع شهواته‪ ،‬ولكنه يعجز‬
‫عن المخالفة للشهوة‪ ،‬ال لقصور يف عقله النظري‪ ،‬بل‬
‫لفتور هذه القوة‪ ,‬التي سميت «العقل العملي»(‪.)1‬‬
‫بأن أصل األشياء‬‫أما العقالنية التي يفسرها الغربيون‪ّ :‬‬
‫يرجع إلى أسباب معقولة‪ .‬ويختلفون بعد ذلك بين قائل‬
‫باستقالل العقل عن التجربة‪ ،‬سواء كانت العقالنية مطلقة‬
‫كما ذهب إليه ديكارت وهو يف هذا أفالطوين‪،‬أو نقدية‬
‫كما ذهب إليه «كانت»‪ ،‬وهو مذهب يقابل المذهب‬
‫التجريبي للمدرسة االنجليزية يف القرن الثامن عشر مع‬
‫‪ - 1‬الغزايل‪ :‬معيار العلم �ص ‪ 286‬حتقيق �سليمان دنيا‬

‫‪74‬‬
‫جون لوك وهيوم‪.‬‬
‫• العقل يف الشريعة اإلسالمية ‪:‬‬
‫وقد خاض المسلمون قبل الغربيين يف هذا الخالف‬
‫منذ القرن الثاين الهجري‪ ،‬الثامن الميالدي‪ ،‬دون أن‬
‫يضعوا حدًّ ا فاصلاً بين العقل والعقالنية‪ ،‬فقال الشافعي‬
‫إنه‪ :‬قوة تميز بين األشياء وأضدادها‪ .‬وكان منهم من قال‪:‬‬
‫إن العقل غريزة تلزم العلوم البديهية‪ .‬وقال اآلمدي‪ :‬إنه‬ ‫َّ‬
‫العلوم الضرورية التي ال ُخ َّلو لنفس اإلنسان منها بعد‬
‫كمال اآللة وعدم أضدادها‪ .‬وهذا ما رأيناه عند ديكارت‪.‬‬
‫أما الغزالي‪ :‬فالعقل عنده غريزي وض��روري وهما‪:‬‬
‫نظري وتجريبي‪.‬‬
‫وترتب على هذا أن العقل هل هو متحد بالنسبة لجميع‬
‫الناس ال يتفاوت بين شخص وآخر وال بين شعب وآخر؟‬
‫هذا ما قال به ال��رازي واب��ن القشيري وغيرهما‪ ،‬وهذا‬
‫مذهب ديكارت من الغربيين الذي يقول‪ :‬إن العقل هو‬
‫أعدل األشياء توزيعا بين البشر‪.‬‬
‫أما من قال بأنه تجريبي فقال بتفاوته بين األفراد‪.‬‬
‫وقد جمع بعض العلماء بين ذلك باعرتافهم بوجود‬
‫‪75‬‬
‫ضربين مما يشار إليه بالعقل‪ :‬عقل غريزي وتجريبي‬
‫بغض النظر عن الحقيقة والمجاز‪ ،‬فالعقل يزيد بالتجارب‬
‫وينقص‪.‬‬
‫• هل للعقل حدود؟‬
‫إن بعض الفالسفة الغربيين يرون أنه ال حدود للعقل‬
‫وتنازل البعض وقال‪ :‬ال حدود للعقل إال تلك الحدود‬
‫التي يضعها العقل‪ .‬ورأى بعضهم أن المتخيل يمثل‬
‫حدود العقل‪.‬‬
‫وقد قدم الفيلسوف «كانت» يف «نقد العقل المجرد»‬
‫امتداد وحدود هذا العقل‪ .‬لكن بعضهم اعرتف َّ‬
‫بأن العقل‬
‫اإلنساين محدود بنهاياته واضطراره بمحيطه الجسدي‬
‫المادي واالجتماعي الذي يفرض عليه اضطرارات تشير‬
‫إلى محدوديته‪.‬‬
‫لعل ذلك ما يعنيه الفيلسوف اإلسالمي طه عبدالرحمن‬
‫عندما يحذر من العقل بواسطة العقل من أجل العقل‪.‬‬
‫وبالنسبة لنا معشر المسلمين وم��ن يؤمن برسالة‬
‫فإن العقل له سقف حيث تكون دائرة الوحي‬ ‫سماوية‪َّ ،‬‬
‫وهو فضاء ميتافزيقي فوق سقفه‪ .‬ومع ذلك َّ‬
‫فإن العقل‬
‫‪76‬‬
‫يتعامل مع هذه الدائرة يف نطاق االستحالة العقلية والجواز‬
‫والوجوب العقليين‪.‬‬
‫وهذا النطاق عندنا معشر المسلمين يجب فيه عدم‬
‫التعارض‪ ،‬فما أحاله العقل ال يجيزه الوحي وما يوجبه‬
‫العقل يوجبه الوحي‪.‬‬
‫والجائز وهو حيز اإلمكان قد يقرره الوحي وقد ينفيه‬
‫حيث يكون الحكم يف هذه المنطقة للوحي دون اعرتاض‬
‫من العقل بالنسبة للمؤمنين الذين يسلمون للوحي يف هذه‬
‫الدائرة‪ ،‬لكنهم يقدمون العقل يف دائرة االستحالة‪.‬‬
‫ولهذا ترد األحاديث إذا خالفت العقل قال الشيخ أبو‬
‫إسحاق الشيرازي رحمه اهلل يف «ال ُّل َمع» يف باب بيان ما‬
‫ُير ُّد به خربُ الواحد‪« :‬إذا روى الخربَ ثق ٌة ُر َّد بأمور‪ :‬أحدها‪:‬‬
‫أن يخالف موجبات العقول‪ ،‬فيعلم ُبطالنه‪ ،‬ألن الشرع‬
‫بمجوزات العقول‪ ،‬وأما بخالف العقول فال»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إنما َيرد‬
‫«كل حديث رأيته يخالف‬ ‫وقال ابن الجوزي رحمه اهلل‪ُّ :‬‬
‫العقول‪ ،‬أو يناقض األص��ول‪ ،‬فاعلم أنه موضوع‪ ،‬فال‬
‫تتكلف اعتباره‪ ،‬أي ال تعترب رواته‪ ،‬وال تنظر يف َج ْرحهم‪.‬‬
‫الحس والمشاهدة‪ ،‬أو ُمباينًا لنص‬ ‫ُّ‬ ‫أو يكون مما يدفعه‬
‫‪77‬‬
‫الكتاب والسنة المتواترة أو اإلجماع القطعي‪ ،‬حيث ال‬
‫يقبل شيء من ذلك التأويل»(‪.)1‬‬
‫أن ننبه على َّ‬
‫أن العقل الذي يشير إليه األستاذ أبو‬ ‫يجب ْ‬
‫إسحاق الشيرازي وأبو الفرج بن الجوزي على أساس‬
‫أنه يحكم يف رد النصوص عند قيام التعارض ووجود‬
‫االستحالة هو العقل الخالص؛ القائم على المسلمات‬
‫الربهانية القطعية المقننة يف المنطق‪ ،‬حيث يمتنع الجمع‬
‫بأي اعتبار من االعتبارات الزمانية والمكانية والكيفية‬
‫«السلب واإليجاب» والكمية «الكلي والجزئي» والنسب‬
‫واإلضافات‪ .‬وليس العقل المتأثر بالمحسوسات العادية‬
‫والمحجوب بالظواهر أو المحكوم بسلطان الهوى‬
‫والغرور المعريف الزائف‪ ،‬فالمنغمس يف الغمرة ينفي ما‬
‫هو أقرب إليه من حبل الوريد(‪.)2‬‬
‫إن القرآن يثبت الجواز العقلي يف سياق االستدالل‬
‫‪ -1‬نقال عن �شبري الهندي «مبادئ علم احلديث و�أ�صوله» حتقيق ال�شيخ عبد الفتاح‬
‫�أبوغدة‬
‫‪ - 2‬فرتى من تلك حاله ينفي الأحاديث النبوية ال�شريفة ورمبا رد الآيات القر�آنية‪،‬‬
‫غافال عن كون التوا�ضع مفتاح باب العلم (وما �أتيتم من العلم �إال قليال) (وفوق كل‬
‫ذي علم عليم) �صدق ربنا العظيم‪ ،‬الذي يعلم وال نعلم‪ ،‬ويقدر وال نقدر ‪( ،‬ربنا ال تزغ‬
‫قلوبنا بعد �إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة)‬

‫‪78‬‬
‫ثم ينتقل إلى الحكم النقلي عند الحديث عن أحوال‬
‫َ ذَّ َ َّ َ َ َّ ٓ‬
‫ٱلس َماءِ‬ ‫اآلخرة وعالم َ الغيب بصفة عامة }وٱلِي نزل مِن‬
‫َ دۡ َ ٗ َّ ۡ ٗ َ َ ٰ َ خُ ۡ َ ُ َ‬ ‫َ ٓ َ ۢ َ َ َ رَ ۡ َ‬
‫نشنا بِهِۦ بلة ميتا ۚ كذل ِك ترجون{‬ ‫ماء بِقدرٖ فأ‬
‫(الزخرف‪.)11:‬‬
‫هذا فيما يتعلق بمجال العقائد حيث يعترب العقل دليالً‬
‫منتجا منشأ(‪ ،)1‬أما يف مجال التشريع فينبغي أن نفرق بين‬ ‫ً‬
‫‪ -1‬هذا مذهب الأ�شاعرة ‪ ،‬الذي عرب عنه �إمام احلرمني يف م�س�ألة «النظر» امل�شهورة‪،‬‬
‫وملخ�صها‪� :‬أنَّ �أول ما يجب على العاقل البالغ الق�صد �إىل النظر ال�صحيح‪ ،‬املف�ضي‬
‫�إىل العلم بحدوث العامل‪ .‬ومعنى هذا �أنَّ املدخل �إىل الإميان هو النظر العقلي‪ .‬وهذا‬
‫ما حكى عليه الق�شريي الإجماع‪ ،‬قائال‪� :‬إن املعرفة واجبة �إجماع ًا‪ ،‬وال ت�صح �إال بالنظر‬
‫«العقلي» وما ال يتم الواجب �إال به فهو واجب‪ .‬وحكى بع�ضهم الإجماع على جواز التقليد‬
‫يف املعرفة �إذا �أمن عرو�ض ال�شبه‪ .‬وهو مروي عن �أبي عبيداهلل العنربي‪ ،‬وهو من�سوب‬
‫�إىل الأئمة‪« ،‬فقد ثبت عن الأولني قبول ال�شهادتني من كل ناطق»‪-.‬ح�سب عبارة‬
‫املقرتح ‪ -‬قال يف الإ�ضاءة‪:‬‬
‫لأنه �إميان ُه على خطر‬ ‫ويف املقلد خالف َ‬
‫م�ستطر‬
‫قلت‪� :‬إن ال�شك هو الرتدد بني طرفني ال ترجيح بينهما‪ ،‬وهذا اليجوز �أن يكون مق�صود ًا‬
‫للمكلف‪ ،‬بل املطلوب هو البحث عن و�سيلة من و�سائل املعرفة التي ح�صرها الأ�شاعرة‬
‫م�ستند الوجوب‪ ،‬هل هو أۡ َال�سمع؟‬ ‫واملعتزلة يف النظر العقلي‪ ،‬مع اختالف يف �أ�صل‬
‫ُ ْ َ َ‬
‫اذا ف َّ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ۡرض﴾‬‫ت َوٱل ِ ۚ‬‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫بناء على ظواهر الآيات الداعية �إىل النظر ﴿ق ِل ٱنظ ُروا م يِ‬
‫�إىل غريها‪ ،‬وهذا مذهب الأ�شاعرة‪� .‬أو �أ�صل الوجوب عقلي؟ وهذا مذهب املعتزلة‪،‬‬
‫بناء على �أ�صلهم يف التح�سني العقلي‪ .‬خالف ًا للكرامية الذين يرون �أن �أول واجب هو‬
‫الإقرار‪ ،‬وخالف ًا لبع�ض املعتزلة كاجلبائي الذين يرون �أن �أول واجب هو ال�شك‪(.‬يراجع‬
‫«الإر�شاد �إىل قواطع الأدلة يف �أ�صول االعتقاد»لإمام احلرمني و�شرحه للمقرتح) وقال‬
‫املقرتح‪� :‬إنَّ هذا كفر على �أ�صلهم‪.‬‬
‫�أ�صل هذه امل�س�ألة يتعلق بوجوب املعرفة باهلل من خالل النظر العقلي‪ .‬فوجوب املعرفة‬
‫واجب �إجماع ًا‪ ،‬وهذا اختيار الأ�شاعرة واملعتزلة واملاتريدية‪ ،‬وذهب ابن حزم �إىل �أنه‬
‫ال�سمنية‪ .‬وا�ستدل املقرتح بجملة من �أقوال ال�صحابة يف‬ ‫اختيار جميع امل�سلمني حا�شا ُّ‬
‫‪79‬‬
‫فضائين‪ :‬فضاء المعامالت الذي يرجع إلى مصالح البشر‬
‫حيث يسير العقل إلى جانب الوحي يف تكامل وانسجام‬
‫اختلف العلماء يف وصفه‪ ،‬فرأى بعضهم َّ‬
‫أن الشرع إذا ثبت‬
‫يقدم على المصلحة التي يقتضيها العقل‪ ،‬ورأى البعض‬
‫اآلخ��ر أن الشرع قد فوض للعقل يف اعتبار المصالح‬
‫هذا الباب‪ ،‬فمنهم ابن م�سعود ومعاذ بن جبل وعلي بن �أبي طالب ر�ضي اهلل عنهم‪،‬‬
‫وكلهم يذم التقليد‪ .‬ولكن هذه املعرفة هل هي مرتبطة بالنظر العقلي فيكون واجب ًا؟‬
‫وهذا مذهب الأ�شاعرة واملعتزلة‪� .‬سوى ما ن�سب للجبائي من �أنّ ال�شك هو �أول واجب‪،‬‬
‫وقد بينا ف�ساده و�أنه مناق�ض للإميان‪� .‬أما ال�شك الذي يعر�ض خلاطر امل�ؤمن ويلم به‬
‫فهذا غري ناق�ض‪ ،‬فقد ورد يف احلديث ما يدل على ذلك ففي احلديث‪� :‬إن �أحدنا ليجد‬
‫أحب �إليه من‬ ‫يف نف�سه ما لأنْ يحرتق حتى ي�صري حممة �أو يخر من ال�سماء �إىل الأر�ض � َّ‬
‫�أنْ يتكلم به‪ ،‬قال ذلك حم�ض الإميان»‪ .‬ويف حديث ال�شيخني‪َ « :‬ي�أْ ِتي ال�شَّ ْي َطانُ �أَ َحدَ ُك ْم‬
‫ول‪َ :‬منْ َخ َلقَ َر َّب َك؟ َف ِ�إ َذا َب َل َغ ُه َف ْل َي ْ�س َت ِع ْذ‬ ‫ول‪َ :‬منْ َخ َلقَ َك َذا‪َ ،‬منْ َخ َلقَ َك َذا‪َ ،‬حتَّى َي ُق َ‬ ‫َف َي ُق ُ‬
‫هلل»‪ .‬قلت‪ :‬وعليه‬ ‫ا‬
‫َ تُ ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫آم‬ ‫�‬ ‫‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬
‫ئ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫�ش‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ذ‬‫َ‬ ‫م‬
‫َ نْ َ َ دَ ِ نْ ِ ْ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫رواية‪:‬‬ ‫ويف‬ ‫»‪.‬‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫الل َ َ ِ‬
‫ت‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ِب هَّ ِ‬
‫�أنْ يدفعه مبا ورد يف احلديث من الإعرا�ض عنه كارها ذلك اخلاطر‪ ،‬وكذلك بتذكر‬
‫الأدلة‪ ،‬وبخا�صة حدوث العامل وحاجة كل حمدث �إىل محُ دِ ث �ضرورة‪ ،‬ولدليل ال�سببية‬
‫ودليل العناية باملخلوقات‪� ،‬إىل غري ذلك من الأدلة جملة وتف�صي ًال‪� ،‬سواء تعلق الأمر‬
‫مداركه‬ ‫ب�أدلة وحدانية الباري جل وعال و�أدلة النبوة‪ ،‬وعليه ا�ستح�ضار جهله و�ضعف‬
‫ۡ َ َ هَ ُ َ ُّ ُ ٓ َ ۡ ۡ َ َ‬
‫َم�ستعينا باهلل‪ ۡ ،‬مفو�ضا �إليه مكرر مقولة �سيدنا �إبراهيم ﴿إِذ قال لۥ ربهۥ أسل ِمۖ قال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أ ۡسل ۡم ُت ل َِر ّ ِب ٱل َعٰل ِم َني﴾ �أما �أنْ يبقى مرتدد ًا يف الريب مطمئن ًا �إىل ال�شك ف�إنّ ذلك‬
‫من �أخطر الأحوال فهو مهدد ب�إدراك املوت يف �أي حلظة على ذلك فيموت على غري‬
‫دين‪� ،‬أعاذنا اهلل وامل�سلمني من ذلك‪ ،‬وهذا حال الال�أدريني‪ ،‬الذين وقفوا على مفرتق‬
‫الطرق ومل ي�صدقوا الدال على الطريق ال�صحيح‪ ،‬ف�ضيعوا �أمانة العقل وخ�سروا مو�سم‬
‫احلياة‪ .‬وقد جاء يف الدعاء امل�أثور‪ :‬اللهم �إين �أعوذ بك من ال�شك والنفاق وال�شقاق‬
‫و�سوء الأخالق‪ – .‬ونكتفي بهذا القدر دون البحث يف ق�ضية ال�شك االفرتا�ضي �أو‬
‫العلمي عند الغزايل وديكارت فذلك مو�ضوع �آخر(يرى تخلي�ص العقل من معارفه‬
‫المتحانها و�إعادة النظر فيها) و�إذا كان اجلبائي يعنيه فقد عرب عنه تعبري ًا �سيئ ًا‪،‬‬
‫ن�س�أله �سبحانه الع�صمة‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫أساسا للتشريع‪ ،‬مع اتفاق الطرفين على أن العقل يظل‬ ‫ً‬
‫دليال مستكشفا ال غنى عنه‪.‬‬
‫أما الفضاء الثاين وهو فضاء العبادات التعبدية التي‬
‫ترتكز أساسا على الوحي فال سلطان للعقل عليها‪ .‬ومع‬
‫ذلك فإهنا كما يقول الفهري معقولة يف الجملة وإن لم‬
‫تعقل يف التفاصيل كالصالة ونحوها‪.‬‬
‫لقد نجح المسلمون إلى حد كبير يف وقت من األوقات‬
‫يف إيجاد تساكن وتعايش بين العقل والفلسفة والدين‬
‫والحياة الروحية‪.‬‬
‫لقد كانت مسألة العقل من أه��م القضايا الفلسفية‬
‫ال��ت��ي شغلت المسلمين منذ ال��ق��رن ال��ث��اين الهجري‬
‫الثامن الميالدي‪ ،‬واش�ترك يف الجدل حولها الفالسفة‬
‫والمتكلمون واألطباء والفقهاء كما يقول الزركشي‪،‬‬
‫ويمكن أن نضيف اللغويين المهتمين باالشتقاق‬
‫ٌّ‬
‫والمرتادفات‪،‬وكل نظر إليه من زاوية‬ ‫اللغوي وبالمعاين‬
‫االستعمال الذي يخدم فيه‪.‬وقد اختلفت الفرق يف تعريفه‬
‫إلى ألف قول كما يقول بعضهم‪.‬‬
‫يمجد اإلس�لام العقل مرتب ًطا بالفضيلة واألخ�لاق‬
‫‪81‬‬
‫ويعطيه أكثر من اسم كلها تشير إلى حقيقته الراشدة‬
‫وعالقته بالحكمة‪.‬‬
‫فهو العقل والحجر والنُّهى‪ ،‬وسمي عقال ألنه يعقل‬
‫صاحبه عن ارتكاب القبائح والرذائل أي يمنعه من ذلك‪،‬‬
‫وك��ذا سمي حجرا أيضا ألنه يحجر صاحبه أي يمنعه‬
‫من ارتكاب الرذائل ويفسر العقل أيضا بأنه نور روحاين‬
‫به تدرك النفس األمور أو العلوم الضرورية والنظرية‪.‬‬
‫ويفسر العقل أيضا بأنه القوة التي هبا يكون التمييز بين‬
‫الحسن والقبح‪.‬‬
‫ُ‬
‫وعقل الشيء‪ :‬فهمه قال تعالى‪ِ } :‬م ۢن َب ۡع ِد َما َع َقلوهُ‬
‫َ‬ ‫َُ ۡ ََُۡ َ‬
‫ت‬ ‫وهم يعلمون{ (البقرة‪َ ،)75 :‬وق��ال تعالى‪ٓ} :‬أَلي ٰ ٖ‬
‫َ اَ َ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬
‫ل ِق ۡو ٖم َي ۡع ِقلون{ (البقرة‪} ،)164:‬أفل ت ۡع ِقلون{ (البقرة‪:‬‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ ُ ْ َ ُ َ‬
‫‪َ } ،)44‬وقالوا ل ۡو ك َّنا ن ۡس َم ُع أ ۡو ن ۡعقِل{ (الملك‪،)10:‬‬
‫َ‬ ‫ُ ٓ اَّ ۡ َ‬
‫} َو َما َي ۡعقِل َها إِل ٱلعٰل ُِمون{ (العنكبوت‪ ،)43:‬وأكثر‬
‫معنى هذه الكلمة أي العقل يف القرآن أن يكون الفهم‬
‫ُ ُ َ ُ َ‬
‫نت ۡم ت ۡع ِقلون{‬ ‫واإلدراك الصحيح أو ما يف معناه }إِن ك‬
‫ِج ٍر{ (الفجر‪،)5:‬‬ ‫(آل ع��م��ران‪} ،)118:‬قَ َس ‪ٞ‬م ّ ذِلِي ح ۡ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ْ أۡ َ ۡ‬
‫ب‬ ‫ٰ‬
‫يأو يِل ٱللب ِ‬ ‫واستعمل اللب جمعا مرادا به العقل } ٰٓ‬

‫‪82‬‬
‫َّ‬ ‫َ َّ ُ َ ُ َ‬
‫ل َعلك ۡم ت َّتقون{ (البقرة‪ ،)179:‬وكذلك القلب‪} :‬إِن‬
‫ب{ (ق‪ ،)37:‬والفـؤاد‬ ‫ى ل َِمن اَك َن هَ ُلۥ قَ ۡل ٌ‬ ‫يِف َذٰل َِك ذَل ِۡك َر ٰ‬
‫َ أۡ َ ۡ َ َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫}وٱل ف �‍ِٔ��د ة لعلكم تشكر ون { (ال��ن��ح��ل‪،)78:‬‬
‫ُّ ىَ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ُّ‬ ‫َّ‬
‫ٰ‬
‫ت أِلو يِل ٱنله{ (طه‪.)54:‬‬ ‫والنهى} إِن يِف ذٰل ِك ٓأَلي ٰ ٖ‬
‫ويف المقولة المشهورة‪« :‬أول ما خلق اهلل العقل وقال‪:‬‬
‫وعزيت وجاللي ما خلقت خلقا أكرم منك بك آخذ وبك‬
‫أعطي وبك أعاقب»‪.‬‬
‫وإن لم يثبت هذا القول عنه عليه الصالة والسالم فإنه‬
‫يشير إلى مكانة العقل عند المسلمين‪.‬‬
‫مصدرا من مصادر المعرفة‬ ‫ً‬ ‫اإلس�لام يجعل العقل‬
‫األساسية بل المصدر األول المنتج يف العقائد واإليمان‬
‫وأحد المصادر األربعة المؤسسة يف التشريع اإلسالمي‬
‫كما يقول حجة اإلسالم أبو حامد الغزالي يف مستصفاه‪.‬‬
‫والعقل أحد الضرورات الخمس التي يقوم التشريع‬
‫اإلسالمي على حمايتها إلى جانب الدين والنفس والنسل‬
‫والمال‪ .‬هذه هي الكليات التي تحكم منظومة التشريع يف‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫والعقل مناط التكليف واألمانة التي حملها الباري‬
‫جل وعال لإلنسان بعد أن عجزت السموات واألرض‬
‫والجبال عن حملها‪ .‬وحرم الدين اإلسالمي المسكرات‬
‫وكلما يؤدي إلى تغييب العقل‪.‬‬
‫وال يمكن تعارض نقل صحيح مع عقل صريح وإال‬
‫قدم العقل الصريح الصحيح وحمل النقل على التأويل‬
‫أو عدم الثبوت‪ .‬وهذا هو مذهب األشاعرة وجمهور‬
‫المتكلمين‪ ،‬وإن خالف شيخ اإلس�لام اب��ن تيمية يف‬
‫جزئيات العقليات‪.‬‬
‫ودعا القرآن إلى إعمال العقل والفكر‪ ،‬عندما دعا إلى‬
‫التدبر والتفكر يف آيات الكون وآيات الوحي وهي دعوة‬
‫ٱل ۡلقُ‬‫إلى اكتناه أس��رار الخلق وحكم األم��ر } َأ اَل هَ ُل خۡ َ‬
‫ۡ‬ ‫َ أۡ َ‬
‫وٱلمر ۗ{ (األعراف‪.)54 :‬الفتا انتباه اإلنسان إلى الربهان‬ ‫ُ‬
‫ُ َ َ اَ‬ ‫َ ٓ َ ُ‬
‫ف أنفسِك ۡ ۚم أفل‬ ‫القائم يف نفسه على نفسه من نفسه }و يِ‬
‫ُۡ ُ َ‬
‫صون{ (الذاريات‪.)21:‬‬ ‫تب رِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫أۡ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ويف الكون من حوله‪َ }:‬و َما َخلق َنا َّ‬
‫ٱلس َما َء َوٱلۡرض‬
‫ت‬ ‫ٱلل َّ َ َ‬
‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫َو َما بَ ۡي َن ُه َما َب ٰ ِط اٗل{ (ص‪َّ } ،)27:‬ما َخلَ َق هَّ ُ‬
‫ۚ‬
‫ّ‬ ‫َحۡ‬ ‫َ أۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ُ َ ٓ اَّ‬
‫وٱلۡرض وما بينهما إِل بِٱل ِق{ (الروم‪.)8:‬‬
‫‪84‬‬
‫بالتفكر َيف خلقه والتدبر يف أۡ َوحيه وأمره َقال‪}:‬‬ ‫وأمر‬
‫َ َ َ َ هَّ ُ‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫َََۡ َ ُ ُ ْ َ ُ‬
‫ۡرض وما خلق ٱلل‬ ‫ت وٱل ِ‬ ‫وت ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫أولم ينظروا يِف ملك ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫مِن يَ ۡ‬
‫شءٖ{ (األعراف‪ ،)185 :‬وقال تعالى‪َ }:‬و َي َتفك ُرون‬
‫أۡ َ‬ ‫ف َخ ۡلق َّ َ َ‬
‫ۡرض{ (آل عمران‪ .)191:‬وقال‬ ‫ت َوٱل ِ‬ ‫ٱلس َمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬
‫َ َ ۡ َ َّ َّ ُ ْ ۡ َ ۡ َ‬
‫جل وعال‪}:‬أفلم يدبروا ٱلقول{ (المؤمنون‪.)68:‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ ُ ْ ُ ْ أۡ َ ۡ‬ ‫ّ َ َّ َّ ُ ٓ ْ َ َ‬
‫ب{‬ ‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ٱل‬ ‫وا‬‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ر‬‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫يِ‬ ‫و‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ت‬‫ٰ‬ ‫اي‬ ‫وقال تعالى‪ }:‬يِلدبروا ء‬
‫(ص‪.)29:‬‬
‫فاألمر بالتفكر والتدبر قد ورد بصيغة الخرب واالستفهام‬
‫ليكون أبلغ يف التقرير وأدعى إلى التفكير‪.‬‬
‫وإنما كان التفكير والتدبر وسيلة الستكناه حكمة‬
‫الخلق والمصلحة التي تتضمنها أحكام الحق‪.‬‬
‫إن هذه المميزات ال توجد يف أي دين هبذا الوضوح‬
‫والتماسك‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا جاءت مقاصد الشريعة تمثل منظومة‬
‫كاملة ترد الشريعة إلى أص��ول معقولة تصون مصالح‬
‫الناس وتدرأ عنهم المفاسد‪ ،‬وذلك بعد أن استقرينا من‬
‫الشريعة أهنا وضعت لمصالح العباد استقراء ال ينازع فيه‬
‫الرازي وال غير الرازي‪ .‬حسب عبارة الشاطبي‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫وما االختالف يف التحسين والتقبيح العقليين والصالح‬
‫واألصلح بين الفرق اإلسالمية إال دليالً على مكانة العقل‪.‬‬
‫ف�لا ي��وج��د ت��ع��ارض بين العقل وال��وح��ي‪ ،‬فالدين‬
‫اإلسالمي مثال ال يقبل االستحالة العقلية المتمثلة يف‬
‫التثليث والتي تزعم أن الثالثة واحد‪ ،‬والواحد ثالثة‪ ،‬وأن‬
‫اإلله يحل يف البشر‪.‬‬
‫فأيهما أحق بالعقالنية التثليث أم التوحيد‪.‬‬
‫وكثير من علماء الالهوت الغربيين الذين اعتنقوا‬
‫اإلس�لام ك��ان ذل��ك بسبب العقالنية التي وجدوها يف‬
‫اإلسالم وما وجدوه يف ديانتهم من أمور ال تتماشى مع‬
‫العقل‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن دائرة الوحي تحكم دائرة العقل الذي‬
‫سلم لها فيما ال يدركه العقل لكنه ال يحيله وإنما المحيل‬
‫هو العادة‪.‬‬
‫ولهذا يقول الغزالي يف المنقذ‪« :‬ووراء العقل طور‬
‫آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بـها الغيب وما سيكون‬
‫وأم��ورا ُأخ��ر‪ ،‬العقل معزول عنها كعزل‬
‫ً‬ ‫يف المستقبل‪،‬‬
‫قوة التمييز عن إدراك المعقوالت وكعزل قوة الحس‬
‫‪86‬‬
‫عن مدركات التمييز‪ .‬وكما أن المميز لو عرضت عليه‬
‫مدركات العقل ألباها واستبعدها‪ ،‬فكذلك بعض العقالء‬
‫أبوا مدركات النبوة واستبعدوها‪ ،‬وذلك عين الجهل‪ :‬إذ‬
‫ال مستند لهم إال أنه طور لم يبلغه ولم يوجد يف حقه‪،‬‬
‫فيظن أنه غير موجود يف نفسه‪ .‬واألكمه‪ ،‬لو لم يعلم‬
‫بالتواتر والتسامع األل��وان واألشكال وحكي له ذلك‬
‫يقر بـها‪ .‬وقد قرب اهلل تعالى على‬
‫ابتدا ًء‪ ،‬لم يفهمها ولم ّ‬
‫نموذجا من خاصية النبوة‪ ،‬وهو النوم‪:‬‬
‫ً‬ ‫خلقه بأن أعطاهم‬
‫صريحا وإما يف‬
‫ً‬ ‫إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب‪ ،‬إما‬
‫كسوة مثال يكشف عنـه التعبير‪ .‬وهذا لو لم يجربه اإلنسان‬
‫من نفسه ‪ -‬وقيل له‪ :‬إن من الناس من يسقط مغش ًيا عليه‬
‫كالميت‪ ،‬وي��زول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك‬
‫الغيب‪ –.‬ألنكره‪ ،‬وأقام الربهان على استحالته‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫القوى الحساسة أسباب اإلدراك‪ ،‬فمن ال يدرك األشياء‬
‫مع وجودها وحضورها‪ ،‬فبأن ال يدرك مع ركودها أولى‬
‫وأحق‪ .‬وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة‪ .‬فكما‬
‫أن العقل طور من أطوار اآلدمي‪ ،‬يحصل فيه عين يبصر‬
‫بـها أنوا ًعا من المعقوالت‪ ،‬والحواس معزولة عنها‪،‬‬
‫‪87‬‬
‫أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر‬ ‫فالنبوة ً‬
‫يف نورها الغيب‪ ،‬وأمور ال يدركها العقل‪.‬‬
‫والشك يف النبوة‪ ،‬إما أن يقع‪ :‬يف إمكانـها‪ ،‬أو يف وجودها‬
‫ووقوعها‪ ،‬أو يف حصولها لشخص معين‪.‬‬
‫ودليل إمكانـها وجودها‪ .‬ودليل وجودها وجود معارف‬
‫يف العالم ال يتصور أن تنال بالعقل‪ ،‬كعلم الطب والنجوم؛‬
‫فإن من بحث عنها علم بالضرورة أهنا ال تدرك إال بإلهام‬
‫إلهي وتوفيق من جهة اهلل تعالى‪ ،‬وال سبيل إليها بالتجربة‪.‬‬
‫فمن األحكام النجومية ما ال يقع إال يف كل ألف سنة مرة‪،‬‬
‫فكيف ينال ذلك بالتجربة؟ وكذلك خواص األدوي��ة‪.‬‬
‫فتبين بـهذا الربهان أن يف اإلمكان وجود طريق إلدراك‬
‫هذه األمور التي ال يدركها العقل ‪ -‬وهو المراد بالنبوة‬
‫‪ -‬ال أن النبوة عبارة عنها فقط‪ ،‬بل إدراك هذا الجنس‬
‫الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة‪ ،‬ولها‬
‫خ��واص كثيرة سواها‪ .‬وما ذكرنا‪ ،‬فقطرة من بحرها؛‬
‫نموذجا منها‪ ،‬وهو مدركاتك يف‬‫ً‬ ‫إنما ذكرناها ألن معك ُأ‬
‫النوم؛ ومعك علوم من جنسها يف الطب والنجوم‪ ،‬وهي‬
‫معجزات األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وال سبيل إليها‬

‫‪88‬‬
‫للعقالء ببضاعة العقل أصلاً » (‪.)1‬‬
‫لقد ك��ان ه��ذا أنموذجًا لفهم المسلمين لفضاءات‬
‫الحس والعقل والوحي‪ .‬وهو المشهد الثالث‪ :‬المصلحة‬
‫بين العقل والنقل‪.‬‬

‫‪ - 1‬الغزايل‪ :‬املنقذ من ال�ضالل‪� ،‬ص‪(.....‬وينقل ول ديورانت عن �سبن�سر قوله‪ :‬فقد‬


‫�أعد العقل الب�شري لكي يفهم ظواهر الأ�شياء‪ ،‬وعندما نحاول ا�ستخدام هذا العقل‬
‫يف فهم ما وراء الظواهر ف�إننا نزج �أنف�سنا يف عبث ال طائل حتته‪ .‬ومع ذلك ف�إن هذه‬
‫الظواهر والأمور الن�سبية التي يدركها العقل وال ي�ستطيع �أن يتجاوزها تدل بطبيعتها‬
‫وا�سمها على وجود �شيء وراءها‪ ،‬وهو �شيء نهائي ومطلق‪« .‬ق�صة الفل�سفة �ص‪) »467‬‬

‫‪89‬‬
‫المشهد الثالث‬

‫موازنات المقاصد‬
92
‫القضية األولى‪ :‬المصلحة بين العقل والنقل ‪:‬‬
‫وهي‬ ‫ِ‬ ‫وأط َّلت المسأل ُة التي ال ُ‬
‫نوع من التأثير‪َ ،‬‬ ‫يزال لها ٌ‬
‫هل المصلح ُة التي ُتبنَى عليها األحكا ُم عقلية أم شرعية؟‬ ‫ْ‬
‫هل هي عقلية أم‬ ‫ِ‬
‫المصلحة ْ‬ ‫وبعبارة أخرى‪ :‬ما مرجعي ُة‬
‫شرعية؟ وهي مسألة تحيل على مسألة التحسين العقلي‪.‬‬
‫آخر يف النظر المقاصدي يمكن استجالؤه من‬ ‫إنه وج ٌه ُ‬
‫خالل القطوف التالية لوجهتَي نظر‪:‬‬
‫أولاً ‪ :‬االتجاه الذي يرى أن المصلحة ال تُعرف إال من‬
‫قبل الشرع‪:‬‬
‫فهذا الغزالي رحمه اهلل وهو يتعرض لألصول الموهومة‬
‫يف «المستصفى» يطنب يف موضوع المصلحة؛ فبعد أن‬
‫االستصالح من األصول الموهومة ذكر أمثل ًة فيما‬ ‫َ‬ ‫أن‬‫ذكر َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قو ِة‬ ‫ِ‬
‫المقصد الذي‬ ‫َ‬ ‫مرتبة‬ ‫بحسب‬ ‫المصلحة‬ ‫يتع َّلق بتفاوت َّ‬
‫الضرورات‪ ،‬وإلى ما هي‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مرتبة‬ ‫تكون فِي‬
‫ُ‬ ‫تنتمي ِ‬
‫إليه عندما‬
‫ِ‬
‫والتزيينات‬ ‫ِ‬
‫بالتحسينات‬ ‫الحاجات‪ ،‬وإلى ما يتع َّلق‬ ‫ِ‬ ‫يف ِ‬
‫رتبة‬
‫كل قسم‬ ‫رتبة الحاجات‪ .‬ويتعلق بأذيال ِّ‬ ‫أيضا عن ِ‬ ‫وتتقاعدُ ً‬
‫ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها‪ .‬ذلك فحوى‬
‫كالمه‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫ومن جملة هذا الكالم يقول‪« :‬ولنفهم أولاً معنَى‬
‫ثم أمثلة مراتبها‪ ،‬المصلحة‪ :‬هي عبارة يف األصل‬ ‫ِ‬
‫المصلحة َّ‬
‫عن جلب منفعة أو دفع مضرة‪ .‬ولسنا نعنى به ذلك؛ فإن‬
‫وصالح‬ ‫ُ‬ ‫جلب المنفعة‪ ،‬ودفع المضرة مقاصدُ الخلق‪،‬‬
‫الخلق يف تحصيل مقاصدهم‪ .‬لكنا نعنى بالمصلحة‬ ‫ِ‬
‫المحافظة على مقصود الشرع»‪.‬‬
‫ليس‬ ‫االستصالح َ‬
‫َ‬ ‫وانتهى الغزالي إلى القول‪« :‬وتب َّين َّ‬
‫أن‬
‫أن‬‫شرع‪ ،‬كما َّ‬ ‫أصلاً خامسا ِ‬
‫برأسه‪ْ ،‬بل َمن‬
‫استصلح فقدْ َّ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫االستصالح على ما‬ ‫َ‬ ‫شرع‪ ،‬وتبين به َّ‬
‫أن‬ ‫َمن استحس َن فقدْ َّ‬
‫ذكرنا»(‪.)1‬‬
‫الشاطبي حيث قال‪« :‬وإذا‬ ‫االتجاه‬ ‫هذا‬ ‫ن‬ ‫وال يبعدُ مِ‬
‫ُّ‬
‫مصالح‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫كان معلو ًما من الشريعة يف مواط َن كثيرة أن ثم‬
‫َ‬
‫يقدر على استنباطها وال‬ ‫أخر غير ما يدركه المكلف‪ ،‬ال ُ‬ ‫َ‬
‫كون المحل‬ ‫محل آخر؛ إذ ال ُيعرف ُ‬ ‫على التعدية هبا يف ٍّ‬
‫اآلخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العل ُة ألبتة‪ ،‬لم يك ْن‬
‫فبقيت موقوف ًة على التع ُّبد‬ ‫ْ‬ ‫إلى اعتبارها يف القياس ٌ‬
‫سبيل‪،‬‬
‫ال ما‬ ‫يظهر لألص ِل المع َّلل هبا شبي ٌه إ َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫المحض؛ ألنَّه لم‬
‫امل�ست�صفى ‪.432 - 414 /1‬‬ ‫‪ -1‬الغزايل‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫ُ‬
‫يكون‬ ‫اإلطالق ْأو العمو ِم المع َّلل‪ ،‬وإ ْذ َ‬
‫ذاك‬ ‫ِ‬ ‫تحت‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دخل‬
‫الوقوف‬‫ُ‬ ‫الحكم المع َّلل هبا متع َّبدً ا به‪ ،‬ومعنى التعبد به‬ ‫ِ‬ ‫أخذ‬‫ُ‬
‫فيه من غير زيادة وال نقصان‪.‬‬ ‫عند ما حدَّ الشارع ِ‬
‫ُ‬
‫تحكم بين‬ ‫ُ‬ ‫لم ال‬
‫قال للحاكم‪َ :‬‬ ‫السائل إذا َ‬ ‫َ‬ ‫والرابع‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫فأجاب‪« :‬بأين نُهيت عن ذلك»؛‬ ‫َ‬ ‫الناس وأنت غضبان؟‬
‫يشوش عقلي‪،‬‬ ‫الغضب ِّ‬
‫َ‬ ‫كان مصي ًبا‪ ،‬كما أنَّه إذا قال‪َّ :‬‬
‫«ألن‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫��ان مصي ًبا ً‬ ‫ت يف الحكم؛ ك َ‬ ‫وهو مظنَّة ع��د ِم التثب ِ‬
‫ُّ‬
‫واألول جواب التعبد المحض‪ ،‬والثاين جواب االلتفات‬
‫جاز‬ ‫إلى المعنى‪ ،‬وإذا جاز اجتما ُعهما وعدم تنافيهما؛ َ‬
‫دل على َّ‬
‫أن‬ ‫جاز القصدُ إلى التعبد َّ‬ ‫القصدُ إلى التعبد‪ ،‬وإذا َ‬
‫يصح‬ ‫القصد إلى ما ال‬ ‫ِ‬ ‫توجه‬ ‫هنالك تعبدً ا‪ ،‬وإ َّ‬
‫ُّ‬ ‫يصح ُّ‬ ‫ّ‬ ‫لم‬
‫ال ْ‬
‫أن يوجدَ أو ال يوجد‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ممكن ْ‬ ‫إليه من معدوم أو‬ ‫القصدُ ِ‬
‫صح المقصو ُد له مطل ًقا‪ ،‬وذلك‬ ‫صح القصدُ مطل ًقا؛ َّ‬ ‫فلما َّ‬ ‫َّ‬
‫جهة التعبد‪ ،‬وهو المطلوب‪.‬‬
‫بالحكم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المصلحة مصلح ًة تقصدُ‬ ‫ِ‬ ‫كون‬ ‫أن َ‬ ‫والخامس‪َّ :‬‬ ‫ُ‬
‫يختص بالشارعِ‪ ،‬ال مجال‬ ‫والمفسدة مفسد ًة كذلك‪ ،‬مما‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫للعقل فيه‪ ،‬بنا ًء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح‪ ،‬فإذا‬
‫الواضع لها‬ ‫فهو‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫الحكم لمصلحة ما؛ َ‬ ‫َ‬ ‫شرع‬
‫َ‬ ‫الشارع قدْ‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫‪95‬‬
‫كذلك؛ ِ‬
‫إذ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تكون‬ ‫أن ال‬‫فكان يمك ُن عقلاً ْ‬ ‫َ‬ ‫مصلحةً‪ ،‬وإال‬
‫األول متساوي ٌة ال قضا َء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وضعها‬ ‫ِ‬
‫بالنسبة إلى‬ ‫األشيا ُء ك ُّلها‬
‫المصلحة مصلح ًة‬ ‫ِ‬ ‫بحسن وال قبحٍ ‪ ،‬فإ ًذا ُ‬
‫كون‬ ‫ٍ‬ ‫للعق ِل فيها‬
‫إليه‬ ‫العقل وتطمئن ِ‬ ‫ُ‬ ‫بحيث يصدق ُه‬ ‫ُ‬ ‫هو م ْن قب ِل الشار ِع‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫النظر‬ ‫ُ‬ ‫مصالح قدْ َآل‬ ‫ُ‬ ‫هي‬ ‫ُ‬
‫فالمصالح م ْن حيث َ‬ ‫ُ‬ ‫النفس؛‬
‫ُ‬
‫ال‬ ‫ُ‬
‫يكون إ َّ‬ ‫التعبدي ال‬
‫ِّ‬ ‫تعبديات وما انبنَى ع َلى‬ ‫ٌ‬ ‫فيها إ َلى أهنا‬ ‫َ‬
‫تعبد ًّيا»(‪.)1‬‬
‫يقرر أن الشريع َة إنما ُوضعت‬ ‫الشاطبي عندما ِّ‬ ‫َّ‬ ‫لكن‬
‫وأن ح َّ��ق العبد راج��ع إل��ى مصالحه‬ ‫العباد‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫لمصالحِ‬
‫الدنيوية‪ ،‬ففيه منافاة العتبار المصالح تعبدية‪.‬‬
‫ففيه‬ ‫شرعي؛ ِ‬ ‫ِ‬ ‫كم‬‫كل ُح ٍ‬ ‫أن َّ‬
‫وذلك حين يقول‪« :‬كما َّ‬
‫ٍّ‬
‫أن الشريع َة‬ ‫للعباد إما عاجلاً وإ َّما آجلاً ؛ بناء على َّ‬ ‫ِ‬ ‫حق‬
‫ٌّ‬
‫العباد‪ ،‬ولذلك قال يف الحديث‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ضعت لمصالحِ‬ ‫ْ‬ ‫إنما ُو‬
‫ولم ُي ْش ِركوا ِبه شي ًئا أ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال‬ ‫«حق العباد ع َلى اهلل إ َذا عبدُ وه ْ‬ ‫ُّ‬
‫ُي َع ِّذهبم»(‪.)2‬‬

‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪.533 /2‬‬


‫‪ - 2‬جزء من حديث �أخرجه البخاري يف �صحيحه «كتاب اجلهاد» وغريه‪ .‬وم�سلم يف‬
‫�صحيحه «كتاب الإميان»‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫«حق اهللِ» أن ُه ما ُفهم مِن الشر ِع أنَّه ال‬ ‫ِ‬
‫تفسير ِّ‬ ‫وعادهتم يف‬
‫ٍ‬
‫معقول‪،‬‬ ‫غير‬ ‫ٌ‬ ‫كان َله معنًى‬ ‫ِ‬
‫للمكلف؛ َ‬ ‫خير َة ِ‬
‫معقول ْأو ُ‬ ‫فيه‬
‫مصالحه يف الدنيا‪ْ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ِ‬ ‫كان راج ًعا إلى‬ ‫العبد» ما َ‬‫ِ‬ ‫و«حق‬ ‫ُّ‬
‫جملة ما يط َلق ِ‬ ‫ِ‬ ‫فهو مِن‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬
‫عليه‬ ‫َ ُ‬ ‫كان من المصالحِ األخروية؛ ُ‬
‫يعقل معنا ُه‬‫عندهم أنَّه ما ال ُ‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫«التعبد»‬ ‫حق هللِ‪ ،‬ومعنَى‬‫أنَّه ُّ‬
‫حق اهللِ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫العبادات راجع ٌة إلى ِّ‬ ‫ُ‬
‫وأصل‬ ‫ِ‬
‫الخصوص‪،‬‬ ‫على‬
‫العادات راجع ٌة إلى حقوق العباد»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫وأصل‬‫ُ‬
‫أيضا‪ «:‬فإذا كان كذلك؛ فالمصالح والمفاسد‬ ‫وقال ً‬
‫الراجعة إلى الدُّ نيا إنما تفهم على مقتضى ما َغلب‪ ،‬فإذا‬
‫كان الغالب جهة المصلحة؛ فهي المصلحة المفهومة‬
‫ُع ْر ًفا‪ ،‬وإذا غلبت الجهة األخرى؛ فهي المفسدة المفهومة‬
‫عر ًفا‪ ،‬ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسو ًبا إلى الجهة‬
‫الراجحة‪ ،‬فإن رجحت المصلحة؛ فمطلوب‪ ،‬ويقال فيه‪:‬‬ ‫َّ‬
‫إنه مصلحة‪ ،‬وإذا غلبت جهة المفسدة؛ فمهروب عنه‪،‬‬
‫ويقال‪ :‬إنه مفسدة‪ ،‬على ما جرت به العادات يف مثله‪ ،‬فإن‬
‫خرج عن مقتضى العادات؛ فله نسبة أخرى وقسمة غير‬
‫هذه القسمة‪.‬‬
‫‪ - 1‬نف�س املرجع ‪.539 /2‬‬

‫‪97‬‬
‫ه��ذا وج��ه النَّظر يف المصلحة الدُّ نيوية والمفسدة‬
‫الدُّ نيوية‪ ،‬من حيث مواقع الوجود يف األعمال العادية‪.‬‬
‫وأما النظر الثاين فيها من حيث تع ُّلق الخطاب هبا شر ًعا‪،‬‬
‫فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرهتا مع المفسدة‬
‫يف حكم االعتياد؛ فهي المقصودة شر ًعا‪ ،‬ولتحصيلها‬
‫وقع ال َّطلب على العباد‪ ،‬ليجري قانوهنا على أقوم طريق‬
‫وأهدى سبيل‪ ،‬وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل‬
‫المقصود على مقتضى العادات الجارية يف الدُّ نيا‪ ،‬فإن‬
‫تبعها مفسد ُة أو مش َّقةُ؛ فليست بمقصودة يف شرع َّية ذلك‬
‫الفعل وطلبه‪.‬‬
‫وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى‬
‫المصلحة يف حكم االعتياد؛ فرف ُعها هو المقصود شر ًعا‪،‬‬
‫أتم وجوه اإلمكان‬ ‫وألجله وقع النهي‪ ،‬ليكون رفعها على ّ‬
‫كل عقل سليم‪ ،‬فإن‬ ‫العادي يف مثلها‪ ،‬حسبما يشهد له ّ‬
‫َتبِعتها مصلح ٌة أو لذةٌ‪ ،‬فليست هي المقصودة بالنهي عن‬
‫ذلك الفعل‪ ،‬بل المقصود ما غلب يف المحل‪ ،‬وما سوى‬
‫ذلك ُم ْل ً‬
‫غى يف مقتضى النهي‪ ،‬كما كانت جهة المفسدة‬
‫ملغاة يف جهة األمر‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتربة شر ًعا أو‬ ‫ُ‬
‫المفاسد المعتربة شر ًعا هي خالص ٌة غير َم ُشوبة بشيء‬
‫وإن ُت ُو ِّهم أهنا َمشوبة‪،‬‬ ‫كثيرا‪ْ ،‬‬ ‫من المفاسد‪ ،‬ال قليلاً وال ً‬
‫فليست يف الحقيقة الشرعية كذلك؛ ألن المصلحة‬
‫المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد هبا ما يجري يف‬
‫الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضى التفات‬ ‫ّ‬ ‫االعتياد‬
‫الشارع إليها على الجملة‪ ،‬وهذا المقدار هو الذي قيل إنه‬
‫للشارع يف شرعية األحكام»(‪.)1‬‬ ‫غير مقصود َّ‬
‫التربيزي يف كالمه بنق ِل‬ ‫ِ‬
‫االتجاه‬ ‫أصرح أه ِل هذا‬ ‫ويم ِّثل‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫بكل سبيلٍ‪،‬‬ ‫ليست مطلوب ًة ِّ‬ ‫ْ‬ ‫«إن المصلح َة‬ ‫وفيه‪َّ :‬‬ ‫القرايفِّ‪ِ ،‬‬
‫كل حكم»ٍ ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بواسطة ِّ‬ ‫وال‬
‫ليست واجب َة‬
‫ْ‬ ‫المصالح‬
‫َ‬ ‫«والسر َّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫القول‪:‬‬ ‫وانتهى إ َلى‬
‫َ‬
‫ُّ‬
‫الحق‪ ،‬بل إنما‬‫لصفة ذاهتا عندَ أه ِل ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫الرعاية وال أهنا مرعي ٌة‬ ‫ِ‬
‫ومقتضى الوض ِع‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الخطاب‬ ‫ِ‬
‫لموجب‬ ‫استح َّقت الرعاي َة‬
‫حالة أخرى مِن‬ ‫أن يلغي ما اعتربَه يف ٍ‬
‫َ‬
‫والنصب‪ ،‬ول ُه تعا َلى ْ‬
‫ِ‬
‫الحادثة»‪.‬‬ ‫تأثير َ‬
‫لتلك‬ ‫غير ٍ‬ ‫ِ‬
‫جنس األحكام‬ ‫ِ‬ ‫جنس المصالحِ فِي‬ ‫ِ‬ ‫اعتبار‬
‫َ‬ ‫ويقول‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪.45 /2‬‬

‫‪99‬‬
‫جنس األحكام(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫يعارضه إلغا ُء المصالحِ فِي‬ ‫ُ‬
‫أما االتجاه الثاين‪ :‬الذي يرى أن العقل كاف يف تقرير‬
‫المصلحة‪ ،‬فتمثله القطوف التالية‪:‬‬
‫وفيها ت��ن��درج مقولة ال��ع��ز‪« :‬معظم مصالح الدنيا‬
‫ومفاسدها معروفة بالعقل‪ ،‬وذلك معظم الشرائع»(‪.)2‬‬
‫والمصالح‬
‫َ‬ ‫المتناسب‬
‫َ‬ ‫وي��ق��ول أي��ض��ا‪« :‬وم��ن أراد‬
‫لم‬
‫الشرع ْ‬ ‫َ‬ ‫ذلك على عقله‪ ،‬بتقدير َّ‬
‫أن‬ ‫فليعرض َ‬ ‫ْ‬ ‫والمفاسدَ‬
‫حكم منها يخرج عن‬ ‫ٌ‬ ‫ثم يبني عليه األحكا َم‪ ،‬فال يكا ُد‬ ‫ير ْد‪َّ ،‬‬
‫ولم يوقفهم على مصلحتِه‬ ‫اهلل به عبا َده ْ‬ ‫ال ما تعبدَ ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬إ َّ‬
‫ومفسدتِه»(‪.)3‬‬
‫حيث يقول‪:‬‬ ‫العقل بالشر ِع ُ‬ ‫َ‬ ‫آخر ُ‬
‫يربط‬ ‫ولكنه يف موض ٍع َ‬
‫ِ‬
‫المفاسد‬ ‫ِ‬
‫ودرء‬ ‫جلب المصالحِ‬ ‫ِ‬ ‫ومن تت َّبع مقاصدَ الشر ِع يف‬
‫بأن هذه‬ ‫عرفان َّ‬‫ٌ‬ ‫ذلك اعتقا ٌد أو‬ ‫حصل ل ُه م ْن مجمو ِع َ‬ ‫َ‬
‫يجوز‬‫ُ‬ ‫وأن هذه المفسد َة ال‬ ‫يجوز إهما ُلها‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫المصلح َة ال‬
‫قياس‬ ‫ٌ‬ ‫��ص وال‬ ‫وإن لم يك ْن فيها إجماع وال ن ٌّ‬ ‫قربانُها ْ‬
‫يوجب ذلك»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نفس الشر ِع‬‫هم ِ‬ ‫خاص‪ ،‬فإن َف َ‬ ‫ٌّ‬
‫‪ - 1‬يراجع املرجع ذاته‪.‬‬
‫‪.6 /1‬‬ ‫‪ - 2‬العز بن عبد ال�سالم‪ :‬قواعد الأحكام‬
‫‪ -3‬نف�س املرجع ‪.9 /1‬‬

‫‪100‬‬
‫لمختصر‬ ‫ِ‬ ‫شرحه‬ ‫ِ‬ ‫حينئذ ما ذك��ره الطوفِ ُّي يف‬ ‫ٍ‬ ‫ويتَّجه‬
‫قسموا‬ ‫��ؤالء الذي َن‬ ‫أن ه ِ‬ ‫‪:‬اعلم َّ‬ ‫«قلت‬ ‫ونصه‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الروضة‪ُّ ،‬‬
‫وغير‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ضرورية‬ ‫ٍ‬
‫ومرسلة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وملغاة‬ ‫ٍ‬
‫معتربة‬ ‫المصلح َة إلى‬
‫حكم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫معرفة‬ ‫والطريق إلى‬ ‫ُ‬ ‫ ‑ تعسفوا وتك َّلفوا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ضرورية‬
‫َّ‬
‫ثبت‬ ‫نقول قد َ‬ ‫بأن َ‬ ‫وأقرب‪ ،‬وذلك ْ‬ ‫ُ‬ ‫أعم من هذا‬ ‫المصالحِ ُّ‬
‫بالجملة إجما ًعا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والمفسدة‬ ‫ِ‬
‫للمصلحة‬ ‫مراعا ُة الشر ِع‬
‫ُ‬
‫الفعل ْ‬ ‫ٍ‬
‫حصلناها‪،‬‬ ‫مجرد ًة َّ‬ ‫تضم َن مصلح ًة َّ‬ ‫إن َّ‬ ‫وحينئذ نقول‬
‫تضمن مصلح ًة‬ ‫َّ‬ ‫وإن‬‫تضمن مفسد ًة مجرد ًة نفيناها‪ْ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫وإن‬
‫تحصيل‬ ‫ُ‬ ‫نظرنا‬ ‫استوى فِي ِ‬ ‫فإن َ‬ ‫وجه ومفسد ًة مِن وجه‪ْ ٍ،‬‬ ‫مِن ٍ‬
‫المرجح؛ ْأو خ َّيرنا‬ ‫المفسدة تو َّقفنا على‬ ‫ِ‬ ‫ودفع‬ ‫ِ‬
‫المصلحة‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫يكفي‬ ‫ال ما ِ‬ ‫السرتة إ َّ‬ ‫ِ‬ ‫بينهما‪ ،‬كما َ ِ‬
‫لم يجدْ من ُّ‬ ‫قيل في َمن ْ‬
‫أفحش؟ أو‬ ‫ُ‬ ‫الدبر؛ ألنَّه مكشو ًفا‬ ‫يه فقط‪ْ :‬‬ ‫أحدَ فرج ِ‬
‫هل يسرت َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫المصلحتين‬ ‫ِ‬
‫لتعارض‬ ‫يتخير؛‬ ‫ِ‬
‫القبل الستقباله به القبلةَ؟ أو‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫والمفسدتين؟‬
‫تحصيل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األمرين‪،‬‬ ‫ترجح أحدُ‬ ‫ذلك ْبل َّ‬ ‫يستو َ‬ ‫ِ‬ ‫لم‬ ‫وإن ْ‬
‫العمل بالراجحِ‬ ‫َ‬ ‫ألن‬‫المفسدة فعلناه‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫دفع‬ ‫ِ‬
‫المصلحة ْأو ُ‬
‫كل ما ذكروه يف‬ ‫يتخرج ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫متع ِّين شر ًعا‪.‬وعلى هذه القاعدة َّ‬

‫‪101‬‬
‫تفصيلهم المصلحة»(‪.)1‬‬
‫أكثر صراح ًة يف شرحه لألربعين‬ ‫وق��د ك��ان الطويفُّ َ‬
‫يقول‪« :‬أما المعامالت ونحوها‪ ،‬فالمتبع‬ ‫حيث ُ‬ ‫ُ‬ ‫النووية‪،‬‬
‫الناس كما تقرر‪ .‬فالمصلح ُة وباقِي ِ‬
‫أدلة‬ ‫ِ‬ ‫فيها مصلح ُة‬
‫َّ‬
‫أن يتفقا أو يختلفا‪ .‬فإن اتفقا فبها ونعمت‪...‬‬ ‫الشر ِع إ َّما ْ‬
‫تعذر‬ ‫الجمع فاجمع بينهما‪ ....‬وإن َّ‬ ‫ُ‬ ‫فإن أمك َن‬ ‫وإن اختلفا ْ‬
‫الجمع بينهما ُقدمت المصلح ُة على غيرها؛ لقولهﷺ‪« :‬ال‬ ‫ُ‬
‫الضرر المستلز ِم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خاص يف نفي‬ ‫ضرار»(‪ .)2‬وهو‬ ‫ضرر وال‬
‫ٌّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫هي‬ ‫تقديمه‪ ،‬وألن المصلح َة َ‬ ‫ُ‬ ‫فيجب‬
‫ُ‬ ‫لرعاية المصالحِ‬
‫ِ‬
‫بإثبات األح��ك��ا ِم‪،‬‬ ‫سياسة المك َّلفين‬ ‫ِ‬ ‫المقصود ُة م�� ْن‬
‫التقديم على‬ ‫ِ‬ ‫األدلة كالوسائِل‪ .‬والمقاصدُ واجب ُة‬ ‫ِ‬ ‫وباقِي‬
‫الوسائل»(‪.)3‬‬
‫تنفي‬ ‫األشعرية ‑ التِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫الغزالي‬ ‫ِ‬
‫لمدرسة‬ ‫فبالنسبة‬
‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫متفاوتة‬ ‫ٍ‬
‫بنسب‬ ‫ِ‬
‫الجمهور‬ ‫العقلي وهي مدرس ُة‬ ‫التحسي َن‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫المصلحة‪،‬‬ ‫للتعرف على‬ ‫ِ‬
‫االرتكاز‬ ‫النص نقط َة‬ ‫ُ‬
‫ُّ‬ ‫‑ يكون ُّ‬
‫الشرع باالعتبار شهاد ًة‬ ‫ُ‬ ‫لتشمل ما شهدَ له‬ ‫َ‬ ‫تتسع الدائر ُة‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫‪ -1‬الطويف‪� :‬شرح خمت�صر الرو�ضة ‪.214/3‬‬
‫‪� - 2‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ -3‬جنم الدين الطويف‪ :‬التعيني يف �شرح الآربعني‪� ،‬ص ‪277‬‬

‫‪102‬‬
‫ثم المناسب المالئم‬ ‫المؤثر‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كالمناسب‬ ‫لصيق ًة بالنص‪،‬‬
‫المالئم يف الدرجة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المناسب‬ ‫لتقف يف الحدِّ األع َلى َ‬
‫مع‬ ‫َ‬
‫بعضهم‬ ‫الثالثة‪ ،‬وهو الجنس يف الجنس‪ ،‬والذي يسميه ُ‬
‫تظهر شهاد ٌة مع َّينة‪.‬‬ ‫لم ْ‬ ‫بالغريب‪ ،‬وتتوقف إذا ْ‬
‫حيث لم‬ ‫المصالح المرسلةَ‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لتشمل‬ ‫تتسع الدائر ُة‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬
‫تصرفات الشار ِع‬ ‫جنس ُّ‬ ‫ِ‬ ‫تظهر شهاد ٌة معينةٌ‪ ،‬وتكفى شهاد ُة‬ ‫ْ‬
‫أقوال‬ ‫تشير إليه ُ‬ ‫تكون هناك منافا ٌة للشرعِ‪ ،‬وهذا ما ُ‬ ‫َ‬ ‫دون أن‬ ‫َ‬
‫بعض المالكية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هي المصلح ُة التِي‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫عندَ‬ ‫ِ‬
‫الدائرة‬ ‫فإن نقط َة‬‫َّأما الطويفُّ َّ‬
‫ِ‬
‫النفعية‬ ‫ِ‬
‫العقلية‬ ‫ِ‬
‫المصلحة‬ ‫ِ‬
‫معيار‬ ‫حسب‬ ‫تتدرج يف االتسا ِع‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫فتصبح‬‫ُ‬ ‫أن تتو َّقف أما َمه‪،‬‬ ‫النص‪ ،‬بدال من ْ‬ ‫توقف َّ‬ ‫ُ‬ ‫التِي قدْ‬
‫كانت‬ ‫ْ‬ ‫الملغا ُة معتربةً‪ ،‬خال ًفا لجمهور أهل العلم ‪ْ .‬‬
‫وإن‬
‫توهم شي ًئا من هذا القبيلِ‪ ،‬ككال ِم ِّ‬
‫العز‬ ‫بعضهم قدْ‬ ‫أقوال ِ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫عرض‬ ‫أن ُت َ‬‫إليه‪ ،‬والذي َيرى ْ‬ ‫عبد السال ِم الذي أشرنا ِ‬ ‫بن ِ‬ ‫ِ‬
‫لم ِير ْد‪ .‬ولع َّله يريدُ به‬ ‫الشرع ْ‬‫َ‬ ‫القضايا على العقل كما لو َّ‬
‫أن‬
‫أمر مس َّل ٌم بِه‪.‬‬ ‫التوافق بي َن العق ِل والنق ِل ٌ‬ ‫َ‬ ‫أن‬‫َّ‬
‫ال يزال لهذه القضية ضرب من البزوغ بعد أن خبت‬
‫جذوهتا وكانت شبه محسومة عند أهل السنة من خالل‬
‫‪103‬‬
‫حكما‬
‫ً‬ ‫ضبط المناسب واعتبار التحسين العقلي غير مثمر‬
‫وإن أشار إلى حكمة‪ ،‬يستوى يف ذلك منهم من قال به‬
‫ومن لم يقل به من جهة أخ��رى‪ .‬وقد ظهرت يف ثوب‬
‫حداثي ال يريد التصريح بمراغمة الوحي لكنه يتوكأ على‬
‫المصلحة العقلية أو ما سماه بعضهم بالمقصد الجوهري‬
‫الذي يلغي النصوص والمقاصد األخر(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬من فتنة الت�أويل �إىل فتنة املقا�صد‪� :‬إننا �أمام مدر�سة تقول بالظواهر واملقا�صد‬
‫لكنها ت�سيء يف ا�ستعمال االثنني �أحيا ًنا جمودًا على الظواهر مع قيام احلاجة واقت�ضاء‬
‫التعامل مع املقا�صد و�أحيا ًنا ان�صرا ًفا عن الظواهر مبقا�صد زائفة وغري من�ضبطة‬
‫وجتدون �أمثلة لهذه املدر�سة الالمن�ضبطة‪ .‬فقد دعى بع�ض الباحثني املحدثني �أو‬
‫احلداثيني بتعبري �أدق �أن املقا�صد و�سيلة لإحداث ثورة فقهية ال�ستبدال فقه جديد‬
‫بفقه قدمي عفا عليه الزمان ح�سب دعواهم ومن ه�ؤالء �أركون وال�شرفى ون�صر �أبوزيد‪.‬‬
‫و�إن هذا الكالم يحمل تهاويل وظالل �أ�شواق �إىل �إيجاد ت�شريع جديد ولي�س �إىل جتديد‬
‫�شريعة‪ ،‬فا�ستعذبت ديباجته وا�ستح�سنت حلته دون �أن ت�شتمل على جوهر وجود وحد‬
‫حمدود فك�أنه ليل ي�صيح بجانبيه نهار يف ر�أي الدينوري يف ت�شنيف امل�سامع وت�أنيق‬
‫الأب�صار‪ ،‬فم�شاهد اخليال �شيء وت�شييد بناء العلم على �أ�س�س ثابتة را�سخة ليكون‬
‫�سك ًنا‪ ,‬وغر�س �شجرته يف ب�ستان املعارف لت�ؤتي ثما ًرا �شيء �آخر‪.‬‬
‫�إن هذه الدعوات من باب عري�ض الدعوى ورفع العقرية بال�شكوى و�إن �ساورك �شك �أو‬
‫مفهوما واحدً ا من هذه املفاهيم �أو مبد�أ بك ًرا من هذه‬
‫ً‬ ‫اعرتاك عجب فاطلب من ه�ؤالء‬
‫املبادئ �أو قاعدة فريدة من هذه القواعد‪...‬‬
‫وهي دعوة لركوب مطية املقا�صد للهروب من دميومة مفاهيم ال�شريعة امل�ستنبطة‬
‫من الدالالت اللغوية وجتريدها من املعاين التي فهمها الرعيل الذي تلقى الوحي ومن‬
‫خالل ما �سموه باملق�صد اجلوهري الذي ي�ضفى الن�سبية على كل معنى ليتالئم معه‬
‫ليكون لكل ع�صر �شرعه ولكل زمن �أحكامه دون متييز بني ثابت ومتغري‪.‬‬
‫ونرجو �أال تكون فتنة كفتنة الت�أويل التي و�صفها ابن ر�شد يف كتابه «الك�شف عن مناهج‬
‫الأدلة يف عقائد امللة»‪ ،‬فقال‪« :‬ومثال من �أول �شي ًئا وزعم �أن ما �أوله هو ما ق�صد ال�شرع‪،‬‬
‫مثال من �أتى �إىل دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ‬ ‫و�صرح بذلك الت�أويل للجمهور‪ُ ،‬‬

‫‪104‬‬
‫َ‬
‫ولعل المقاصدَ الشرعي َة الثالث َة الضروري والحاجي‬
‫والتحسني التي يرجع تقسيمها إلى قضاء النقل وهو‬
‫الحكم ال��ذي ال يعزل‪ ،‬ولشهادة العقل وه��و الشاهد‬

‫�صحة جميع النا�س �أو الأكرث‪ ،‬فجاء رجل فلم يالئمه ذلك الدواء املركب الأعظم‪،‬‬
‫لرداءة مزاج كان به لي�س يعر�ض �إال للأقل من النا�س‪ ،‬فزعم �أن بع�ض تلك الأدوية‬
‫التي �صرح با�سمه الطبيب الأول يف ذلك الدواء‪ ،‬العام املنفعة‪ ،‬املركب‪ ،‬مل ُيرد به‬
‫ذلك الدواء الذي جرت العادة يف الل�سان �أن يدل بذلك اال�سم عليه‪ ،‬و�إمنا �أريد به‬
‫دواء �آخر مما ميكن �أن يدل عليه بذلك با�ستعارة بعيدة‪ .‬ف�أزال ذلك الدواء الأول من‬
‫ذلك املركب الأعظم وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن �أنه الذي ق�صده الطبيب‪ .‬وقال‬
‫للنا�س‪ :‬هذا هو الذي ق�صده الطبيب الأول‪ .‬فا�ستعمل النا�س ذلك الدواء املركب على‬
‫الوجه الذي ت�أوله عليه هذا املت�أول فف�سدت به �أمزجة كثري من النا�س‪.‬‬
‫فجاء �آخرون �شعروا بف�ساد �أمزجة النا�س عن ذلك الدواء املركب‪ ،‬فراموا �إ�صالحه‬
‫ب�أن �أبدلوا بع�ض �أدويته بدواء �آخر غري الدواء الأول‪ ،‬فعر�ض من ذلك للنا�س نوع من‬
‫املر�ض غري الأول النوع الأول‪.‬‬
‫فجاء ثالث فت�أول يف �أدوية ذلك املركب‪ ،‬غري الت�أويل الأول والثاين‪ ،‬فعر�ض للنا�س من‬
‫ذلك نوع ثالث من املر�ض غري النوعني املتقدمني‪.‬‬
‫فجاء ُمت�أ ِّول رابع فت�أول دواء �آخر غري الأدوية املتقدمة‪ ،‬فعر�ض منه للنا�س نوع رابع من‬
‫املر�ض غري الأمرا�ض املتقدمة‪.‬‬
‫فلما طال الزمان بهذا املركب الأعظم و�سلط النا�س الت�أويل على �أدويته‪ ،‬وغيرَّ وها‬
‫وبدلوها‪ ،‬عر�ض منه للنا�س �أمرا�ض �شتى‪ ،‬حتى ف�سدت املنفعة املق�صودة بذلك الدواء‬
‫املركب يف حق �أكرث النا�س‪.‬‬
‫وهذه هي حال هذه الفرق احلادثة يف هذه ال�شريعة مع ال�شريعة‪ .‬وذلك �أن كل فرقة‬
‫منهم ت�أولت يف ال�شريعة ت�أويلاً غري الت�أويل الذي ت�أولته الفرقة الأخرى وزعمت �أنه‬
‫الذي ق�صده �صاحب ال�شرع‪ ،‬حتى متزق ال�شرع كل ممزق‪ ،‬وبعد جدً ا عن مو�ضعه‬
‫الأول»‪(.‬الك�شف عن مناهج الأدلة �ص ‪)149‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهذا الكالم ال ينبغي �أن يف�سر على �أنه ميثل رف�ضا باتا من ابن ر�شد احلفيد يو�صد يف‬
‫وجه الت�أويل الباب وي�سدل دون امل�ؤول احلجاب‪ ،‬ف�إن البن ر�شد يف «ف�صل املقال» كالما‬
‫�أن�صف فيه الت�أويل و�أعطاه حقه‪ ،‬و�أهمل الظاهر يف بع�ضه ومنحه م�ستحقه‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫ِ‬
‫ومقتضيات‬ ‫لمطالب العق ِل‬ ‫ِ‬ ‫ال��م��ع��دل‪ ،‬تم ِّثل سق ًفا‬
‫مصالح الدُّ نيا‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تربط‬ ‫المئاالت التِي‬
‫ِ‬ ‫النظر إلى‬‫ِ‬ ‫مع‬
‫النقلِ‪َ ،‬‬
‫اآلخرة‪ .‬مع مراعاة مقصد االستخالف الرشيد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعواقب‬
‫واالستعمار السديد والعدل العتيد التي يمكن أن ترتجم‬
‫إلى الحكم الرشيد وحسن إدارة الموارد والعدالة يف‬
‫التوزيع ويف الحكم‪ ،‬مع إدماج القيم األخالقية يف طيات‬
‫األسس التي تقوم عليها تلك العمارة المشار إلى مفرداهتا‬
‫على ضوء المقاصد الكلية والجزئية والعامة والخاصة‪،‬‬
‫لتشكل يف الشريعة منظومة كاملة كفيلة برعاية معتربات‬
‫المصالح ومجتنبات المفاسد‪.‬‬
‫ِ‬
‫معقولية المعنَى‬ ‫بين‬ ‫ِ‬
‫دوران الشريعة َ‬ ‫ُ‬ ‫• القضية الثانية‪:‬‬
‫والتع ُّبد ‪:‬‬
‫واتضحت‬
‫ْ‬ ‫بمعقول المعنَى ما ُعرفت حكمتُه‬ ‫ِ‬ ‫ومرا ُدنا‬
‫يعقل معناه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لم‬ ‫للعقول ع َّلته‪ .‬ويقابله‬‫ِ‬
‫التعبدي ال��ذي ْ‬‫ُّ‬
‫رشد الحفيد‪.‬‬ ‫ابن ٍ‬ ‫ِ‬
‫عبارة ِ‬ ‫النفوس‪ ،‬حسب‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تزكية‬ ‫ويرجع إلى‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫التعبديات‪ ،‬فنح ُن‬ ‫ِ‬
‫الحكمة يف‬ ‫ذلك انعدا َم‬ ‫وليس معنَى َ‬ ‫َ‬
‫مصالح العباد فيها مبثوثة والمنائح موهوبة؛‬ ‫ِ‬ ‫نجز ُم َّ‬
‫أن‬
‫َ‬
‫ولكن عين البصيرة قد تنبو يف دار الدنيا التي ُيسدل‬

‫‪106‬‬
‫الحجاب على أهلها حتى يكشف الغطاء ويربح الخفاء‬ ‫ُ‬
‫يف دار الخلود والبقاء‪.‬‬
‫فإذا كانت األبصار ال ترى الكوكب الدري يف األفق‬
‫القصي فليس عن كسوف ضيائه أو خمود سنائه‪ ،‬وإنما‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫معرة النعمان يف‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ذلك من َك َلل األعيان‪،‬‬
‫أديب َّ‬ ‫ُ‬ ‫وصدق‬
‫قولِه‪:‬‬
‫ِ‬
‫والن ّْج ُم ت َْست َْصغ ُر األَ ْب َص ُار ُص َ‬
‫ـــــورتَه‬
‫الص َغرِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْب لل َّط ْرف ال للن َّْج ِم في ِّ‬ ‫َّ‬
‫والذن ُ‬
‫وأخذ هذا المعنَى منه القاضي الرشيدُ ب ُن الزبير حيث‬ ‫َ‬
‫يقول‪:‬‬
‫يمتِ َهــــا ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـــــــاري وق َ‬ ‫ْـــــــر َر َّن بِ َأ ْط َـم‬
‫ال ُتغ َ‬
‫اف عـــــــــَلى الــدُّ َر ِر‬ ‫َفإن ََّما ِه َّي َأ ْصـــدَ ُ‬
‫ـــــن ِص َغرِ‬ ‫ِ‬
‫وال َت ُظ َّن َخفــــــَا َء النَّجــــــْ ِم م ْ‬
‫ول َعلى ال َب َصرِ‬ ‫اك َم ْح ُم ٌ‬ ‫ْب فِي َذ َ‬ ‫َّ‬
‫فالذن ُ‬
‫وي��ذك ُ��ر اب�� ُن حلولو يف الضياء الالمع ناس ًبا لإلمام‬
‫بكلي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الفهري‪َّ :‬‬
‫التعبدي ال يلزم فيه تعليل بجزئي‪ ،‬بل ٍّ‬
‫َّ‬ ‫«أن‬
‫كلي‬
‫كالعبادات البدن َّية فإنُّه إنَّما ُيعقل من شرعها معنى ٌّ‬
‫ِ‬
‫االنقياد‪ ،‬ويتضم ُن تجديدَ‬ ‫ِ‬
‫العباد على شر ِع‬ ‫مرور‬ ‫وهو‬
‫ُ‬
‫‪107‬‬
‫ِ‬
‫واالنقياد‬ ‫��ان‪ ،‬وتح ُّق َق االستسال ِم‬ ‫بعقود اإلي��م ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العهد‬
‫والنواهي‪ ،‬وهو سر مداومة األوراد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األوام��ر‬ ‫ِ‬
‫بمطاوعة‬
‫ٰ‬ ‫ۡ ُ َ ٓ ُ يِ َ يَ ۡ َ َ ۡ َ‬
‫ب‬ ‫ِت ٓ ِ‬ ‫واألذكار‪ .‬قال اهلل تعالى‪﴿:‬ٱتل ما أوح إِلك مِن ٱلك‬ ‫َ‬
‫َۡ ۡ َ‬ ‫ٱلصل ٰوةَ َت ۡن ىَ ٰ‬
‫َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ‬
‫ه َع ِن ٱلفحشاءِ‬ ‫ٱلصل ٰوةَ ۖ إِن‬ ‫َوأق ِ�� ِم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ ُ َ َ ذَ ۡ ُ هَّ َ ۡ رَ ُ َ هَّ ُ َ‬
‫ٱلل َي ۡعل ُم َما ت ۡص َن ُعون﴾‬ ‫وٱلمنك ِرۗ ولِكر ٱللِ أكب ۗ و‬
‫(العنكبوت‪.)45:‬‬
‫ُ‬
‫«المنقذ‬ ‫ِ‬
‫كتابه‬ ‫الغزالي يف‬ ‫وهو كال ٌم نفيس‪ ،‬وأشار إليه‬
‫ّ‬
‫أن عد َد‬ ‫ات‪ ،‬عندما َّقر َر َّ‬ ‫الضالل» يف كالمه عن التعبدي ِ‬ ‫ِ‬ ‫مِن‬
‫َّ‬
‫الظهر أرب ًعا والعصر أرب ًعا‬ ‫ِ‬ ‫الصلوات‪ ،‬فِي‬
‫ِ‬ ‫الركعات فِي‬
‫ِ‬
‫والمغرب ثال ًثا والعشاء أرب ًعا والفجر ركعتين؛ معنًى غير‬
‫ِ‬ ‫التناسب بين ِ‬
‫الركعات‬ ‫عدد‬ ‫ِ َ‬ ‫يشير إ َلى‬
‫مدرك للناس‪ .‬وكأنه ُ‬
‫النبوة»‪ .‬وهو‬ ‫ال ِ‬ ‫«إن هذا ال ُيرى إ َّ‬ ‫واألوقات قائلاً ‪َّ :‬‬ ‫ِ‬
‫بعين َّ‬
‫ِ‬
‫الحكمة الخف َّية‪.‬‬ ‫يشير إ َلى‬ ‫ُ‬
‫الشاطبي َّفرق بين العاديات كما سماها والعبادات‬ ‫إال َّ‬
‫أن‬
‫َّ‬
‫يستتب هذان الوجهان يف‬ ‫ُّ‬ ‫حيث يقول‪« :‬فإن قيل‪ :‬هل‬
‫جميع األحكام العاد َّية والعباد َّية أم ال؟‬
‫أن قصد المس َّببات الز ُم‬ ‫فإن الذي يظهر لبادئ الرأي َّ‬ ‫َّ‬
‫يف ال��ع��اديَّ��ات‪ ،‬لظهور وج��وه المصالح فيها‪ ،‬بخالف‬

‫‪108‬‬
‫العبادات؛ فإهنا مبن َّي ٌة على عدم معقول َّية المعنى؛ فهنالك‬
‫تتب عد ُم االلتفات إلى المس َّببات؛ ألن المعاينَ المع َّل َل‬ ‫َي ْس ُّ‬
‫المفاسد‪ ،‬وهي‬‫ِ‬ ‫جنس المصالحِ فيها أو‬ ‫ِ‬ ‫هبا راجع ٌة إلى‬
‫وغير ظاهرة يف العباد َّيات‪ ،‬وإذا كان‬ ‫ُ‬ ‫ظاهرة يف العاد ّيات‪،‬‬
‫فااللتفات إلى المس َّببات والقصدُ إليها معتربٌ يف‬ ‫ُ‬ ‫كذلك؛‬
‫العاديات‪ ،‬وال سيما يف المجتهد؛ فإن المجتهد إنما يتَّسع‬
‫ِ‬
‫وااللتفات إليها‪ ،‬ولوال ذلك‬ ‫مجال اجتهاده بإجراء العل ِل‬ ‫ُ‬
‫بنص‬‫ال ٍّ‬ ‫فق المصالحِ إ َّ‬ ‫يستقم له إجرا ُء األحكام على َو ِ‬ ‫ْ‬ ‫لم‬
‫فيبطل القياس‪ ،‬وذلك غير صحيح ‪ .‬فال بدَّ من‬ ‫ُ‬ ‫أو إجماع‪،‬‬
‫االلتفات إلى المعاين التي ُش ِرعت لها األحكام والمعاين‬
‫بات األحكام ‪.‬‬ ‫هي ُمس َّب ُ‬
‫الغالب عليها َف ْقدَ ظهور‬ ‫ُ‬ ‫أما العباد َّيات‪ ،‬فلما كان‬
‫والرجوع إلى مقتضى النصوص‬ ‫َ‬ ‫المعاين الخاصة هبا‪،‬‬
‫أج َرى على مقصود الشارع فيها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فيها؛ كان ُ‬
‫ترك االلتفات ْ‬
‫أن ال‬ ‫واألم��ران بالنسبة إلى المق ِّلد سوا ٌء يف َّ‬
‫أن ح َّقه ْ‬
‫يلتفت إلى المس َّببات؛ إال فيما كان من ُمدْ َركاته ومعلوماته‬ ‫َ‬
‫التصرفات الشرعية» (‪.)1‬‬ ‫َّ‬ ‫العادية يف‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪.319 /1‬‬

‫‪109‬‬
‫وقال الشاطبي‪« :‬فإن قيل‪ :‬قصدُ الشارع إلى المس َّببات‬
‫القصد من المك َّلف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫دليل على أهنا مطلوب ُة‬ ‫والتفا ُته إليها ٌ‬
‫ف‬ ‫قصد المك َّل ِ‬
‫ِ‬ ‫فليس المرا ُد بالتكليف إال مطابق ُة‬ ‫و إ َّ‬
‫ال‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫التكليف كما تب َّين يف‬ ‫ُ‬ ‫يصح‬‫لقصد الشارع؛ إ ْذ لو خالفه لم ّ‬
‫صح‪ ،‬فإذا فرضنا هذا‬ ‫موضعه من هذا الكتاب‪ ،‬فإذا طاب َقه َّ‬
‫ٍ‬
‫قاصد للمس َّببات‪ ،‬وقد فرضناها مقصود ًة‬ ‫المك َّلف َ‬
‫غير‬
‫تكليف قد خالف‬ ‫ٍ‬ ‫للشارع؛ كان بذلك مخال ًفا له‪ ،‬وكل‬
‫القصدُ فيه قصدَ الشارع فباطل كما تب َّين؛ فهذا كذلك» (‪.)1‬‬
‫ويقول الشاطبي‪« :‬والقاعد ُة المستمر ُة يف أمثال هذه‬
‫التفرقة بين العبادات والمعامالت‪ :‬فما كان من العبادات‬
‫ألن‬ ‫تظهر المالئمة؛ َّ‬ ‫دون ْ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫المنافاة َ‬ ‫ال ُيكتفى فيه بعد ِم‬
‫َ‬
‫واألصل‬ ‫ُ‬ ‫االلتفات إلى المعاين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األصل فيها التع ّبد َ‬
‫دون‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أن ال يقدَ م عليها إال ٍ‬
‫للعقول يف‬ ‫مجال‬ ‫بإذن؛ إذ ال‬ ‫فيها ْ ُ‬
‫فكذلك ما يتع َّلق هبا مِن الشروط ‪ .‬وما‬ ‫َ‬ ‫اخرتا ِع التع ُّبدات؛‬
‫األصل‬ ‫َ‬ ‫كان مِن العاديات ُيكتفى فيه بعدم المنافاة؛ َّ‬
‫ألن‬
‫ُ‬
‫اإلذن‬ ‫االلتفات إلى المعاين دون التع ُّبد‪ ،‬واألصل فيها‬ ‫ُ‬ ‫فيها‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪.316 /1‬‬

‫‪110‬‬
‫ليل على خالفه‪ .‬واهلل أعلم»(‪.)1‬‬ ‫يدل الدَّ ُ‬
‫حتَّى َّ‬
‫أيضا‪« :‬حكمة التعبد العامة االنقياد‬ ‫وقال الشاطبي ً‬
‫ألوامر اهلل تعالى وإف��راده بالخضوع‪ ،‬والتعظيم لجالله‬
‫والتوجه إليه»(‪.)2‬‬
‫وقد كان أبو حامد الغزالي رائدً ا يف مسألة الفرق بين‬
‫التعبديات والعاديات يف كتابيه «شفاء الغليل» و«المنقذ‬
‫من الضالل» حيث يقول عن مسألة االلتفات إلى المعاين‬
‫إن ذلك يف العاديات لغلبة التعليل وبالعكس من ذلك‬
‫فإن التحكم يف التعبديات هو الغالب‪ .‬وهذه شذرات من‬
‫«فإن قيل من تصرفات الشرع ما لم يعقل‬ ‫«شفاء الغليل»‪ْ :‬‬
‫معناه‪ ،‬ولم يطلع عليه‪ ،‬فيحتمل أن يكون هذا التصرف من‬
‫جملته؛ ويكون المناسب قد اقرتن به وفا ًقا غير مقصود‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬هذا كالم من ينكر أصل القياس؛ َّ‬
‫فإن هذا السؤال‬
‫يتطرق إلى المالئم‪ ،‬فلعله وقع وفا ًقا وملحوظ الشرع‬
‫خفي لم يطلع عليه‪ ،‬أو هو تحكم ال سبب‬ ‫ٌّ‬ ‫معنى آخر‬
‫له‪ ،‬وقد عضدوا هذا بأن قالوا‪ :‬عرف من الشارع َّ‬
‫أن‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪.440 /1‬‬


‫‪ -2‬نف�س املرجع ‪.301 /2‬‬

‫‪111‬‬
‫سوى بين‬‫من تصرفاته تحكمات ال تعقل معانيها؛ إذ َّ‬
‫مختلفات‪ ،‬وفرق بين متماثالت؛ كحكمه بجواز النظر‬
‫إلى شعر األمة‪ ،‬وتحريم النظر إلى شعر الحرة‪ ،‬ولو لم‬
‫ينص على تجويز النظر إلى شعر األم��ة لقال الفقهاء‪:‬‬
‫األمة يف معنى الحرة‪ ،‬والمعنى المقتضى للتحريم‪ :‬خوف‬
‫الفتنة‪ ،‬وهما سيان‪.‬‬
‫وق��ال بغسل الثوب من ب��ول الصبية‪ ،‬وب��رش الماء‬
‫على بول الغالم‪ ،‬ولو ذكر أحدهما واقتصر عليه أللحق‬
‫القائسون الجانب اآلخر به‪ .‬إلى أمثال لذلك ضربوها‪،‬‬
‫وهو وارد على جميع القائسين‪.‬‬
‫أن ذلك يجري من تصرفات الشرع‬ ‫ووجه االنفصال؛ َّ‬
‫مجرى الشاذ النادر‪ ،‬والغالب من عادته يف التصرفات‬
‫اتباع المعاين؛ والواقعة النادرة ال تقطع الغالب المستفاد‬
‫ُ‬
‫من العادة المتكررة»(‪.)3‬‬
‫وق��ال الغزالي أيضا‪« :‬قلنا‪ :‬ما يتعلق من األحكام‬
‫بمصالح الخلق‪ :‬المناكحات والمعامالت والجنايات‬
‫والضمانات؛ وما عدا العبادات فالتحكم فيها نادر؛ وأما‬
‫‪ -3‬الغزايل‪� ،‬شفاء العليل‪� ،‬ص ‪ ،200‬حتقيق �أحمد الكبي�سى‪ ،‬مطبعة الإر�شاد بغداد‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫العبادات والمقدرات‪ ،‬فالتحكمات فيها غالبة‪ ،‬واتباع‬
‫المعنى نادر‪.‬‬
‫ال جرم رأى الشافعي الكف عن القياس يف العبادات‬
‫إال إذا ظهر المعنى ظهورا ال يبقى معه ريب؛ ولذلك لم‬
‫يقس على التكبير والتسيلم والفاتحة والركوع والسجود‬
‫غيرها؛ بل لم يقس على الماء يف الطهارات غيره‪ ،‬ولم‬
‫يقس األب��دال والقيم يف الزكوات على المنصوصات‪،‬‬
‫ولم يقس يف مسألة األصناف‪ .‬ومال يف جميع مسائلها إلى‬
‫الكف عن القياس ورعاية االحتياط‪ ،‬ألن مبنى العبادات‬
‫على االحتكامات‪ ،‬ونعنى باالحتكام‪ :‬ما خفي علينا‬
‫وجه اللطف فيه؛ ألنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين‪،‬‬
‫والمغرب بثالث والعصر بأربع س ً��را‪ ،‬وفيه نوع لطف‬
‫وصالح للخلق استأثر اهلل سبحانه وتعالى بعلمه‪ ،‬ولم‬
‫نطلع عليه‪ .‬فلم نستعمله واتبعنا فيه الموارد‪.‬‬
‫ولسنا نقول ذلك ألنا نرى رعاية الصالح واجبًا على‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬ولكنا عرفنا من أدلة الشرع َّ‬
‫أن اهلل تعالى ‪-‬‬
‫ببعثه الرسل وتمهيد بساط الشرع ‪ -‬أراد صالح أمر‬
‫الخلق يف دينهم ودنياهم؛ واهلل سبحانه وتعالى منزه عن‬
‫‪113‬‬
‫التأثر باألغراض‪ ،‬والتغير بالدواعي والصوارف‪ ،‬ولكنها‬
‫شرعت لمصالح الخلق‪ ،‬نعقل ذلك من الشرع ال من‬
‫العقل‪ ،‬كيال يظن بنا ظان استمدادنا – يف هذه التصرفات‬
‫‪ -‬من معتقدات أرباب الضالل‪ ،‬وطبقات االعتزال»(‪.)1‬‬
‫وحكما‬
‫ً‬ ‫قلت‪ :‬وهذا ال ينايف وجود مقاصد للتعبديات‬
‫بواكير كتب المقاصد تتَّجه لبياهنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يف العباديات‪ ،‬كانت‬
‫ككتاب الحكيم الرتمذي المتوىف سنة ‪ 320‬هـ «الصالة‬
‫ومقاصدها»‪،‬وكتاب أب��ي زي��د البلخي يف بيان وجوه‬
‫الحكمة يف األوامر والنواهي الشرعية‪ ،‬وسماه «اإلبانة يف‬
‫علل الديانة»(‪.)2‬‬
‫ِ‬
‫السنن للخ َّطابي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كمعالم‬ ‫ات بغيرها‪،‬‬‫وقد تمتزج التعبد َّي ُ‬
‫أخذ القاضي أبو‬ ‫ومحاسن الشريعة للق َّفال الشاشي ‪ .‬وقدْ َ‬
‫تعرضه للمقاصد يف العبادات‪،‬‬ ‫بكر بن العربي على الق َّفال ُّ‬
‫الحال بالشيخِ المع َّظم أبي بكر‬‫ُ‬ ‫انتهت‬
‫ْ‬ ‫قائال‪« :‬ولقد‬
‫أن ي ْطرد ذلك ‪ -‬أي‪ :‬مراعاة المقاصد‬ ‫الشاشي الق َّفال إلى ْ‬
‫كبيرا‬
‫أبواب العبادات‪ ،‬وصنف يف ذلك كتا ًبا ً‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬حتَّى يف‬
‫‪ - 1‬الغزايل‪� :‬شفاء الغليل �ص ‪204‬‬
‫‪� - 2‬أبو زيد �أحمد بن �سهل البلخي املتوفى ‪ 322‬والكتاب ذكره ظهري الدين البيهقي يف‬
‫كتابه «تاريخ حكماء الإ�سالم» �ص ‪54‬‬

‫‪114‬‬
‫أسماه محاس َن الشريعة»(‪.)1‬‬
‫وقد افتتح العالمة ولي اهللِ الدهلوي كتابه «حجة اهللِ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫البالغة» بسرد أمثلة كثيرة من الحكم والغايات األخروية‬
‫ِ‬
‫والزكاة والصو ِم‬ ‫ِ‬
‫كالصالة‬ ‫والدنيوية‪ ،‬لمختلف الطاعات‪،‬‬
‫ِ‬
‫الطاعات مشتمل ٌة على‬ ‫َ‬
‫تفاصيل هذه‬ ‫وكذلك َّ‬
‫فإن‬ ‫َ‬ ‫والحج‪،‬‬
‫ِّ‬
‫الحكم والمقاصدِ‬ ‫فيض من ِ‬ ‫ِ‬
‫الحكم‪ .‬ويف تضاعيف هذا ٌ‬ ‫ِ‬
‫منثور يف مختلف أب��واب الفقه‪ ،‬كقوله يف تعليل جواز‬ ‫ٌ‬
‫ألن به المعرفةَ‪ ،‬وبروز اليدين ألنه‬ ‫ظهور وجه المرأة‪َّ :‬‬
‫هبما يبطش‪.‬‬
‫غير‬
‫ولكن المعنى المرا َد من قولهم «إن التعبديات ُ‬
‫مع َّللة»؛ أهنا ليست معلل ًة يف أصولها تعليلاً ُينتج ً‬
‫قياسا يف‬
‫ِ‬
‫التعبديات‬ ‫يدخل يف العادات َ‬
‫دون‬ ‫ُ‬ ‫القياس‬ ‫الغالب‪ ،‬وأن‬
‫َ‬
‫معقولة المعنَى‪ ،‬مع الجزم بوجود الحكمة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫غير‬
‫وقولنا‪ :‬يف أصولها‪ ،‬اح�ت�راز ًا من فروعها التي يقع‬
‫التقايس بينها‪.‬‬
‫لقد انبنى على نفي التعليل يف التعبدي نتيجتان‪:‬‬
‫النتيجة األول��ى‪ :‬امتناع القياس الجزئي المستند إلى‬
‫‪ - 1‬ابن العربي‪ :‬القب�س ‪.802 /2‬‬

‫‪115‬‬
‫العلة ما لم تكن منصوصة أو مفهومة من النص باإليماء‪.‬‬
‫ونحن هنا نستعمل هذا المصطلح يف مقابل االستصالح‬
‫الذي هو نوع من القياس الكلي‪.‬‬
‫وقيد االستناد إلى العلة يحرتز من قياس الشبه لدى من‬
‫يقول به‪ ،‬فهو يجرى يف التعبديات كقيس الوضوء على‬
‫التيمم يف وجوب النية دون أن يكون الحكم معللاً ‪.‬‬
‫وهذه النتيجة األولى لم يوافق عليها األحناف الذين‬
‫قاسوا بتنقيح المناط من خالل إلغاء الفارق بين األعيان‬
‫التي نص عليها الشارع يف الكفارات والزكوات وبين‬
‫األبدال والقيم فسووا بينها يف اإلجزاء عن المكلف باعتبار‬
‫أن نفع الفقير هبذا القدر من المال هو مقصود الشارع الذي‬‫َّ‬
‫أناط الحكم به‪ ،‬وقد نبه الشاطبي على ذلك حيث يقول‪:‬‬
‫«وقد يمكن أن تراعى المعاين يف باب العبادات وقد ظهر‬
‫منه شيء فيجرى الباقي عليه وهي طريقة الحنفية‪.»...‬‬
‫أما النتيجة الثانية‪ :‬فهي َّ‬
‫أن العبادات لكوهنا غير قابلة‬
‫للتعليل فال يزاد فيها وال ينقص كما أشار إليه الشاطبي‬
‫يف كالمه المذكور آنفا‪« :‬إذ ال مجال للعقول يف اخرتاع‬
‫وضوحا يف الجزء الثالث وهو يفرق‬
‫ً‬ ‫التعبدات»‪ .‬وقد زاده‬

‫‪116‬‬
‫بين العبادات والعاديات بأن األول��ى «فهم من قصده‬
‫(الشارع) الوقوف عندما حد هنالك ال الزيادة عليه وال‬
‫النقصان»‪.1‬‬
‫• القضية الثالثة‪ :‬التجاذب بين الكلي والجزئي ‪:‬‬
‫وهذه استشهادات من الشاطبي إذ يقول‪« :‬وإذا كان‬
‫كذلك‪ ،‬وكانت الجزئيات وهي أص��ول الشريعة؛ فما‬
‫تحتها مستمدَّ ة من تلك األصول الكلية‪ ،‬شأن الجزئيات‬
‫م��ع كلياهتا يف ك��ل ن��وع م��ن أن���واع ال��م��وج��ودات؛ فمن‬
‫الواجب اعتبار تلك الجزئيات هبذه الكليات عند إجراء‬
‫األدلة الخاصة من الكتاب والسنة واإلجماع والقياس؛ إذ‬
‫محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياهتا‪ ،‬فمن أخذ‬
‫معرضا عن كليه فقد أخطأ‪ .‬وكما َّ‬
‫أن‬ ‫ً‬ ‫بنص مثلاً يف جزئي‬
‫عرضا عن كليه؛ فهو مخطئ‪ ،‬كذلك‬ ‫أخذ بالجزئي ُم ً‬‫م ْن َ‬
‫معرضا عن جزئ ِّيه‪.‬‬
‫ً‬ ‫من أخذ بالكلي‬
‫وبيان ذلك أن تل ِّق َي العلم الكلي إنما هو من َع ْرض‬ ‫ُ‬
‫ال فالكلي من حيث هو كلي‬ ‫الجزئيات واستقرائها؛ وإ َّ‬
‫‪ -1‬يراجع يف هذا الكتاب عند كالمه عن اجلهات التي تعرف بها املقا�صد‪ ،‬وقد اعترب‬
‫ال�شاطبي �أنَّ كل زيادة ب�إطالق �أو خمالفة يف هيئة �أو مقدار ي�سمى بدعة قبيحة‪ ،‬يراجع‬
‫تعليقنا عليه‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات‪ ،‬وألنه ليس بموجود‬
‫مضم ٌن يف الجزئيات حسبما تقرر‬ ‫َّ‬ ‫يف الخارج‪ ،‬وإنما هو‬
‫يف المعقوالت؛ فإ ًذا الوقوف مع الكلي مع اإلعراض عن‬
‫شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم‬ ‫ٍ‬ ‫وقوف مع‬
‫ٌ‬ ‫الجزئي‬
‫والجزئي هو مظهر العلم به‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫بالجزئي‪،‬‬
‫وأيضا؛ فإن الجزئي لم يوضع جزئ ًّيا؛ إال لكون الكلي‬ ‫ً‬
‫فيه على التمام وبه قوامه‪ ،‬فاإلعراض عن الجزئي من‬
‫حيث هو جزئي إع��راض عن الكلي نفسه يف الحقيقة‪،‬‬
‫وذلك تناقض‪ ،‬وألن اإلعراض عن الجزئي جملة يؤدي‬
‫إلى الشك يف الكلي من جهة أن اإلعراض عنه إنما يكون‬
‫عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له‪ ،‬وإذا خالف‬
‫دل على َّ‬
‫أن‬ ‫الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي؛ َّ‬
‫ذلك الكلي لم يتحقق العلم به إلمكان أن يتضمن ذلك‬
‫الجزئي جز ًءا من الكلي لم يأخذه المعترب جز ًءا منه‪ ،‬وإذا‬
‫أمكن هذا؛ لم يكن بدٌّ من الرجوع إلى الجزئي يف معرفة‬
‫الكلي ال يعترب بإطالقه دون‬ ‫ودل ذلك على َّ‬
‫أن‬ ‫الكلي‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫اعتبار الجزئي‪ ،‬وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة‬
‫على قصد الشارع؛ ألن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى‬

‫‪118‬‬
‫أيضا؛ فال بد من اعتبارهما م ًعا يف‬ ‫ذلك‪ ،‬والجزئي كذلك ً‬
‫كل مسألة‪.‬‬
‫فإذا ثبت باالستقراء قاعدة كلية‪ ،‬ثم أتى النص على‬
‫جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فال‬
‫بد من الجمع يف النظر بينهما؛ ألن الشارع لم ينص على‬
‫ذلك الجزئي إال مع الحفاظ على تلك القواعد؛ إذ كلي ُة‬
‫هذا معلوم ٌة ضرور ًة بعد اإلحاطة بمقاصد الشريعة؛ فال‬
‫يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتربه‬
‫الشارع‪ ،‬وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعترب الكلي ويلغى‬
‫الجزئي»(‪.)1‬‬
‫قرر هنا أهمي َة الجزئي‪ ،‬فإنه َي ُك ُّر يف‬ ‫لكن الشاطبي وهو ُي ُ‬
‫حكم‬ ‫ِ‬
‫النقض حيث َي ُ‬ ‫القاعدة بما ُيشبه َ‬ ‫مكان آخر على هذه‬
‫الكلي ُمحافظ ًة على النظام‬ ‫ِ‬
‫بالتقهقر أما َم‬ ‫الجزئي‬
‫على ُ‬
‫ِّ‬
‫قائلاً ‪« :‬والقاعدة المقررة يف موضعها أنه إذا تعارض‬
‫زئي يقتضي‬ ‫وأمر ُجزئي؛ فال ُكلي مقدَّ م َّ‬
‫الج َّ‬
‫ألن ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُلي ُ‬ ‫أمر ك ٌّ‬
‫ٌ‬
‫والكلي يقتضي مصلحة كلية‪ ،‬وال ينخرم‬ ‫َّ‬ ‫مصلح ًة جزئية‪،‬‬
‫نظا ُم يف العالم بانخرام المصلحة الجزئية‪ ،‬بخالف ما‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪176 - 171/ 3‬‬

‫‪119‬‬
‫فإن المصلحة الكلية‬‫إذا قدّ م اعتبار المصلحة الجزئية؛ َّ‬
‫ينخرم نظام ك ِّليتها‪ ،‬فمسألتنا كذلك؛ إ ْذ قد ُعلم َّ‬
‫أن العزيمة‬
‫كلي ثابت عليه‪ ،‬والرخصة إنما‬ ‫أمر‬ ‫ٍ‬
‫مكلف‬ ‫بالنسبة إلى كل‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫أن تكون جزئية‪ ،‬وحيث يتحقق الموجب‪،‬‬ ‫مشروعيتها ْ‬
‫كل صورة ُتفرض إال‬ ‫وما فرضنا الكال َم فيه ال يتحقق يف ِّ‬
‫لي ينازعه؛ فال ُينجى من طلب الخروج‬ ‫ُ‬
‫والمعارض الك ُّ‬
‫لي وهو العزيمة(‪.)1‬‬ ‫ُ‬
‫عن ال ُعهدة إال الرجوع إلى الك ّ‬
‫ويقول القرايف‪« :‬ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات‬
‫الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع‬
‫واختلفت وتزلزت خواطره فيها واضطربت‪ ،‬وضاقت‬
‫نفسه لذلك وقنطت‪ ،‬واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي‬
‫ال تتناهى‪ ،‬وانتهى العمر ول��م تقض نفسه من طلب‬
‫مناها‪ ،‬ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر‬
‫الجزئيات الندراجها يف الكليات‪ ،‬واتحد عنده ما تناقض‬
‫عند غيره وتناسب‪ ،‬وأجاب الشاسع البعيد وتقارب»(‪.)2‬‬
‫والقول الفصل يف هذا أنه ال الكلي يقدم بإطالق وال‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات ‪.498 /1‬‬


‫‪ -2‬القرايف‪ :‬الفروق ‪.3 /1‬‬

‫‪120‬‬
‫الجزئي كذلك‪ ،‬وكما يقول باسكال‪«:‬ال يمكنني تمثل‬
‫الكل دون تمثل األج��زاء وال تمثل الجزء دون تمثل‬
‫الكل»‪ .1‬فقد يلمح المجتهد يف الجزئي معنى من المعاين‬
‫ينخزل به عن كليه ويتقاعد به عن مدى عمومه‪ ،‬فيحكم له‬
‫بحكم يختلف عن حكم الكلي كما يف دليل االستحسان‬
‫وهو يف حقيقته استثناء جزئي من كلي‪ ،‬ودليل سد الذرائع‬
‫وهو يف أساسه حكم على جزئي مراعاة لمئال أصبح‬
‫بمنزلة الكلي فاجتاله عن كليه وهو أصل اإلباحة مثال‪.‬‬
‫وت��ارة يكون الجزئي عريا عن تلك المعاين فيتقوى‬
‫الكلي فيستوعب الجزئي ويهيمن عليه كما يف المصالح‬
‫المرسلة‪ ،‬وال ترجيح يف هذا إال ما يراه المجتهد يف كل‬
‫قضية‪ ،‬وما يسربه يف كل مسألة من خالل األدلة األصولية‬
‫التي هي أقرب إلى الضبط وأحكم يف عملية الربط وإن‬
‫كانت غير صارمة االنضباط مما أتاح مساحة لالختالف‬
‫يف األدلة الحاملة لها‪.‬‬

‫‪ - 1‬وك�أن كالم با�سكال مقتب�س من قول �أبي احل�سن العامري‪« :‬الكلي مفتقر �إىل‬
‫اجلزئي ال لأن ي�صري بدميومته حمفوظ ًا‪ ،‬بل لأن ي�صري بتو�سطه موجود ًا‪ ،‬واجلزئي‬
‫مفتقر �إىل الكلي‪ ،‬ال لأن ي�صري بتو�سطه موجود ًا‪ ،‬بل لأن ي�صري بدميومته حمفوظ ًا‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫والشاطبي رحمه اهلل تعالى يف تقديم الكلي على‬
‫الجزئي يشير إلى أن تقديم الجزئي يؤدي إلى انخرام نظام‬
‫أن يف كالمه رحمه اهلل شي ًئا من المبالغة‬ ‫العالم‪ ،‬وأحسب َّ‬
‫إال إذا حمل على الكليات العقلية التي يؤدي انخرامها‬
‫إلى اختالل النظام‪ ،‬وليس يف الكليات الشرعية الفرعية‬
‫االجتهادية التي ال تتحد بلوازمها بصرامة وحسم بل قد‬
‫تنفك عنها أحيانا كما هو معروف يف محله وقد أشار هو‬
‫يف مبحث االستحسان بالحاجة إلى ما يوحي بذلك‪.‬‬
‫بالكلي‬ ‫تلقي العلم‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬ ‫وكذلك قوله يف أول الكالم‪« :‬إن َ‬
‫إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها»‪ ،‬ليس على‬
‫الكلي االستقرائي وحده‪ ،‬دون غيره‬ ‫حال‬‫إطالقه‪ ،‬فتلك ُ‬
‫ِّ‬
‫كالكلي الذي ورد كل ًّيا ابتدا ًءا بالنقل‬ ‫من أنواع الكلي‪،‬‬
‫ِّ َّ هَّ َ َ ِّۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ إۡ ۡ َٰ‬
‫ٱلحس ِن{ وقوله‬ ‫كقوله تعالى}إِن ٱلل يأمر بِٱلعد ِل و ِ‬
‫الكلي الذي ُفهمت كليتُه‬ ‫ِّ‬ ‫ﷺ‪« :‬ال ضرر وال ضرار»‪ ،‬أو‬
‫المبقي‬‫حكم العقل ُ‬‫ُ‬ ‫العقلي وهو‪:‬‬
‫ّ‬ ‫بالعقل كاالستصحاب‬
‫على النفي األصلي‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪122‬‬
123
‫المشهد الرابع‬

‫أصناف المقاصد‬
126
‫األول ‪ :‬شعب المقاصد‬ ‫• التقسيم َّ‬
‫شعب‬ ‫ٍ‬ ‫بثالث‬ ‫ِ‬ ‫اهتموا‬ ‫إن األصوليي َن المقاصد ِّيين قد‬ ‫َّ‬
‫ُّ‬
‫المقاصد هي‪ :‬المقاصدُ العام ُة الكربى التي‬ ‫ِ‬ ‫منتجة مِن‬
‫والحاجي‬ ‫ُّ‬ ‫الضروري‬
‫ُّ‬ ‫ترجع إليها الشريعةُ‪ ،‬وهي المقصدُ‬ ‫ُ‬
‫ينبثق‬ ‫ُ‬ ‫استقرائي‬ ‫ٍ‬
‫تقسيم‬ ‫حصرا؛ بنا ًء على‬ ‫ً‬ ‫والتحسيني‬
‫ٍّ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫ع�� ْن عنوان كبير ه��و‪« :‬أن الشريعة لمصالحِ العباد»‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أن‬ ‫مالحظة ه ِ��ذه المصالحِ يف األحكام وج��دُ وا َّ‬ ‫ِ‬ ‫وعند‬
‫األرجح‬ ‫المقياس‬ ‫ثالثة مقايِيس‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫يشير إ َلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الميزان ُ‬ ‫هذا‬
‫ثم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الحاجيات َّ‬ ‫ُ‬ ‫جحان‬ ‫الر‬
‫يتعلق بالضرورات‪ ،‬ويليه في ُّ‬ ‫ُ‬
‫استقراء أحكا ِم الشر ِع‬ ‫ِ‬ ‫ترتيب مِن‬ ‫التحسينيات‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬
‫ملحوظ ًة ببصيرة العقل‪ .‬هذه هي الشعبة األولى‪.‬‬
‫تلك‬ ‫الخاص ُة و َتعني َ‬ ‫َّ‬ ‫أما الشعبة الثانية فهي‪ :‬المقاصدُ‬
‫مجال من‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الفقه أو‬ ‫بباب من أب ِ‬
‫��واب‬ ‫الخاص َة ٍ‬ ‫المقاصدَ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫والجهالة‬ ‫ِ‬
‫الغرر‬ ‫قة بالبيو ِع فِي من ِع‬ ‫كتلك المتع ِّل ِ‬ ‫َ‬ ‫مجاالتِه‪،‬‬
‫هو انتظا ُم‬ ‫ٍ‬ ‫والربا‪ِ ،‬‬
‫ترجع إلى مقصد عا ٍّم َ‬ ‫ُ‬ ‫وهذه يف الحقيقة‬ ‫َ‬
‫تلك‬ ‫ِ‬
‫العدل واإلحسان التِّي تنافي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الخلق بقاعدة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شئون‬
‫إليه ساب ًقا ‪.‬‬ ‫التصرفات كما أشرنَا ِ‬ ‫ِ‬

‫‪127‬‬
‫ٍ‬
‫ومودة‬ ‫وكذلك المقاصدُ المتعلق ُة بالنكاحِ مِن تناس ٍل‬ ‫َ‬
‫الفاسدة‪ ،‬كحرمة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العقود‬ ‫كثيرا من‬ ‫ٍ‬
‫وتراحم‪ ،‬والتي تناىف ً‬
‫المشار إلى حكمتِه‬ ‫ِ‬ ‫المرأة على خالتها أو عمتها‬ ‫ِ‬ ‫تزوج‬
‫ُّ‬
‫ذلك قطعتُم‬ ‫إن فعلتُم َ‬ ‫عليه الصال ُة والسالم‪« :‬إن ُكم ْ‬ ‫بقولِه ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وهو‬ ‫أرحا َمكم»؛ إ ْذ من مقاصد النِّكاح صل ُة األرح��ا ِم َ‬
‫ِ‬
‫وغيره‪.‬‬ ‫مقصدٌ عا ٌّم فِي النكاحِ‬
‫وهي‪:‬مقصدُ‬ ‫فهي‪:‬المقاصدُ الجزئي ُة‬ ‫أما الشعب ُة الثالث ُة ِ‬
‫َ‬
‫بأمر‬ ‫ِ‬
‫الصالة ِ‬ ‫كقصده لفع ِل‬ ‫ِ‬ ‫حكم ع َلى ٍ‬
‫حدة‬ ‫ٍ‬ ‫الشار ِع فِي ِّ‬
‫كل‬
‫َ َ ُ ْ َّ َ‬
‫ٱلصل ٰوةَ{ (البقرة‪.)43:‬‬ ‫}وأقِيموا‬
‫• التقسيم الثاني ‪ :‬الكلية ‪ -‬العامة ‪ -‬الخاصة‬
‫أن نعرب عما تقدم بصورة أخرى لنقول‪ :‬إن‬ ‫كما يمكن ْ‬
‫المقاصد تنقسم إلى كلي وهو ما موضوعه كلي من حيث‬
‫الصيغة أو المعنى يستغرق أف��راده وآح��اده أو أج��زاءه‪،‬‬
‫والفرق يف المسور بكل خاصة فإهنا إذا سور هبا المن َّكر‬
‫المعرف استغرقت أجزاءه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫استغرقت أفراده‪ ،‬وإذا سور هبا‬
‫فمثال األول‪ :‬كل تمر مأكول‪ ،‬وال يقال‪ :‬كل التمر مأكول‪،‬‬
‫ألنه يستغرق األجزاء ومنها النوى‪ ،‬أفاد معناه الشرباخيتي‪،‬‬
‫فاألفراد آحاد متعدد‪ ،‬واألجزاء أبعاض متحد‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫والكلي مهما كانت صيغته يقابله الجزئي‪ ،‬الذي يطلق‬
‫هنا على كل األفراد واألبعاض‪ .‬ويراد به مقصد الشارع يف‬
‫كل حكم على حدة‪.‬‬
‫وإل��ى ع��ام وه��و كالكلي إال أن��ه ال تعنينا فيه صيغة‬
‫العموم بقدر ما هنتم بانتشاره يف كل باب كمقصد العدل‬
‫واالستخالف وغيرهما من المقاصد‪ ،‬ويقابله الخاص‬
‫الذي قد يعنى خصوصه كونه يف باب واحد أو يف مجال‬
‫معين أو يف قضية واحدة‪ ،‬فالعموم والخصوص نسبيان‪،‬‬
‫خاصا بالنسبة لما‬
‫ً‬ ‫فقد يكون عا ًما بالنظر إلى ما تحته‬
‫فوقه حسب االتجاه الذي ينظر إليه‪ ،‬فهو كالسلم أعاله‬
‫المقصد الكلي وأسفل درجة منه المقصد الجزئي وما‬
‫بينهما قد يكون كل ًيا أو عا ًما بالنسبة لما تحته وجزئيا‬
‫بالنسبة لما فوقه‪.‬‬
‫• تقسيم الشاطبي ‪ :‬المقاصد األصلية والمقاصد التبعية‬
‫ويف هذا السياق من اختالف التعبير الختالف االعتبار‬
‫أن الشاطبي الذي قد ذكر يف الجهة الثالثة ‪ -‬من‬ ‫نجد ّ‬
‫الجهات التي تعرف هبا مقاصد الشارع ‪ -‬المقاصد‬
‫األصلية والتابعة‪ ،‬باعتبار الثانية مقوية لألولى ومكملة لها‪،‬‬

‫‪129‬‬
‫ممثالً بالنكاح لقصد النسل‪ ،‬وهو القصد األول‪ ،‬والسكن‬
‫واالزدواج والتعاون على المصالح وهي القصود التابعة‪،‬‬
‫هو نفسه يقسمها بنفس األل��ق��اب؛ أي أصلية وتابعة‪،‬‬
‫بمضمون آخر‪ ،‬وذلك يف النص التالي‪،‬يقول الشاطبي‪:‬‬
‫الشرع َّي ُة ضربان‪ :‬مقاصدٌ‬ ‫«المسألة ال َّثانية‪ :‬المقاصد َّ‬
‫أصل َّيةٌ‪ ،‬ومقاصدٌ تابعةٌ‪.‬‬
‫حظ فيها للمك َّلف‪،‬‬ ‫فأما المقاصد األصل َّية؛ فهي التي ال َّ‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫كل م َّلة‪ ،‬وإنَّما قلنا‪ :‬إنَّها ال‬ ‫الضرور َّيات المعتربة يف ِّ‬ ‫وهى َّ‬
‫حظ فيها للعبد من حيث هي ضرور َّيةٌ؛ ألنَّها قيا ٌم بمصالح‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫ال دون ٍ‬ ‫َص بِ َح ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بصورة دون‬ ‫حال‪ ،‬وال‬ ‫عا َّمة مطلقة‪ ،‬ال َت ْخت ُّ‬
‫ضروري ٍة‬
‫َّ‬ ‫وقت‪ ،‬لكنَّها تنقسم إلى‬ ‫بوقت دون ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صورة‪ ،‬وال‬
‫ضروري ٍة كفائ َّي ٍة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عين َّي ٍة‪ ،‬وإلى‬
‫مأمور‬
‫ٌ‬ ‫كل مك َّلف يف نفسه‪ ،‬فهو‬ ‫فأ َّما كوهنا عين َّيةً‪ ،‬فعلى ِّ‬
‫بحفظ دينه اعتقا ًدا وعملاً ‪ ،‬وبحفظ نفسه قيامًا بضروريات‬
‫حياته‪ ،‬وبحفظ عقله حف ًظا لمورد الخطاب من ر ِّبه إليه‪،‬‬
‫وبحفظ نسله التفا ًتا إلى بقاء عوضه يف عمارة هذه الدَّ ار‪،‬‬
‫ورع ًيا له عن وضعه يف مضيعة اختالط األنساب العاطفة‬
‫بالرحمة على المخلوق من مائه‪ ،‬وبحفظ ِ‬
‫ماله استعان ًة‬ ‫َّ‬
‫‪130‬‬
‫وي��دل على ذلك أنَّه‬ ‫ُّ‬ ‫على إقامة تلك األوج��ه األربعة‪،‬‬
‫اختيار العبد خالف هذه األمور لججر عليه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لو ُفرض‬
‫ولحيل بينه وبين اختياره‪ ،‬فمن هنا صار فيها مسلوب‬
‫حظ؛‬ ‫وإن صار له فيها ٌّ‬ ‫الحظ‪ ،‬محكو ًما عليه يف نفسه‪ْ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫األصلي‪.‬‬ ‫المقصد‬ ‫لهذا‬ ‫ٍ‬
‫تابعة‬ ‫خرى‬ ‫أ‬ ‫فمن ٍ‬
‫جهة ُ‬
‫ِّ‬
‫وأمَّ��ا كوهنا كفائ َّيةً؛ فمن حيث كانت منوط ًة بالغير‬
‫أن يقوم هبا على العموم يف جميع المك َّلفين‪ ،‬لتستقيم‬ ‫ْ‬
‫أن هذا‬ ‫الخاصة إال هبا‪ ،‬إال َّ‬ ‫َّ‬ ‫األحوال العا َّمة التي ال تقوم‬
‫الحق به يف كونه ضرور ًّيا؛ إذ ال‬ ‫ٌ‬ ‫كم ٌل لألَول؛ فهو‬ ‫القسم ُم ِّ‬
‫الكفائي قيا ٌم بمصالح‬ ‫أن‬‫يقوم العيني إال بالكفائي‪ ،‬وذلك َّ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫مأمور‬
‫ٌ‬ ‫عا َّم ٍة لجميع الخلق؛ فالمأمور به من تلك الجهة‬
‫تخصيص ألنَّه لم ُيؤمر إذ ذاك‬ ‫ٌ‬ ‫بما ال يعود عليه من جهته‬
‫بخاصة نفسه فقط‪ ،‬وإال صار عين ًّيا‪ ،‬بل بإقامة الوجود‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وحقيقته أنَّه خليفة اهَّلل يف عباده على حسب قدرته وما‬
‫فإن الواحد ال يقدر على إصالح نفسه‬ ‫هيء له من ذلك؛ َّ‬
‫ٍ‬
‫بقبيلة‪ ،‬فضلاً ع ْن‬ ‫والقيام بجميع أهله‪ ،‬فضلاً عن َأ ْن يقوم‬
‫اهَّلل الخلق خالئف‬ ‫َأ ْن يقوم بمصالح أهل األرض‪ ،‬فجعل ُ‬
‫الضرور َّيات العا َّمة‪ ،‬حتى قام الملك يف األرض‪.‬‬ ‫يف إقامة َّ‬
‫‪131‬‬
‫عرى من‬ ‫الكفائي ُم ًّ‬ ‫أن هذا المطلوب‬ ‫ويد ُّلك على َّ‬
‫َّ‬
‫أن القائمين به فِي ظاهر األمر ممنوعون من‬ ‫الحظ شر ًعا َّ‬ ‫ِّ‬
‫استجالب الحظوظ ألنفسهم بما قاموا به من ذلك؛ فال‬
‫ٍ‬
‫مم ْن تولاَّ هم على واليته عليهم‪،‬‬ ‫يجوز لوال َأ ْن يأخذ ُأجر ًة َّ‬
‫المقضي عليه أو له أجر ًة على‬ ‫أن يأخذ من‬ ‫لقاض ْ‬ ‫ٍ‬ ‫وال‬
‫ِّ‬
‫لمفت على فتواه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لحاكم على حكمه‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫قضائه‪ ،‬وال‬
‫لمقرض على قرضه‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫لمحسن على إحسانه‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫وال‬
‫ما أشبه ذلك من األمور العا َّمة ا َّلتي للنَّاس فيها مصلح ٌة‬
‫الرشا والهدايا المقصود هبا نفس‬ ‫عا َّمةٌ‪ ،‬ولذلك امتنعت ُّ‬
‫ٍ‬
‫مفسدة‬ ‫ألن استجالب المصلحة هنا مؤ ٍّد إلى‬ ‫الوالية؛ َّ‬
‫الشريعة يف نصب هذه الواليات‪.‬‬ ‫عا َّم ٍة ُتضا ُّد حكمة َّ‬
‫وعلى هذا المسلك يجري العدل يف جميع األن��ام‪،‬‬
‫ويصلح النِّظام‪ ،‬وعلى خالفه يجري الجور يف األحكام‪،‬‬
‫أن العبادات‬ ‫وهدم قواعد اإلس�لام‪ ،‬وبالنَّظر فيه يتب َّين َّ‬
‫تصح اإلجارة عليها‪ ،‬وال قصد المعاوضة فيها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫العين َّية ال‬
‫سبب للعقاب‬ ‫ٌ‬ ‫وأن تركها‬ ‫دنيوي هبا‪َّ ،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مطلوب‬ ‫وال نيل‬
‫موجب تركها‬ ‫ٌ‬ ‫واألدب‪ ،‬وكذلك النَّظر يف المصالحِ العا َّمة‬
‫مفسدة يف العالم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫للعقوبة؛ َّ‬
‫ألن يف تركها َّ‬
‫‪132‬‬
‫وأم��ا المقاصد التَّابعة‪ ،‬فهي التي روع��ي فيها حظ‬ ‫َّ‬
‫المكلف‪ ،‬فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من‬
‫الشهوات واالستمتاع بالمباحات‪ ،‬وسدِّ الخلاَّ ت‪،‬‬ ‫نيل َّ‬
‫أن حكمة الحكيم الخبير حكمت َّ‬
‫أن قيام الدِّ ين‬ ‫وذلك َّ‬
‫ويستمر بدوا ٍع من قبل اإلنسان تحمله‬ ‫ُّ‬ ‫والدنيا إنَّما يصلح‬
‫على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره‪ ،‬فخلق له شهوة‬
‫ليحركه‬‫ِّ‬ ‫مسه الجوع والعطش؛‬ ‫ال َّطعام وال��شَّ��راب إذا َّ‬
‫ذلك الباعث إلى التَّس ُّبب يف سدِّ هذه الخ َّلة بما أمكنه‪،‬‬
‫لتحركه إلى اكتساب‬ ‫الشهوة إلى النِّساء ِّ‬ ‫وكذلك خلق له َّ‬
‫الموصلة إليها‪ ،‬وكذلك خلق له االستضرار‬ ‫ِّ‬ ‫األسباب‬
‫بالحر والربد وال َّطوارق العارضة‪ ،‬فكان ذلك داعي ًة إلى‬ ‫ِّ‬
‫اكتساب ال ِّلباس والمسكن‪ ،‬ثم خلق الجنَّة والنَّار‪ ،‬وأرسل‬
‫أن االستقرار ليس ههنا‪ ،‬وإنَّما هذه الدَّ ار‬ ‫الرسل مبينة َّ‬ ‫ُّ‬
‫السعادة األبد َّية َّ‬
‫والشقاوة األبد َّية‬ ‫وأن َّ‬ ‫لدار أخرى‪َّ ،‬‬ ‫مزرع ٌة ٍ‬
‫بالرجوع إلى ما حدَّ ه‬ ‫هنالك‪ ،‬لكنَّها تكتسب أسباهبا هنا ُّ‬
‫الشارع‪ ،‬أو بالخروج عنه‪ ،‬فأخذ المك َّلف يف استعمال‬ ‫َّ‬
‫الموصلة إلى تلك األغراض‪ ،‬ولم يجعل له قدر ٌة‬ ‫ِّ‬ ‫األمور‬
‫على القيام بذلك وحده‪ ،‬لضعفه عن مقاومة هذه األمور‪،‬‬
‫‪133‬‬
‫فطلب التَّعاون بغيره‪ ،‬فصار يسعى يف نفع نفسه واستقامة‬
‫حاله بنفع غيره‪ ،‬فحصل االنتفاع للمجموع بالمجموع‪،‬‬
‫أحد إنَّما يسعى يف نفع نفسه‪.‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫وإن كان ُّ‬
‫ْ‬
‫فمن ه��ذه الجهة ص��ارت المقاصد التَّابعة خادم ًة‬
‫ومكملة لها‪ ،‬ولو شاء اهَّلل لك ِّلف هبا مع‬ ‫ِّ‬ ‫للمقاصد األصل َّية‬
‫اإلعراض عن الحظوظ‪ ،‬أو لك ِّلف هبا مع سلب الدَّ واعي‬
‫المجبول عليها‪ ،‬لكنَّه امت َّن على عباده بما جعله وسيل ًة‬
‫إلى ما أراده من عمارة الدُّ نيا لآلخرة‪ ،‬وجعل االكتساب‬
‫مباحا ال ممنو ًعا‪ ،‬لكن على قوانين شرع َّي ٍة‬ ‫لهذه الحظوظ ً‬
‫مما يعدُّ ه العبد‬ ‫وأجرى على الدَّ وام َّ‬ ‫هي أبلغ يف المصلحة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫َ‬
‫ٱلل َي ۡعلَ ُم َوأ ُ‬
‫﴿و هَّ ُ‬
‫نت ۡم ل ت ۡعل ُمون﴾ (البقرة‪،)216 :‬‬ ‫مصلح ًة َ‬
‫األخ���روي القصد إلى‬ ‫ِّ‬ ‫ول��و ش��اء لمنعنا يف االكتساب‬
‫الحظوظ‪ ،‬فإنه المالك وله الحجة البالغة‪ ،‬ولكنَّه ر َّغبنا‬
‫وعجل‬ ‫حظي لنا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بوعد‬ ‫يف القيام بحقوقه الواجبة علينا‬
‫َّ‬ ‫ٍّ‬
‫لنا من ذلك حظو ًظا كثير ًة نتمتَّع هبا يف طريق ما كلفنا به‪،‬‬
‫وإن تلك هي‬ ‫توابع‪َّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫قيل‪:‬إن هذه المقاصد‬ ‫َّ‬ ‫فبهذا الحظ‬
‫األصول‪ ،‬فالقسم األول يقتضيه َم ْح ُض العبود َّية‪ ،‬وال َّثاين‬

‫‪134‬‬
‫يقتضيه ُلطف المالك بالعبيد»(‪.)1‬‬
‫• مناقشة تقسيم الشاطبي‬
‫ٍ‬
‫والتابعة‬ ‫ٍ‬
‫لألصلية‬ ‫أن ذكرنا استعمال الشاطبي‬ ‫قد سبق ْ‬
‫باألمر‬ ‫ِ‬ ‫أن األصلية هي المقصود ُة‬ ‫بمفهوم آخر م��ؤداه َّ‬
‫ابتدا ًء‪ ،‬وبالنهي كذلك‪ ،‬وهي أيضا العل ُة الباعث ُة على األمر‬
‫أو النهي‪.‬‬
‫وسائل‪ ،‬وقد تكون حماي ًة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تكون‬ ‫ِ‬
‫الغالب قد‬ ‫والتابع ُة يف‬
‫ِ‬
‫لذريعة‬ ‫ِ‬
‫النداء سدً ا‬ ‫وقت‬
‫َ‬ ‫وسياجا‪ ،‬كمنع البيع‬ ‫لألصلية‬
‫ً‬
‫التشاغ ِل عن الجمعة‪.‬‬
‫األول واهتما ِم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المقصد‬ ‫ِ‬
‫أهمية‬ ‫ِ‬
‫باعتبار‬ ‫ُ‬
‫تكون تابع ًة‬ ‫وقد‬
‫ِ‬
‫بالنسبة‬ ‫الشار ِع بِه‪ ،‬كالتناس ِل الذي هو المقصدُ األول‬
‫يلحق به من المودة والسكن والتمتع بمال‬ ‫ُ‬ ‫للنكاحِ َ‬
‫مع ما‬
‫الزوجة واالعتزاز بحسبها‪ ،‬فهذه تابعة‪.‬‬
‫وهذا االستعمال هو األوفق لهذا المصطلح (األصلية‬
‫والتابعة والتبعية)‪ ،‬أما استعمالها بالمعنى الذي تشير إليه‬
‫النصوص المذكورة آنفًا حيث يكون الفرق هو عدم‬
‫وجود حظ للمكلف يف األصلية‪ ،‬وقيام حظوظ للمكلف‬
‫‪300 /2‬‬ ‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ :‬املوافقات‬
‫‪135‬‬
‫لبس؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫عسر‪ ،‬وما بني عليه فيه ٌ‬ ‫يف التابعة؛ فهو فرق فيه ٌ‬
‫الحظوظ يف الحقيقة موجودة يف النوعين‪.‬‬
‫ال‪ :‬إن الحظ لغة هو‬ ‫فما معنى الحظوظ؟ فلنقل أو ً‬
‫وال��ج��دّ والبخت وجمعه ح��ظ��وظ‪ ،‬وأم��ا يف‬ ‫َ‬ ‫النصيب‬
‫وك��أن الشاطبي رحمه اهلل متأثر‬ ‫َّ‬ ‫مصطلح الصوفية ‪-‬‬
‫به هنا ‪ -‬فالحظوظ عندهم تقابل الحقوق‪ ،‬فاألولى‬
‫متصل ٌة بأهواء النفس ونزوعاهتا الشيطانية – حسب‬
‫عبارهتم ‪ -‬والثانية تعني األحوال والمقامات والمعارف‬
‫والمعامالت والعبادات‪.‬‬
‫هذه عبارة بعضهم‪ ،‬وهبذا ينفسر قوله يف النص‪« :‬ر َّغبنا‬
‫وعجل لنا‬ ‫ٍ‬
‫حظي لنا‪َّ ،‬‬
‫ٍّ‬ ‫بوعد‬ ‫يف القيام بحقوقه الواجبة علينا‬
‫من ذلك حظو ًظا كثير ًة ‪. »...‬‬
‫وبه تفهم وجه المقابلة بين الحقوق والحظوظ الذي‬
‫يبنى عليه الفرق بين المقاصد األصلية وبين المقاصد‬
‫أن‬‫أن يكون الفرق مبنيًا على َّ‬ ‫التابعة‪ ،‬وقد كان باإلمكان ْ‬
‫األولى أصول كربى للمقاصد ألهنا ضروري ٌة وشرعي ٌُة مع‬
‫وجود الحظ األخروي يف المحافظة على الدين والدنيوي‬
‫واألخ��روي معًا يف المحافظة على األنفس واألم��وال‬

‫‪136‬‬
‫والعقول والنسل‪ْ .‬‬
‫وأن تكون الثانية مقاصد للمكلفين‬
‫ولكنها وسائل للوصول إلى تلك المقاصد فهي مطلوبة‬
‫بقدر ما تحقق من تلك‪ ،‬فتارة تكون واجبة وتارة تكون‬
‫جائزة كالنكاح للتحصين والمال لسد الخلة والملبس‬
‫لسرت العورة‪ ،‬لتفاوت درجات الطلب حسب الحاجة‪.‬‬
‫• أصناف أخرى من المقاصد‬
‫ِ‬
‫الخلق‬ ‫جل و َعال يف‬ ‫للباري َّ‬ ‫ِ‬ ‫وهناك مقاصدُ‬ ‫َ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ستقصى‪ ،‬فمنها‪:‬‬ ‫َ‬ ‫حصى وال ُت‬ ‫واألمر ال ُت َ‬‫ِ‬
‫ِ‬ ‫وهي أع َلى مِن‬ ‫ِ‬
‫مقاصد‬ ‫المقاصدُ القدر َّي ُة أو الكونية‪َ ،‬‬
‫القبضتين كما‬ ‫ِ‬ ‫مقتضى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫لتحقيق‬ ‫ِ‬
‫الخلق‬ ‫ِ‬
‫كخلق‬ ‫التشريعِ‪،‬‬
‫رسول اهلل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أصحاب‬ ‫رجل م ْن‬ ‫الحديث‪ :‬مرض ٌ‬ ‫ِ‬ ‫جا َء فِي‬
‫فقيل له‪ :‬ما‬ ‫عليه أصحا ُبه يعودونَه فب َكى‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫فدخل‬ ‫ِﷺ‪،‬‬
‫«خذ مِن‬ ‫رسول اهللِ ﷺ‪ْ :‬‬ ‫ُ‬ ‫لك‬‫يقل َ‬ ‫عبد اهللِ ألم ْ‬ ‫يبكيك يا أبا ِ‬
‫َ َ َ‬
‫سمعت‬ ‫ُ‬ ‫أقره حتَّى تلقاين؟»‪ .‬قال‪ :‬بلى‪ ،‬ولكنِّي‬ ‫ثم َّ‬ ‫شاربِك َّ‬
‫ارك و َتعا َلى َق َب َض َق ْب َض ًة‬ ‫ول‪« :‬إِ َّن َ‬
‫اهلل َت َب َ‬ ‫رسول اهلل ﷺ َي ُق ُ‬ ‫َ‬
‫أخرى‬ ‫وقبض قبض ًة َ‬ ‫َ‬ ‫لهذه وال أبالِي‪،‬‬ ‫بِيمين ِ ِه َف َق َال‪َ :‬ه ِذه ِ‬
‫َ‬
‫أدري‬ ‫األخرى‪ ،‬فقال‪ :‬هذه لهذه وال أبالي‪ ،‬فال ِ‬ ‫يعنِى ِ‬
‫بيده‬
‫َ‬

‫‪137‬‬
‫ِ‬
‫القبضتين أنَا»(‪.)1‬‬ ‫أي‬ ‫ِ‬
‫في ِّ‬
‫َ ََ ُ‬ ‫ُ ذَّ‬
‫وهو المفهو ُم مِن قولِه تعالى‪﴿:‬ه َو ٱلِي خلقك ۡم‬ ‫َ‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫اَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف ِمنك ۡم كف ‪ِٞ‬ر َومِنكم ُّمؤم ‪ِٞ‬نۚ﴾ (التغابن‪.)2:‬‬
‫الرحــمة كما يف ِ‬
‫قوله تعـــــا َلى‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫ِ‬
‫لالختالف ِ‬ ‫وخلقهم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَّ‬ ‫ۡ‬
‫ون م َتلِف َ‬ ‫خُ‬ ‫َ اَ َ َ َ‬
‫ُ‬
‫ني ‪ ١١٨‬إِل َمن َّرح َِم َر ُّبكۚ َول ِذٰل ِك‬ ‫ِ‬ ‫﴿ول يزال‬
‫َ ََ‬
‫خلق ُه ۡمۗ﴾ (هود‪. )119 - 118:‬‬
‫ونبه الشاطبي إلى المقصد القدري التكويني بقوله‪:‬‬
‫«إن هذا التَّقدير مشير لما ذهب إليه الفالسفة‬ ‫فإن قيل‪َّ :‬‬ ‫ْ‬
‫الشر ليس بمقصود الفعل‪ ،‬وإنما‬ ‫أن َّ‬ ‫و َم�� ْن تبعهم مِ�� ْن َّ‬
‫خيره‬‫ممتزجا ُ‬‫ً‬ ‫المقصود الخير‪ ،‬فإذا خلق اهلل تعالى خل ًقا‬
‫بشره؛ فالخير هو الذي ُخلق الخلق ألجله‪ ،‬ولم يخلق‬ ‫ِّ‬
‫الش ِّر‪ ،‬وإن كان واق ًعا به؛ كال َّطبيب عندهم إذا سقى‬ ‫ألجل َّ‬
‫البشع المكروه‪ ،‬فلم َيسقه إ َّياه ألجل‬ ‫َ‬ ‫المر‬
‫المريض الدَّ واء ّ‬
‫ما فيه من المرارة واألمر المكروه‪ ،‬بل ألجل ما فيه من‬
‫والراحة‪ ،‬وكذلك اإليال ُم بالفصد والحجامة وقطع‬ ‫الشفاء َّ‬ ‫ِّ‬
‫الراحة ودفع‬ ‫ب َّ‬ ‫العضو المتأكل‪ ،‬إنما قصده بذلك َج ْل ُ‬
‫المضار؛ فكذلك عندهم جميع ما يف الوجود من المفاسد‬
‫‪� -1‬أخرجه �أحمد يف م�سنده ‪.68 /5‬‬

‫‪138‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫المس َّببة عن أسباهبا‪ ،‬فما تقدَّ م شبيه هبذا من حيث َ‬
‫الشارع ‪ -‬مع قصده التشريع ألجل المصلحة ‪ -‬ال‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫يقصد وجه المفسدة‪ ،‬مع أنَّها الزمة للمصلحة‪.‬‬
‫مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين َّ‬
‫بأن‬ ‫ٌ‬ ‫أيضا‬
‫وهو ً‬
‫وأن وقو َعها إنما‬ ‫ِ‬
‫مقصودة الوقوع‪َّ ،‬‬ ‫غير‬ ‫ُّ‬
‫الشرور والمفاسدَ ُ‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫علوا ً‬ ‫هو على خالف اإلرادة‪ ،‬تعالى اهلل عن ذلك ًّ‬
‫الخ ْل ِقي‬
‫أن كال َم الفالسفة إنما هو يف القصد َ‬ ‫فالجواب َّ‬
‫التَّكويني‪ ،‬وليس كالمنا فيه‪ ،‬وإنَّما كال ُمنا يف ال َق ْصد‬
‫الفرق بينهما يف موضعه من كتاب‬ ‫ُ‬ ‫التَّشريعي‪ ،‬وقد تب َّين‬
‫األوامر والنواهي‪.‬‬
‫الشريع َة وضعت لمصالح الخلق بإطالق‬ ‫أن َّ‬ ‫ومعلوم َّ‬
‫ٍ‬ ‫لج ْلب‬ ‫حسبما تب َّين يف موضعه‪ُّ ،‬‬
‫مصلحة أو‬ ‫فكل ما ُش َ‬
‫رع َ‬
‫مقصود فيه ما ُيناقض ذلك‪ْ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫وإن كان‬ ‫َد ْفع مفسدة؛ ُ‬
‫فغير‬
‫واق ًعا يف الوجود؛ فبالقدرة القديمة وعن اإلرادة القديمة‪،‬‬
‫ال يعزب عن علم اهلل وقدرتِه وإرادتِه شي ٌء من ذلك كله‬
‫أمر آخر‪ ،‬له‬ ‫وحكم التشريع ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يف األرض وال يف السماء‪،‬‬
‫واألمر والنهي‬
‫ُ‬ ‫وترتيب آخر على حسب ما وضعه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫نظر‬
‫ٌ‬

‫‪139‬‬
‫ال يستلزمان إرادة الوقوع‪ ،‬أو عدم الوقوع‪ ،‬وإنما هذا‬
‫قول المعتزلة‪ ،‬وبطالنُه مذكور يف علم الكالم؛ فالقصد‬ ‫ُ‬
‫الخ ْلقي شيء آخر‪ ،‬ال مالزمة‬ ‫التَّشريعي شيء‪ ،‬والقصد َ‬
‫بينهما»(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫معروفة‬ ‫قلت‪ :‬وتوجد مقاصدٌ تشريعي ٌة لكنها ُ‬
‫غير‬
‫صنو‬ ‫فاألمر‬ ‫ات‪،‬‬ ‫المصلحة‪ ،‬وه��و الموسوم بالتعبدي ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫أۡ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ اَ هَ ُ خۡ َ ۡ‬
‫فكما أنَّ‬ ‫الخلق}أل ل ٱللق وٱلمر ۗ{ (األعراف‪َ ،)54 :‬‬
‫َ‬ ‫الخلق ِ‬ ‫ِ‬
‫تدرك جمي ًعا تفصيلاً‬ ‫حصى وال‬ ‫ال ُت َ‬ ‫وح َكمه َ‬ ‫أسرار‬
‫َ‬
‫وأرض‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سماوات‬ ‫فالكون من‬ ‫ُ‬ ‫وهي متداخل ٌة ومتضامنةٌ‪،‬‬ ‫َ‬
‫األوجه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كل الوجوه ْأو من بعض‬ ‫ِ‬ ‫ُخلق لإلنسان من ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫كم َّما ف َّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ت َو َما يِف‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫يِ‬ ‫قال تعا َلى‪َ }:‬و َسخ َر ل‬
‫فالكون بيئ ُة الحياة‪ِ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫مَ‬ ‫أۡ َ‬
‫ُ‬ ‫ۡرض جِيعا مِن ۚه{ (الجاثية‪)13:‬‬ ‫ٱل ِ‬
‫ومستودع لإلنسان‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مستقر‬
‫ٌ‬ ‫واألرض‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫للمحافظة‬ ‫ٍ‬
‫بوظيفة‬ ‫فيه يقو ُم‬ ‫عضو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫نفسه ُّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬
‫واإلنسان ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع َلى ِ‬
‫ٱلس ۡم َع‬ ‫ك ُم َّ‬ ‫مسمى} َو َج َعل ل‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسان ألج ٍل‬ ‫ِ‬ ‫بقاء‬
‫ون{ فالحكم ُة فِي كلِّ‬ ‫َ أۡ َ ۡ َ ٰ َ َ أۡ َ ۡ َ َ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫فِدة لعلكم تشكر‬ ‫وٱلبصر وٱل ‍ٔ‬
‫كائن مستقلٍ؛ ال‬ ‫كل ٍ‬ ‫جملة مِن الخاليا‪ ،‬وفِي ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫خلية ويف ِّ‬ ‫ٍ‬
‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.49 /2‬‬

‫‪140‬‬
‫تمك ُن اإلحاط ُة بِها‪.‬‬
‫ِ‬
‫المقاصد كما‬ ‫حصر‬ ‫األمر ال يمك ُن‬ ‫ِ‬ ‫فكذلك فِي عا َلم‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫‪«:‬و َف ْو َق ك ُِّل ِذي ِع ْل ٍم َعلِيم»(يوسف‪.)76 :‬‬ ‫ِ‬
‫أشرنا إليه َ‬
‫• تقسيم األصوليين ‪ :‬الضروري ‪ -‬الحاجي ‪-‬‬
‫التحسيني‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تصنيف األصوليين للمقاصد الثالثة فقد َت َ‬
‫بلور إلى‬ ‫ُ‬ ‫أما‬
‫الشريع َة إلى مقاصد كربى‬ ‫ُ‬
‫حيث ر َّد َّ‬ ‫حدٍّ ما مع الجويني‬
‫هي المقاصدُ الثالثةُ‪ ،‬الضروري والحاجي والتحسيني يف‬
‫تقاسيم العلل واألصول ُ‬
‫حيث قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مبحث‬
‫لجر ذلك ضرور ًة‬
‫الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم َّ‬ ‫َّ‬
‫«فإن َ‬
‫آيل إلى الضرورة الراجعة إلى‬ ‫ظاهرة‪ ،‬فمستند البيع إ ًذا ٌ‬
‫النوع والجملة؛ ثم قد تمهد يف الشريعة أن األُصول إذا‬
‫ثبتت قواعدها‪ ،‬فال نظر إلى طلب تحقيق معناها يف آحاد‬
‫النوع‪ ،‬وهذا ضرب من الضروب الخمسة‪.‬‬
‫والضرب الثاين‪ :‬ما يتعلق بالحاجة العامة‪ ،‬وال ينتهي‬
‫إلى حد الضرورة‪ ،‬وهذا مثل تصحيح اإلجارة؛ فإهنا مبنية‬
‫على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها‪،‬‬
‫ِ‬
‫وضنَّة مالكها هبا على سبيل العار َّية؛ فهذه حاجة ظاهرة‬
‫‪141‬‬
‫بالغة مبلغ الضرورة المفروضة يف البيع وغيره‪ ،‬ولكن‬ ‫غير ٍ‬
‫حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ ضرورة الشخص الواحد‪ ،‬من‬
‫حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس؛‬
‫ضرار ال محالة‪ ،‬تبلغ مبلغ الضرورة‬ ‫ٌ‬ ‫لنال آحاد الجنس‬
‫الراجع إلى‬ ‫يف حق الواحد‪ ،‬وقد يزيد أثر ذلك يف الضرر َّ‬
‫الجنس ما ينال اآلحاد بالنسبة إلى الجنس‪ ،‬وهذا يتعلق‬
‫َبأحكام اإليالة‪ ،‬والذي ذكرناه مقدار غرضنا اآلن»(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫الراجعة‬ ‫ِ‬
‫الضرورة‬ ‫آئل إلى‬‫أشار إلى النوع األول بأنَّه‪ٌ :‬‬
‫ِ‬
‫بالحاجة العا َّمة‪.‬‬ ‫والجملة‪ .‬والثانِي بأنَّه‪ :‬ما يتع َّل ُق‬
‫ِ‬ ‫إ َلى النو ِع‬
‫التحسيني فلم يمنحه هنا لق ًبا بل قال عنه‪:‬‬ ‫وهو‬
‫الثالث َ‬ ‫ُ‬ ‫أما‬
‫ُّ‬
‫الثالث‪ :‬ما ال يتعلق بضرورة حاقة‪ ،‬وال حاجة‬ ‫ُ‬ ‫«والضرب‬
‫ُ‬
‫جلب مكرمة أو يف نفي‬ ‫ِ‬ ‫غرض يف‬ ‫لوح فيه ٌ‬ ‫عامة‪ ،‬ولكنَّه َي ُ‬
‫ويجوز أن يلتحق هبذا الجنس طهارة الحدث‬ ‫ُ‬ ‫نقيض لها‪،‬‬
‫وإزالة الخبث» (‪.)2‬‬
‫خ��ارج��ا ع��ن دائ���رة هذه‬ ‫ً‬ ‫وجعل التعبدي المحض‬
‫المقاصد حيث يقول‪« :‬وال��ض��رب الخامس متضمنه‬

‫‪ -1‬اجلويني‪ ،‬الربهان ‪ ،923 /2‬حتقيق عبدالعظيم الديب‪ ،‬دار الأن�صار القاهرة‪.‬‬


‫‪ -2‬نف�س املرجع‪� ،‬ص ‪.924‬‬

‫‪142‬‬
‫العبادات البدنية التي ال يلوح فيها معنى مخصوص ال‬
‫من مآخذ الضرورات وال من مسالك الحاجات وال من‬
‫مدارك المحاسن»(‪.)1‬‬
‫وقد أثبت تلميذه أبو حامد هذه المعاين مقتصرا على‬
‫ثالثة مقاصد هي‪:‬الضروري والحاجي والتحسيني‪.‬‬
‫ومنح هذا األخير لقبه الذي تابعه عليه األصوليون بعد‬
‫ذلك‪.‬‬
‫المناسب يف مسالكِ‬ ‫ِ‬ ‫وهم يذكرون هذه المقاصدَ ضم َن‬
‫لتصنيف األح��ك��ا ِم حسب أهميتها‬ ‫ِ‬ ‫الع َّلة‪ ،‬يف محاولة‬
‫الشرعية‪ ،‬ورتبتها يف سلم الشريعة‪ ،‬ووزهن��ا يف ميزان‬
‫المصالح والمفاسد‪ ،‬حيث يقع المقصد الضروري الذي‬
‫ُيسمى بالمناسب الضروري يف مقدمتِها‪ ،‬ثم المقصد‬
‫المناسب الحاجي‪ ،‬ثم المقصد التحسيني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الحاجي وهو‬
‫ِ‬
‫التصنيف‬ ‫الفقه على هذا‬ ‫ِ‬ ‫وأكثر المؤلفي َن يف أص ِ‬
‫��ول‬ ‫ُ‬
‫واقتصر يف ِ‬
‫نظم‬ ‫ِ‬
‫كالسبكي يف جم ِع الجوام ِع وشروحه‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫مراقِي السعود على ذلك حيث يقول‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ضــرور ٌّي َوجا َتتِ َّم ْه‬
‫ِ‬ ‫الح ْك َم ْه مِـنْ ُه‬
‫ثم المنَاســـِب َعنَي ُت ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫َّ ُ‬
‫‪ -1‬نف�س املرجع ‪.958 /2‬‬

‫‪143‬‬
‫لح ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الــــــرواج‬
‫َّ‬ ‫ــوي يف‬ ‫ـاجي َو َقـــدِّ ِم ال َق َّ‬ ‫َب ْي ُنه َما َمـــا َينْتَمي ل َ‬
‫أن المنحى‬ ‫َذكر َّ‬ ‫أن ن َ‬ ‫ناسب ْ‬ ‫ِ‬ ‫الم‬
‫يكون من ُ‬ ‫ُ‬ ‫إال أنَّه قدْ‬
‫والعز بن‬‫ُّ‬ ‫الغزالي‬
‫ُّ‬ ‫وحا َم حو َله قبله‬ ‫الشاطبي َ‬
‫ُّ‬ ‫الذي سل َك ُه‬
‫إح َكا َم أحكا ِم‬ ‫أبرز ْ‬ ‫عبد السالم والقرايفُّ‪ ،‬كان َمنْحى َثر ًيا َ‬
‫وانضباط منظومتِها وشمو َلها‬ ‫َ‬ ‫ووضوح ِح َك ِمها‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الشريعة‬
‫وتابعة وإلى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أصلية‬ ‫ففرع المقاصدَ إ َل��ى‬ ‫وانسجا َمها‪َّ .‬‬
‫والقصد الثانِي‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األول‬ ‫ِ‬
‫القصد‬
‫س يف تأصيلِ‬ ‫وأط��ال الشاطبي رحمه اهلل تعالى الن َف َ‬
‫أصول الشريعة بالنسبة لهذه‬ ‫َ‬ ‫أن‬ ‫المقاصد الثالثة وبيان َّ‬
‫المقاصد ُتعترب جزئي ًة لقوة ه��ذه المقاصد وشمولها‬
‫كلي تنتهي إليه لك َّنه‬ ‫واستعالئها وهيمنتها إذ ليس فوقها ٌّ‬
‫َيستدرك يف هناية عرضه للعالقة بين الكليات الحاكمة‬
‫معا حيث يقول‪:‬‬ ‫والجزئيات إلى ضرورة اعتبار االثنين ً‬
‫ِ‬
‫قصد‬ ‫ُ‬
‫الشريعة على‬ ‫ِ‬
‫انبنت‬ ‫لـما‬
‫«المسألة األول���ى‪َّ :‬‬
‫��ات‬ ‫��ث�لاث ِم��ن ال��ض��روري ِ‬ ‫ِ‬ ‫��ب ال‬ ‫المحافظة على ال��م��رات ِ‬ ‫ِ‬
‫وكانت هذه الوجو ُه مبثوث ًة ِفي‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫والتحسينات‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والحاجيات‬
‫الشريعة وأدلتها‪ ،‬غير مختصة بمحل دون محل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أبواب‬
‫وال بباب دون باب‪ ،‬وال بقاعدة دون قاعدة؛ كان النظر‬

‫‪144‬‬
‫أيضا عا ًما ال يختص بجزئية دون أخرى؛‬ ‫الشرعي فيها ً‬
‫ألهنا كليات تقضي على كل جزئي تحتها‪ ،‬وسواء علينا‬
‫جزئيا إضافي َّا أم حقيقي َّا؛ إذ ليس فوق هذه الكليات‬ ‫ًّ‬ ‫أكان‬
‫تمت؛ فال‬ ‫كلي تنتهي إليه‪ ،‬بل هي أصول الشريعة‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ٌّ‬
‫يفتقر إلى إثباهتا بقياس أو‬ ‫َ‬ ‫بعضها ح َّتى‬ ‫يصح أن يفقدَ ُ‬ ‫ُّ‬
‫وخصوصا؛‬‫ً‬ ‫غيره؛ فهي الكافية يف مصالح الخلق عمو ًما‬
‫ۡ‬ ‫يۡ َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ ُ ۡ َ ُ‬ ‫ألن َ‬ ‫َّ‬
‫اهلل تعالى قال‪﴿:‬ٱلوم أكملت لكم دِينكم﴾‬
‫ش ٖء ۚ﴾‬ ‫وقال‪﴿:‬ما فَ َّر ۡط َنا يِف ۡٱلك َِتٰب مِن يَ ۡ‬
‫َّ‬ ‫(المائدة‪،)3:‬‬
‫ِ‬
‫الج َّاد ِة»(‪.)1‬‬
‫(األنعام‪ ،)38 :‬ويف الحديث‪َ « :‬ت َرك ُت ُك ْم َعلى َ‬
‫وقوله‪« :‬ال َي ْه ِل ُك َعلى اهللِ إال َهالِ ٌك»(‪ .)2‬ونحو ذلك من‬
‫األدلة الدالة على تمام األمر وإيضاح السبيل»‪.‬‬
‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫للنيلي‪ -‬فقد تحدث ِ‬
‫عن‬ ‫ِّ‬ ‫أما الطويف ‪ -‬عاز ًيا‬
‫المناسب مبينًا تفاوهتا حيث قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خ�لال‬ ‫الثالثة ِم��ن‬
‫ِ‬
‫إثبات الحكم عقيبه ُمفضيًا إلى ما ُيوافق‬ ‫«المناسب ما كان ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫فكبقاء‬ ‫ُ‬
‫المعاش‬ ‫المعاش أو ِفي المعاد‪َّ .‬أما‬
‫ِ‬ ‫العقالء ِفي‬
‫ِ‬ ‫نظر‬
‫َ‬
‫وأما يف المعاد فكتحصيلِ‬ ‫ِ‬
‫المال‪َّ ،‬‬ ‫والزيادة ِفي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األنفس‬

‫‪ - 1‬ذكره ابن الأثري يف جامع الأ�صول ‪.293 /1‬‬


‫‪� - 2‬أخرجه م�سلم يف ال�صحيح‪ :‬كتاب الإميان رقم ‪.131‬‬

‫‪145‬‬
‫رفع العقاب‪.‬‬ ‫أو ِ‬ ‫الثواب ْ‬ ‫ِ‬
‫للمصلحة‪ ،‬وتار ًة تكميلاً‬ ‫ِ‬ ‫يكون تحصيلاً‬ ‫ُ‬ ‫الحكم تار ًة‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫نظر‬ ‫لمن ُله ٌ‬ ‫مديما لها ‪ .‬إلى أن قال‪ :‬وهي ظاهر ٌة ْ‬ ‫لها‪ ،‬وتارة ً‬
‫يف األحكام‪.‬‬
‫الضرورات‪ ،‬وإلى‬ ‫ِ‬ ‫ينقسم إلى ما هو ُّ‬
‫محل‬ ‫ُ‬ ‫المناسب‬‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫َّ‬
‫محل التتمات‬ ‫ِّ‬ ‫الحاجات‪ ،‬وإلى ما هو يف‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫محل‬ ‫ما هو يف‬
‫التقديم‬
‫ِ‬ ‫الرتتيب يف‬ ‫ِ‬ ‫والتكميالت‪ ،‬وهي يف مراتبها على هذا‬
‫ثم الثالث‪.‬‬ ‫ثم الثاين َّ‬ ‫ُ‬
‫األول َّ‬ ‫التعارض؛ يقدَّ ُم‬ ‫ِ‬ ‫عندَ‬
‫ِ‬
‫المرسلة‪،‬‬ ‫المصالح‬
‫ِ‬ ‫أقسامه عندَ ذك ِر‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫بيان‬ ‫وقد سبقَ‬
‫المناسب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫مضمون‬ ‫ألن المصلح َة‬ ‫��ان واح���دٌ ؛ َّ‬ ‫وال��ب��اب ِ‬
‫متضمن للمصلحة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫والمناسب‬
‫ُ‬
‫أن نفق َة‬ ‫وصف واحد‪َّ :‬‬ ‫ٍ‬ ‫أقسامه الثالثة يف‬ ‫ِ‬ ‫اجتماع‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ومثال‬
‫ِ‬
‫األقارب‬ ‫حاجية‪ ،‬ونفق َة‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫الزوجات‬ ‫ضرورية‪ ،‬ونفق َة‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫النفس‬
‫بعضها على بعض على الرتتيب‬ ‫تتم ٌة وتكملة‪ ،‬ولهذا ُقدِّ م ُ‬ ‫َّ‬
‫القريب‪ ،‬ح َّتى‬ ‫ِ‬ ‫الزوجة ع َلى ِ‬
‫نفقة‬ ‫ِ‬ ‫وتأكدت ُ‬
‫نفقة‬ ‫المذكور‪َّ ،‬‬
‫الزمان‪ ،‬دون نفقتِها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بمضي‬
‫ِّ‬ ‫سقطت نفق ُته‬ ‫ْ‬
‫متفاوتة يف‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫المناسب‬ ‫مراتب‬
‫َ‬ ‫أن‬‫التنبيه على َّ‬ ‫ُ‬ ‫وقدْ سبقَ‬
‫وعدمه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القبول‬ ‫ِ‬
‫وسرعة‬ ‫ِ‬
‫والضعف‬ ‫والقو ِة‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫والخفاء‬ ‫ِ‬
‫الجالء‬

‫‪146‬‬
‫مناسبات األحكا ِم ِ‬
‫لعللها‪ .‬واهلل‬ ‫ِ‬ ‫نظر ِفي‬
‫لمن َ‬‫ظاهر َ‬
‫ٌ‬ ‫وذلك‬
‫سبحانه وتعالى أعلم»(‪.)1‬‬
‫ويوضح الشاطبي تفاوت مراتب المقاصد بقوله‪:‬‬
‫كلي وحفظ المروءات‬ ‫مهم ٌّ‬ ‫الم ِ‬
‫هجة ٌّ‬ ‫أن حفظ ُ‬ ‫«وبيان ذلك َّ‬
‫حفظا للمروءات‪ ،‬وإجرا ًء‬‫فح ِّرمت النجاسات ً‬ ‫مستحسن؛ ُ‬
‫الضرورة إلى‬ ‫ألهلها على محاسن العادات‪ ،‬فإن دعت َّ‬
‫إحياء المهجة بتناول النجس؛ كان تناوله أولى‪.‬‬
‫وكذلك أصل البيع ض��روري‪ ،‬ومنع َ‬
‫الغ َرر والجهالة‬
‫نحسم باب البيع‪،‬‬ ‫مكمل‪ ،‬فلو اشرتط نفي الغرر جملة ال َ‬
‫وكذلك اإلجارة ضرورية أو حاجية‪ ،‬واشرتاط حضور‬
‫العوضين يف المعاوضات من باب التكميالت‪ ،‬ولما‬
‫كان ذلك ممكنًا يف بيع األعيان من غير عسر منع من‬
‫الس َلم‪ ،‬وذلك يف اإلجارات ممتنع؛‬ ‫بيع المعدوم إال يف َّ‬
‫باب المعاملة‬
‫فاشرتاط وجود المنافع فيها وحضورها يسدُّ َ‬
‫هبا‪ ،‬واإلجارة محتاج إليها؛ فجازت (‪.)2‬‬

‫‪ -1‬الطويف‪� ،‬شرح خمت�صر الرو�ضة ‪ ،385 - 382 /3‬حتقيق عبداهلل الرتكي‪ ،‬م�ؤ�س�سة‬
‫الر�سالة‪.‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.26 /2‬‬

‫‪147‬‬
‫• المقاصد الكبـرى‬
‫والمقاصدُ الكربى والتي سماها بعضهم العالية ال‬
‫يقرتح مقصدً ا بنا ًء‬
‫ُ‬ ‫عالم‬
‫ٍ‬ ‫فكل‬ ‫ُيمكن ِادع ُ‬
‫��اء حص ٍر فيها‪ُّ ،‬‬
‫على ما فهمه ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وعمل‬ ‫ِّ‬
‫الحق‬ ‫تعليم‬
‫ُ‬ ‫مقصود الشرع‪:‬‬
‫ُ‬ ‫كقول ابن رشد‪:‬‬
‫الحق‪.‬‬
‫وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم‬
‫الحق والعمل الحق‪ ،‬والعلم الحق هو معرفة اهلل تبارك‬
‫وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه‪ ،‬وبخاصة‬
‫الشريفة منها‪ ،‬ومعرفة السعادة األخ��روي��ة والشقاء‬
‫األخروي‪.‬‬
‫والعمل الحق هو امتثال األفعال التي تفيد السعادة‪،‬‬
‫وتجنب األفعال التي تفيد الشقاء‪ ،‬والمعرفة هبذه األفعال‬
‫هي التي تسمى العلم العملي‪.‬‬
‫وهذه األفعال تنقسم قسمين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أفعال ظاهرة بدنية‪ ،‬والعلم هبذه هو الذي‬
‫يسمى الفقه‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫والقسم الثاين‪ :‬أفعال نفسانية‪ ،‬مثل الشكر والصرب‪،‬‬
‫وغير ذلك من األخالق التي دعا إليها الشرع أو هنى عنها‪،‬‬
‫والعلم هبذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم اآلخرة‪ .‬وإلى‬
‫هذا نحا أبو حامد يف كتابه‪.‬‬
‫ولما كان الناس قد أضربوا عن هذا الجنس وخاضوا‬
‫يف الجنس الثاين‪ ،‬وكان هذا الجنس أملك بالتقوى التي‬
‫هي سبب السعادة‪ ،‬سمى كتابه «إحياء علوم الدين»‪.)1(».‬‬
‫ولي اهللِ الدهلوي‪« :‬فالمقصود هو تحصيل صفة‬ ‫وقول ِّ‬
‫اإلحسان‪ ،‬على وجه ال ُيفضي إلى إهمال االرتفاقات‬
‫مط حق من الحقوق»‪.‬‬ ‫الالزمة‪ ،‬وال إلى َغ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقوله‪« :‬فم َن المقاصد الجليلة يف التشري ِع أن ُيسدَّ ُ‬
‫باب‬
‫ِ‬
‫التعميق يف الدين»(‪.)2‬‬
‫االستخالف يف األرض ال��ذي شرحه‬‫ِ‬ ‫وهناك مقصدُ‬
‫الشاطبي بقوله‪« :‬المسألة الثانية‪ :‬قصد ال��ش��ارع من‬ ‫ُّ‬
‫ً‬
‫المكلف أن يكون قصدُ ه يف العمل موافقا لقصده يف‬
‫الش ِ‬
‫ريعة؛‬ ‫التشريع‪ ،‬والدليل على ذلك ظاهر م ْن َو ْض ِع َّ‬
‫‪ - 1‬ابن ر�شد‪،‬ف�صل املقال‪� :‬ص ‪ ،115‬حتقيق حممد عابد اجلابري‪ ،‬مركز درا�سات‬
‫الوحدة العربية‪.‬‬
‫‪ - 2‬الدهلوي حجة اهلل البالغة ‪ 667 /2‬حتقيق عثمان �ضمريية مكتبة الكوثر‬

‫‪149‬‬
‫إذ قد مر أهنا موضوعة لمصالح العباد على اإلطالق‬
‫والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك‬ ‫ُ‬ ‫والعموم‪،‬‬
‫َّ‬
‫وألن‬ ‫الشارع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫خالف ما قصد‬ ‫َ‬ ‫يف أفعاله‪ ،‬وأن ال َيقصد‬
‫المكلف ُخلق لعبادة اهلل‪ ،‬وذلك راجع إلى العمل على‬
‫وفق القصد يف وضع الشريعة ‪ -‬هذا محصول العبادة ‪-‬‬
‫فينال بذلك الجزاء يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وأي��ض��ا فقد م��ر أن قصد ال��ش��ارع المحافظة على‬ ‫ً‬
‫الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات‪،‬‬
‫وه��و عين ما كلف به العبد؛ فال ُب��د أن يكون مطلو ًبا‬
‫بالقصد إلى ذلك‪ ،‬و إال لم يكن عاملاً على المحافظة؛‬
‫ألن األعمال بالنيات‪ ،‬وحقيقة ذلك أن يكون خليفة اهلل‬
‫وأقل‬‫يف إقامة هذه المصالح بحسب طاقته ومقدار وسعه‪ُّ ،‬‬
‫ذلك خالفته على نفسه‪ ،‬ثم على أهله‪ ،‬ثم على كل من‬
‫تعلقت له به مصلحة‪ ،‬ولذلك قال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫مسؤول عن َر ِع َّيته»‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫« ُك ُّلكم را ٍع وك ُّلكم‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫ْ‬
‫ويف القرآن الكريم‪َ }:‬ءام ُِنوا بِٱللِ َو َر ُس هِ‬
‫ولِۦ َوأن ِفقوا م َِّما‬
‫ني فِيهِۖ{ (الحديد‪.)7:‬‬ ‫كم ُّم ۡس َت ۡخلَف َ‬ ‫َ ََ ُ‬
‫جعل‬
‫أۡ َ‬ ‫ِ‬
‫َ َٗ‬ ‫ّ َ ‪ٞ‬‬
‫ۡرض خل ِيفة ۖ{‬ ‫وإليه يرجع قوله تعالى‪}:‬إ ِ يِن جاعِل يِف ٱل ِ‬

‫‪150‬‬
‫َ ُ‬ ‫أۡ َ‬ ‫ۡ َ ُ‬
‫ۡرض ف َينظ َر‬ ‫(البقرة‪ ،)30:‬وقوله} َوي َ ۡس َتخل ِفك ۡم يِف ٱل ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ ذَّ‬ ‫ََۡ ََُۡ َ‬
‫ونَ{ (األعراف‪َ }،)129 :‬وه َو ٱلِي َج َعلك ۡم‬ ‫ف ت َعمل أۡ‬ ‫كي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫ۡرض ورفع بعضكم فوق بع ٖض درج ٰ ٖ‬ ‫لئِف ٱل ِ‬ ‫خ ٰٓ‬
‫ٓ َ ُ‬ ‫ّ ُ ُ‬
‫يِلَ ۡبل َوك ۡم يِف َما َءاتىٰك ۡمۗ{ (األنعام‪.)165 :‬‬
‫والخالفة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث قال‪:‬‬
‫بيته والمرأ ُة راعي ٌة‬ ‫والرجل را ٍع على أه ِل ِ‬ ‫ُ‬ ‫«األمير را ٍع‬
‫ُ‬
‫مسؤول عن‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫على بيت زوجها وولده؛ ف ُك ّلكم را ٍع وكلكم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رع َّيته»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وإنما أيت بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير مختص؛‬
‫فال يتخلف عنه فرد من أف��راد الوالية‪ ،‬عامة كانت أو‬
‫قائما‬ ‫خاصة‪ ،‬فإذا كان كذلك؛ فالمطلوب منه أن يكون ً‬
‫مجاريها‬ ‫ِ‬ ‫مقا َم من استخلفه‪ُ ،‬يجري أحكامه ومقاصدَ ه‬
‫(‪)1‬‬
‫وهذا ب ِّيـن‪.‬‬
‫ووسائل الوسائ ِل ع َلى حدِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫وهناك مقاصدُ‬
‫بعضهم‪ ،‬وهي عبار ٌة لم يفسرها‪.‬‬ ‫عبارة ِ‬ ‫ِ‬
‫أن المقصدَ األدن��ى يخدم المقصد‬ ‫وال��ذي أت��ص ُّ��و ُره َّ‬
‫األعلى ويرمى إلى تحقيقه‪ ،‬كتحريم المزابنة والغرر‪ ،‬فهو‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.23 /3‬‬

‫‪151‬‬
‫مقصد يف البيوع يرمي إلى تحقيق مقصد أعلى هو العدل‪.‬‬
‫ِ‬
‫صالة‬ ‫ِ‬
‫لحضور‬ ‫السعي وسيل ٌة‬ ‫وسائل الوسائلِ‪َّ :‬‬
‫فإن‬ ‫ُ‬ ‫أما‬
‫َ‬
‫الجمعة‪ ،‬وترك البيع وسيلة لتحصيل السعي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قطعية ٍ‬
‫ثابتة‬ ‫ٍ‬ ‫نقرر وجو َد مقاصدَ كربَى‬ ‫ولهذا فيمك ُن ْ‬
‫أن ِّ‬
‫ثانوية ثبو ُتها‬ ‫ٍ‬ ‫حكم التوا ُتر‪ ،‬ومقاصدَ‬ ‫ِ‬ ‫بأكثر مِن دلي ٍل يف‬ ‫َ‬
‫أبواب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باب من‬ ‫كل ٍ‬ ‫ِ‬
‫تنتشر في ِّ‬ ‫ٍ‬
‫كثبوت العللِ‪ ،‬ومقاصدَ عامة‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫تخص با ًبا واحدً ا‪ ،‬أو طائف ًة من‬ ‫ٍ‬
‫خاصة‬ ‫الشريعة‪ ،‬ومقاصدَ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫أحد األبواب‪ .‬ومقاصد جزئية يف كل أمر وهني‪،‬‬ ‫أحكا ِم ِ‬
‫المعامالت وبخاصة‬ ‫ِ‬ ‫أمر مقصو ٌد فِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الغرر والجهالة ٌ‬ ‫فمنع‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫كثير من أحاديث منهيات البيع ‪ .‬وقد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يف البيو ِع من استقراء ٍ‬ ‫ِ‬
‫العربي سبع ًة وثالثي َن بي ًعا منه ًّيا عنها بالنَّص يف‬ ‫ِّ‬ ‫ذكر اب ُن‬ ‫َ‬
‫كتابه «القبس شرح موطإ مالك بن أنس»(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫المدلول‬ ‫ِ‬
‫الثمار‬ ‫المزابنة فِي بي ِع‬
‫ِ‬ ‫أما قصدُ الشار ِع لمن ِع‬
‫خاص‬ ‫بحديث‪« :‬أينقص الرطب إذا يبس؟»(‪ ،)2‬فهو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليه‬
‫ٌّ‬
‫المكيالت والموزونات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بطائفة مِن المسائلِ‪ ،‬أغل ُبها يف‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الغرر‬ ‫قسم م َن‬ ‫وقد تكون يف بي ِع الحيوان بجنسه‪ ،‬وهو ٌ‬
‫‪ -1‬القب�س ‪.792 /2‬‬
‫‪� -2‬سبق تخريجه‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫الجزئي مِن الك ِّلي كذلك‪ ،‬والنهي‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫منزل‬ ‫ل‬ ‫يتنز‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫والجهالة‬
‫أن المقصدَ‬ ‫ال َّ‬
‫عن بيع حبل الحبلة هو مقصد جزئي؛ إ َّ‬
‫أساس‬ ‫الذي يم ِّثل‬ ‫الناس‪ِ ،‬‬
‫ِ‬ ‫العدل بي َن‬ ‫ِ‬ ‫هو إقام ُة‬
‫َ‬ ‫األعلى َ‬
‫ِ‬
‫الحياة ونظا ِم‬ ‫ِ‬
‫وللعقود ولنظا ِم‬ ‫ِ‬
‫للسلوك‬ ‫ِ‬
‫والمعاملة‬ ‫التعام ِل‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫الحكم‪} ،‬إ َّن هَّ َ‬
‫ٱلل يَأ ُم ُر بِٱل َع ۡد ِل{ (النحل‪ِ} ،)90:‬إَوذا‬ ‫ِ ِ‬
‫ۡ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫حَ‬ ‫َ‬ ‫ينۡ‬ ‫َ‬
‫اس أن تك ُموا بِٱل َ َع ۡد ِل ۚ{ (النساء‪،)58:‬‬ ‫َحك ۡم ُتم َب َ ٱنلَّ ِ‬
‫َ اَ جَ ۡ َ َّ ُ ۡ َ َ َ ُ َ ۡ لَىَ ٰٓ اَّ َ ُ ْ ۡ ُ ْ ُ‬
‫ع أل ت ۡعدِل ۚوا ٱعدِلوا ه َو‬ ‫نان قو ٍم‬ ‫}ول ي ِرمنكم ش ‍ٔ‬
‫َ‬
‫ىۖ{ (المائدة‪.)8:‬‬ ‫أ ۡق َر ُب ل َِّلت ۡق َو ٰ‬
‫يوضحه‪ ،‬ففي المعامالت‪:‬‬ ‫مجال ما ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫ويظهر فِي ِّ‬ ‫ُ‬
‫ۡ‬ ‫ََ ُ ْ ۡ َ ۡ َ ۡ‬
‫} وأقِيموا ٱل��وزن بِٱلقِس ِط{ (ال��رح��م��ن‪ ،)9:‬وهو‬
‫ۡ‬ ‫ُ ْ ۡ‬
‫اس ٱل ُم ۡس َت ِقي ِم{ (الشعراء‪.)182:‬‬ ‫العدل‪َ } :‬وزِنوا بِٱل ِق ۡس َط ِ‬
‫المقاصد وترا ُب ُطها وتضامنُها‬ ‫ِ‬ ‫وهب��ذا يتِّضح ت��وال��دُ‬
‫تتدر ُج‬ ‫ِ‬
‫والخصوص‪َّ ،‬‬ ‫وتسلسلها وترا ُتبها يف س َّلم العمو ِم‬ ‫ُ‬
‫واألخص‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الخاص‬
‫ِّ‬ ‫بي َن العا ِّم واألعم وبين‬
‫قد يكون من المناسب أن نضيف هنا قضيتين لهما‬
‫تأثيرهما يف تصنيف المقاصد التشريعية المنتجة وهما‪:‬‬
‫أولاً ‪ :‬معيار االنتماء إلى المقصد الضروري‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬تذبذب االنتماء لبعض القضايا بينه وبين الحاجي‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫• أولاً ‪ :‬معيار االنتماء إلى المقصد الضروري ‪:‬‬
‫لقد اضطربت أقوال العلماء يف هذه المسألة‪:‬‬
‫‪ -‬فأحيانا يعللون الكليات الخمس بأن الشارع وضع‬
‫لها الحدود ‪ -‬وأحيانا يعللوهنا بكوهنا علمت من الدين‬
‫بالضرورة كما أشار إليه الشوكاين‪ .‬وهنا تدخل الواجبات‬
‫والجائزات والمنهيات التي علمت من الدين ضرورة‪.‬‬
‫‪ -‬وأحيانا ألهنا ضرورة لمصالح العباد وانتظام المجتمع‬
‫كما أشار إليه الطويف وغيره‪ .‬وهو ضروري لقوة المصلحة‬
‫المستجلبة كما يشير العز بن عبدالسالم‪« :‬طلب الشرع‬
‫لتحصيل أعلى الطاعات كطلبه لتحصيل أدناها يف الحد‬
‫والحقيقة‪ ،‬كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع‬
‫أدناها إذ ال تفاوت بين طلب وطلب‪ ،‬وإنما التفاوت بين‬
‫المطلوبات من جلب المصالح ودرء المفاسد»(‪.)1‬‬
‫وهذا يجعل األمر غير محصور والمجال غير مغلق‬
‫أمام ما قد يظهر أنه ضرورة حاقة يضطر الناس إليها مما‬
‫جعل بعض المقاصديين المعاصرين يضيفون الحرية‬
‫والمساواة وغيرهما‪.‬‬
‫‪ - 1‬العز ابن عبد ال�سالم القواعد ‪.23 /1‬‬

‫‪154‬‬
‫• ثان ًيا ‪ :‬تذبذب االنتماء لبعض القضايا بين الضروري‬
‫والحاجي‪.‬‬
‫لقد نشأ ع��ن ه��ذا االض��ط��راب يف حصر وتحديد‬
‫الضرورات ثالثة أمور‪ :‬أولها‪ :‬اختالفهم يف موقع بعض‬
‫القضايا هل هي من باب الضرورات أو الحاجات كالبيع‬
‫تجلي ذلك‪ ،‬فالسبكي‬ ‫واإلجارة والنكاح‪ .‬وهذه النصوص ّ‬
‫«إن البيع من الحاجي»‪،‬‬ ‫يف «جمع الجوامع» يقول‪ّ :‬‬
‫وكذلك الفهري يرى أن البيع حاجي إال أنه انتهى إلى‬
‫أن شرعية أصل البيع من الضروريات‪ ،‬فإنه ال يمكن‬
‫بقاء الحياة بدون األقوات يف الغالب‪ ،‬وال يتوصل إليه‬
‫إال بالمعاوضات‪ .‬واختار األبياري أن اإلجارة والبيع من‬
‫قبيل الضروريات‪ .‬وقال إمام الحرمين‪« :‬البيع ضروري‬
‫بخالف اإلجارة»‪ .‬وجعل الفهري النكاح من الحاجيات‪،‬‬
‫وظاهر ك�لام األب��ي��اري أن��ه من الضروريات ألن��ه شرع‬
‫لتحصين النفوس»(‪.)1‬‬
‫واستشكل العبادي يف «اآليات البـينات» جعل حفظ‬
‫المال من الضروري والبيع من الحاجي مع أن ضرورية‬
‫‪ -1‬حلولو‪ ،‬ال�ضياء الالمع ‪ ،33 /4‬الطبعة احلجرية‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫المال إنما هي لتوقف البنية عليه‪ ،‬وحينئذ فأي فرق بين‬
‫المال الذي يف يده والمال الذي يراد تحصيله بالبيع‪ ،‬ولم‬
‫كان حفظ األول ضرور ًيا دون الثاين مع التوقف على كل‬
‫(‪)1‬‬
‫منهما»‪.‬‬
‫كذلك اختلفوا يف صون العرض من الوقيعة فيه هل من‬
‫الضروري أو الحاجي‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬إحداثهم للتتمة وهي الملحق بكل مقصد‬
‫ليكون يف مرتبته بشرط أن ال يبطله‪.‬‬
‫ولكل م��ن المراتب ال��ث�لاث ال��ض��روري والحاجي‬
‫والتحسيني ملحق يلحق به يف رتبته‪ ،‬والتكملة لها شرط‬
‫وهو أن ال يعود اعتبارها على األصل باإلبطال كما أفاده‬
‫يف نشر البنود(‪.)2‬‬
‫ومثل األبياري لمكمل الحاجي بنفي الغرر قائال‪« :‬إنه‬
‫تكملة لها لما يتوقع من خصام ونزاع‪ ،‬ونفي جميع الغرر‬
‫يضيق أبواب المعامالت ويحسم جهات المعاوضات‬
‫والتكميالت إنما تراعى إذا لم يفض اعتبارها إلى إبطال‬

‫‪ -1‬راجع كالمه يف ن�شر البنود ‪.179 /2‬‬


‫‪� -2‬سيدي عبداهلل‪ ،‬ن�شر البنود ‪.180 /2‬‬

‫‪156‬‬
‫المهمات‪ ،‬فإن أفضى إلى ذلك وجب اإلعراض عن التتمة‬
‫تحصيال لألمر المهم‪ ،‬فوجب المسامحة يف األغرار التي‬
‫ال انفكاك عنها مع يسارة ما يفوت‪ ،‬وبين اليسير والكثير‬
‫فروع تجاذب العلماء النظر فيها فمن مائل إلى جانب‬
‫العفو ومن مائل إلى جانب المنع»(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬ونفي الغرر يدخل فيما سماه اإلم��ام الطاهر‬
‫بالوضوح‪.‬‬
‫األمر الثالث‪ :‬اعرتاف بعضهم بعدم انحصار الضروري‬
‫وتداخل المقاصد‪ ،‬قال يف نشر البنود‪ :‬قد يكون الحاجي‬
‫يف األصل ضرور ًيا كاإلجارة لرتبية الطفل‪ ،‬وهبذا يعلم‬
‫عدم انحصار الضروري يف المذكورات(‪.)2‬‬
‫ويف النهاية فأنا أرى ‪ -‬واهلل سبحانه وتعالى أعلم وأحكم‬
‫‪ -‬أن الكلي الضروري أو الحاجي ال ينبغي حصرهما‬
‫حاجزا‬
‫ً‬ ‫بالعد اكتفاء بتسويرهما بالحد‪ ،‬وهو حد ال يضع‬
‫لقبـ ًيا وإنما يضع عالمات تؤشر إلى وزن المصلحة ووزن‬
‫الدليل وحالة المجتمع وظروفه ليكون التواصل بين‬

‫‪ -1‬حلولو ال�ضياء الالمع ‪ ،36 /3‬الطبعة احلجرية‪.‬‬


‫‪� -2‬سيدي عبداهلل ولد احلاج ابراهيم ن�شر البنود ‪.181 /2‬‬

‫‪157‬‬
‫منظومتي الضروري والحاجي منسا ًبا ليس بالمعنى الذي‬
‫قرره أبو المقاصد األستاذ أبو إسحاق الشاطبي وفطن له‬
‫وهو أن الضروري ال يستغني عن الحاجي ألنه بمنزلة‬
‫المكمل له‪ ،‬فقد يختل الضروري باختالل الحاجي‪،‬‬
‫وكذلك الحاجي مع التحسيني(‪.)1‬‬
‫فهي عنده كاللبنات المتساندة ولكن بمعنى آخر وهو‬
‫‪ - 1‬قال ال�شاطبي‪� :‬إذا ثبت �أن التح�سيني يخدم احلاجي‪ ،‬و�أن احلاجي يخدم‬
‫ال�ضروري؛ ف�إن ال�ضَّ روري هو املطلوب‪ .‬فهذه مطالب خم�سة ال بد من بيانها‪:‬‬
‫�أحدها‪� :‬أن ال�ضَّ روري �أ�صل ملا �سواه من احلاجي والتكميلي‪.‬‬
‫والثاين‪� :‬أن اختالل ال�ضروري يلزم منه اختالل الباقيني ب�إطالق‪.‬‬
‫والثالث‪� :‬أنه ال يلزم من اختالل الباقيني ب�إطالق اختالل ال�ضروري ب�إطالق‪.‬‬
‫والرابع‪� :‬أنه قد يلزم من اختالل التح�سيني ب�إطالق �أو احلاجي ب�إطالق اختالل‬
‫بوجه ما‪.‬‬‫ال�ضروري ٍ‬
‫واخلام�س‪� :‬أنه ينبغي املحافظة على احلاجي وعلى التَّح�سيني لل�ضروري‪.‬‬
‫بيان الأول �أنَّ م�صالح الدِّ ين مبن َّية على املحافظة على الأمور اخلم�سة املذكورة فيما‬
‫تقدَّم‪ ،‬ف�إذا اعترب قيام هذا الوجود الدُّنيوي مبن ًّيا عليها‪ ،‬حتى �إذا انخرمت مل يبق‬
‫للدُّنيا وجود ‪�-‬أعني‪ :‬ما هو خا�ص باملك َّلفني والتَّكليف‪ -‬وكذلك الأمور الأخروية ال قيام‬
‫لها �إال بذلك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫تجَ‬
‫فلو ُعدم الدِّ ين عدم ترت ُُّب اجلزاء املر ى‪ ،‬ولو ُعدِ َم املكلف لعُدِ َم من َي َتدَّين‪ ،‬ولو ُعدم‬
‫العقل الرتفع التد ُّين‪ ،‬ولو ُعدم ال َّن�سل مل يكن يف العادة بقاء‪ ،‬ولو ُعدم املال مل يبق‬
‫عي�ش و�أعني باملال ما يقع عليه امللك وي�ستبد به املالك عن غريه �إذا �أخذه من وجهه‪،‬‬
‫وي�ستوي يف ذلك املطعم وال�شراب واللبا�س على اختالفها‪ ،‬وما ي�ؤدي �إليها من جميع‬
‫املتموالت؛ فلو ارتفع ذلك مل يكن بقاء‪ ،‬وهذا كله معلوم ال يرتاب فيه من عرف ترتيب‬
‫�أحوال الدنيا‪ ،‬و�أ َّنها زا ٌد للآخرة»‪ .‬املوافقات ‪31 /2‬‬
‫قلت‪ :‬وحتليل ال�شاطبي غري م�سبوق دندن حوله القرايف يف النفائ�س والغزايل يف‬
‫ال�شفاء ومل ينعما لوكه وتطرق �إليه الطويف يف املنا�سب دون ا�ستيفاء‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫أن مفردات الكلي الحاجي ليست مستقرة يف أسفل السلم‬
‫ولكنها توجد يف الكلي الضروري متماهية مع مضمونه‬
‫ومفاهيمه لكن بعض مضامينها قد يصبح حاج ًيا طب ًقا‬
‫لميزان المصلحة ووزن الدليل‪.‬‬
‫فال غنى ألحدهما عن اآلخر فوضع الحدود عالمة‪،‬‬
‫والوعد والوعيد عالمة‪ ،‬وق��وة المصلحة المستجلبة‬
‫والمفسدة المستدفعة عالمة‪ ،‬وقوة الدليل‪ .‬وكلها تتضامن‬
‫يف تشكيل صورة الضروري وتجميع جزئياته‪.‬‬
‫وطب ًقا لهذا المفهوم الجديد القديم فالبيع مثال هو‬
‫ضروري حاجي‪ ،‬فلو راجعنا النصوص الشرعية لوجدنا أن‬
‫البيوع المتعلقة بالطعام قد أحاطها الشارع بقيود وشروط‬
‫من التقابض واإلعالن والرتويج ومنع االحتكار لم يحط‬
‫به غيرها‪ ،‬كما قصر المالكية منع البيع قبل القبض على‬
‫الطعام دون غيره مما جعل خليال يف التوضيح يقول إهنا‬
‫تعبدية‪ ،‬والقرايف يقول لشرف الطعام‪ .‬فال يمكن والحال‬
‫هذه إال أن نقول إنه من باب الضروري إذا قابلناه ببيع‬
‫أدوات التجميل والرتفيه التي تغزو أسواق الجياع‪ ،‬والتي‬
‫جوازا‪،‬‬
‫ً‬ ‫هي يف أحسن أحوالها تقع يف المقصد التحسيني‬
‫‪159‬‬
‫وهو المقصد الذي يقع فيه منع بيع النجاسات والجيف‬
‫وغيرها من محرمات األعيان ماعدا الخمر فإن منع بيعها‬
‫ملحق بمقصد العقل وهو ض��روري سدًّ ا للذريعة «إن‬
‫الذي حرم شرهبا حرم بيعها» كما يف الحديث الصحيح‪.‬‬
‫وكذلك منع بيع الصنم سدا لذريعة العبادة فهو ملحق‬
‫بحفظ الدين‪.‬‬
‫مقصورا على جهة‬‫ً‬ ‫وبما تقدم ال يكون حفظ المال‬
‫الحفظ من االعتداء عليه بانتزاعه من يد مالكه‪ ،‬وال حفظ‬
‫مقصورا على منع االعتداء على البضع الذي هو‬ ‫ً‬ ‫النسب‬
‫ترجيحا ألحد شقي‬ ‫ً‬ ‫من الضروري بل يدخل فيه النكاح‬
‫القاعدة التي ذكرها المقري وغيره ونظمها الزقاق بقوله‪:‬‬
‫هـل النكـاح قوت أو تفكـُّه إعـفاف والـــد عـليـه يفقـه‬
‫تأمــل األم وهل تبعـــــض دعـوى وبتـة بعـتـق يفـرض‬
‫قال يف نشر البنود‪« :‬واختلف أهل مذهبنا هل النكاح‬
‫من باب الحاجيات بناء على أنه تفكه أو من الضروري‬
‫بناء على أنه من باب األقوات‪ ،‬ووجه كونه من الضروري‬
‫أنه شرع لتحصين النفوس»‪.‬‬
‫فالذي نختاره أن النكاح قد يكون يف مرتبة الضروري‬

‫‪160‬‬
‫احتياجا شديد ًا‪ ،‬وقد يكون يف مرتبة الحاجي‬
‫ً‬ ‫لمحتاجه‬
‫للمحتاج الذي ال يخاف العنت‪.‬‬
‫وتصير الوقيعة يف العرض يف مرتبة الضروري إذا تعلق‬
‫باألنساب‪ ،‬وبعضه اآلخر يف مرتبة الحاجي وهو رأي‬
‫معرتضا على تسوية السبكي للعرض‬ ‫ً‬ ‫لبعض األصوليين‬
‫بالمال قائال‪ :‬إن حفظ العرض قد يكون صيانة لألنساب‬
‫عن تطرق الشك فيكون أعلى من المال ومنه ما هو دون‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فتتواصل المنظومتان دون تقيد باأللقاب بل بالنظر‬
‫لرجحانية المصالح يف ضوء الدليل والقرائن الحافة‪.‬‬
‫وقد انتبه األصوليون لذلك يف النفقة حيث قرروا أن‬
‫الوصف الواحد قد يكون ضرور ًيا حاج ًيا لكن بنسب‬
‫وإض��اف��ات‪ ،‬كالنفقة فإهنا على النفس ضرورية وعلى‬
‫الزوجة حاجية كما البن حلولو‪ ،‬وأضاف الطويف وعلى‬
‫األقارب تتمة‪.‬‬
‫خالصة القول‪ :‬إن العالقة بين منظومات المقاصد‬
‫الثالثة ال ينبغي أن تكون تكاملية كما وصل إليه الشاطبي‪،‬‬
‫وكما رسمه ابن حلولو يف الضياء الالمع بقوله‪« :‬واعلم‬
‫‪161‬‬
‫أن الحاجيات والتحسينيات كالتتمة للضروريات‬
‫والتحسينات كالمكملة للحاجيات‪ ،‬فإن الضروريات هي‬
‫أصول المصالح‪ ،‬وكل تكملة فلها من حيث هي تكملة‬
‫شرط وهي أن ال يعود اعتبارها على األصل باإلبطال‪،‬‬
‫فإنه متى عادت عليه باالعتبار سقط االعتبار»(‪.)1‬‬
‫بل ال��ذي نقوله هو أن العالقة اندماجية‪ ،‬ونتفق مع‬
‫أن أصل‬‫أستاذ المقاصد الشريف‪ /‬أحمد الريسوين يف َّ‬
‫هذا الحصر اجتهادي‪ ،‬وبالتالي فهو مفتوح لإلضافة مع‬
‫االعرتاف مع األستاذ أبي إسحاق يف قواعده أن الكليات‬
‫الخمس‪ :‬الدين والنفس والعقل والنسل والمال (‪ ،)2‬هي‬
‫‪ -1‬ابن حلولو‪ ،‬حا�شية على جمع اجلوامع ‪ ،35 /3‬الطبعة احلجرية‪.‬‬
‫‪ -2‬هذا احل�صر اعرت�ض عليه فيل�سوف الإ�سالم املعا�صر طه عبدالرحمن بقوله‪« :‬غري‬
‫�أن هذا احل�صر ُيعرت�ض عليه من جهتني‪ :‬من جهة جعل امل�صالح خم�سة �أجنا�س‪،‬‬
‫ومن جهة اخت�صا�ص امل�صالح ال�ضرورية بهذه الأجنا�س اخلم�سة‪ .‬ال ميكن الت�سليم‬
‫بانح�صار ال�ضروريات يف خم�سة �أجنا�س‪ ،‬لأن ذلك يخل بال�شروط املنطقية واملنهجية‬
‫املطلوبة يف التق�سيم‪ ،‬فال ي�ستويف �شرط متام احل�صر‪� ،‬إذ ال مينع من دخول عنا�صر‬
‫�أخرى فيه‪ ،‬فقد �أدخل بع�ضهم «العر�ض» و»العدل»‪ ،‬وال يقوم ب�شرط التباين‪ ،‬فالعن�صر‬
‫الواحد من هذه العنا�صر لي�س مباين ًا ملا عداه من العنا�صر الأخرى‪ ،‬مثل حفظ النف�س‬
‫وحفظ العقل؛ كما ال ي�ستويف �شرط التخ�صي�ص‪ ،‬فلي�س كل عن�صر من هذه العنا�صر‬
‫�أخ�ص من الأ�صل املح�صور الذي هو ال�شريعة‪ ،‬فالدين الذي اعترب عن�صرا هو كذلك‬
‫م�ساو لل�شريعة‪(.‬جتديد املنهج يف تقومي الرتاث �ص‪.)111‬‬
‫رَ َ َ َ ُ‬
‫كم ّم َِن ّ‬
‫ِين َما‬
‫ٱدل‬
‫ْ ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫﴿ش‬ ‫إميان الذي خوطب به كل الر�سل‬ ‫هنا هو َ ال‬ ‫قلت‪ :‬الدين‬
‫ِيس أ ۡن أق ُ‬
‫ِيموا ّ‬
‫ٱدل َ‬ ‫ِيم َو ُم ىَ ٰ َ ىَ‬ ‫ٓ يَ‬ ‫ذَّ‬ ‫ُ ٗ َ ٓ ۡ ََۡ ۡ َ‬
‫ك َو َما َو َّص ۡي َنا بهِۦٓ إبۡ َرٰه َ‬ ‫َو ىَّ ٰ‬
‫ِين‬ ‫وس وع ٰٓ ۖ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ص بِهِۦ نوحا وٱلِي أوحينا إِل‬

‫‪162‬‬
‫أصل المصالح؛ ولهذا فستظل العناوين الرئيسية‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫كل المقاصد األخرى سواء كانت من مقاصد الشارع أو‬
‫مقاصد المكلفين غير منافية لها ستبقى راجعة إليها إما‬
‫بالتبع أو األيلولة‪ ،‬فمجمل الكبائر وكبيرات الفضائل‬
‫سواء كانت مرجعيتها الفر َد أو موضوعها الجماع َة ال بد‬
‫أن تالحظ هذه الكليات بشكل من األشكال أو ضرب من‬ ‫ْ‬
‫الضروب‪ ،‬وإن كانت كلمة «حفظ» التي أطلقها األولون‬
‫عنوانًا للمقصد تشير إلى نوع من الحصر فلو أزيلت‬
‫ليكون المقصد مثال‪ :‬الدين والنفس والمال‪ ..‬إلى آخره‬
‫لزال االعرتاض وحصل المطلوب‪.‬‬
‫وعلى كل حال فمن أراد أن يتعرف إلى المقاصد يف‬
‫كل جزئية فما عليه إال أن يرجع إلى ميزان النصوص‬
‫وضرورات الناس وحاجاهتم ليثبت المرتبة‪.‬‬

‫ْ‬ ‫اَ‬
‫َول َت َت َف َّرقُوا فِي ۚهِ﴾ لأن هذه الكليات ال تختلف فيها امللل كما يقول ال�شاطبي وغريه‪ ،‬قال‬
‫يف املراقي‪:‬‬
‫ٌ‬
‫دينٌ فنف�س ث ـ ــم عقـ ــل ن�سب م ــال �إىل �ضـ ـ ــرورة تنتـ ــ�سب‬
‫ورتنب ولتعطف ـ ـ ــن م�س ـ ــاويا عر�ض ًا على املـ ــال تكن موافيا‬
‫فحفظها حتم على الإن�س ــان يف كل �ش ـ ـ ـ ـ ــرعة من الأديان‬
‫�إذا فال تداخل فكل واحدة منهن �ضرورة �إن�سانية لقيام جمتمع منظم‪ .‬واهلل �أعلم‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫المشهد الخامس‬

‫استنباط المقاصد‬
‫واستخراجها‬
166
‫• جهات استنباط المقصد لدى الشاطبي‬
‫ِ‬
‫الحكم َّ‬
‫بأن‬ ‫يتوص ُل هبا إ َل��ى‬
‫َّ‬ ‫ونعنِي ِبه الكيفي َة التِّي‬
‫مقصد الشارع من أمر أو هني أو أي خطاب فيه إخبار أو‬
‫فعل المعصوم أو تقريره‪.‬‬
‫الشاطبي منها ألربع جهات‪ ،‬حيث قال‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫تعرض‬‫وقد َّ‬
‫«يف الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع؛ فنقول‪ ،‬وباهلل‬
‫التوفيق‪ :‬إنه ُيعرف من جهات‪:‬‬
‫ِ‬
‫التصريح ِّي‪،‬‬ ‫االبتدائي‬ ‫ِ‬
‫والنهي‬ ‫ِ‬
‫األمر‬ ‫إحداها‪ :‬مجر ُد‬
‫ِّ‬
‫فوقوع‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الفعل؛‬ ‫أمرا القتضائِه‬ ‫األمر معلو ٌم أنَّه إنَّما َ‬
‫كان ً‬ ‫فإن َ‬ ‫َّ‬
‫األمر بِه مقصو ُد للشارع‪ ،‬وكذلك النهي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجود‬ ‫الفع ِل عندَ‬
‫معلوم أنه مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه؛ فعدم وقوعه‬
‫أن عدم إيقاع‬ ‫مقصو ٌد له‪ ،‬وإيقاعه مخالف لمقصوده‪ ،‬كما َّ‬
‫مخالف لمقصوده‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫المأمور به‬
‫والنهي مِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األمر‬ ‫لمن اعتربَ مجر َد‬ ‫ظاهر عا ٌّم َ‬
‫ٌ‬ ‫فهذا وج ٌه‬
‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫غير ٍ‬ ‫ِ‬
‫والمصالح‪ ،‬وهو‬
‫َ‬ ‫العلل‬ ‫ولمن اعتربَ‬ ‫نظر إ َلى ع َّلة‪َ ،‬‬
‫األصل الشرعي‪.‬‬
‫تحر ًزا من األمر أو النهي الذي‬ ‫وإنما قيدَّ باالبتدائي ُّ‬

‫‪167‬‬
‫َ ۡ َ ۡ ْ ىَ ٰ ۡ هَّ َ َ ُ ْ‬
‫ُقصد به غيره؛ كقوله تعالى‪﴿:‬فٱسعوا إِل ذِك ِر ٱللِ وذروا‬
‫بۡ‬
‫ليس هن ًيا مبتد ًأ‪،‬‬ ‫النهي ع ْن البي ِع َ‬ ‫ٱلَ ۡي َ ۚع﴾ (الجمعة‪َّ ،)9:‬‬
‫فإن‬
‫َ‬
‫النهي المقصودِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالسعي؛ فهو من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لألمر‬ ‫بل هو تأكيدٌ‬
‫األول‪ ،‬كما‬ ‫ِ‬ ‫بالقصد الثانِي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ليس منه ًّيا عن ُه بالقصد َّ‬ ‫فالبيع َ‬ ‫ُ‬
‫عي عندَ‬ ‫الس ِ‬ ‫والزنى مثلاً ‪ْ ،‬بل ألج ِل تعطي ِل َّ‬ ‫هني عن الربا ِّ‬
‫قصد الشار ِع مِن‬ ‫ِ‬ ‫ففي َف ِ‬
‫هم‬ ‫هذا؛ ِ‬ ‫االشتغال بِه‪ ،‬و َما شأنُه َ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫المرتجمة‬ ‫ِ‬
‫المسألة‬ ‫منشؤه مِن أص ِل‬ ‫واختالف‪،‬‬ ‫نظر‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫مجرده ٌ‬ ‫َّ‬
‫بالصالة يف الدار المغصوبة‪.‬‬
‫أو النَّهي‬ ‫األم��ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫بالتصريح ِّي ت��ح ُّ��ر ًزا مِ��ن‬ ‫ِ‬ ‫وإنما ق َّيد‬
‫ال��ذي ليس بمصرح بِ��ه؛ كالنَّهي عن أض ِ‬
‫��داد‬ ‫الضمنِي ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫النهي‬ ‫تضمنَه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫واألمر الذي َّ‬ ‫األمر‪،‬‬
‫تضمنه ُ‬ ‫المأمور به الذي َّ‬
‫فهما‬ ‫قيل هبما؛ ُ‬ ‫إن َ‬ ‫واألمر ها ُهنا ْ‬ ‫َّهي‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫عن الشيء‪ ،‬فإن الن َ‬
‫األول؛ إ ْذ مجراهما عندَ القائ ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫بالقصد الثاني ال بالقصد َّ‬
‫فإن قِ َيل‬ ‫المصرحِ بِه ‪ْ .‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫النهي‬ ‫أو‬ ‫لألمر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التأكيد‬ ‫مجرى‬ ‫هبما َ‬ ‫َ‬
‫األمر‬ ‫َ‬
‫وكذلك‬ ‫ِ‬
‫أوضح في عد ِم القصد ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فاألمر‬ ‫بالن ِ‬
‫َّفي؛‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المذكور يف مسألة «ما ال يتم‬ ‫ُ‬ ‫ال ِبه‪،‬‬ ‫المأمور إ َّ‬ ‫ُ‬ ‫يتم‬
‫بما ال ُّ‬
‫ِ‬
‫مقصود‬ ‫هذا على‬ ‫َّهي فِي َ‬ ‫األمر والن ِ‬ ‫ِ‬ ‫الواجب إال به»؛ فدالل ُة‬

‫‪168‬‬
‫َ‬
‫ولذلك‬ ‫متنازع فِيه‪َ ،‬فليس داخلاً فيما نح ُن فِيه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الشار ِع‬
‫ِ‬
‫بالتصريحي‪.‬‬ ‫والنهي‬
‫ُ‬ ‫ُق ِّيد ُ‬
‫األمر‬
‫أمر هبذا‬
‫والنهي‪ ،‬ولماذا َ‬
‫ِ‬ ‫علل األم��رِ‬
‫ِ‬ ‫والثانية‪ :‬اعتبار‬
‫اآلخر؟‬ ‫هذا َ‬ ‫الفعل؟ ولماذا نَهى ع ْن َ‬
‫تكون معلوم ًة أو ال‪ :‬فإن كانت معلوم ًة‬ ‫َ‬ ‫والع َّلة إ َّما ْ‬
‫أن‬
‫والنهي مِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األمر‬ ‫وجدت وجد مقتضى‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫فحيث‬ ‫ا ُّتبعت‪،‬‬
‫لمصلحة التناسلِ‪ ،‬والبي ِع‬ ‫ِ‬ ‫القصد أو عدمِه؛ كالنكاحِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫لمصلحة‬ ‫ِ‬
‫والحدود‬ ‫ِ‬
‫عليه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بالمعقود‬ ‫لمصلحة االنتفا ِع‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫االزدجار‪.‬‬
‫الفقه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أصول‬ ‫ِ‬
‫المعلومة يف‬ ‫عرف العل ُة هنا بمسالِكها‬ ‫و ُت ُ‬
‫العلل‬ ‫تلك ُ‬ ‫أن مقصو َد الشار ِع ما اقتضتْه َ‬ ‫لم َّ‬ ‫نت ُع َ‬ ‫فإ َذا تع َّي ْ‬
‫غير‬ ‫كانت َ‬ ‫وإن ْ‬ ‫مِن الفع ِل ْأو عدمِه‪ ،‬ومن التس ُّبب أو عدمِه‪ْ ،‬‬
‫عن القط ِع ع َلى الشار ِع أنَّه‬ ‫معلومة؛ فال بدَّ مِن التو ُّقف ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫النظر‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وجهان م َن‬ ‫التوقف هنَا ل ُه‬
‫َ‬ ‫أن‬‫ال َّ‬
‫وكذا؛ إ َّ‬ ‫كذا َ‬ ‫قصدَ َ‬
‫الحكم‬ ‫ِ‬ ‫عليه فِي َ‬
‫ذلك‬ ‫أن ال يتعدَّ ى المنصوص ِ‬
‫ُ‬ ‫أحدهما‪ْ :‬‬
‫ِ‬
‫بالعلة‬ ‫ألن التعدِّ ي مع الجه ِل‬ ‫السبب المع َّين؛ َّ‬ ‫ِ‬ ‫المع َّين أو‬
‫يصح‬ ‫ُّ‬ ‫غير سبيلٍ‪ ،‬وال‬ ‫وضالل على ِ‬ ‫ٌ‬ ‫غير دليل‪،‬‬ ‫تح ُّك ٌم من ِ‬
‫ٍ‬
‫عمرو‪ ،‬ونح ُن ال‬ ‫حكما ع َلى ْ‬ ‫ً‬ ‫بما ُوضع‬ ‫الحكم ع َلى زيد َ‬ ‫ُ‬
‫‪169‬‬
‫أن الشارع قصدَ الحكم ِبه ع َلى ٍ‬
‫لم‬ ‫ال؛ ألنَّا إ َذا ْ‬ ‫زيد ْأو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نعلم َّ‬‫ُ‬
‫فنكون قد أقدمنَا‬ ‫ُ‬ ‫كما عليه‪،‬‬ ‫يكون ُح ً‬ ‫َ‬ ‫أن َ‬
‫ال‬ ‫ذلك أمك َن ْ‬ ‫نعلم َ‬ ‫ْ‬
‫ف هنَا لعد ِم الدَّ ليل‪.‬‬ ‫على مخالفة الشارعِ؛ فالتو ُّق ُ‬ ‫ِ‬
‫أن‬ ‫الموضوعة شر ًعا ْ‬ ‫ِ‬ ‫األصل َفي األحكا ِم‬ ‫َ‬ ‫والثاين‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫لذلك‬ ‫َ‬ ‫عرف قصدُ الشار ِع‬ ‫ال ُيتعدَّ ى هبا محا ُّلها حتَّى ُي َ‬
‫دليل على‬ ‫ألن عد َم نصبِه دليلاً على التعدِّ ي ٌ‬ ‫التَّعدي؛ َّ‬
‫عد ِم التعدِّ ي؛ إ ْذ لو كان عندَ الشار ِع متعديا لنصب ِ‬
‫عليه‬ ‫َ‬ ‫ِّ ً‬
‫العلة معروفةٌ‪ ،‬وقد ُخبِر‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ومسالك‬ ‫ووضع ل ُه مسل ًكا‪،‬‬ ‫دليلاً‬
‫َ‬
‫مسلك مِن‬ ‫ٌ‬ ‫فلم توجدْ ل ُه عل ٌة يشهدُ لها‬ ‫محل الحكم؛ ْ‬ ‫هبا ُّ‬
‫غير‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أن التعدِّ َي ِ‬ ‫فصح َّ‬ ‫المسالِك؛‬
‫المنصوص عليه ُ‬ ‫لغير‬ ‫َّ‬
‫مقصود للشارعِ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫الموضع؛ إ َّ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫المسلكان كالهما مت ِ‬
‫َّج ٌه يف‬ ‫ِ‬ ‫ف��ه ِ‬
‫��ذان‬
‫ُ‬
‫��أن التَّعدِّ َي‬ ‫غير ج��ز ٍم ب َّ‬ ‫ف مِن ِ‬ ‫يقتضي التو َّق َ‬ ‫ِ‬ ‫األو َل‬ ‫أن َّ‬ ‫َّ‬
‫إمكان أنَّه مرا ٌد؛ فيب َقى‬ ‫َ‬ ‫ويقتضي َ‬
‫هذا‬ ‫ِ‬ ‫مراد‪،‬‬‫المفروض غير ٍ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫يكون مقصو َد‬ ‫َ‬ ‫الناظر باح ًثا حتَّى يجدَ مخ َل ًصا؛ إ ْذ يمك ُن ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫يكون مقصو ًدا له‪ ،‬والثاين يقتضي‬ ‫َ‬ ‫أن َ‬
‫ال‬ ‫الشارعِ‪ ،‬ويمك ُن ْ‬
‫نفي التَّعدِّ ي من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫غير مراد؛ فينبني عليه ُ‬ ‫جز َم القضية بأنَّه ُ‬
‫ٍ‬
‫مقصود َله‪ ،‬إ ْذ‬ ‫غير‬ ‫ِ‬ ‫غير تو ُّق ٍ‬
‫علما أو ظنًا بأنه ُ‬ ‫ويحكم به ً‬ ‫ُ‬ ‫ف‪،‬‬
‫‪170‬‬
‫ذلك َّ‬‫لم نجدْ َ‬ ‫ِ‬ ‫لو َ‬
‫دل‬ ‫لنصب عليه دليلاً ‪ّ ،‬‬
‫ولما ْ‬ ‫َ‬ ‫كان مقصو ًدا‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫المعتقد‬ ‫خالف‬
‫َ‬ ‫يوضح‬ ‫فإن أ َتى ما ِّ‬‫مقصود‪ْ ،‬‬ ‫ع َلى أنَّه ُ‬
‫غير‬
‫الحكم‪ ،‬ثم ي َّطلع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كالمجتهد يجز ُم القضي َة يف‬ ‫رجع ِ‬
‫إليه‪،‬‬ ‫َ‬
‫ينسخ جز َمه إلى خالفه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بعدُ على دلي ٍل‬
‫ألن أحدَ هما‬ ‫مسلكان متعارضان؛ َّ‬ ‫ِ‬ ‫قيل‪ :‬فهما‬ ‫ف��إن َ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫النظر‬ ‫يقتضيه‪ ،‬وهما فِي‬ ‫ِ‬ ‫واآلخ��ر ال‬
‫َ‬ ‫يقتضي التو ُّق َ‬
‫ف‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫ال التو ُّق ُ‬
‫سوا ٌء‪ ،‬فإذا اجتم َعا تداف َعا أحكا َمهما؛ فال يب َقى إ َّ‬
‫َّجهان م ًعا؟‬ ‫فكيف يت َ‬ ‫َ‬ ‫وحدَ ه؛‬
‫ِ‬
‫بعض‬ ‫المجتهد فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يتعارضان عندَ‬ ‫فالجواب أنَّهما قدْ‬ ‫ُ‬
‫يرتجح‬ ‫َّ‬ ‫لم‬
‫كدليلين ْ‬ ‫ِ‬ ‫التوقف ألنَّهما‬ ‫ُ‬ ‫فيجب‬
‫ُ‬ ‫المسائِل؛‬
‫المجتهد ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫الحكم عندَ‬ ‫فيتفرع‬ ‫اآلخر‪،‬‬ ‫أحدُ هما ع َلى َ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫بحسب‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يتعارضان‬ ‫تعارض الدليلين‪ ،‬وق��دْ ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مسألة‬
‫فيقوى‬ ‫وقتين ْأو مسألتَين؛ َ‬ ‫ِ‬ ‫واحد فِي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مجتهد‬ ‫مجتهدَ ين ْأو‬
‫ٍ‬
‫مسألة‬ ‫النفي فِي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ومسلك‬ ‫مسلك التو ُّقف فِي مسألة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندَ ه‬
‫ِ‬
‫اإلطالق‪.‬‬ ‫تعارض ع َلى‬ ‫َ‬ ‫أخرى؛ فال‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫العبادات‬ ‫مقصد الشار ِع التفرق َة بي َن‬ ‫ِ‬ ‫وأيضا فقدْ علمنَا مِن‬ ‫ً‬
‫باب العبادات جه ُة التع ُّبد‪ ،‬ويف‬ ‫ِ‬ ‫غلب في ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والعادات‪ ،‬وأنَّه َ‬
‫والعكس فِي‬ ‫ُ‬ ‫االلتفات إ َلى المعانِي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العادات جه ُة‬ ‫باب‬ ‫ِ‬

‫‪171‬‬
‫البابين ٌ‬
‫قليل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫��اس ورف�� ِع‬ ‫إزال��ة األن��ج ِ‬ ‫ِ‬ ‫مالك يف‬ ‫ٌ‬ ‫يلتفت‬ ‫��م‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ولذلك ل ْ‬
‫اشرتط الما َء المط َلق‬ ‫ِ‬ ‫مجر ِد‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫النظافة حتَّى‬ ‫األحداث إ َلى َّ‬
‫دون ذلك‪.‬‬ ‫حصلت النظاف ُة َ‬ ‫ْ‬ ‫األحداث النيةَ‪ْ ،‬‬
‫وإن‬ ‫ِ‬ ‫ويف رف ِع‬
‫ومنع‬ ‫والتسليم مقا َمهما‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التكبير‬ ‫إقامة ِ‬
‫غير‬ ‫ِ‬ ‫وامتنع مِن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مِن إخراجِ القي ِم فِي الزكاة‪ ،‬واقتصر على مجرد العددِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تقتضي‬ ‫ِ‬ ‫ذلك مِن المسائ ِل التِّي‬ ‫يف الك َّفارات‪ .‬إلى غير َ‬
‫عليه ْأو ما ماث َله‪.‬‬ ‫المنصوص ِ‬
‫ِ‬ ‫االقتصار ع َلى ِ‬
‫عين‬ ‫َ‬
‫فقال فيها بقاعدةِ‬ ‫��اب العادات المعنَى؛ َ‬ ‫ِ‬ ‫و َغ َّلب يف ب ِ‬
‫قال فيه‪« :‬إ َّن ُه تسع ُة‬ ‫واالستحسان الذي َ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المرسلة‬ ‫المصالحِ‬
‫مر الكال ُم يف هذا‬ ‫يتبع ذلك‪ .‬وقد َّ‬ ‫العلم» إلى ما ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أعشار‬
‫والدليل عليه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فمسلك النفي متم ِّكن يف العبادات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ثبت هذا‬ ‫وإذا َ‬
‫التوقف متم ِّك ٌن يف العادات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ومسلك‬
‫ِ‬
‫العبادات‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ب��اب‬ ‫أن ُت َ��را َع��ى المعانِي يف‬ ‫وق��دْ يمك ُن ْ‬
‫فيجري الباقِي عليه‪ ،‬وه َ��ي طريق ُة‬ ‫ِ‬ ‫ظهر من ُه ش��ي ٌء‬ ‫َ‬ ‫وق��دْ‬
‫ظهر من ُه‬‫باب العادات‪ ،‬وقد َ‬ ‫والتعبدات يف ِ‬ ‫ُ‬ ‫«الحنفية» ‪.‬‬
‫وهي طريق ُة «الظاهرية»‪ ،‬ولك َّن‬ ‫‪،‬‬ ‫فيجرى الباقِي ِ‬
‫عليه‬ ‫ِ‬ ‫شي ٌء‬
‫َ‬
‫‪172‬‬
‫العمد َة ما تقدم‪ .‬وقاعدة النفي األصلي واالستصحاب‬
‫راجعة إلى هذه القاعدة‪.‬‬
‫أن للشارع يف شر ِع األحكا ِم العاد َّية‬ ‫والجه ُة الثالثةُ‪َّ :‬‬
‫والعباد َّية مقاصدَ أصلي ًة ومقاصدَ تابعةً‪.‬‬
‫ِ‬
‫القصد‬ ‫مشروع للتناسل على‬ ‫مثال ذلك النكاح؛ فإن ُه‬
‫ٌ‬
‫والتعاون على‬ ‫ُ‬ ‫واالزدواج‬ ‫ِ‬
‫السكن‪،‬‬ ‫طلب‬ ‫ِ‬
‫ويليه‬ ‫األول‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫بالحالل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫واألخروية؛ من االستمتا ِع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدنيوية‬ ‫المصالحِ‬
‫والتجم ُل‬ ‫ُّ‬ ‫محاسن النِّساء‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اهلل مِن‬ ‫خلق ُ‬ ‫إلى ما َ‬ ‫وبالنظر َ‬ ‫ِ‬
‫نها أو مِن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫بمال المرأة‪ ،‬أو قيا ُمها عليه وع َلى أوالده م َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المحظور مِن‬ ‫ِ‬ ‫والتحفظ مِن الوقو ِع فِي‬ ‫ُ‬ ‫غيرها ْأو إخوتِه‪،‬‬
‫ِ‬
‫بمزيد‬ ‫ِ‬
‫الشكر‬ ‫العين‪ ،‬واالزدي��ا ُد مِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ونظر‬ ‫شهوة الفرجِ‬ ‫ِ‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫ِّعم مِن اهللِ علِى العبد‪ ،‬وما أشب َه َ‬ ‫الن ِ‬
‫هذا مقصو ٌد للشار ِع مِن شر ِع النكاحِ ‪ :‬فمن ُه‬ ‫فجميع َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫آخر‬ ‫مشار إليه‪ ،‬ومنه ما ُعلم بدلي ٍل َ‬ ‫ٌ‬ ‫منصوص عليه أو‬ ‫ٌ‬
‫ُص‬ ‫أن ما ن َّ‬ ‫وذلك َّ‬ ‫َ‬ ‫ذلك المنصوص؛‬ ‫ومسلك استُقرىء مِن َ‬ ‫ٍ‬
‫للمقصد األصلِ ِّي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المقصد التاب ِع هو مثبِ ٌت‬ ‫ِ‬ ‫عليه من هذا‬ ‫ِ‬
‫ومستجلب‬‫ٌ‬ ‫ومستودع لطلبِه وإدامتِه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومقو لحكمتِه‪،‬‬ ‫ٍّ‬
‫يحصل بِه‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الرتاحم والتواص ِل والتعاطف‪ ،‬الذي‬ ‫ِ‬ ‫لتوالِي‬
‫‪173‬‬
‫بذلك ع َلى‬ ‫التناسل؛ فاستدللنَا َ‬ ‫ُ‬ ‫مقصدُ الشار ِع األصلِي م َن‬
‫ذلك مقصو ٌد للشار ِع‬ ‫مما شأنُه َ‬ ‫ِ‬ ‫أن َّ‬ ‫َّ‬
‫ينص عليه َّ‬ ‫لم َّ‬ ‫كل َما ْ‬
‫الخطاب يف نكاحِ أ ِّم‬ ‫ِ‬ ‫بن‬ ‫عمر ِ‬ ‫أيضا؛ كما ُر ِوي من فع ِل َ‬ ‫ً‬
‫لشرف النَّسب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫طالب طل ًبا‬ ‫ٍ‬ ‫بن أبِ��ي‬ ‫بنت علي ِ‬ ‫كلثو ٍم ِ‬
‫ِّ‬
‫أن‬ ‫شك َّ‬ ‫البيوتات‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ .‬فال َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومواصلة أرف ِع‬
‫وأن قصدَ التس ُّبب ل ُه‬ ‫سائغ‪َّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫هذه‬ ‫النكاح لمث ِل ِ‬
‫َ‬
‫حس ٌن‪.‬‬
‫األمور مضاد ٌة لمقاصدِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نواقض هذه‬ ‫َ‬ ‫ذلك يتب َّي ُن َّ‬
‫أن‬ ‫وعندَ َ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫المواصلة‬ ‫كان مآ ُلها إ َلى ضدِّ‬ ‫حيث َ‬ ‫ُ‬ ‫بإطالق‪ ،‬مِ ْن‬‫ٍ‬ ‫الشار ِع‬
‫نكحها ليح ّلها لم ْن ط َّلقها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كما إ َذا َ‬ ‫والسكن والموافقة‪َ .‬‬
‫المواصلة التي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لقصد‬ ‫بمنعه مضا ٌّد‬ ‫ثال ًثا؛ فإنَّه عندَ القائ ِل ِ‬
‫غير شرط؛‬ ‫الحياة مِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشارع مستدام ًة إ َلى انقطا ِع‬ ‫ُ‬ ‫جعلها‬
‫نكاح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكذلك‬ ‫ِ‬
‫بالطالق‪.‬‬ ‫كان المقصو ُد من ُه المقاطع َة‬ ‫إ ْذ َ‬
‫ظهور‬‫ِ‬ ‫المتعة‪ ،‬وكل نكاحٍ ع َلى هذا السبيل‪ ،‬وهو أشدُّ يف‬ ‫ِ‬
‫لم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫محافظة الشار ِع على دوا ِم‬ ‫ِ‬
‫عما ْ‬
‫حيث هنَى َّ‬ ‫المواصلة‪،‬‬
‫فيه ذلك»(‪.)1‬‬ ‫يكن ِ‬
‫ْ‬
‫إن الشاطبي كان يمكن أن يستغني عن الجهة‬ ‫قلت‪َّ :‬‬ ‫ُ‬
‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.140 - 134/ 3‬‬

‫‪174‬‬
‫الثالثة باعتبارها داخلة يف الجهة األول��ى ض��رورة‪ ،‬ألن‬
‫ورود األمر من الشارع يقتضى طلب اإليقاع كما أن النهي‬
‫يقتضي طلب االمتناع‪ ،‬وكونه ابتدائيًا وهو الذي احرتز‬
‫به من األمر التبعي ال يستلزم ذلك‪ ،‬فاألمر االبتدائي ال‬
‫يسلتزم األصالة؛ فاألمر االبتدائي ‪ -‬كما أفهمه ‪ -‬يقتضي‬
‫ورود النص به على ح��دة؛ لكن األصالة أو التبعية أو‬
‫القصد األول والثاين فإنه مفهوم من جهة أخرى‪.‬‬
‫فاالبتدائية شيء واألصالة شيء آخر‪ .‬فلو حذف القيد‬
‫يف الجهة األول��ى وأبقي على االبتدائية بمعنى الذي‬
‫يفهم من ورود النص كما دلت عليه الفقرة األولى لكان‬
‫أوض��ح‪ ،‬وتكون الجهة الثالثة موضوعة لقسمة أخرى‬
‫لألمر االبتدائي أي أنه ينقسم إلى أصلي وتابع‪.‬‬
‫فاألصلي هو المقصود باألصالة أو بالقصد األول‪،‬‬
‫والتابع هو ما كان وسيلة أو شرطًا أو مكمال للمقصد‬
‫األصلي‪ .‬ف��األول كالسعي وت��رك البيع يف آية الجمعة‪.‬‬
‫والثاين كالطهارة يف آية المائدة‪ ،‬والثالث كالسكن والمودة‬
‫يف مقصد التزاوج كما يف آية سورة الروم‪ .‬وقد ذكره أبو‬
‫إسحاق؛ وإال فال فرق بين األصلي والتابع إال بالمعنى‬
‫‪175‬‬
‫الذي يتضمنه كل منهما والوظيفة التي يؤديها‪ ،‬فكالهما‬
‫ابتدائي من حيث الصيغة‪ .‬ومن الواضح أن اإلمام ‪ -‬رحمه‬
‫اهلل تعالى‪ -‬أراد بوصف االبتدائي التفريق بين القصد‬
‫األول والقصد الثاين؛ وحيث إن الصيغة ال فرق فيها كما‬
‫قال العز بن عبد السالم‪« :‬إذ ال تفاوت بين طلب وطلب‪،‬‬
‫وإنما التفاوت بين المطلوبات من جلب المصالح ودرء‬
‫أن نمنح االبتدائي معنى آخر لتتم‬ ‫المفاسد‪ »،،‬اخرتنا ّ‬
‫القسمة بين النص وبين المقصد خارج النص وهو النوع‬
‫الثاين‪ ،‬واهلل تعالى ولي التوفيق(‪.)1‬‬
‫أن األصلي هنا هو الذي عرب عنه‬ ‫ينبغي التنبيه هنا إلى َّ‬
‫القرايف بالمقصد أي المقصود بالطلب‪ ،‬وعرب عن التابع‬
‫أن الشاطبي يف تصنيفه للمقاصد منح‬ ‫بالوسيلة‪ ،‬كما َّ‬

‫‪ - 1‬متكن مالحظة �أن الو�صف باالبتدائي الذي ذكره ال�شاطبي يف الأمر والنهي لي�س‬
‫متداو ًال ‪-‬على حد علمي يف علم الأ�صول ‪ -‬ولعل �أ�صوله يف كتب البالغة عند �أتباع‬
‫ال�سكاكي وال�سعد التفتازاين‪ ،‬وذلك يف و�صف اخلطاب ال�ساذج اخلايل من �أية �أداة‬
‫للت�أكيد وهو يقابل يف الق�سمة الثالثية‪ :‬اخلطاب الطلبي والإنكاري‪ .‬قال ال�سيوطي‪:‬‬
‫ف�إن يخاطب خايل الذهن من حكم ومن تردد فلتغت ـ ــنى‬
‫عن امل�ؤكدات �أو م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــردّدا وطالب ًا فم�ستجيدا �أك ـ ـ ــدا‬
‫�أو منكرا فـ ـ ـ ـ ـ ـ�أكدن وـجـ ـ ــوبا بح�سب الإنكار فال�ض ــروبا‬
‫�أول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــها �سـ ـ ّـم ابتدائيا وما تاله فهو الطلـ ــبي وان ــتمى‬
‫تاليه للإنكــار ثم مقت ـ ـ ــ�ضى ظاهره �إيرادها كما م�ضى‬

‫‪176‬‬
‫األصالة والتبعية معنى آخر‪ ،‬حيث جعل األولى ما ال حظ‬
‫للمكلف به‪ ،‬والثانية ما فيه حظ كما مضى وقد علقنا عليه‪.‬‬
‫وينبغي أن نفرق هنا بين بعض المتقابالت يف القصود‬
‫ولو من خالل إدراج مصطلح الثانوي يف وصف القصد‬
‫التابع؛ ألنه نازل يف الرتبة عن المقصد األصلي‪ ،‬لكونه‬
‫شرطًا له أو مكمال أو وسيلة‪ .‬ونؤثر العلة بالقصد الثاين‬
‫ألهنا ليست نازلة يف الرتبة بل مساوية أو أعلى وألهنا سابقة‬
‫يف الوجود ‪ -‬افرتاضا لضرورة تقدم السبب على المسبب‬
‫‪ -‬وإن كانت الحقة يف الورود ‪ -‬على خاطر األصولي ‪ .‬إذ‬
‫لوال األصل الجزئي المنصوص لما سارت الخواطر إلى‬
‫العلة‪ .‬أما الثانوي فإنه قد يتزامن يف الورود مع األصلي؛‬
‫منصوص وبنفس الصيغة لكنه ناشئ عنه يف الوجود‬ ‫ٌ‬ ‫ألنه‬
‫المستد َعى بطلب اإليجاد‪ .‬فافهم ذلك‪.‬‬ ‫ُ‬
‫• استنباط المقاصد عند ابن عاشور‬
‫أما ابن عاشور يف الجهات فإنه فيما يبدو ظل على‬
‫تعريف المقاصد بالحكم والمعاين والعلل مضي ًفا بعدا‬
‫آخ��ر هو القطعية الناشئة عن االستقراء حيث استهل‬
‫باستقراء الجزئيات للوصول لحكمة متحدة أو تحصيل‬
‫‪177‬‬
‫مفهوم كلي إال أنه يف الطريق الثاين للتعرف على المقاصد‬
‫تحدث عن الدالالت الواضحة للقرآن والسنة المتواترة‬
‫وهذا يرجعنا إلى المقاصد االبتدائية الجزئية‪ ،‬ولكن من‬
‫زاوي��ة القطع ال��ذي يحاول ابن عاشور أن يضفيه على‬
‫المقاصد‪.‬‬
‫وإذا كان القطع بالورود والثبوت هو المعيار فإنه يكون‬
‫يف االبتدائية التي ليست حكما وال عللاً فيتناقض عنده مع‬
‫الطريق األول‪.‬‬
‫ونفس المالحظة تقال عن السنة المتواترة وهي الطريق‬
‫الثالث الذي يرتكز على الظن القريب من القطع بالنسبة‬
‫للصحابي واالحتمال بالنسبة لمتلقي الخرب‪.‬‬
‫من هناك ندرك فر ًقا جوهر ًيا بين الشاطبي وابن عاشور‬
‫يف زاوية النظر للتعرف على المقاصد‪.‬‬
‫فالشاطبي بحث عن طريق التعرف على المقصد‬
‫من خالل النصوص والمعاين األولى والثانية من حيث‬
‫الرتتيب يف سير عملية االستكشاف أو الثانوية من حيث‬
‫الرتبة يف العالقة بين المقصد األصلي والتابع ليصل يف‬
‫النهاية إلى سبيل رابعة لتوليد المقاصد من خاللها هي‬
‫‪178‬‬
‫سكوت ال��ش��ارع‪ ،‬تاركًا مسألة الثبوت إل��ى ال��دالالت‬
‫األصولية المعروفة‪ ،‬بينما كان ابن عاشور يرمي إلى تأكيد‬
‫ثبوت المقصدية وقوهتا باستقراء الجزئيات للوصول إلى‬
‫مقصد كلي أو من خالل نص قطعي داللة وورو ًدا‪.‬‬
‫إن الجهات التي ذكرها الشاطبي هي بالتأكيد الجهات‬
‫التي يتعرف على المقاصد من خاللها‪ ،‬وه��ي تشمل‬
‫الجزئي والكلي الظني والقطعي‪ ،‬ودالالت األلفاظ‬
‫ومعقول النصوص يف ترتيب منطقي يراعي الرتب ويقدم‬
‫األهم فالمهم‪.‬‬
‫لهذا فال يمكن اعتبار ما ذهب إليه ابن عاشور بديال‬
‫عن جهات الشاطبي بل ال بد أن ينظر إليه على أنه مكمل‬
‫لها باإللحاح على زاوية معينة هي زاوية التأكد من أكادة‬
‫المقصدية‪.‬‬
‫ولهذا فإن الشاطبي يمكن أن يعترب المنطلق األساس‬
‫لتعريف المقاصد بمستوياهتا األربعة المتمثلة يف جدلية‬
‫المعنى والمفهوم‪.‬‬
‫وهذا هو المستوى األول‪.‬‬
‫فالمعنى ما يعنيه المتكلم أو الساكت مأخوذ من العناية‪،‬‬
‫‪179‬‬
‫والمفهوم ما يفهمه المتلقي السامع أو المشاهد‪ ،‬وهما‬
‫متحدان بالذات مختلفان باالعتبار‪ ،‬وذلك إنما يعرف يف‬
‫الخطاب االبتدائي‪ ،‬الذي يمكن أن يعرب عنه بمدلوالت‬
‫اللغة وليس فقط يف صيغ األمر والنهي ولكن كل ما فهم‬
‫منه مدح أو قدح‪ ،‬قبول أو رد‪ ،‬استحسان أو استهجان‪ ،‬أو‬
‫إباحة أو عفو‪ ،‬أو إذن أو تأكيد‪ ،‬أو تخفيف أو تشديد‪.‬‬
‫َ َ َ َ َ ُّ ُ‬
‫ك ۡمۖ{‬ ‫وهذا كما أسلفنا يجيب عن ماذا؟ }ماذا قال رب‬
‫(سبأ‪ ،)23:‬وقد أشار إليه الشاطبي يف مبحث «بيان قصد‬
‫الشارع يف وضع الشريعة لإلفهام»‪.‬‬
‫أما المستوى الثاين فهو‪ :‬ما وراء النص من تعليل أو‬
‫مصالح يراد جلبها أو مفاسد يتوخى درؤه��ا‪ .‬وقد يعرب‬
‫عنه بالحكم ألن فيه حكمة توحي بالتعليل والصواب‬
‫والرشد‪ ،‬وباألسرار ألنه يف باطن اللفظ وليس يف ظاهره‪،‬‬
‫والمرامز التي ترمز إلى المراد حسب عبارة الباقالين‪.‬‬
‫إذ غال ًبا ما يبدو بعد بحث عقلي أو إبداء من الشارع‪.‬‬
‫أم��ا المستوى الثالث فهو كاللذين قبله يف عملية‬
‫االستكشاف إال أنه أبرزه باعتباره نو ًعا ثال ًثا لنزول رتبته‬
‫عن المقصد األصلي وهو تفريع عليه‪ .‬وقد أبدينا رأينا‬

‫‪180‬‬
‫حوله‪.‬‬
‫وقد ذكر الشاطبي مستوى رابعًا‪ ،‬وإنما قرره مستقال؛‬
‫ألنه يختلف يف وسيلة التعرف عليه عما قبله ولنزول رتبته‬
‫بناء على ذلك يف تأكد المقصدية وهو طريق السكوت؛‬
‫لكن الشاطبي يف تفصيل المقاصد العليا أو التي تمثل‬
‫أرضية لكل المقاصد ذكر مقصد وضع الشريعة ابتداء‬
‫جاز ًما بأنه لمصالح العباد يف العاجل واآلجل فإذا سلمت‬
‫هذه المقصدية مع مقدمة وضع الشريعة لإلفهام الذي‬
‫ينايف اإلهبام‪ ،‬وكما قال يف المراقي‪:‬‬
‫غير الذي ظهر للعقول‬ ‫وما به يعنى بال دليل‬
‫وشرحه بأنه ال يكون يف القرآن والسنة حشو وال لفظ‬
‫مقصود به غير ظاهره إال بدليل عقلي‪.‬‬
‫عرف ِبه‬
‫مما ُي ُ‬ ‫ِ‬
‫ثم ذكر جه ًة رابع ًة بقوله‪« :‬الجه ُة الرابع ُة َّ‬ ‫َّ‬
‫السكوت عن شر ِع التسبب‪ ،‬أو عن شرعيةِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الشارع‪:‬‬ ‫مقصدُ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫المقتضي َله‪.‬‬ ‫مع قيا ِم المعنَى‬‫العم ِل َ‬
‫ِ‬
‫الحكم ع َلى ضر َبين‪:‬‬ ‫سكوت الشار ِع ِ‬
‫عن‬ ‫َ‬ ‫ذلك َّ‬
‫أن‬ ‫وبيان َ‬‫ُ‬
‫ِ‬
‫تقتضيه‪،‬‬ ‫يسكت عنه؛ ألنَّه ال داعي َة ل ُه‬ ‫َ‬ ‫أحدهما‪ْ :‬‬
‫أن‬
‫حدثت بعدَ‬
‫ْ‬ ‫كالنوازل التِي‬
‫ِ‬ ‫يقدر ألجلِه؛‬ ‫ُ‬ ‫موجب‬
‫َ‬ ‫وال‬
‫‪181‬‬
‫مع‬ ‫ِ ِ‬
‫سكت عنها َ‬ ‫َ‬ ‫ثم‬
‫لم تك ْن موجود ًة َّ‬ ‫رس��ول اهلل؛ فإنَّها ْ‬
‫ِ‬
‫الشريعة‬ ‫فاحتاج ُ‬
‫أهل‬ ‫حدثت بعدَ َ‬
‫ذلك؛‬ ‫ْ‬ ‫وجودها ‑ وإنما‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫تقرر فِي كل َّياهتا ‪ .‬وما‬ ‫وإجرائها ع َلى ما َّ‬ ‫ِ‬ ‫النظر فيها‬ ‫ِ‬ ‫إ َلى‬
‫��ع إ َلى هذا القسم؛ كجم ِع‬ ‫الصالح راج ٌ‬ ‫ُ‬ ‫السلف‬
‫ُ‬ ‫أحد َثه‬
‫وتضمين الصنَّاع‪ ،‬وما أشبه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العلم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وتدوين‬ ‫المصحف‪،‬‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل ِﷺ‪ ،‬ولم تك ْن‬ ‫ِ‬ ‫ذكر يف ِ‬
‫زمن‬ ‫لم ِ‬ ‫َ‬
‫يجر ل ُه ٌ‬ ‫مما ْ‬ ‫ذلك َّ‬
‫موجب يقتضيها ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫عرض للعم ِل هبا‬ ‫نوازل زمانِه‪ ،‬وال َ‬ ‫ِ‬ ‫مِن‬
‫المقررة شر ًعا‬ ‫ِ‬ ‫القسم جاري ٌة فرو ُعه ع َلى أصولِه‬ ‫فهذا‬
‫ُ‬
‫الجهات‬ ‫ِ‬ ‫معروف مِن‬ ‫ٌ‬ ‫الشرعي فيها‬ ‫بِال إشكال؛ فالقصدُ‬
‫ُّ‬
‫قبل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المذكورة ُ‬
‫فلم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والثاين‪ْ :‬‬
‫يسكت عن ُه وموجب ُه المقتضي ل ُه قائ ٌم؛ ْ‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫ذلك‬ ‫كان يف َ‬ ‫النازلة زائدٌ على ما َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نزول‬ ‫حكم عندَ‬ ‫يقرر فيه‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫أن قصدَ‬‫كالنص ع َلى َّ‬ ‫الزمان ‪ .‬فهذا الضرب السكوت ِ‬
‫فيه‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫كان َ‬ ‫لما َ‬ ‫ِ‬
‫هذا المعنَى‬ ‫أن ال يزا َد فيه وال ين َقص؛ ألنَّه َّ‬ ‫الشار ِع ْ‬
‫لم يشرع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب لشر ِع‬ ‫ِ‬
‫ثم ْ‬ ‫الحكم العملي موجو ًدا َّ‬ ‫الموج ُ‬
‫أن الزائدَ ع َلى‬ ‫صريحا يف َّ‬ ‫ً‬ ‫كان َ‬
‫ذلك‬ ‫الحكم دالل ًة عليه؛ َ‬
‫كان هنالِك بدع ٌة زائدةٌ‪ ،‬ومخالف ٌة لما قصدَ ه الشارع؛ إ ْذ‬ ‫ما َ‬
‫الوقوف عند ما حدَّ هنالك‪ ،‬ال الزياد ُة ِ‬
‫عليه‬ ‫ُ‬ ‫قصده‬ ‫ُفهم مِن ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪182‬‬
‫ُ‬
‫النقصان منه»(‪.)1‬‬ ‫وال‬
‫• مقصد الترك ‪:‬‬
‫إن هذه المسألة ‪ -‬التي يمكن أن تسمى «ببدعة‬ ‫قلت‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫أمر يف محل ترك من قبل الشارع ‪-‬‬ ‫الرتك» ومعناها فعل ٍ‬
‫من أدق األمور التي وقع فيها االلتباس واختلف فيها‪ ،‬بل‬
‫اختصم فيها الناس‪.‬‬
‫فنقول‪:‬‬
‫أن تكون من المسائل‬ ‫إن مسألة ال�ترك تشبه ْ‬ ‫أولاً ‪َّ :‬‬
‫االجتهادية التي تختلف فيها أنظار العلماء‪ ،‬فيرتب بعضهم‬
‫عليها حكم الكراهة أو التحريم حسب األدلة التي يسوقها‬
‫لجانب ترك الفعل‪ ،‬بينما ال يعتربها البعض اآلخر دليلاً إال‬
‫على مجرد رفع الحرج وعدم لزوم ذلك الفعل المرتوك‪،‬‬
‫معروضا على عموم األدلة األخرى التي‬ ‫ً‬ ‫فيكون المرتوك‬
‫تدل على إباحته أو استحبابه أو كراهته‪ ،‬وقد تدل على‬
‫وجوبه عند قيام مصلحة راجحة أو شمول دليل الوجوب‬
‫له أو على التحريم لنشوء مفسدة واضحة‪.‬‬
‫وهكذا قسم هذا الفريق البدعة إلى خمسة أقسام وقال‬
‫‪ - 1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.157 /3‬‬

‫‪183‬‬
‫هؤالء‪ :‬إن الرتك وحده ليس دليلاً على تحريم وال على‬
‫تقريرا والشارع يقول‪:‬‬
‫ً‬ ‫كراهة ألنه ليس قولاً وال فعال وال‬
‫«وما هنيتكم عنه فانتهوا»‪ .‬ولم يقل‪ :‬وما تركت‪.‬‬
‫ونقلوا يف ذلك عن الشافعي رحمه اهلل تعالى قوله‪:‬‬
‫كل ماله مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به‬
‫السلف‪.‬‬
‫ولكن الشافعية أصلوا تلك المقولة وانضم إليهم‬
‫متأخرو المالكية كالقرايف يف تقسيمه البدعة إلى خمسة‬
‫أقسام‪ ،‬وذلك يف الفرق الثاين والخمسين والمائتين « بين‬
‫قاعدة ما يحرم من البدع وينهى عنه وبين قاعدة ما ال ينهى‬
‫عنه منها»‪:‬‬
‫وحاصل ما ذهب إليه القرايف من انقسام البدعة إلى‬
‫تنزيها‪،‬‬
‫ً‬ ‫قبيحة وحسنة‪ ،‬والقبيحة إلى حرام أو إلى مكروه‬
‫والحسنة إلى واجبة ومندوبة ومباحة‪.‬‬
‫ووافقه محشيه ابن الشاط عليه ومحمد الزرقاين وجرى‬
‫عليه عمل أصحاب مالك المتأخرين كالزقاق وغيره‪.‬‬
‫وإليه ذهب اإلمام النووي واإلمام ابن عبدالسالم شيخ‬
‫القرايف وغير واحد من أصحاب الشافعي مبنية على ثالثة‬

‫‪184‬‬
‫أمور أيضا‪.‬‬
‫األول‪:‬‬
‫أن البدعة حقيقة فيما لم يفعل يف الصدر األول حسنًا أو‬
‫قبيحا كان له أصل من أصول الشرع أم ال‪.‬‬
‫ً‬
‫الثاين‪:‬‬
‫أن جميع ما ورد يف البدع من نحو قوله ﷺ‪« :‬كل بدعة‬
‫ضاللة»‪ ،‬عام مخصوص‪.‬‬
‫األمر الثالث‪:‬‬
‫التسوية بين العاديات والعبادات يف لحوق البدع وعلى‬
‫هذه األسس قسموا البدعة‪ .‬فالبدعة تدخل يف العادات‬
‫كالمكوس التي أحدثها الحكام بعد الصدر األول والجور‬
‫يف الحكم من القضاة فالمذموم ما خالف الشرع سواء‬
‫كان يف العاديات أو العبادات‪ ،‬واستهول هؤالء أن يكون‬
‫الوعيد على البدعة إال يف منهي عنه وليس يف مسكوت‬
‫عنه ثم ما هو األمر الذي كان عليه ﷺ وأصحابه‪ ،‬إنه اتباع‬
‫يف األقوال واألفعال وليس مجرد امتناع عن فعل‪.‬‬
‫وليكون المرء من الفرقة الناجية عليه أن ينظر إلى‬
‫ٱللِ َو ذَّٱل َ‬
‫حُّ َ َّ ‪ ُ ُ َّ ٞ‬هَّ‬
‫ِين‬ ‫أوصافهم يف القرآن الكريم }ممد رسول ۚ‬
‫‪185‬‬
‫ٗ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ٓ َ َّ ٓ ُ لَىَ ۡ ُ َّ ُ مَ َ ٓ‬
‫حا ُء بَ ۡي َن ُه ۡمۖ ت َرى ٰ ُه ۡم ُرك ٗعا ُس َّجدا‬ ‫معهۥ أشِداء ع ٱلكفار ر‬
‫اه ۡم ف ُو ُجوهِهم ّمِنۡ‬ ‫َ ۡ َ ُ َ َ ۡ اٗ ّ َ هَّ ِ َ ۡ َ ٰ ٗاۖ َ ُ‬
‫إۡ ِ‬ ‫ُ يِ‬ ‫َيبتغون فضل مِن ٱللِ ورِضون سِيم‬
‫يل‬ ‫جن‬ ‫ٱل‬ ‫ف‬ ‫ۡ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ه‬ ‫ل‬
‫َّ ۡ َ ٰ َ َ َ‬
‫ث‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ۚ‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫ى‬‫ر‬ ‫و‬ ‫ٱتل‬ ‫ف‬ ‫م‬‫جودِ ۚ َذٰل َِك َم َثلُ ُه ۡ‬ ‫أثَر ُّ‬
‫ٱلس ُ‬
‫ِ‬
‫َ ۡ َ ۡ َ َ َ ۡ َ ِ لَىَ ِ‬ ‫يِ‬ ‫يِ‬
‫عٰ‬ ‫از َرهُۥ فٱستغلظ فٱست َوىٰ‬ ‫ف َ‬ ‫ط ُهۥ َ ‍َٔ‬ ‫َك َ ِز ۡر ٍع أَ ۡخ َر َج َش ۡ ‍َٔ‬
‫ِين‬‫ٱلل ذَّٱل َ‬ ‫ار ۗ َو َع َد هَّ ُ‬ ‫ك َّف َ‬ ‫ُ ۡ ُ‬ ‫َ‬
‫ٱلز َّراع يِلَ ِغيظ ب ِ ِهم ٱل‬
‫ُ ۡ ُ ُّ َ‬
‫جب‬ ‫ُسوقِهِۦ يع‬
‫ِ‬
‫يمۢا{‬ ‫ت م ِۡن ُهم َّم ۡغفِ َر ٗة َوأَ ۡج ًرا َع ِظ َ‬ ‫َ ُ ْ َ ُ ْ َّ َ‬
‫َءامنوا َوع ِملوا ٱلصٰل ِحٰ ِ‬
‫(الفتح‪.)29 :‬‬
‫َّ ٰٓ ُ َ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ َ ٰ ُ َ َّ ٰٓ ُ َ َّ ٰ ُ َ‬
‫}ٱلتئِبون ٱلعبِدون ۡٱلح ِمدون ٱلسئِحون ٱلر ۡكِعون‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ٰ‬
‫وف َوٱنلَّاهون َع ِن ٱل ُمنك ِر‬ ‫ۡ‬
‫ج ُدون ٱٓأۡلم ُِرون بِٱل َمع ُر ِ‬ ‫ٱلس ِ‬
‫ِني{ (التوبة‪.)112 :‬‬ ‫ٱللِ َوب َ ّش ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ‬ ‫هَّ‬ ‫َ ۡ َٰ ُ َ‬
‫ون حِ ُ ُ‬
‫ِرِ‬ ‫لدودِ ۗ‬ ‫وٱلحفِظ‬
‫ولهذا قال النووي‪« :‬إن هذه الفرقة موزعة يف طوائف‬
‫المجتمع ألن كل من اتصف بصفة من الصفات الحميدة‬
‫ألصحاب النبي ﷺ فهو من هذه الفرقة‪ ،‬فمنهم تجار‬
‫صادقون منفقون‪ ،‬ومنهم علماء‪ ،‬ومنهم مجاهدون»‪.‬‬
‫وتلويحا‬
‫ً‬ ‫تصريحا‬‫ً‬ ‫ومقتضى ما يفهم من كالم الشاطبي‬
‫أن ترك الشارع لفعل شيء من القربات أو لكيفية من‬
‫الكيفيات أو مقدار من المقادير دليل على قصده عدم‬
‫اإلتيان بذلك الفعل‪ ،‬وإن إقدام المكلف يف محل الرتك‬

‫‪186‬‬
‫يعترب ابتدا ًعا يف الشرع‪ ،‬وقد كرر ذلك يف الموافقات‪ ،‬وزاده‬
‫بيانًا وأعلنه إعالنًا يف كتابه «االعتصام» حيث تحدث عن‬
‫معاناته مع أهل زمانه يف إلزامهم له بالخروج عن الجماعة‬
‫عندما رفض الدعاء عقب الصالة جماعة‪ ،‬والتزامه بما‬
‫يعتقده السنة يف عدم لزوم الدعاء يف الخطبة لألئمة إلى‬
‫غير ذلك من مسائل الرتك التي بنى عليها مذهبه يف تعريف‬
‫البدعة‪ ،‬وهو يف هذا مخالف لبعض علماء عصره الذين ال‬
‫يرون يف الرتك دليلاً على الكراهة والتحريم‪.‬‬
‫ومن أبرز من اختلف مع الشاطبي شيخه أبوسعيد بن‬
‫لب الذي ألف كتا ًبا يف الرد عليه يف مسألة الدعاء جماع ًة‬
‫عقب الصلوات‪ ،‬لما بلغته فتوى الشاطبي فأنكر ترك‬
‫إنكارا شديدً ا ونسب بذلك لإلمام أنه من القائلين‬ ‫ً‬ ‫الدعاء‬
‫أن الدعاء ال ينفع وال يفيد‪ .‬ولم يأل أن يقيد يف ذلك تألي ًفا‬
‫سماه «لسان األذكار والدعوات مما شرع أدبار الصلوات»‬
‫حججا كثيرة على صحة ما الناس عليه‪ ،‬جملتها‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ضمنه‬
‫غاية ما يستند إليه المنكر أن التزام الدعاء على الوجه‬
‫المعهود إن صح أنه لم يكن من عمل السلف فالرتك‬
‫ليس بموجب للحكم يف المرتوك إال جواز الرتك وانتفاء‬
‫‪187‬‬
‫الحرج فيه خاصة وأما تحريم أو كراهة فال‪ ،‬وال سيما‬
‫فيما له أصل جملي كالدعاء‪ ،‬فإن صح أن السلف لم‬
‫يعملوا به فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم‬
‫مما هو خير كجمع المصحف ثم نقطه وشكله ثم نقط‬
‫اآلي ثم الخواتم والفواتح وتحزيب القرآن والقراءة‬
‫يف المصحف يف المسجد وتسميع المؤذن تكبير اإلمام‬
‫وتحصير المسجد عوض التحصيب وتعليق الثريات‬
‫ونقش الدنانير والدراهم بكتاب اهلل وأسمائه‪ .‬وقال عمر‬
‫بن عبدالعزيز‪« :‬تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من‬
‫الفجور»‪ .‬وكذا يحدث لهم ترغيبات بقدر ما أحدثوا من‬
‫َََ َُ ْ‬
‫الفتور‪ .‬وجاء‪ :‬آفة العبادة الفرتة‪ ،‬ويف القرآن }وتعاونوا‬
‫ٱتل ۡق َو ٰ‬
‫ب َو َّ‬ ‫لَىَ‬
‫ع ٱل ۡ ّ‬
‫ىۖ{‪.‬‬ ‫رِ ِ‬
‫قلت‪ :‬هذا جزء من كالم ابن لب‪ ،‬ويضاف إلى ذلك‬
‫مآذن المساجد فقد أحدثت واتفق الناس على جوازها‬
‫بعد أن اختلفوا يف ابتدائها‪.‬‬
‫وكذلك تقليد العالم الميت واشرتاء كتب الفقه وبيعها‬
‫أمور اختلف فيها ابتداء وأجمع على جوازها انتهاء قال يف‬
‫المراقي‪:‬‬
‫‪188‬‬
‫والخلف يف تقليد من مات ويف‬
‫بيع طروس الفقه االن قد نُفي‬
‫وكذلك كتابة األحاديث النبوية وإفرادها بالتأليف فما‬
‫حدث كان يف هناية القرن األول وبداية الثاين بأمر عمر بن‬
‫عبدالعزيز ولم تكن إال صحف يسيرة كصحيفة عبداهلل بن‬
‫عمرو‪ ،‬وكذلك تجريد المسائل الفقهية كان من محدثات‬
‫القرن الثاين وأجمع عليه فيما بعد‪.‬‬
‫بأن السلف عمل بعضهم‬ ‫وما أشار إليه أبو سعيد ابن لب َّ‬
‫محتجا به على الجواز ‪ -‬ذكره‬ ‫ً‬ ‫بما لم يعمل به من قبلهم ‪-‬‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬ولكنه اعتربه ضربًا من البدع‪،‬‬
‫وكون بعض السلف عمل به ال ينفي عنه صفة البدعة‪،‬‬
‫وذل��ك بقوله‪« :‬وكثير من مجتهدى السلف والخلف‬
‫قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما‬
‫ألحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة‪ ،‬وإما آليات فهموا منها‬
‫ما لم يرد منها‪ ،‬وإما لرأي رأوه‪ ،‬ويف المسألة نصوص لم‬
‫تبلغهم‪.‬‬
‫َ َّ ُ ْ‬
‫وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل يف قوله‪﴿:‬فٱتقوا‬
‫ٱس َت َط ۡع ُت ۡم﴾‪ ،‬ويف الصحيح َّ‬
‫أن اهَّلل قال‪« :‬قد فعلت»‬ ‫هَّ َ‬
‫ٱلل َما ۡ‬

‫‪189‬‬
‫وبسط هذا له موضع آخر»(‪.)1‬‬
‫أما ابن عرفة فأجاب عن مسألة الدعاء جماعة بقوله‪:‬‬
‫«الحمد هلل‪ ،‬حاصل السؤال‪ :‬ما حكم الدعاء على الهيئة‬
‫المعهودة يف هذه األمصار عقب صالة الفرض‪ ،‬وقد كان‬
‫سألني عنها بعض الواردين علينا من مدينة سال منذ نحو‬
‫من عشرة أعوام‪ ،‬والجواب‪:‬‬
‫أن إيقاعه إن ك��ان على نية أن��ه من سنن الصالة أو‬
‫فضائلها فهو غير جائز‪ ،‬وإن كان مع السالمة من ذلك فهو‬
‫باق على حكم أصل الدعاء‪ ،‬والدعاء عبادة شرعية فضلها‬
‫من الشريعة معلوم عظمه‪ ،‬وال أعرف فيها يف المذهب‬
‫نصا إال أنه وقع يف العتبية يف كتاب الصالة كراهة مالك‬‫ً‬
‫جالسا‪.‬‬
‫ً‬ ‫قائما‪ ،‬فمفهومه عدم كراهته‬
‫الدعاء بعد الصالة ً‬
‫أيضا كراهة مالك الدعاء عقب القرآن؛‬ ‫ويف العتبية ً‬
‫ولكن األظهر عندي جوازه‪ ،‬وقد وردت بذلك أحاديث‬
‫من المصنفات كسنن النسائي وغيره ال يخلو بعضها من‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫كون سنده‬
‫وأما البدع فقد تكلم الناس عليها من متقدم أو متأخر‬
‫‪ - 1‬جمموع الفتاوى ‪. 191 /19‬‬

‫‪190‬‬
‫كالقرايف وعز الدين وقسموها إلى أقسام‪.‬‬
‫والحاصل إسنادها إلى ما شهد الشرع بإلغائه أو اعتباره‬
‫أو ما ليس بواحد منهما‪ :‬فاألول‪ :‬واجب تركه وإنكاره‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬معترب اتفا ًقا‪ .‬ويف الثالث‪ :‬خالف مشهور ومجال‬
‫النظر يف جزئيات المسائل طويل‪ .‬واهلل أعلم بالصواب»(‪.)1‬‬
‫وقد وقع خالف يف القرن التاسع بين الحافظ السخاوي‬
‫واإلمام البقاعي الشافعي حول النداء الذي كان يفعل يف‬
‫الحرم الشريف وامتد إلى مصر قبل صالة الفجر «يادائم‬
‫المعروف» فأنكره األخير ورد عليه األول برسالة عنواهنا‬
‫«القول المعروف يف الرد على منكر المعروف» ول ٍّكل‬
‫أدلة‪.‬‬
‫ًّ‬
‫وقل أن َت ْع ُر َو فرتة من نزاع حول مسألة من قبيل بدع‬
‫الرتك‪.‬‬
‫ويبقى الرتك موضو ًعا غير محسوم‪ ،‬يختلف العلماء يف‬
‫مغزاه ويف مداه‪ ،‬باإلضافة إلى العمومات التي يدعمون‬
‫‪� - 1‬شرح ال�سجلما�سي على املنهج ويراجع �شرح املنجور على املنهج وذلك عند قول‬
‫الزقاق‪:‬‬
‫واملحــدثــات بدع ـ ـ ــة لكنـه‬ ‫وما عليه قد �أقر �سنـه ‬
‫جتب �إن �شملها �أدلت ــه كالكتب وال�ضد بدت �أمثلته‬

‫‪191‬‬
‫هبا موقفهم حسب االتجاه الذي يتوجه صوبه الفقيه‪ ،‬فهذا‬
‫ابن حزم يف المحلى ذكر احتجاج المالك ّية والحنف ّية على‬
‫كراهية صالة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النخعي‬
‫«إن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا ال يصلوﻬﻧما»‪ ،‬ورد عليهم‬
‫بقوله‪« :‬لو صح لما كانت فيه حجة‪،‬ألنه ليس فيه أﻬﻧم‬
‫رضي اهلل عنهم ﻬﻧوا عنهما»‪.‬‬
‫أيضا‪« :‬وذك��روا عن ابن عمر أنّه قال‪:‬ما رأيت‬ ‫وقال ً‬
‫وأيضا فليس يف هذا لو‬ ‫يصليهما‪.‬ورد عليه بقوله‪ً :‬‬ ‫أحدً ا ّ‬
‫صح هني عنهما‪،‬ونحن ال ننكر ترك التطوع ما لم ينه عنه»‪.‬‬
‫المحلى(‪:)1‬يف الكالم على ركعتين بعد‬ ‫ّ‬ ‫أيضا يف‬
‫وقال ً‬
‫العصر‪« :‬وأما حديث علي‪،‬فال حجة فيه أصال‪ ،‬ألنّه ليس‬
‫فيه إال إخباره بما علم من أنه لم َير رسول اهلل‪ ،‬صالهما‪،‬‬
‫وليس يف هذا هني عنهما وال كراهة لهما‪ ،‬فما صام عليه‬
‫شهرا كامال غير رمضان وليس هذا بموجب‬ ‫السالم قط ً‬ ‫ّ‬
‫كراه ّية صوم شهر كامل تطو ًعا»‪.‬‬
‫يجمع‬
‫َ‬ ‫��أس َأ ْن‬
‫«فصل‪ :‬وال ب َ‬ ‫ٌ‬ ‫وه��ذا ابن قدامة يقول‪:‬‬
‫ب ْي َن األَ َسابيعِ‪ ،‬فإ َذا فر َغ منها ركع ل ُك ِّل ُأ ْس ُبو ٍع رك َعت ْين‪،‬‬
‫‪ -1‬ابن حزم‪ ،‬املحلى ‪.271 /2‬‬

‫‪192‬‬
‫والم ْس َو ُر بن َمخرمة‪ .‬وبه قال عطا ٌء‪،‬‬ ‫فعل ذلك عائشةُ‪ِ ،‬‬ ‫َ‬
‫وإسحاق‪.‬‬‫ُ‬ ‫وطاوس‪ ،‬وسعيدُ بن ُج ٍ‬
‫بير‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫هري‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأبو‬ ‫والز ُّ‬ ‫وكره ُه اب ُن عمر‪ ،‬والحسن‪ُّ ،‬‬
‫الركعت ْي ِن ع ْن‬ ‫تأخير َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وألن‬ ‫لم يفعل ُه‪،‬‬‫َّبي ﷺ ْ‬ ‫َّ‬
‫حنيفةَ؛ ألن الن َّ‬
‫خ ُّل بالم ِ‬
‫واالة بينهما‪.‬‬ ‫طوافِهما ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جوز جم ُعها‬ ‫الصالة‪َ ،‬ي ُ‬ ‫ِ‬ ‫أن ال َّط َ‬ ‫ولنا‪َّ ،‬‬
‫واف يجري َمجرى َّ‬
‫ُ‬
‫وكون‬ ‫بينهما‪ ،‬ف ُيص ِّليها بعدَ ها‪ ،‬كذلك ُ‬
‫هاهنَا‪،‬‬ ‫ؤخ ُر ما ُ‬ ‫و ُي ِّ‬
‫َّبي ﷺ لم‬ ‫َّ‬
‫وجب كراهةً‪ ،‬فإن الن َّ‬ ‫ُ‬ ‫لم َيفعل ُه ال ُي‬ ‫َّبي ﷺ ْ‬ ‫الن ِّ‬
‫وه باال ِّت ِ‬
‫فاق»(‪.)1‬‬ ‫وعين وال ثالثةً‪ ،‬وذلك غير مكر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ف ُأس ُب‬ ‫َي ُط ْ‬
‫ُ ُ‬
‫وانبنى على مسألة الرتك اختالف يف كثير من المسائل‬
‫تفاوتت أفهام العلماء ومدارك الفقهاء يف فحوى الرتك فيها‬
‫فاستحبها البعض وحض عليها وحث‪ ،‬وأنكرها البعض‬
‫اآلخر وهنى عنها وكف‪ ،‬فمنها مسألة الدعاء بعد الصالة‬
‫المكتوبة جماعة‪ ،‬ومنها قراءة القرآن جماعة يف المسجد‬
‫بصوت واحد كما كان عليه عمل أهل الشام كما يقول‬
‫ابن رجب وهو ما عرف بتالوة الحزب يف المغرب‪ ،‬ومنها‬
‫التثويب والتصبيح‪ ،‬ومنها التوسل باألنبياء والصالحين‪.‬‬
‫‪ -1‬ابن قدامة‪ ،‬املغني ‪.233 /5‬‬

‫‪193‬‬
‫ولكل طائفة يف هذه المسائل أدلتها التي ليس هذا مقام‬
‫بسطها‪.‬‬
‫أوجه داللة الترك ‪:‬‬
‫ومما استدل به القائلون أن الرتك ال يستقل دليال بأنه‬
‫أوجها متعددة‪:‬‬
‫ً‬ ‫يحتمل‬
‫مباحا‬
‫• أولها‪ :‬أنه عليه الصالة والسالم قد يرتك شي ًئا ً‬
‫فال يدل تركه إال على رفع الحرج من أجل أنه يعافه مثلاً‬
‫كرتكه ألكل الضب فلما سئل عنه قال‪« :‬إنه لم يكن بأرض‬
‫قومي فأجدين أعافه»‪.‬‬
‫وقدم إليه طعام فيه ثوم فلم يأكل منه قال أبو أيوب ‪-‬‬
‫وهو الذي بعث به إليه ‪ -‬يارسول اهلل أحرام هو؟ قال‪:‬‬
‫ال ولكني أكرهه من أجل ريحه»‪ .‬الرتمذي قائال‪ :‬حسن‬
‫(‪)1‬‬
‫صحيح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن المالحظ أنه عليه الصالة والسالم لم يبدأ‬
‫باإلخبار عن موجب الرتك حتى سئل‪.‬‬
‫• ثان ًيا‪ :‬أنه قد يرتك بعض المستحبات أحيانًا خو ًفا من‬
‫أن تفرض على الناس‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬وما سبح النبي ﷺ‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.330 /3‬‬

‫‪194‬‬
‫سبحة الضحى قط وإين ألسبحها»‪ .‬وهو يف الصحيح‪.‬‬
‫وقد ذكر الشاطبي هذا الحديث وفيه أن عائشة كانت‬
‫تصلى الضحى ثمان ركعات وتقول‪ :‬لو نشر لي أبواي ما‬
‫تركتها»‪ .‬وذكر مسألة صالة الرتاويح جماعة‪.‬‬
‫تفسيرا آخ��ر ل�ترك النبي ﷺ لبعض‬ ‫ً‬ ‫وزاد الشاطبي‬
‫المستحبات وهو الخوف من أن يظن فيها أحد من أمته‬
‫بعده إذا داوم عليها الوجوب وهو تأويل متمكن ‪ -‬حسب‬
‫عبارة الشاطبي‪ -‬قائال‪ :‬إن الصحابة عملوا على هذا‬
‫االحتياط يف الدين لما فهموا هذا األصل من الشريعة‬
‫وكانوا أئمة يقتدى هبم ليبينوا أن تركها غير قادح وإن‬
‫كانت مطلوبة»‪.‬‬
‫وذكر مسألة عثمان رضي اهلل عنه يف تركه القصر يف‬
‫الحج خوف ظن األع��راب أن الصالة أصبحت ثنائية‪،‬‬
‫وكذلك ما رواه حذيفة بن َأ ِس ْيد‪« :‬شهدت أبا بكر وعمر‬
‫فكانا ال يضحيان مخافة أن يرى الناس أهنا واجبة وكان‬
‫بالل يقول‪ :‬ال أبالي أن أضحى بكبش أو دي��ك»‪ .‬إلى‬
‫آخره(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪ 324 /3‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫• ثال ًثا‪ :‬أن السلف قد يفعلون بعض األفعال التي‬
‫ليست من قبيل السنن المؤكدة فال يظهرون أفعالهم فال‬
‫يكون تركهم حجة‪ ،‬وقد يقولون إهنم ال يريدون إظهار‬
‫خلف َأبِي هريرة‬ ‫َ‬ ‫كنت‬
‫ذلك العمل‪ ،‬فعن أبي حازم‪ :‬قال ُ‬
‫يمدُّ يدَ ه حتَّى تب ُل َغ إِ ْب َط ُه‬ ‫ِ‬
‫فقلت له‬ ‫ُ‬ ‫للصالة فكان ُ‬ ‫يتوض ُأ َّ‬
‫وهو َّ‬
‫يا أبا هرير َة ما هذا الوضو ُء فقال يا َبنِى َف ُروخ أنتم ها ُهنَا‬
‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫توض ْأ ُت هذا الوضو َء‬ ‫علمت أنَّكم ها ُهنَا ما َّ‬ ‫ُ‬ ‫لو‬
‫الم ْؤمِ ِن َح ْي ُث َي ْب ُل ُغ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫خلِيلِى ﷺ ُ‬
‫يقول « َت ْب ُل ُغ الح ْل َي ُة م َن ُ‬
‫الو ُضو ُء»‪( .‬صحيح مسلم)‪.‬‬ ‫َ‬
‫وهبذا الصدد يذكر ابن القيم يف كتاب «الروح» يف مسألة‬
‫قراءة القرآن إلهداء ثوابه لألموات مانصه‪« :‬والقائل أن‬
‫أحدً ا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما ال علم له به‪ ،‬فإن‬
‫هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه فما ُيدريه أن السلف‬
‫كانوا يفعلون ذلك وال يشهدون من حضرهم عليه بل‬
‫يكفي اطالع عالم الغيوب على نياهتم ومقاصدهم ال‬
‫سيما والتلفظ بنية اإلهداء ال يشرتط كما تقدم»‪.‬‬
‫لكن ابن القيم يف إعالم الموقعين يعطي لداللة ترك‬
‫النبي ﷺ مضمونًا مختل ًفا يتفق مع شيخه شيخ اإلسالم‬
‫‪196‬‬
‫ابن تيمية ومع الشاطبي‪ ،‬بل جعله من السنة ونصه‪« :‬وأما‬
‫نقلهم لرتكه ﷺ فهو نوعان وكالهما سنة أحدهما‪:‬‬
‫تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله كقوله يف شهداء‬
‫أحد‪ :‬ولم يغسلهم ولم يصل عليهم»‪ .‬وقوله يف صالة‬
‫العيد «لم يكن أذان وال إقامة وال نداء»‪ .‬وقوله يف جمعه‬
‫بين الصالتين «ول��م يسبح بينهما وال على أثر واحدة‬
‫منهما» ونظائره‪ .‬والثاين‪ :‬عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت‬
‫هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله؛‬
‫فحيث لم ينقله واحد منهم البتة وال حدَّ ث به يف مجمع‬
‫أبدا علم أنه لم يكن‪ ،‬وهذا كرتكه التلفظ بالنية عند دخوله‬
‫يف الصالة‪ ،‬وتركه الدعاء بعد الصالة مستقبل المأمومين‬
‫وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو يف‬
‫جميع الصلوات‪ ،‬وتركه رفع يديه كل يوم يف صالة الصبح‬
‫بعد رفع رأسه من ركوع الثانية‪ ،‬وقوله‪« :‬اللهم اهدنا فيمن‬
‫هديت» يجهر هبا ويقول المأمومون كلهم «آمين» ومن‬
‫الممتنع أن يفعل ذلك وال ينقله عنه صغير وال كبير وال‬
‫رجل وال امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة ال‬
‫ي ِ‬
‫خ ُّل به يو ًما واحدً ا‪ ،‬وتركه االغتسال للمبيت بمزدلفة‬ ‫ُ‬
‫‪197‬‬
‫ولرمي الجمار ولطواف ال��زي��ارة ولصالة االستسقاء‬
‫والكسوف‪ ،‬ومن ههنا يعلم أن القول باستحباب ذلك‬
‫خالف السنة؛ فإن تركه ﷺ سنة كما أن فعله سنة‪ ،‬فإذا‬
‫فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله‪،‬‬‫استحببنا َ‬
‫وال فرق»(‪.)1‬‬
‫قلت وما ذكره يف النوع األول يشبه أن يكون دليلاً ؛‬
‫لتوفر الموجب‪ ،‬أما النوع الثاين فهو محل خالف كبير‪،‬‬
‫والعالمة ابن القيم يرد على مذهب الشافعي يف مسألة‬
‫التلفظ بنية الصالة وقد رواه بعض العراقيين من أصحاب‬
‫الشافعي فأوجبوا التلفظ بالنية‪ ،‬ورده إمام الحرمين يف‬
‫هناية المطلب (‪.)2‬‬
‫والبد من اإلشارة إلى أن ما ذكره يخالف تأكيد العلماء‬
‫على حصر األصوليين السنة التشريعية يف القول والفعل‬
‫الخلقية‬‫والتقرير‪ ،‬ويضاف إليها ما ليس منها كصفاته َ‬
‫ُ‬
‫والخلقية مع دخول األخيرة يف األسوة‪.‬‬
‫ومن العلماء الذين حصروها فيما تقدم الشيخ تقي‬

‫‪ -1‬ابن القيم‪� ،‬إعالم املوقعني ‪.281 /2‬‬


‫‪� -2‬إمام احلرمني‪ ،‬نهاية املطلب ‪.120 /2‬‬

‫‪198‬‬
‫ال��دي��ن اب��ن تيمية حيث يقول «الحديث النبوي عند‬
‫اإلط�لاق ينصرف إلى ما حدث به رسول اهلل ﷺ بعد‬
‫النبوة من قول أو فعل أو إقرار‪ ،‬فإن سنته ﷺ ثبتت عن‬
‫هذه الوجوه الثالثة وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا‬
‫أو إباح ًة وجب اتباعه فيه ﷺ‪ ،‬فإن اآليات الدالة على نبوة‬
‫األنبياء دلت على أهنم معصومون فيما يخربون به عن اهلل‬
‫تعالى فال يكون خربهم إال حقًا»‪.‬‬
‫وأما مسألة القنوت يف الركعة الثانية من الصبح فقد‬
‫اعتمد فيه الشافعية طر ًفا من حديث أنس وفيه‪« :‬أما يف‬
‫الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا»(‪.)1‬‬
‫وهذا خالف ما عليه جمهور األصوليين من أن السنة‬
‫قول وفعل وتقرير وليس مجرد ترك‪.‬‬
‫ولهذا قال ابن رشد يف بداية المجتهد إن‪« :‬الشريعة‬
‫تتلقى من ثالث طرق هي اللفظ والفعل واإلقرار»(‪.)2‬‬
‫وقال الطويف‪«:‬أما السنة فهي ‪ -‬يف هذا الموطن ‪ -‬أقوال‬

‫‪ -1‬رواه �أحمد والبيهقي والدار قطني وفيه مقال راجع نهاية املطلب ‪ 186 /2‬مع تعليق‬
‫عبدالعظيم الديب وتلخي�ص احلبري)‪.‬‬
‫‪ -2‬ابن ر�شد‪ ،‬بداية املجتهد ‪.2 /1‬‬

‫‪199‬‬
‫النبي‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وتقريراته»(‪.)1‬‬
‫وقال الزركشي يف البحر المحيط يف حديثه عن السنة‪:‬‬
‫«وأما يف االصطالح‪ :‬فتطلق على ما ترجح جانب وجوده‬
‫ترجيحا ليس معه المنع من النقيض‪،‬‬ ‫ً‬ ‫على جانب عدمه‬
‫وتطلق وهو المراد هنا‪ :‬على ما صدر من الرسول ﷺ من‬
‫واله ِّم‪ ،‬وهذا األخير لم يذكره‬
‫األقوال واألفعال والتقرير‪َ ،‬‬
‫األصول ُّيون‪ ،‬ولكن استعمله الشافعي يف االستدالل»(‪.)2‬‬
‫وهذا قليل من كثير‪.‬‬
‫وأبعد ابن السمعاين النجعة فقال إن‪« :‬تركه للشيء‬
‫يدل على وجوب تركه مستدلاً بحديث إمساك الصحابة‬
‫عن الضب»‪ .‬وذلك يف معرض داللة الفعل‪ ،‬لو دل على‬
‫الوجوب لدل عليه الرتك أيضا‪ ،‬ونكتفي هبذا القدر‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬اعلم أن كالم ابن القيم رحمه اهلل تعالى يف الرتك‬
‫جاء يف سياق رد طويل على مقلدى المذاهب دل على‬
‫سعة علمه وحفظه ولكنه غلب عليه الحكم بالتعارض‬
‫يف ورود فعلين عنه عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقد نقل عن‬

‫‪ -1‬الطويف‪� ،‬شرح خمت�صر الرو�ضة ‪.62 /2‬‬


‫‪ -2‬الزرك�شي‪ ،‬البحر املحيط ‪.236 /3‬‬

‫‪200‬‬
‫الحافظ ابن عبد الرب ولكن الحافظ ابن عبد الرب حمل ما‬
‫ورد من اختالف الحديث يف التسليمة والتسليمتين‪ ،‬وغير‬
‫ذلك من هذه المسائل على التخيير كما يف االستذكار؛‬
‫وهو أوفق للجمع وأدنى للفهم من دعوى أن الناس يف‬
‫أيام مالك قد نسوا الكثير من السنن مع العلم أن ذلك‬
‫هو عصر تدوين السنن يف مطلع القرن الثاين‪ ،‬فرحمه اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬فهو يعرب عن رأي خالفه فيه أكثر العلماء‪.‬‬
‫وليس المقام مقام تفصيل يف هذه المسألة التي حملت‬
‫بعض طلبة العلم الذين ليس لهم رسوخ ابن القيم على‬
‫أن يهجموا على أئمة المذاهب بأخبار آحاد لم تثبت وإن‬
‫ثبتت فلها ما يعارضها‪ ،‬ولم تنتشر لتصبح كالخرب اليقين‬
‫عنه عليه الصالة والسالم أو عن أصحابه‪ .‬ولنرجع إلى‬
‫مسألة بدعة الرتك‪.‬‬
‫• راب ًعا‪ :‬كانوا يرتكون بعض المباحات خو ًفا من اعتقاد‬
‫الناس أهنا من القربات‪ ،‬كما كان مالك ال يغسل يديه‬
‫قبل الطعام‪ ،‬وقال لما قدم له أمير المدينة عبد الملك بن‬
‫صالح الماء ليغسل يديه قبل الطعام‪ :‬أما أبو عبداهلل «يعني‬
‫نفسه» ال يغسل يديه قبل الطعام»‪ .‬مع أن مال ًكا ال يرى‬
‫‪201‬‬
‫بأسا بذلك كما صرح به يف موطن آخر‪ ،‬ولكن يخاف من‬ ‫ً‬
‫لزوم الناس لذلك وكأنه واجب‪ ،‬كما قال يف الموافقات‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬قد يرتك عليه الصالة والسالم أم ً��را ألنه‬ ‫ً‬ ‫•‬
‫خالف األولى فيفعل األولى ويواظب عليه وربما فعل‬
‫المرتوك يف أوقات نادرة لبيان الجواز وعدم الكراهة‪ ،‬فقد‬
‫صح أنه عليه الصالة والسالم قدمت إليه ميمونة رضي‬
‫اهلل عنها المنديل لينشف به أعضاء طهارته فلم يمسه ويف‬
‫رواية‪ :‬لم يأخذه‪ ،‬ويف رواية‪ :‬فر ًَّده‪.‬‬
‫فعلق إمام الحرمين يف هناية المطلب على ذلك بقوله‪:‬‬
‫«ولو نشف «شخص» لم ينته أمر ذلك إلى الكراهة ولكن‬
‫يقال ترك األولى‪ ،‬وقد روي أنه عليه السالم نشف أعضاء‬
‫وضوئه م��رة وك��ان عليه السالم يواظب على األول��ى‬
‫ويأيت بما هو جائز يف األحايين‪ ،‬فيتبين األفضل بمواظبته‬
‫والجائز بنوادر أفعاله(‪.)1‬‬
‫سادسا‪ :‬أننا نجد أصحاب رسول اهلل ﷺ يعملون‬ ‫ً‬ ‫•‬
‫بعض القربات يف مقام الرتك ويهجمون على العمل بدون‬

‫‪ -1‬اجلويني‪ ،‬نهاية الطلب يف دراية املذهب ‪ ،95 /1‬حتقيق عبدالعظيم الديب‪ ،‬دار‬
‫املنهاج‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫سؤال مما يدل على أن تركه ﷺ ليس حائلاً دون عمل‬
‫حاجزا دون مباشرة قول أو فعل‪ ،‬وهو عليه الصالة‬‫ً‬ ‫وال‬
‫والسالم أحيانًا يثني على فعلهم أو يسكت وما المهم وال‬
‫و َّبخهم مما يدل على سعة األمر‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬من قال‪ :‬يا‬
‫من ال تراه العيون وال تخالطه الظنون وال يصفه الواصفون‬
‫وال تغيره الحوادث وال يخشى الدوائر يعلم مثاقيل‬
‫الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر األمطار وعدد ورق‬
‫األشجار وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار ال‬
‫تواري منه سماء سماء وال أرض أرضا وال بحر ما يف قعره‬
‫وال جبل ما يف وعره اجعل خير عمري آخره وخير عملي‬
‫خواتمه وخير أيامي يوم ألقاك فيه‪ .‬فوكل رسول اهلل ﷺ‬
‫باألعرابي رجال فقال إذا صلى فائتني به فلما صلى أتاه‬
‫وقد كان ُأهدي لرسول اهلل ﷺ ذهب من بعض المعادن‪،‬‬
‫فلما أتاه األعرابي وهب له الذهب‪ ،‬وقال ممن أنت يا‬
‫أعرابي؟ قال من بني عامر بن صعصعة يا رسول اهلل‪ ،‬قال‬
‫هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال للرحم بيننا وبينك‬
‫يا رسول اهلل فقال إن للرحم حقا ولكن وهبت لك الذهب‬
‫لحسن ثنائك على اهلل عز وجل»‪(.‬حديث ضعيف)‬
‫‪203‬‬
‫وكذلك المواظب على سورة اإلخالص يف صالته‪:‬‬
‫كان رجل من األنصار يؤمهم يف مسجد قباء وكان كلما‬
‫افتتح سورة يقرأ هبا لهم يف الصالة مما يقرأ به افتتح} ُق ْل‬
‫اهَّلل َأ َحدٌ {‪ .‬حتى يفرغ منه ثم يقرأ سورة أخرى معها‬‫ُه َو ُ‬
‫وك��ان يصنع ذلك يف كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا‬
‫إنك تفتتح هبذه السورة ثم ال ترى أهنا تجزئك حتى تقرأ‬
‫بأخرى فإما أن تقرأ هبا وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم‬
‫تركتكم‪ ،‬وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم‬
‫غيره‪ ،‬فلما أتاهم النبي ﷺ أخربوه الخرب‪ ،‬فقال‪« :‬يا فالن‬
‫ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك‬
‫على لزوم هذه السورة يف كل ركعة»‪ .‬فقال‪ :‬إين أحبها‪.‬‬
‫فقال‪« :‬حبك إياها أدخلك الجنة»‪.‬‬
‫وكذلك يف الحج فقد ثبت أن بعضهم كان يلبي تلبية‬
‫فيها زيادة على تلبيته «وأهل الناس هبذا الذي يهلون به‬
‫فلم يرد رسول اهلل ﷺ عليهم شيئا منه ولزم رسول اهلل‬
‫ﷺ تلبيته»‪.‬‬
‫قال القاضي عياض‪« :‬فيه إشارة إلى ما روى من زيادة‬

‫‪204‬‬
‫الناس يف التلبية من الثناء والذكر كتلبية عمر لبيك ذا النعماء‬
‫والفضل‪ .‬وزيادة ابن عمر‪ :‬والخير بيدك والرغباء إليك‪.‬‬
‫واستحب االقتصار على تلبيته عليه الصالة والسالم»(‪.)1‬‬
‫وكذلك ما ورد يف حديث عبداهلل بن عمر عند مسلم‪:‬‬
‫«غدونا مع رسول اهلل ﷺ من منى إلى عرفات منًّا المل ّبي‬
‫ومنا المك ّبر‪ .‬ويف رواية أخرى «عنده»‪« :‬منا المكرب ومنا‬
‫المه ّلل فال ينكر عليه وكان يكرب المكرب فال ينكر عليه»‪.‬‬
‫كما يف صحيح مسلم من حديث جابر‪ .‬ويف الرواية‬
‫األخرى‪« :‬فمنا المكرب ومنا المهلل وال يعيب أحدنا على‬
‫صاحبه»‪.‬‬
‫قال أبوطالب المشكاين‪ :‬قال أحمد‪« :‬والتعريف عشية‬
‫عرفة يف األمصار‪ :‬ال بأس به إنما هو دعاء وذكر اهلل عز‬
‫وجل وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث وفعله‬
‫(‪)2‬‬
‫إبراهيم»‪.‬‬
‫كل ذلك يدل على إفساح المجال لالجتهاد وأن ترك‬
‫الشارع ال يدل على الحظر وال على الكراهة بل إنه يدل‬

‫‪ - 1‬النووي‪� ،‬شرح م�سلم ‪.174 /8‬‬


‫‪ - 2‬طبقات احلنابلة‪ ،‬لأبي يعلى ‪.39 /1‬‬

‫‪205‬‬
‫على أن ما فعله وواظب عليه هو األولى لكن ال إنكار‬
‫يف فعل ما تركه على ما وصفنا من اندراجه ضمن السياق‬
‫العام واألصل المتبع والمنهج الفسيح وهو يف حالة التلبية‬
‫تعظيمه سبحانه وتعالى وتكبيره‪.‬‬
‫وإن ذلك محل تقرير من الشارع وثناء أحيانا‪ ،‬وتقاس‬
‫على ذلك كل األوراد الصالحة السالمة من المخالفات‪.‬‬
‫• ساب ًعا‪ :‬إن فعل السلف قد يكون نقل عن بعضهم دون‬
‫بعض فهل يكون ذلك كاف ًيا لنفي صفة البدعة عنه عند من‬
‫يرى بدعة الرتك‪ ،‬أو ال؟ وعليه فإن تتبع عبد اهلل بن عمر‬
‫آلثار النبي عليه وآله الصالة والسالم للتربك(‪ ،)1‬وعدم‬
‫إنكار أحد من الصحابة عليه ال يخرج ذلك الفعل عن‬
‫كونه بدعة عند هؤالء وإن االستسقاء عند القرب النبوي‬
‫الشريف بتوجيه الخطاب إلى النبي ﷺ باستسق لنا»‬
‫َّيلي‪ ،‬عن‬ ‫‪ -1‬ومن ذلك ما �أخرجه مالك يف املوط�أ عن حممد بن عمرو بن حلحل َة الد ِّ‬
‫حممد بن عمران الأن�صاريِّ ‪ ،‬عن �أبيه‪� ،‬أنه قال‪ :‬عدل �إيل عبداهلل بن عمر و�أنا ناز ٌل‬
‫حتت �سرح ٍة بطريق مكة‪ ،‬فقال‪ :‬ما �أنزلك حتت هذه ال�سرحة؟ فقلتُ ‪� :‬أردتُ ظ َّلها‪ .‬فقال‬
‫هل غ ُري ذلك؟ فقلتُ ‪ :‬ال‪ ،‬ما �أنزلني �إال ذلك‪ .‬فقال عبداهلل بن عمر‪ :‬قال ر�سول اهلل‬
‫�صلى اهلل عليه و �سلم‪� :‬إذا كنت بني الأخ�شبني من منى ‪-‬ونفح بيده نحو امل�شرق‪ -‬ف�إنَّ‬
‫ال�س َر ُر‪ .‬به َ�س ْرح ٌة ُ�س َّر حتتها �سبعون نب ًّيا»‪ .‬قال ابن عبدالرب‪ :‬ويف‬ ‫هناك واد ّيا ُ‬
‫يقال له‪ِّ :‬‬
‫هذا احلديث دلي ٌل على التربك مبوا�ضع الأنبياء وال�صاحلني ومقاماتهم وم�ساكنهم‪،‬‬
‫و�إىل هذا ق�صد عبداهلل بن عمر بحديثه هذا‪(.‬التمهيد «�شروح املوط�أ‪)86 /12‬‬

‫‪206‬‬
‫يعترب عند هؤالء بدعة فاحشة أوصلها بعضهم إلى الكفر‬
‫مع ورود أثر عن فعل شخص له إما صحابي أو تابعي‬
‫وإبالغ ذلك لعمر بن الخطاب رضي اهلل عنه ولم ينكره‪،‬‬
‫وهذا األثر أخرجه ابن أبي شيبة كالتالي‪ :‬حدثنا أبو معاوية‬
‫عن األعمش عن أبي صالح عن مالك الدار ‪ -‬قال‪ :‬وكان‬
‫الناس قحط يف زمن‬
‫خازن عمر على الطعام ‪ -‬قال أصاب َ‬
‫عمر‪ ،‬فجاء رجل إلى قرب النبي ﷺ فقال‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫استسق ألمتك فإهنم قد هلكوا‪ُ .‬فأتِ َي الرجل يف المنام‬
‫فقيل له ائت عمر فأقرئه السالم وأخربه أنكم مسقيون‬
‫وقل له عليك الكيس عليك الكيس‪ ،‬فأتى عمر فأخربه‬
‫فبكى عمر ثم قال‪ :‬يا رب ال آلو إال ما عجزت عنه»(‪.)1‬‬
‫وأخرجه البيهقي وصححه الحافظان ابن حجر يف الفتح‬
‫وابن كثير يف البداية والنهاية‪ ،‬وقد نازع بعضهم يف عنعة‬
‫األعمش بما هو معروف من الخالف عند المحدثين يف‬
‫عنعنة المدلس إذا لم يكن ذلك غال ًبا عليه‪ ،‬واألعمش‬
‫ضابط لغلبة موافقة حديثه للضابطين‪.‬‬

‫‪ - 1‬ابن �أبي �شيبة‪ ،‬امل�صنف ‪ ،64 /17‬حتقيق حممد عوامة‪� ،‬شركة دار القبلة‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫قال يف طلعة األنوار‪:‬‬
‫اعتبر ْن فإن غلب‬
‫بالضابطين َ‬
‫وفق فضابط وإال يجتنب‬
‫وهنا يدق الفرق بين ما هو مستند إلى السلف وما‬
‫ليس كذلك وبين ما هني عنه سدا للذريعة وما هنى عليه‬
‫باألصالة‪.‬‬
‫وق��ال��وا‪ :‬إن��ه لو صح ف��إن ما فهم من أص��ول العقيدة‬
‫ينفيه‪ ،‬وإن الصحابة ما فعلوه؛ وهنا يكون اإلشكال بين‬
‫المدرستين يف ضبط ترك السلف ويف فهم ما هو عبادة ال‬
‫تصرف إال هلل ويف استعمال المجاز يف اإلسناد كقول عمر‬
‫للنبي عليه الصالة والسالم‪« :‬هال أمتعتنا بعامر»‪ .‬كما يف‬
‫صحيح مسلم‪ .‬وذلك حين ترحم النبي ﷺ على عامر‬
‫بن األكوع‪ ،‬ففهم عمر من ذلك اإلشارة إلى موت عامر‬
‫فقال تلك المقالة‪ ،‬وهي يف ظاهرها طلب منه للنبي ﷺ‬
‫أن يبقى عامرا ح ًيا وهو أمر ال يقدر عليه إال اهلل وما رءا‬
‫منكرا‪.‬‬
‫عليه الصالة والسالم يف ذلك ً‬
‫فالنسب واإلض��اف��ات والنيات والطويات هي التي‬
‫تحكم يف كالم الناس‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫ولعل االختالف هنا يرجع إلى مسألة الدعاء ومفهومه‬
‫بين ما يكون عبادة إذا وجه إلى الباري جل وعال وبين‬
‫ت َعلُوا ْ ُد اَع ٓ َء َّ‬
‫ٱلر ُسو ِل‬
‫اَّ جَ ۡ‬
‫ما يكون نداء إذا وجه إلى غيره }ل‬
‫ضكم َب ۡعضا ۚ{ (النور‪.)63:‬‬
‫ٗ‬ ‫ُ‬ ‫َ ۡ َ ُ َ ُ اَ ٓ ۡ‬
‫بينك ۡم كدعءِ َبع ِ‬
‫ومفهوم حياته عليه الصالة والسالم يف ال�برزخ بين‬
‫حديث‪« :‬حيايت خير لكم تحدثون ويحدث لكم وممايت‬
‫خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت‬
‫اهلل وما رأيت من شر استغفرت اهلل لكم»(‪.)1‬‬
‫وه��و ي��دل على استمرار صلته بأمته‪ .‬وبين حديث‬
‫الحوض الصحيح‪« :‬ما تدرى ما أحدثوا بعدك»‪ .‬مما يفهم‬
‫‪ -1‬رواه البزار‪ ،‬قال احلافظ العراقي يف كتاب اجلنائز من «طرح الترثيب» �إ�سناده‬
‫جيد‪ ،‬وقال الهيثمي يف «جممع الزوائد» رجاله رجال ال�صحيح‪ ،‬حدثنا يو�سف بن‬
‫مو�سى حدثنا عبد املجيد بن عبدالعزيز بن �أبي رواد عن �سفيان عن عبد اهلل بن‬
‫ال�سائب عن زاذان عن عبد اهلل ‪-‬ابن م�سعود‪ -‬عن النبي ﷺ قال‪� :‬إن هلل مالئكة‬
‫�سياحني يبلغوين عن �أمتي ال�سالم وقال حياتي خري لكم‪ ....‬وروي عن �أن�س من طريق‬
‫خرا�ش ورواه احلارث ابن �أبي �أ�سامة يف م�سنده وابن عدي يف الكامل وقال العراقي‪:‬‬
‫�ضعيف ل�ضعف خرا�ش‪ ,‬ورواه احلارث بن �أبي �أ�سامة يف م�سنده من مر�سل بكر املزين‬
‫و�ضعف ب�أحد رواته ولكن خرجه �إ�سماعيل القا�ضي من طريق �صحيح عن بكر الزبي‬
‫يرفعه وهو �إ�سناد �صحيح اعرتف ب�صحته احلافظ ابن عبد الهادي وعن احلكيم‬
‫الرتمذي يف العر�ض على الأنبياء والآباء ب�إ�سناد فيه �ضعف‪ .‬وكذلك الق�سطالين يف‬
‫�شرح البخاري‪ ،‬وقال ال�سيوطي يف كتاب «املعجزات واخل�صائ�ص» �إ�سناده �صحيح‪،‬‬
‫وكذلك قال علي القاري وال�شهاب اخلفاجي يف �شرح ال�شفاء‪ ،‬و�أو�صل بع�ضهم طرقه‬
‫�إىل ع�شرين طري ًقا �أ�صحها طريق البزار‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫منه أنه عليه الصالة والسالم لم تعد له عالقة بعالم الدنيا‪،‬‬
‫خالفًا لمن حمل ذلك على المرتدين؛ ألنما يعرض عليه‬
‫هو أعمال المؤمنين‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من البناء العقدي الذي نشأ عنه ‪ -‬يف‬
‫القرنين السابع والثامن‪ -‬خالف شديد يراجع خاصة يف‬
‫كتب شيخ اإلسالم ابن تيمية واإلمام السبكي وغيرهما‪.‬‬
‫وعلى ذلك يحمل كثير من اآلثار التي وردت كقصة‬
‫األعرابي عند محمد بن عبداهلل العتبي والتي ال يكاد يخلو‬
‫كتاب من كتب المناسك منها‪ ،‬وقد جاء إلى القرب الشريف‬
‫ومستغفرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫مستغي ًثا‬
‫يا خير من دفنت بالقاع أعظمـــه‬
‫فطاب من طيبهن القاع واألكـم‬
‫نفسي الفــداء لقبر أنت ســــاكنـه‬
‫فيه العفاف وفيه الجود والكـرم‬
‫وإن كان ابن عبد الهادي يف «ال��ص��ارم» يحكم على‬
‫إسنادها بأنه مظلم‪.‬‬
‫وحكايات أخرى كثيرة(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬كحكاية الإمام �أبي بكر املقري احلافظ الثقة عما فعله وكان معه احلافظ الطرباين‬

‫‪210‬‬
‫اإلسناد المجازي ودرء التكفير‪:‬‬
‫��إن مسألة اإلسناد المجازي بين الحقيقة‬ ‫وأخيرا‪ ،‬ف َّ‬
‫ً‬
‫والمجاز من مدارات االختالف‪ ،‬فالمجيز يرى أن الطلب‬
‫مجازي ومن معهود العرب إسناد الفعل إلى َمن له عالقة‬
‫مجازا وتوس ًعا يف الكالم‪ ،‬وقد ورد يف القرآن الكريم من‬ ‫ً‬ ‫به‬
‫ذلك الكثير‪ .‬فمنه فعل اإلضالل‪.‬‬
‫فقد ورد مسندً ا إلى الباري جل وعال يف أكثر من آيــــة‬
‫َ ٓ‬ ‫َ ٓ‬ ‫ُ ُّ‬
‫ضل َمن يَشا ُء َو َي ۡهدِي َمن يَشا ُء ۚ{ (النحل‪.)93:‬‬ ‫}ي ِ‬
‫ُ ُّ َ َ َ ُٓ‬
‫ضل من يشاء‬ ‫وورد مسندً ا إلى المغوين من البشر‪}:‬ي ِ‬
‫َ َ ٓ َ َ َّ َ ٓ اَّ‬ ‫َ ٓ‬
‫َو َي ۡهدِي َمن يَشا ُء ۚ{ (األحزاب‪}،)67:‬وما أضلنا إِل‬
‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱل ُم ۡج ِر ُمون{ (الشعراء‪ .)99:‬ومسندً ا إلى الشيطان‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫تعالـــى‪:‬‬
‫ٰىَ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اَّ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُكت َ َ‬
‫ضل ُهۥ َو َي ۡهدِيهِ إِل‬ ‫ُ ُ‬
‫ب عل ۡيهِ أنهۥ من ت َولهُ فأنهۥ ي ِ‬ ‫} ِ‬
‫واحلافظ �أبو ال�شيخ بن حبان ثالثتهم من �أكرب �أئمة احلديث يف القرن الرابع الهجري‬
‫وكانوا يف امل�سجد النبوي فذهب املقري �إىل القرب ال�شريف و�شكا اجلوع لر�سول اهلل‬
‫ﷺ ونام هو و�أبو ال�شيخ وبقي الطرباين يقظان فجاءهم علوي ومعه غالم يحمل‬
‫الطعام وقال ياقوم هل �شكومت �إىل النبي ﷺ لأنه ر�آه يف النوم و�أمره بذلك‪.‬‬
‫وهي حكاية ذكرها الذهبي يف �سري �أعالم النبالء وال�سمهودي يف وفاء الوفاء �إىل‬
‫حكايات كثرية مذكورة يف كتب القوم وبع�ضها م�سند �إىل كتاب «م�صباح الظالم يف‬
‫امل�ستغيث بخري الأنام يف اليقظة واملنام» للحافظ حممد بن مو�سى املالكي املتوفى‬
‫�سنة ‪683‬هـ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ري{ (الحج‪ .)4:‬وقال تعالى حكاية عنه‪:‬‬ ‫ٱلسع‬
‫ِ‬ ‫َع َذاب َّ‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ أَ ُ ِ َّ َّ ُ ۡ َ أَ ُ‬
‫ِ‬
‫ضلنهم ولمن ِينهم{ (النساء‪.)119:‬‬ ‫}ول ِ‬
‫وكذلك فعل «زي��ن» مسندً ا إلى الباري‪ ،‬قال َ تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ّ َ ۡ ُ رۡ‬ ‫َ‬ ‫} َو َك َذٰل َِك َز َّي َ‬
‫ِني ق ۡتل أ ۡول ٰ ِده ِۡم‬ ‫شك‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ري‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ث‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ن‬
‫رُ َ اَ ٓ ُ ُ‬
‫شكؤه ۡم{ (األنعام‪ .)108:‬ومسندً ا للشيـــطان‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ َّ َ َ ُ ُ َّ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ َ ٰ َ‬
‫}ِإَوذ زين لهم ٱلشيطن أعملهم{ (األنفال‪.)48:‬‬
‫ومسندً ا إلى الشركاء‪َ }:‬وك ََذل ِ َك َز َّي َن ل ِ َكثِ ٍير مِ َن ا ْل ُم ْش ِركِي َن‬
‫َاؤ ُهم{ (األنعام‪.)137:‬‬ ‫َقت َْل َأ ْولاَ ِد ِه ْم ُش َرك ُ‬
‫وج��اء مبن ًّيا لما لم يسم فاعله‪َ «:‬أ َف َم ْن ُز ِّي�� َن َل�� ُه ُسو ُء‬
‫َع َملِه»(فاطر‪ .)8:‬وكذلك ج��اءت الهداية مسندة إلى‬
‫الباري ج َّلت ُقدرته‪َ }:‬ي ْه ِدي َم ْن َي َشاء{ (البقرة‪.)142:‬‬
‫َّ����ك َلتَه ِدي إِ َل��ى ِص��ر ٍ‬
‫اط‬ ‫َ‬ ‫ومسندة إل��ى نبيه ﷺ‪َ }:‬وإِن َ ْ‬
‫ُم ْست َِقيم{ (الشورى‪.)52:‬‬
‫ِنك ۡم أَن ي َ ۡس َتقِيمَ‬ ‫ُ‬ ‫َ ٓ‬
‫ونفاها‪}:‬ل َِمن شا َء م‬ ‫وأثبت المشيئة‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ ٓ ُ َ اَّ ٓ َ َ َ ٓ َ هَّ ُ َ ُّ ۡ َ ٰ َ‬
‫‪ ٢٨‬وما تشاءون إِل أن يشاء ٱلل رب ٱلعل ِمني ‪{٢٩‬‬
‫ََ ََۡ َ ۡ‬
‫ت إِذ‬ ‫(التكوير‪ .)28-29:‬ونفى الرمي وأثبته‪}:‬وما رمي‬
‫ٱلل َر ىَ ٰ‬ ‫ك َّن هَّ َ‬ ‫ََۡ َ َ‬
‫م{ (األنفال‪.)17:‬‬ ‫ت َول ٰ ِ‬ ‫رمي‬

‫‪212‬‬
‫وذل��ك كله الخ��ت�لاف االعتبار مما ال يخفى على‬
‫العقالء‪.‬‬
‫ومعلوم أن العرب تسند إلى ظرف الفعل‪ ،‬كما يف قوله‬
‫ٱلل إ َذا ي َ رۡ‬
‫ۡ‬ ‫َ يَّ‬
‫س{ (الفجر‪ .)4:‬أي يسرى فيه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تعالى‪}:‬و ِ ِ‬
‫وقولهم‪ :‬هناره صائم وليله قائم‪.‬‬
‫لـه ٍّم يا‬ ‫ِ‬
‫وتسند إلى سببه‪ ،‬كما يف قول النابغة‪« :‬كليني َ‬
‫ب»‬ ‫ناص ِ‬ ‫ُأميم َة ِ‬
‫ََْ‬
‫وه��ذه أح���وال المجاز المرسل المعروفة يف كتب‬
‫البالغة‪.‬‬
‫ولهذا فإن الحكم بالتناقض كما أصل المناطقة يفتقر‬
‫إلى االتفاق يف ثمان وحدات كلها ترجع إلى نسبة واحدة‬
‫هي اتحاد النسبة الحكمية‪.‬‬
‫وكما يقول أب��و حامد ف��إن اختالف األح���وال ينفي‬
‫التناقض‪ .‬وأض��اف‪ :‬فإذا تطرق التعدد واالنفصال إلى‬
‫شيء من هذه الجملة انتفى التناقض»‪.‬‬
‫ولهذا فقد نص العلماء على أن قائل‪ :‬مطرنا بنوء‬
‫كذا‪،‬كافر؛ إذا جعل التأثير للنجم دون الباري جلت‬
‫قدرته‪ ،‬مؤمن إذا كان يقصد الوقت الذي جرت العادة‬
‫‪213‬‬
‫فيه بنزول المطر‪ .‬قال المرتضى‪ :‬ويف الحديث‪« :‬من قال‬
‫سقينا بالنجم فقد آمن بالنجم وكفر باهلل»‪.‬‬
‫قال الزجاج‪« :‬فمن قال مطرنا بنوء كذا‪ ،‬وأراد الوقت‬
‫ولم يقصد إلى فعل النجم فذلك واهلل أعلم جائز كما جاء‬
‫عن عمر رضي اهلل عنه أنه استسقى بالمصلى ثم نادى‬
‫العباس‪ :‬كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال‪ :‬إن العلماء هبا‬
‫يزعمون أهنا تعرتض يف األفق سبعا بعد وقوعها‪ .‬فواهلل ما‬
‫مضت تلك السبع حتى غيث الناس‪.‬‬
‫فإنما أراد عمر‪ :‬كم بقي من الوقت الذي جرت به‬
‫العادة أنه إذا تم أتى اهلل بالمطر؟ قال ابن األثير‪ :‬أما من‬
‫جعل المطر من فعل اهلل تعالى وأراد بقوله‪ :‬مطرنا بنوء‬
‫كذا‪ ،‬أي يف وقت كذا وهو هذا النوء الفالين‪ ،‬فإن ذلك‬
‫جائز‪ ،‬أي أن اهلل تعالى قد أجرى العادة أن يأيت المطر يف‬
‫هذه األوقات‪ .‬ومثل ذلك روي عن أبي منصور»‪ (.‬تاج‬
‫العروس عند مادة ناء)‪.‬‬
‫فإذا كان التأويل سائغًا مع ورود النص بالتكفير بناء‬
‫على النيات والقصد فألن ال يكفر بما لم يرد بخصوصه‬
‫نص أولى‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫فلو منعت سدًّ ا للذريعة لما كان ذلك بعيدً ا حتى ال‬
‫يقع العوام الذين يخفى عليهم ذلك يف ألفاظ موهمة‪ .‬أما‬
‫التكفير فهو أمر فيه صعوبة كبيرة لقيام هذه االحتماالت‬
‫فال يكفر إال َمن اعتقد أن للشخص المستغاث به قدرة‬
‫مستقلة عن قدرة اهلل تعالى وإرادة مستقلة عن قدره‪.‬‬
‫ويظهر من فقرات لشيخ اإلسالم أن قضية سد الذرائع‬
‫بالنسبة للعوام حاضرة يف ذهنه دون الخاصة الذين تأول‬
‫توسلهم‪ ،‬وه��ذا نص الفقرات‪ :‬فيحمل ق��ول القائل‪:‬‬
‫أسألك بنبيك محمد‪ ،‬على أنه أراد‪ :‬إنى أسألك بإيمانى‬
‫به وبمحبته‪ ،‬وأتوسل إليك بإيمانى به ومحبته‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬وقد ذكرتم أن هذا جائز بال نزاع‪ .‬قيل‪ :‬من أراد هذا‬
‫المعنى فهو مصيب ىف ذلك بال نزاع‪ ،‬وإذا حمل على هذا‬
‫المعنى كالم من توسل بالنبى ﷺ بعد مماته من السلف‬
‫كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن اإلمام أحمد‬
‫وغيره كان هذا حسنا‪ ،‬وحينئذ فال يكون ىف المسألة نزاع‪.‬‬
‫ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ وال يريدون هذا‬
‫المعنى‪ ،‬فهؤالء الذين أنكر عليهم من أنكر‪.‬‬
‫وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل‬
‫‪215‬‬
‫بدعائه وشفاعته‪ ،‬وهذا جائز بال نزاع‪ ،‬ثم إن أكثر الناس ىف‬
‫زماننا ال يريدون هذا المعنى هبذا اللفظ (‪.)1‬‬
‫��رارا من تكفير الناس ذكر الذهبي ما يلي‪« :‬رأيت‬ ‫وف ً‬
‫لألشعري كلمة أعجبتني‪ ،‬وهي ثابتة رواه��ا البيهقي‪:‬‬
‫سمعت أب��ا ح��ازم العبدوي‪ ،‬سمعت زاه��ر بن أحمد‬
‫السرخسي يقول‪ :‬لما قرب حضور أجل أبي الحسن‬
‫علي‬
‫األشعري يف داري ببغداد‪ ،‬دعاين فأتيته‪ ،‬فقال‪ :‬اشهد ًّ‬
‫أين ال ُأ َك ِّفر أحدً ا من أهل القبلة‪ ،‬ألن الكل يشيرون إلى‬
‫معبود واحد‪ ،‬وإنما هذا كله اختالف العبارات‪.‬‬
‫‪ -1‬جمموع الفتاوى ‪ . 221/1‬قلت‪� :‬إن التو�سل به �صلى اهلل عليه و�سلم يف حياته يف غري‬
‫ح�ضرته ثابتٌ ب�أمره يف حديث الأعمى �أخرج البخاري يف تاريخه الكبري والرتمذي‬
‫يف �أواخر الدعوات من جامعه وابن ماجه يف �صالة احلاجة من �سننه والن�سائي يف‬
‫عمل اليوم والليلة و�أبو نعيم يف معرفة ال�صحابة والبيهقي يف دالئل النبوة وغريهم‬
‫على اختالف ي�سري يف غري مو�ضع اال�ست�شهاد‪ ،‬و�صححه جماعة من احلفاظ‪ ،‬منهم‪:‬‬
‫الرتمذي‪ ،‬وابن خزمية‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬واحلاكم‪ ،‬والطرباين‪ ،‬و�أبو نعيم‪ ،‬والبيهقي‪،‬‬
‫واملنذري‪ ،‬والنووي‪ ،‬وابن حجر‪ ،‬والهيثمي‪ ،‬وال�سيوطي وغريهم‪:‬‬
‫عن عثمان بن حنيف ر�ضي اهلل عنه « �أن رجال �ضريرا �أتى النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم فقال‪ :‬ادع اهلل �أن يعافيني‪ .‬فقال‪�( :‬إن �شئت �أخرت ذلك‪ ،‬وهو خري‪ ،‬و�إن �شئت‬
‫دعوت)‪ .‬قال‪ :‬فادعه‪ .‬قال‪ :‬ف�أمره �أن يتو�ض�أ‪ ،‬فيح�سن و�ضوءه‪ ،‬وي�صلي ركعتني‪ ،‬ويدعو‬
‫بهذا الدعاء فيقول‪( :‬اللهم �إين �أ�س�ألك‪ ،‬و�أتوجه �إليك بنبيك حممد نبي الرحمة يا‬
‫حممد �إين توجهت بك �إىل ربي يف حاجتي هذه‪ ،‬فتق�ضى يل اللهم �شفعه يف‪ ،‬و�شفعني‬
‫فيه)‪ .‬اهـ‬

‫‪216‬‬
‫قلت‪ :‬وبنحو هذا أدين‪ ،‬وكذا كان شيخنا ابن تيمية يف‬
‫أواخر أيامه يقول‪ :‬أنا ال ُأ َك ِّفر أحدً ا من األمة‪ .‬ويقول‪ :‬قال‬
‫فمن الزم‬ ‫النبي ﷺ‪« :‬ال يحافظ على الوضوء إال مؤمن»‪َ .‬‬
‫الصلوات بوضوء فهو مسلم»(‪.)1‬‬
‫ثم إن االتجاه القائل بأن كل بدعة قبيحة وإن الحسن‬
‫ال يسمى بدعة فإنه ال يمنع التخصيص وهنا يقع التقاء‬
‫الطرفين يف نقطة دقيقة تكاد تجعل الخالف بينهما لفظ ًّيا‪.‬‬
‫فقد قال شيخ اإلسالم ابن تيمية بعد كالم طويل إلثبات‬
‫عموم «إن كل بدعة ضاللة»‪ :‬فقد تبين أن الجواب عن‬
‫كل ما يعارض به من أنه حسن وهو بدعة‪ ،‬إما بأنه ليس‬
‫ببدعة وإم��ا بأنه مخصوص‪ ،‬فسلمت دالل��ة الحديث‪،‬‬
‫وهذا الجواب إنما هو إذا ثبت حسنه(‪.)2‬‬
‫وكرر ذلك أكثر من مرة‪.‬‬
‫وإذا تدبرت يف أساس موقف االتجاه الثاين وجدته‬
‫يدور حول الحسن ليخصص به‪ ،‬فعندما يقول النووي‪:‬‬
‫إن حديث «من أح��دث يف أمرنا» الحديث مخصوص‬

‫‪� -1‬سري �أعالم النبالء (‪ ،)88 /15‬ترجمة الأ�شعري‪.‬‬


‫‪ -2‬ابن تيمية‪ ،‬اقت�ضاء ال�صراط امل�ستقيم‪� ،‬ص‪.274‬‬

‫‪217‬‬
‫بحديث «من سن يف اإلسالم سنة حسنة‪ ».....‬إنما يريد‬
‫بذلك التماس الحسن ال��ذي يخصص بنفس الدرجة‬
‫حديث «وكل بدعة ضاللة»‪.‬‬
‫ولهذا قسم هذا الفريق البدعة إلى قبيحة وحسنة‪.‬‬
‫مخصوصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وقد ال تسميها بدعة وسمها إحدا ًثا حسنًا‬
‫ومما يؤيد هذا الفهم التوفيقي أن األمثلة التي اختلفوا‬
‫فيها كان محور احتجاجهم يف الغالب ليس اإلحداث‬
‫أو الحدوث ولكن حول الدليل الخاص أو العام الذي‬
‫يشمل األمر المحدث‪.‬‬
‫ولهذا فإن أصحاب تقسيم البدع اعتمدوا على الشاهد‬
‫العام يف مسائل استحبوها وقد قال الزقاق(‪:)1‬‬
‫وهل دعا األذين ليال والنـدا‬
‫لــــــهـا بغـــير لفــــــظـه ومـــــــا بــدا‬
‫من قولــه أصبـح واهلل حمـد‬
‫مستحـــــــسنات ال‪،‬نعم‪ ،‬ذا فاعتمد‬

‫‪ -1‬وهو علي بن القا�سم التجيبي املالكي املتوفى ‪912‬هـ ونظمه �سماه «املنهج املنتخب»‬
‫اخت�صر به قواعد املقري التي ترجع يف �أ�صولها �إىل املدر�سة القرافية‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫لشاهـد الشــــــــرع بأن الجنسا‬
‫معتبر فطـب بـــــــــــــــذاك نفســــــا‬
‫وهو يشير يف األبيات وما قبلهن لالختالف الواصب‬
‫بين علماء المالكية يف تعريف البدعة ويف الفروع الفقهية‬
‫المرتتبة على هذا االختالف والتي ترجح يف الكثير منها‬
‫عند المتأخرين جانب الحسن‪.‬‬
‫وهذا ما أشار إليه «بال»‪« ،‬نعم» فبال يشير إلى االتجاه‬
‫المنكر وبنعم إلى االتجاه المقرر وبقوله‪ :‬ذا فاعتمد»‬
‫يشير إلى الرتجيح‪ .‬وبقوله‪ :‬لشاهد الشرع بأن الجنسا‪...‬‬
‫يشير إلى التعليل‪.‬‬
‫وإذا راجعت عشرات المسائل المختلف فيها بين‬
‫الطرفين وجدهتم يتناقشون حول الدليل الخاص وحتى يف‬
‫بعض القضايا التي احتد فيها النزاع كمسألة التوسل‪ ،‬فإن‬
‫شيخ اإلسالم حصره استقرائ ًيا يف ثالثة أمور منصوصة‪،‬‬
‫وبنفس الدليل احتج اآلخرون بجواز التوسل‪ ،‬باعتبار‬
‫المنصوص شاهدً ا لغير المنصوص‪ ،‬باإلضافة إلى حديث‬
‫األعمى الذي دار الجدال حول تأويله‪ ،‬وقد صححه شيخ‬
‫اإلسالم لكنه تأوله بدعائه عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫وإن كانت مسألة التوسل عند الطرفين تدخل يف تعريف‬
‫الخالف الفقهي ألهنا تدور حول إثبات حكم شرعي من‬
‫حيث التحريم أو الجواز‪.‬‬
‫وحتى يف مسئلة االستغاثة التي تشتمل على شحنة عقدية‬
‫ألن البعض رفعها عن درجة النهي الدال على التحريم‬
‫المدلول عليه بحديث‪« :‬ال تستغيثوا بي إنما يستغاث‬
‫باهلل» إلى درجة الشرك األكرب أو األصغر‪ .‬تراهم يف أثناء‬
‫اإليراد واإلص��دار ‪-‬على الرغم من األصل العام الذي‬
‫اعتمده المنكر أو المقر حيث اعتمد األول على اآليات‬
‫العامة يف ن��داء األصنام واألن��داد‪ ،‬واعتمد األخ��ر على‬
‫أصل الشفاعة والتربك بالشعر والريق‪ -‬تراهم ينزلون إلى‬
‫األدلة الخاصة فيستدل شيخ اإلسالم بالحديث المذكور‪،‬‬
‫ولكي يرد االعتضاد بأصل الشفاعة بقوله إن االستغاثة‬
‫لها معنيان عام وخاص‪ ،‬فالعام ال مانع منه وإنما الخاص‪،‬‬
‫فهو ما ال يقدر عليه إال اهلل‪ ،‬فهو محل الحديث‪ ،‬ويرد‬
‫اآلخ��رون بضعف ابن لهيعة وتدليسه ‪ -‬وهو أحد رواة‬
‫حديث الطرباين المشار إليه ‪ -‬وبأن الحديث ورد على‬
‫سبب هو أمر المنافق الذي كان يؤذي المسلمين‪ ،‬فقال‬

‫‪220‬‬
‫أبو بكر رضي اهلل عنه نستغيث برسول اهلل ﷺ على هذا‬
‫خاصا هبذه الحالة للتشديد يف شأنه بأن‬ ‫المنافق‪ ،‬فيكون ً‬
‫وكل أمره إلى اهلل تعالى وتكون حادثة عين ال عموم لها‪.‬‬
‫وهنا أيضا فهل يمكن التوفيق بأن النهي يدل على‬
‫التحريم ويكون محر ًما يف الحالة التي أشار إليها شيخ‬
‫اإلس�لام وه��ي ما ال يقدر عليه إال اهلل ألن االستغاثة‬
‫بالمخلوق واردة يف أحوال كثيرة‪ ،‬ومنها أحاديث الشفاعة‬
‫وغيرها‪ ،‬أو يكون الممنوع هو لفظ االستغاثة‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫ونجد ال�برزل��ي تلميذ اب��ن عرفة يطرد نفس الدليل‬
‫ويعكسه عندما يقول‪« :‬إذا كانت مسألة الرتاويح جماعة‬
‫إنما تركت يف زمنه عليه الصالة والسالم لقيام المانع وهو‬
‫خوف أن تفرض‪ ،‬فإن الدعاء جماعة لم يكن يف زمنه خو ًفا‬
‫وعكسا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫من أن يفرض بنفس العلة طر ًدا‬
‫تنبيه‪ :‬اعلم أن كل ما ذكرناه ‪ -‬يف هذه المسئلة التي‬
‫جرت خال ًفا تجاوز حدود آداب االختالف بين طوائف‬ ‫ًّ‬
‫من أهل السنة دعواها واح��دة ومصادرها واح��دة هي‬
‫الكتاب والسنة وفهم سلف األم��ة ويرتبطون بوشائج‬
‫فقل أن تجد منهم من لم يأخذ عن اآلخر – إنما‬ ‫المشيخة َّ‬
‫‪221‬‬
‫هي مقدمات تحتاج إلى بحث منصف للوصول إلى حد‬
‫أدنى من االتفاق‪ .‬وهذا ما توخيناه وهلل الحمد‪.‬‬
‫خالصة القول‪:‬‬
‫إن أصل هذا الخالف يدور على ثالثة أصول‪:‬‬
‫أولاً ‪ :‬هل البدعة صنف واحد أم أهنا أصناف بحسب‬
‫الدليل الذي يشملها؟‬
‫ثان ًيا‪ :‬هل الرتك مع قيام الداعي يف التعبديات له داللة‬
‫على النهي أو ال داللة له على ذلك؟‬
‫ثال ًثا‪ :‬الفرق بين الموجب وبين المقتضى‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬الفرق بين إضافة المرتوك إلى عبادة محدودة‬
‫واعتقاده جزءا مكمال لها فال يشرع أو عدم إضافته فيرد‬
‫إلى أصل اإلباحة أو االستحباب‪.‬‬
‫ونحن نرى صحة ما ذهب إليه اإلم��ام ابن عرفة من‬
‫التفصيل بين ما أضيف إلى عبادة بحيث يصبح وكأنه‬
‫جزء منها فهذا غير مشروع‪.‬‬
‫ونضيف إليه ثالثة ضوابط هي‪:‬‬
‫حكما شرع ًيا كالوجوب أو الندب‬ ‫ً‬ ‫أولاً ‪ :‬أن ال يعطى‬
‫إذا لم يكن مشمولاً بدليل كاألدلة المتعلقة بالذكر الدالة‬
‫‪222‬‬
‫على استحبابه يف كل األحوال فال يجوز لمن اختار تلك‬
‫األذكار أن يقول إهنا واجبة مثلاً إال إذا كانت بنذر‪.‬‬
‫الضابط الثاين‪ :‬أن ال يحكم لها بثواب معين فإن من‬
‫يحدد الثواب ومقاديره هو الشارع والدليل على ذلك أن‬
‫كثيرا‬
‫الصحابي الذي قال‪ :‬اللهم ربنا ولك الحمد حمدً ا ً‬
‫طي ًبا مباركًا فيه‪ ،‬لوال أن الشارع أخرب بعظم ثواهبا ما كان‬
‫ألحد أن يحدد لها ثوا ًبا معينًا‪.‬‬
‫إال أنه يدل من جهة أخرى على أنه ال حرج على من‬
‫أنشأ محامد يف إطار ما علم من صفات اهلل تعالى وأسمائه‬
‫وأن األمر ليس فيه توقيف فهو عليه الصالة والسالم لم‬
‫يلمه على ذلك بل أقره وأثنى عليه‪.‬‬
‫الضابط الثالث‪ :‬أن ال يشمل ال��م�تروك دليل هني‬
‫بالتحريم أو الكراهة‪.‬‬
‫تلك هي الضوابط التي سبق عن ابن عرفة شيخ المالكية‬
‫بعضها فمن ترك شي ًئا احتيا ًطا فال لوم عليه‪ ،‬ومن فعل‬
‫استكثارا من الخير فهو على خير وال‬
‫ً‬ ‫القربات بضوابطها‬
‫ينبغي أن ينكر البعض على البعض يف مواطن االجتهاد بله‬
‫التشنيع والتبديع «وإنما األعمال بالنيات»‪.‬‬
‫‪223‬‬
‫ويف المسألة مجال فسيح وميدان واسع ولوال خوف‬
‫اإلطالة والخروج عن الغرض لذكرنا من مسائل الصحابة‬
‫والسلف ما يدل على سعة األم��ر فعال وتركًا وإعمالاً‬
‫وإهمالاً ‪ .‬واهلل سبحانه وتعالى أعلم‪.‬‬
‫الجهات األربع‬‫ِ‬ ‫ولنرجع إلى ما كنا بصدده من تقرير‬
‫ُ‬
‫الشيخ‬ ‫الذي ركَّز ِ‬
‫عليه‬ ‫عندَ الشاطبِي‪ ،‬وقد َتر َك االستقراء ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫عاشور‪.‬‬ ‫اب ُن‬
‫ِ‬
‫للجهات أنَّه‬ ‫ِ‬
‫لالستقراء فِي عدِّ ِه‬ ‫الشاطبي‬ ‫َ‬
‫إغفال‬ ‫َّ‬
‫ولعل‬
‫ِّ‬
‫عرف هبا المقاصدُ مباشر ًة وابتداء‪،‬‬ ‫الجهات التِي ُت ُ‬
‫ِ‬ ‫ذكر‬
‫إنما َ‬
‫ِ‬
‫المذكورات‪،‬‬ ‫بواسطة ه ِ��ذه‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يكون‬ ‫أمَّ��ا االستقرا ُء فإنَّما‬
‫وليس جه ًة مستق َّلة‪ ،‬وإنَّما هو أداة للتأكد من المقصدية‬ ‫َ‬
‫سما مِن‬ ‫ِ‬
‫ليس ق ً‬‫أو من رتبة ثبوهتا أو مكانتها‪ ،‬فاالستقرا ُء َ‬
‫المذكورات وإنما هو عينها‪ .‬فافهم ذلك فإنه دقيق واهلل‬ ‫ِ‬
‫الموفق‪ .‬إن االستقراء إنما هو يف حقيقته سرب للظاهرة‬
‫يف االطراد من خالل عينات متعددة‪ ،‬فهو ينقل الظاهرة‬
‫من الجزئي إلى الكلي‪ ،‬ومن الظني إلى القطعي‪ ،‬لكن لو‬
‫كان الخطاب كل ًيا يف داللته أو قطع ًيا يف وروده ال تكون‬
‫لالستقراء حاجة‪ .‬إن المقصدية مفهومة بداية من كل‬

‫‪224‬‬
‫جزئية؛ ولهذا فإن الشاطبي جعل االستقراء مسل ًكا عندما‬
‫كان يستنبط الكليات‪ ،‬وذلك يف حديثه عن مقصد وضع‬
‫الشريعة ابتداء لمصالح العباد‪.‬‬
‫• طرق التعرف على المقاصد عند ابن عاشور ‪:‬‬
‫قال ابن عاشور وهو يسرد طرق التعرف على المقاصد‪:‬‬
‫الشريعة يف‬ ‫ِ‬ ‫استقراء‬
‫ُ‬ ‫أعظمها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الطريق األول‪ :‬وه��و‬
‫تصرفاتِها‪ ،‬وهو على نوعين‪:‬‬
‫اآلئل‬ ‫ُ‬ ‫المعروفة عل ُلها‪،‬‬‫ِ‬ ‫أعظمهما‪ :‬استقرا ُء األحكا ِم‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بطرق مسالك الع َّلة‪َّ .‬‬
‫فإن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تلك العل ِل المثبتة‬ ‫ِ‬
‫إلى استقراء َ‬
‫بسهولة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الشريعة‬ ‫ِ‬
‫بمقاصد‬ ‫ِ‬
‫العلم‬ ‫َ‬
‫حصول‬ ‫ِ‬
‫باستقراء العل ِل‬
‫أل َّننَا إ َذا استقرينَا عللاً كثير ًة متماثل ًة فِي كونِها ضاب ًطا‬
‫نستخلص منها حكم ًة واحدة‪،‬‬ ‫ّحدة أمك َن ْ‬
‫أن‬ ‫لحكمة مت ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫استقراء‬ ‫ستنتج مِن‬ ‫شرعي‪ ،‬كما ُي‬ ‫فنجز ُم بأنَّها مقصدٌ‬
‫ُ‬ ‫ٌّ‬
‫قواعد المنطِق‪.‬‬
‫ِ‬ ‫حسب‬
‫َ‬ ‫تحصيل مفهو ٍم ك ّل ٍّي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الجزئيات‬
‫ِ‬
‫بمسلك‬ ‫ِ‬
‫الثابتة‬ ‫ِ‬
‫المزابنة‬ ‫عن‬‫النهي ِ‬ ‫مثاله‪ :‬أنَّنا إذا علمنا ع ّل َة ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫لمن‬ ‫اإليماء في قول رسول اهلل ﷺ يف الحديث الصحيحِ َ‬
‫يبس؟»‪.‬‬ ‫الرطب إذا َ‬ ‫«أينقص ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بالرطب‪:‬‬ ‫ِ‬
‫التمر‬ ‫سأ َله عن بي ِع‬

‫‪225‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪« :‬فال إذن»(‪.)1‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫بمقدار‬ ‫ُ‬
‫الجهل‬ ‫ِ‬
‫المزابنة هي‬ ‫ِ‬
‫تحريم‬ ‫أن عل َة‬ ‫فحصل لنَا ّ‬ ‫َ‬
‫المبيع باليابس‪.‬‬ ‫الرطب منهما‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫أحد العوضين‪ ،‬وهو ُّ‬
‫أن‬ ‫الجزاف بالمكيلِ‪ ،‬وعلمنا َّ‬ ‫ِ‬ ‫النهي ع ْن بي ِع‬ ‫وإذا علمنا‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جهل ِ‬
‫علمنا‬ ‫بطريق استنباط الع َّلة‪ .‬وإذا ْ‬ ‫العوضين‬ ‫أحد‬ ‫ع ّلتَه ُ‬
‫ِ‬
‫الخديعة بين‬ ‫نفي‬ ‫َه‬‫ت‬ ‫ل‬‫أن ع ّ‬ ‫بالغبن‪ ،‬وعلمنا َّ‬ ‫ِ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫القيا‬ ‫ِ‬
‫إباحة‬ ‫عد َم‬
‫ُ‬
‫قول الرسول عليه السالم للرجل الذي قال له‪:‬‬ ‫بنص ِ‬ ‫األُ َّمة ِّ‬
‫بايعت ف ُقل‪ :‬ال ِخالبة»(‪.)2‬‬ ‫َ‬ ‫إين أخدع يف البيع‪« :‬إذا‬
‫العلل ك َّلها استخلصنا منها مقصدً ا‬ ‫َ‬ ‫إذا علمنا ه ِ��ذه‬
‫ِ‬
‫المعاوضات‪.‬‬ ‫الغر ِر فِي‬ ‫ُ‬
‫إبطال َ‬ ‫واحدً ا‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫خطر ْأو‬ ‫اشتمل على ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫تعاوض‬ ‫كل‬ ‫أن َّ‬ ‫خالف يف َّ‬ ‫ٌ‬ ‫يبق‬
‫فلم َ‬ ‫ْ‬
‫تعاوض باطل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ثمن أو أج ٍل ‪ -‬فهو‬ ‫ثمن أو ُم ٍ‬ ‫غرر ‪ -‬يف َ‬ ‫ٍ‬
‫المسلم‬
‫ُ‬ ‫يخطب‬
‫َ‬ ‫النهي ع ْن أن‬ ‫نعلم‬
‫ومثال آخر‪ :‬وهو أننا ُ‬ ‫ٌ‬
‫َ‬
‫أن يسو َم على سومِه‪،‬‬ ‫مسلم آخر‪ ،‬والنهي ع ْن ْ‬
‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫خطبة‬ ‫على‬
‫الوحشة التِي ُ‬
‫تنشأ‬ ‫ِ‬ ‫ذلك مِن‬ ‫ذلك هو ما يف َ‬ ‫أن ع ّل َة َ‬ ‫ونعلم َّ‬ ‫ُ‬
‫‪� -1‬أخرجه �أبو داود يف كتاب البيوع والإجارات‪ ،‬باب ما يف بيع التمر بالتمر رقم ‪3359‬‬
‫والرتمذي يف كتاب البيوع‪ ،‬باب ما جاء يف النهي عن املحاقلة واملزابنة وقال حديث‬
‫ح�سن �صحيح رقم ‪ 1225‬ورواه غريهما‪.‬‬
‫‪� -2‬أخرجه البخاري وم�سلم‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫فنستخلص من‬ ‫منفعة مبتغاة‪،‬‬‫الحرمان مِن ٍ‬ ‫ِ‬ ‫السعي فِي‬ ‫ِ‬ ‫ع ْن‬
‫ُ‬
‫األخوة بي َن المسلمي َن‪ ،‬فنستخد ُم‬ ‫َّ‬ ‫ذلك مقصدً ا هو‪ :‬دوا ُم‬
‫الخطبة بعدَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حرمة‬ ‫ِ‬
‫بانتفاء‬ ‫إلثبات الجز ِم‬ ‫ِ‬ ‫ذلك المقصدَ‬ ‫َ‬
‫األو ُل‬ ‫الخطبة والسو ِم بعدَ السوم‪ ،‬إذا ك َ‬ ‫ِ‬
‫الخاطب َّ‬ ‫ُ‬ ‫��ان‬
‫عما رغ َبا فِيه‪.‬‬ ‫أعرضا َّ‬ ‫َ‬ ‫األول قدْ‬ ‫والسائم َّ‬
‫ُ‬
‫النوع الثاني من هذا الطريق‪ :‬استقراء أدل��ة أحكام‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫تلك الع ّل َة‬ ‫بأن َ‬ ‫اشرتكت يف ع ّلة‪ ،‬بحيث يحصل لنا اليقي ُن َّ‬
‫مقصدٌ مرا ٌد للشارع‪.‬‬
‫مثا ُله‪ :‬النهي عن بي ِع الطعا ِم َ ِ‬
‫طلب رواجِ‬ ‫قبل قبضه‪ ،‬ع َّلتُه ُ‬ ‫ُ‬
‫الطعا ِم فِي األسواق‪.‬‬
‫والنهي عن بي ِع الطعا ِم بالطعا ِم نسيئةً‪ ،‬إذا ُحمل على‬ ‫ُ‬
‫الذمة‬ ‫أن ال يب َقى الطعا ُم يف ِّ‬ ‫إطالقِه عندَ الجمهور‪ ،‬ع ّلتُه ْ‬
‫ِ‬
‫رواجه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فيفوت‬
‫ُ‬
‫مسلم عن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫لحديث‬ ‫االحتكار فِي الطعا ِم‬ ‫ِ‬ ‫والنهي ِ‬
‫عن‬ ‫ُ‬
‫َّ‬
‫معمر مرفو ًعا‪« :‬من احتكر طعا ًما فهو خاطئ» ‪ .‬علتُه‬
‫(‪)1‬‬ ‫ٍ‬
‫إقالل الطعا ِم مِن األسواق‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وتيسير‬ ‫رواج الطعا ِم‬ ‫العلم َّ‬
‫بأن‬ ‫ُ‬
‫يحصل‬ ‫ِ‬
‫االستقراء‬ ‫فبهذا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪� -1‬أخرجه م�سلم وغريه باب حترمي االحتكار يف الأقوات رقم‪.1605‬‬

‫‪227‬‬
‫مقاصد الشريعة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تناولِه مقصدٌ من‬
‫إن‬‫ونقول‪َّ :‬‬ ‫ُ‬ ‫المقصد فنجعله أص�ًل�اً‬ ‫ِ‬ ‫فنعمدُ إلى هذا‬
‫واإلقالل إنما‬‫َ‬ ‫بصور مِن المعاوضات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الرواج إنما يكون‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يرتكون التبا ُي َع‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بصور من المعاوضات؛ إِذ ُ‬
‫الناس ال‬ ‫ُ‬
‫يكون‬
‫خشى معه عد ُم رواجِ الطعام‪.‬‬ ‫المعاوضات ال ُي َ‬ ‫ِ‬ ‫فما عدا‬
‫تجوز الشرك ُة والتولي ُة واإلقال ُة يف الطعام‬ ‫ُ‬ ‫ولذلك قلنا‪:‬‬
‫الرقاب الذي‬ ‫ِ‬ ‫بعتق‬ ‫األمر ِ‬ ‫ِ‬ ‫قبضه‪ .‬ومن هذا القبي ِل كثر ُة‬ ‫قبل ِ‬ ‫َ‬
‫حصول الحرية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الشريعة‬ ‫ِ‬
‫مقاصد‬ ‫أن من‬ ‫د َّلنا على َّ‬
‫الطريق الثاين‪ :‬أدل��ة القرآن الواضح ُة الداللة‪ ،‬التي‬
‫غير ما هو ظاهرها‬ ‫يكون المرا ُد منها َ‬ ‫َ‬ ‫يضعف احتمال ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬
‫بحيث ال َي ُشك يف المراد منها‬ ‫ُ‬ ‫بحسب االستعمال العربي‪،‬‬
‫دخل على نفسه ش َّكا ال يعتدّ به‪.‬‬ ‫أن ي ِ‬
‫ال من شا َء ْ ُ‬ ‫إ َّ‬
‫ِ‬
‫الص َيام{‬ ‫ب َع َل ْي ُك ُم ِّ‬ ‫أال ترى أنا نجزم بأن معنى‪}:‬كُت َ‬
‫ظاهر هذا‬ ‫َ‬ ‫قال أحدٌ ‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫اهلل أوجبه‪ .‬ولو َ‬ ‫أن َ‬ ‫(البقرة‪َّ )183 :‬‬
‫خطأ من القول‪.‬‬ ‫الورق لجا َء ً‬ ‫ِ‬ ‫مكتوب يف‬ ‫أن الصيا َم‬ ‫اللفظ َّ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫بنسبة‬ ‫يحصل اليقي ُن‬ ‫ُ‬ ‫اللفظ قطع َّي ُه‬ ‫ِ‬ ‫متواتر‬ ‫فالقرآن لكونِه‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫ظني‬ ‫ه‬ ‫عليه إلى الشار ِع تعالى‪ ،‬ولكنَّه لكونِ‬ ‫ِ‬ ‫يحتوي‬‫ِ‬ ‫ما‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫احتمال‬ ‫تطر ُق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫يضعف ُّ‬ ‫ُ‬ ‫واضحة‬ ‫داللة‬ ‫يحتاج إلى‬ ‫ُ‬ ‫الداللة‬
‫‪228‬‬
‫ثان إليها‪.‬‬ ‫معنًى ٍ‬
‫الداللة َت َسنّى لنا‬ ‫ِ‬ ‫المتن قو ُة َظ ِّن‬ ‫ِ‬ ‫انضم إلى قطع ّية‬ ‫فإذا‬
‫َّ‬
‫الجدل يف الفقه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الخالف عندَ‬ ‫يرفع‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫شرعي منه ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫مقصد‬ ‫أخذ‬
‫حُ ُّ ۡ َ َ َ‬ ‫اَ‬ ‫يؤخذ من قوله تعالى‪َ }:‬و هَّ ُ‬
‫اد{‬ ‫ٱلل ل يِب ٱلفس‬ ‫ُ‬ ‫مثل ما‬
‫َ َ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ اَ َ ۡ ُ ُ ٓ ْ‬
‫يأيها ٱلِين ءامنوا ل تأكلوا‬ ‫(البقرة‪ ،)205:‬وقوله‪ٰٓ }:‬‬
‫َ اَ‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ۡ ََٰ ُ َ ۡ َ ُ‬
‫أمولكم بينكم بِٱلب ِط ِل{ (النساء‪ ،)29:‬وقوله‪} :‬ول‬
‫ى{ (فاطر‪ ،)18:‬وقوله‪}:‬إ َّن َما يُر ُ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‪ۡ ُ َۡ ٞ‬‬
‫يد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ۚ‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫ت ِزر وازِرة وِزر أ‬
‫ٱلمرۡ‬ ‫ك ُم ۡٱل َع َد ٰ َوةَ َو بۡٱلَ ۡغ َضا ٓ َء ف خۡ َ‬ ‫َّ ۡ َ ٰ ُ َ ُ َ َ ۡ َ ُ‬
‫يِ ۡ ِ‬ ‫ٱلشيطن أن يوق ِع بين‬
‫ك ُم ٱل ُي رۡ َ‬ ‫ُ ُ هَّ ُ ُ‬ ‫ۡ ۡ‬
‫س‬ ‫س{ (المائدة‪ ،)91:‬وقوله‪}:‬ي ِريد ٱلل ب ِ‬ ‫َوٱل َمي ِرِ‬
‫َ‬
‫س{ (البقرة‪َ } ،)185:‬و َما َج َعل‬ ‫ك ُم ۡٱل ُع رۡ َ‬ ‫ُ‬
‫يد ِب‬ ‫َو اَل يُر ُ‬
‫َ ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ۡ ُ‬
‫ج{ (الحج‪.)22:‬‬ ‫ِين مِن ح َر ٖ ۚ‬ ‫عليكم يِف ٱدل ِ‬
‫شرعي أو‬ ‫ٍ‬
‫بمقصد‬ ‫تصريح‬ ‫كل آية من هذه اآليات‬ ‫ففي ّ‬
‫ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫تنبي ٌه على مقصد‪.‬‬
‫الطريق ال يوجدُ‬ ‫ُ‬ ‫الثالث‪ :‬السن ُة المتواترةُ‪ .‬وهذا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الطريق‬
‫مثال إال يف حالين‪:‬‬ ‫له ٌ‬
‫ِ‬
‫مشاهدة‬ ‫الحاصل من‬ ‫ُ‬ ‫المعنوي‬ ‫التواتر‬ ‫الحال األول‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫علم‬ ‫ُ‬ ‫الصحابة عملاً من‬ ‫ِ‬ ‫عمو ِم‬
‫فيحصل لهم ٌ‬ ‫النبي ﷺ‬ ‫ِّ‬

‫‪229‬‬
‫جميع المشاهدين‪.‬‬ ‫يستوي ِ‬
‫فيه‬ ‫ذلك ِ‬ ‫بتشريٍع يف َ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫الدين‬ ‫قسم المعلو ِم م��ن‬ ‫��ع‬
‫��ال ي��رج ُ‬ ‫وإل��ى ه��ذا ال��ح ِ‬
‫ُ‬
‫القريب من المعلو ِم‬ ‫ِ‬ ‫الشرعي‬ ‫وقسم العم ِل‬ ‫ِ‬
‫بالضرورة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫الجارية المع َّبر عن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصدقة‬ ‫ِ‬
‫مشروعية‬ ‫ض��رورةً؛ ُ‬
‫مثل‬
‫بالح ُبس‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بعضها ُ‬
‫شريحا‬ ‫ً‬ ‫مالك حي َن بل َغه‪َّ :‬‬
‫أن‬ ‫العمل هو الذي عناه ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وهذا‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫بس ع ْن‬ ‫الحبس‪ ،‬ويقول‪ :‬أن ال َح َ‬ ‫يقول بعد ِم انعقاد ُ‬
‫شريحا تك ّلم ببالده‬ ‫ً‬ ‫فقال مالك‪ :‬رحم اهلل‬ ‫فرائض اهلل؛ َ‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬يعني الكوفة ‑ ولم َي ِرد المدينة‪ ،‬فيرى آثار األكابر من‬
‫وأصحابه والتابعي َن بعدَ هم وما ح َّبسوا‬ ‫ِ‬ ‫النبي ﷺ‬ ‫أزواجِ‬
‫ّ‬
‫رسول‬‫ِ‬ ‫صدقات‬
‫ُ‬ ‫من أموالهم ال يطع ُن فيها طاع ٌن‪ ،‬وهذه‬
‫أحاط‬ ‫َ‬ ‫فيما‬
‫ال َ‬ ‫أن ال يتك َّلم إ ّ‬ ‫ِ‬
‫للمرء ْ‬ ‫ِ‬
‫وينبغي‬ ‫اهللِ سبع ُة حوائِط‪.‬‬
‫ِبه ُخربًا‪.‬‬
‫ككون ُخ ِ‬
‫طبة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العبادات كثيرةٌ‪،‬‬ ‫وأمثل ُة هذا العم ِل يف‬
‫العيدين بعدَ الصالة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الصحابة مِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آلحاد‬ ‫عملي‪ ،‬يحصل‬ ‫ٌّ‬ ‫تواتر‬
‫الحال الثاين‪ٌ :‬‬
‫ستخلص من‬ ‫بحيث َي‬ ‫ُ‬ ‫رسول اهلل ﷺ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أعمال‬ ‫ِ‬
‫مشاهدة‬ ‫تكرر‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫مجموعها مقصدً ا شرع ًيا‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪230‬‬
‫قيس قال‪ :‬كنَّا على‬ ‫بن ٍ‬ ‫األزرق ِ‬‫ِ‬ ‫البخاري عن‬ ‫ِّ‬ ‫ففي صحيحِ‬
‫نضب عن ُه الما ُء‪ .‬فجا َء أ ُبو ْبرز َة‬ ‫َ‬ ‫باألهواز‪ ،‬قدْ‬ ‫ِ‬ ‫شاطئ ٍ‬
‫هنر‬ ‫ِ‬
‫فانطلقت‬
‫ْ‬ ‫فرسه‪،‬‬‫فرس‪ ،‬فقا َم يص ِّلي وخ ّلى َ‬ ‫ٍ‬ ‫األسلمي على‬
‫ُّ‬
‫ثم جا َء‬ ‫فأخذها‪َّ ،‬‬‫َ‬ ‫فرتك صال َته وتبعها حتَّى أدركَها‬ ‫الفرس‪َ .‬‬ ‫ُ‬
‫فأقبل يقول‪ :‬انظروا‬ ‫َ‬ ‫رجل َله ٌ‬
‫رأي‬ ‫فقضى صال َته‪ .‬وفينا ٌ‬ ‫َ‬
‫فقال‪:‬‬ ‫فأقبل َ‬‫ترك صال َته مِن أج ِل َفرس‪َ .‬‬ ‫هذا الشيخِ َ‬ ‫إلى َ‬
‫إن منزلِي‬ ‫رسول اهللِ ﷺ وقال‪َّ :‬‬ ‫َ‬ ‫فارقت‬
‫ُ‬ ‫ما عنَّفنِي أحدٌ ُ‬
‫منذ‬
‫آت أهلِي إ َلى الليلِ‪.‬‬ ‫وتركت الفرس لم ِ‬ ‫ُ‬ ‫صليت‬
‫ُ‬ ‫مرتاخٍ ‪ ،‬فلو‬
‫َ ْ‬
‫تيسيره»‪.‬‬ ‫رسول اهللِ ﷺ فر َأى مِن ِ‬ ‫َ‬ ‫صحب‬ ‫وذكر أنَّه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫استخلص‬ ‫رسول اهلل ﷺ المتعدد َة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أفعال‬‫َ‬ ‫فمشاهد ُته‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الصالة‬ ‫قطع‬ ‫التيسير‪ .‬فر َأى َّ‬ ‫مقاصد الشر ِع‬ ‫ِ‬ ‫أن مِن‬ ‫منها َّ‬
‫أن َ‬ ‫َ‬
‫استئناف صالتِه أو َلى‬ ‫ِ‬ ‫ثم العو َد إلى‬ ‫ِ ِ‬
‫من أج ِل إدراك فرسه َّ‬
‫ِ‬
‫مشقة الرجو ِع إلى‬ ‫ِ‬ ‫تجشم‬ ‫استمراره على صالتِه َمع ُّ‬ ‫ِ‬ ‫مِن‬
‫أهلِه راجلاً ‪.‬‬
‫مظنون ظنًّا قري ًبا من‬ ‫ٌ‬ ‫بالنسبة إلى أبي برز َة‬ ‫ِ‬ ‫فهذا المقصدُ‬
‫بالنسبة إلى غيره‪ -‬الذين َي ْروي إليهم خربه‬ ‫ِ‬ ‫القطع‪ ،‬ولكنَّه‬
‫ِ‬
‫وحسن‬ ‫ِ‬
‫التقليد‬ ‫‪ -‬مقصدٌ محتمل؛ ألنه يتل ّقى منه على ِ‬
‫وجه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪231‬‬
‫الظ ِّن به»(‪.)1‬‬
‫تابعة‪،‬‬ ‫أصلية وأخرى ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الشاطبي إلى مقاصدَ‬ ‫ولقد صنفها‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫الفقه بما يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أبواب‬ ‫أكثر‬
‫شملت َ‬ ‫ْ‬ ‫وهي مقاصدُ ال تحصى‬
‫ذلك أبواب العبادات‪.‬‬ ‫َ‬
‫فروج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتوسع اب ُن عاشور يف المعامالت واألنكحة َّ‬ ‫َّ‬
‫أوضح‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بحيث‬ ‫ِ‬
‫الحقوق‬ ‫أنواع‬
‫َ‬ ‫للرواجِ يف البيوعِ‪َّ ،‬‬
‫وأصل‬
‫شرح مقاصدَ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وكذلك َ‬ ‫الحق‪.‬‬
‫بنظرية ِّ‬ ‫سمى‬ ‫إلى حدٍّ ما َما ُي َّ‬
‫باعتباره جذم نظام العائلة‪ ،‬وغيره من المقاصد‬ ‫ِ‬ ‫النكاحِ‬
‫الخاصة بأبواب الفقه‪.‬‬
‫أو المحدود َة‬ ‫أن هذه المقاصدَ الجزئي َة ِ‬ ‫والحق َّ‬
‫ُّ‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كم‪ ،‬وكلها عندَ‬ ‫باألبواب ال ُتحصى‪ .‬فالشريع ُة ك ُّلها ح ٌّ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‪.‬‬ ‫غايات يس َعى إليها‬ ‫ٌ‬ ‫التأم ِل‬
‫الغزالي رحمه اهلل تعالى يف‬ ‫ٍ‬
‫حامد‬ ‫فاألمر كما قال أبو‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫أصل من أصول هذه المقاصد بعدَ‬ ‫مسلك اإليماء‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫ِ‬
‫يدخل‬ ‫ُ‬ ‫يكثر وال‬ ‫مما ُ‬ ‫ذكر أمثل ًة لإليماء‪« :‬هذا وأمثا ُله َّ‬ ‫أن َ‬ ‫ْ‬
‫التنبيه ال تنضبط‪ .‬وقد أطنبنَا يف‬ ‫ِ‬ ‫تحت الحصر‪ .‬فوجو ُه‬ ‫َ‬
‫القدر كاف ههنا»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كتاب «شفاء الغليل» وهذا‬ ‫ِ‬ ‫تفصيلِها يف‬
‫ُ‬
‫‪ -1‬ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة ‪.56 /3‬‬

‫‪232‬‬
‫حدث‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫حكم‬ ‫كل‬‫الجنس ُّ‬ ‫ِ‬ ‫يلتحق هبذا‬ ‫ُ‬ ‫وأض��اف‪« :‬بل‬
‫ِ‬
‫كحدوث‬ ‫كان مِن األقوال‪،‬‬ ‫وصف حادث‪ ،‬سوا ٌء َ‬ ‫ٍ‬ ‫عقيب‬
‫َ‬
‫والح ّل عندَ البي ِع والنكاحِ والتصرفات؛ أو من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الملك‬
‫واإلت�لاف؛ أو من‬ ‫ِ‬ ‫الذمة عند القت ِل‬ ‫كاشتغال ِّ‬‫ِ‬ ‫األفعال‪،‬‬
‫ِ‬
‫العصير‪،‬‬ ‫طريان الشدّ ة على‬ ‫ِ‬ ‫الشرب عندَ‬ ‫ِ‬ ‫كتحريم‬‫ِ‬ ‫الصفات‪،‬‬
‫أن يقال‪:‬‬ ‫ينقدح ْ‬ ‫الحيض‪ ،‬فإنَّه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طريان‬ ‫الوطء عندَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتحريم‬
‫ُ‬
‫هذا‪،‬‬ ‫ال َ‬
‫سبب‪ ،‬ولم يتجدّ د إ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ال بتجدُّ ِد‬ ‫الحكم إ َّ‬ ‫ُ‬ ‫«ال يتجدّ ُد‬
‫لم يناسب»(‪.)1‬‬ ‫وإن ْ‬ ‫السبب ْ‬ ‫ُ‬ ‫هو‬‫فإ ًذا َ‬
‫جهة أخرى‬ ‫ٍ‬ ‫عرف من‬ ‫أن المقاصدَ ُت ُ‬ ‫قـلـت‪ :‬ويع ُّن لي َّ‬ ‫ُ‬
‫لجهات الشاطبِ ِّي األربعِ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالنسبة‬ ‫أن تعتربَ خامس ًة‬ ‫يمك ُن ْ‬
‫ُ‬
‫ال�ت�رك م��راد ًف��ا‬ ‫ِ‬
‫ه��ي جه ُة ال�ت�رْك‪ .‬ول��ي َ‬
‫��س‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫الجه‬ ‫ه‬ ‫وه���ذ‬
‫��رك متعمد من الشارع‪ ،‬كرتكهِ‬ ‫ٌ‬ ‫هو ت‬ ‫ُ‬
‫َّ‬ ‫للسكوت‪ ،‬فالرتك َ‬
‫السجو َد يف مواض ِع السجود‪ ،‬وتركِه ص�لا َة الرتاويحِ ‪،‬‬
‫بيان مرتبة هذه العبادات‪،‬‬ ‫الذي ُيعرف منه قصدُ الشار ِع َ‬
‫تفرض وال يعتقدَ فيها‬ ‫الوجوب حتَّى ال َ‬ ‫ِ‬ ‫وأهنا ال تر َقى إلى‬
‫الفرض‪.‬‬
‫أما الرتك الذي لم تقم عليه قرينة القصد فهو موضوع‬
‫‪� -1‬أبو حامد الغزايل امل�ست�صفى ‪.301 /2‬‬

‫‪233‬‬
‫ال؟‬‫خالف بين العلماء هل يمكن أن يكون مناط حكم أو ً‬
‫كما أسلفنا يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫��ار التِي تقو ُم مقا َم‬
‫تعرف من مث َبت األخ��ب ِ‬
‫ُ‬ ‫كما أهن��ا‬
‫أمر ُ‬
‫يطول تت َب ُّعه‪.‬‬ ‫وهو ٌ‬ ‫ِ‬
‫األوامر‪ ،‬ومنف ِّيها الذي يعتربُ نواهي‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫وفتاويهم؛ ألنَّهم‬ ‫ِ‬
‫الصحابة‬ ‫كما أنَّها ُتعرف من أحكا ِم‬
‫كانوا يتَّبعون المقاصدَ والمعاينَ ‪.‬‬
‫ِ‬
‫الصحابة‬ ‫الجملة المفهو ُم من‬ ‫ِ‬ ‫قال الغزالي‪« :‬وعلى‬
‫ِ‬
‫الرأي‬ ‫درك المعانِي على‬ ‫ِ‬ ‫واالقتصار يف‬
‫ُ‬ ‫باع المعانِي‬ ‫ا ّت ُ‬
‫مسائل‬‫َ‬ ‫درك اليقين؛ِ فإهنم حكموا يف‬ ‫اشرتاط ِ‬ ‫ِ‬ ‫الغالب َ‬
‫دون‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ومتباينة المناهجِ ‪ ،‬ال‬ ‫ِ‬
‫الطرق‬ ‫ِ‬
‫متفاوتة‬ ‫َ‬
‫بمسالك‬ ‫ٍ‬
‫مختلفة‬
‫األغلب األرجحِ ‪ ،‬وهو‬ ‫ِ‬ ‫بالرأي‬‫ِ‬ ‫الحكم‬
‫ُ‬ ‫يجمع جمي َعها إ َّ‬
‫ال‬ ‫ُ‬
‫النبي عليه الصالة والسالم‬ ‫ِ‬
‫المرا ُد باالجتهاد الذي َّقرر ُّ‬
‫معا ًذا عليه»(‪.)1‬‬
‫المسوى شرحِ المو َّطا كال ًما‬ ‫َّ‬ ‫هلوي يف‬ ‫ُّ‬ ‫ولي اهللِ الدِّ‬ ‫قال ُّ‬
‫المقاصد‪« :‬و ُت ُ‬
‫عرف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استنباط‬ ‫موض ًحا ألص ِ‬
‫��ول‬ ‫ِّ‬ ‫جام ًعا‬
‫يدل على الرضا الذي‬ ‫خطاب للشار ِع ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫المقاصدُ من ِّ‬
‫يدل على‬ ‫الندب‪ْ ،‬أو ُّ‬ ‫ِ‬ ‫الوجوب ِ‬
‫أو‬ ‫ِ‬ ‫يتفاوت ليم ِّثل درج َة‬ ‫ُ‬
‫‪ -1‬الغزايل �شفاء الغليل �ص‪.195‬‬

‫‪234‬‬
‫ِ‬
‫الكراهة»‪.‬‬ ‫التحريم ِ‬
‫أو‬ ‫ِ‬ ‫يتفاوت ليم َّثل درج َة‬ ‫ُ‬ ‫السخط الذي‬ ‫ِ‬
‫ذلك يف مقدِّ متِه لذلك الشرح بقوله‪ :‬أ َّما الرضا‬ ‫وع َّبر ع ْن َ‬
‫الرضا والسخط‪،‬‬ ‫فيعلم من الصي ِغ الدا َّلة على ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والسخط‬
‫ِ‬
‫والبعد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والقرب‬ ‫والرحمة واللعنة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والحب والبغض‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫المرض ِّيين مث ِل األنبياء والمالئكة وأه ِل‬ ‫ِ‬ ‫ونسب ُة الفع ِل إلى‬
‫غير المرض ِّيين مث ِل الشياطين‪ ،‬والمنافقين‪،‬‬ ‫الجنَّة‪ ،‬أو إلى ِ‬
‫الجزاء المر َّتب على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وبيان‬ ‫والطلب‪ ،‬والمنعِ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وأه ِل النار‪.‬‬
‫المسك‪ ،‬أو‬ ‫العرف مث ِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بمحمود يف‬ ‫ِ‬
‫والتشبيه‬ ‫الفعل‪،‬‬
‫النبي ﷺ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫واهتما‬ ‫الكلب‪،‬‬ ‫العرف مث ِل ِ‬
‫قيء‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫مذمو ٍم فِ‬
‫ِّ‬
‫حضور ِ‬
‫داعيه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بفعلِه‪ ،‬أو اجتنابِه عنه َ‬
‫مع‬
‫الرضا المؤك َِّد المسمى بالوجوب‪،‬‬ ‫التمييز بي َن ِّ‬ ‫ُ‬ ‫أ َّما‬
‫ِ‬
‫السخط‬ ‫المسمى بالندب‪ ،‬وع ِ‬
‫��ن‬ ‫غير المؤك َِّد‬ ‫والرضا ِ‬ ‫َ‬
‫َّ‬
‫المسمى‬ ‫غير المؤكَّد‬ ‫ِ‬
‫المسمى بالحر َمة‪ ،‬والسخط ِ‬ ‫المؤكَّد‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وأصرحه ما‬ ‫ُ‬ ‫فيحصل بتت ُّبع الدالئ ِل الشرع َّية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالكراهة‪،‬‬
‫َ‬
‫لم يؤ ِّد زكا َة مالِه ُم ِّثل‬ ‫مثل قوله ﷺ‪« :‬م ْن ْ‬
‫مخالفه ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب َّي َن َ‬
‫حال‬
‫القيامة شجا ًعا أقرع»‪ .‬وقوله ﷺ‪« :‬م ْن ال فال‬ ‫ِ‬ ‫َله ما ُله يو َم‬
‫حرج»‪.‬‬
‫الشيء رك َن‬ ‫ِ‬ ‫وجعل‬‫ُ‬ ‫يحل»‬‫لفظ‪« :‬يجب» و«ال ُّ‬ ‫مثل ِ‬

‫‪235‬‬
‫البالغ ع َلى فعلِه أو تركِه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الكفر‪ ،‬والتشديدُ‬ ‫ِ‬ ‫اإلسالم‪ ،‬أو‬
‫«ليس مِن المرو َءة» و«ال ينبغي»‪.‬‬ ‫ومثل‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫عمر‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ذلك ُ‬ ‫الصحابة يف َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الفقهاء مِن‬
‫مثل قول َ‬ ‫حكم‬‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫بن‬‫عمر وعبادة ِ‬ ‫ابن َ‬ ‫وقول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ليست بواج َب ٍة»‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫التالوة‬ ‫«سجد ُة‬
‫الصامِت‪« :‬إن الوتر ليس بواجب»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طاعة؟ أو‬ ‫ُ‬
‫تكميل‬ ‫هل هو‬ ‫المطلوب ْ‬‫ِ‬ ‫وبالتأم ِل يف ِ‬
‫حال‬
‫ِ‬
‫السمت؟‬ ‫ِ‬
‫وحسن‬ ‫ِ‬
‫الوقار‬ ‫باب‬ ‫هو مِن ِ‬ ‫ِ‬
‫سدٌّ لذريعة اإلثم؟ ْأو َ‬
‫ِ‬
‫أرك��ان‬ ‫رك��ن مِ��ن‬‫ٍ‬ ‫داخ��ل فِ��ي‬
‫ٌ‬ ‫غير مؤكَّد‪ ،‬أم ه َ��و‬ ‫ُ‬
‫فيكون َ‬
‫فيكون مؤ َّكدً ا»(‪.)1‬‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الكبائر؟‬ ‫اإلسال ِم‪ْ ،‬أو إثم مِن‬
‫وقد أبان ذلك وزاد عليه يف كتابه «حجة اهلل البالغة»‬
‫فقال‪« :‬ب��اب كيفية فهم المعاين الشرعية من الكتاب‬
‫والسنة‪ :‬واعلم أن الصيغة الدالة على الرضا والسخط‬
‫هي الحب والبغض والرحمة واللعنة والقرب والبعد‬
‫ونسبة الفعل إلى المرضيين أو المسخوطين كالمؤمنين‬
‫والمنافقين والمالئكة والشياطين وأهل الجنة والنار‬
‫والطلب والمنع وبيان ال��ج��زاء المرتتب على الفعل‬
‫والتشبيه بمحمود يف العرف أو مذموم واهتمام النبي ﷺ‬
‫‪ -1‬ويل اهلل الدهلوي امل�سوى من �أحاديث املوط�أ ‪.49 /1‬‬

‫‪236‬‬
‫بفعله أو اجتنابه عنه مع حضور دواعيه‪ ،‬وأما التمييز بين‬
‫درجات الرضا والسخط من الوجوب والندب والحرمة‬
‫والكراهية‪ ،‬فأصرحه ما بين حال مخالفه مثل «من لم يؤد‬
‫زكاة ماله مثل له» الحديث وقوله ﷺ «ومن ال فال حرج»‬
‫ثم اللفظ مثل يجب وال يحل وجعل الشيء ركن اإلسالم‬
‫أو الكفر والتشديد البالغ على فعله أو تركه ومثل ‪ -‬ليس‬
‫من المروءة وال ينبغي ‪ -‬ثم حكم الصحابة والتابعين يف‬
‫ذلك كقول عمر رضي اهلل عنه‪ :‬إن سجدة التالوة ليست‬
‫بواجبة‪ ،‬وقول علي رضي اهلل عنه إن الوتر ليس بواجب‬
‫ثم حال المقصد من كونه تكميال لطاعة أو سدا لذريعة‬
‫إثم أو من باب الوقار وحسن األدب‪ ،‬وأما معرفة العلة‬
‫والركن والشرط فأصرحها ما يكون بالنص مثل «كل‬
‫مسكر حرام» «ال صالة لمن لم يقرأ بأم الكتاب» ‪:‬ال تقبل‬
‫صالة أحدكم حتى يتوضأ» ثم باإلشارة واإليماء مثل‬
‫قول الرجل‪ :‬واقعت أهلي يف رمضان‪ ،‬قال‪ :‬أعتق رقبة»‪،‬‬
‫وتسمية الصالة قياما وركوعا وسجودا يفهم أهنا أركاهنا‪.‬‬
‫قوله ﷺ‪« :‬دعهما فإين أدخلتهما طاهرتين»(‪ .)1‬يفهم‬
‫‪� -1‬أخرجه البخاري‪ ،‬باب �إذا �أدخل رجليه وهما طاهرتان‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫اش�تراط الطهارة عند لبس الخفين ثم أن يكثر الحكم‬
‫بوجود الشيء عند وجوده أو عدمه عند عدمه حتى يتقرر‬
‫يف الذهن عليه الشيء أو ركنيته أو شرطيته بمنزلة ما يدب‬
‫يف ذهن الفارسي من معرفة موضوعات اللغة العربية عند‬
‫ممارسة العرب واستعمالهم إياها يف المواضع المقرونة‬
‫بالقرائن من حيث ال ي��دري وإنما ميزانه نفس تلك‬
‫المعرفة‪ ،‬فإذا رأينا الشارع كلما صلى ركع وسجد ودفع‬
‫الرجز وتكرر ذلك جزمنا بالمقصود‪ .‬وإن شئت الحق‬ ‫عنه ّ‬
‫فهذا هو المعتمد يف معرفة األوصاف النفسية مطلقا‪ ،‬فإذا‬
‫رأينا الناس يجمعون الخشب ويصنعون منه شيئا يجلس‬
‫عليه ويسمونه السرير‪ ،‬نزعنا من ذلك أوصافه النفسية‪ ،‬ثم‬
‫تخريج لمناط اعتما ًدا على وجدان مناسبة أو على السرب‬
‫والحذف‪ .‬وأما معرفة المقاصد التي بني عليها األحكام‪،‬‬
‫فعلم دقيق ال يخوض فيه إال من لطف ذهنه واستقام‬
‫فهمه‪ ،‬وكان فقهاء الصحابة تلقت أصول الطاعات واآلثام‬
‫من المشهورات التي أجمع عليها األمم الموجودة يومئذ‬
‫كمشركي العرب كاليهود والنصارى‪ ،‬فلم تكن لهم حاجة‬
‫إلى معرفة لـ َِّمياهتا وال البحث عما يتعلق بذلك‪ ،‬أما قوانين‬

‫‪238‬‬
‫التشريع والتيسير وأحكام الدين فتلقوها من مشاهدة‬
‫مواقع األم��ر والنهي‪ ،‬كما أن جلساء الطبيب يعرفون‬
‫مقاصد األدوية التي يأمر هبا بطول المخالطة والممارسة‬
‫وكانوا يف الدرجة العليا من معرفتها‪ ،‬ومنه قول عمر رضي‬
‫اهلل عنه لمن أراد أن يصل النافلة بالفريضة‪ :‬هبذا هلك من‬
‫قبلكم‪ .‬فقال النبي ﷺ «أصاب اهلل بك يا ابن الخطاب»‪.‬‬
‫وق��ول ابن عباس رضي اهلل عنهما يف بيان سبب األمر‬
‫بغسل يوم الجمعة‪ ،‬وقول عمر رضي اهلل عنه‪ :‬وافقت ربي‬
‫يف ثالث‪ .‬وقول زيد رضي اهلل عنه يف المنهي عنها‪ :‬إنه كان‬
‫يصيب الثمار مراض قشام دمان الخ‪ ،‬وقول عائشة رضي‬
‫اهلل عنها‪« :‬لو أدرك النبي ﷺ ما أحدثه النساء لمنعهن من‬
‫المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل‪ ،‬وأصرح طرقها ما‬
‫بين يف نص الكتاب والسنة»(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫اإليمان ُت ُ‬
‫مثل ُمستود ًعا‬ ‫قلت‪ :‬ويبدو لي أن ُش َ‬
‫عب‬ ‫ُ‬
‫شتمل على معنى‬ ‫كل ُش ٍ‬
‫عبة َت ُ‬ ‫ألن َ‬ ‫ِ‬
‫الستنباط المقاصد؛ َّ‬
‫ِ‬
‫العبادات أم من ِجنس‬ ‫كانت من ِجنس‬ ‫من المعاين‪ ،‬سوا ًء ْ‬
‫المعامالت‪.‬‬
‫‪ -1‬الدهلوي‪ ،‬حجة اهلل البالغة ‪.288 /1‬‬

‫‪239‬‬
‫المقاصد إ َّ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫حصر‬‫ِ‬ ‫دليل على‬ ‫وبالجملة فإن ُه ال يوجدُ ٌ‬ ‫ِ‬
‫كانت مقاصدَ كلي ًة ْأو جزئي ًة أصلي ًة ْأو‬ ‫ْ‬ ‫االستقراء‪ ،‬سوا ٌء‬
‫تاب َعةً‪.‬‬
‫الشريعة من‬ ‫ِ‬ ‫نصوص‬‫ِ‬ ‫وهذا االستقرا ُء المعتمدُ على‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مسالك‬ ‫غرار‬ ‫المقاصد على‬ ‫التعرف على‬ ‫خالل وسائ ِل ُّ‬
‫كانت‬ ‫ْ‬ ‫الحصر‪ ،‬ال��تِ��ي ْ‬
‫وإن‬ ‫ِ‬ ‫دع���وى‬ ‫َ‬ ‫الع َّل ِة ‑ أ َّدى إل��ى‬
‫الضروري‬ ‫بالمقاصد الثال َثة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫مقبول ًة فِي تع ُّلق األحكا ِم‬
‫ِّ‬
‫الشريعة يمك ُن‬ ‫ِ‬ ‫كل أحكا ِم‬ ‫وأن َّ‬ ‫والحاجي والتحسيني‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يمنع‬ ‫لم‬ ‫فإن َ‬ ‫ِ‬
‫نم ُيها إلى إح��دَ ى المراتب الثالث؛ َّ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ذلك ْ‬
‫تكون مقصود ًة للشارعِ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أخرى عام ًة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من إيجاد مقاصدَ َ‬
‫تلك‬ ‫مع َ‬ ‫تتقاطع َ‬‫ُ‬ ‫تتعلق هبا األحكا ُم تع ُّل ًقا مصلح ًّيا‬ ‫وبالتالِي ُ‬
‫العمارة‪ ،‬ومقصدُ‬ ‫ِ‬ ‫المقاصد‪ ،‬وال تتباي ُن معها‪ ،‬فمقصدُ‬ ‫ِ‬
‫تلك المقاصد‪.‬‬ ‫شك من َ‬ ‫بدون ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫هذه‬‫واالستخالف‪ِ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العبادة‬
‫ِ‬
‫األصول‬ ‫ِ‬
‫أبواب‬ ‫يكون بتت ُّبع‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫والتعرف على‬ ‫ُّ‬
‫يقول الشاطبِ ُّي‪:‬‬ ‫وبخاصة مسالك العلة‪ ،‬ولهذا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ظهر لنَا مِن‬ ‫ِ‬
‫المصالح في التكليف َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫أن‬‫الثالث‪َّ :‬‬‫ُ‬ ‫الوج ُه‬
‫الشر ِع أنَّها ع َلى ضر َبين‪:‬‬
‫��ول إل��ى معرفتِه بمسالكِه‬ ‫أحدُ هما‪ :‬ما يمك ُن ال��وص ُ‬

‫‪240‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واإلش���ارة‪ ،‬والسربِ‪،‬‬ ‫المعرو َفة؛ كاإلجماعِ‪ ،‬وال��ن ِّ‬
‫��ص‪،‬‬
‫وغيرها‪ ،‬وهذا القسم هو الظاهر ِ‬
‫الذي نع ِّل ُل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والمناسبة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫إن شرعي َة األحكا ِم ألجلِه»(‪.)1‬‬
‫بِه‪ ،‬ونقول‪َّ :‬‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.532 /2‬‬

‫‪241‬‬
‫المشهد السادس‬
‫االستنجاد بالمقاصد‬
‫واستثمارها‬
244
‫• تصرف المجتهدين‬
‫واستخراجها مِن‬‫ِ‬ ‫أن المقاصدَ بعدَ استنباطِها‬ ‫نعني هبذا َّ‬
‫كيف نجنِي ثمرهتا؟ وكيف‬ ‫مكامنِها يجب أن نبحث عن َ‬
‫تنجدنا وترفدنا وتسعفنا وتتحفنا بفوائد تشريعية؟‬
‫ِ‬
‫المستثمر‬ ‫ترشيح‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫استثمار لها َ‬ ‫ٍ‬ ‫أن َّأول‬ ‫والجواب‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫الوصف‬ ‫وليكون مجتهدا موصو ًفا هبذا‬ ‫َ‬ ‫الذي هو المجتهدُ‬
‫ِ‬
‫المقاصد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بمعرفة‬ ‫فال بدَّ مِن ا ِّتصافِه‬
‫دعامتين مِن‬
‫ِ‬ ‫الشاطبي اجتها َد المجتهدي َن على‬ ‫ُّ‬ ‫لقد بنَى‬
‫ِ‬
‫المعرفة‪ ،‬هما‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيما يتع َّلق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األلفاظ‬ ‫بدالالت‬ ‫أولاً ‪ :‬معرف ُة اللغة العربية َ‬
‫ِ‬
‫النصوص‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ومقتضيات‬
‫الشريعة جمل ًة وتفصيلاً إذا تع َّلق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مقاصد‬ ‫ثان ًيا‪ :‬معرف ُة‬
‫وذلك فِي‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫والمفاسد‪،‬‬ ‫االجتها ُد بالمعانِي مِن المصالحِ‬
‫قبل‬ ‫أشار َ‬ ‫ِ‬
‫االجتهاد‪ ،‬وقدْ‬ ‫الخامسة مِن مسائ ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المسألة‬
‫َ‬
‫قال‪« :‬إنَّما‬ ‫الثانية عندما َ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المسألة‬ ‫المعنى فِي‬ ‫ذلك إ َلى َ‬
‫هذا‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ين‪ :‬أحدُ هما‪:‬‬ ‫اتصف بوص َف ِ‬ ‫لمن‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫تحصل درجة االجتهاد َ‬
‫الشريعة ع َلى كمالِها»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مقاصد‬ ‫فهم‬
‫ُ‬

‫‪245‬‬
‫لم َير مِن‬ ‫ِ‬
‫دراز في تعليقه ع َلى هذه الجملة بأنَّه ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وذكر ُ ِ‬
‫َ‬
‫غير الشاطبِ ِّي‪.‬‬ ‫الشرط َ‬ ‫َ‬ ‫اشرتط َهذا‬ ‫َ‬ ‫األصوليي َن َمن‬
‫المتمثلة فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القوية‬ ‫ِ‬
‫العبارات‬ ‫هبذه‬ ‫قلت‪ :‬والشاطبي ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫ِ‬
‫وفهم‬ ‫المقاصد «جمل ًة وتفصيلاً »‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫معرفة‬
‫ذلك شر ًطا ضرور ًيا وال غنَى‬ ‫‑ باعتبار َ‬‫ِ‬ ‫«على كمالها»‬
‫البعض‬ ‫يشير إ َلى معنًى عا ٍّم قد يع ِّب ُر عن ُه‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫عن ُه للمجتهد ‑ ُ‬
‫وتقديمها ع َلى الجزئ َّية» كما‬ ‫ِ‬ ‫القواعد الكل َّية‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«بمالحظة‬
‫ِ‬
‫الحرمين‪.‬‬ ‫إليه إما ُم‬ ‫أشار ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫تكون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأش��ار اب ُن السبكي في ش��روط المجتهد‪ْ :‬‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫بمعظم ق��واع��د الشرعِ‪،‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫يحيط‬ ‫العلو ُم ملك ًة ل�� ُه‪ْ ،‬‬
‫وأن‬
‫يفهم هبَا مقصو َد الشارعِ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يكتسب قو ًة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بحيث‬ ‫ويمارسها‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ‬
‫الدين‬ ‫وتكررت في كالمه ‪ -‬ت��اجِ الدين ‪ -‬وأبيه ِّ‬
‫تقي‬
‫السبكِ ِّي فِي شرحِ المنهاجِ ‪.‬‬
‫مقاصد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫معرفة‬ ‫ِ‬
‫الفقيه إ َلى‬ ‫عاشور الحتياجِ‬ ‫ٍ‬ ‫وتعر َض اب ُن‬ ‫َّ‬
‫فقال‪:‬‬ ‫الشريعة َ‬ ‫ِ‬
‫يقع ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫ف المجتهدين ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫بفقههم في الشريعة ُ‬ ‫َ‬ ‫تصر َ‬‫إن َّ‬
‫أنحاء‪:‬‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫خمسة‬
‫ِ‬ ‫فهم أقوالِها‪ ،‬واستفاد ُة‬
‫تلك‬ ‫مدلوالت َ‬ ‫األو ُل‪ُ :‬‬ ‫النحو َّ‬ ‫ُ‬
‫‪246‬‬
‫وبحسب النق ِل‬ ‫ِ‬ ‫االستعمال ال ُّل ِّ‬
‫غوي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بحسب‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األق��وال‪،‬‬
‫ِ‬
‫االستدالل‬ ‫ُ‬
‫عمل‬ ‫اللفظية التِي هبَ��ا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالقواعد‬ ‫الشرعي‬ ‫ِّ‬
‫أصول الفقه‪ِ.‬‬ ‫ِ‬ ‫علم‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫الفقه ِّي‪ .‬وقدْ تكفل بمعظمه ُ‬
‫الحت‬ ‫ْ‬ ‫يعارض األد ّل َة التِي‬ ‫ُ‬ ‫عما‬
‫البحث ّ‬ ‫ُ‬ ‫النحو الثانِي‪:‬‬ ‫ُ‬
‫نظره فِ��ي استفادةِ‬ ‫إعمال ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫استكمل‬ ‫ِ‬
‫للمجتهد‪ ،‬والتي‬ ‫ِ‬
‫بطل‬ ‫مما ُي ُ‬ ‫تلك األدلَّ�� َة سالم ٌة َّ‬ ‫أن َ‬ ‫مدلوالتِها‪ ،‬ليستيق َن َّ‬
‫باإللغاء والتنقيحِ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عليها‬ ‫ِ‬
‫داللتَها ويقضي َ‬
‫عارض أعم َله‪ ،‬وإ َذا‬ ‫ِ‬ ‫الم‬
‫عن ُ‬ ‫سالم ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫الدليل‬ ‫أن‬ ‫فإ َذا استيق َن َّ‬
‫بالدليلين م ًعا‪ْ ،‬أو‬ ‫ِ‬ ‫كيفية العم ِل‬ ‫ِ‬ ‫نظر فِي‬ ‫أل َفى ل ُه‬
‫معارضا َ‬ ‫ً‬
‫اآلخر‪.‬‬ ‫أحدهما ع َلى َ‬ ‫رجحان ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫أق��وال‬ ‫حكمه فِ��ي‬ ‫ُ‬ ‫��م ِ‬
‫ي��ر ْد‬ ‫قياس ما ل ْ‬ ‫ُ‬ ‫الثالث‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫النحو‬‫ُ‬
‫علل‬ ‫عرف َ‬‫أن َي َ‬ ‫فيه‪ ،‬بعدَ ْ‬ ‫الشار ِع ع َلى ح ْك ِم ما ورد حكمه ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المب َّينة يف‬ ‫بطريق من ُطرق مسالك العلة ُ‬ ‫الثابتة‬ ‫التشريعات‬
‫أصول الفقه‪.‬‬
‫حدث للن ِ‬
‫َّاس‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫حاد ٍ‬‫حكم لفع ٍل أو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الرابع‪ :‬إعطا ُء‬ ‫النحو‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الشريعة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الح للمجتهدي َن مِن أد َّل ِة‬ ‫فيما َ‬ ‫حكمه َ‬ ‫ُ‬ ‫عرف‬
‫ال ُي ُ‬
‫ال له نظير يقاس ِ‬
‫عليه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و َ ُ ٌ‬
‫ِ‬
‫الثابتة‬ ‫ِ‬
‫الشريعة‬ ‫بعض أحكا ِم‬ ‫ِ‬ ‫الخامس‪ :‬تل ِّقي‬ ‫النحو‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪247‬‬
‫ِ‬ ‫يعرف ِع َل َل أحكامِها وال حكم َة‬
‫الشريعة‬ ‫ْ‬ ‫عندَ ه َت َل ِّق َي َمن ْ‬
‫لم‬
‫حكمة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إدراك‬ ‫بالقصور َعن‬ ‫ِ‬ ‫نفسه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فهو يتّهم َ‬ ‫في تشريعها‪َ .‬‬
‫ِ‬ ‫ْب َس َع ِة‬ ‫علمه فِي َجن ِ‬
‫الشريعة‪،‬‬ ‫ويستضعف َ‬ ‫ُ‬ ‫منها‪،‬‬‫الشار ِع َ‬
‫دي‪.‬‬
‫النوع بالتع ُّب ِّ‬ ‫َ‬ ‫هذا‬ ‫فيسمي َ‬ ‫ِّ‬
‫الشريعة فِي هذهِ‬ ‫ِ‬ ‫معرفة مقاصدِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫فالفقي ُه بحاجة إ َلى‬
‫ِ‬
‫األنحاء ك ِّل َها(‪.)1‬‬
‫اهلل حجي َة المصالحِ‬ ‫مالك رحم ُه ُ‬ ‫أثبت ٌ‬ ‫النحو َ‬ ‫ِ‬ ‫وفِي هذا‬
‫ِ‬
‫الشرعية‬ ‫بمراعاة الكلي ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫قال األئم ُة‬ ‫أيضا َ‬ ‫وفيه ً‬ ‫المرس َل ِة‪ِ .‬‬
‫َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫الضرور َّية‪ ،‬وألح ُقوا هبَا الحاج ّي ِة والتحسين ّي ِة‪»...‬‬
‫ويتوح ُل فِي‬ ‫ِ‬
‫العلماء‬ ‫بعض‬‫يقص ُر ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫أيضا‪« :‬ومن هنا ِّ‬ ‫وقال ً‬
‫استنباط أحكا ِم‬ ‫ِ‬ ‫يقتصر فِي‬ ‫األغالط حي َن‬‫ِ‬ ‫ضخاض مِن‬ ‫ٍ‬ ‫َخ‬
‫ُ‬
‫اللفظ‬ ‫ِ‬ ‫ويوج ُه رأ َيه إ َلى‬ ‫ِ‬
‫األلفاظ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اعتصار‬ ‫الشريعة ع َلى‬‫ِ‬
‫ِّ‬
‫يستخرج ُل َّبه‪.‬‬‫َ‬ ‫ويأمل ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫يزال يق ِّل ُبه ويح ِّل ُله‬ ‫مقتن ًعا بِه‪ ،‬فال ُ‬
‫يحف بالكال ِم مِن‬ ‫ُّ‬ ‫بما‬ ‫ِ‬
‫ويهمل ما قدمنا ُه من االستعانة َ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫أدق مقا ٍم‬ ‫وإن َّ‬ ‫والسياق‪َّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واالصطالحات‬ ‫ِ‬
‫القرائن‬ ‫حا َّف ِ‬
‫ات‬
‫عليها مقا ُم التشريعِ»(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِي‬
‫وأحوجه إلى االستعانة َ‬ ‫َ‬ ‫الداللة‬
‫‪ -1‬ابن عا�شور مقا�صد ال�شريعة ‪.40 /3‬‬
‫‪ -2‬نف�س املرجع ‪.41 /3‬‬
‫‪ -3‬نف�س املرجع ‪.81 /3‬‬

‫‪248‬‬
‫المقاص ِد و مداركُها ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫• مناحي‬
‫إسحاق‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫المقاصد أ ُبو‬ ‫دندن حو َله أ ُبو‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫‪:‬ولبيان ما‬ ‫قلـت‬
‫ُ‬
‫عاشور رحمهما اهلل‬ ‫ٍ‬ ‫الطاهر ب ُن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الشيخ‬ ‫الشاطبي والعالم ُة‬ ‫ُّ‬
‫تعالى نقول‪ :‬المراد باالستنجاد هو إدراك طبيعة التعامل‬ ‫ُ‬
‫مع المقاصد وبالمقاصد‪ ،‬وأهن��ا ليست تر ًفا ذهن ًيا وال‬
‫ثقافة عامة يتعاطاها الصحفي واالجتماعي وال موضو ًعا‬
‫فلسف ًيا مجر ًدا أو نظر ًيا‪.‬‬
‫إهنا أداة الستنباط األحكام الشرعية الخمسة‪ ،‬وبالتالي‬
‫لتكون كذلك ال بد أن تنزل من سماء التنظير إلى أرض‬
‫العمليات‪ ،‬ومن التصور الذهني إلى ميدان التطبيقات‪.‬‬
‫منحى مِن‬ ‫أكثر من ثالثي َن ً‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫إنَّه ُيستنجدُ بالمقاصد في َ‬
‫ِ‬
‫المحائر‬ ‫لها كلم َة‬ ‫نستعير َ‬ ‫األص��ول‪ ،‬يمك ُن ْ‬
‫أن‬ ‫ِ‬ ‫مسائ ِل‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ظباء‬ ‫ومكانس‬ ‫الح َكم‪،‬‬ ‫لؤلؤ ِ‬ ‫ِ‬ ‫سة؛ ألنَّها مكام ُن‬ ‫واألكن ِ ِ‬
‫ُ‬
‫أجناسها‪:‬‬‫ِ‬ ‫وأقناس‬ ‫وجذور أرومتِها‪،‬‬ ‫المقاصد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫االجتهاد‬ ‫المسألة ِّ‬
‫محل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بخصوص‬ ‫نص‬ ‫حيث َ‬ ‫أولاً ‪ُ :‬‬
‫ال َّ‬
‫وصف جام ٍع‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫لوجود‬ ‫عليها‬ ‫وجوده فِي ِ‬ ‫ِ‬
‫فتقاس َ‬ ‫ُ‬ ‫نظيرها‪،‬‬ ‫مع‬
‫َ‬
‫هو الع َّلة‪.‬‬ ‫َ‬
‫تمس الحاج ُة إلى إخراجِ‬ ‫حيث يوجدُ عمو ٌم ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ثان ًيا‪:‬‬
‫‪249‬‬
‫ص‬ ‫مخص ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫دون ظهور‬ ‫بعض مشموالتِه مِن دائرة العموم‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫بالمقاصد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التخصيص‬ ‫النوع مِن‬ ‫قياس‪ ،‬وهذا‬ ‫ٍ‬ ‫نص ْأو‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫من ٍّ‬
‫ِ‬
‫االستحسان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ضروب‬ ‫يعتربُ ضر ًبا مِن‬
‫يكون مخال ًفا‬ ‫ُ‬ ‫نص لك َّن تطبي َقه قدْ‬ ‫حيث يوجدُ ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫ثال ًثا‪:‬‬
‫أخرى‪.‬‬ ‫نصوص َ‬ ‫ٍ‬ ‫لمت مِن‬ ‫قاعدة ُع ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ألص ٍل ْأو‬
‫ِ‬
‫القرينة‬ ‫لجأ إ َلى‬ ‫بيان‪ ،‬ف ُي ُ‬ ‫المجمل إ َلى ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يحتاج‬ ‫حيث‬ ‫راب ًعا‪ُ :‬‬
‫ُ‬
‫المقصد َّي ِة لبيانِه‪.‬‬
‫َ‬
‫ليكون‬ ‫ِ‬
‫المقصد‬ ‫ِ‬
‫بداللة‬ ‫ِ‬
‫الظاهر‬ ‫عدل ع ِ‬
‫��ن‬ ‫خامسا‪ُ :‬ي ُ‬ ‫ً‬
‫أساس التأويلِ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫المقصدُ‬
‫المقاصد‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النصوص ع َلى ضوء‬ ‫ِ‬ ‫الرتجيح بي َن‬ ‫سادسا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫خاصا ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ألصق بالمقصد وير ُّد ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ليقدِّ م المجتهدُ عا ًّما َيرى أنَّه‬
‫بقياس ع َلى َما يخال ُفه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫نص‬ ‫ْأو يعتضدُ ٌّ‬
‫غيره‪.‬‬‫المدينة التوقيفي مِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫تمييز عم ِل أه ِل‬ ‫ِ‬ ‫ساب ًعا‪ :‬فِي‬
‫ِّ‬
‫الرأي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫حمل ع َلى‬ ‫الذي ُي ُ‬ ‫قول الصحابِي ِ‬ ‫لتمييز ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثامنًا‪:‬‬
‫ِّ‬
‫مِن قولِه ِ‬
‫الرفع‪.‬‬ ‫حمل ع َلى َّ‬ ‫الذي ُي ُ‬
‫ال مناسب َة‬ ‫نص و َ‬ ‫ُ‬ ‫إح��داث ُح ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تاس ًعا‪ :‬فِي‬
‫حيث ال َّ‬ ‫كم‬
‫بنوعيه‪ .‬ومراعا ُة‬ ‫ِ‬ ‫المناسب المعتربِ‬ ‫ِ‬ ‫أي فِي انعدا ِم‬ ‫مع َّينة‪ْ ،‬‬
‫ِ‬
‫المرسلة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بالمصلحة‬ ‫تسمى‬ ‫ِ‬
‫المقصد هنا َّ‬
‫‪250‬‬
‫الحماية وال��ذرائ�� ِع‬ ‫ِ‬ ‫للمقاصد فِ��ي‬ ‫ِ‬ ‫حتاج‬
‫ع��اش��را‪ُ :‬ي ُ‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫وبالنظر‬ ‫هذا الدلي ِل بسدِّ الذرائ ِع‬ ‫والمئاالت‪ ،‬وقدْ يع َّب ُر ع ْن َ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫المئاالت‪.‬‬ ‫فِي‬
‫أو‬ ‫األمر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مناط‬ ‫ِ‬
‫الحكم‬ ‫درجة ونو ِع‬ ‫ِ‬ ‫تقرير‬ ‫عش َر‪:‬‬ ‫الحادي َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫أو َّ‬
‫الذ ِّم‪.‬‬ ‫أو المدحِ ِ‬ ‫النهي ِ‬ ‫ِ‬
‫مندوب؟‬‫ٌ‬ ‫هو تحر ٌيم ْأو كراه ٌة ْأو‬ ‫هل َ‬ ‫فنعنِى بالنوعِ‪ْ :‬‬
‫نفسها‪،‬‬ ‫الواجبات فِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫تفاوت َما بي َن‬ ‫َ‬ ‫وبالدرجة نعنِى‪:‬‬ ‫ِ‬
‫لغيره‪ ،‬وحرا ٌم كذلك ‪.‬‬ ‫واجب لذاتِه ْأو ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫فهناك‬
‫عليه الصال ُة والسال ُم‪،‬‬ ‫الحكم بِه ِ‬ ‫ِ‬ ‫عشر‪ :‬خصوصي ُة‬ ‫الثاين َ‬
‫لغيره‪.‬‬‫ْأو عمومِه ِ‬
‫عشر‪ :‬مفهو ُم المخال َف ِة‪.‬‬ ‫الثالث َ‬ ‫ُ‬
‫عشر‪ :‬مفهو ُم المواف َق ِة‪.‬‬ ‫الرابع َ‬ ‫ُ‬
‫عشر‪ :‬تقييدُ المط َل ِق‪.‬‬ ‫الخامس َ‬ ‫ُ‬
‫األسباب وقصدُ المسب َّبات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وضع‬
‫ُ‬ ‫عشر‪:‬‬ ‫السادس َ‬ ‫ُ‬
‫االستصحاب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عشر‪:‬‬ ‫السابع َ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫االستحسان‪.‬‬ ‫عشر‪:‬‬ ‫الثامن َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫والمصلحة‬ ‫ِ‬
‫المعتربة‬ ‫ِ‬
‫المصلحة‬ ‫الفرق بي َن‬ ‫ُ‬ ‫عشر‪:‬‬ ‫التاسع َ‬ ‫ُ‬
‫الملغاة‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪251‬‬
‫ِ‬
‫التعارض‪.‬‬ ‫الجمع بي َن األد َّل ِة عندَ‬
‫ُ‬ ‫العشرون‪:‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫التعارض‪.‬‬ ‫الرتجيح بي َن األد َّل ِة عندَ‬ ‫والعشرون‪:‬‬
‫َ‬ ‫الحادي‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫أو المنف َّي ِة منزل َة‬ ‫األخبار المثبتَة ِ‬ ‫ِ‬ ‫الثاين والعشرون‪ُ :‬‬
‫تنزيل‬
‫ِ‬
‫والنواهي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫األوامر‬
‫ومعقولية المعنَى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الثالث والعشرون‪ :‬بي َن التع ُّب ِد‬ ‫ُ‬
‫المقصد المؤ ِّثر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طبيعة‬ ‫االختالف فِي‬
‫ُ‬ ‫والعشرون‪:‬‬
‫َ‬ ‫الرابع‬‫ُ‬
‫الحكم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫في ُ‬
‫الخامس والعشرون‪ :‬تعدد المقاصد أو االقتصار على‬
‫مقصد واحد مما يؤثر يف الحكم‪.‬‬
‫َ‬
‫دون‬ ‫ِ‬
‫الناس‬ ‫ِ‬
‫بعض‬ ‫اختصاص‬
‫ُ‬ ‫السادس والعشرون‪:‬‬ ‫ُ‬
‫بح ٍ‬
‫كم‪.‬‬ ‫بعض ُ‬ ‫ٍ‬
‫ليس تفصيلاً‬ ‫مما َ‬ ‫أفعال المقتدَ ى بِه َّ‬ ‫السابع والعشرون‪ُ :‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ألمر‪.‬‬
‫ِ‬
‫العفو‪.‬‬ ‫الدال ع َلى‬
‫السكوت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الثامن والعشرون‪:‬‬ ‫ُ‬
‫المشاهد‪ِ.‬‬
‫ِ‬ ‫التاسع والعشرون‪ :‬إشار ُة النبِ ِّي ﷺ إلفها ِم‬ ‫ُ‬
‫العقود فِي التصحيحِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قصود‬ ‫الثالثون‪ :‬مراعا ُة‬
‫َ‬ ‫المنحى‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫والشروط‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واإلبطال‬
‫بالمقاصد يف‬ ‫ِ‬ ‫ادي وال َّثالثون‪ُ :‬يستنجدُ‬ ‫المنحى الح ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪252‬‬
‫كايسة الص ِ‬
‫رفة وعقود‬ ‫ِ‬ ‫الم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َت ْم ِ‬
‫ِّ‬ ‫المعروف ع ْن ُعقود ُ‬‫ييز ُعقود َ‬
‫حكما بين حكمين‪.‬‬
‫ً‬ ‫التربعات إلعطاء العقد‬
‫المنحى الثاين والثالثون‪ :‬أن العلة المستنبطة ال يمكن‬
‫أن تلغي الحكم المعلل هبا يف حال تخلف العلة عن‬
‫الحكم‪.‬‬
‫المنحى الثالث والثالثون‪ :‬فهم مقصد الشارع من داللة‬
‫اللفظ سواء كان لفظ الشارع أو لفظ راوي الحديث مما‬
‫حكما تختلف درجته باختالف الصيغ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يرتب‬
‫المنحى الرابع والثالثون‪ :‬قد يؤثر مقصد عام يالحظه‬
‫المجتهد من خالل نصوص عدة يف الحد من تأثير مقصد‬
‫خاص ليخفف من اطراده ومن إلحاحه يف كل المحال‪.‬‬

‫محائر ْأو‬ ‫نسميها‬ ‫التي يمك ُن ْ‬


‫أن‬ ‫ِ‬
‫المناحي ِ‬ ‫ولشرحِ ِ‬
‫هذه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مدارك ْأو أكنس ًة ُ‬
‫نقول‪:‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫إللحاق فر ٍع َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫بالمقاصد‬ ‫األو ُل‪ :‬االستنجا ُد‬
‫المنحى َّ‬ ‫َ‬
‫يسمى‬ ‫ٍ‬
‫منصوص لوصف جام ٍع َ‬ ‫ٍ‬ ‫نص فيه بأص ٍل‬ ‫ِ‬
‫وهذا َما َّ‬ ‫َّ‬
‫بقياس الع َّل ِة‪.‬‬
‫ِ‬
‫الباحث ِ‬
‫عن‬ ‫ُ‬ ‫الطرق التِي يسلكها‬
‫ُ‬ ‫هي‬ ‫َّ‬
‫مسالك العلة َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫‪253‬‬
‫طرق منضبط ٌة ضبطها علما ُء‬ ‫للوصول إليها‪ ،‬وهي ٌ‬ ‫ِ‬ ‫الع َّلة‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫بالقصير‪.‬‬ ‫ليس‬ ‫ٍ‬ ‫األصول ُ‬ ‫ِ‬
‫منذ وقت َ‬
‫ِ‬
‫الحكم‪،‬‬ ‫أمارات على‬ ‫ٌ‬ ‫العلل مقاصدَ ألنَّها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تكون‬ ‫قدْ َ‬
‫ال‬
‫هي المقصدُ ؛‬ ‫ي‬ ‫بالحكمة التِ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫التعليل‬ ‫َا‬
‫ن‬ ‫استبعد‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫ٍ‬
‫وبخاصة إ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجود المعنَى المقصدي في‬ ‫ِ‬ ‫وإشارات إلى‬ ‫ٌ‬ ‫عالمات‬
‫ٌ‬ ‫ألنَّها‬
‫النصوص ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫نص مِن‬ ‫ٍّ‬
‫أن ُتعتربَ مسل ًكا‬ ‫فإن العل َة المنصوص َة يمك ُن ْ‬ ‫ذلك َّ‬ ‫ومع َ‬
‫العلة ِهي‬ ‫ِ‬ ‫الناص ُة على‬ ‫ُ‬
‫فاأللفاظ‬ ‫المقاصد؛‬ ‫ِ‬ ‫مسالك‬‫ِ‬ ‫من‬
‫َّ‬
‫ككلمة‪( :‬مِ ْن َأ ْجلِ)و(كَي)‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المقص ِد‬ ‫َ‬ ‫نفسها الدَّ ال ُة ع َلى‬ ‫ُ‬
‫و( ُي ِريد)‪.‬‬
‫َّص‬ ‫ِ‬
‫طريق الن ِّ‬ ‫يتعرف عليها ع ْن‬ ‫ُ‬ ‫كالعلة التِي‬ ‫ِ‬ ‫فالمقصدُ‬
‫تلويحا «إيماء»‪ ،‬أو إجما ًعا‪ ،‬أو استنبا ًطا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تصريحا ْأو‬ ‫ً‬
‫رق ِه َي‪ :‬المناسبةُ‪،‬‬ ‫بثالث ُط ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تكون‬ ‫والعل ُة المستنبط ُة‬
‫بالمقصد واضحةٌ؛ فالمناسب ُة‬ ‫ِ‬ ‫شك عال ُقتها‬ ‫بدون ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫وهذه‬ ‫ِ‬
‫الحكم ع َلى الواقعِ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المرتبطة بتنزي ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المصلحة‬ ‫تقو ُم ع َلى‬
‫مصلحة مِن نو ِع‬ ‫ٍ‬ ‫هذا التنزي ِل نشو ُء‬ ‫يرتتب ع َلى َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بحيث‬
‫الشارع بجلبِها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫المصالحِ التي ُّ‬
‫يهتم‬
‫وعكسا‬ ‫ِ‬
‫والدوران طر ًدا‬ ‫ِ‬
‫والتقسيم‬ ‫أن مسل َكي السربِ‬ ‫ال َّ‬ ‫إ َّ‬
‫ً‬
‫‪254‬‬
‫يفيدان المقصد َّي َة إ َّ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫يفيدان العل َّي َة فإنَّهما َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ولو كانا‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫األصوليين‪.‬‬ ‫بعض‬
‫الذي رآ ُه ُ‬ ‫وجوب التناسب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باعتبار‬
‫ُ‬
‫األحيان‬‫ِ‬ ‫بعض‬ ‫ِ‬ ‫اإليماء قدْ يفيدُ فِي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫مسلك‬ ‫وحتَّى َّ‬
‫أن‬
‫المناسبة التِي ُتعتربُ الحكم َة الِتي ينبنِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجود‬ ‫العل َّي َة َ‬
‫دون‬
‫عليها المقصدُ ‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِبق َي‬
‫وهما‪:‬‬ ‫مسلك تنقيحِ المناط بنو َعيه‪َ ،‬‬
‫الوصف‬ ‫ِ‬ ‫رة واإلبقا ُء ع َلى‬ ‫غير المؤ ِّث ِ‬ ‫األوص��اف ِ‬ ‫ِ‬ ‫طر ُد‬
‫الصالحِ للتعليلِ‪.‬‬
‫وصف جامعٍ؛‬ ‫ٍ‬ ‫وهو زياد ُة‬ ‫ِ‬ ‫والنوع الثانِي إلغا ُء‬
‫الفارق‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫غير ِذي محر ٍم بإلغاءِ‬ ‫مع ِ‬ ‫ِ‬ ‫المناط فِي من ِع ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫سفر المرأة َ‬ ‫فتنقيح‬‫ُ‬
‫وهو أم ُن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أعم َ‬ ‫الحكم بوصف َّ‬ ‫وصف المحرم َّية‪ ،‬وإناطة‬
‫ِ‬
‫المأمونة‬ ‫ِ‬
‫الرفقة‬ ‫تسافر فِي‬ ‫ِ‬
‫السفر‬ ‫عرضها فِي‬ ‫المرأة على ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ِ ِ‬
‫وهو‬ ‫أعم من ذي المحر ِم؛ َ‬ ‫نتج عل ًة َّ‬ ‫رجالاً ْأو نسا ًء ‑  ُي ُ‬
‫الشبهة باعتبار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مواطن‬ ‫المرأة والمجتم ِع فِي‬ ‫ِ‬ ‫األم ُن‪ ،‬صيان ُة‬
‫ذلك هو المقصود بشرع الحكم‪.‬‬
‫القياس‬ ‫ِ‬ ‫تفص ُل ع��اد ًة فِ��ي ب ِ‬
‫��اب‬ ‫المسالك التي َّ‬
‫ُ ِ‬ ‫فهذه‬
‫ِ‬
‫اإليماء‬ ‫ِ‬
‫طريق‬ ‫المقصد؛ إما مباشرةً‪ْ ،‬أو ع ْن‬ ‫ِ‬ ‫تدل ع َلى‬ ‫ُّ‬
‫كالس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الحكمة التِي قدْ‬ ‫ِ‬ ‫إ َلى‬
‫فر‬ ‫تكون متواري ًة ورا َء العلة‪َّ ،‬‬
‫‪255‬‬
‫أن الحكم َة‬ ‫مع َّ‬ ‫َ‬ ‫وظهوره‬‫ِ‬ ‫القصر؛ النضباطِه‬ ‫ِ‬ ‫المع َّل ِل بِه فِي‬
‫ُ ُ هَّ ُ َ‬
‫ٱلل أن‬ ‫أن يخ ِّففها؛}ي ِريد‬ ‫الشارع ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِه َي المشق ُة التِي يريدُ‬
‫خُ َ ّ َ َ ُ ۡ َ ُ َ إۡ َ ٰ َ ٗ‬
‫نس ُن ضعِيفا{ (النساء‪.)28 :‬‬ ‫ٱل‬‫ي ِفف عنك ۚم وخل ِق ِ‬
‫الشاطبي َيرى‬ ‫ولهذا َّ‬
‫فإن‬ ‫هو المقصدُ  ‪َ .‬‬ ‫ِ‬
‫المشقة‬ ‫فتخفيف‬
‫ُ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫المقصد‬ ‫للتعرف ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫والنهي سبيلاً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األمر‬ ‫اعتبار عل ِل‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الشرع ِّي‪.‬‬
‫فه َي‬ ‫المناسب ِ‬ ‫ِ‬ ‫كانت مِن نو ِع‬ ‫ْ‬ ‫فإن العل َة إ َذا‬ ‫ِ‬
‫وبالجملة َّ‬
‫تفيدُ المقصد َّيةَ ‪.‬‬
‫ربز الحكم ُة‬ ‫ال َت ُ‬ ‫مسلكان َ‬ ‫ِ‬ ‫مسالك الع َّل ِة‬ ‫ِ‬ ‫ويتخلف مِن‬ ‫ُ‬
‫تظهر المقصديةُ؛‬ ‫ُ‬ ‫محل التعليلِ‪ ،‬وبالتالِي َ‬
‫ال‬ ‫ِّ‬ ‫فيهما فِي‬
‫ِ‬
‫والدوران‪.‬‬ ‫وهما مسلكا السربِ‬
‫اب��ن الحاجب ‪-‬‬ ‫ش��ارح مختصر ِ‬ ‫ُ‬ ‫ق��ال األصفهاينُّ ‪-‬‬ ‫َ‬
‫الوصف المستب َقى فِي‬ ‫َ‬ ‫إن‬‫والشيخ زكر َّيا‪َّ :‬‬ ‫ُ‬ ‫والزركشي‬
‫ُّ‬
‫سلك ال��دوران‪ِ،‬‬ ‫��دار فِي م ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مسلك السربِ والوصف ال ُ��م‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ترتيب‬ ‫يحصل عقلاً مِ��ن‬ ‫ُ‬ ‫للعلية ف�لاَ‬ ‫ِ‬ ‫يصلح‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك��ان‬ ‫ْ‬
‫وإن‬
‫ٍ‬
‫مصلحة ْأو‬ ‫ِ‬
‫حصول‬ ‫المذكور مِن‬ ‫عليهما المعنَى‬ ‫ِ‬
‫الحكم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫األوصاف مِن‬ ‫ِ‬ ‫هذه‬ ‫ذلك خلو ِ‬
‫ُّ‬ ‫مفسدة‪ ،‬وال يلز ُم مِن َ‬ ‫ٍ‬ ‫دف ِع‬
‫العبادي فِي‬
‫ُّ‬ ‫ذلك‬‫بحث فِي َ‬ ‫َ‬ ‫حكم ٍة ‪ .‬وقدْ‬ ‫َ‬ ‫االشتمال ع َلى‬ ‫ِ‬

‫‪256‬‬
‫ِ‬
‫البينات‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اآليات‬
‫ِ‬
‫لربوية‬ ‫وصف الكي ِل مثلاً إذا اع ُتربَ عل ًة‬ ‫ُ‬ ‫قلت‪ :‬مثا ُله‪:‬‬ ‫ُ‬
‫الوصف المستب َقى فِي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أصناف الطعا ِم األرب َعة؛ أل َّن ُه َ‬
‫هو‬ ‫ِ‬
‫المناسب‬ ‫فيه المناسبةُ؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫ال تظهر ِ‬ ‫السربِ عندَ أبِي حنيف َة َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تضم َن مصلح ًة ْأو َد َر َء مفسدةً‪.‬‬ ‫كما يقول يف التنقيح هو‪ :‬ما َّ‬
‫البنود فِي‬ ‫ِ‬ ‫يقول فِي ِ‬
‫نشر‬ ‫خاص ٌة كما ُ‬ ‫َّ‬ ‫فالمناسب ُة مالءم ٌة‬
‫شرحه لقولِه فِي مراقِي السعود‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ـب ا ْل ِذي ت ََض َّمنَا‬ ‫ِ‬
‫المنَاس ُ‬ ‫ُث َّم ُ‬
‫الح ْك ِم َع َل ْيه َما ا ْعتــَنَى‬ ‫ُّب ُ‬ ‫ت ََرت َ‬
‫ـــه ا َّل ِـذي َشـرع ِمـن إِب ِ‬
‫عاد‬ ‫بِ ِ‬
‫َ َ ْ ْ‬
‫ب ِذي سدَ ِ‬
‫اد‬ ‫َمـــــ ْفسـَدَ ٍة َأ ْو َج ْل ِ‬
‫َ‬
‫مثال‬ ‫بمقص ٍد‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ص‬ ‫خص ُ‬
‫ِ‬
‫المنحى الثاين‪ :‬يتم َّث ُل في عمو ٍم ُي َّ‬
‫ص هذا‬ ‫آلل ِ‬ ‫دقة ِ‬ ‫��ك‪ :‬منع الص ِ‬ ‫ذل َ‬
‫فيخص ُ‬ ‫َّ‬ ‫النبي ﷺ‬ ‫ِّ‬ ‫بيت‬ ‫ُ َّ‬
‫الفيء َما يسدُّ َخ َّلتَهم‪ ،‬فإ َذا‬ ‫ِ‬ ‫له ْم مِن‬ ‫لم يك ْن ُ‬ ‫بما إ َذا ْ‬ ‫العمو ُم َ‬
‫غيرهم‪ ،‬كما‬ ‫فإن سدَّ َخلتِهم أو َلى مِن سدِّ َخ َّل ِة ِ‬ ‫لهم َّ‬ ‫َلم يك ْن ْ‬
‫يرا ُه المالكي ُة والحنف َّيةُ‪.‬‬
‫ِ‬
‫للجنب‬ ‫الحائض مِ��ن عمو ِم من ِع ال��ق ِ‬
‫��رآن‬ ‫ِ‬ ‫واستثنا ُء‬
‫��ار ال��ق ِ‬
‫��رآن‬ ‫لمصلحة اس��ت��ذك ِ‬ ‫ِ‬ ‫استحسا نًا عندَ م��ال ٍ‬
‫��ك‬
‫‪257‬‬
‫الكريم وحفظِه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫خاص‬ ‫ٍّ‬ ‫��ص‬ ‫مقتضى ن ٍّ‬ ‫َ‬ ‫الثالث‪ :‬ال��ع ُ‬
‫��دول ع�� ْن‬ ‫ُ‬ ‫المنحى‬
‫عن العم ِل‬ ‫األحناف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كعدول‬ ‫لمخالفتِه أصلاً ْأو قاعدةً‪،‬‬
‫لقاعدة من ِع بي ِع الطعا ِم بالطعا ِم‬ ‫ِ‬ ‫المصر ِاة لمخالفتِه‬ ‫ِ‬
‫بحديث‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثابت بنصوص‬ ‫ٌ‬ ‫أمر‬ ‫نسي َئةً‪ ،‬وقاعدة من ِع المزابنة‪ ،‬وهو ٌ‬
‫أخرى‪.‬‬ ‫َ‬
‫بمقصد أو َلى ْأو‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫النص إ َلى اإلخالل‬
‫َ‬ ‫تطبيق ِّ‬ ‫ُ‬ ‫كما ْلو أ َّدى‬ ‫َ‬
‫تغريب الزانِي‬‫ِ‬ ‫أع َلى‪ ،‬كامتناع عمر رضي اهلل عنه من تطبيق‬
‫الحديث الصحيحِ ؛ أل َّن ُه يؤ ِّدي‬ ‫ِ‬ ‫ذلك فِي‬ ‫ورود َ‬ ‫ِ‬ ‫البكر‪ ،‬مع‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫بالكفار‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المنف ِّي‬ ‫ِ‬
‫التحاق‬ ‫إلى‬
‫وأن اإلبقا َء‬ ‫الناس‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هداية‬ ‫حرص الشار ِع ع َلى‬ ‫وقدْ ُعلم‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫العقوبة‬ ‫ِ‬
‫تطبيق‬ ‫دائرة اإلسال ِم أو َلى مِن‬ ‫ِ‬ ‫المسلم فِي‬ ‫ِ‬ ‫على‬
‫ِ‬
‫بالنفي‬ ‫اهلل عن ُه‪ :‬ك َفى‬ ‫علي رضي ُ‬ ‫قال‬ ‫عليه وافتتانِه‪ .‬وقد َ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫فتنةً‪.‬‬
‫مخصصا‬ ‫ً‬ ‫ومعنى ذل��ك أن المجتهد اعترب المقصد‬
‫لعموم النص‪ ،‬فهو يف قوة االستثناء‪ ،‬فكأن الشارع يغرب‬
‫سنة إال إذا خيف كفره‪.‬‬
‫اهلل‬
‫رضي ُ‬ ‫عمر‬‫ابن َ‬ ‫اهلل عنها خربَ ِ‬ ‫رضي ُ‬ ‫ور َّدت عائش ُة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪258‬‬
‫ثابت عام‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ببكاء أهلِه»‪ ،‬بأص ٍل‬ ‫ِ‬ ‫الميت يعذب‬ ‫َ‬ ‫عنهما‪َّ :‬‬
‫«إن‬
‫َ اَّ َ ُ َ َ ‪ُۡ ُ َ ۡ ٞ‬‬
‫ى{ (النجم‪.)38:‬‬ ‫وهو}أل تزر وازرة وزر أخ َر ٰ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫قال المالكي ُة والحنابل ُة أيضا‪« :‬و َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫الدليلين َ‬ ‫وجم ًعا بي َن‬
‫عمر ع َلى‬ ‫يوص بِه»‪ ،‬حملاً لخربِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُي َّ‬
‫ابن َ‬ ‫لم‬
‫عذ ُب ببكاء ْ‬
‫الموصى بِه‪.‬‬
‫وهذا الصنيع هو تعامل مقصدي يحصر معنى الحديث‬
‫مخصصا فيدرأ التعارض‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يف الموصى به‪ ،‬فيكون المقصد‬
‫ويعضد هذا الفهم أهنم كانوا يف الجاهلية يوصون بالنياحة‬
‫كما يف قول طرفة‪:‬‬
‫ت َفانعــــيني بِما َأنا َأهــــــ ُل ُه‬ ‫َفإِن ُم ُّ‬
‫يب يـــــــــــا اِبنَ َة َمعبــ َِد‬ ‫الج َ‬ ‫َو ُش ِّقي َع َل َّي َ‬
‫وقول لبيد‪:‬‬
‫ِ‬
‫بوهــــــما‬ ‫عيش َأ ُ‬ ‫َتاي َأن َي َ‬ ‫ت ََمــــــنّى ابن َ‬
‫َوهــــــــَل َأنا إِلاّ ِمـــــــن َربي َع َة َأو ُم َضر‬
‫َف ُقوما َف ُقوال بالذي قـَدْ َع ِل ْمتـــــــــ َُما‬
‫ـــــم َشا وجهًا وال ِ‬ ‫وال تَخْ ِ‬
‫تحلقا َش َع ْ‬
‫ــــر‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫هو المــــر ُء الذي ال خــــــلي َل ُه‬ ‫و ُقوال َ‬
‫ديق َوال غـــــَدَ ْر‬ ‫الص َ‬‫خان َّ‬ ‫أضــــــاع‪َ ،‬وال َ‬ ‫َ‬
‫‪259‬‬
‫الســــــــــالَ ِم ع َليكُما‬ ‫إلى َ ِ‬
‫اسم ّ‬
‫ثم ُ‬ ‫الح ْول َّ‬
‫اعتذر‬ ‫ك حوالً كامالً ِ‬
‫فقد‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ـــــن َي ْب َ ْ‬ ‫َو َم ْ‬
‫مالك بن الريب‪:‬‬
‫بــور َو َس ِّلمـــــــــــي‬ ‫إِذا ُّ ِ‬
‫مت َفاعتادي ال ُق َ‬
‫َواديا‬ ‫سقيت السحاب الغ ِ‬ ‫ِ‬ ‫مس ُأ‬ ‫الر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َعلى َّ‬
‫أما عائشة رضي اهلل عنها فقد قدمت عموم اآلية وردت‬
‫الخرب جملة وتفصيلاً ‪ ،‬قائلة عن ابن عمر‪« :‬إنه ما كذب‬
‫ولعله نسي أو أخطأ»‪.‬‬
‫بيان المجم ِل بالمعنى المقصدي‪،‬‬ ‫المنحى الرابع‪ُ :‬‬ ‫َ‬
‫لفظ مجمل ٌ‪-‬‬ ‫��اف للقرء ‪ -‬وه��و ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ومثا ُله تفسير األح��ن ِ‬
‫ُ‬
‫هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ألن العد َة ُشرعت لرباءة الرحم‪.‬‬ ‫بالحيض َّ‬ ‫ِ‬
‫والحيض َ‬
‫ُ‬
‫تلك الربا َء ِة‪.‬‬ ‫عالم ُة َ‬
‫ٍ‬
‫لقرينة‬ ‫النص‬ ‫ِ‬
‫ظاهر‬ ‫العدول عن‬ ‫ُ‬ ‫المنحى الخامس‪:‬‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫المالكية‬ ‫أساس التأويلِ‪ ،‬كتأوي ِل‬ ‫فيكون المقصدُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫مقصدية‪،‬‬
‫َ‬
‫يتفرقا»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫لم َّ‬ ‫بالخيار َما ْ‬ ‫«المتبايعان‬ ‫حديث‪:‬‬ ‫واألحناف‬
‫بالمتساومين كما يقول الشريف التلمساين يف كتابه مفتاح‬
‫الوصول إلى تخريج الفروع على األصول‪.‬‬
‫ظاهره إلى معنًى‬ ‫ِ‬ ‫فظ َعن‬ ‫صرف ل ِ َّل ِ‬ ‫هو‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫التأويل َ‬ ‫وألن‬
‫‪260‬‬
‫ِ‬ ‫االنضباط فِي‬
‫ُ‬
‫المعامالت‪،‬‬ ‫مرجوحٍ لدليلٍ‪ ،‬والمقصدُ َ‬
‫هو‬
‫ضبط‪ .‬وقد أشار‬ ‫َ‬ ‫ال حدَّ ل ُه وال‬ ‫ِ‬
‫المجلس َ‬ ‫وألن البقا َء فِي‬ ‫َّ‬
‫مالك رحمه اهلل إلى ذلك يف الموطأ‪.‬‬
‫ِ‬
‫ضوء‬ ‫ين ع َلى‬ ‫الرتجيح بي َن ُعمو َم ِ‬ ‫المنحى السادس‪:‬‬
‫ُ‬
‫أحد النصين‪،‬‬ ‫علة يف ِ‬ ‫وجود ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يتمثل يف‬ ‫المقصد الذي قد‬
‫الجمهور خ�برَ‪« :‬م�� ْن بدَّ ل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كتقديم‬ ‫��ر‪،‬‬ ‫وفقدها فِي َ‬
‫اآلخ ِ‬ ‫ِ‬
‫المرتدة على ما ورد يف‬ ‫ِ‬ ‫قتل‬ ‫دينَه فاقت ُلوه» الذي يقتضي َ‬
‫األو َل‬ ‫النساء؛ َّ‬ ‫ِ‬ ‫النهي ع ْن قت ِل‬ ‫ِ‬ ‫الصحيحين مِن‬
‫ِ‬
‫ألن الخربَ َّ‬
‫ِ‬
‫الحربية خال ًفا‬ ‫النهي َفي الثانِي ع َلى‬ ‫تضمن العل َة فحملوا‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫واألول ع َلى‬
‫َ‬ ‫ألبي حنيف َة فِي حم ِل الثانِي ع َلى العمو ِم‪،‬‬
‫ِ‬
‫الخصوص‪.‬‬
‫قال يف مراقي السعود يف المرجحات‪:‬‬
‫والمدَ ين والخَ َب ُر الذي َج َم ْع‬ ‫َ‬
‫وع َّل ًة َك َقت ِْل مــــ َْن َر َج ْع‬ ‫حكْما ِ‬
‫ُ ً‬
‫ـــه لِـــــــــعـ َّل ٍـة تَـ َقــــدُّ ُم‬
‫وما بِ ِ‬
‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وما بِتَوكيـد َ‬ ‫ِ‬
‫وخوف ُي ْع َل ُ‬
‫ـــــــم‬
‫ِ‬
‫الشافعية‬ ‫ِ‬
‫كتعضيد‬ ‫به‪،‬‬ ‫الش ِ‬ ‫ِ‬
‫قياس َّ‬ ‫نص فِي مقابِل‬ ‫وتعضيدُ ٍّ‬
‫«كان يسلتُه‬ ‫َ‬ ‫ني أ َّن ُه‬ ‫حديث عائش َة‬ ‫َ‬
‫الم ِّ‬ ‫اهلل عنها يف َ‬ ‫رضي ُ‬ ‫َ‬
‫‪261‬‬
‫أصل‬ ‫بأن المني ُ‬ ‫ثم يقو ُم فيص ِّلى» َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع ْن ثوبِه‬
‫َّ‬ ‫اإلذخر َّ‬ ‫بعرق‬
‫ِ‬
‫قاعدة‬ ‫اإلنسان طهار ُته‪ ،‬فِي مقاب ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كرامة‬ ‫فمقتضى‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫اإلنسان‬
‫مالك‬ ‫ٌ‬ ‫السبيلين‪ ،‬كما ذهب ِ‬
‫إليه‬ ‫ِ‬ ‫نجاسة الخارجِ مِن ِ‬
‫أحد‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫البول‪.‬‬ ‫قياسا ع َلى‬ ‫ً‬
‫يحتج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تمييز عم ِل أه ِل المدينة الذي‬ ‫ُ‬ ‫السابع‪:‬‬ ‫المنحى‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫غير مع َّلل ُحمل‬ ‫إن َ‬ ‫ِ‬
‫فعمل أه ِل المدينة ْ‬ ‫القائلون بِه؛ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِبه‬
‫كان َ‬
‫ِ‬
‫التوقيف‪.‬‬ ‫ع َلى‬
‫حجةً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كان من ُه ع ْن ِ‬ ‫وما َ‬
‫يكون َّ‬ ‫والرأي فالَ‬ ‫االجتهاد‬ ‫طريق‬
‫ال تفيدُ فِي الرتجيحِ ‪ ،‬كما‬ ‫التمييز و َ‬ ‫ِ‬ ‫فالمقاصدُ هنَا تفيدُ فِي‬
‫ِ‬
‫البنود‬ ‫نشر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫��ار إليه الباجي في الفصول‪ ،‬ونسب ُه في َ‬ ‫أش َ‬
‫لألكثر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حمل ع َلى‬ ‫الذي ُي ُ‬ ‫قول الصحابِي ِ‬ ‫تمييز ِ‬ ‫ُ‬ ‫المنحى الثامن‪:‬‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫الرأي‪.‬‬ ‫حمل ع َلى‬ ‫الذي ُي ُ‬ ‫الرف ِع مِن قولِه ِ‬
‫خالف‬ ‫َ‬ ‫التوقيف إ َذا‬ ‫ِ‬ ‫محمول ع َلى‬ ‫ُ‬ ‫الصحابي‬ ‫فقول‬ ‫ُ‬
‫ِّ‬
‫القياس‪.‬‬ ‫َ‬
‫القياس‪ :‬فقال أبوحنيفة‪ :‬ال يكون حجة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وإ َذا َ‬
‫وافق‬
‫عنها‪:‬‬ ‫اهلل تعا َلى َ‬ ‫رضي ُ‬ ‫َ‬ ‫قول عائش َة‬ ‫القياس ُ‬ ‫َ‬ ‫خالف‬
‫َ‬ ‫فمما‬ ‫َّ‬
‫هذا التحديدَ‬ ‫فإن َ‬ ‫ِ‬
‫بطن أ ِّمه سنتان»؛ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«أكثر ما يب َقى الولدُ في ِ‬ ‫ُ‬
‫‪262‬‬
‫عبارة التلمسانِي فِي مفتاحِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حسب‬ ‫ٍ‬
‫بقياس‪.‬‬ ‫ال يهتدَ ى إِ ِ‬
‫ليه‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫الوصول‪.‬‬
‫ال توجدُ مناسب ٌة‬ ‫حيث َ‬‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫حكم‬ ‫ُ‬
‫إحداث‬ ‫المنحى التاسع‪:‬‬
‫ترجع‬ ‫الذي‬ ‫بالمناسب المرس ِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫سمى‬
‫ُ‬ ‫وهو َما ُي َّ‬ ‫معتربةٌ‪َ ،‬‬
‫أمير‬ ‫السجون مِن قِب ِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫كإحداث‬ ‫ِ‬ ‫المصالح المرسلةُ؛‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫إليه‬
‫وقول‬‫ِ‬ ‫اهلل عن ُه ل��رد ِع المجرمي َن‪،‬‬ ‫رضي ُ‬ ‫َ‬ ‫عمر‬
‫المؤمني َن َ‬
‫المعروف هبا «وتو ُّق ُع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالسرقة‬ ‫المته ِم‬ ‫ِ‬
‫بضرب‬ ‫ِ‬
‫المالكية‬
‫َّ‬
‫البنود‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يقول فِي ِ‬
‫نشر‬ ‫هو المصلح ُة المرسلةُ» كما ُ‬ ‫ِ‬
‫اإلقرار َ‬
‫األموال برد ِع المجرمي َن‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هو صيان ُة‬ ‫أن المقصدَ َ‬ ‫ال َّ‬ ‫إ َّ‬
‫الحماية والذرائ ِع‬ ‫ِ‬ ‫للمقاصد فِي‬
‫ِ‬ ‫يحتاج‬ ‫العاشر‪:‬‬ ‫المنحى‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫والنظر فِي‬ ‫ِ‬ ‫وهو المع َّب ُر عن ُه بسدِّ الذرائ ِع‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫والمئاالت‪.‬‬
‫ِ‬
‫المئاالت‪.‬‬
‫ِ‬ ‫العينة بنا ًء ع َلى‬ ‫ِ‬
‫قصد‬ ‫منع المالكي ُة والحنابل ُة َ‬
‫بيع‬ ‫وقدْ َ‬
‫تحريم‬ ‫َ‬ ‫فهموا قصدَ الشار ِع‬ ‫الربا؛ ألهنُم ُ‬ ‫التحاي ِل ع َلى َّ‬
‫إليها‪.‬‬ ‫الزيادة و َما ُ‬ ‫ِ‬
‫يئول َ‬
‫بالعينة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المرابين‪« :‬فتار ًة‬ ‫يذكر َ‬
‫حيل ُ‬ ‫قال اب ُن القيم وهو ُ‬
‫عليه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بالشرط المتقدِّ م المتواطأِ‬ ‫ِ‬ ‫وتار ًة بالمح ِّلل‪ ،‬وتار ًة‬
‫اهلل والكرا ُم‬ ‫ٍ‬ ‫يطلقون العقدَ مِن ِ‬ ‫َ‬
‫علم ُ‬ ‫غير اشرتاط‪ ،‬وقدْ َ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫‪263‬‬
‫حضر أنَّه عقدُ ر َبا‪ ،‬مقصو ُده‬ ‫ِ‬
‫والمتعاقدان و َمن‬ ‫َ‬
‫الكاتبون‬
‫َ‬
‫ليس إ َّ‬ ‫ٍ‬
‫ال‪.‬‬ ‫مؤجل ًة بعشرة نقدً ا َ‬ ‫عشر َّ‬ ‫َ‬ ‫بيع خمس َة‬ ‫وروح��ه ُ‬ ‫ُ‬
‫غيره‪.‬‬ ‫حرف جا َء لمعنَى فِي ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫كخروجها‬ ‫ِ‬
‫السلعة‬ ‫ُ‬
‫ودخول‬
‫ٍ‬
‫عجوة‬ ‫مسألة مدِّ‬ ‫ِ‬ ‫كما فع ُلوا (الشافعية) فِي‬ ‫فهالَّ فعلوا ههنَا َ‬
‫يجعل وسيل ًة إلى ر َبا‬ ‫ُ‬ ‫��م‪ ،‬وقالوا‪ :‬قدْ‬ ‫ودره ٍ‬ ‫َ‬ ‫��م بمدٍّ‬ ‫ودره ٍ‬
‫بعض‬ ‫يساوي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الجانبين‬ ‫يكون المدُّ فِي ِ‬
‫أحد‬ ‫َ‬ ‫الفضل ْ‬
‫بأن‬
‫كيف‬ ‫العجب! َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الجانب َ‬ ‫ِ‬ ‫مدٍّ فِي‬
‫التفاضل‪ .‬فياهلل َ‬ ‫فيقع‬
‫اآلخر ُ‬
‫الذرائع الموصل ُة‬ ‫ُ‬ ‫وأبيحت َ‬
‫تلك‬ ‫ْ‬ ‫تلك الذريع ُة‬ ‫رمت َ‬ ‫ُح ْ‬
‫بجنسها‬ ‫ِ‬
‫الحلية‬ ‫خالصا؟!وأي َن مفسد ُة بي ِع‬ ‫ِ‬
‫النسيئة‬ ‫إ َلى ر َبا‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مفسدة الحي ِل‬ ‫ِ‬ ‫الثمن إ َلى‬ ‫ِ‬ ‫الصياغة بح ِّظها مِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومقابلة‬
‫كل بل َّية‪ ،‬وإ َذا‬ ‫وأصل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫مفسدة‬ ‫أساس ِّ‬
‫كل‬ ‫هي‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫الربوية التي َ‬ ‫َّ‬
‫الجاهل ما شاء‪ ،‬وباهللِ‬
‫التوفيق»(‪.)1‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫الحق فليق ِل‬ ‫حصحص ُّ‬ ‫َ‬
‫يكون مِن أه ِل العين َِة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫واشرتط المالكي ُة للمن ِع ْ‬
‫أن‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الحكم‬ ‫مرتبة الحكم ونو ِع‬ ‫ِ‬ ‫تقرير‬
‫المنحى الحادي عشر‪ُ :‬‬
‫َّهي‪.‬‬‫األمر والن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مناط‬
‫َ َ‬
‫ِين‬ ‫يأ ُّي َها ذَّٱل َ‬ ‫كتابة الدين‪ٰٓ }:‬‬ ‫ِ‬ ‫أمر‬ ‫ِ‬
‫الجمهور َّ‬
‫أن‬ ‫كرتجيحِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ىٗ َ ۡ‬ ‫ىَ‬ ‫َء َام ُن ٓوا ْ إ َذا تَ َدايَ ُ‬
‫نتم ب ِ َديۡ ٍن إ ِ ٰٓل أ َج ٖل ُّم َس ّم فٱك ُت ُبوهُۚ{‬ ‫ِ‬
‫‪ - 1‬ابن القيم �إعالم املوقعني ‪.143 - 142 /1‬‬

‫‪264‬‬
‫ملك‬‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫ألن الدي َن‬ ‫ِ‬
‫واالستحباب‬ ‫ِ‬
‫للندب‬ ‫(البقرة‪)282:‬‬
‫أن يو ِّثقه‪ ،‬خال ًفا‬‫ْ‬ ‫يجب‬
‫ُ‬ ‫أن يسق َطه ف�لاَ‬ ‫للدائن يمك ُن ْ‬ ‫ِ‬
‫للطربي والظاهرية‪.‬‬
‫َ اَ ُ ُ ۡ ۡ‬
‫الرقيق فِي قولِه تعالى‪}:‬فكت ِبوهم إِن‬ ‫ِ‬ ‫وكذلك كتاب ُة‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫األمر‬‫أن َ‬ ‫الجمهور َّ‬
‫ُ‬ ‫َعل ِۡم ُت ۡم فِي ِه ۡم خيرۡٗ اۖ{ (النور‪)33:‬؛ يرى‬
‫ترجع‬ ‫ِ‬
‫المواساة‬ ‫وأن قضا َيا‬ ‫عليه بي ُعه َّ‬‫ال يجب ِ‬ ‫ِ‬
‫للندب؛ ألنَّه َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫والخاطر؛ خال ًفا‬ ‫ِ‬
‫النفس‬ ‫ِ‬
‫وطيب‬ ‫ِ‬
‫واالستحباب‬ ‫ِ‬
‫الندب‬ ‫إ َلى‬
‫الطربي‪.‬‬ ‫لما روي عن عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬وما ذهب ِ‬
‫إليه‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ َ‬ ‫َ ُ َ ْ َ‬
‫عليه الصال ُة‬ ‫الحكم بِه ِ‬ ‫ِ‬ ‫عشر‪ :‬خصوصي ُة‬ ‫المنحى الثاين َ‬
‫والسال ُم ‪.‬‬
‫الوجوب؛ فالعل ُة هنَا‬‫ِ‬ ‫خوف‬
‫َ‬ ‫كرتك الرتاويحِ جماع ًة‬ ‫ِ‬
‫بزمن‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرتك‬ ‫ِ‬
‫اختصاص‬ ‫دليل على‬ ‫وهي المقصدُ ‪ٌ -‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫َ‬
‫النَّبي ﷺ‪.‬‬
‫ِ‬
‫بعض‬ ‫األحيان فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعض‬ ‫السجود فِي‬
‫ِ‬ ‫وكذلك ت ُ‬
‫��رك‬ ‫َ‬
‫النجم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سجدات القرآن‪ ،‬كخاتمة سورة ْ‬
‫بحث مفهو ِم‬ ‫ِ‬ ‫تدخل المقاصدُ فِي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الثالث َ‬
‫عشر‪:‬‬ ‫المنحى‬
‫ِ‬
‫المخالفة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لداللة مفهو ِم‬ ‫وذلك أحيانًا تعضيدً ا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫المخالفة‪،‬‬
‫وتار ًة ر ًدا وتفنيدً ا ‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫اعتبار مفهو ِم‬ ‫ِ‬ ‫الجمهور مِن‬‫ُ‬
‫فمن األول‪:‬ما ذهب ِ‬
‫إليه‬ ‫َ‬
‫َخلاً َقدْ ُأ ِّب ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫مر َها‬ ‫��رت ف َث ُ‬ ‫اع ن ْ‬ ‫المخالفة في حديث‪َ « :‬م ْن َب َ‬
‫بيعت‬ ‫ْ‬ ‫المبتاع»(‪)1‬؛ مفهو ُمه أنَّها إ َذا‬ ‫يشرتط ُ‬‫َ‬ ‫أن‬‫ال ْ‬ ‫للبائِع؛ إ َّ‬
‫جهة‬‫ِ‬ ‫ذلك مِن‬ ‫اإلب��ار فثمر ُتها للمشرتِي‪َ ،‬ع َّضدوا َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫قبل‬
‫الثمرة حتَّى‬ ‫ِ‬ ‫بقصد الشار ِع مكافأ َة َمن قا َم ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫المعنَى‬
‫الذي‬ ‫فإن البائع هو ِ‬ ‫التأبير َّ‬ ‫ِ‬ ‫بيعت بعدَ‬ ‫ْ‬ ‫صلحت؛ ألنَّها إ َذا‬ ‫ْ‬
‫َ َ‬
‫هو الذي‬ ‫ِ‬ ‫عليها فاستح َّقها‪ ،‬وأ َّما قب َله َّ‬
‫فإن المشرتِي َ‬ ‫َ‬ ‫قا َم‬
‫عليها فاستح َّقها‪.‬‬ ‫عالجها وقا َم َ‬ ‫َ‬
‫اإلبار ْأو‬ ‫ِ‬ ‫قبل‬‫بيعت َ‬ ‫أن الثمر َة للبائ ِع ْ‬ ‫أ َّما أ ُبو حنيف َة فر َأى َّ‬
‫بعدَ ه ع َلى أصلِه فِي ن ْف ِي مفهو ِم المخال َف ِة‪.‬‬
‫باالعتماد ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المخالفة‬ ‫أمَّ��ا الثاين وه َ��و ر ُّد مفهو ِم‬
‫ِ‬
‫المخالفة‬ ‫المقصد ِّي‪ ،‬فمن ُه‪ :‬ر ُّد أبِي حنيف َة لمفهو ِم‬ ‫ِ‬ ‫المعنَى‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫مَ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت ح ٖل فأنفِقوا َعل ۡي ِه َّن‬ ‫}ِإَون ك َّن أ ْول ٰ ِ‬ ‫فِي قولِه تعا َلى‪:‬‬
‫الجمهور‬ ‫فهم‬ ‫َح ىَّ ٰ َ َ ۡ َ مَ ۡ َ ُ َّ‬
‫ُ‬ ‫ت يضعن حلهنۚ{ (الطالق‪ ،)6:‬فقدْ َ‬
‫الحائل ‪ -‬ال نفق َة َ‬ ‫ُ‬ ‫من ُه َّ‬
‫لها بنا ًء‬ ‫غير الحام ِل ‪َ -‬‬
‫وهي‬ ‫أن َ‬
‫ِ‬ ‫نوع مِن مفهو ِم‬ ‫ِ‬
‫المخالفة؛ فر َّد‬ ‫وهو ٌ‬ ‫ع َلى مفهو ِم الشرط‪َ ،‬‬
‫‪� -1‬أخرجه البخاري يف ال�صحيح‪ :‬كتاب امل�ساقاة‪ ،‬باب الرجل يكون له مم ًرا �أو ِ�شرب‬
‫يف حائط �أو نخل رقم ‪ 2379‬وكتاب ال�شروط‪ ،‬باب �إذا باع نخلاً قد �أبرت رقم ‪2716‬‬
‫وم�سلم يف ال�صحيح‪ :‬كتاب البيوع‪ ،‬باب من باع نخلاً عليها ثمر رقم ‪1543‬‬

‫‪266‬‬
‫الحائل محبوس ٌّة بعدَّ تِه‪ ،‬وبالتالِي‬ ‫َ‬ ‫ذلك أبو حنيف َة قائِلاً ‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الزوجة‬ ‫ِ‬
‫حبس‬ ‫النفقة ناشئ ٌة ع ْن‬ ‫ِ‬ ‫ألن مشروعي َة‬ ‫فلها النفق ُة َّ‬ ‫َ‬
‫بالعدَّ ة‪.‬‬
‫فحوى‬ ‫ِ‬
‫ويسمى َ‬ ‫َّ‬ ‫الموافقة‬ ‫المنحى الرابع عشر‪ :‬مفهو ُم‬
‫الداللة اللفظ َّية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القياس وبي َن‬ ‫وهو مرتدد بين‬ ‫ِ‬
‫ِّ َ اَ َ َ ُ َّ ُ َ ٓ ُّ‬ ‫الخطاب‪َ ،‬‬
‫مثا ُله‪ :‬قو ُله تعا َلى‪}:‬فل تقل لهما أ ٖف{ (اإلسراء‪،)23:‬‬
‫قصد الشار ِع لربِّهما‬ ‫ِ‬ ‫رف مِن‬ ‫الضرب لِما ُع َ‬ ‫فإنَّما ُفهم من ُه‬
‫ُ‬
‫لمطلق األ َذى‪ .‬خال ًفا لمن جعله مفهوما مِن ِ‬
‫جهة‬ ‫ِ‬ ‫المنافِي‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الحاجب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اللغوي ِ‬
‫كابن‬ ‫ِّ‬ ‫الوض ِع‬
‫إن مالحظ َة‬ ‫المطلق‪َّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫المنحى الخامس عشر‪ :‬تقييدُ‬
‫ولهذا فعند َما‬ ‫َ‬ ‫بالنظرية المقصد َّية؛‬ ‫ِ‬ ‫هو َما نعنِيه‬ ‫المعنَى َ‬
‫ِ‬
‫كمالحظة‬ ‫ال يق َّيدُ بالمق ِّي ِد‪،‬‬ ‫المطلق َ‬ ‫َ‬ ‫األحناف َّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يالحظ‬
‫كفارة القت ِل فق َّيدها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رقبة‬ ‫التفريق بي َن‬‫َ‬ ‫قصد ال��ش��ار ِع‬ ‫ِ‬
‫فلم يقيدْ ها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والظهار ْ‬ ‫اليمين‬ ‫كفارة‬ ‫ورقبة‬ ‫باإليمان‪،‬‬
‫حكم‬ ‫ِ‬ ‫حكم القت ِل وبي َن‬ ‫ِ‬ ‫المرتبتين بي َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الختالف‬ ‫ِ‬
‫باإليمان؛‬
‫والظهار؛ فإنما يبنون على ما فهموه من قصد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اليمين‬
‫الشارع‪.‬‬
‫فهموا مِن‬ ‫المطلق فإنَّما ُ‬ ‫َ‬ ‫الجمهور عند َما ق َّيدوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكذلك‬
‫‪267‬‬
‫دون ِ‬
‫غيرها‪.‬‬ ‫المؤمنة َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرقاب‬ ‫ِ‬
‫تحرير‬ ‫تشجيع‬ ‫قصد الشار ِع‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫فهمو ُه مِن‬ ‫ِ‬
‫قصد‬ ‫مبني ع َلى َما ُ‬ ‫فالخالف بي َن الطرفين ٌّ‬ ‫ُ‬
‫الشارع‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الشاطبي بوض ِع‬ ‫ُّ‬ ‫عشر‪َ :‬م��ا سما ُه‬ ‫السادس َ‬ ‫َ‬ ‫المنحى‬ ‫َ‬
‫األسباب يستلز ُم‬ ‫ِ‬ ‫فوضع‬ ‫ِ‬
‫األسباب وقصد المس َّببات؛‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫الشارع ‪.‬‬
‫َ‬ ‫بات‪ ،‬أعنِي‬ ‫قصدَ الواض ِع إ َلى المسب ِ‬
‫ّ‬
‫والدليل على ذلك أمور (والكالم للشاطبي)‪:‬‬ ‫ُ‬
‫لم تك ْن‬ ‫األسباب ْ‬ ‫َ‬ ‫قاطعون َّ‬
‫بأن‬ ‫َ‬ ‫أن العقال َء‬ ‫«أحدُ ها‪َّ :‬‬
‫فقط‪ْ ،‬بل مِن‬ ‫موجودات ْ‬
‫ٌ‬ ‫هي‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫حيث‬ ‫ن‬ ‫ألنفسها مِ‬ ‫ِ‬ ‫أسبا ًبا‬
‫ِ‬
‫القصد‬ ‫كذلك؛ لز َم مِن‬ ‫َ‬ ‫أخ ُر‪ ،‬وإ َذا َ‬
‫كان‬ ‫أمور َ‬ ‫حيث ُ‬ ‫ُ‬
‫عنها ٌ‬ ‫ينشأ َ‬
‫ينشأ عنها مِن المس َّببات‪.‬‬ ‫وضعها أسبا ًبا القصدُ إلى ما ُ‬ ‫ِ‬ ‫إ َلى‬
‫لجلب‬ ‫ِ‬ ‫رعت‬ ‫أن األحكا َم الشرعي َة إنما ُش ْ‬ ‫والثاين‪َّ :‬‬
‫وهي مس َّببا ُتها قط ًعا‪ ،‬فإذا كنَّا‬ ‫المفاس ِد‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫المصالحِ أو ِ‬
‫درء‬ ‫ْ‬
‫عت ألجل المس َّببات؛ لز َم َمن‬ ‫األسباب إنما ُش ِر ْ‬ ‫َ‬ ‫أن‬‫َعلم َّ‬ ‫ن ُ‬
‫األسباب القصدُ إ َلى المس َّببات‪- )1(»...‬وقد‬ ‫ِ‬ ‫القصد إ َلى‬
‫تقدم بقية كالمه‪.-‬‬
‫أن���واع‬
‫َ‬ ‫المنحى السابع ع��ش��ر‪ :‬االس��ت��ص��ح��اب‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي املوافقات ‪.311 /1‬‬

‫‪268‬‬
‫ٍ‬
‫وبخاصة‬ ‫ٍ‬
‫ومقصد‬ ‫ٍ‬
‫حكمة‬ ‫ال تخ ُلو مِ��ن‬ ‫ِ‬
‫االستصحاب َ‬
‫المبقي ع َلى الن ْفي»‪ .‬فـ« َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫حكم العق ِل‬‫ِ‬ ‫«استصحاب‬
‫ُ‬
‫االختيار لإلنسانِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالنص» يشهدُ لمقصد أص ِل‬ ‫تكليف إلاَّ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬
‫فرتك‬ ‫تمليه فطر ُته وعق ُله‪َ .‬‬ ‫ِ‬ ‫بحسب ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واالنطالق‪،‬‬ ‫والحر َّي ِة‬
‫عنها» كما جاء يف‬ ‫«وترك أشيا َء ع َفا َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫العفو‬ ‫الشارع مساح َة‬ ‫ُ‬
‫الحديث‪.‬‬
‫ِ‬
‫االستصحاب قائلي َن‪:‬‬ ‫دليل‬ ‫األحناف َ‬ ‫ُ‬ ‫وعندما ض َّعف‬
‫إثبات‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يحاولون‬ ‫ِ‬
‫االستحقاق كانُوا‬ ‫يصلح للدف ِع َ‬
‫دون‬ ‫ُ‬ ‫إنَّه‬
‫أثر‬ ‫ِ‬
‫إحداث ٍ‬ ‫قائما َ‬
‫دون‬ ‫لإلبقاء ع َلى وض ٍع َ‬ ‫ِ‬ ‫حكم الن ْف ِي‬ ‫ِ‬
‫كان ً‬
‫يورث ولكنَّه َ‬
‫ال‬ ‫ُ‬ ‫ال إلى الن ْف ِي؛ فالمفقو ُد َ‬
‫ال‬ ‫ال يستندُ إ َّ‬ ‫جديد َ‬ ‫ٍ‬
‫يرث فِي رأيِهم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تنازع‬ ‫هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫الجمهور َ‬ ‫بينهم وبي َن‬ ‫سبب الخالف ُ‬ ‫ُ‬ ‫فكان‬
‫ٍ‬
‫نصوص‪.‬‬ ‫نزاع‬
‫مقاصدَ ‪ ،‬وليس َ‬
‫كان عدولاً‬‫االستحسان‪ :‬سوا ًء َ‬
‫ُ‬ ‫المنحى الثامن عشر‪:‬‬
‫ِ‬
‫تخصيص‬ ‫للمصلحة فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نظائرها‪ْ ،‬أو مراعا ًة‬ ‫ِ‬
‫بالمسألة َعن‬
‫يراعي‬ ‫الحاالت ِ‬
‫ِ‬ ‫بالعرف‪ ،‬فإنَّه فِي ِ‬
‫أكثر‬ ‫ِ‬ ‫عا ٍّم‪ ،‬أو استثنا ًء‬
‫ِ‬
‫الزكاة‬ ‫ِ‬
‫األحناف إعطا َء‬ ‫ِ‬
‫كاستحسان‬ ‫معنًى مِن المعانِي؛‬

‫‪269‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تجب نفقتُه على‬ ‫ُ‬ ‫لمن‬ ‫ال ُتع َطى َ‬ ‫أن الزكا َة َ‬ ‫مع َّ‬ ‫الفقير َ‬ ‫لعبد‬
‫ِ‬
‫بإغناء‬ ‫هي غنا ُه‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫المن‬ ‫ة‬‫َ‬ ‫حكم‬ ‫باعتبار ف ْق ِر عائِله‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ِ‬ ‫الغير؛‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫العائِل‪.‬‬
‫أرض الخراجِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اشرتاء‬ ‫جواز‬
‫َ‬ ‫واستحسان اإلما ِم أحمدَ‬ ‫ِ‬
‫الحكمة بي َن اإلخ��راجِ‬ ‫ِ‬ ‫ف��رق فِ��ي‬ ‫ٍ‬ ‫بيعها؛ ل ِ َل ْمحِ‬ ‫ومن ِع ِ‬
‫فمن‬ ‫ِ‬ ‫��اف بي َن ري ِ��ق‬ ‫كتفريق األح��ن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحبيب َ‬ ‫واإلدخ���ال‪،‬‬
‫يفطر‬ ‫البغيض ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عاف‪ ،‬فالَ ُ‬ ‫الذي ُي ُ‬ ‫وريق‬ ‫ابتل َعه فسدَ صو ُمه‪،‬‬
‫اإلمساك ع ْن‬ ‫ُ‬ ‫أن الحكم َة مِن الصو ِم‬ ‫نظرا إلى َّ‬ ‫الصائم ً‬ ‫ُ‬ ‫ِبه‬
‫غير مشتَهى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األخير ُ‬ ‫وريق‬ ‫الشهوة‪ُ .‬‬
‫األسنان‪ ،‬بي َن‬ ‫ِ‬ ‫كذلك فِي الصو ِم فِي بل ِع َما بي َن‬ ‫َ‬ ‫وتفريقهم‬ ‫ِ‬
‫الذي‬ ‫بذلك وبين الرفي ِع ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫يستلذ‬ ‫الذي مِن شأنِه ْ‬
‫أن‬ ‫الوضي ِع ِ‬
‫َ‬
‫ذلك‪.‬‬‫نفسه َ‬ ‫تعاف ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫المدين‬ ‫الدين ِ‬
‫عن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إسقاط‬ ‫جواز‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫المالكية‬ ‫ِ‬
‫واستحسان‬
‫قض َي بِه‬ ‫أن ي ِ‬ ‫للمدين ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مقابل ِ‬ ‫َ‬
‫مال يمك ُن ْ َ‬ ‫كان‬‫الدائن إ َذا َ‬ ‫زكاة‬
‫كان ُمعد ًما‪.‬‬ ‫الزكاة إ َذا َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إجزاء‬ ‫الدي َن‪ ،‬وعد ِم‬
‫ِ‬
‫المعتربة‬ ‫ِ‬
‫المصلحة‬ ‫الفرق بي َن‬ ‫ُ‬ ‫عشر‪:‬‬ ‫التاسع َ‬ ‫المنحى‬
‫ُ‬
‫اإللغاء فإنَّه‬ ‫ِ‬ ‫كان ُيعرف بدلي ِل‬ ‫وإن َ‬ ‫والمصلحة المل َغاة‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬
‫أقوى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫كذلك بمقابلة مصلحة بمفسدة ْأو بمصلحة َ‬ ‫يعرف‬
‫ُ‬
‫‪270‬‬
‫أعظم‬‫ِ‬ ‫الضررين‪ ،‬وترجيحِ‬ ‫ِ‬ ‫أخف‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫ارتكاب‬ ‫وهي قاعد ُة‬ ‫َ‬
‫المصلحتين ‪ .‬قال يف مراقي السعود‪:‬‬ ‫ِ‬
‫‪.........................‬‬
‫يك الفسا ُد أبعدـَا‬ ‫إن ُ‬ ‫وألـــــ ِغ ْ‬
‫كاألسـارى‬
‫َ‬ ‫اإلصالح‬
‫َ‬ ‫رجحِ‬ ‫أو ِّ‬
‫للنصــــــــــارى‬
‫َ‬ ‫ينفع‬
‫بما ُ‬ ‫تُفدَ ى َ‬
‫ِ‬
‫واألولويات‪ ،‬وك ُّله‬ ‫ِ‬
‫الموازنات‬ ‫اآلن ِ‬
‫بفقه‬ ‫نسميه َ‬ ‫ِ‬ ‫وهذا ما‬
‫المقاصد‪.‬‬‫ِ‬ ‫مبني ع َلى‬ ‫ٌّ‬
‫المؤمن مقصدٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مسائل يف فقه األقليات‪ :‬فقو ُة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫منها‬
‫ِ‬
‫المؤمن‬ ‫وأحب إلى اهللِ مِن‬ ‫ٌّ‬ ‫خير‬
‫القوي ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫شرعي «المؤم ُن‬ ‫ٌّ‬
‫وبعض المناكرِ‬ ‫ِ‬ ‫الضعيف»(‪ ،)1‬ولكن تعاطي البيو ِع الفاسدةِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫يمنح الجماع َة‬ ‫ُ‬ ‫ولو َ‬
‫كان‬ ‫المسلمين ْ‬ ‫ِ‬ ‫ديار ِ‬
‫غير‬ ‫للمقيم فِي ِ‬ ‫ِ‬
‫المتوخاة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تغلب المصلح َة‬ ‫ُ‬ ‫أن مفسد َته‬ ‫ال َّ‬ ‫ثرا ًء ومكان ًة إ َّ‬
‫العلماء المعاصري َن‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ألنظار‬ ‫المعروضة‬
‫َ‬ ‫وهي مِن المسائِل‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫االنتقال من دار الكفر إ َذا‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫منع بعض الشافعية‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫وكذلك ُ‬
‫دار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يستطيع إقام َة‬ ‫َ‬
‫باعتبار أنَّها بوجوده ُ‬ ‫شعائره‬ ‫ُ‬ ‫المسلم‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫‪� -1‬أخرجه م�سلم يف ال�صحيح‪:‬كتاب القدر‪ ،‬باب يف الأمر بالقوة وترك العجز واال�ستعانة‬
‫رقم‪ 2052‬وابن ماجه يف ال�سنن رقم ‪ 79‬و�أحمد يف امل�سند رقم ‪ 370‬وغريهم‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫إقامة ِ‬
‫دار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باعتبار‬ ‫وصف الدَّ ار؛‬ ‫ُ‬ ‫انتقل تغ َّير‬ ‫إسال ٍم‪ ،‬وإ َذا َ‬
‫الطريقة ‪ -‬مقصدً ا شرع ًيا‪( .‬يراجع يف‬ ‫ِ‬ ‫اإلسال ِم ‪ -‬ولو ِ‬
‫هبذه‬
‫الفتوى وفق ُه األقليات)‪.‬‬ ‫ذلك كتا ُبنا‪ :‬صناع ُة َ‬
‫ِ‬
‫التعارض‬ ‫الجمع بي َن األدل ِ��ة عندَ‬ ‫ُ‬ ‫المنحى العشرون‪:‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫توضأ‬ ‫حديث‪َ « :‬من َّ‬ ‫وجوب ال ُغس ِل للجمعة‪َ ،‬‬
‫مع‬ ‫كحديث‬
‫األو ُل ع َلى َمن توجدُ من ُه رائح ٌة‬ ‫مل َّ‬ ‫فيح ُ‬ ‫ونعمت»(‪)1‬؛ ُ‬ ‫ْ‬ ‫فبها‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫جمع‬‫كذلك‪ .‬ف ُي ُ‬ ‫َ‬ ‫ويحمل الثاني ع َلى َمن َ‬
‫ليس‬ ‫ُ‬ ‫موذيةٌ‪،‬‬
‫األمر‬ ‫ِ‬ ‫مقصد الشار ِع مِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعيين‬ ‫ِ‬
‫طريق‬ ‫الخربين َعن‬ ‫ِ‬ ‫بي َن‬
‫حديث عائش َة‬ ‫ِ‬ ‫ذلك فِي‬ ‫وردت اإلشار ُة إ َلى َ‬ ‫ْ‬ ‫بال ُغسل‪ .‬وقدْ‬
‫اهلل عنها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫رض َي ُ‬
‫بالمقصد يف‬ ‫ِ‬ ‫الرتجيح‬ ‫المنحى الحادي والعشرون‪:‬‬
‫ُ‬
‫تخيير‬ ‫ِ‬ ‫عباس فِي‬ ‫ٍ‬ ‫حديث ِ‬
‫ابن‬ ‫ِ‬ ‫األخبار‪ ،‬كرتجيحِ‬ ‫ِ‬ ‫تعارض‬‫ِ‬
‫مغيث وهو عبد‪ ،‬ع َلى خربِ األسود‬ ‫ٍ‬ ‫تحت‬
‫عتقت َ‬ ‫ْ‬ ‫بريرةَ‪ ،‬أهنَّا‬
‫هو‬ ‫ألن مقصدَ الشار ِع َ‬ ‫حرا‪َّ ،‬‬ ‫كان ً‬ ‫بن يزيد عن عائشة أنَّه َ‬
‫العبد‪ .‬وهذا مذهب مالك‬ ‫ِ‬ ‫تحت‬
‫َ‬ ‫الحرة‬ ‫ضرر ِ‬
‫بقاء‬ ‫ِ‬ ‫رفع‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وأحمد والشافعي واألوزاع��ي والليث بن سعد خال ًفا‬
‫ألبي حنيفة والثوري الذين اعتمدوا على مقصد آخر يف‬
‫‪� -1‬أخرجه �أبو داود‪ ،‬باب يف الرخ�صة يف ترك الغ�سل يوم اجلمعة‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫تخييرها ولو كان حرا ألهنا لم تكن لها يف أصل النكاح‬
‫إرادة وال رأي ألن سيدها هو الذي زوجها فلما عتقت‬
‫كانت حريتها مالئمة لمراجعة ما عقده سيدها‪.‬‬
‫األخبار المنف َّية أو‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تنزيل‬ ‫المنحى الثاين والعشرون‪:‬‬
‫ِ‬
‫اإلثبات‬ ‫ذلك فِي‬ ‫مثال َ‬ ‫والنواهي‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األوامر‬ ‫المث َب ِتة منزل َة‬
‫َ َ َ‬ ‫ام إبۡ َرٰه َ‬ ‫قو ُله تعا َلى‪}:‬فِيهِ َء َاي ٰ ُ ۢ َ ّ َ ‪ُ َ َّ ٞ‬‬
‫ِيمۖ َو َمن دخل ُهۥ‬ ‫ت بيِنٰت مق ِ‬
‫ُّ بۡ َ ۡ َ ۡ َ َ َ‬
‫اع إ ِ يَ ۡ‬ ‫َّ‬ ‫اَ َ َ ٗ َ هَّ لَىَ‬
‫لهِ‬ ‫ت م ِن ٱستط‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ٱل‬ ‫ِج‬ ‫ح‬ ‫ِ‬
‫اس‬ ‫ٱنل‬ ‫ع‬ ‫كن ءامِناۗ وللِ ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ اٗ‬
‫ني{(آل‬ ‫ن َعن ٱل َعٰلم َ‬
‫ِ‬ ‫ٱلل َغ ٌّ‬ ‫ك َف َر فَإ َّن هَّ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫يل َو َ‬
‫م‬ ‫ۚ‬ ‫سب ِ‬
‫ِ‬ ‫يِ‬
‫ِ‬
‫قصد‬ ‫صدق الخربِ ال ُبدَّ مِن ِ‬
‫فهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلضرورة‬ ‫عمران‪)97:‬‬
‫أي أ ِّمنوه‪.‬‬ ‫األمر ْ‬ ‫بأن الخربَ هنا ُيراد بِه ُ‬ ‫الشار ِع َّ‬
‫ُ َ‬
‫ت َّب ُصون بِك ۡم فإِن‬
‫َ‬ ‫ِين َي رَ َ‬ ‫وكذلك فِي قولِه تعالى‪ }:‬ذَّٱل َ‬ ‫َ‬
‫اَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫هَّ َ ُ ْ َ َ ُ‬ ‫اَ َ َ ُ َ‬
‫كن لك ۡم ف ۡت ‪ٞ‬ح ّم َِن ٱللِ قال ٓوا أل ۡم نكن َّم َعك ۡم ِإَون كن‬
‫‪ُ ۡ َ ۡ َ َ ۡ ُ َۡ َ ۡ ۡ َ َۡ ََۡ ُْٓ َ ٞ‬‬ ‫ۡ َٰ َ َ‬
‫ين ن ِصيب قالوا ألم نستحوِذ عليكم ونمنعكم‬ ‫ل ِلكفِ ِر‬
‫ّ َ ۡ ُ ۡ َ َ هَّ ُ حَ ۡ ُ ُ َ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َ َ جَ ۡ َ َ‬
‫مِن ٱلمؤ ِمن ِنيۚ فٱلل يكم بينكم يوم ٱل ِقيمةِۗ ولن يعل‬
‫ع ٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ‬ ‫َ لَىَ‬ ‫هَّ ُ ۡ َ‬
‫ِني َسبِيل{ (النساء‪)141:‬‬ ‫ٱلل ل ِلكٰفِ ِرين‬
‫أي ال تجعلوا للكافري َن علي ُكم سبيلاً ‪.‬‬ ‫النهي ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُيستفا ُد منه‬
‫كما ذكر الشاطبي(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬املوافقات ‪.156 /1‬‬
‫‪273‬‬
‫النص‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الثالث والعشرون‪ :‬بي َن التعبد ومعقول َّية ِّ‬ ‫المنحى‬
‫للقياس؛ إ ْذ أنَّه مرحل ٌة سابق ٌة‬ ‫ِ‬ ‫تكرارا‬
‫ً‬ ‫ليس‬
‫المنحى َ‬ ‫َ‬ ‫إن َ‬
‫هذا‬ ‫َّ‬
‫البحث َعن الع َّلة‬ ‫ِ‬ ‫أن الخطو َة األو َل��ى َ‬
‫قبل‬ ‫للقياس؛ إ ْذ َّ‬ ‫ِ‬
‫عقل معنا ُه‬ ‫األمر َأو النهي تعبد ًّيا ال ُي ُ‬ ‫ُ‬ ‫تقرير ما إذا َ‬
‫كان‬ ‫ُ‬ ‫هي‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫خاص‬ ‫ٍّ‬ ‫وغير‬
‫َ‬ ‫هو معقول المعنَى‬ ‫َ‬ ‫فيتوقف عندَ حدِّ ه‪ْ ،‬أو َ‬ ‫ُ‬
‫بحث ع ْن ع َّلتِه‪.‬‬ ‫بمحلِه ف ُي ُ‬
‫العلماء فِي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اختالف بي َن‬ ‫قطب‬ ‫لت‬ ‫هذه الخطو َة م َّث ْ‬ ‫إن ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫الكلب؛‬ ‫ِ‬ ‫اإلناء مِن ولو ِغ‬ ‫ِ‬ ‫كاألمر بغس ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النصوص‪،‬‬ ‫عشرات‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫الجمهور‬ ‫ومعقولية المعنَى عندَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المالكية‬ ‫بي َن التع ُّب ِد عندَ‬
‫فيفيدُ النجاسةَ‪.‬‬
‫قبضه؛ بي َن التع ُّب ِد عندَ‬ ‫قبل ِ‬ ‫والنهي َعن بي ِع الطعا ِم َ‬ ‫ِ‬
‫البن ع َّباس‪:‬‬ ‫الجمهور تب ًعا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومعقولية المعنَى عندَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المالكية‬
‫«وأحسب أن كل شيء كالطعام»‪.‬‬
‫ث؛ بي َن التع ُّبد عندَ‬ ‫االسترباء مِن الخب ِ‬ ‫ِ‬ ‫باإليتار فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واألمر‬
‫َ‬
‫فيكفى‬ ‫ومعقولية المعنَى عندَ المالكية ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والشافعية‬ ‫ِ‬
‫الحنابلة‬
‫َّ‬
‫ِّ‬
‫المحل‪.‬‬ ‫إنقا ُء‬
‫ِ‬
‫بحوالة‬ ‫السلم؛ بي َن التعلي ِل‬ ‫ِ‬ ‫مسألة تأجي ِل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫وكذلك‬
‫ليكون مظنَّ ًة‬ ‫َ‬ ‫األجل طويلاً نسب ًيا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يكون‬ ‫فيجب ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫األسواق‬‫ِ‬

‫‪274‬‬
‫القاسم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عشر يو ًما عندَ ِ‬
‫ابن‬ ‫��واق‪ ،‬كخمس َة‬ ‫لحوالة األس ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آخر ِ‬ ‫ِ‬
‫تسليم‬ ‫كاشرتاط‬ ‫غير األج ِل‬ ‫وإذا ُوجدت العل ُة بسبي ٍل َ‬
‫تختلف فيه‬ ‫ُ‬ ‫األسعار‬ ‫أن‬‫بعيد ُيظ ُّن َّ‬ ‫مكان ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فيه فِي‬ ‫المس َل ِم ِ‬
‫َ‬
‫الزمان ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫المكان منزل َة‬ ‫ُ‬ ‫فينز ُل‬ ‫السلم َّ‬ ‫ِ‬ ‫محل ِ‬
‫عقد‬ ‫عنها يف ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بحوالة‬ ‫لم ينظروا إلى التعلي ِل‬ ‫خال ًفا لألحناف الذي َن ْ‬
‫بثالثة أ َّيا ٍم عندَ هم‪ ،‬وال عرب َة‬ ‫ِ‬ ‫األسواق‪ ،‬وبالتالِي ُيكت َفى‬ ‫ِ‬
‫رشد فِي‬ ‫ٍ‬ ‫المكان‪ ،‬كما ُيفهم مِن كال ِم ِ‬
‫ابن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بتغير‬ ‫عندهم‬
‫ِ‬
‫المجتهد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بداية‬
‫ِ‬
‫طبيعة‬ ‫االخ��ت�لاف فِ��ي‬ ‫ُ‬ ‫المنحى ال��راب��ع وال��ع��ش��رون‪:‬‬
‫ِ‬
‫السالفة‬ ‫ِ‬
‫الكلب‬ ‫كمسألة ولو ِغ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحكم‪،‬‬ ‫المقصد المؤ ِّث ِر فِي‬ ‫ِ‬
‫الكلب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لعاب‬‫نجاسة ِ‬ ‫ِ‬ ‫راجع إ َلى‬ ‫الجمهور أنَّه‬ ‫الذكر؛ فيرى‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫خوف‬ ‫ِ‬ ‫يرجع إ َلى‬ ‫صحي‬ ‫مقصدٌ‬ ‫َّها‬‫ن‬ ‫أ‬ ‫الجدّ‬ ‫ويرى ابن ٍ‬
‫رشد‬
‫ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫العدوى‪.‬‬ ‫َ‬
‫واالقتصار‬ ‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫المنحى الخامس والعشرون‪ :‬تعدُّ ُد‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كمسألة نق ِل لحو ِم‬ ‫الحكم‪،‬‬ ‫مما يؤ ِّث ُر يف‬ ‫ع َلى مقصد واحد َّ‬
‫ِ‬
‫ألن مقصدَ‬ ‫ذلك‪َّ ،‬‬ ‫جواز َ‬ ‫َ‬ ‫فيرى المالكي ُة‬ ‫الهدْ ِي إ َلى اآلفاق‪َ ،‬‬
‫الشار ِع إخراج هدي للمساكين يف الحرم‪.‬‬
‫ذلك‬ ‫أن َ‬ ‫مساكين الحر ِم بِه؛ إ ْذ َّ‬ ‫ِ‬ ‫اختصاص‬ ‫َ‬ ‫ويرى الحنابل ُة‬ ‫َ‬
‫‪275‬‬
‫ابن قدا َمة‪.‬‬ ‫عبارة ِ‬ ‫ِ‬ ‫حسب‬ ‫ك‪.‬‬ ‫أحدُ مقصدَ ِي النس ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫الناس‬ ‫ِ‬
‫بعض‬ ‫اختصاص‬
‫ُ‬ ‫المنحى السادس والعشرون‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بحكم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بعض‬ ‫َ‬
‫دون‬
‫وهو‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫آخر‪َ ،‬‬ ‫غير المنحتم بوجه َ‬ ‫«ويختص ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الشاطبي‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫قال‬
‫دون‬ ‫وقت َ‬ ‫بحسب ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نفسه‬ ‫ف فِي ِ‬ ‫بكل مك َّل ٍ‬ ‫يصلح ِّ‬ ‫فيما‬
‫ُ‬ ‫النظر َ‬ ‫ُ‬
‫النفوس‬ ‫ِ‬
‫شخص؛ إذ‬ ‫ٍ‬ ‫وشخص َ‬
‫دون‬ ‫ٍ‬ ‫حال‪،‬‬ ‫دون ٍ‬ ‫وحال َ‬ ‫ٍ‬ ‫وقت‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫واحد‪ ،‬كما‬ ‫ٍ‬ ‫األعمال الخاص ِة ع َلى ِو ٍ‬
‫زان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قبول‬ ‫ليست فِي‬ ‫ْ‬
‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫يدخل‬ ‫فرب عم ٍل صالحٍ‬ ‫أنَّها في العلو ِم والصنائ ِع كذلك؛ َّ‬
‫ِ‬
‫بالنسبة‬ ‫كذلك‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫يكون‬ ‫ضرر ْأو فرتةٌ‪ ،‬وال‬ ‫بسبِبه ع َلى رج ٍل‬
‫ٌ‬
‫والشيطان فِيه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النفس‬ ‫يكون ُّ‬
‫حظ‬ ‫ُ‬ ‫ورب عم ٍل‬ ‫َّ‬ ‫آخ َر‪،‬‬ ‫إ َلى َ‬
‫ويكون بري ًئا‬ ‫ُ‬ ‫آخر‪،‬‬ ‫أقوى من ُه فِي عم ٍل َ‬ ‫بالنسبة إ َلى العام ِل َ‬
‫ِ‬
‫فصاحب هذا‬ ‫ُ‬ ‫دون بعض؛‬ ‫األعمال َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعض‬ ‫ذلك يف‬ ‫من َ‬
‫النفوس‬ ‫َ‬ ‫عرف ِبه‬ ‫نورا َي ُ‬ ‫هو الذي ُرزق ً‬ ‫الخاص َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫التحقيق‬
‫تحملها للتكاليف‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وتفاوت إدراكها‪ ،‬وقو َة‬ ‫َ‬ ‫ومراميها‪،‬‬
‫عرف التفا َتها‬ ‫وصربَها ع َلى حم ِل أعبائها‪ ،‬أو ضعفها‪ ،‬و َي ُ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يحمل على‬ ‫إ َلى الحظوظ العاجلة‪ ،‬أو عد ِم التفاتها؛ َ‬
‫فهو‬
‫أن‬ ‫يليق هبَا‪ ،‬بنا ًء ع َلى َّ‬ ‫النصوص ما ُ‬ ‫ِ‬ ‫نفس مِن أحكا ِم‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫كل‬
‫يخص‬ ‫التكاليف؛ فكأنَّه‬ ‫ِ‬ ‫الشرعي يف تل ِّقي‬ ‫ذلك المقصو ُد‬ ‫َ‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫‪276‬‬
‫ثبت‬ ‫مما َ‬ ‫التحقيق؛ لك ْن َّ‬ ‫ِ‬ ‫والتكاليف َ‬
‫هبذا‬ ‫َ‬ ‫عمو َم المك َّلفين‬
‫ثبت إطال ُقه‬ ‫األول العا ُّم‪ ،‬ويق َّيدُ به ما َ‬ ‫التحقيق َّ‬ ‫ِ‬ ‫عمو ُمه فِي‬
‫ِ‬
‫األول‬ ‫ثبت ل ُه فِي‬ ‫يضم قيدً ا أو قيو ًدا لما َ‬ ‫ُّ‬ ‫األول‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫المناط هنَا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تحقيق‬ ‫القيود‪ .‬هذا معنَى‬ ‫ِ‬ ‫بعض‬ ‫ُ‬
‫فإن َما سوا ُه قدْ‬ ‫ِ‬ ‫هذا االجتهاد؛ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدليل ع َلى صحة َ‬ ‫ُ‬ ‫وبقي‬
‫َ‬
‫تحت‬ ‫داخل‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫تك َّفل‬
‫َ‬ ‫األصوليون ببيان الداللة عليه‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫الداللة‬ ‫ِ‬
‫مطلق‬ ‫تحت‬ ‫مندرجا َ‬ ‫ُ‬
‫فيكون‬ ‫ِ‬
‫المناط؛‬ ‫ِ‬
‫تحقيق‬ ‫عمو ِم‬
‫ً‬
‫الداللة عليه؛‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خصوص‬ ‫تشوف أحدٌ إ َلى‬ ‫عليه‪ ،‬ولك ْن ْ‬ ‫ِ‬
‫إن َّ‬
‫بحول اهللِ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تيسر‬‫منها ما َّ‬ ‫نذكر َ‬ ‫فاألد َّل ُة عليه كثير ٌة ُ‬
‫ِ‬
‫مختلفة ع ْن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أوقات‬ ‫سئل فِي‬ ‫أن النبي ﷺ َ‬ ‫ذلك َّ‬ ‫فم ْن َ‬
‫َّ‬
‫بعض‬ ‫ِ‬ ‫بذلك يف‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫وعر َ‬ ‫وخير األعمال‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫أفض ِل األعمال‪،‬‬
‫كل‬ ‫بأجوبة مختل َف ٍة‪ُّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فأجاب‬
‫َ‬ ‫غير س��ؤال؛‬ ‫األوق��ات مِن ِ‬ ‫ِ‬
‫مع‬ ‫القتضى َ‬ ‫َ‬ ‫مل ع َلى إطالقِه أو عمومِه‬ ‫واحد منها لو ُح َ‬ ‫ٍ‬
‫غيره التضا َّد فِي التفضيل ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ففي «الصحيح» أنَّه عليه الصال ُة والسال ُم سئل‪ُّ :‬‬
‫��م م��ا َذا؟‬ ‫ق��ال‪ :‬ث َّ‬ ‫��ان ب��اهللِ»‪َ .‬‬ ‫ق��ال‪« :‬إي��م ٌ‬ ‫أفضل؟ َ‬ ‫ُ‬ ‫األع��م ِ‬
‫��ال‬
‫«حج‬ ‫ٌّ‬ ‫ثم ما َذا؟ قال‪:‬‬ ‫قال‪َّ :‬‬ ‫قال‪« :‬الجها ُد فِي سبي ِل اهللِ»‪َ .‬‬

‫‪277‬‬
‫مربور»(‪.)1‬‬‫ٌ‬
‫ليس‬ ‫ِ‬ ‫المنحى السابع والعشرون‪ُ :‬‬
‫مما َ‬‫أفعال المقتدَ ى به َّ‬
‫ٍ‬
‫ألمر‪.‬‬ ‫تفصيلاً‬
‫الصادرة من أه ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باألفعال‬ ‫الشاطبي‪« :‬االقتدا ُء‬ ‫قال‬ ‫َ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫وجهين‪:‬‬ ‫يقع على‬ ‫ِ‬
‫االقتداء ُ‬
‫دل‬ ‫ممن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أحدهما‪ْ :‬‬
‫يكون المقتدَ ى به يف األفعال َّ‬ ‫أن‬
‫النبي ﷺ‪ْ ،‬أو فِع ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الدليل على عصمته‪ ،‬كاالقتداء بفع ِل ِّ‬
‫بالعادة أو بالشر ِع أنَّهم ال‬ ‫ِ‬
‫أه�� ِل اإلجماعِ‪ ،‬أو ما ُي ُ‬
‫علم‬
‫المدينة ع َلى ِ‬
‫رأي‬ ‫ِ‬ ‫يتواطؤون ع َلى الخطأِ؛ كعم ِل أه ِل‬ ‫ُ‬
‫مالك‪....‬‬ ‫ٍ‬
‫إيقاع الفع ِل‬ ‫ِ‬
‫المقتدي‬ ‫أن يقصدَ‬ ‫فالقسم األول‪ :‬ال يخلو ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫عليه المقتدَ ى بِه‪ ،‬ال يقصدُ بِه‬ ‫ِ‬ ‫الذي أوق َعه‬ ‫الوجه ِ‬
‫ِ‬ ‫ع َلى‬
‫ذلك‪ ،‬سواء عليه أفهم مغزاه أم ال؟ من غير زيادة‪ ،‬أو‬ ‫ال َ‬ ‫إ َّ‬
‫يزيد عليه تنْو َي ُة المقتدَ ى به يف الفعل أحسن المحامل مع‬
‫األحسن‪،‬‬‫َ‬ ‫المحم ِل‬
‫َ‬ ‫احتماله يف نفسه؛ فيبني يف اقتدائه على‬
‫رتب عليه األحكا َم و ُي َف ِر ُع عليه المسائل‪.‬‬ ‫ويجعله أصلاً ُي ُ‬

‫‪� -1‬أخرجه البخاري وم�سلم عن �أبي هريرة واللفظ مل�سلم وزاد البخاري‪�»:‬إميان باهلل‬
‫ور�سوله» ‪ 25 /5‬وما بعدها‪..‬‬

‫‪278‬‬
‫حسب‬ ‫ِ‬ ‫االقتداء بِه على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صحة‬ ‫َ‬
‫إشكال يف‬ ‫األول؛ فال‬ ‫ُ‬ ‫فأ َّما‬
‫بالنبي ﷺ‬ ‫ِّ‬ ‫ما ق��رر ُه األصوليون‪ ،‬كما اقتدَ ى الصحاب ُة‬
‫ِ‬
‫النعلين يف‬ ‫هبي‪ ،‬وخل ِع‬ ‫الذ‬ ‫ِ‬
‫الخاتم َّ‬ ‫ِ‬
‫ع‬ ‫كنز‬ ‫؛‬ ‫ٍ‬
‫كثيرة‬ ‫يف أشياء‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫العمرة عا َم‬ ‫واإلحالل مِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السفر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واإلفطار يف‬ ‫ِ‬
‫الصالة‪،‬‬
‫الصحابة التِي أجمعوا عليها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫أفعال‬ ‫َ‬
‫وكذلك‬ ‫الحديبية‪،‬‬
‫وما أشبه ذلك»(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫العفو‬ ‫الدال على‬ ‫السكوت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الثامن والعشرون‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫المنحى‬
‫فرائض فال تضيعوها ونَهى َعن أشيا َء‬ ‫َ‬ ‫فرض‬ ‫اهلل َ‬ ‫«إن َ‬ ‫دليله‪َّ :‬‬
‫تنتهكوها وحدَّ حدو ًدا فال تعتدوها‪ ،‬وعفا َعن أشيا َء‬ ‫َ‬ ‫فال‬
‫نسيان فالَ تبح ُثوا عنها»(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬ ‫بكم َ‬
‫ال َعن‬ ‫رحم ًة ْ‬
‫ِ‬
‫العفو‬ ‫الشاطبي مرتب َة‬ ‫حديث حس ٌن‪ ،‬أخذ منه‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫ُّ‬
‫ألن ترك االستفصال يف طعام‬ ‫قسما مستقلاً ؛ ّ‬ ‫باعتبارها ً‬ ‫ِ‬
‫الذين أوتوا الكتاب يدل على جواز ذبحهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إشارة‬ ‫الشارع مِن‬ ‫المنحى التاسع والعشرون‪ :‬ما يقصدُ‬
‫ُ‬
‫الفتوى‪ .‬قال‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫سياق‬ ‫عرف بِه قصدُ الشار ِع فِي‬ ‫ونحوها‪ُ ،‬ي ُ‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي املوافقات ‪. 302 /5‬‬


‫‪� -2‬أخرجه الدارقطني والطرباين وابن عبد ال ِّرب يف جامع بيان العلم ‪ 2012‬والبيهقي‬
‫يف ال�سنن الكربى‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫فهو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشاطبي‪« :‬ما ُيقصدُ بِه اإلفها ُم يف‬
‫االستعمال؛ َ‬ ‫معهود‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫المصرحِ به كقوله عليه الصال ُة والسال ُم‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قائم مقا َم القول‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫وهكذا»(‪.)1‬‬ ‫َ‬ ‫«الشهر َ‬
‫هكذا‬ ‫ُ‬
‫أجاب الفت َيا‬ ‫باب َمن‬ ‫ِ‬ ‫قلت‪ :‬وعن َ‬
‫َ‬ ‫البخاري بقوله‪ُ :‬‬ ‫ُّ‬ ‫ْون‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫حديثين‪:‬‬ ‫فذكر‬ ‫ِ‬ ‫بإشارة ِ‬
‫اليد ِ‬ ‫ِ‬
‫الرأس‪َ ،‬‬ ‫أو‬
‫أرمي‬ ‫قبل ْ‬
‫أن‬ ‫ذبحت َ‬
‫ُ‬ ‫‪:‬‬ ‫حجتِه َ‬
‫فقال‬ ‫َّ‬ ‫ي‬ ‫سئل فِ‬ ‫أن النبي ﷺ َ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫فأومأ‬ ‫أذبح‬ ‫قبل ْ‬ ‫حلقت َ‬ ‫حرج‪َ ،‬‬ ‫قال‪َ :‬‬ ‫بيده َ‬ ‫فأومأ ِ‬ ‫َ‬
‫أن َ‬ ‫ُ‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫ال َ‬
‫حرج»‪.‬‬ ‫بيده‪ :‬و َ‬ ‫ِ‬
‫ال َ‬
‫سمعت أبا هرير َة َعن النبِي ﷺ‬ ‫ُ‬ ‫سالم َ‬
‫قال‬ ‫ٍ‬ ‫والثاين‪ :‬ع ْن‬
‫الهرج»‪.‬‬‫ُ‬ ‫ويكثر‬
‫ُ‬ ‫الجهل والفت ُن‬ ‫ُ‬ ‫ويظهر‬
‫ُ‬ ‫العلم‬
‫ُ‬ ‫قال‪« :‬يقبض‬
‫فحر َفها‬ ‫هكذا بيده َّ‬
‫َ ِ‬ ‫الهرج؟ فقال‬ ‫ُ‬ ‫رسول اهللِ و َما‬ ‫َ‬ ‫قيل‪ :‬يا‬
‫القتل‪.‬‬ ‫كأن ُه يريدُ َ‬
‫اليد وحركتِها‬ ‫تحريف ِ‬ ‫ِ‬ ‫هم مِن‬ ‫ذلك ُف َ‬ ‫«كأن َ‬ ‫حجر‪َّ :‬‬ ‫ٍ‬ ‫قال اب ُن‬
‫ِ‬
‫الروايات‬ ‫ِ‬
‫معظم‬ ‫لم َأرها َفي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كالضارب‪ ،‬لك َّن هذه الزياد َة ْ‬
‫فإن أ َبا عوان َة روا ُه‬ ‫الراوى َعن حنظلةَ‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تفسير‬ ‫وكأنَّها مِن‬
‫وقال َفي‬ ‫عاصم ع ْن حنظلةَ‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الدوري َعن أبِي‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫عباس‬ ‫َعن‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.258 /5‬‬

‫‪280‬‬
‫عنق اإلنسان»(‪.)1‬‬ ‫يضرب َ‬ ‫ُ‬ ‫عاصم كأنَّه‬ ‫ٍ‬ ‫آخره‪ :‬وأرانَا أ ُبو‬ ‫ِ‬
‫العقود فِي التصحيحِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قصود‬ ‫المنْحنى الثالثون‪ :‬مراعا ُة‬
‫ِ‬
‫والشروط‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واإلبطال‬
‫لكل ٍ‬ ‫جعل ِّ‬ ‫اهلل تعا َلى َ‬
‫عقد‬ ‫أن مال ًكا رحم ُه ُ‬ ‫ومعنَى هذا َّ‬
‫مالئمة و َ‬ ‫ٍ‬
‫ال‬ ‫قصو ًدا مالئم ًة وقصو ًدا منافي ًة وقصو ًدا َ‬
‫غير‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫باع‬
‫تأثير الشروط على هذه القصود؛ فم ْن َ‬ ‫ب َ‬ ‫منافية‪ ،‬ور َّت َ‬
‫بطل‬ ‫شرط ُي ُ‬ ‫ٌ‬ ‫فهذا‬ ‫يهب َ‬ ‫أن َ‬ ‫بشرط ْ‬ ‫ِ‬
‫يبيع المشرتِي وال َ‬ ‫ال َ‬
‫منها حري ُة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫مناف للتمت ِع‬ ‫ٍ‬
‫بحقوق الملكية التي َ‬ ‫العقدَ ألنَّه‬
‫رهن ْأو حمي ٍل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بشرط‬ ‫باع‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫التصرف في المملوك‪ .‬وم ْن َ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫صحيحين لمالءمته للتو ُّثق من نتائج‬ ‫ِ‬ ‫الشرط والعقدُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كان‬
‫ِ‬
‫العقد‪.‬‬ ‫العقد‪ ،‬والوفاء بمقتضياتِه التِي هي مِن ِ‬
‫قصد‬ ‫َ‬
‫مالك في‬‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫وفصل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وأمَّ��ا أ ُب��و حنيف َة‬
‫فأبطل بالشروط‪َّ ،‬‬
‫الواردة فِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األحاديث‬ ‫يجمع بي َن‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫تفصيل‬ ‫وهو‬
‫الشروط َ‬
‫ِ‬
‫الباب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫سعيد وسؤالِه‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الوارث ِ‬
‫بن‬ ‫وقدْ ذكر العلماء قص َة ِ‬
‫عبد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وابن أبِي لي َلى واختالفِهم فِي‬ ‫ِ‬ ‫وابن شربم َة‬ ‫ِ‬ ‫ألبِي حنيف َة‬
‫ِ‬
‫المسألة‪.‬‬ ‫بحديث روا ُه فِي‬ ‫ٍ‬ ‫منهم‬ ‫الشروط واحتجاجِ ٍّ‬ ‫ِ‬
‫كل ُ‬
‫‪ -1‬ابن حجر‪ ،‬فتح الباري ‪.219 /1‬‬

‫‪281‬‬
‫مييز‬ ‫ِ‬
‫بالمقاصد يف َت ِ‬ ‫المنحى الحادي والثالثون‪ُ :‬يستنجدُ‬
‫الصرفِ ِة إلحداث‬ ‫ِ‬
‫المكايسة ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المعروف عن ُعقود ُ‬
‫ِ‬
‫ُعقود َ‬
‫حكم بين حكمين مما يجيز التجاوز عن بعض أسباب‬
‫الفساد من غرر وجهالة وشبهة ربا‪.‬‬
‫المنحى الثاين والثالثون‪ :‬أن العلة المستنبطة ال يمكن‬
‫أن تلغي الحكم المعلل هبا يف حال تخلف العلة‪ ،‬كالثمنية‬
‫يف النقدين بأن صار الذهب والفضة أو أحدهما غير رائج‬
‫يف الثمنية فإن ذلك ال يؤثر يف أصل ربويتهما ألن الربوية‬
‫منصوصة من الشارع متحققة فال تكر عليها علة مستنبطة‬
‫بالبطالن‪ .‬وم��ن جهة أخ��رى ف��إن مقصد الربوية يمنع‬
‫التفاضل يف النوع‪ ،‬والنسيئة يف الجنسين مقصد أصلى‬
‫ابتدائي صريح فال يكر عليه مقصد تابع يف الرتبة مظنون‬
‫يف الجملة‪.‬‬
‫المنحى الثالث والثالثون‪ :‬فهم مقصد الشارع من داللة‬
‫اللفظ سواء كان لفظ الشارع‪ ،‬أو لفظ راوي الحديث‪ ،‬مما‬
‫حكما تختلف درجته باختالف الصيغ‪ ،‬كاستعمال‬ ‫ً‬ ‫يرتب‬
‫لفظ «هنى» فإهنا تدل على أن الحكم المرتتب على النهي‬
‫ليس بالقوي لقيام االحتمال وبسبب االجمال أو ما‬

‫‪282‬‬
‫سماه الزركشي بالعموم ألن النهي قد يدل على الكراهة‬
‫أو التحريم فما هو كداللة النهي «بال تفعل» الدالة على‬
‫التحريم»‪.‬‬
‫وسمى القاضى ابن العربي الصيغة األول��ى بالنهي‬
‫من الدرجة الثانية والصيغة الثانية «ال تفعل» بالنهي من‬
‫الدرجة األولى وذلك يف مسألة النهي عن بيع الثمرة قبل‬
‫بدو صالحها‪ ،‬فحديث ابن عمر فيه «هني» وحديث زيد‬
‫بن ثابت فيه «ال تبايعوا‪ »..‬لكنه ورد يف آخر حديث زيد‬
‫«كالمشورة لهم» فأثرت يف قوة النهي مما أثار حفيظة ابن‬
‫العربي قائلاً ‪ :‬لكنه عقب عليها بما غير الدليل وأتعب يف‬
‫التأويل فقال‪« :‬كالمشورة لهم» فجعل ذلك زيد يف ظاهر‬
‫الحديث رأ ًيا عرضه ال هن ًيا حرمه(‪.)1‬‬
‫المنحى الرابع والثالثون‪ :‬قد يؤثر مقصد عام يالحظه‬
‫المجتهد من خالل نصوص عدة يف الحد من تأثير مقصد‬
‫خاص‪ ،‬ليخفف من اطراده ومن إلحاحه يف كل المحال‪،‬‬
‫ومن هذا القبيل تأثير الحاجة يف ممنوعات ضعيفة نسب ًيا؛‬
‫الستثناء الشارع من عمومها ولقوة المصلحة المعارضة‬
‫‪ -1‬ابن العربي‪ ،‬القب�س ‪.778 /2‬‬

‫‪283‬‬
‫تقدم على العلة المانعة يقول اب��ن العربي‪« :‬القاعدة‬
‫السابعة‪ :‬اعتبار الحاجة يف تجويز الممنوع كاعتبار‬
‫الضرورة يف تحليل المحرم‪ ،‬ومن ذلك استثناء القرض‬
‫من تحريم بيع الذهب بالذهب إلى أجل‪ ،‬وهو شيء انفرد‬
‫به مالك لم يجوزه أحد من العلماء سواه لكن الناس‬
‫كلهم اتفقوا على جواز التأخير فيه من غير شرط بأجل‬
‫وإذا جاز التفرق قبل التقابض بإجماع فضرب األجل أتم‬
‫للمعروف وأبقى للمودة‪.‬‬
‫وعول يف ذلك علماؤنا على قول النبي ﷺ‪« :‬إن رجلاً‬
‫كان فيمن كا ن قبلكم استسلف من رجل ألف دينار إلى‬
‫أجل فلما حل األج��ل طلب مرك ًبا يخرج فيه إليه فلم‬
‫قرطاسا وكتب فيه إليه ونقر خشبة فجعل فيها‬
‫ً‬ ‫يجده فأخذ‬
‫القرطاس واأللف دينار ورمى هبا يف البحر وقال‪ :‬اللهم‬
‫إنه قد قال لي حين دفعها إلي أشهد لي قلت كفى باهلل‬
‫شهيدً ا أو قال ايتني بكفيل قلت كفى باهلل كفيال‪ ،‬اللهم‬
‫أنت كفيل بإبالغها‪ ،‬فخرج صاحب األلف إلى ساحل‬
‫البحر يحتطب فدفع البحر له العود فأخذه فلما فلقه وجد‬
‫المال والقرطاس ثم إن ذلك الرجل وجد مرك ًبا فأخذ‬

‫‪284‬‬
‫المال وركب فيه وحمل إليه المال فلما عرضه عليه قال‬
‫له قد أدى اهلل أمانتك»‪ .‬فإن قيل هذا شرع من قبلنا‪ .‬قلنا‪:‬‬
‫كلما ذكر النبي ﷺ لنا مما كان عملاً لمن قبلنا يف معرض‬
‫المدح فإنه شرع لنا‪ ،‬وقد مهدنا ذلك يف كتب األصول‪،‬‬
‫وم��ن ذل��ك حديث العرايا وبيع التمر الموضوع على‬
‫األرض‪ ،‬وفيه من الربا ثالثة أوجه‪:‬‬
‫• بيع الرطب باليابس‪.‬‬
‫• والعمل بالحزر والتخمين يف تقدير المالين الربويين‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫• وتأخير بالتقابض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وليس مجرد الحاجة هو الذي رجح ولكن قصد‬
‫مرجحا كما ذكرنا فإن العرايا والقرض هي‬ ‫ً‬ ‫المعروف كان‬
‫من باب المعروف والشارع متشوف إليه‪ ،‬وكذلك نجد‬
‫التخفيف يف مجال المشاركات فأجاز فيها للحاجة بعض‬
‫الجهالة والغرر وقد يختلف العلماء يف ذلك‪.‬‬
‫أم��ا تشوف ال��ش��ارع للتعاون والتضامن فهو ثابت‬
‫َ َ َ َ ُ ْ لَىَ‬
‫بالكتاب والسنة‪ ،‬أما الكتاب فقوله تعالى‪}:‬وتعاونوا ع‬
‫ىۖ{ (المائدة‪ ،)2:‬والتعاون يف الكسب المباح‬ ‫ٱتل ۡق َو ٰ‬
‫ب َو َّ‬‫ٱل ۡ ّ‬
‫رِ ِ‬
‫‪ -1‬ابن العربي‪ ،‬القب�س ‪.790 /2‬‬

‫‪285‬‬
‫هو من الرب وما حديث األشعريين عن جمع األزواد إال‬
‫من هذا القبيل‪ ،‬ومن ذلك ما ورد يف الشركة بخصوصها‬
‫من الحديث القدسي‪ :‬إن اهلل يقول‪« :‬أنا ثالث الشريكين‬
‫ما لم يخن أحدهما صاحبه‪.)1(»...‬‬
‫وحديث السائب بن أبي السائب المخزومي أنه كان‬
‫شريك النبي ﷺ يف أول اإلسالم فلما كان يوم الفتح قال‬
‫له عليه الصالة والسالم مرحبا بأخي وشريكي ال يداري‬
‫(‪)2‬‬
‫وال يماري‪.‬‬
‫إل��ى غير ذل��ك من األخبار التي ت��دل على اإلق��رار‪،‬‬
‫ُ‬ ‫خُ َ‬
‫ويشير إلى معنى الشركة قوله تعالى‪ِ}:‬إَون تال ُِطوه ۡم‬
‫َ ۡ ُ ُ‬
‫فإِخ َوٰنك ۡ ۚم{ (البقرة‪ )220:‬يف أموال اليتامى‪ ،‬واستشهد‬
‫اب��ن رش��د الجد رحمه اهلل تعالى به على ج��واز خلط‬
‫الذهوب واقتسامها بعد الصياغة كما يف المعيار‪ ،‬ولهذا‬
‫أبيح يف شركة العنان الوكالة يف مجهول‪.‬‬
‫وأبيحت الجهالة يف مشاركات أخرى من المزارعات‬
‫والمساقاة ستأيت‪.‬‬

‫‪� -1‬أخرجه �أبو داوود وقد عل بالإر�سال و�أعله بع�ضهم بجهالة الراوي‪.‬‬
‫‪� -2‬صححه احلاكم والذهبي‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نشرها‬ ‫مرة لو أردنا َ‬ ‫تسج ُل ألول َّ‬ ‫وهذه المناحي التي َّ‬
‫ِ‬
‫كبيرا‪ ،‬لك ْن‬
‫لكانت جز ًءا ً‬ ‫ْ‬ ‫تب(‪-)1‬‬ ‫نش ُر بعدَ الطية ال ُك ُ‬ ‫‪-‬كما ُت ّ‬
‫أصول‬‫ُ‬ ‫أن المقاصدَ ِهي‬ ‫هو اإلشار ُة إ َلى َّ‬ ‫هذا َ‬ ‫مقصو ُدنا مِن َ‬
‫والمدارك أمثل ٌة للوشائجِ‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫المناحي‬ ‫ِ‬
‫وهذه‬ ‫الفقه بعينِها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫النظر وأعملنَا‬ ‫َ‬ ‫ولو أمعنَّا‬ ‫الحميمة والتداخ ِل والتواصلِ‪ْ ،‬‬
‫الفكر ألض ْفنا إليها غيرها‪.‬‬ ‫َ‬
‫البعض‬ ‫ُ‬ ‫النحو» كما عزا ُه‬ ‫َ‬ ‫«انح َ‬
‫هذا‬ ‫العلم ُ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لطالب‬ ‫ُ‬
‫فأقول‬
‫األسود الدؤلِي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يخاطب أ َبا‬
‫ُ‬ ‫اهلل عن ُه‬‫رضي ُ‬ ‫َ‬ ‫علي‬
‫إلى ِّ‬
‫َ‬
‫• خالصة القول‪:‬‬
‫وحكمها وغايا ُتها ومراميها‬ ‫ِ‬
‫الشريعة‬ ‫روح‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫إن المقاصدَ ُ‬
‫ومغازيها‪.‬‬
‫المقاصد مِن مبال ٍغ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫حول‬ ‫تباينت آرا ُء الباحثي َن‬
‫ْ‬ ‫وقدْ‬
‫حيث جعله قطع ًيا‬ ‫ُ‬ ‫لحدود عمومِها‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫متجاوز‬ ‫ِ‬
‫اعتبارها‬ ‫فِي‬
‫وجعل شمو َلها م��ط��ر ًدا‪ ،‬غافلاً أو متجاهلاً ما يعرتِى‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫معوقات‬ ‫للشمول مِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التخصيص‪ ،‬وما ينربِى‬ ‫العمو َم مِن‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫تخصها‬‫لها معان ُّ‬ ‫التنصيص‪ .‬فأل َغوا أحكا َم الجزئيات التي َ‬
‫مقصد شاملٍ‪.‬‬‫ٍ‬ ‫تحت‬‫بدعوى انضوائِها َ‬ ‫َ‬
‫‪� -1‬شطر بيت لذي الرمة �أوله‪ :‬من دمنة ن�سفت عنها ال�صبا ُ�س ُفع ًا‬

‫‪287‬‬
‫الجزئية إ َلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالنصوص‬ ‫ِ‬
‫للمقاصد متعلق‬ ‫ٍ‬
‫مجانب‬ ‫ومِ ْن‬
‫النص‬ ‫تعرتض َّ‬ ‫ُ‬ ‫والحكم التِي‬
‫َ‬ ‫غاية تلغي المقاصدَ والمعاينَ‬ ‫ٍ‬
‫فهي‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫الجزئِ َّي‪ ،‬وتحدُّ مِن مدَ ى‬
‫وتشير إلى ظرفيته‪َ ،‬‬ ‫تطبيقه‬
‫ِ‬
‫المناداة‬ ‫اعتباره إ َلى حدِّ‬ ‫ِ‬ ‫ص لمدَ ى‬ ‫والمخص ِ‬ ‫كالمق ِّي ِد ل ُه‬
‫ِّ‬
‫بإبطال المصالحِ ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الكلي‬ ‫ى‬ ‫وذاك‪ ،‬يعطِ‬ ‫َ‬ ‫هذا‬ ‫وسط بي َن َ‬ ‫ٌ‬ ‫الصحيح‬ ‫والمنهج‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المزالق‬ ‫ِ‬ ‫لهذه‬ ‫نصيبه‪ ،‬ويضع الجزئي فِي نصابِه‪ .‬وقد انتبه ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الجزئي‬ ‫ِّ‬ ‫تغييب‬‫ِ‬ ‫حذر مِن‬ ‫حيث َّ‬‫اهلل تعا َلى ُ‬ ‫الشاطبي رحم ُه ُ‬ ‫ُّ‬
‫الكلي في التعام ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عندَ مراعاة الك ِّلي‪ ،‬ومن اإلعراض عن‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬
‫مع الجزئِ ِّي‪.‬‬ ‫َ‬
‫وإذا كان بعض المقاصديين يف هذا العصر قد استشعر‬
‫إمكانية استقالل المقاصد عن علم أصول الفقه فبما قدَّ منا‬
‫ِ‬
‫الفقه‬ ‫ِ‬
‫أصول‬ ‫ِ‬
‫المقاصد َعن‬ ‫ِ‬
‫استقالل‬ ‫نكون قدْ رمينَا نظري َة‬ ‫ُ‬
‫اندماج الروحِ فِي الجسد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫االندماج بينهما‬ ‫َ‬ ‫بالفند‪ ،‬وأبنَّا‬ ‫ِ‬
‫والمعدود فِي العدد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َفإِنْ ال َي ُك ْنها َأ ْو َت ُكن ُه َفإِ َّن ُه َأ ٌخ َأ َ‬
‫رض َع ْت ُه ُأ ُّمها بِ ِلبانِها‬
‫• ضوابط التعامل مع المقاصد‪:‬‬
‫والمتعامل مع المقاصد عليه أن يراعي الضوابط‬

‫‪288‬‬
‫الثمانية التالية ‪ -‬لعله بذلك يكون أق��رب إل��ى الدقة‬
‫والصرامة العلمية ‪ -‬حتى ال يقع يف خطإ يف التعامل‬
‫وخطل يف التداول وهي‪:‬‬
‫الضابط األول‪ :‬هو التحقق من المقصد األصلي الذي‬
‫التحقق من المقصد‬‫ُّ‬ ‫من أجله ُشرع الحكم؛ ألنه بدون‬
‫األصلي ال يمكن أن يعلل به؛ إذ يمكن أن ينصرف األمر‬
‫إلى التعبد مباشرة؛ ألن األصل يف المصلحة تعبدي كما‬
‫يقول الشاطبي ألن الشارع هو الذي حدَّ دها‪ ،‬وهي مسألة‬
‫مختلف فيها‪ .‬قال إمام الحرمين‪ :‬ما ال يعقل معناه على‬
‫التثبت ال ُي َّ‬
‫حكم المعنى فيه»(‪ .)1‬ومنها عشرات المسائل‪.‬‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫الضابط الثاين‪ :‬أن يكون ذلك المقصدُ وص ًفا‬
‫ً‬
‫منضبطا؛ ألنه إذا لم يكن كذلك فال يمكن التعليل به؛‬
‫فالغرر مثال يورث البغضاء‪ ،‬والبغضاء صفة نفسية‪ ،‬فهو‬
‫من باب الحكمة التي قد نلجأ إليها للتعليل هبا على‬
‫خالف‪ ،‬وذلك عند تعذر االنضباط يف الوصف‪ ،‬قال يف‬
‫المراقي‪:‬‬

‫‪ -1‬نهاية املطلب ‪.291 /4‬‬

‫‪289‬‬
‫ومن شروط الوصف االنضباط‬
‫إال فـحـــــــــكـمـة بها يـنـاط‬
‫الضابط الثالث‪ :‬أن نحدد درج��ة المقصد يف سلم‬
‫المقاصد هل هو يف مرتبة الضروري أو مرتبة الحاجي‬
‫ألن التعامل معهما ليس على وتيرة واحدة‪ ،‬هل هو مقصد‬
‫أصلي أو تابع‪.‬‬
‫الضابط الرابع‪ :‬النظر يف النصوص الجزئية المؤسسة‬
‫للحكم ألنه من خاللها يمكن ضبط التصرف يف ضوء‬
‫تأكيد الشارع على الحكم أو عدمه للتعرف على المقصد‬
‫ومكانته وضبط التعامل معه إلغاء أو إثبا ًتا لما يعارضه من‬
‫الضرورات الحاقة أو الحاجات الماسة‪.‬‬
‫الضابط الخامس‪ :‬هل المقصد المعلل به منصوص أو‬
‫مستنبط‪ ،‬يف الحالة األولى يرتفع الحكم بزواله ويف الثانية‬
‫ال يرتفع لكنه يمكن أن يخصص كالثمنية بالنسبة للنقدين‪.‬‬
‫الضابط السادس‪ :‬أن ال يكون المقصد المعلل فيه‬
‫م��ردود ًا بقادح النقض كاالستعجال والمعاملة بنقيض‬
‫القصد‪.‬‬
‫الضابط السابع‪ :‬أن ال يكون معارضًا بمقصد آخر‬

‫‪290‬‬
‫أولى منه باالعتبار‪ ،‬فيستصحب أصل النص أو يرجح بين‬
‫مقصدين‪.‬‬
‫الضابط الثامن‪ :‬أن ال يكون محل إلغاء بالنص أو‬
‫اإلجماع أو القياس السالم من المعارض‪.‬‬
‫علم‬
‫فوق ِ‬ ‫ربى َ‬ ‫ِ‬
‫للمقاصد أصولاً ك َ‬ ‫ُ‬
‫الفصل‪َّ :‬‬
‫إن‬ ‫ُ‬
‫والقول‬
‫ِ‬
‫األص��ول‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بمباحث‬ ‫األص���ول‪ ،‬وأص��ولاً عام ًة مشتبك ًة‬ ‫ِ‬
‫ال أ َّنها ِفي خدمتِها مفصل ًة لها‬ ‫ذلك إ َّ‬ ‫أخص ِمن َ‬ ‫ُّ‬ ‫وأخرى‬
‫َ‬
‫مبين ًة تار ًة ومكمل ًة تار ًة أخرى‪.‬‬
‫تغيب عنها‬‫حكم‪ ،‬وال ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يعزب عنها‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الشريعة ال‬ ‫ُ‬
‫فمنظومة‬
‫ِح ٌ‬
‫كمة‪.‬‬
‫وهي مقصدُ‬‫ربى‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫للمقاصد الك َ‬ ‫َ‬
‫األصوليون‬ ‫وقد َّ‬
‫تفطن‬
‫ِ‬
‫التكليف‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مبحث‬ ‫ِ‬
‫واالمتثال يف‬ ‫ِ‬
‫االبتالء‬ ‫العبادة ومقصدُ‬ ‫ِ‬
‫كما اهتم الشاطبي بمقصد وضع الشريعة ابتداء لمصالح‬
‫العباد ومقصد االستخالف وغيرهما من أنواع المقاصد‬
‫التي ال تتولد عنها فروع وقد سماها ابن عاشور بالعالية‬
‫أحيا ًنا‪.‬‬
‫يتجدد عطاؤُ ه‬
‫ُّ‬ ‫زاخ���را‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ي��زال‬ ‫ال‬ ‫ِ‬
‫المقاصد َ‬ ‫بحر‬
‫لكن َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫اتجاهين‪:‬‬ ‫وذلك ِفي‬
‫َ‬ ‫وبخاصة ِفي قضا َيا الفروع المتجدِّ دة‬
‫‪291‬‬
‫تظهر‬
‫ْ‬ ‫ولم‬
‫الماضي‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الزمن‬ ‫يقم موج ُبها ِفي‬ ‫لم ْ‬ ‫قضا َيا ْ‬
‫الشاطبي‬ ‫ُّ‬ ‫أشار ِ‬
‫إليه‬ ‫كما َ‬ ‫ِ‬
‫الزمان َ‬ ‫فقام ِفي َ‬
‫هذا‬ ‫إليها‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫الحاجة َ‬
‫مقتضاها‬ ‫َ‬ ‫يكن‬
‫لم ْ‬ ‫الصحابة أحكا ًما ِفي قضا َيا ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِفي إحداث‬
‫ِ‬
‫نوازل‬ ‫يكن ِمن‬ ‫ولم ْ‬ ‫والسالم ْ‬ ‫ُ‬ ‫عليه الصال ُة‬ ‫قائما ِفي زمنِه ِ‬ ‫ً‬
‫وتضمين الصناع‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫العلم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتدوين‬ ‫ِ‬
‫المصحف‬ ‫كجمع‬
‫ِ‬ ‫زمانِه‪،‬‬
‫حسب عبارتِه‪.‬‬ ‫َ‬
‫لكن‬ ‫َّ‬ ‫العلماء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فيها‬
‫فاختلف َ‬ ‫َ‬ ‫ق��ام موج ُبها‬ ‫َ‬ ‫وقضا َيا‬
‫هذا‬ ‫ِ‬
‫المفاسد يف َ‬ ‫ترج ِح‬‫المصالح أ ِو ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رجحان‬ ‫ِ‬
‫مقتضيات‬
‫المرجوح‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالقول‬ ‫َ‬
‫األخذ‬ ‫ِ‬
‫الزمان اقت ََضت‬
‫الحب نجدُ ه عندَ العلماء‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وطريق‬ ‫واضح‬
‫ٌ‬ ‫مذهب‬
‫ٌ‬ ‫وهذا‬
‫أرجح ِمن‬‫ُ‬ ‫هو‬ ‫َ‬
‫يأخذون زما ًنا بقول َ‬ ‫ِ‬
‫المذاهب‬ ‫ِ‬
‫مختلف‬ ‫ِمن‬
‫ثم يهجرو َنه‬ ‫ٌ‬
‫واحتياط‪َّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫عزيمة‬ ‫ُ‬
‫واألخذ ُبه‬ ‫ُ‬
‫الدليل‬ ‫ُ‬
‫حيث‬
‫البلوى وعس ِر االحرتا ِز والمش َّق ِة‬ ‫الحق لعمو ِم َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِفي ٍ‬
‫وقت‬
‫ِ‬
‫المفسدة ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ودرء‬ ‫ِ‬
‫المصلحة‬ ‫ِ‬
‫وفوات‬
‫ِ‬
‫بقول‬ ‫ِ‬
‫الزمن‬ ‫ردحا مِن‬ ‫ِ‬
‫األحناف في أخذهم ً‬
‫ُ ِ‬ ‫كما َ‬
‫فعل‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫لمقتضيات‬ ‫األئمة يف بعض المسائل‪ ،‬وعد ُلوا ع ْن َ‬
‫ذلك‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫القرآن والعلو ِم‬ ‫ِ‬
‫تعليم‬ ‫االستئجار ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫الزمان‪ ،‬فأجازوا‬ ‫ِ‬
‫مع‬ ‫ِ‬
‫االرتحال َ‬ ‫المرأة مِن‬
‫ِ‬ ‫الشرعية‪ ،‬وكإجازتِهم امتنا ِع‬ ‫ِ‬

‫‪292‬‬
‫هذا‬ ‫الزمان قدْ فسدُ وا‪ ،‬وقضايا كثيرة مِن َ‬ ‫ِ‬ ‫أهل‬ ‫ألن َ‬ ‫زوجها؛ َّ‬ ‫ِ‬
‫اختالف‬
‫َ‬ ‫زمان ال‬ ‫ٍ‬ ‫خالف‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الخالف‬ ‫بعض‬ ‫النوعِ‪ ،‬وجعلوا َ‬
‫ٍ‬
‫وبرهان‪.‬‬ ‫دلي ٍل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جريان العملِ‪،‬‬ ‫لقاعدة‬ ‫أصلوا‬ ‫َّهم َّ‬ ‫أمَّ��ا المالكي ُة فإن ْ‬
‫الغرب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب�لاد‬ ‫مالك ع َلى ضوئِها فِ��ي‬ ‫ٍ‬ ‫مذهب‬ ‫فراج ُعوا‬
‫َ‬
‫يه َع ْن عم ِل‬ ‫يختلف فِ ِ‬
‫ُ‬ ‫طر ٌ‬
‫عمل‬ ‫لكل ُق ٍ‬ ‫فكان ِّ‬ ‫َ‬ ‫اإلسالمِي‪،‬‬
‫فاس وقرطب َة وتونُس‪ ،‬فأعم ُلوا‬ ‫ٍ‬ ‫المجاور‪ ،‬كعم ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القطر‬
‫راجحها إ َذا ترج ِ‬
‫المصالح‬
‫ُ‬ ‫حت‬ ‫َّ‬ ‫األقوال وأهم ُلوا ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ضعيف‬
‫َ‬
‫وحكموا‬ ‫الغوادي والروائحِ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المقاصد‬ ‫وماسوا َم َع رياحِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سبب من‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫لعروض‬ ‫القول الصحيحِ‬ ‫ِ‬ ‫بتقديم الضعيف ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مفسدة ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مصلحة أو ِ‬
‫درء‬ ‫ٍ‬ ‫جلب‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫جرى ْ‬
‫عمل‬ ‫إن َ‬ ‫الضعيف ْ‬ ‫َ‬ ‫وقدِّ م‬
‫َّصل‬ ‫قد ات ْ‬ ‫سبب ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِبه ِمن ِ‬
‫أجل‬
‫ِ‬
‫السعود‪.‬‬ ‫قال فِي مراقِي‬ ‫كما َ‬ ‫َ‬
‫الرجحان فِي مئاتِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫تعديل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور َّتبوا ع َلى هذه القاعدة‬
‫الشخصية‪َ ،‬‬
‫دون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واألحوال‬ ‫ِ‬
‫المعامالت‬ ‫المسائلِ‪ ،‬ك ّلها فِي‬
‫يجوز إجرا ُء العم ِل‬ ‫نصوا فيها على أنَّه ال‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫العبادات التي ُّ‬
‫ترك الجم ِع فِي‬ ‫واحدة هي ُ‬
‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مسألة‬ ‫فيها مع أهنم أجروه يف‬ ‫َ‬
‫‪293‬‬
‫المطر فِي عم ِل أه ِل فاس‪ ،‬قال ناظم «عمليات فاس»‪:‬‬ ‫ِ‬
‫بالقرويين جرى واألندلس‬
‫عملهم بترك جمع يا ندس‬
‫والمراد بالقرويين واألندلس‪ :‬عدوتا مدينة فاس‪.‬‬
‫يتعلق بالمفتِي مجرى العملِ‪:‬‬ ‫واشرت ُطوا شرو ًطا َ‬
‫منها َما ُ‬
‫الذي مِن أجلِه‬
‫يعرف السبب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫للفتوى‪ْ ،‬‬
‫وأن‬ ‫َ‬ ‫مِن كونِه أهلاً‬
‫ِ‬
‫القول الضعيف(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫القول الراجحِ إ َلى‬ ‫دل ِ‬
‫عن‬ ‫ُع َ‬
‫• مجاالت االستنجاد بالمقاصد ‪:‬‬
‫االستنجاد‬
‫ُ‬ ‫المجاالت التِي ُ‬
‫يجب‬ ‫ِ‬ ‫وبنا ًء ع َلى َما تقدَّ م َّ‬
‫فإن‬
‫ٍ‬
‫مجاالت‪:‬‬ ‫تتمثل ِفي ثالثِة‬
‫ُ‬ ‫فيها واستثما ِرها‬ ‫ِ‬
‫بالمقاصد َ‬
‫إعمال‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض��وء‬ ‫ِ‬
‫الفقه ع َلى‬ ‫ِ‬
‫أص���ول‬ ‫أولاً ‪ِ :‬ف��ي تفعيلِ‬
‫لتوسيع الدوائر األربع التي ذكرناها‬ ‫ِ‬ ‫المقاصد ِفي بنيتِها؛‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫االستحسان‬ ‫يف المشهد الثاين من هذا الكتاب وهي‪ :‬دائرة‬
‫ِ‬
‫المئاالت‬ ‫األقيسة وم��راع ِ‬
‫��اة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واستنباط‬ ‫واالستصالح‬
‫ِ‬
‫والذرائع‪ ،‬حتى ال تكون األصول عقيمة والفروع يتيمة‪...‬‬ ‫ِ‬
‫آخر َما أشر َنا ِ‬
‫إليه‪.‬‬ ‫إ َلى ِ‬
‫ويمكن أن نعرب عن إعمال المقاصد يف هذه الدوائر بأن‬
‫‪ -1‬تراجع ال�شروط اخلم�سة لإجراء العمل يف كتابنا «�صناعة الفتوى وفقه الأقليات»‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫مراعاة المعنى المقصدي إما أن تكون بمعنى جزئي وهو‬
‫إلحاق فرع بأصل خاص يف محل مخصوص وهذا هو‬
‫القياس‪.‬‬
‫أو إحداث حكم يف محل بناء على كلي حيث ال يوجد‬
‫أصل خاص وهذا ما يسمى باالستصالح‪.‬‬
‫أو استثناء جزئي لمعنى يخصه من كلي ثابت بالدليل‬
‫وهذا هو االستحسان‪.‬‬
‫أو تغيير حكم عما يقتضيه الظاهر نظرا إلى المئاالت‬
‫وهذا ما يسمى سد الذرائع‪.‬‬
‫هذه االتجاهات األربعة هي بحق وحقيقة مجاالت‬
‫المقاصد‪ ،‬وقد قدمنا اإلشارة إلى بعض أمثلتها وأهمها‬
‫االستحسان‪ ،‬وصدق اإلمام مالك حيث يقول‪ :‬إنه تسعة‬
‫ِ‬
‫النصوص‬ ‫ِ‬
‫عمومات‬ ‫تخصيص‬
‫ُ‬ ‫يتاح‬
‫أعشار العلم ألن به ُ‬
‫دعا ِفي العملِ وال‬ ‫وليس َ‬
‫ذلك بِ ً‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الشرعية وتقييد مطلقاهتا‪.‬‬
‫بدع َة ِمن النحلِ  ‪.‬‬
‫هذا‬‫مسألة ِمن َ‬
‫ٍ‬ ‫عن ِ‬
‫إيراد‬ ‫العربي ْ‬ ‫ِّ‬ ‫أجاب أبو بك ٍر ُ‬
‫ابن‬ ‫َ‬ ‫وقدْ‬
‫عروضا؟ بقوله‪:‬‬‫ً‬ ‫تصير النقود‬
‫ُ‬ ‫هل‬ ‫ِ‬
‫الصياغة ْ‬ ‫ِ‬
‫مسألة‬ ‫النوع ِفي‬
‫ِ‬
‫متوعدٌ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫عليه‬ ‫منصوص‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫العلماء‪ :‬الر َبا‬ ‫جماعة ِمن‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫«وقال‬
‫‪295‬‬
‫تعارضت‬ ‫ْ‬ ‫مستنبطة‪ ،‬فقدْ‬ ‫ٌ‬ ‫والمصالح‬
‫ُ‬ ‫فيه‪ ،‬والمقاصدُ‬ ‫ِ‬
‫متفق‬ ‫عليها ٌ‬ ‫منصوص َ‬ ‫ٌ‬ ‫وهي‬ ‫الربا َ‬ ‫إحداهما قاعد ُة ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫قاعدتان‪:‬‬
‫ٌ‬
‫مستنبطة‬ ‫وهي‬
‫والمقاصد‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫المصالح‬
‫ِ‬ ‫والثانية قاعد ُة‬ ‫ُ‬ ‫ِفيها‪.‬‬
‫رجح قاعد ُة‬ ‫أن ُت َّ‬ ‫يتساويان؟ فضلاً َعن ْ‬ ‫ِ‬ ‫فكيف‬‫َ‬ ‫فيها‬
‫مختلف َ‬ ‫ٌ‬
‫المصالح والمقاصد؟‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫جماعة‪.‬‬ ‫َ‬
‫القول‬ ‫هذا‬ ‫واستهول َ‬‫َ‬
‫منصوصا ِ‬
‫عليه‬ ‫ً‬ ‫وإن َ‬
‫كان‬ ‫فإن الر َبا ْ‬ ‫سمح؛ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫والجواب ِ‬
‫فيه‬ ‫ُ‬
‫والمحال‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األحوال‬ ‫عام ِفي‬ ‫وهي الزياد ُة فإ َّن ُه ٌّ‬ ‫َ‬ ‫ِفي ذاتِه‪،‬‬
‫سة‬‫المؤس ِ‬ ‫ِّ‬ ‫بالقواعد‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫فكيف‬ ‫ِ‬
‫بالقياس‬ ‫صص‬ ‫يتخ ُ‬ ‫والعموم َّ‬ ‫ُ‬
‫العامة»(‪.)1‬‬ ‫َّ‬
‫الحاجي‬ ‫هذا المفهو َم‬ ‫إسحاق الشاطبي َ‬ ‫َ‬ ‫أصل أ ُبو‬ ‫وقدْ َّ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫«ومما ينبنِي ع َلى‬ ‫َّ‬ ‫األصولي قائلاً ‪:‬‬‫ِّ‬
‫واض ًعا إيا ُه فِي ِ‬
‫إطاره‬
‫هذا األص ِل قاعد ُة االستحسان»(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫جزئية فِي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بمصلحة‬ ‫��ذ‬‫مالك‪ :‬األخ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫مذهب‬ ‫وه َ��و فِي‬
‫ِ‬
‫االستدالل‬ ‫ِ‬
‫تقديم‬ ‫الرجوع إ َلى‬
‫ُ‬ ‫مقابِ ِل دلي ٍل ك ِّل ٍّي‪ .‬ومقتضا ُه‬
‫يرجع إ َلى‬ ‫ْ‬ ‫لم‬ ‫القياس‪ ،‬فإِ َّن َمن استحس َن ْ‬ ‫ِ‬ ‫المرس ِل ع َلى‬ ‫َ‬
‫‪ -1‬ابن العربي‪ ،‬القب�س ‪.820 /2‬‬
‫‪ -2‬املوافقات ‪. 193 /5‬‬

‫‪296‬‬
‫ِ‬ ‫علم مِن‬ ‫مجر ِد ذوقِه وتشه ِ‬
‫قصد‬ ‫رجع إ َلى َما َ‬ ‫َ‬ ‫يه‪ ،‬وإن ََّما‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫تلك األشياء المفروضة ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أمثال َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الشار ِع في الجملة‪ ،‬يف‬ ‫ِ‬
‫ذلك‬ ‫أن َ‬ ‫ال ّ‬ ‫فيها أم ً��را؛ إ ّ‬ ‫القياس َ‬ ‫ُ‬ ‫يقتضي‬ ‫ِ‬ ‫كالمسائ ِل التِي‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫أخ��رى‪ ،‬أو‬ ‫األم َ��ر ي��ؤ ِّدي إ َلى ف��وات المصلحة من جهة َ‬
‫هذا فِي األصلِ‪:‬‬ ‫َّفق َ‬ ‫وكثيرا ما يت ُ‬ ‫ً‬ ‫مفسدة كذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫جلب‬
‫ُ‬
‫فيكون‬ ‫مع التكميلِ ِّي؛‬ ‫والحاجي َ‬ ‫ُّ‬ ‫الحاج ِّي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مع‬‫الضروري َ‬ ‫ُّ‬
‫��روري ي��ؤ ِّدي إ َل��ى حرجٍ‬ ‫ِّ‬ ‫القياس مطل ًقا فِي ال��ض‬ ‫ِ‬ ‫إج��را ُء‬
‫وكذلك‬ ‫َ‬ ‫موضع الحرجِ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫موارده ف ُيستثنَى‬ ‫بعض ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومشقة فِي‬ ‫ٍ‬
‫مع التكميلِ ِّي‪،‬‬ ‫فِ‬
‫الضروري َ‬
‫ِّ‬ ‫التكميلي أو‬ ‫ِّ‬ ‫مع‬‫َ‬ ‫الحاجي‬
‫ِّ‬ ‫ي‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وهو‬‫َ‬
‫كالقرض مثلاً فإنَّه ِربًا فِي‬ ‫ِ‬ ‫ول ُه فِي الشر ِع أمثل ٌة كثيرةٌ‪:‬‬
‫أبيح لِما‬ ‫أجلٍ‪ ،‬ولكنَّه َ‬ ‫بالدرهم إ َلى َ‬ ‫ِ‬ ‫الدرهم‬
‫ُ‬ ‫األصلِ؛ أل َّن ُه‬
‫بقي‬ ‫لو‬ ‫بحيث‬‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ن‬ ‫المحتاجي‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ِ‬
‫والتوسعة ع َ‬ ‫ِ‬
‫الرفق‬ ‫ن‬ ‫يه مِ‬ ‫فِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضيق ع َلى المكلفي َن‪.‬‬ ‫ذلك ٌ‬ ‫لكان فِي َ‬ ‫َ‬ ‫ع َلى أص ِل المن ِع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرطب‬ ‫بيع‬
‫تمرا؛ فإن ُه ُ‬ ‫بخرصها ً‬ ‫َ‬ ‫العرية‬ ‫ومث ُله ُ‬
‫بيع‬
‫ِ‬
‫بالنسبة‬ ‫الرفق ورف ِع الحرجِ‬ ‫ِ‬ ‫فيه مِن‬ ‫باليابس‪ ،‬لكنه أبيح لما ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫امتنع مطل ًقا لكان وسيل ًة لمن ِع‬ ‫َ‬ ‫والم َعرى‪ ،‬ولو‬ ‫المعري ُ‬ ‫ِ‬ ‫إ َلى‬
‫المتنع‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫القرض‬ ‫امتنع فِي‬ ‫َ‬ ‫النسيئة ِ‬
‫لو‬ ‫ِ‬ ‫أن ر َبا‬ ‫كما َّ‬ ‫اإلعراء‪َ .‬‬
‫‪297‬‬
‫ِ‬
‫الوجه ‪.‬‬ ‫الرفق مِن َ‬
‫هذا‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫أصل‬
‫وجمع‬ ‫ِ‬
‫للمطر‬ ‫ِ‬
‫والعشاء‬ ‫ِ‬
‫المغرب‬ ‫الجمع بي َن‬ ‫ومث ُله‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫السفر الطويل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والفطر فِي‬
‫ُ‬ ‫وقصر الصالة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المسافر‪،‬‬
‫الخوف ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وصال ُة‬
‫والقرض‬ ‫ُ‬ ‫التداوي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫العورات فِي‬ ‫ِ‬ ‫االطالع ع َلى‬‫ُ‬ ‫ومث ُله‬
‫المنع‪ ،‬وأشيا ُء‬ ‫الدليل العام ِ‬
‫يقتضي‬ ‫ُ‬ ‫وإن َ‬
‫كان‬ ‫والمساقاةُ‪ْ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫هذا القبي ِل كثيرةٌ‪.‬‬ ‫مِن َ‬
‫فإن حقي َقتَها‬ ‫هذا السبيلِ؛ َّ‬ ‫صات التِي ع َلى َ‬ ‫الرتخ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫وسائر‬
‫ُ‬
‫المآل فِي تحصي ِل المصالحِ أو درءِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعتبار‬ ‫ترجع إ َلى‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫الدليل العا ُّم يقتضي‬ ‫ُ‬ ‫حيث َ‬
‫كان‬ ‫الخصوص‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫المفاسد ع َلى‬ ‫ِ‬
‫هذا الدلي ِل العا ِّم أل َّدى‬ ‫مع أص ِل َ‬ ‫ذلك‪ ،‬ألنَّا ْلو بقينَا َ‬ ‫منع َ‬ ‫َ‬
‫فكان مِن‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫المصلحة‪،‬‬ ‫الدليل مِن‬ ‫ُ‬ ‫ذلك‬ ‫إ َلى رف ِع َما اقتضا ُه َ‬
‫المآل إ َلى أقصا ُه ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫رعي َ‬
‫ذلك‬ ‫ِ‬
‫الواجب ُ‬
‫هبذه‬ ‫القول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صحة‬ ‫األدل��ة ال��دال َِّ��ة ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫نمط مِن‬ ‫هذا ٌ‬
‫مالك وأصحا ُبه‪.‬‬ ‫القاعدة‪ ،‬وعليها بنَى ٌ‬ ‫ِ‬
‫إيثار‬ ‫ِ‬
‫تفسير االستحسان‪« :‬بأنَّه ُ‬ ‫ِ‬ ‫العربي فِي‬ ‫ِّ‬ ‫قال اب ُن‬ ‫وقدْ َ‬
‫ِ‬
‫والرتخيص‪،‬‬ ‫ِ‬
‫االستثناء‬ ‫طريق‬‫ِ‬ ‫مقتضى الدلي ِل ع َلى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ترك‬
‫بعض مقتضياتِه»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يعار ُض بِه فِي‬ ‫لمعارضة ما َ‬
‫ِ‬

‫‪298‬‬
‫ِ‬
‫األيمان‬ ‫للعرف‪ ،‬كر ِّد‬ ‫ِ‬ ‫ترك الدلي ِل‬ ‫ثم جعله أقسا ًما‪ :‬فمن ُه ُ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫األجير‬ ‫ِ‬
‫كتضمين‬ ‫ِ‬
‫إ َل��ى العرف‪ .‬وتركُه إلى المصلحة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كإيجاب الغر ِم ع َلى َمن َ‬
‫قطع‬ ‫ِ‬ ‫المشرت َِك‪ .‬أو تركُه لإلجماعِ‪،‬‬
‫القاضي‪ .‬وتركُه يف اليسير لتفاهته لرفع المشقة‬ ‫ِ‬ ‫ذنب ِ‬
‫بغلة‬ ‫َ‬
‫اليسير في‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وإيثار التوسعة على الخلق‪ ،‬كإجازة التفاض ِل‬
‫اليسير‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وصرف فِي‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وإجازة بي ٍع‬ ‫ِ‬
‫الكثيرة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫المراطلة‬
‫االستحسان عندنَا وعندَ‬ ‫ُ‬ ‫وق��ال فِي أحكا ِم القرآن‪:‬‬ ‫َ‬
‫استمر‬ ‫الدليلين‪ ،‬فالعمو ُم إ َذا‬ ‫ِ‬ ‫بأقوى‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫العمل َ‬ ‫الحنفية َ‬
‫هو‬
‫تخصيص‬ ‫ِ‬
‫يريان‬ ‫فإن مال ًكا وأ َبا حنيف َة‬ ‫والقياس إ َذا ا َّطر َد؛ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بأي دلي ٍل َ‬
‫ظاهر ْأو معنَى‪.‬‬ ‫كان من‬ ‫العمو ِم ِّ‬
‫بالمصلحة‪ ،‬ويستحس ُن أبو‬ ‫ِ‬ ‫خص‬ ‫مالك ْ‬ ‫ويستحس ُن ٌ‬
‫أن ُي َّ‬
‫بخالف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الوارد‬ ‫ِ‬
‫الصحابة‬ ‫الواحد مِن‬ ‫ِ‬ ‫يخص ِ‬
‫بقول‬ ‫أن‬‫حنيف َة ْ‬
‫َّ‬
‫ونقض الع َّلة‪ .‬وال‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫القياس‬ ‫تخصيص‬ ‫ِ‬
‫ويريان م ًعا‬ ‫القياس‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫الذي‬ ‫ثبتت تخصيصا‪ .‬وهذا ِ‬ ‫الشافعي لع َّل ِة الشر ِع إ َذا ْ‬ ‫َيرى‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫اقتصار ع َلى‬ ‫ٍ‬ ‫مآالت األحكا ِم مِن ِ‬
‫غير‬ ‫ِ‬ ‫نظر فِي‬ ‫هو ٌ‬ ‫ال َ‬ ‫قا َ‬
‫والقياس العا ّم»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫مقتضى الدلي ِل العا ِّم‬ ‫َ‬
‫تدخ ُل‬ ‫لما تقدَّ م مِن كال ِم الشاطبي فأقول‪ :‬قدْ ُ‬ ‫ونتيج ًة َ‬
‫ِّ‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.209 - 205 /4‬‬

‫‪299‬‬
‫يكون عمو ًما‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الغالب‬ ‫تخصيص عمو ٍم‪ ،‬وفِي‬ ‫ِ‬ ‫الحاج ُة فِي‬
‫ضعي ًفا‪ ،‬كإجازة مالك تالوة القرآن للحائض‪ ،‬والحيض‬
‫جنابة‪ ،‬وإجازة ابن قدامة للسفتجة مع ما فيها من مفهوم‬
‫«قرض جر نف ًعا» للمصلحة‪ ،‬وإجازة الشافعية لبيع أرزاق‬
‫الجند قبل قبضها‪ ،‬وهم ال يجيزون البيع قبل القبض‪.‬‬
‫عليها‬ ‫��ون الجزئي ُة ال���وار ُد‬ ‫أن ت��ك َ‬ ‫الضعف ْ‬ ‫ِ‬ ‫ومعنَى‬
‫َ‬
‫ويختلف فِي دخولِها فِي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الصور‪،‬‬ ‫ِ‬
‫نوادر‬ ‫التخصيص مِن‬‫ُ‬
‫حكم العا ِّم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قال فِي مراقِي السعود‪:‬‬ ‫َ‬
‫َاد ٌر فِي ِذي ال ُع ُمو ِم َيدْ ُخ ُل‬ ‫هل ن ِ‬ ‫ْ‬
‫َف ُينْ َق ُل‬‫ومـــــط َل ٍق ْأو ال ِخال ٌ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫لندرة‬ ‫ببال المتك ِّلم‬ ‫ال يخطر غال ًبا ِ‬ ‫ِ‬
‫بالنادر َما َ‬ ‫ويعنِي‬
‫ُ‬
‫تجوز المسابق ُة ع َلى الفيلِ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بعضهم‪َ :‬‬
‫ال‬ ‫قال ُ‬ ‫وقوعه‪ ،‬ولذا َ‬ ‫ِ‬
‫سبق إلاَّ‬
‫ال َ‬ ‫ذلك قوله ﷺ « َ‬ ‫واألصل فِي َ‬ ‫ُ‬ ‫بعضهم‪.‬‬ ‫وجوزها ُ‬ ‫َّ‬
‫خف»‪.‬‬ ‫فِي ٍّ‬
‫ِ‬
‫اإلثبات‬ ‫قال زكر َّيا‪ :‬وج ُه عمومِه مع أن ُه نكر ٌة واقع ٌة فِي‬
‫خف»‪،‬‬ ‫كان فِي ٍّ‬ ‫إن َ‬ ‫ال ْ‬‫التقدير «إ ّ‬
‫ُ‬
‫الشرط معنًى‪ِ ،‬‬
‫إذ‬ ‫ِ‬ ‫أنَّه فِي ح ِّي ِز‬

‫‪300‬‬
‫تعم(‪.)1‬‬ ‫سياق َّ‬ ‫والنكر ُة فِي ِ‬
‫الشرط ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نسى‪،‬‬ ‫ال َت َ‬ ‫للقرآن‪ ،‬حتَّى َ‬ ‫الحائض‬ ‫مالك تالو َة‬ ‫ٌ‬ ‫وأجاز‬
‫َ‬
‫ص لعام‪.‬‬ ‫مخص ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫وهو‬
‫َ‬
‫ليست مِن‬ ‫ْ‬ ‫ص الحاج ُة ‪َ -‬‬
‫وهي‬ ‫تخص ُ‬ ‫ِّ‬ ‫كيف‬
‫قلت‪َ :‬‬ ‫وإ َذا َ‬
‫ِ‬
‫الكتاب‬ ‫ِ‬
‫وظواهر‬ ‫ِ‬
‫نصوص‬ ‫صات اللفظية ِ‪ -‬مِن‬ ‫المخص ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫والقياس؟‬ ‫ِ‬
‫وغيرها كاإلجما ِع والمفهو ِم بنوعيه‬ ‫ِ‬ ‫والسن ِّة‬
‫التخصيص للمعنى وه��و مقصد‬ ‫ُ‬ ‫يعزى‬ ‫قلت‪ :‬إنَّما َ‬ ‫ُ‬
‫معروف فِي‬ ‫ٌ‬ ‫أمر‬
‫وذلك ٌ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الحاجة‪،‬‬ ‫التيسير المعتمد ع َلى‬
‫عن الشاطبِ ِّي‪.‬‬ ‫المذهبين الحنفي والمالكِي كما تقدَّ م ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫المسائل التِي‬ ‫َ‬ ‫أن ِ‬
‫هذه‬ ‫ِ‬
‫عليه َّ‬ ‫ينبغي التنبي ُه‬ ‫وإن ال ِ��ذي ِ‬ ‫َّ‬
‫تخصيصا‬ ‫كانت‬
‫ْ‬ ‫للحاجة؛ فإنَّها ْ‬
‫وإن‬ ‫ِ‬ ‫أجازها‬ ‫َ‬ ‫أجازها َمن‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫والنهي‬ ‫ِ‬
‫للقرآن‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الجنب‬ ‫ِ‬
‫قراءة‬ ‫النهي ع ْن‬ ‫ِ‬ ‫مِن العمو ِم فِي‬
‫القبض؛ فإنَّه‬ ‫ِ‬ ‫قبل‬ ‫والنهي َعن بي ٍع َ‬ ‫ِ‬ ‫يجر نف ًعا‪،‬‬ ‫قرض ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ع ْن‬
‫حديث‬ ‫َ‬ ‫المخصوصة؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫ِ‬ ‫ضعيف فِي المسائ ِل‬ ‫ٌ‬ ‫عمو ٌم‬
‫حديث‬ ‫ُ‬ ‫وهو‬ ‫ِ‬ ‫جنابة ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الجنب جا َء فِي‬ ‫ِ‬
‫الحائض‪َ ،‬‬ ‫غير‬ ‫معرض‬
‫لراوي‬ ‫بالنسبة ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النادرة‬ ‫ِ‬
‫الصورة‬ ‫ِ‬
‫بمنزلة‬ ‫الحيض‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫فكان‬ ‫علي‪،‬‬
‫ٍّ‬
‫الحديث‪.‬‬
‫‪� -1‬سيدي عبد اهلل ن�شر البنود ‪ 208/ 1‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫تشتمل‬ ‫ُ‬ ‫السفتجة ‪ -‬وهي منفع ٌة َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫فإن استثنا َء‬ ‫وكذلك َّ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫بالنسبة للمتك ِّلم؛ فإنَّه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النادرة‬ ‫ِ‬
‫الصور‬ ‫ع َلى زيادة ‪ -‬مِن‬
‫باألصالة الزياد َة‬ ‫ِ‬ ‫جر النف ِع فإنَّه يعنِي‬ ‫عند َما يتحدَّ ُ‬
‫ث َعن ِّ‬
‫ف‬ ‫ذلك‪ .‬وع َلى هذا نبه ابن قدام َة مِن طر ٍ‬ ‫نحو َ‬ ‫أو الهد َّي َة أو ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ ُ‬
‫بخصوصها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تحريمها أي‬ ‫ِ‬ ‫نص فِي‬ ‫قال‪ :‬إن ُه َ‬ ‫خفي عند َما َ‬
‫ال َّ‬ ‫ٍّ‬
‫نوادر‬ ‫أن‬ ‫ِ‬
‫ذلك في مسألة األرزاق‪ ،‬ومعلو ٌم َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مثل َ‬ ‫و ُق ْل َ‬
‫َ‬
‫كما أسل ْفنا(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫مختلف فِي‬ ‫ِ‬
‫دخولها في العمو ِم َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫الصور‬
‫فهل يمكن أن يقال إن النهي عن التصوير ال يشمل‬
‫الصورة الفوتغرافية ألهنا صورة نادرة غير موجودة يف‬
‫ذلك العصر فال تكون مشمولة بالعموم أو اشرتاكها معها‬
‫من باب االشرتاك اللفظي غير المؤثر كخنزير الماء كما‬
‫يقول ابن رشد يف البداية‪.‬‬
‫الفقه‪ ،‬ولكنَّ ُه سيجدِّ ُده‬ ‫ِ‬ ‫ذلك ل ْن يغ ِّير بناء أص ِ‬
‫��ول‬ ‫إن َ‬ ‫َّ‬
‫َ َ‬
‫ويمنحه الحيوي َة الالز َمةَ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫تقديم اجتهاد مستق ٍل‬ ‫ٍ‬ ‫سيتاح‬ ‫هذا التفعي ِل‬ ‫ِ‬
‫وفِي ضوء َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫االجتهاد‪ ،‬التِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آليات‬ ‫ِ‬
‫خالل‬ ‫الجديدة مِن‬ ‫ِ‬ ‫فِي القضا َيا‬
‫ِ‬
‫االقتصادية‬ ‫ِ‬
‫المشكالت‬ ‫كل‬ ‫استيعاب ِّ‬‫ِ‬ ‫ستكون قادر ًة ع َلى‬ ‫ُ‬
‫‪ -1‬ينظر كتابي «�صناعة الفتوى»‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫ِ‬
‫دراسة‬ ‫ينطلق مِن‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬ ‫المناط ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تحقيق‬ ‫ِ‬
‫واالجتماعية‪ ،‬بعدَ‬
‫بكل تعقيداتِه‪.‬‬ ‫الواق ِع ِّ‬
‫المناسبة التِي تح ِّق ُق المقاصدَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األق��وال‬ ‫اختيار‬
‫ُ‬ ‫ثان ًيا‪:‬‬
‫��ت نسبتُها‬ ‫كانت مهجورةً‪ ،‬ما دام ْ‬ ‫ْ‬ ‫الشرعيةَ‪ ،‬حتَّى ول ْ��و‬
‫ودعت إليها الحاجةُ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ثقة‪،‬‬ ‫صحيحةً‪ ،‬وصادر ًة عن ٍ‬
‫ْ‬
‫اشرتطها المالكي ُة للعم ِل‬ ‫َ‬ ‫الشروط الثالث ُة التِي‬ ‫ُ‬ ‫هي‬
‫تلك َ‬ ‫َ‬
‫بالضعيف‪.‬‬
‫قوي بسبب ظهور دليله‬ ‫ضعيف ع َلى ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ترجيح ٍ‬
‫قول ٍّ‬ ‫قول‬ ‫ُ‬
‫وهذا‬ ‫أو كثرة القائلين به‪ ،‬فيرجح عليه القول الضعيف‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫المقصد فِي‬
‫ِ‬ ‫قو ِة‬
‫الوقت‬ ‫الرتجيح كما أسلفنَا يعتمدُ ع َلى َّ‬ ‫ُ‬
‫الحاضر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬
‫أبواب‪.‬‬ ‫هذه المعايير سأضرب أمثل ًة مِن ِ‬
‫عدة‬ ‫فألطب َق ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫قبل‬ ‫الحج مثلاً مسأل ُة الرمِي َ‬ ‫ِّ‬ ‫ففي‬ ‫بالعبادات‪ِ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ألب��د َأ‬
‫العلم‪ ،‬وقدْ‬ ‫ِ‬ ‫لقول ِ‬
‫أكثر أه ِل‬ ‫ِ‬ ‫مخالف‬ ‫ٌ‬ ‫قول‬ ‫ال��زوال وهو ٌ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫والفقهاء‬ ‫الصحابة والتابعي َن‬ ‫ِ‬ ‫العلماء مِن‬ ‫ِ‬ ‫بعض‬‫قال ِبه ُ‬ ‫َ‬
‫ابن أبِي شيبة‪،‬‬ ‫عباس عندَ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫منقول َعن ِ‬
‫ابن‬ ‫ٌ‬ ‫فهو‬
‫اآلخري َن؛ َ‬
‫وعطاء فِي‬ ‫ٍ‬ ‫وقول طاووس‬ ‫ُ‬ ‫الزبير عندَ الفاكِهي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ابن‬‫وع ْن ِ‬
‫اهلل عنه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إحدَ ى الروايتين‪ ،‬واإلم��ا ِم‬
‫رضي ُ‬ ‫َ‬ ‫الباقر‬ ‫محمد‬
‫‪303‬‬
‫ابن عقي ٍل‬ ‫قول ِ‬ ‫وهو ُ‬ ‫والرواي ُة المرجوح ُة َعن أبِي حنيفةَ‪َ ،‬‬
‫والرافعي من الشافعية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الحنابلة‪،‬‬ ‫الجوزي مِن‬ ‫ِ‬
‫وابن‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وجها بأن األيام كلها وقت رمي‬ ‫وخرج إمام الحرمين ً‬
‫فلو رمى يف أي يوم منها كان أداء وصح رميه وهو وجه‬
‫غريب‪.‬‬
‫يدل‬ ‫الذي ُّ‬ ‫القول الراجح فيستندُ إلى فع ِل الشار ِع ِ‬ ‫ُ‬ ‫أما‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫الزوال ‪.‬‬ ‫أي بعد‬ ‫وجوب الرمي يف هذا الوقت؛ ْ‬ ‫ِ‬ ‫على‬
‫الواجب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الحج منها‬‫ِّ‬ ‫َ‬
‫أفعال‬ ‫مجمل؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫ٌ‬ ‫وفعل الشار ِع‬ ‫ُ‬
‫خالف‬ ‫َ‬ ‫كالتحصيب مثلاً ‪ ،‬وقدْ‬ ‫ِ‬ ‫الجائز‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومنها السنَّة‪ ،‬ومنها‬
‫وأقرهم‬ ‫الرتتيب‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫عليه الصال ُة والسال ُم فِي‬ ‫بعضهم أفعا َله ِ‬ ‫ُ‬
‫حرج‪.‬‬
‫ال ْ‬ ‫ذلك قائلاً ‪ْ :‬‬
‫افعل و َ‬ ‫ع َلى َ‬
‫بعضهم نسبه ابن جرير‬ ‫باإلضافة إلى أن الرمي سنَّ ٌة عندَ ِ‬
‫إلى أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها‪.‬‬
‫ِ‬
‫األفعال‬ ‫ِ‬
‫وجوب‬ ‫ودالل ُة «خذوا عني مناسككم» ع َلى‬
‫ِ‬ ‫األمر مِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لما فِي‬ ‫ِ‬ ‫ضعيف ٌة مِن‬
‫الخالف‬ ‫داللة‬ ‫وجهين‪ :‬أولاً ‪َ :‬‬
‫والقدر‬ ‫والوقف‬
‫ُ‬ ‫والندب‬ ‫الوجوب‬ ‫عشر قولاً ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ففيه اثنا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫والتفصيل‪ ..‬إلخ‪.‬‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المشرتك‬
‫الحج ومستحباتِه‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫بسنن‬ ‫مخصوص‬
‫ٌ‬ ‫و«مناسككم» عا ٌّم‬
‫‪304‬‬
‫ِ‬
‫المواصالت‬ ‫ُ‬
‫وسائل‬ ‫عصر‬‫ٍ‬ ‫أما الواقع‪ :‬فكثر ُة الحجاجِ فِي‬
‫هلكت‬ ‫ْ‬ ‫الزمان فأ َّدت لزحا ٍم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وقاربت‬ ‫َ‬
‫المكان‬ ‫ِ‬
‫ضيقت‬ ‫ِ‬
‫فيه‬
‫ِ‬
‫وتضاعفت المشقةُ‪.‬‬ ‫األنفس‬ ‫ِ‬
‫فيه‬
‫ُ‬
‫األنفس إحدى‬ ‫ِ‬ ‫الشرعي‪ :‬المحافظ ُة ع َلى‬ ‫المقصدُ‬
‫ُۡ‬ ‫َ اَ ُّ َ ۡ ُ ُ ٓ ْ َ ُ َ ُ ۡ َّ هَّ َ اَ َ‬
‫الضرورات }ول تقتلوا أنفسك ۚم إِن ٱلل كن بِكم‬
‫ِيما{ (النساء‪.)29:‬‬ ‫َرح ٗ‬
‫َ َ ُ‬
‫التيسير‪َ }:‬و َما َج َعل َعل ۡيك ۡم‬ ‫ُ‬ ‫اآلخر‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الشرعي‬
‫ُّ‬ ‫المقصدُ‬
‫ِ‬ ‫ج{ اآلي ُة مِن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫الحج ‪ ،)78‬وال‬ ‫ِّ‬ ‫(سورة‬ ‫ِين م ِۡن ح َر ٖ ۚ‬ ‫يِف ٱدل ِ‬
‫الحج بدلي ِل «افعل وال حرج»‪ ،‬وأدل ٌة‬ ‫ِ‬
‫فريضة‬ ‫س َّيما فِي‬
‫ِّ‬
‫كثير ٌة ال تحصى‪.‬‬
‫النتيجةُ‪:‬‬
‫راجحا ومتعينًا‬ ‫ً‬ ‫الشرعي‬
‫ُّ‬ ‫القول المرجوح َجعله المقصدُ‬
‫قبل الزوال‪.‬‬ ‫فيجوز الرمي َ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫قوي بسبب ظهور دليله‬ ‫ضعيف ع َلى ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ترجيح ٍ‬
‫قول ٍّ‬ ‫قول‬ ‫ُ‬
‫وهذا‬ ‫أو كثرة القائلين به‪ ،‬فيرجح عليه القول الضعيف َ‬
‫ِ‬ ‫المقصد فِي‬ ‫ِ‬ ‫قو ِة‬
‫الوقت‬ ‫الرتجيح كما أسلفنَا يعتمدُ ع َلى َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫الحاضر ‪.‬‬
‫القول الراجحِ‬ ‫ِ‬ ‫إن مكان َة‬ ‫أق��ول لطلبتِي َّ‬ ‫ُ‬ ‫ولهذا فإنَّي‬ ‫َ‬
‫‪305‬‬
‫ِ‬
‫عليه‬ ‫محفوظةٌ‪ ،‬وحقو َقه مصونةٌ؛ لك َّن المقاصدَ تح ُكم‬
‫تختفي‬ ‫التقاعد‪ ،‬ريثما ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال تحي ُله إ َلى‬ ‫إجازة‪ ،‬و َ‬‫ٍ‬ ‫بالذهاب فِي‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫الضعيف مكانَه ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫القول‬ ‫تبوأ‬ ‫المصلح ُة التي من أجلِها َّ‬
‫النظر فِي الدلي ِل‬ ‫ِ‬ ‫ميزان يتم َّث ُل فِي‬
‫ٍ‬ ‫يحتاج إ َلى‬‫ُ‬ ‫األمر‬
‫ولك َّن َ‬
‫ظاهرا‬ ‫يكون إ َّ‬
‫ال‬ ‫ُ‬ ‫الذي قدْ َ‬
‫ال‬ ‫القول الراجح ِ‬ ‫ُ‬ ‫الذي يستندُ ِ‬
‫إليه‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قياسا ْأو فعلاً محتملاً ‪.‬‬ ‫ْأو ً‬
‫ُ‬
‫يكون‬ ‫الثبوت قدْ‬ ‫ِ‬ ‫وأيضا مِن ِ‬
‫جهة‬ ‫الداللة‪ً .‬‬ ‫ِ‬ ‫هذا مِن ِ‬
‫جهة‬
‫ونحوه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫آحاد‬ ‫خربَ‬
‫َ‬
‫يكون مِن أه ِل‬ ‫َ‬ ‫يجب ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫الضعيف‬ ‫ِ‬
‫بالقول‬ ‫َ‬
‫القائل‬ ‫إن‬‫ثم َّ‬ ‫َّ‬
‫ألن ُيقتدَ ى هبِم‪.‬‬ ‫أهل ْ‬ ‫رفت مكانتُهم‪ ،‬وأنَّهم ٌ‬ ‫العلم الذي َن ُع ْ‬ ‫ِ‬
‫متاحا‪ْ ،‬بل ومتعينًا ‪.‬‬ ‫بالمقصد ً‬ ‫َ‬ ‫الرتجيح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يكون‬ ‫َ‬
‫وبذلك‬
‫هذا النو ِع فِي مختلف‬ ‫عشرات المسائ ِل مِن َ‬ ‫ُ‬ ‫ولدينا‬
‫الفقه وال س َّيما يف المعامالت التي تستندُ إلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أب��واب‬
‫ِ‬
‫الضرورات‪.‬‬ ‫لة منزل َة‬ ‫المنز ِ‬
‫الضرورات والحاجات َّ‬ ‫ِ‬
‫تفعيل النظرية المقاصدية فِي وضع فلسفة إسالمية‬ ‫ُ‬ ‫ثال ًثا‪:‬‬
‫شاملة تجيب على األسئلة التي يطرحها العصر يف مختلف‬
‫القضايا الكربى التي تشغل اإلنسان وشغلته منذ القدم يف‬
‫الكون والنظم السياسية واالقتصادية واالجتماعية لتفسير‬
‫‪306‬‬
‫مختلف الظواهر اإلنسانية ومظاهر العالقات وتقديم‬
‫قوانين عامة تنطلق من ثنائية الوحي والعقل‪.‬‬
‫وهي فلسفة تبدأ بإرساء المنهج وتحرير المفردات‬
‫وعقد المقارنات ووضع الكليات بعد استقراء الجزئيات‬
‫ودراسة التجارب البشرية والمقوالت المتنوعة‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن االتفاق واالختالف معها آخ��ذة يف االعتبار‬
‫ضرورات الحياة وحاجياهتا يف كل زمان ومكان‪.‬‬
‫ولعل سلوك المجتمع ومؤسساته وعالقة الفرد هبا‬
‫ونوع السلوك اإلنساين يف الجملة هو الجانب الذي ال‬
‫يزال يحوم حوله الباحثون‪.‬‬
‫والمباحث الفلسفية كثيرة ومتنوعة بتنوع قضايا‬
‫واهتمامات اإلنسان المعرفية والروحية والمادية يف‬
‫محاولة إليجاد قانون ما يكون مرتكزا لحكم ما أو مقاربة‬
‫من نوع ما تؤسس لتوجه أو تفسر ظاهرة أو سلوكًا‪.‬‬
‫المجال السياسي‪:‬‬
‫��ورى‬ ‫ِ‬
‫م��ي��دان ال��ن��ظ ِ‬
‫��م؛ ك��ال��ش َ‬ ‫وي��ج��د ذل��ك تطبيقه يف‬
‫ِ‬
‫المجالس النيابية وأنواع التمثيل‬ ‫ِ‬
‫وانتخاب‬ ‫ِ‬
‫والديمقراطية‬
‫المباشر وغير المباشر‪.‬‬
‫‪307‬‬
‫إن نظام الشورى يصب يف جدول واحد هو «العدالة» يف‬ ‫َّ‬
‫أن توفر لإلنسان ما نقدر ونظن َّ‬
‫أن‬ ‫اإلسالم‪ ،‬والتي بإمكاهنا ْ‬
‫الديمقراطي َة تبحث عنه من إسعاد‪ ،‬وما نظن أهنا لم تصل‬
‫إليه َبعدُ باعتبار الديمقراطية كالشورى وسيلة وليست‬
‫غاية‪ ،‬والديمقراطية محطة من محطات اإلبداع اإلنساين‬
‫وليست هناية التاريخ‪ ،‬فالبحث عن إسعاد اإلنسان إذن هو‬
‫هدف مشرتك للديمقراطية والشورى م ًعا‪.‬‬
‫والشورى نظام متعدد األوج��ه واألشكال قائم على‬
‫دعامتين‪ ،‬دعامة الرتاضي ودعامة العدل‪ ،‬وهو بحث‬
‫دائم عن األفضل للوصول إلى األمثل‪ ،‬وليس لمصلحة‬
‫األكثرية دون األقلية‪ ،‬بل لمصلحة الجميع‪.‬‬
‫ي��ؤخ��ذ على ال��ش��ورى أهن��ا ل��م تتجسد ت��اري��خ�� ًي��ا يف‬
‫مؤسسات محكمة صادة عن االستبداد مانعة من حيف‬
‫الحكام‪ ،‬ونحن ال ننكر الحاجة إلى ذلك‪ ،‬ولكنها يف وقت‬
‫فاعلية النظام اإلسالمي أعطت أفضل ما يمكن يف وقت‬
‫ما من التاريخ بحسب الزمان واإلنسان إال أنه يجب أن‬
‫ينظر إليها كموجه وليس كنظام مفصل‪ ،‬واإلنسان مكلف‬
‫شر ًعا بصياغة ذلك النظام طب ًقا للموجهات الكربى التي‬
‫‪308‬‬
‫يجب أن تتضافر ليكون نظام شوري وهي‪ :‬العدل الذي‬
‫يستبعد حيف األكثرية األثنية أو الدينية على األقلية من‬
‫أي نوع‪ .‬والرتاضي الذي ال يفرز أقلية ساخطة كما هو‬
‫حال الديموقراطية‪ ،‬إننا من خالل نظام شوري حقيقي‬
‫يمكن أن نداوي ذلك الخلل‪.‬‬
‫إن مقاصد الشريعة هي النرباس لتكوين مثل تلك‬
‫الفلسفة‪.‬‬
‫كثيرا وثناء جميال‬
‫لقد قالوا عن الديموقراطية شي ًئا ً‬
‫ومنه‪ :‬إن الديمقراطية هي النظام الذي يعرتف باألفراد‬
‫والجماعات بوصفهم ذوا ًتا‪ ،‬أي النظام الذي يحميهم‪.‬‬
‫والديمقراطية تتحدد على نحو أوضح باألعداء الذين‬
‫تقارعهم أكثر مما تتحدد بالمبادئ التي تدافع عنها‪.‬‬
‫ينبغي تحديد الديمقراطية ال بوصفها تغ ُّلب الجامع‬
‫وال��ش��ام��ل على الخصوصيات‪ ،‬ب��ل بوصفها مجمل‬
‫الضمانات المؤسساتية التي تتيح الجمع بين وحدة‬
‫العقل الوسائلي وبين تنوع الذاكرات‪ ،‬الجمع بين التبادل‬
‫والحرية‪ .‬فالديمقراطية هي سياسة االعرتاف باآلخر(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬يراجع يف ذلك كتاب �أالن تورين «ما هي الدميوقراطية» من�شورات دار ال�ساقي ط‪.2‬‬
‫‪309‬‬
‫هذا أفضل ما يقال عنها إال أن بعضهم يقول ‪ -‬الفيلسوف‬
‫أن الديمقراطية لم‬ ‫الفرنسي أالن باديو ‪« :-‬والحقيقة ّ‬
‫تستطع أن تخ ّفف حدّ ة العنف داخل المجتمعات الغربية‬
‫إال بواسطة تحويل هذا العنف إلى الخارج‪.‬‬
‫الواليات المتحدة األمريكية هي يف حالة حرب شبه‬
‫دائمة منذ قرن ونصف‪ ،‬إذا اعتربنا ‪،1918 - 1914‬‬
‫حروب التحرير‪ ،‬حرب كوريا‪ ،‬حرب فيتنام‪ ،‬العراق‪،‬‬
‫الصراع الفلسطيني ‪ -‬اإلسرائيلي‪ ..‬دون أن ننسى الحروب‬
‫الثانوية حيث تتدخل الديمقراطيات َك َي ٍد ثانية‪ ،‬إهنا لكذبة‬
‫أن نقول إنه بفضل الديمقراطيات نحن نعيش يف عالم بال‬
‫عنف‪ .‬الديمقراطية لم تنه العنف بل صدّ رته إلى الخارج‬
‫ألنّه إذا كانت ساحة ديمقراطية خاضعة للرأسمالية تريد‬
‫نسبي‪.‬‬
‫البقاء‪ ،‬عليها أن تكون ساحة رخاء ّ‬
‫إن مسارات الديمقراطية كما هي ال تكفي الحتواء‬ ‫ّ‬
‫الصراعات والصدامات الطبقية الناجمة عن الفوارق‬
‫يتحول ذلك إلى عنف‪ ،‬يجب‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعية‪ ،‬ولكي ال‬
‫إيجاد نوع من الرخاء يظهر وكأنه ال يوجد يف أماكن‬
‫أخرى‪ .‬ويجب حماية هذا الرخاء‪ ..‬هكذا يولد مفهوم‬
‫‪310‬‬
‫ّ‬
‫التدخالت‬ ‫الحماية‪ ،‬القوانين ضدّ المهاجرين األجانب‪،‬‬
‫إن العنف صاحب عملية تراكم الرأسمال‬ ‫العسكرية‪ّ ...‬‬
‫البدائي وظهور الديمقراطيات‪ ،‬أ ّما االزدهار الرأسمالي‬
‫فقد كان على حساب شعوب‪ ،‬منها التي أفنيت تماما‪،‬‬
‫وقد وقعت حروب ومجازر ال حصر لها‪ .‬وهذا العنف ما‬
‫مستمرا‪ ،‬وال يمكن له إال أن ينمو ويتسع يف ظروف‬
‫ً‬ ‫زال‬
‫كهذه‪...‬‬
‫يتم استخدام مبادرات جديدة سياسية‬ ‫صدقني إذا لم ّ‬
‫مروعة‪.‬‬
‫وشعبية‪ ،‬فإننا نسير نحو حروب ّ‬
‫هل معنى ذلك أن نتخلى عن الديمقراطية؟‬
‫فرنسي‪ ،‬أع��رف أنني أتمتّع بالكثير من‬‫ّ‬ ‫كمواطن‬
‫االمتيازات‪ ،‬إذن أطلب فقط أن نعي ثمنها الباهظ‪ ،‬والذي‬
‫يزداد ارتفاعا يوما بعد يوم‪.‬‬
‫لقد أثرت ‪ -‬منذ قليل ‪ -‬عدد ضحايا الشيوعية‪ ،‬نستطيع‬
‫أن نجيب‪ ،‬إنّه ومنذ الخمسينات من القرن الماضي‪ ،‬قتلت‬
‫الواليات المتحدة وحلفاؤها يف الغرب من الناس ما لم‬
‫تفعله أي بالد أخرى‪ .‬إنني عائد من إسرائيل وفلسطين‬
‫حيث رأيت هذا الجدار الذي يمتدّ على طول الض ّفة‪..‬‬
‫‪311‬‬
‫ما الذي لم نفعله تجاه حائط برلين؟ واآلن نبني جدرانا‬
‫كل مكان‪ ،‬فلسطين المكسيك‪ ...‬وبعدد من القتلى‬ ‫يف ّ‬
‫الحديدي (نسبة‬
‫ّ‬ ‫إن الستار‬ ‫يضاهي قتلى الشيوعية‪ّ ..‬‬
‫للعالم الشيوعي السابق) كان يمنع الناس من الخروج‪..‬‬
‫والجدران األمنية الحالية تمنعهم من الدخول‪ ..‬األنظمة‬
‫تورد العنف للداخل‪ ،‬والديمقراطية تصدّ ره‪...‬‬ ‫االشرتاكية ّ‬
‫أن ت��ك��ون ج�لاد ش��ع��وب أخ���رى ع��وض��ًا ع��ن شعبك‬
‫بالتحديد‪ ،‬هل هذا أمر مح ّبذ فعلاً ؟»(‪.)1‬‬
‫وي��ق��ول الفيلسوف األل��م��اين ل��ي��و س��ت�راوس‪« :‬إن‬
‫الديمقراطية هي استبداد العدد األكرب»‪ ،‬وفعال فإنك ترى‬
‫األكثرية ولو كانت بنسبة قليلة من األصوات المعرب عنها‬
‫تستأثر بالحكم والثروة واألقلية محرومة ومضطهدة وقد‬
‫يدوم ذلك وقتًا طويال حيث يستعمل الحزب الحاكم كل‬
‫الوسائل للبقاء يف الحكم‪.‬‬
‫أال يحق لنا أن نوجد نظا ًما مستوحى من مبدإ الشورى‬
‫ومقصد العدالة األعلى؛ إليجاد حل أفضل‪ ،‬ونعنى‬
‫بالديمقراطية والشورى حقيقة النظامين ال الصور المزيفة‬
‫‪ -1‬مقابلة ‪ Liberation‬الثالثاء ‪ 27‬يناير ‪2009‬م ‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫والمنافقة كتلك االنتخابات التي تمثل ديمقراطية الواجهة‬
‫يف بعض النظم العربية(‪.)1‬‬
‫يف المجال االقتصادي‪:‬‬
‫يمكن اعتبار مقاصد الشريعة يف المعامالت المالية‬
‫ممثلة للفلسفة اإلسالمية للمعامالت يف اإلطار الجامع‬
‫الناظم لمختلف فروعها‪ ،‬بينما تعترب األحكام الفقهية‬
‫التفصيلية لمختلف األبواب والمتعلقة بالعقود وشروطها‬
‫والتي تنشأ عنها الصحة والبطالن بمنزلة التشريعات‪.‬‬
‫إن موقف الشريعة الفريد من المال ينسجم مع الحقيقة‬
‫التي عليها يقوم بناء هذا الدين من أن الكون كله ملك هلل‬
‫جل وعال فليس المال فقط وإنما اإلنسان أيضا يف كل‬
‫اَ‬ ‫ُ ۡ َّ‬
‫وحركاته‪}:‬قل إ ِ اَن َصل يِت‬ ‫تقلباته وتصرفاته وسكناته‬
‫رَ َ‬ ‫َ‬ ‫هَّ َ ّ ۡ َ ٰ َ‬ ‫اي َو َم َ‬‫م َي َ‬ ‫َ حَ ۡ‬ ‫َون ُ ُ‬
‫شيك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫‪١٦٢‬‬ ‫ني‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ٱل‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫للِ‬ ‫ات‬‫يِ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ك‬ ‫يِ‬ ‫س‬
‫ني‪( {١٦٣‬األنعام‪162 :‬‬ ‫ت َو َأنَا ۠ أَ َّو ُل ٱل ۡ ُم ۡسلِم َ‬‫هَ ُلۥ َوب َذٰل َِك أُم ِۡر ُ‬
‫ِ‬ ‫ۖ ِ‬
‫‪.)163 -‬‬
‫بقدر ما يخضع اإلنسان كيانه لهذه الحقيقة يكون‬
‫صالحه وتمام النعمة عليه ورضاه‪َ } :‬و َما أِلَ َحد ع َ‬
‫ِندهۥُ‬
‫ٍ‬
‫‪ -1‬راجع كتابنا «حوار عن بعد حول حقوق الإن�سان»‪.‬‬
‫‪313‬‬
‫َََ َۡ‬ ‫ٰ‬ ‫اَّ ۡ َ ٓ َ َ ۡ َ ّ أۡ َ لۡىَ‬ ‫ّ ۡ َ جُ ۡ‬
‫ت َز ٰٓ‬
‫ى ‪ ١٩‬إِل ٱبتِغاء وجهِ ربِهِ ٱلع ‪ ٢٠‬ولسوف‬ ‫مِن نِعمةٖ‬
‫ض ‪( {٢١‬الليل‪.)19-21 :‬‬ ‫يَ ۡر ىَ ٰ‬
‫إن هذا الموقف يجعل اإلنسان مستخل ًفا وفر ًعا وليس‬ ‫َّ‬
‫فإن حريته يف التصرف مضبوطة‬ ‫أصلاً يف الملكية ولهذا َّ‬
‫بالضوابط التي يضعها المالك األصلي‪.‬‬
‫أن ُتراعى‬‫أن المصلحة العامة يجب ْ‬ ‫ومعنى ذلك عمل ًيا َّ‬
‫يف النظام االقتصادي مما يستلزم إمكانية بل أحيانًا ضرورة‬
‫أن تكون ممثلة للمصالح‬ ‫تدخل الدولة التي يفرتض ْ‬
‫العامة‪ ،‬مما قد يتناىف مع الرأسمالية المتوحشة المتمثلة‬
‫يف مذهب آدم اسميث واتباعه من أمثال فريديريك هايك‬
‫القائمة على النأي بالكلية عن أي تدخل للدولة انطال ًقا‬
‫من فكرة «اليد الخفية للسوق» وتطبي ًقا لمبدأ الحرية‬
‫المطلقة للفرد واستبعاد قانون األخ�لاق والقيم عن‬
‫المنظومة االقتصادية بعكس النظرة اإلسالمية‪.‬‬
‫وقد حاولت تطبيق الرؤية المقاصدية يف كتابي «مقاصد‬
‫المعامالت وم��راص��د ال��واق��ع��ات» فضربت أمثل ًة يف‬
‫اتجاهين‪ :‬يف اتجاه جمود المجامع الفقهية يف موضوعات‬

‫‪314‬‬
‫فيها سعة‪ .‬ويف اتجاه اجتهادات مقاصدية غير منضبطة‬
‫لبعض لجان الفتوى يف المجال االقتصادي‪.‬‬
‫وقد تناولت مجموعة من القضايا الملحة جعلتها‬
‫التضخم‪ ،‬ومسألة بيع دين السلم‬ ‫ُّ‬ ‫موضو ًعا للدراسة وهي‪:‬‬
‫العوضين‪ .‬ومسألة عقود‬ ‫لغير من هو عليه‪ .‬ومسأل ُة تأجي ِل ِ‬
‫الخيارات‪ .‬وعقود المستقبليات‪ ،‬والتأمين‪ ،‬واإليجار‬
‫المنتهي بالتمليك‪ ،‬فلينظر هناك‪.‬‬
‫فقـه األقليــات ‪:‬‬
‫ِ‬
‫الجمهور فسخ‬ ‫فمذهب‬
‫ُ‬ ‫وزوجها نصراينٌّ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫تسلم‬
‫ُ‬ ‫المرأ ُة‬
‫ِ‬
‫الممتحنة‬ ‫ُ‬
‫الدليل آي ُة‬ ‫ِ‬
‫انقضاء العدَّ ة؛‬ ‫فورا ْأو بعدَ‬
‫ُّ‬ ‫اَ‬ ‫َّ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫اَ‬ ‫ۡ‬ ‫ىَ‬ ‫النكاح؛ إ َّما ً‬
‫َ‬ ‫حَ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ج ُعوه َّن إِل ٱلكفارِۖ ل ه َّن حِل ل ُه ۡم َول ه ۡم يِلون‬
‫ُ‬ ‫َ اَ َ ۡ‬
‫}فل تر ِ‬
‫َ‬
‫ل ُه َّنۖ{ (الممتحنة‪.)10 :‬‬
‫قرار المجلس األوربي‪ - :‬إسالم المرأة وبقاء زوجها‬
‫على دينه‪:‬‬
‫بعد اط�لاع المجلس على البحوث وال��دراس��ات‬
‫المختلفة يف توجهاهتا والتي تناولت الموضوع بتعميق‬
‫وتفصيل يف دورات ث�لاث متتالية واستعراض اآلراء‬
‫الفقهية وأدلتها مع ربطها بقواعد الفقه وأصوله ومقاصد‬
‫‪315‬‬
‫ال��ش��رع‪ ،‬وم��ع م��راع��اة ال��ظ��روف الخاصة التي تعيشها‬
‫المسلمات الجديدات يف الغرب حين بقاء أزواجهن‬
‫على أدياهنم‪ ،‬فإن المجلس يؤكد أنه يحرم على المسلمة‬
‫أن تتزوج ابتداء من غير المسلم‪ ،‬وعلى هذا إجماع األمة‬
‫سل ًفا وخل ًفا‪ ،‬أما إذا كان ال��زواج قبل إسالمها فقد قرر‬
‫المجلس يف ذلك ما يلي‪:‬‬
‫أولاً ‪ :‬إذا أسلم الزوجان معا ولم تكن الزوجة ممن‬
‫يحرم عليه الزواج هبا ابتداء «كالمحرمة عليه حرمة مؤبدة‬
‫بنسب أو رضاع» فهما على نكاحهما‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬إذا أسلم الزوج وحده‪ ،‬ولم يكن بينهما سبب من‬
‫أسباب التحريم وكانت الزوجة من أهل الكتاب فهما‬
‫على نكاحهما‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬إذا أسلمت الزوجة وبقى الزوج على دينه فيرى‬
‫المجلس‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إن كان إسالمها قبل الدخول هبا فتجب الفرقة حالاً ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إن كان إسالمها بعد الدخول وأسلم الزوج قبل‬
‫انقضاء عدهتا‪،‬فهما على نكاحهما‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إن كان إسالمها بعد الدخول‪ ،‬وانقضت العدة‪ ,‬فلها‬
‫‪316‬‬
‫أن تنتظر إسالمه ولو طالت المدة‪ ،‬فإن أسلم فهما على‬
‫نكاحهما األول دون حاجة إلى تجديد له‪.‬‬
‫د‪ -‬إذا اختارت الزوجة نكاح غير زوجها بعد انقضاء‬
‫العدة فيلزمها طلب فسخ النكاح عن طريق القضاء‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬ال يجوز للزوجة عند المذاهب األربعة بعد‬
‫انقضاء عدهتا البقاء عند زوجها‪ ،‬أو تمكينه من نفسها‪.‬‬
‫ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها‬
‫بكامل الحقوق والواجبات الزوجية إذا كان ال يضيرها‬
‫يف دينها وتطمع يف إسالمه‪ ،‬وذلك لعدم تنفير النساء من‬
‫الدخول يف اإلسالم إذا علمن أهنن سيفارقن أزواجهن‬
‫ويرتكن أس��ره��ن‪ ،‬ويستندون يف ذل��ك إل��ى قضاء أمير‬
‫المؤمنين عمر بن الخطاب يف تخيير المرأة يف الحيرة‬
‫التي أسلمت ولم يسلم زوجها‪« :‬إن شاءت فارقته وإن‬
‫شاءت قرت عنده»‪ ،‬وهي رواية ثابتة عن يزيد بن عبد‬
‫اهلل الخطمي‪ .‬كما يستندون إلى رأي أمير المؤمنين علي‬
‫بن أبي طالب إذا أسلمت النصرانية ام��رأة اليهودي أو‬
‫أيضا رواية‬
‫النصراين كان أحق ببضعها ألن له عهدً ا‪ ،‬وهي ً‬
‫ثابتة‪ .‬وثبت مثل هذا القول عن إبراهيم النخعي والشعبي‬
‫‪317‬‬
‫وحماد بن أبي سليمان»‪.‬‬
‫أمير ِي المؤمني َن‬ ‫الروايات عن َ‬ ‫ٌ‬ ‫قلت‪ :‬فإذا ثبتت هذه‬
‫عنهما‬ ‫اهلل ُ‬
‫رضي ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫طالب‬ ‫بن أبِي‬ ‫وعلى ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫الخطاب‬ ‫عمر ِ‬
‫بن‬ ‫َ‬
‫الدين ب ُن تيمي َة بقا َء النكاحِ‬ ‫ِ‬ ‫تقي‬
‫ويرى ُّ‬ ‫الزهري‪َ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وهو رأى‬
‫ال يقرهبَا‪ ،‬وهذه الفتوى ليست عرية‬ ‫أن َ‬ ‫يفسخ ع َلى ْ‬ ‫ْ‬ ‫لم‬
‫َما ْ‬
‫ِ‬
‫رسول اهلل ﷺ‬ ‫ِ‬ ‫عن الدليل األصلي وهو قضي ُة زينب ِ‬
‫بنت‬ ‫َ‬
‫األو ِل ع َلى الصحيحِ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ر َّدها ألبِي العاصي بالعقد َّ‬
‫نساء خرج َن‬ ‫ٍ‬ ‫خاصة فِي‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحالة‬ ‫تتعلق‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الممتحنة‬ ‫وآي ُة‬
‫ِ‬
‫الحرب‪.‬‬ ‫بدينه َّن مِن ِ‬
‫دار‬ ‫ِ‬ ‫فرارا‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫بعض‬ ‫الحكم عندَ‬ ‫ِ‬ ‫يمنع عمو َم‬ ‫ُ‬ ‫السبب قدْ‬ ‫ِ‬ ‫وخصوص‬
‫ُ‬
‫عليه المازري فِي شرحِ الربهانِ‬ ‫الفقه‪ .‬نص ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أصول‬ ‫ِ‬
‫علماء‬
‫َّ‬
‫وغيره‪ ،‬وممن قال بذلك أبو الفرج من المالكية وقال به من‬
‫الشافعية المزين والدقاق والقفال وبه قال أبو ثور وحكاه‬
‫أبوحامد االسفرايني عن مالك وأشار ابن خويزمنداد إلى‬
‫اختالف قول مالك يف هذا استقراء من اختالف قوله يف‬
‫غسل اآلنية التي ولغ فيها كلب وفيها طعام‪.‬‬
‫غير الز ٍم‪.‬‬ ‫جائزا َ‬ ‫نكاحا ً‬ ‫النكاح ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فيكون‬
‫غير‬ ‫تحت أزواجٍ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الغرب‬ ‫الواقع‪ :‬نسا ٌء يسلم َن فِي‬
‫‪318‬‬
‫الرجل زوجتَه‬ ‫ُ‬ ‫يتبع‬ ‫ِ‬
‫كبارا في الس ِّن وقدْ ُ‬ ‫مسلمي َن‪ ،‬أحيانًا ً‬
‫كما ور َد‬ ‫الفراق فقدْ ترتدُّ َ‬ ‫ُ‬ ‫عليهما‬ ‫رض ِ‬ ‫فِي اإلسال ِم‪ ،‬فإ َذا ُف َ‬
‫هبذا المعنَى‪.‬‬ ‫سؤال مِن أمري َكا َ‬ ‫ٍ‬ ‫فِي‬
‫ِ‬
‫بحمد اهلل‬ ‫وانتشار اإلسال ِم‬ ‫ِ‬
‫العالم‬ ‫ُ‬
‫تواصل‬ ‫هو‬
‫ُ‬ ‫الجديدُ ‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫النساء‪.‬‬ ‫وبخاصة بي َن‬ ‫تعا َلى‬
‫َّ‬
‫والتبشير‪ .‬والمحافظ ُة ع َلى‬ ‫ُ‬ ‫التيسير‬
‫ُ‬ ‫الشرعي‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫المقصدُ‬
‫ِ‬
‫التنفير‪.‬‬ ‫الدين مقصدٌ أع َلى‪ ،‬وعد ُم‬ ‫ِ‬
‫يكفي‬ ‫قال‪ :‬إنَّه ِ‬ ‫المقصد اب ُن تيم َّية عندما َ‬ ‫ِ‬ ‫وقدْ انتب َه َ‬
‫لهذا‬
‫أسلمت‪.‬‬‫ْ‬ ‫زوجها إ َذا‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ستفارق‬ ‫تعلم أهنَا‬
‫أن َ‬ ‫تنفيرا ْ‬
‫ً‬
‫ه��ذا قرار‬ ‫وك��ان َ‬ ‫َ‬ ‫زوج��ه��ا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫��ع‬ ‫ُ ِ‬
‫ج��واز بقائها م َ‬ ‫النتيجةُ‪:‬‬
‫واإلفتاء خال ًفا للمجام ِع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للبحوث‬ ‫المجلس األور ِّب��ي‬ ‫ِ‬
‫األخرى‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الفقهية‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫بقروض‬ ‫ِ‬
‫الغرب‬ ‫بيوت فِي‬ ‫ٍ‬ ‫والقائم ُة طويلةٌ‪ :‬منْها اشرتا ُء‬
‫ِ‬
‫والنخع ِّي‪.‬‬ ‫مذهب أبِي حنيف َة‬ ‫ِ‬ ‫البنوك اعتما ًدا ع َلى‬ ‫ِ‬ ‫مِن‬
‫ِ‬
‫المعامالت‪،‬‬ ‫وهناك قضا َيا جديد ٌة أخرى من أن��وا ِع‬ ‫َ‬
‫غير المسلمي َن وعيادتِهم وتعزيتِهم؛ اعتما ًدا‬ ‫هتنئة ِ‬ ‫وجواز ِ‬
‫مذهب اإلما ِم أحمدَ ‪ ،‬والتِي أ َّيدها‬ ‫ِ‬ ‫الثالثة فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرواية‬ ‫ع َلى‬

‫‪319‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كما فِي‬ ‫ِ‬
‫للمرداوي(‪.)1‬‬ ‫اإلنصاف‬ ‫اب ُن تيمي َة للمصلحة َ‬
‫ٍ‬
‫بمعيار‬ ‫الفتاوى وضبطِها‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫مراجعة‬ ‫ولهذا فإنِّي أد ُعو إ َلى‬ ‫َ‬
‫لوزن المش َّق ِة‬ ‫ِ‬ ‫فحص الواق ِع‬ ‫ِ‬ ‫ثالثي األضالعِ‪ ،‬يقو ُم ع َلى‬ ‫ِّ‬
‫ثم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والحاجة التي تطب ُعه‪ ،‬وتقويم العناصر المستحدثة‪َّ ،‬‬
‫ينطبق‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬‫خالل النص الجزئِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫حكم مِن‬
‫ٍ‬ ‫البحث َع ْن‬ ‫ُ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫إبراز‬ ‫ثم ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عليه إ َذا ُوجدَ ‪َ ،‬مع‬ ‫ِ‬
‫فحص درجته ومرتبة حكمه‪َّ ،‬‬
‫كقصد التيسير مثلاً ‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬ ‫الشرعي كُل ًيا أو عا ًما‬ ‫ِ‬
‫المقصد‬
‫ِّ‬
‫هذا‬ ‫ِ‬
‫الفرع‪ ،‬وم ْن خالل َ‬ ‫ُ‬ ‫رجع إليه‬ ‫بالباب الذي َي ُ‬ ‫ِ‬ ‫خاصا‬ ‫ً‬
‫هي صناع ٌة مركب ٌة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الفتوى التي َ‬ ‫َ‬ ‫تصدر‬
‫ُ‬ ‫الدقيق‬ ‫المعيار‬
‫وليست بسي َطةً‪.‬‬ ‫ْ‬
‫عادلة لكنَّ ُه من‬ ‫��رط راب�� ٍع خ��ارج الم ِ‬ ‫باإلضافة إلى ش ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ‬
‫قرر النتيج َة‬ ‫ِ‬ ‫لوازمها وهو َّ‬
‫هندس هذه العملية الذي ُي ُ‬ ‫أن ُم َ‬
‫بصيرا بالمصالحِ‬ ‫الش ِ‬
‫ريعة‬ ‫رتاضا يف َّ‬ ‫يكون ُم ً‬ ‫َ‬ ‫أن‬‫يجب ْ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫بتوازنات َمن ُظو َمتِها‪ ،‬وقد آثرنا‬ ‫ُ‬ ‫عتربة فيها ُم ِ‬
‫تمر ًسا‬ ‫الم ِ‬
‫ُ‬
‫ُمصطلح االرتياض على مصطلح االجتهاد لئال نصطدم‬
‫بشروط االجتهاد الصعبة التحصيل من جهة ولتسهيل‬
‫اإلفتاء يف هذه القضايا إذا ضبطت بمعاييرها‪ ،‬وهي كلمة‬

‫‪ -1‬يراجع يف ذلك كتابنا «�صناعة الفتوى وفقه الأقليات»‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫استعملها المالكية يف مسألة تمييز المصالح واالعتماد‬
‫على المقاصد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫العناصر قدْ يؤ ِّدي إ َلى‬ ‫إهمال أي مِن ِ‬
‫كارثة‬ ‫هذه‬ ‫َ ٍّ‬ ‫إ ْذ َّ‬
‫أن‬
‫مخالف لروحِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫وذلك‬ ‫ٍ‬
‫سياسية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫اجتماعية ْأو‬ ‫ٍ‬
‫اقتصادية ْأو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشر ِع وم��ي ِ‬
‫العدل واإلح��س��ان } َو َأق��ي ُ��م��وا ا ْل َ‬
‫���و ْز َن‬ ‫��زان‬
‫ط{ (الرحمن‪.)9:‬‬ ‫بِا ْل ِقس ِ‬
‫ْ‬
‫تكوين فقهاء مقاصديين فِي دوراتٍ‬ ‫ِ‬ ‫كما أد ُع��و إ َلى‬
‫ِّ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّسم بروحِ الجد َّية واالنفتاحِ والتواض ِع لتحصي ِل‬ ‫مكث َّفة تت ُ‬
‫ِ‬
‫الشريعة‪.‬‬ ‫المرتاض فِي معانِي‬
‫ِ‬ ‫العال ِ ِم‬
‫خاتمة‬
‫لقد لخصنا يف هذا الكتاب الوجيز‪ :‬الحد‪ ،‬والتعريف‪،‬‬
‫ووسائل التعرف على المقاصد‪ ،‬وتصنيف المقاصد‪،‬‬
‫وتصريف أوجه الفوائد الذي دعوناه باالستنجاد لتوليد‬
‫الفروع‪ ،‬وتخريج األحكام الجزئية‪ ،‬اسرتشا ًدا بالمقاصد‬
‫أو اعتما ًدا عليها‪ ،‬وضبط كيفية التعامل‪ ،‬وتجنب معوقات‬
‫العمل هبا‪.‬‬
‫وإذا استعملنا اللغة األصولية لوصف ما تقدم قلنا‪:‬‬
‫إن وسائل التعرف مسالك‪ ،‬ويمكننا أن نضيف إليها‬
‫‪321‬‬
‫االستنجاد باعتبار ما قدم فيه إنما هو أمثلة للمسالك‬
‫تأصيلاً وتفصيلاً وتفري ًعا وتفعيالً‪ ،‬ووصفنا عملية ضبط‬
‫التعامل بالمقاصد ‪ -‬التي تشخص معوقات التعامل‪ -‬بأهنا‬
‫تعامل مع القوادح فتكون للمقاصد مسالك‬ ‫ٌ‬ ‫يف حقيقتها‬
‫ولها قوادح كما للعلة يف األصول مسالك وقوادح‪.‬‬
‫قد مرت بك أيها القارئ تعاريف كثيرة للمقاصد وكلها‬
‫صحيح وقاصد‪ ،‬لكنها تعرب عن زوايا مختلفة ورؤى يف‬
‫مرايا متنوعة‪ .‬فمن التعاريف ما يتسم بالعموم واإلجمال‪،‬‬
‫ومنها ما يتصف بالشمول والتفصيل‪.‬‬
‫فمن األول تعريف أبي حامد الغزالي‪ :‬فرعاية المقاصد‬
‫عبارة حاوية لإلبقاء ودفع القواطع‪ ،،‬وهو هناك يتحدث‬
‫عن المقصود الذي ينقسم إلى ديني ودنيوي‪ .‬فالمطلوب‬
‫تحصيله وإب��ق��اؤه هو المصلحة والمعرب عنه بجلب‬
‫المنفعة‪ ،‬وانقطاعه هو المضرة‪.‬‬
‫فالمقاصد حينئذ منافع تجلب ومضار تتجنب‪ .‬وقد‬
‫شرح الشاطبي ذلك َّ‬
‫بأن القصد بالتشريع إقامة المصالح‬
‫األخروية والدنيوية‪.‬‬
‫وهذا النوع من التعاريف العامة أشرنا إلى بعضه تحت‬
‫‪322‬‬
‫عنوان «المقاصد الكربى» من تعريف ابن رشد والدهلوي‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫أما التعاريف المفصلة والشاملة‪ ،‬فمعنى الشمول فيها‬
‫أهن��ا‪ :‬محيطة بأنواع القصود الكلية والجزئية‪ ،‬ومعنى‬
‫التفصيل أهنا‪ :‬لم تقتصر على الحكم واألسرار والغايات‬
‫التي ترتأى من خالل النص؛ بل اعتربت مجرد الطلب‬
‫أمر ًا وهنيًا مقصد ًا‪ ،‬بناء على طلب اإليقاع واالمتناع‪.‬‬
‫ولهذا فقد أكدنا على أهمية االنطالق من التعريف‬
‫اللغوي للمقاصد إلحاطته وشموله وت��راب��ط مراتب‬
‫المقاصد فيه وتساندها وتعاضدها ب��دءا من المقصد‬
‫االبتدائي إلى المقصد الثاين‪ ،‬ومن المقصد الجزئي إلى‬
‫الكلي‪ ،‬ومن األصلي إلى التابع‪ ،‬ومن الخصوص إلى‬
‫العموم‪ ،‬وهي معان متداخلة‪.‬‬
‫ولعل ما نقلناه عن اإلمام الشاطبي يف تصنيفه للمقاصد‬
‫يوضح المنحى الذي نحينا إليه‪ ،‬وبذلك ننأى قليال يف‬
‫بحثنا هذا عما حاول البعض تأس ًيا باألستاذ ابن عاشور‬
‫ِ‬
‫والح َكم الملحوظة‬ ‫من تعريف المقاصد بأهنا‪ :‬المعاين‬
‫للشارع يف جميع أح��وال التشريع أو معظمها‪ ،‬بحيث‬
‫‪323‬‬
‫خاص من أحكام‬ ‫ٍّ‬ ‫تختص مالحظتُها بالكون يف نو ٍع‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫أوص���اف الشريعة وغايتُها العا َّم ُة‬‫ُ‬ ‫فيدخل يف ه��ذا‬ ‫ُ‬
‫التشريع عن مالحظتِها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والمعانِي التِّي َ‬
‫ال يخ ُلو‬
‫ليست ملحوظ ًة‬ ‫ْ‬ ‫الحكم‬‫معان من ِ‬‫ٍ‬ ‫أيضا‬ ‫ُ‬
‫ويدخل يف هذا ً‬
‫ٍ‬
‫كثيرة‬ ‫يف سائر أنواع األحكام‪ ،‬ولكنَّها ملحوظ ٌة يف أنوا ٍع‬
‫(‪)1‬‬
‫منها‬
‫ألن ذلك محمول على المقاصد الكلية وليس تعري ًفا‬ ‫َّ‬
‫لمقاصد الشريعة بإطالق‪ ،‬وطب ًقا للتعريف الذي اخرتناه‬
‫كان التصنيف شاملاً لما أشرنا إليه من جزئي وكلي وعام‬
‫وخاص‪.‬‬
‫إال أن التصنيف ك��ان يلتفت إل��ى زاوي��ة أخ��رى هي‬
‫موضوع المقاصد ومحتواها‪.‬‬
‫وبالنسبة للتصنيف فالشيء الذي ينبغي أن نالحظه‬
‫ويعلق بالخاطر هو أولاً أن المقاصد مراتب بحسب‬
‫وظائفها فمنها ما سماه بعضهم بالمقاصد العالية التي‬
‫ال تولد فرو ًعا ألهنا ال تنتج أحكا ًما جزئية لكنها تحدد‬
‫‪ -1‬الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة‪ 165 /3 :‬حتقيق ال�شيخ احلبيب بلخوجة‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫موجهات وقوانين عامة تؤسس لفلسفة إسالمية ذات‬
‫تأثير غير مباشر على أحكام الفروع كمقصد االستخالف‪،‬‬
‫أن الشريعة لمصالح العباد ومقصد عمارة‬ ‫ومقصد َّ‬
‫الكون‪ ،‬ومقصد العدل لما يستتبعه من وضع إطار للرؤية‬
‫الكونية ولسلوكيات اإلنسان يف شتى المجاالت وبخاصة‬
‫يف النظام األسري والمجتمعي ونظام الحكم واالقتصاد‬
‫وال��م��ج��ال اإلن��س��اين وه��ي م��ج��االت تحكم قواعدها‬
‫المباشرة المقاصد الكلية المولدة للتشريع التي تمثل‬
‫السقف والمظلة لمجاالت التشريع المختلفة‪ .‬ويتعلق‬
‫األمر هنا بالمقاصد الثالثة الكربى التي يرى الشاطبي أهنا‬
‫كلي الكليات وأنه ال منتهى وراءها وأن الكليات األخرى‬
‫إنما هي جزئيات بالنسبة إليها بما يف ذلك أصول الفقه‬
‫نفسها وهو يشير بذلك إلى بعدي الشمول والعموم‪،‬‬
‫ولذلك فإن المقاصد العامة أو الخاصة األخرى تنتمي‬
‫إليها بشكل من األشكال وتنضوى تحت لوائها بصورة‬
‫من الصور‪ ،‬فالمقاصد المالية مثال كالرواج والوضوح‬
‫والثبات والحفظ والعدل ترجع يف متعلقها إلى أحد‬
‫المقاصد الثالثة‪ ،‬فهي بحسب أكادهتا أو تراخيها إما أن‬
‫‪325‬‬
‫تكون من الضروري أو الحاجي أو التحسيني‪ ،‬وهنا يربز‬
‫الموضوع الثاين وهو معيار تصنيف الجزئيات يف سلم‬
‫الضروري والحاجي والتحسيني‪.‬‬
‫معيارا‬
‫ً‬ ‫ومحاولة لضبط كل واح��د منها فقد وضعنا‬
‫ثنائ ًيا يعتمد على وزن المصلحة من حيث الوجود ‪-‬‬
‫للجزئية المستهدفة‪ -‬والمفسدة من حيث العدم‪ ،‬وميزان‬
‫النصوص الشرعية ذات العالقة يف جمع بين العز بن عبد‬
‫السالم الذي قال‪ :‬إنه ال فرق بين هني وهني وأمر وأمر إال‬
‫بقدر المصلحة المستجلبة والمفسدة المدروءة‪ ،‬وبين من‬
‫يقول إن عالمة وضع الشارع للحد هي المؤشر الذي يشير‬
‫على انتماء الفرع للضروري ويميز المقصد الضروري‬
‫عن قسيميه‪ ،‬ويميز بين أنواع الضروري الذي هو متفاوت‬
‫يف كلياته مع االتفاق على أهنا كلها من الضروري وتبقى‬
‫مكوناهتا لتكون محل خ�لاف كالبيع وعالقته بحفظ‬
‫المال‪ ،‬وكالنكاح يف عالقته بحفظ النسل‪ ،‬وكالربا يف‬
‫عالقته بحفظ المال‪.‬‬
‫وقد أوضحنا أن أكثر جزئيات المقاصد ال مستقر لها وال‬
‫مستودع إال بميزان النصوص وأوزان المصالح والمفاسد‪،‬‬
‫‪326‬‬
‫وبالتالي فقد تجول يف سلم المنظومة المقاصدية بعض‬
‫الجزئيات كالبيع طب ًقا لمتعلقه وموضوعه‪.‬‬
‫وأما االستنجاد بالمقاصد فهو الثمرة التي يجنيها الفقيه‬
‫من مقاصد الشريعة والتي كانت يف منهجنا هذا ملتقى‬
‫الفروع باألصول إهنا استنباط للفروع من خالل المقاصد‬
‫بأدوات أصولية تضبط تعامل الفقيه وتحفظ عملية إعمال‬
‫فكره من الخطأ وتعصم بيانه من الخطل وتنظم إيقاع‬
‫خطاه يف االجتهاد فال يغلو يف إعمال مقاصد موهومة‬
‫أو معارضة بما هو آكد الختالف يف الرتبة أو الدرجة‬
‫كحاجي مقابل ضروري أو جزئي مقابل كلي‪.‬‬
‫و ُع ْجنا على آلية الرتجيح يف الفروع وبخاصة يف نطاق‬
‫مرجوحا لضعف الدليل‬‫ً‬ ‫الحاجي العام لرتجيح قول كان‬
‫وليس النعدامه بناء على مقصد تأكد أو وضع تجدد‪.‬‬
‫وأخيرا‪ :‬أشرنا إلى االستنجاد بالمقاصد يف صياغة‬ ‫ً‬
‫فلسفة إسالمية معاصرة تجيب على مختلف األسئلة يف‬
‫شتى المجاالت السياسية واالقتصادية واالجتماعية‪.‬‬
‫أن يكون وجيز ًا‬‫وهبذا نختم هذا الكتاب الذي أردنا ْ‬
‫حسب اإلمكان و ُملم ًعا إلى ما وراءه من بيان ألنه كان‬
‫‪327‬‬
‫منص ًبا على موضوع العالقة بين أصول الفقه ومقاصد‬
‫الشريعة من زاوية تطبيقية من خالل تفعيل المقاصد عن‬
‫طريق أبواب أصول الفقه كما تقدم يف مناحى االستنجاد‬
‫إال أن المنهجية اقتضت التعريف والتعرف والتصنيف‪.‬‬
‫وعلى اهلل قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬

‫‪328‬‬
330

You might also like