You are on page 1of 12

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالـــي والبحث العلمــي‬

‫جامعة محمد بوضياف – المسيلة –‬

‫قسم ‪ :‬اللغة واألدب العربي‬ ‫كلية ‪ :‬اآلداب واللغات‬

‫مستوى‪ :‬ثالثة ليسانس دراسات أدبية‬ ‫المقياس‪ :‬أدب الهامش‬

‫فوج‪50 :‬‬

‫عنوان البحث‬

‫مقامات بديع الزمان الهمذاني‬


‫المقامة البغدادية‬

‫إشراف األستاذ‪:‬‬ ‫إعداد الطلبة‪:‬‬

‫د‪ .‬مجناح جمال‬ ‫تيطراوي آمال‬

‫السنة الجامعية ‪2522/2522‬‬


‫خطة البحث‬

‫مقدمة‬

‫المبحث األول‪ :‬ماهية مقامات بديع الزمان الهمذاني‬

‫المطلب األول‪ :‬المقامات وبديع الزمان‬

‫المطلب الثاني‪ :‬تعريف المقامة‬

‫المطلب الثالث‪ :‬بنية السرد في مقامة بديع الزمان الهمذاني‬

‫المبحث الثاني‪ :‬المقامة البغدادية‬

‫المطلب األول‪ :‬تحليل المقامة البغدادية‬

‫المطلب الثاني‪ :‬شرح المقامة البغدادية‬

‫المطلب الثالث‪ :‬أهم الخصائص الفنية للمقامة البغدادية‬

‫خاتمة‬

‫قائمة المصادر والمراجع‬


‫مقدمة‬

‫تميز بديع الزمان الهمذاني بنتاج أدبي كبير ومتنوع‪ ،‬فقد اشتهر بالدرجة األولی بمقاماته النثرية‬
‫أحيانا من تأليف غيره‪ ،‬إضافة لما اشتُهر‬
‫التي كتبها‪ ،‬إال أنه كان في نثره يضمن الشعر من تأليفه‪ ،‬و ً‬
‫به من فن الرسائل‪ ،‬ومما يتسم به نتاج النثر لبديع الزمان الهمذاني هو غلبة الصنعة والتكلف فيها‪،‬‬
‫فقد كان يكثر من التسجيع في نصوصه‪ ،‬ويبالغ في استخدام الطباق والجناس‪ ،‬والترادف اللفظي‪،‬‬
‫إضافة إلی اإلكثار من الجمل االعتراضية التي توضح المقصود ببعض العبارات‪ ،‬وكانت أعماله ال‬
‫تخلو من االقتباسات من القرآن الكريم‪ ،‬وتضمين األبيات الشعرية من تأليفه أو لشعراء غيره‪.‬‬

‫فما المقصود بمقامات بديع الزمان الهمذاني؟ وماهي بنية السرد في مقامة بديع الزمان الهمذاني؟‬
‫وماهي أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني؟‬

‫حيث اعتمدنا علی المنهج الوصفي التحليلي‬

‫كما واجهتنا مجموعة من الصعوبات أهمها‪ :‬قلة الدراسات السابقة عن هذا البحث‪.‬‬

‫وموضوعنا اليوم سأتناول فيه شخصية أعشق تاريخها‪ ،‬أدبها‪ ،‬تميزها‪ ،‬بيانها‪ ...‬عبقري في صنعة‬
‫شخصيا ‪ -‬أذوب في‬
‫ً‬ ‫حقا‪ ،‬جاء بفن سحر األلباب وجعلني ‪-‬‬
‫األدب واللغة‪ ،‬بديع في عصره وزمانه ً‬
‫عشق لغة الضاد بسببه‪ ،‬إنه صاحب المقامات بديع الزمان الهمذاني‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المبحث األول‪ :‬ماهية مقامات بديع الزمان الهمذاني‬

‫المطلب األول‪ :‬المقامات وبديع الزمان‬

‫أحمد بن الحسين بن يحي بن سعيد التغلبي‪ ،‬المكنى بأبي الفضل‪ ،‬ولقبه المشهور به بديع الزمان‬
‫الهمذاني‪ ،‬هو كاتب وأديب مشهور‪ ،‬ونسبته الهمذاني تعود لمكان والدته وهو همذان منطقة تقع في‬
‫بالد فارس‪ ،‬إال أنه عربي األصل‪ ،‬وهذا ما ساعد بديع الزمان الهمذاني أن يكون علی دراية بالثقافة‬
‫الفارسية من جهة‪ ،‬والعربية من جهة أخری‪ ،‬ولم تكن هذه المعرفة سطحية‪ ،‬إنما يعد من العلماء‬
‫أديبا و‬
‫كاتبا و ً‬
‫الضليعين باألدب العربي و الفارسي‪ ،‬حتی إنه من األدباء متعددي المواهب‪ ،‬فقد كان ً‬
‫عر‪ ،‬لقب ببديع الزمان لنبوغه في األدب و اللغة العربية إضافة إلی أنه كان سريع البديهة ومتّقدم‬
‫شا ًا‬
‫متنقال بين المدن الفارسية‬
‫ً‬ ‫جدا في الحفظ‪ ،‬وقضی بديع الزمان الهمذاني حياته‬
‫الذكاء‪ ،‬وله مقدرة عالية ً‬
‫و األفغانية‪ ،‬ولعل هذا ما زاد من خبراته وثقافته‪ ،‬وفي كل مكان كان يسافر إليه كان يختلط بأهل العلم‬
‫و األدب و الشعر‪ ،‬حتی توصل إلی المكانة التي توصل إليها‪ ،‬وتمكن من الكتابة في مجاالت مختلفة‬
‫من األدب‪ ،‬ومما يجدر ذكره أنه عاصر الدولة العباسية‪ ،‬وكان يدين بدين اإلسالم‪ ،‬ويفتخر بنسبه‬
‫العربي الذي يعود إليه‪ ،‬فهو تغلبي ينتسب إلی بني تغلب‪ 1‬نشد سبل النجاح والتميز‪ ،‬فأحب األدب‬
‫وعشق لغة الضاد فوهبته أسرارها ومنحته سر مكنوناتها‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬تعريف المقامة‬

‫المقامة تعني المجلس والجماعة من الناس‪ ،‬ويقترب معناها من الموعظية أكثر من المحاضرة‪،‬‬
‫واستخدمت المقامة من قبل بديع الزمان الهمذاني بمعنى المجلس وكانت ذات صلة بالناس‪ ،‬والمقامات‬
‫أشهر فن اشتهر به بديع الزمان‪ ،‬وذلك ألنه كان أول شخص ابتكر فكرتها وأطلق عليها هذا االسم‪،‬‬
‫ولهذا اشتهر بها واتبع خطاه الكثير من األدباء الذين عاشوا بعده‪ ،‬والمقامات هي مجموعة من الكالم‬
‫الفصيح ومجموعة حكايات قصيرة متفاوتة الحجم بطلها رجل وهمي‪ ،‬وكذلك تعرف المقامة بأنها حكاية‬
‫قصيرة موضوعها متنوع وتقوم علی التفنن في الكتابة واإلنشاء‪ ،‬وسرد األمثال والحكم‪ ،‬وتصوير‬
‫شخصية البطل‪ ،‬والروح الخفيفة واألسلوب البارع المتأنق‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬عبد الرحيم الكردي‪ :‬البنية السردية للقصة القصيرة‪ ،‬ط‪ ،30‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،5332 ،‬ص ‪.00‬‬
‫‪2‬‬
‫ومقامات بديع الزمان فيها من الطبع وحسن التأليف وجمال الفن مثل المقامة البغدادية‪،‬‬
‫والقريضية‪ ،‬والمضيرية‪ ،‬أيضا فالمقامة هي فن أدبي أشبه بالقصة القصيرة ظهر علی يد بديع الزمان‬
‫الهمذاني فأرسى دعائمه‪ ،‬ورسخ قواعده‪.‬‬

‫مقامات بديع الزمان الهمذاني‬

‫خالصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وفنيا‬
‫تعليميا ً‬
‫ً‬ ‫بلغ عدد مقاماته ‪ 25‬مقامة‪ ،‬فكان هدف بديع الزمان من ابتكار مقاماته‬
‫فتتراقص الكلمات علی إيقاع البديع‪ ،‬وتتغنى األلفاظ بعذب األشعار‪ ،‬اخترع بديع الزمان في مقاماته‬
‫اويا‬
‫بطلين متخيلين وهما عيسى بن هشام وأبو الفتح اإلسكندري‪ ،‬حيث جعل من عيسى بن هشام ر ً‬
‫مغامر لها‪ ،‬وبالرغم من كونه البطل إال أن بديع الزمان لم‬
‫ًا‬ ‫للمقامات وجعل من اإلسكندري بطال‬
‫يحرص علی إظهاره في كل المقامات‪ ،‬وال يختلف أسلوب بديع الزمان في المقامات عن أسلوبه في‬
‫ٍ‬
‫ومعان‬ ‫الرسائل‪ ،‬عدا أن الرسائل فيها بساطة وحرية‪ ،‬والمقامات ذات فكر متميز وسياق خاص‬
‫حرصا علی أال تفسد الفكرة وتختل‪ ،‬وفي‬
‫ً‬ ‫مقصودة‪ ،‬ال يكاد الكاتب يتصرف فيها أو يتحول عنها‬
‫المقامات إكثار من استخدام الشعر‪ ،‬والوصف‪ ،‬والبيان وال تخلو من الفكاهة‪ ،‬ويظهر فيها تأثر بديع‬
‫الزمان الهمذاني بالثقافة الفارسية ‪ ،2‬لذا فإن القارئ والمطلع علی هذه المقامات سينبهر ويعجب من‬
‫كثرة األلفاظ الغريبة‪ ،‬والمحسنات البديعية وسالسة في السجع‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬بنية السرد في مقامة بديع الزمان الهمذاني‬

‫إن طبيعة الزمن في مقامات الهمذاني محكومة بحركة الراوي بين األمكنة‪ ،‬وهي حركة خاضعة ‪-‬‬
‫ّ‬

‫في معظم المقامات ‪ -‬لقانون عام‪ ،‬يقوم ً‬


‫أساسا‪ ،‬علی أن تحكي المقامة بطريقة سردية سريعة ‪ -‬حذف‬
‫تصاعديا نحو‬
‫ً‬ ‫ابتداء من نقطة زمنية في الماضي‪ ،‬ثم يتتابع السرد‬
‫ً‬ ‫‪ +‬تلخيص ‪ -‬حد ًثا قام به الراوي‬
‫الحاضر‪ ،‬وهي بذلك تبدو ملتزمة بالترتيب المنطقي لألحداث‪ ،‬إال أنها ال تلبث أن تتخلی عن هذا‬
‫غالبا ما يكون اإلسكندري ‪ -‬فتقوم هذه الشخصية برواية‬
‫االلتزام حين يلتقي الراوي بشخصية البطل ‪ً -‬‬
‫قصة حياتها التي بدأت في زمن يقع قبل الزمن الذي انطلق منه السرد‪ ،‬حيث تشكل قصة الشخصية‬
‫قصة مستعادة داخل القصة األولی التي تشكل اإلطار السردي‪ ،‬ومن ثم تندمج القصة المستعادة في‬
‫النسيج السردي لقصة اإلطار‪ ،‬إذ إن الراوي يلتقي بالبطل في مكان ما وفي زمن معين ثم يتحاو ار‬

‫‪2‬‬
‫‪ -‬ركان الصفدي‪ :‬الفن القصصي في النثر العربي‪ ،‬منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬و ازرة الثقافة‪،‬‬
‫دمشق‪ ،5355 ،‬ص‪.74‬‬
‫‪3‬‬
‫مباشر‪ ،‬فيفقد السرد سرعته وتهيمن علی الخطاب تقنية المشهد‪ ،‬حتی يكاد يتولد تطابق نسبي‬
‫ًا‬ ‫ار‬
‫حو ًا‬
‫بين زمن الخطاب وزمن القصة‪ ،‬ونتيجة للحركة السردية السريعة التي يبدأ بها السرد‪ ،‬ثم دخول الراوي‬
‫في حوار مباشر مع الشخصيات فقد جاء الوصف في حدوده الدنيا‪ ،‬إذ إنه لم يستأثر بأية مقاطع‬
‫تأمليا‬
‫ذاتيا ً‬
‫وصفا ً‬
‫ً‬ ‫وصفية طويلة يكون من شأنها إيقاف حركة السرد‪ ،‬بل ّ‬
‫إن من جاء منه لم يتعد كونه‬
‫مندمجا في السرد دون أن يعطل حركته‪ ،‬لكنه قد يساهم أحيانا في‬
‫ً‬ ‫‪ -‬يقوم به الراوي أو الشخصية ـ‬
‫ملتزما بترتيب شبه‬
‫ً‬ ‫تبطئتها‪ ،‬كما أن من شأن هذه الحركة السريعة في المقامات أنها جعلت معظمها‬
‫منطقي لألحداث‪ ،‬تتخلل بعض استرجاعات أو تلميحات استشرافية تقتضيها طبيعة الحدث وطريقة‬
‫دخول الشخصيات في السرد‪.3‬‬

‫يتضمن نسيج مقامات الهمذاني عددا من األنواع األدبية كـ ( الخطب والمواعظ والشعر واأللغاز‬
‫واألخبار ) مؤطرة بالسرد بوصفه الخطاب الذي يعيد تقديمها للمتلقي بصيغ مختلفة‪ ،‬وقد أظهر التحليل‬
‫أن خطاب المقامات يتضمن صيغتين أساسيتين هما‪ :‬السرد و العرض‪ ،‬إذ تهيمن صيغة السرد علی‬
‫خطاب الراوي الذي يقدم حدث السفر بين األمكنة‪ ،‬وهو خطاب يكون فيه المتلقي غير مباشر‪ ،‬والراوي‬
‫علی مسافة مما يرويه‪ ،‬تحددها المسافة الزمنية بين زمن الرواية( الحاضر) و زمن وقوع الحدث(‬
‫خصوصا تلك الخطابات‬
‫ً‬ ‫علی بعض خطابات الشخصيات‪،‬‬ ‫أيضا‬
‫الماضي)‪ ،‬كما تهيمن صيغة السرد ً‬
‫موجز عن سيرة حياتها‬
‫ًا‬ ‫وقعت لها في الماضي‪ ،‬أو تقدم‬ ‫التي تروي بواسطتها الشخصيات أحدا ًثا‬
‫الشخصية‪.‬‬

‫أما صيغة العرض فإنها تهيمن علی األقوال المباشرة للشخصيات‪ ،‬متمثلة بحواراتها المباشرة‪،‬‬
‫حيث تكون الشخصية علی عالقة مباشرة بما تحكيه وتتوجه بخطابها إلی متلق مباشر‪ ،‬ويهيمن‬
‫العرض ‪ -‬أيضا ‪ -‬في المقاطع الشعرية و الخطب والمواعظ‪ ،‬بوصفها خطابات منقولة كما تلفظ بها‬
‫منتجوها‪ ،‬دون تدخل من قبل الراوي‪ ،‬وقد كشف التحليل عن أوجه من العالقات بين صيغتي السرد‬
‫والعرض‪ ،‬أبرزها العالقات التبادلية علی مستوی الصيغ الصغرى داخل كل صيغة من هاتين‬
‫مسرودا‪ ،‬أو تهيمن السردية علی مقطع شعري ما‪،‬‬
‫ً‬ ‫معروضا ويأتي العرض‬
‫ً‬ ‫الصيغتين‪ ،‬فقد يأتي السرد‬

‫‪3‬‬
‫‪ -‬عبد هللا إبراهيم‪ :‬السردية العربية (بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي)‪ ،‬ط‪ ،35‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،5995 ،‬ص‪.55‬‬
‫‪4‬‬
‫مثلما تهيمن الشعرية علی مقطع سردي ما‪ ،‬وتحدد هذه التبدالت الصيغية بحسب المسافة التي يقيمها‬
‫الراوي بينه وبين ما يرويه‪ ،‬ودرجة حضور المتلقي في الخطاب‪.‬‬

‫تتميز مقامات الهمذاني بأنها مروية من قبل رواة مشاركين في صناعة أحداثها‪ ،‬وهذا ما يسمح‬
‫بسهولة تصنيف الرؤية فيها ضمن نمط ( الرؤية مع ) أو ( التبئير الداخلي )‪ ،‬و قد أظهر التحليل أن‬
‫الرؤيات في المقامات تتجلى بثالثة مستويات هي‪ ( :‬رؤية الراوي ) و( رؤية البطل ) و (رؤيات‬
‫متغيرة) ‪ ،‬وتشترك الرؤيتان‪ :‬األولى والثانية باتباع آلية تبئير واحدة‪ ،‬تنطلق من الذات الرائية وتنتهي‬
‫بالموضوع‪ ،‬أي إن الذات تبئر نفسها أوًال ثم تنتقل الى تبئير موضوعات العالم المحيط بها‪ ،‬وهي دائما‬
‫رؤيات ال تستطيع أن تتجاوز مجال المشاهدة العيانية‪ ،‬أما الرؤيات في المستوى الثالث فإنها تتميز‬
‫بالتغير المستمر لمراكز التبئير وموضوعاته‪ ،‬إذ يدخل الراوي إلى المقامة شخصية جديدة تكون لها‬
‫رؤيتها الخاصة اتجاه الموضوع الذي تدركه بمعزل عن رؤية الراوي ورؤية البطل‪ ،‬أو إنها قد تشترك‬
‫أحيانا ‪ -‬الموضوع الواحد أكثر من رؤية ألكثر من‬
‫ً‬ ‫معهما في رؤية الموضوع نفسه‪ ،‬وقد تتناوب ‪-‬‬
‫شخصية‪ ،‬كما بين التحليل أن الراوي والبطل مشتركان في رؤيتهما للعالم الذي يعيشان فيه ‪ ،‬فهما‬
‫يع يشان في ظروف اجتماعية مشتركة وينتميان إلى فئة اجتماعية واحدة ‪ ،‬تحمل المقامات همومها‬
‫ومعاناتها وتعبر عن رؤيتها للمجتمع وقيمه السائدة‪ ،‬وكل ما يبدو للقارئ من اختالف بين رؤية الراوي‬
‫و رؤية البطل‪ ،‬ليس إال خالًفا ظاهرًيا يخفي تحته اتفاًقا في الرؤية ‪.4‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ -‬عبد الفتاح كيليطو‪ :‬المقامات (السرد واألنساق الثقافية)‪ ،‬ط‪ ،35‬دار توبقال‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪،‬‬
‫‪ ،5335‬ص‪.99‬‬
‫‪5‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬المقامة البغدادية‬

‫المطلب األول‪ :‬تحليل المقامة البغدادية‬

‫عقد علی نقد‪ ،‬فخرجت أنتهز‬


‫اشتهيت األزاد وأنا ببغداد‪ ،‬وليس معي ٌ‬
‫ُ‬ ‫" حدثنا عيسى بن هشا ٍم قال‪:‬‬
‫ادي يسوق بالجهد حماره‪ ،‬ويطرق بالعقد إ ازره "‪.‬‬
‫الكَرخ‪ ،‬فإذا أنا بسو ٍ‬
‫محاله حتی أحلني َ‬

‫افيت؟ وهُل َم إلی‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫لت؟ ومتی و َ‬
‫" فقلت‪ :‬ظفرنا وهللا بصيد‪ ،‬وحياك هللا أبا زيد من أين أَقبْل َت؟ وأين نز َ‬
‫فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬لعن هللا الشيطان‪ ،‬وأبعد النسيان‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫البيت‪ ،‬فقال السوادي‪ :‬لست بأبي زيد‪ ،‬ولكني أبو ُعبيد‪ُ ،‬‬
‫شاب بعدي؟ فقال‪ :‬قد َنب َت‬ ‫أنسانيك طول العه ِد‪ ،‬واتصال ِ‬
‫أشاب كعهدي‪ ،‬أم َ‬ ‫ٌ‬ ‫البعد‪ ،‬فكيف حال أبيك؟‬ ‫ُ‬
‫دمنِت ِه‪ ،‬وأرجو أن يصيره هللا إلی جنته‪ ،‬فقلت‪ :‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪ ،‬وال حول وال قوة إال‬
‫الربيع علی َ‬
‫باهلل العلي العظيم‪ ،‬ومددت يد البدار‪ ،‬إلی الصدار‪ ،‬أريد تمزيقه‪ ،‬فقبض السوادي علی خصري بجمعه‪،‬‬
‫وقال‪ :‬نشدتك هللا ال مزقته "‪.‬‬

‫أطيب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫طعامه‬
‫ُ‬ ‫غداء‪ ،‬أو إلی السوق نشتري شوا ًء‪ ،‬والسوق ُ‬
‫أقرب‪ ،‬و‬ ‫ً‬ ‫" فقلت هُلم إلی البيت نص ُب‬
‫اء يتقاطر شواؤه عرًقا‪،‬‬ ‫فاستفزته حمة القزمِ‪ ،‬وعطفته عاطف ُة اللَقمِ‪ ،‬و َ ِ‬
‫وقع‪ ،‬ثم أتينا شو ً‬
‫طم َع‪ ،‬ولم يعلم أنه َ‬ ‫ُ‬
‫ِن له من تلك الحلو ِاء‪ ،‬اختر له من‬ ‫افرْز ألبي ز ٍيد من هذا ِ‬
‫الشواء‪ ،‬ثم زْ‬ ‫وتتسايل بوذاياته مرًقا‪ ،‬فقلت‪ِ :‬‬
‫شيئا من ماء السماق‪ ،‬ليأكله أبو زيد هنيا "‪.‬‬
‫الرقاق‪ ،‬ورش عليه ً‬
‫تلك األطباق وانضد عليها أوراق ّ‬
‫ِن‬
‫حقا‪ ،‬وقلت لصاحب الحلوی‪ :‬زْ‬ ‫كالكح ِل َس ً‬
‫ْ‬ ‫" فانحنى الشواء بساطوره علی زبدة ِِ‬
‫تنوره‪ ،‬فجعلها‬
‫الحلو ِق‪ ،‬وأمضى في العرو ِق‪ ،‬وليكن ليلي القمر‪ ،‬يومي‬
‫ألبي زيد من اللوزينج رطلين فهو أجری في ُ‬
‫المضغ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫كالصمغ‪ ،‬قبل‬
‫ِ‬ ‫الدهن‪ ،‬كوكبي اللو ِن‪ ،‬يذوب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحشو‪ ،‬لؤلؤي‬ ‫ِ‬
‫القشر كثيف‬ ‫النشر‪ ،‬رفيق‬
‫وجردت‪ ،‬حتی استوفيناه "‪.‬‬
‫وقعدت‪ ،‬وجرد ّ‬
‫ُ‬ ‫فوزنه ثم قعد‬

‫الصارة‪ ،‬ويفثأ هذه اللقم الحارة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫" ثم قلت‪ :‬يا أبا زيد ما أحوجنا إلی ماء يشعشع بالثلج‪ ،‬ليقمع هذه‬
‫أت عليه قام‬
‫اجلس يا أبا زيد حتی نأتيك بسقاء ثم خرجت وجلست بحيث أراه وال يراني‪ ،‬فلما أبط ُ‬
‫فلكمه‬
‫ُ‬ ‫ضيفا‪،‬‬
‫لت؟ فقال أبو زيد‪ :‬أكلته ً‬
‫أك َ‬
‫فاعتلق الشواء بإ ازره‪ ،‬وقال‪ :‬أين ثمن ما َ‬
‫السوادي إلی حماره َ‬
‫لكمة‪ ،‬وثنى عليه بلطمة‪ ،‬ثم قال الشواء‪ :‬هاك ومتی دعوناك؟ زِن يا أخا القحة عشرين‪ ،‬فجعل‬
‫السوادي يبكي ويحل ُعَق َدهُ بأسنانه ويقول‪ :‬كم قلت لذاك القريد‪ ،‬أنا أبو عبيد‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أنت أبو زيد‪،‬‬
‫فأنشدت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪6‬‬
‫ال تقعدن بكل حاله‬ ‫اعمل لرزقك كل إله‬
‫‪5‬‬
‫فالمرء يعجز ال محاله‬ ‫وانهض بكل عظيمة‬

‫المطلب الثاني‪ :‬شرح المقامة البغدادية‬

‫والناظر في المقامة البغدادية سيالحظ ورود األمكنة المفتوحة متمثال في " السوق " فالسوق ًا‬
‫نظر‬
‫التساعه هو األصلح ألن يكون مسرًحا يتسم فيه عرض حيل المكذي‪ ،‬ففي هذه المقامة البغدادية تم‬
‫االحتيال علی الفالح من السواد‪ ،‬وكان القائم باالحتيال‪ :‬عيسى بن هشام حيث عمل علی محادثة‬
‫السوادي بالقول أوًال ثم الفعل‪ ،‬فلقد أراد تمزيق ثيابه حين علم بوفاة والد السوادي وهذه الحركة قد ترتب‬
‫عليها قبول وتصديق أعربت عنهما الجملة التالية‪ " :‬نشدتك هللا ال مزقته " وبهذا يكون " السوق " الدور‬
‫الفاعل في تحريك وبلورة أحداث نص المقامي‪ ،‬ويتضح ذلك في قوله الراوي‪ " :‬والسوق أقرب وطعامه‬
‫أطيب "‪ ،‬فهذا الوصف قد اقتضاه موقف البطل " عيسى بن هشام " هنا أراد فتح شهية السوادي‬
‫وإيقاعه في الفخ‪.‬‬

‫المقامة البغدادية نجدها قد احتوت علی أوصاف متعددة لعناصر مكانية لألطعمة وغيرها‪ ،‬أما‬
‫سيلحظ اتكاء الراوي علی عنصر المكان بغية إكساب الزمن الغامض نوع‬
‫المتأمل في المقامة البغدادية َ‬
‫من التحديد‪ ،‬يقول عيسى بن هشام‪ " :‬اشتهيت األزاد وأنا ببغداد "‪.‬‬

‫وفي المقامة البغدادية مثال عندما وصف " عيسى بن هشام " حالة " السوادي " قال‪ :‬طمع ولم‬
‫منطقيا‪ ،‬كما كانت الخاتمة هي‬
‫ً‬ ‫تمهيدا‬
‫ً‬ ‫يعلم أنه وقع‪ ،‬فميزة هذا التوقع أن افتتاحية المقامة تمهد له‬
‫ومعينا للبناء في النص المقامي‪.‬‬
‫ً‬ ‫مساعدا‬
‫ً‬ ‫األخری نتيجة طبيعية لهذه االفتتاحية‪ ،‬ولهذا كان المتوقع‬

‫المقامة البغدادية من أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني التي تناول فيها موضوع الكدية وهو‬
‫الحصول علی الرزق من خالل الميل والخداع‪ ،‬وقد دارت أحداث المقامة في بغداد وهي عبارة عن‬
‫قصة احتيال قام بها بطل المقامة " عيسى بن هشام" علی رجل عراقي للحصول علی غذائه واعتمد‬
‫فيها الهمذاني علی البالغة وحسن السجع‪.‬‬

‫ويتحدث الهمذاني في هذه المقامة علی لسان راوية عيسى بن هشام‪ ،‬وهذه المقامة تصور سعة‬
‫حيلة بطلها حين احتاج إلی الطعام ولم تكن معه النقود واستطاع برغم ذلك أن يأكل حتی يشبع‪،‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ -‬أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني‪ :‬مقامات بديع الزمان الهمذاني‪ ،‬المقامة البغدادية‪ ،‬ص ‪.29-24‬‬
‫‪7‬‬
‫جانبا من الحياة االجتماعية في بغداد مثل سذاجة بعض أهل القری المحيطة بها من‬
‫وتصور المقامة ً‬
‫طبقة المزارعين واحتيال المحتالين عليهم كما تصور لنا بعض أصناف األطعمة المعروفة في هذا‬
‫العصر‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬أهم الخصائص الفنية للمقامة البغدادية‬

‫للمقامة البغدادية خصائص عديدة منها اآلتي‪:‬‬

‫السرد القصصي العربي‪ :‬كان بطلها عيسى بن هشام الذي دارت حوله أحداث القصة في محاولة‬
‫اإليقاع في السواد بالحيلة التي هي أساس المقامة والتي ترمز إلی القيم السلبية في المجتمع العباسي‬
‫إزاء انتشار الفساد وتدهور الحياة‪ ،‬وتتطور األحداث لتصل إلی ذروة التأزم عند خروج البطل المحتال‬
‫من محل بيع الشواء وترك السوادي لدفع ثمن الطعام ليعرف عندها أنه وقع في مصيدة المحتال‪.‬‬

‫الحوار‪ :‬وقد برز بين البطل عيسى بن هشام والسوادي والذي ظهر من خالله سذاجة السوادي‬
‫وتلقائيته‪ ،‬وبين البطل وصاحب الشواء والذي غلب عليه الوصف للذة الطعام لتضليل السوادي وإلغاء‬
‫تفكيره‪ ،‬وبين صاحب الشواء والسوادي والذي ظهر فيه العنف والقسوة‪.‬‬

‫الوصف‪ :‬وأكثر المشاهد التي ظهر فيها الوصف وصفه للحلوى والماء كما في قوله‪ " :‬ثم أتينا‬
‫اء يتقاطر شواؤه عرًقا‪ ،‬وتتسايل بوذاياته مرًقا "‪.‬‬
‫شو ً‬
‫فن الخداع‪ :‬اتسمت المقامة البغدادية بفن الخداع الذي استخدمه البطل لتحقيق غايته باألكل‬
‫والشرب علی حساب السوادي‪.‬‬

‫الطابع الساخر الناقد‪ :‬اتسمت المقامة البغدادية بطابع أدبي يعتمد علی السخرية في النقد والفكاهة‬
‫والضحك لغاية التعليم‪.‬‬

‫األلفاظ الغريبة الصعبة‪ :‬كما في قوله‪ ":‬زِن ألبي ز ٍيد من اللوزينج رطلين فهو أجری في الحلوق"‪.‬‬
‫استخدام البديع بأنواعه‪:‬‬
‫السجع‪ :‬اشتهيت األزاد وأنا ببغداد‪.‬‬
‫عقد علی َنْق ٍد‪.‬‬
‫الجناس الناقص‪ :‬ليس معي ٌ‬
‫كثرة الصور الفنية‪ :‬مثال ذلك‪:‬‬
‫صي ٍد‪.‬‬ ‫فقلت‪ِ َ :‬‬
‫ظف ْرَنا وهللا ِب ْ‬
‫‪8‬‬
‫خاتمة‬

‫يمكن القول في األخير أن بديع الزمان الهمذاني كان عليه أن يحتال كي يعيش وأن يخدع ليكسب‬
‫لقمة العيش‪.‬‬

‫قصصا بشكل أو بآخر تزخر باأللم والفهم والسخرية‪ ،‬وأن أهم ما يميز‬
‫ً‬ ‫وأن مقاماته التي كانت هي‬
‫مقامات الهمذاني إضافة إلی فنيتها البالغة ونثريتها العالية الصدق والتجربة وعمق اإلحساس ولهذا‬
‫متجددا عبر العصور إلی يومنا هذا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تأثير‬
‫السبب بالذات كان لها ًا‬

‫نابضا ومتجدد القوة حضور مبدع‬


‫وستبقى مقامات أبي الفضل الهمذاني في تاريخ األدب العربي مثاال ً‬
‫في أن يفضح عصره‪ ،‬وأن يواصل العيش في مجتمع عادة ينكره أو ينبذه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ -‬أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني‪ :‬مقامات بديع الزمان الهمذاني‪ ،‬المقامة البغدادية‪.‬‬
‫‪ -‬ركان الصفدي‪ :‬الفن القصصي في النثر العربي‪ ،‬منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬و ازرة‬
‫الثقافة‪ ،‬دمشق‪.5355 ،‬‬
‫‪ -‬عبد الرحيم الكردي‪ :‬البنية السردية للقصة القصيرة‪ ،‬ط‪ ،30‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫‪.5332‬‬
‫‪ -‬عبد الفتاح كيليطو‪ :‬المقامات (السرد واألنساق الثقافية)‪ ،‬ط‪ ،35‬دار توبقال‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫المغرب‪.5335 ،‬‬
‫‪ -‬عبد هللا إبراهيم‪ :‬السردية العربية (بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي)‪ ،‬ط‪،35‬‬
‫المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪.5995 ،‬‬

‫‪11‬‬

You might also like