Professional Documents
Culture Documents
التربية عند كانط
التربية عند كانط
مقدمة
إن مشكلة الرتبية شغلت العديد من الفالسفة واملربني قدميا وحديثا،ومن املعروف أن عالقة
الفيلسوف ابلرتبية عموما قدمية يف الفكر البشري ،فالفالسفة منذ القدمية صرفوا جهدهم للرتبية والتعليم ابعتباره
امليدان لتطبيق أفكارهم الفلسفية سواء يف إصالح أوضاع جمتمعاهتم السياسية أو االقتصادية أو االجتماعية،أو
كما جندها عند الفيلسوف "أفالط ون" فقد كان يدعوا إىل إقامة جمتمعات فاضلة وهكذا فالتفكري الفلسفي
ابعتباره أتمال فكراي شامال يهدف إىل فهم الواقع وتفسريه مثلما يسعى إىل تغيريه هبدف االرتقاء ابلطبيعة
اإلنسانية وال يكون ذلك ممكنا إال برؤية تربوية جادا.
فاملتتبع ملراحل اتريخ الفكر الفلسفي من احلقبة اليواننية إىل الفلسفة املعاصرة مرورا ابملذاهب الفلسفية
الوسيطية إسالمية واملسيحية،وما تالها من اجتاهات فلسفية حديثة أبرزت بشكل خاص متاهي األفكار الرتبوية
مع األوضاع الفكرية والسياسية والعلمية بشكل أساسي ،ومن خالل هذا يتضح لنا إن كل نظرة يف الرتبية هي
جزء من النظرية الفلسفية لكل فيلسوف.
ومن هنا ميكننا أن نتساءل :أمل يسع رجال الدين من أمثال "اغسطني" و"لغزايل" اىل تربية الناس على
مكارم األخالق؟ أليست هذه النظرة تربوية من نتاج الطابع العام للفلسفة يف العصر الوسيط؟أمل تكن فلسفت
"سارتر" اليت تعكس معاانت اإلنسان من القلق ومتزق الذي خلفت احلر العاملية – دعوة لبناء شخصية واعية
حبريتها من خالل املواقف اليت حتياها وتعانيها،كذلك األمر مع الفلسفة املثالية فهي تعرب عن وضعية اإلنسان
األملاين الذي يعيش دوامة احلضارة احلديثة .
هلذا انطلق "كانط" من الواقع األملاين وحاول تقدمي إصالح أعمق يف شىت جماالت لينهض مبستقبل
اإلنسانية عامة وأملانيا خاصة،ابعتبار إن "كانط" فيلسوف أخالقي ابلدرجة األوىل كان يبحث يف مصري
اإلنسانية ككل وأدرك كل إدراك أن ذلك ال يتأتى إال ابلرتبية كوهنا خاصية إنسانية ،وهذا الطرح هو الذي
اسرتعى انتباهنا ومن كانت مشكلة موضوع حبثنا على النحو التايل:
أ
ــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة
وقسمت موضوع البحث إىل ثالثة فصول ابإلضافة إىل املقدمة فتكلمت يف الفصل األول عن
املصادر اليت أثرت يف فكر "كانط" الرتبوي،وذلك من خالل الرجوع إىل حيات الرتبوية وإعمال وقراءات
السابقة للفالسفة ومدى أتثريهم في ،والواقع الرتبوي الذي كان يعيش .
أما الفصل الثاين الذي كان احلديث في عن املبادئ أو األسس اليت قامت عليها الرتبية الكانطية
بداية إبعطاء مفهوم للرتبية عند "كانط " بيد أننا ال نستطيع أن نعطي مفهوم عام وشامل للرتبية عنده ألن
موضوع الرتبية عند "كانط" عام جدا ،لكين حاولت قدر املستطاع أن أعطي مفهوم للرتبية عنده هذا ابلنسبة
للمبحث األول،أما املبحث الثاين الذي كان خيتص مبدى اهتمام "كانط" ابلرتبية اهتمام رجل فكر منظر
وفقط،بل كان اهتمام ممارس للرتبية.أما املبحث األخري فقد كان مبثابة نقطة االنطالق يف الرتبية الكانطية
نتيجة مل ا كانت تشهده أملانيا يف القرن الثامن عشر من أشكال وأنواع للرتبية جعلت يبلور رؤية نقدية للواقع
الذي كانت تعيش أملانيا آنذاك ،وما للرتبية من دور أساسي يف تنشأت األجيال .
وأخريا فصل الثالث الذي كان يدور حول مدى أمهية ودور الرتبية واملكانة اليت حتتلها يف حياة
اإلنسانية،فكان املبحث األول اهلدف الذي تسعى إلي الرتبية الكانطية يف تنشئة الطفل .أما املبحث الثاين
فكان يدور حول أهم الوسائل الذي تقوم عليهم الرتبية عند "كانط"
يف حني املبحث الثالث كان عن أنواع الرتبية عند "كانط " فهناك تربية فيزايئية أو نظرية وأخرى
عملية وكل نوع من أنواع الرتبية تندرج حتت أنواع.
ويف األخري ختمت حبثي خبامتة استنتجت فيها نظرة "كانط" للرتبية والدور الذي لعبت الرتبية يف حياة
اإلنسانية عند "كانط" ،وبعض االنتقادات.فاخرتت املنهج التحليلي وكذا املقارن لكن الغالب املنهج التحليلي
أما املقارن ف كان بني"كانط"و"روستو"وأيضا"ابزدوف" حول مدى أتثري كل منهم يف األخر.معتمدة يف حبثي
ب
ــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة
هذا على مؤلف فيلسوف "كانط" ثالثة نصوص،أتمالت يف الرتبية بقوة ابإلضافة إىل مؤلف "عبد الرمحان
بدوي" فلسفة الدين والرتبية عند"كانط"وساعدتين بعض املراجع األخرى يف فهم فلسفة "كانط" نذكر منها
كتا "كانط" وفلسفت النظرية ل "حممود زيدان فهمي زيدان"ورواد املثالية يف الفلسفة الغربية ل "عثمان أمني"
وغريها من مراجع.
وقد كان اهتمامي يف هذا البحث انبع من كون أن الرتبية موضوع عام وكرغبة مين ان اعرف
األسلو أو املنهج الذي بين علي "كانط" فلسفت الرتبوية ومدى اهتمام هذا األخري أبمهية الرتبية،وإرادة مين
جعلين القي نظرة على هذا الفيلسوف املتميز كيف انطلق ومن أين ليؤسس النظرية يف الرتبية.
أما العوائق اليت واجهتين قلة املراجع حول هذا املوضوع فهي قليال فكثري من الكتب تتكلم عن الرتبية
عند فالسفة ك"روسو "و"الغزايل"وغريها من الفالسفة اال"كانط" فالدراسات حول الرتبية عنده قليال لكن هذا
ال مينع ان اليوجد مرجع تكلم عن الرتبية الكانطية فهناك"عبد الرمحان بدوي"يف كتاب سالف الذكر الذي
ساعدين كثريا اىل درجة وجدت نفسي اعتمد علي كثريا.
لكن رغم كل هذا ال ميكنين آن ادعي إنين قد فهمت فلسفة "كانط" الرتبوية ابلشكل الالزم ذلك
راجع إىل قلة الدراسات السابقة حول هذا املوضوع.
ج
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
ﻣﺼﺎدر اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺘﺮﺑﻮي ﻋﻨﺪ
ﻛﺎﻧﻂ
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
متهيد:
القارئ للفكر الفلسفي األملاين يستنتج أن من أهم أعالم هذا الفكر هو الفيلسوف "إميانويل كانط"
) (E.KANTالذي أنتج االجتاه املثايل أو النقدي ...يف الفلسفة األملانية ،والذي متيز بنزعته األخالقية
واإلنسانية والعقلية وما ترتب عليها من فكر تربوي كان له أثر واسع يف اجملتمعات الغربية عامة واجملتمع األملاين
خاصة ،وال خيفى علينا أن جل الفلسفات قد تطورت ومنت نتيجة لعوامل سواء ذاتية أو موضوعية ،وفلسفة
"كانط" واحدة من بني هذه الفلسفات وهذا ما سنتناوله.
وال خيفى علينا أن الفلسفة الكانطية الرتبوية شأهنا شأن كل فلسفة قد منت وتطورت يف ظروف معينة
وألسباب متعددة ذاتية وأخرى موضوعية وهو ما سنتناوله ابلتحليل يف هذا الفصل.
ولد "إميان ويل كانط" يف مدينة كينجسربج يف بروسيا الشرقية (واليوم روسيا) يف 22أبريل سنة
، 1724كان والده سراجا أما والدته فكانت شديدة التدين حريصة على مساع مواعظ "فرانس شولتس" مدير
معهد فريدرك 1.وهذا بدوره سينعكس على شخصية الطفل "كانط" فيما بعد.
ويف تربية "كانط" كان الوالد حريصا على بث روح االجتهاد والشرف ،وخصوصا جتنب الكذب،
2
بينما كانت األم حريصة على بث روح التقوى الدينية.
فقد كانت أمه عضو يف مجاعة مذهبية متسكت أبهداف الدين وإقامة الشعائر الدينية متسكا شديدا
ال لني فيه وال تساهل .وحبكم نزعة أمه الدينية تلك غاص "كانط" إىل عنقه إابن طفولته يف الدين من الصباح
إىل املساء 3.فهذه الرتبية الدينية فقد تركت يف الطفل "كانط" عندما تقدم به السن احلنني والرغبة يف احلفاظ
على أصول هذا اإلميان الذي غرسته فيه أمه أايم طفولته.
1عبد الرمحان بدوي :املوسوعة الفلسفية ،ج ،1املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط ،1984 ،1ص.274
2عبد الرمحان بدوي :إميان ويل كانط ،وكالة املطبوعات ،الكويت ،ط ،1977 ،1ص.08
3وول ديورانت :قصة الفلسفة ،مكتبة املعارف ،بريوت ،ط ،1982 ،4ص.326
-5-
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
ففي ظل هذا اجلو الديين نشأ "كانط" وتشرب مببادئ هذا املذهب يف املنزل واملدرسة واجلامعة ،مما
كان له األثر الكبري يف حياته.
جل مؤرخو حياة كانط مل يغفلوا على هذا اجلانب من الرتبية الدينية التقوية اليت تلقاها يف صغره يف
التأسيس لفلسفته.
يستمسك أنصار هذا املذهب ابلعقيدة اللوترية األساسية القائلة" :إن اإلميان يربر املؤمن وترى أن حمل
الدين اإلرادة ال العقل ،و تعلي من شأن القلب واحلياة الباطنية" ومن مث تقول هذه النزعة "إن اإلميان احلق
1
هو الذي تؤيده األعمال".
مل تكتفي والدة كانط وما قدمته البنها من إرشادات وتوجيهات داخل املنزل "فنمت يف نفس كانط
نزعة أخالقية متشددة ،مما سيظهر أثره يف سلوكه ويف مبادئ لألخالق اليت عرضها يف كتابه "نقد العقل
العملي" 2.إىل جانب هذا عملت والدة كانط على إدخال ولدها "كانط" يف معهد تقوي من أجل أن يزيد
تشراب مببادئ التقوية ،وهو معهد "فريدرك الذي كانت حريصة يف االستماع ملواعظ" فرانس شولتز" سنة
."1732
لكن سرعان ما خرج كانط من هذا املعهد الذي تعلم فيه اللغة الالتينية ،فقد الحظ "كانط" أن
3
الشعائر والطقوس كانت تؤدي بطريقة آلية ال روح فيها ،ومل تعجبه الربامج الدينية يف تلك املعهد.
وتردد "كانط" يف املشاركة يف الطقوس الدينية ملا كان رئيسا جلامعة كوجنسرج انجتا عن كرهه وعدم
تقبله للطقوس والشكليات الرمسية اليت اختصر فيها الدين ،حىت أنه يف خطاب ألحد أصدقائه يقرر أنه "ال
الشهادة ابإلميان وال التوسل ابألمساء املقدسة وال أي مراعاة للطقوس الدينية ميكن أن يساعدك على الضفر
ابخلالص" 4.وعليه ابإلميان احلقيقي هو القائم على عالقة مباشرة وحية بني اإلنسان وهللا وهذا ما يرفضه يف
كتابه "الدين يف حدود العقل".
1يوسف كرم :اتريخ الفلسفة احلديثة ،دار املعارف ،ط( ،5د.س) ص.208
3حممود زيدان :كنط وفلسفته النظرية ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ،اإلسكندرية ،2004 ،ص.18
4وانت كرستوفر أندزجي كليمو فسكي :أقدم لك كانط ،ترمجة إمام عبد الفتاح ،إمام ،اجمللس األعلى للثقافة ،2002 ،ص.12
-6-
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
مما جعله هذا األمر ينفر من التعليم الديين الالهويت وميله إىل العلوم العقلية ،واختيار دراسة الفلسفة
بدال من دراسة الالهوت.
وعليه أتثر "كانط" أتثرا ابلغا ابلرتبية الدينية التقوية ،اليت تلقاها على يد أمه ،عكس الرتبية اليت تلقاها
وعرفها يف معهد فريدرك ،وقد كان هلذه الرتبية انعكاسا على فلسفته الرتبوية واألخالقية.
بعد وفاة والده اشتغل "كانط" ابلتعليم اخلاص ،فمارس مهنة التعليم اخلاص يف سن مبكر ما بني
1755-1747وقد كان توجهه هلذه املهنة من أجل كسب قوت عيشه ألن كان ينتمي إىل عائلة فقرية.
ملا خترج "كانط" من اجلامعة اضطرته ظروفه املالية إىل أن يعمل معلما خاص يف بعض البيوت ،فتوىل
1
مهنة معلم خاص لدى ثالث عائالت خمتلفة يف بروسيا ،وظل يف هذه املهنة امان سنني.
كانت متارس هذه املهنة من طرف "كانط" يف ضياع وقصور هؤالء النبالء ،فقد أفاد ذلك "كانط"
2
يف توفري جو التأمل يف إطار الطبيعة الفسيحة ومالحظة ظواهرها.
واشتغال "كانط" ابلتعليم اخلاص مكنه من االختالط ابلعديد من األسرة األملانية واألوساط
االجتماعية الراقية " فنمت هذه املخالطة ابلناس فهمه للطبيعة البشرية وخرباته ابلعالقات اإلنسانية فقد كان
3
حريصا على مجع املعارف واملعلومات اليت تنمي ثقافته وتغذي عقله".
جتربة "كانط" كمعلم خاص لدى أبناء النبالء جعلته يكتسب الكثري من األفكار واملعارف حول
موضوعات الرتبية وما الحظه من عيوب يف خالل ممارسته هلذه املهنة.
بعد امان سنني ختلى "كانط" عن التعليم اخلاص وتفرغ للدراسة اجلامعية العالية وملا أشرف "كانط"
4
على الثالثني حظر للماجسرت ،وحصل عليها يف 12يونيو .1755
1عبد الرمحان بدوي :إمانويل كانط ،وكالة املطبوعات ،الكويت ،ط ،1977 ،1ص.09
3الشنيطي :خواطر كانط يف الرتبية ،دراسات فلسفية مهداة إىل روح ،أتليف مجاعي،تصدير ابراهيم مذكور ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة،
،1979ص.10
وبعد حصوله على هذه الدرجة عني مدرسا يف اجلامعة ،فألقى دروسا يف املنطق وامليتافيزيقا
والرايضيات ،والقانون الطبيعي وعلم األخالق ،والالهوت الطبيعي ،وعلم اإلنسان ،واجلغرافيا الطبيعية.
ولكن ابالستناد إىل كتب ألفها غريهم يف إلقاء حماضراهتم على الطالب بدال من أن يلقوا احملاضرات
من عندهم وهذا ما فرضته اجلامعات األملانية على األساتذة آنذاك.
ورغم جناحه اهلائل يف التدريس ،فقد بقي مخس عشرة سنة مدرسا ،Magisterوابلرغم من
احملاوالت العديدة ليكون أستاذا عدة مرات إال أهنا أخفقت ،فبعد وفاة أستاذه للفلسفة ،لكنه مل ينجح يف
1
ذلك.
ويف سنة 1758أراد "تشولتس" بعد وفاة أستاذ املنطق والفلسفة أن يتوىل "كانط" هذا املنصب
فاستدعاه إىل غرفته وطلب منه التقدم للحصول على هذا املنصب ،لكن الدكتور "بوك" ضفر به ومت إسناده
إىل األستاذ "بوك".
لكن رغم هذا شغل "كانط" منصب أستاذ يف الشعر يف سنة ،1764لكنه رأى أن ذلك ليس من
اختصاصه ،وقبل أن يتوىل منصب مالحظ اثين يف املكتبة امللكية يف ،1766وما لبث "كانط" أن استقال
2
من هذا العمل.
غري أن طموح "كانط" يف منصب األستاذية مل يتحقق إال يف سنة 1770أي بعدما أصبح يبلغ ستة
وأربعني سنة من العمر ،وذلك عند شغر منصب املنطق وامليتافيزيقا ،وذلك بعد مناقشته ألطروحته ابللغة
الالتينية حول "صورة ومبادئ العاملني احلسي واملعقول" وعليه حتقق أمل "كانط" بعد انتظار طويل.
ومنذ ذلك الوقت تدرج "كانط" يف العديد من املناصب العلمية واإلدارية حىت أصبح عميدا للجامعة
أكثر من مرة ،وذلك نظرا لكفاءته ونزاهته وإخالصه يف العمل.
ابإلضافة إىل هذا فقد كان عمله يف اجلامعة مزدمحا ،إذ كان يعطي "كانط" عشرة حماضرات يف
3
األسبوع ،وكان يصل عدد حماضراته أحياان إىل امانية وعشرين حماضرة.
-8-
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
إىل جانب هذا فقد عاش كانط يف عصر مضطرب ومتدهور نتيجة لألوضاع اليت مرت هبا أملانيا يف
النظام التعليمي والرتبوي إابن القرن الثامن عشر ،وما كان ميارسه املعلمون على التالميذ من أنواع العقوابت
ومما ال شك فيه أن األفكار الرتبوية اليت جاء هبا "كانط" ما هي إىل رد فعل ألوضاع التعليم يف أملانيا اليت من
شأهنا ستفيدان يف فهم فلسفة "كانط" الرتبوية.
وميكننا حتديد أهم مالمح التعليم يف أملانيا يف القرن الثامن عشر يف النقاط التالية:
*املعلمون:
كان املعلمون يلجئون إىل القسوة الشديدة يف العقاب ،حىت قيل أن معلما يف إحدى املدارس ،عاقب
تالميذه بشىت أنواع العقوابت إىل درج ة أنه قيل وضع املعلم قفص يسمى "قفص الدب" وهو قفص يدخل فيه
الولد ،ال يستطيع فيه اجللوس وال الوقوف.
كان املعلمون يف غاية الضعف واملهانة ،ال يعرفون كيف يعلمون ،فنوعية املعلمني يف أملانيا آنذاك
رديئة ومؤسفة ،نتيجة عدم امتالكهم لكفاءة مهنية خاصة يف جمال التعليم ،فقد كان جل املعلمني من رجال
الدين ،ومن ميلكون درجة رفيعة يف الالهوت فباستطاعتهم أن يدرسوا كل شيء يقول دلتاي..." :كل من أمت
1
دراساته الالهوتية يف اجلامعة وألقى بعض املواعظ التافهة ،كان يعد هبذا مؤهال لوظيفة التعليم".
وضعف مستوى املعلمني أدى بدوره إىل عدم انتظام نسبة احلضور يف املدارس ،كما أن اجلامعات مل
تكن على أفضل حال من املدارس ،وهذا ما جعل فريدرش الثاين الكبري ملك بروسيا حماوال إصالح أحوال
املدارس وللمعلمني حيث ،جعل التعليم إجباراي على األطفال من سن اخلامسة حىت الثالثة عشر ،وغريها من
2
األوامر اليت أصدرها ،غري أن هذه األوامر مل تكن فعالة رغم أهنا كانت جيدة.
*املناهج:
إن سوء املناهج املتبعة واقتصار هذه املناهج على التلقني دون سواه ،وعدم اتباع املعلمون يف ذلك
الوقت املناهج التعليمية السليمة املالئمة للطفل واملناسبة لقدراته ولطبيعته ،وهذا ما سينقده "كانط" فقد كان
املعلمون ال يعرفون كيف يعلمون ،لقد كانوا مثل الببغاوات يعلمون األطفال أشياء ال يفهموهنا وال يعرفون
1عبد الرمحان بدوي :فلسفة الدين والرتبية عند كنط ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت ،ط ،1980 ،1ص.114
-9-
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
كيف يسألون ،ويتكلمون وحدهم أو ميلون طول الوقت" 1.وهذا ما تنبه إليه "كانط" وأدرك مدى خطورته
على املتعلم وهذا ما دفعه إىل تقدمي بديل تربوي.
إىل جانب تردي نوعية املعلمني ونقص املدارس ،وعدم انتظام نسبة احلضور يف املدارس ابإلضافة إىل
عدم صالحية املناهج ،جند أيضا أن طبيعة التعليم يف املدارس الثانوية كانت هتدف إىل تعليم الالتينية فقط
لغاية الهوتية ،أما اللغة األملانية -وهي اللغة القومية -مل تكن تدرس يف املدارس حىت النصف الثاين من القرن
2
الثامن.
أما العلوم الفيزايئية والرايضية فقد كانت أسوأ حضا ،فمعظم الربامج الدراسية قد خلت من ذكرها،
ألهنا كانت مغيبة متاما من املناهج الدراسية.
كما أن األنظمة احلاكمة يف ذلك الوقت مل تكن هتتم ابلشأن الرتبوي وكان جل اهتمامها منصبا على
كيفية االستعداد للحروب واخلوض فيها.
وعموما فإن حياة كانط مليئة ابألحداث واملواقف ،فتأثره أبمه يف أايم طفولته تركت فيه نزعة دينية
وأخالقية ،إىل جانب تدريسه يف التعليم اخلاص والتعليم اجلامعي أيضا هذا األخري ترك فيه فضائل كثرية كحبه
للعمل واه تمامه برتبية الطفل ،كل هذا انتج عن األوضاع اليت مر فيها يف عصره فوقف "كانط" على هذه
األوضاع واملساؤئ اليت مر هبا التعليم آنذاك يف أملانيا وانتقدها مع إعطاء البديل وهذا ما سنراه إذن فحياة
"كانط" جد مهمة فهي مبثابة األرضية الصلبة اليت من خالهلا نفهم ملاذا كانط اهتم ابلتعليم والطفل والرتبية
وغريها.
- 10 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
تعترب نظرية املعرفة من العلوم احلديثة ،اليت انلت اهتمام العديد من املفكرين والفالسفة ،حيث اهتمت
نظرية املعرفة بقضية أساسية تتعلق مبصدر املعرفة ،مما أدى إىل ظهور اجتاهني متعارضني ،متثل االجتاه األول يف
أن العقل هو املصدر الوحيد للمعرفة (االجتاه العقالين) أما االجتاه الثاين فتمثل يف التجريبيني الذين يعتقدون أن
احلواس هو مصدر املعرفة ،هذا الصراع الفلسفي بني العقالنيني والتجريبيني أدى إىل ظهور تيار نقدي فلسفي
بزعامة "إما نويل كانط".
لقد وصفت الفلسفة النقدية ابلعديد من األوصاف ،فمنهم من وصفها الفلسفة الرتسندنتالية ،ومنهم
من وصفها ابلفلسفة املثالية ،وآخرون وصفوها ابلفلسفة العقالنية...إخل ،غري أن أشهر ما وصفت به هذه
الفلسفة هو النقدية.
مسيت فلسفة "كانط" ابلفلسفة النقدية ،والنقد عند "كانط" ليس ذلك النقد املوجه إىل الكتب
واملناهج ،وإمنا مسيت اب لنقدية ألهنا هتتم بوضع احلدود اليت جيب على العقل أن ال يتعداها يف عملية املعرفة،
وقد كانت الغاية من وضع كتابه "نقد العقل اخلالص" هي وضع هذه احلدود.
إن السبب يف وضع هذه احلدود هي املغالطات والتناقضات اليت وقع فيها العقل اإلنساين على مر
العصور.
من املعروف أن كانط صاحب مشروع نقدي يرتكز على ثالث أسئلة:
السؤال األول يتعلق ابملشكلة املعرفة ،بينما يتعلق السؤال الثاين ابملشكلة اخللقية ،يف حني يتعلق
السؤال الثالث ابملشكلة الدينية ،والسؤال األو هو موضوع نظرية املعرفة وهذا ما سنتناوله.
الفلسفة النقدية فلسفة توفيقية حبيث" :ال تريد أن تكون حسية وال ذهنية ابملعىن الضيق هلذين
اللفظني ،وإمنا تريد يف االمتحان الذي جتريه للعقل أن تكون ترتستدنتالية ،أي حاكمة انقدة عادلة جماوزة
- 11 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
جلميع املذاهب التقليدية ،واقفة موقف أعلى تستطيع أن تنظر منه لتقدير الصواب واخلطأ يف كل واحدة من
تلك املذاهب" 1.وهذا ما سنالحظه من خالل التطور الروحي لكانط.
هدف الفلسفة النقدية هو فك اخلصومة التقليدية بني التيارين التجرييب والعقلي واجلمع بينهما على
حنو توفيقي ،فالنقدية "تفسر كل معرفة صحيحة أبهنا امرة العاملني الزمني لبنائها وال يقل الواحد منهما خطرا
عن اآلخر ،عامل أوال يف متقدم على التجربة ...وهذا العامل هو من طبيعة الذات العارفة ،وعامل مادي
قوامه أحاسيس اإلدراك احلسي" وإذا افتقران إىل واحد من العاملني مل يكن لدينا معرفة صحيحة.
وأول أثر "لكانط" يف املرحلة قبل النقدية يف نظرية املعرفة هو كتابه "إيضاح جديد للمبادئ األوىل
للمعرفة امليتافيزيقية" سنة 1755وفيه تتجلى انتماؤه الواضح إىل مدرسة "ليبنتز" و"فولف" .ويؤكد عبد
الرمحان بدوي أن االجتاه العام للكتاب هو النزعة العقلية سواء يف املنهج أو يف الغاية ،واهلدف الذي يرمي إليه
2
هو تقرير مذهب أو نسق من احلقائق العقلية الضرورية.
أما املرحلة الثانية فهي املرحلة التجريبية أو النزعة التجريبية وهي تتحدد من خالل مؤلفاته خالل
عامي ( ) 1763-1762وهي على التوايل (بيان ما يف أشكال القياس األربعة من حتذلق زائف)( ،حبث يف
مبادئ الالهوت الطبيعي واألخالق) وحملاولة إدخال تصور املقادير السالبة يف احلكمة العاملية)( ،الربهان
املمكن الوحيد إلثبات وجود هللا).
لقد سعى "كانط" يف هذه املؤلفات األربعة إىل األخذ ابلتجربتني ،واكتملت جتربته بعد سنيت
( ،) 1762-1763فأصبح "كانط" يرى أن كل معرفة تبدأ مع التجربة ،وقدرتنا املعرفية لن تستيقظ إىل
العمل ما مل يتم ذلك من خالل موضوعات صدم حواسنا يقول "ال تتقدم أي معرفة عندان زمنيا على التجربة،
3
جل معها تبدأ مجيعا".
1عثمان أمني :رواد املثالية يف الفلسفة الغربية ،دار الثقافة للنشر والتوزيع ،القاهرة( ،د.ط) ،1989 ،ص.62
3أميا نويل كانط :نقد العقل احملض ،ترمجة موسى وهبة( ،د.ط)( ،د.ت) ،ص .45
- 12 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
جعل ت املرحلة التجريبية من كانط يعتقد أن التجربة تنهي املصدر األول ملختلف التصورات واملعارف
فـ "ليس امة شك أبدا يف أن كل معرفتنا تبدأ مع التجربة؛ ألن قدرة املعرفة لن تقوم بواجبها ما مل حيدث ذلك
من خالل املوضوعات اليت تلمس حواسنا فتحدث التصورات من جهة ،ومن جهة تدفع عمل الفهم إىل
مقارنة هذه التصورات وربطها وفصلها؛ وبذلك تتحول املادة اخلام لالنطباعات احلسية إىل معرفة للموضوعات
تسمى التجربة" 1.فاالنطباع احلسي هو الشرط الوحيد لقيام أي معرفة ،وما مل تتوفر لن تتسىن لنا أي معرفة
لكن التحول احلاسم يف تطور فكر "كانط" قد حدث فيما يبدو ،يف سنة ،1769ويبدوا أن ذلك
كان بتأثري هيوم ،ذلك أن هيوم نبه "كانط" إىل مشكلة الكلية والضرورة يف األحكام.
لكن يف احلقيقة أن هذه النزعة مل تبقى مسيطرة على كانط ،بل أعقبتها مرحلة هامة من مراحل فكره.
واليت تعترب منعرجا حامسا يف الفكر الكنطي واليت مجع من خالهلا بني التجريبية والعقلية.
ميز "كانط" يف هذه املرحلة بني العامل احملسوس والعامل املعقول ،ويقر بوجود كليهما .والعامل احملسوس
له شكله ومبادئه وهو يتضمن وجود عامل معقول ،هو عامل النومينات أو األشياء يف ذاهتا ،واملبادئ الصورية
2
لعامل الظواهر اثنان :الزمان واملكان.
املرحلة النقدية:
ذلك هو تطور فكر "كنت" قبل أن يقوم بنقد العقل ،وقد رأى يف سنة 1770أنه البد من
الفحص عن العقل احملض ،وذلك لبيان طبيعة املعرفة النظرية واملعرفة العملية من حيث هي عقلية فقط ،فأكد
3
على هذا الفحص ،ومل يفرغ منه إىل يف سنة 1781أي حني أصدر كتابه "نقد العقل احملض".
من املعروف أن نظرية املعرفة عند "كانط" ارتبطت بكتابه" ،نقد العقل اجملرد" ،وانطالقا من مؤلفه
هذا أرجع كانط للعقل مكانته األساسية يف بناء التصورات ،واكتساب املعارف دون إمهال دور التجربة كمرحلة
أوىل يف تبنيه العقل حيث يقول "كانط" "تتولد معرفتنا من مصدرين أساسيني يف الذهن؛ األول هو استقبال
التصورات لقدرة تلقي االنطباعات ،والثاين هو القدرة على معرفة موضوع هبذه التصورات (تلقائية األفاهيم)؛
1مجال حممد أمحد سليمان :أنطولوجيا الوجود ،دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع( ،د.ط) ،2009 ،ص.139
- 13 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
ابألول يعطي لنا املوضوع ،وابلثاين يفكر بعالقة مع ذلك التصور بوصفه جمرد تعني للذهن" 1.يعين هذا أن
احلدس واألفاهيم يشكال عنصري كل معرفة لدينا ،فاألفاهيم بدون حدوس ال ميكن أن يعطي لنا معرفة ،وال
احلدوس دون األفاهيم كذلك ال ميكن أن تعطي لنا معرفة.
جتاوز "كانط" نظرة كل من العقالنيني والتجريبيني ،وذلك بدمج عناصر العقلية بعناصر التجربة ألهنم
كا نوا ينظرون إىل العقل من جانب واحد ،والعقل عند "كانط" ملكه يف املعرفة يتألف من صور ومبادئ قبلية
سابقة على التجربة ،يقوم بتنظيم معطيات التجربة ويقوم بتحويلها إىل معرفة يقينية ،وهذا ما جاء على لسانه
"أبن العقل منظومة من املبادئ القبلية"
يرى كانط أن هناك مصدري ن للمعرفة ومها احلساسية والفهم أو املفامهة قائال" :القدرة على تلقي
التصورات ابلطريقة اليت هبا نتأثر ابملوضوعات الوافدة ،تسمى احلساسية ،فبواسطة احلساسية إمنا تعطى لنا
املوضوعات ،وهي وحدها تزودان ابحلدوس ،لكن الفامهة هي اليت تفكر هذه املوضوعات ومنها تتولد
األفاهيم" 2،إذن هناك مصرين للمعرفة البشرية مها احلساسية والفامهة ،فاحلساسية متدان ابملوضوعات يف حني
يعمل الفهم على تعقل تلك املوضوعات.
مييز "كانط" عند حديثه عن احلساسية بني صورة احلدوس احلسية ومادهتا؛ فاملادة هي موضوع
اإلدراك احلسي ،يف حني أن الصورة هي املبدأ الباطن يف الذات العارفة ،والذي ميكنها من تنظيم مضمون
الظاهرة ،فاملادة تصدر عن املوضوع املتغري احلادث ،يف حني تصدر املصورة عن الذات اليت متنح للمادة صفة
الكلية والضرورية يقول أن "ما يتناسب مع اإلحساس يف الظاهرة أمسيه مادهتا ،أما ما ميكن متنوع الظاهرة من
أن ينسق مبوجب عالقات معينة ،فأمسيه صورة الظاهرة .وحي أن ما ميكن كل اإلحساسات من أن تنسق
وتتخذ صورة معينة ،ال ميكن أن يكون هو اآلخر إحساسا وحيت أنه ال تعطي لنا مادة أي ظاهرة إال بعداي،
3
فإنه جيب أن تكون صورهتا قائمة قبليا يف الذهن ،ومهيأة هلا مجيعا".
- 14 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
فما يتماشى مع اإلحساس هو املادة ،أما تلك العالقات والتنسيق املوجود قبليا يف الذهن هو صورة
املعرفة ،هذه األخرية تكون مهيأة يف الذهن حبسب اإلحساسات اخلارجية والظواهر اخلارجية.
تتكون احلساسية من صورتني أوليتني مها املكان والزمان ،فال ميكن إدراك معطيات االنطباع احلسي
إال من خالل املكان والزمان اللذين اعتربمها "كانط" صورتني قبليتني للحساسية قائال" :أن امة صورتني
حمضتني للحدس احلسي ،بوصفهما مبادئ للمعرفة القبلية ،ومها الزمان واملكان" 1.وال ميكن إدراك األشياء إال
وهي متحيزة يف املكان ومتعاقبة يف الزمان ،فاملكان هو صورة احلس اخلارجي يف حني أن الزمان هو صورة
احلس الباطين أو الداخلي.
إذن هناك مصدرين للمعرفة هي احلساسية والفهم أو املفامهة ،فاحلساسية هي اليت متدان مبادة املعرفة
نظرا الرتباطها املباشر ابلعامل اخلارجي ،يف حني يقدم لنا الفهم بصورة املعرفة وجيعل موضوعات احلساسية قابلة
للتعقل.
ويضيف "كانط" املقوالت إىل الزمان واملكان ،فهو يرى أهنما مفهومان خاصان قبليان ينتميان إىل
احلدس اخلالص للعامل اخلارجي والداخلي على التوايل ،وابلتايل فبدون مفاهيم قبلية املكان والزمان تستحيل
2
التجربة ومنه يكون الزمان واملكان مشاهبني للمقوالت.
وهكذا فإن التجربة تتشكل بتصورات قبلية ،لكن ما يدفع إىل قيام التجربة هي مصادرة تستمد منها
التجربة يسميها "كانط" "ابألشياء يف ذاهتا" ،يف مقابل املظاهر أو الظواهر ،لكن يستحيل تبعا لنظرية "كانط"
أن تكون لدينا جتربة ابلشيء يف ذاته ،ما دامت كل جتربة حتدث عن طريق تضافر املكان والزمان واملقوالت
(مع أي عنصر خارجي).
وعليه فاخلوض يف نظرية املعرفة عند "كانط" أمر معقد وجد صعب وال داعيا للخوض فيها ألن الذي
يهمنا هو معرفة املصادر الذي جعلها "كانط" أساس كل معرفة ومنهما نستطيع أن نفهم ملاذا "كانط" جعل
احلساسية والفهم من األمور الرتبية العقلية اليت جيب أن ننمي الطفل عليهم.
2برتراندرسل :حكمة الغرب ،ترمجة فؤاد زكرايء ،ج ،2عامل املعرفة ،الكويت ،1983 ،ص.122
- 15 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
فاملعرفة هي نتاج تضافر وتكامل بني كل من احلساسية والفهم وهذا ما قاله كانط أنه "من دون
احلساسية لن يعطى لنا أي موضوع ومن دون الفامهة لن يفكر شيء ،واألفكار من دون مضمون فارغة،
واحلدوس من دون أفاهيم عمياء" 1.فمن الضروري أن جتعل األفاهيم حسية ،مبثل ما هو ضروري أن جتعل
احلدوس مفهومة ،وال ميكن هلاتني القدرتني أن تتبادل الوظائف .فال يسع الفامهة أن حتدس شيئا وال احلواس
أن تفكر شيئا ،فباحتادمها فقط ميكن أن تتولد معرفة.
غري أن مصادر املعرفة يف نظر كانط ال تتوقف على هاتني امللكتني بل اكتشف ملكة أخرى واليت
مساها ملكة العقل.
"هذه امللكة اإلنسانية هي املنبع األكرب للوهم إذ العقل هنا يسعى دائما إىل جماوزة جمال الفهم ،حماوال
أن جيد للموضوعات أساسا غري مشروط" 2.يتجاوز العقل ملكة الفهم لينتج لنا غري الذي ينتجه الفهم من
تصورات ومقوالت ،فمهمة العقل وضع احلدود والشروط اليت ال ميكن للفهم أن يتعداها.
فالعقل عند كانط ليس جمرد مستقبل لإلحساسات ،وإمنا هو العقل الذي يفرض قوانينه على األشياء،
فالعقل اإلنساين له قدرة حمدودة على اإلدراك فهو ال يستطيع إدراك عامل احلقائق أو األشياء يف ذاهتا ابلرغم من
وجوده.
وهكذا يكون كانط قد أعطى األولوية ال للمدرك احلسي أو اإلحساس أو احلدس احلسي ،بل جعل
هذا كله غري ممكن إال داخل املبدأ أو املفهوم أو الشرط العقلي األويل؛ وعلى هذا فهو يسحب البساط من
حتت قدمي االنطباع احلسي ليعطي األولوية مللكة العقل على الواقع 3.وهذه امللكة –العقل -هو اجلانب املهم
يف تنميته لدى الطفل ،وبدوره سيعكس الضوء على فلسفته "كانط" الرتبوية.
وعليه فالعقل هو املركز الذي تدور حوله األشياء لتتم لنا معرفتها من مقوالته وقوانينه وشروطه األولية،
ولكي تكون األشياء أو املوضوعات معرفة البد هلا من أن تتطابق مع مبادئ العقل ومقوالته األولية ،وليس
كما ذهب الفالسفة قبل كانط من أن املعرفة اليقينية تكمن يف تطابق تصوراتنا العقلية مع املوضوعات ومن
- 16 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
يتضح "أن املعرفة تصدر عن العقل أو الطبع اإلنساين ال عن االنطباعات احلسية اليت ال تعدوا كوهنا مهمازا
1
حيرك قدرة املعرفة فينا".
وعموما فإن نظرية املعرفة عند "كانط" ترى أن العقل هو املصدر الرئيسي النبثاق األفكار ونشوئها،
وأن قدرتنا العقلية حمدودة فليس لنا أن نعرف كل شيء وإمنا نعرف فقط ما يتفق ويتطابق مع تصوراهتا،
فمجال املعرفة مقتصر على عامل الظواهر فقط ،وذلك من خالل اعتماده على ملكة احلساسية اليت تزودان
ابحلدوس واالنطباعات احلسية املتنوعة ،وأيضا ملكة الفهم اليت متكنه من تعقل تلك احلدوس.
*روسو
*ابزدوف.
العديد من األفكار والتجارب الرتبوية اليت عاصرها "كانط" ووقف على ما فيها من مساوئ وحماسن
ساعدته يف بناء منوذجه الرتبوي اخلاص به.
صحيح أن كانط أتثر بفلسفة "ليبنتز" و"نيوتن" ألن "كانط" عندما دخل إىل جامعة كوجنسربج
حيث كان آنذاك االجتاه السائد يف تلك اجلامعة وغريها من اجلامعات األملانية هو تدريس فلسفة ليبنرت
وطبيعيات نيوتن.
كما اعرتف "كانط" أتثره "هبيوم" ( )D.HUMEالذي أيقظه من سباته الدوغماشي يف العلم
واملعرفة ،ابإلضافة إىل "فولف" وغريه من الفالسفة.
لكن حديثنا سيكون ابلدرجة األوىل عن الفالسفة الذين أتثرهم "كانط" يف جمال الرتبية ،ومن بينهم
"روسو" و"ابفردوف" .وأتثر "كانط" هبؤالء الفالسفة ال يعين أنه وقف عند هناية النقطة اليت توصل إليها
الفالسفة بل أخذ بعض األفكار وجددها وأعطى هلا اجتاه آخر.
- 17 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
يعد "روسو" مصدرا هاما من مصادر فلسفة كانط ،فكل الدراسات والفلسفات اليت تناولت اتريخ
الفلسفة احلديثة إال وحتدثت عن العالقة الفلسفية العميقة بني "روسو" و"كانط".
حىت قيل أن إطالع "كانط" على كتاب "إميل" غري يف الكثري حىت يف حياته اليومية إىل درجة أنه
ألغى خروجه لنزهته املعتادة حتت أشجار الزيزفون وذلك من أجل قراءة هذا الكتاب الذي وجد فيه "رجال
1
آخر يشق طريقه للخروج من ظالم لإلحتاد ،رجال أكد بشجاعة أسبقية الشعور على العقل النظري".
شغف كانط أبفكار "روستو الداعية إىل حياة الطبيعة وللفطرة اخلالصة جعلت منه يتعلم إبحياء احرتام
الطبيعة اإلنسانية حىت أنه قال "إنه علمين أن حال الطبيعة أمسى من حال املدينة" 2.بعدما كان "كانط"
يعتمد أن العلم أكرب عنوان للمجد ،والغاية القصوى لإلنسانية ،حىت احتقر "كانط" الشعب اجلاهل ،ومن مث
جاء "روسو" فرفع الغشاوة عن بصريته.
كما علمه أيضا "أن الرتبية جيب أن ت كون سلبية يف األكثر ،فتقتصر على ضمان حرية امليول
الطبيعية ،وتنبذ إكراه العرف املصطنع" 3.فتقتصر على معاونة الطفل يف تربية نفسه بنفسه ،وتتجنب كل ما
يضيق عليه ويقيده.
كما أخذ "كانط" عنه "شعوره العميق بيقني الضمري الذي نستشعره يف وجداننا استشعارا مباشرا
ليس إىل االرتياب فيه سبيل" 4.فالعقل هو أساس كل شيء يف اإلنسان.
وأتثر "كانط" "بروسو" يف العديد من اجلوانب الفلسفية حىت أنه حوله من املسائل املعرفية إىل املسائل
األخالقية والرتبوية وهذا واضح من خالل األفكار الرتبوية اليت طرحها "كانط" أتثرا مبا جاء به "روسو" يف
كتابه "إميل".
1وول ديورانت :قصة الفلسفة ،ترمجة فتح هللا حممد الشعشع ،مكتبة املعارف ،بريوت( ،د.س) ،ص.325
4عثمان أمني :رواد املثالية يف الفلسفة الغربية ،دار الثقافة للنشر والتوزيع ،القاهرة ،1989 ،ص.66
- 18 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
لقد كتب "روسو" أفكاره الرتبوية يف كتابه الشهري "إميل" إذ يعترب هذا الكتاب فريد من نوعه حيث
عرض فيه أبسلوب شيق وممتع الرتبية املناسبة اليت يراها "إميل" وإميل هو الطفل الذي اقرتحه أن تكون تربيته
موضوعا لفلسفته الرتبوية.
قسم "روسو" الرتبية اليت ينشدها إلميل إىل مراحل شرح يف كل مرحلة الرتبية املناسبة لنمو "إميل".
املرحلة األوىل:
من امليالد إىل سن اخلامسة ،ويف هذه املرحلة يتم الرتكيز فيها على الرتبية اجلسيمة والنفسية للطفل.
املرحلة الثانية:
الرتبية من سن اخلامسة إىل سن الثانية عشرة ،وتقوم الرتبية يف هذه املرحلة على دعامتني ،األوىل هي
الرتبية السلبية ،أما الثانية فهي أن الرتبية امللقية جيب أن تتم عن طريق اجلزاء الطبيعي .ويف هذه املرحلة ينتقد
الطرق التقليدية اليت كانت تتبع يف تربية الطفل من وعظ وإرشاد نظري.
املرحلة الثالثة:
الرتبية من سن الثانية عشرة إىل اخلامسة عشرة ،فيهتم "روسو" هبذه املرحلة اهتماما شديدا ،ففيها
يزود الطفل ابملعلومات واملعارف.
املرحلة الرابعة:
ومتتد هذه املرحلة من سن اخلامسة عشرة إىل العشرين ،ففي هذه املرحلة يعد "إميل" للحياة مع
اآلخرين ،فعلينا أن ندرس على العالقات االجتماعية ،فتصبح حمبة اآلخرين هي الدافع املوجه لسلوكه ،ويكون
هدف الرتبية يف هذه املرحلة هو تنمية الوجدان وتقومي األخالق.
املرحلة اخلامسة:
لقد خصص "روسو" يف هذه املرحلة لرتبية املرأة اليت أطلق عليها اسم "صويف" ويرى "روسو" أن
تكون تربيتها جسمية ابإلضافة إىل تعلم الطهي والتطريز واملوسيقى والعناية ابلطفل" ،فوظيفة املرأة هي إسعاد
الرجل" وإرضائه والقيام برتبية األطفال.
- 19 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
وهكذا اعترب روسو املؤسس احلقيقي لالجتاه الطبيعي ،حيث أعطى للطبيعة دورا يف تربية الطفل ،ومن
خالل كتابه "إميل" عرض لنا "روسو" لوان من الرتبية القائم على معرفة حقيقة اإلنسان "فالرجل الطبيعي ليس
ابإلنسان اهلمجي ،ولكنه إنسان تسريه وحتكمه قوانني طبيعية" 1.ففي نظر "روسو" احلقوق الوحيدة لإلنسان
هي تلك احلقوق املستمدة من الطبيعة.
فكل من "كانط" و "روسو" يتفقان يف الكثري من األفكار الرتبوية خصوصا ما تعلق ابلرتبية اجلسمية
للطفل ،فكالمها يؤكدان على ضرورة أن تبدأ تربية الطفل منذ حلظة الوالدة أو امليالد.
كما يتفقان أيضا حول رفض فكرة "القماط" وذلك ملا فيه من ضرر على الطفل سواء على اجلانب
النفسي أو اجلسمي ،فإذا كان "روسو" يرى أن لف الطفل "ابلقماط" حيدث "التضييق على أطراف الطفل
يعوق دورة الدم ويعوق النمو ويغري من تكوينه وبنيته" فالطفل حني يولد فهو حباجة إىل مد أطرافه وحتريكها،
كي يطرح عنه ما ركبه من االنقباض والتجمع الطويل يف أحشاء أمه ،إذن فكيف حنول بينه وبني احلركة داخل
2
القماط.
فإن "كانط" هو اآلخر يرفض فكرة "القماط" قائال "إن القماط لشيء يقلق األطفال ،وعدم القدرة
على استعمال أطرافهم يغمرهم بنوع من اليأس" 3.إذن فكالمها يستبعدان أن نلف الطفل ابلقماط.
ابإلضافة إىل ولعهما ابلرتبية السلبية يف السنوات األوىل ملرحلة الطفولة فإذا كان "روسو" يرى أنه جيب
أال نعلم الطفل الفضائل ،بل جيب أن حنميه من الوقوع يف الرذائل ،مثلما جيب أال نعلمه احلقيقة ،بل كيف
يتجنب الوقوع يف اخلطأ حيث قال "إن الرتبية األوىل اليت تقدم للطفل جيب أن تكون سلبية ،وهذه الرتبية
السلبية ال تتكون من تلقني مبادئ الفضيلة واحلق ولكن قوامها احملافظة على القلب من الرذيلة ،وعلى العقل
4
من الزلل".
1حممود عبد الرزاق شفشق :األصول الفلسفية للرتبية ،دار البحوث العلمية ،الكويت ،ك ،1982 ،4ص.273
2جان جاك روسو :إميل ،الشركة العربية للطباعة والنشر( ،د.م)(.د.س) ،ص .34
3أما نويل كانط :ثالث "نصوص أتمالت يف الرتبية ،ما هي األنوار؟ ما التوجه يف التفكري؟ تعريب حممود بن مجاعة ،دار حممد علي للنشر ،تونس،
ط ،2005 ،1ص.32
- 20 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
فإن "كانط" هو ا آلخر يرى أنه "بوجه عام البد من مالحظة أن الرتبية األوىل تكون سالبة فحسب،
1
أي أنه ينبغي أن ال يضاف أي شيء إىل االحتياطات اليت اختذت الطبيعة ،وأنه ينبغي فقط عدم إرابكها".
لكن هذا ال يعين أهنما يتفقان يف مجيع األفكار أو املسائل الرتبوية إال أنه هناك أوجه اختالف بني
كل من "روسو" و "كانط".
فبينما "روسو" يقول إن الطفل يولد خريا واجملتمع والنظم االجتماعية والناس هم الذين يفسدونه ،لكن
عند "كانط" جند عكس ما ذهب إليه "روسو" فاإلنسان عند كانط شرير ابلطبع ،ويولد ولديه استعدادات
2
لكل أنواع الرذائل ،وهو خير ابلطبع أيضا وهذه البذرة قابلة للتنمية.
ومن هذا االختالف ينشأ اختالف يف تصور كل منهما لدور املريب والرتبية "فروسو" يدعو إىل ترك
الطفل على فطرته وإبعاده عن كل ضغط أو قهر حىت تنمو استعداداته الطبيعية وهذه االستعدادات هي يف
األصل خرية ،بينما "كانط" يرى أن الرتبية جيب أن تتوىل حماربة االستعدادات وامليول الطبيعية يف الطفل ألهنا
3
شريرة يف األصل.
وابلتايل فإن مبادئ الرتبية عند كالمها متعارضة ،فإذا كانت عند "روسو" تنبع من مسايرة الطبيعة،
فإن عند "كانط" تنبع من فكرة الواجب املطلق غري املشروط أبحوال الطبيعة.
وبناء على ما سبق ميكن القول أن أتثر "كانط" أبفكار "روسو" الرتبوية كان واضحا يف أفكاره لكن
هناك من يقول أن كانط أتثر "بروسو" وهذا واضح من خالل ما مت ذكره ،وهناك من يقول أن كانط مل يتأثر
بروسو بدليل أن الكتاب الذي ألفه كانط كان بعدما استقل بفلسفته النقدية ،إذن نقول أن كانط قد استفاد
من "روسو" وأعطى هلذه األعمال أي أعمال "روسو" أتويال ال ميكن إمهاله ،فإذا كان روسو قد أيقظ كانط
كما أيقضه "هريمر" من سباته الروغمايت يف املعرفة والعلم .فإن كانط هو اآلخر أمت مشروع "روسو" الرتبوي.
- 21 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
كانط وابزدوف:
ابزدوف (:)Basedow
هو يوهان برانرد ابزدوف أو ابزداو ولد يف مهبورغ يف سنة 1723وتويف يف جمد بورج يف سنة
، 1790كان خادما عند طبيب ،وتتلمذ يف مدرسة مهبورج الثانوية ،حيث درس على يد "رمير" الفيلولوجي
الكبري ،ويف سنة 1744درس الالهوت الربوتتسنبيت ،وبعد أربع سنوات عمل معلما يف أسرة هوتستني ،وبعد
ذ لك أصبح أستاذا لعلم األخالق والفنون اجلميلة يف أكادميية يف الدمنارك ،حيث أحدث ضجة آبرائه املتطرفة،
وبعدها صار أستاذا يف مدرسة ألتوان الثانرية.
يعين هذا أن "ابزدوف" قضى حياته يف التعليم والرتبية ،كما نشر أيضا بعض الكتاابت الالهوتية
خالل الفرتة املمتدة بني .1768-1761
وابتداء من 1770تفرغ تفرغا اتما إلجناز مشروعاته يف إصالح الرتبية والتعليم ،وقد كان ذلك رعاية
من "أمري دساو" ،ومتكن يف سنة 1774من أتسيس معهد التجريبيا للرتبية مسي ابسم
( )Philanthropinuويشمل هذا املعهد على معهد لتكوين املعلمني ومدرسة لتعليم األوالد من سن
السادسة حىت الثامنة عشرة يف مدرسة داخلية ،ويف السنة ذاهتا نشر أهم مؤلفاته ،وهو "املنت األوىل يف
1
الرتبية".
أعجب كانط "ببازودوف" وما قام به من أعمال ،حىت أنه ملا قام "كانط" ألول مرة بتدريس مادة
الرتبية سنة 1776آثر أن يتخذ متنا لتدريس كتاب "ابزدوف".
كما أن املعهد التجرييب الذي أسسه ابزدوف انل إعجاب كانط ،رغم وقوعها يف بعض األخطاء فقد
كان هذا املعهد –حسب كانط "-املدرسة الوحيدة اليت كان للمعلمني فيها حرية العمل تبعا لطرقهم اخلاصة
وخططهم اخلاصة ،وكانوا متحيدين فيها فيما بينهم ومع كل علماء أملانيا" إذن كانط يشري ابستخدام التجارب
واحملاوالت يف طريقة "ابزدوف" يف الرتبية.
- 22 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
-من الناحية السياسية واالجتماعية ،فإن هذه الرتبية تريغ إىل أن تكون وطنية عن كل كنية.
-ومن الناحية الثقافية اليت تعطي للفرد ،فإهنا نفعية ابملعىن احملدود.
-ومن انحية الوسائل املتبعة ،فإهنا تقوم على طريقة حسية أو عيانية وتروجيية.
فكتاب "كانط" يف الرتبية وكتاب "ابزدوف" يف املنهج حيمالن الكثري من نقاط تشابه ،ميكن
1
تلخيصها فيما يلي:
-وجوب الطاعة العمياء يف مستهل الطفولة ،وعدم الطاعة ينبغي أن يعاقب عليه.
-عدم إمهال التدريب على أشكال احلياة املدنية وتكوين احلكمة الدنيوية.
لكن هذا ال يعين أهنما ال خيتلفان رغم اتفاقهما ،فغاية الرتبية عند "ابزدوف" هي اإلعداد حلياة
2
مشرتكة وطنية سعيدة أما "كانط" فهي تكوين األخالق.
- 23 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
كما يندد كانط بكل وسائل التعليم املصطنعة ونظام اجلزاء والعقاب املصطنع الذي وضعه "ابزدوف"
1
ألن هذا األخري يوحي أحياان ابستعمال التمويه واخلداع من جانب املعلم ،أما كانط فريفض هذا متاما.
فبينما يرى "ابزدوف" أنه ينبغي جتنب كل ضغط أو إكراه من أجل حث التلميذ على اجلد واالجتهاد
يف الدرس ،يرى "كانط" أنه ينبغي أال ندع التالميذ يتعلمون كأهنم يلعبون ،ويطالب بعمل التلميذ على
االجتهاد وذلك بتكوين عادات ضاغطة عليه لالجتهاد.
فإن كان "ابزدوف" يرى أن حتقيق األخالق يف األوالد ال يتم إال عن طريق الدين كما ال يثق فيمن
حيب الفضيلة للفضيلة نفسها ،وأن مذهب األخالق جيب أن يقوم على التجربة.
فإن "كانط" على العكس من ذلك متاما ،فهو يدعوا إىل أداء الواجب من أجل الواجب نفسه ،وفعل
الفضيلة من أجل الفضيلة نفسها كما يقيم األخالق على أساس األمر املطلق املستخلص من العقل العملي
2
احملض السابق على كل جتربة".
هذه جممل األخطاء ملدرسة "ابزدوف التجريبية" يف نظر "كانط" فرغم النجاح اهلائل الذي حققه
معهد "ابزدوف" داخل أملانيا وخارجها إال أنه حيمل الكثري من األخطاء.
- 24 -
الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط
خالصة الفصل:
من خالل ما مت عرضه يف هذا الفصل ألهم األفكار واملعارف اليت قامت عليها حياة "إميانويل كانط"
ميكننا القول أن هذا الفصل مبثابة الطريق املمهد منها نستطيع أن نتحدث ونفهم فلسفته لرتبوية رغم أنن مل
أتعمق فيه بكثري ،ألن حياة "كانط" وما يرتبط هبا مليئة ابألحداث والذي يهمنا هو ليس الغوص يف جممل
هذه األفكار واألحداث بل احلديث عن املصادر أو املنابع اليت هبا انصب "كانط" على الرتبية.
إن انشغال "كانط" مهنة التعليم اخلاص والعام ألمر مهم من خالهلا ميكننا أن نلقي الضوء على
فلسفته الرتبوية وليس هذا فقط بل وحىت تربيته الدينية اليت تلقاها على يد أمه جعلته يدرك مدى أمهية الرتبية
يف حياة اإلنسان ،هذا من جهة أما نظرية املعرفة عند "كانط" فهي جد مهمة قبل التطرق إىل موضوع الرتبية
عنده ألن "كانط" من خالل نظريته يعطي للعقل مكانة ومركز أساسيا قبل كل شيء وهذا ما سينميه يف
الطفل.
املؤثرات القدمية واجملددة وجل األفكار اليت أتثر هبا "كانط" كانت واضحة يف مرحلة معينة من مراحل
تفكريه الفلسفي (املرحلة قبل النقدية) لكن فيما بعد (املرحلة النقدية) استطاع "كانط" أن يؤسس فلسفة
جديدة خاصة به ،مما يعين أنه مل يقف على ما توصل إليه كل من "روسو" و"ابزدوف" وغريهم من الفالسفة،
صحيح أن "كانط" أتثر هبم وأخذ عليهم لكن بعد التعديل واإلضافة ويف بعض األحيان جتاوز.
وعليه فالفلسفة الكانطية مل تنشأ من فراغ بل كانت حمصلة لكل تلك العوامل سواء املوضوعية أو
الذاتية واملؤثرات الفكرية دوما ميكن اإلشارة إليه أن كانط يكتفي مبا ردده السابقون عليه ،بل استقل بفلسفته
الرتبوية اخلاصة واليت شكلت اجتاها يف الفكر الرتبوي اإلنساين.
- 25 -
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
أﺳﺲ اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﺎﻧﻂ
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
متهيد:
لقد عرفت فلسفة "كانط" ابلفلسفة النقدية كون هذه األخرية قائمة على النقد الذي مشل كل
جماالت املعرفة أو امليتافيزيقا أو األخالق بل مشل مجيع مناحي احلياة مبا فيها الرتبية اليت هي األخرى تسلم من
النقد ،لذا ففلسفته كانت مبثابة أرضية واسعة اليت انعكست بشكل مباشر على الرتبية اإلنسانية عنده.
-1املدلول اللغوي:
تشري أغلب املعاجم العربية واألجنبية تقريبا إىل معان متقاربة ،فقد جاء يف لسان العرب البن منظور
"راب يربو" مبعىن زاد ومنى واربيته منيته 1.وورد يف القرآن الكرمي أيضا لفظ تربية يف قوله تعاىل " :وترى األرض
هامدة فإذا أنزلنا عليها املاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج هبيج" (سورة احلج اآلية )05أي منت وارتفعت
وازدادت الرتوائها ،وقوله أيضا "وقل ريب ارمحهما كما ربياين صغريا" (سورة اإلسراء اآلية )24وعليه فلفظ
الرتبية خمتلف لك ن املعىن كله يرمي إىل معىن الرتبية كالزايدة والنمو ،والرعاية والعناية كلها تدل على مفهوم
الرتبية ،يقال رىب الولد أي هذبه وجعله ينمو.
أما يف اللغة األجنبية فإن الرتبية ( )Educationال خترج أيضا عن املعىن اللغوي إذ تعين القيادة
والنمو.
-2املدلول االصطالحي:
يقدم الالند يف موسوعته الفلسفية مفهوم الرتبية مبعناها العام واخلاص ،فاملعىن اخلاص الرتبية سلسلة
عملية إجرائية يدرب هبا الراشدون ويشجعون لديهم منو بعض النزعات وبعض العادات املصنوعة ،وتتوضح
وتتكامل بواسطته ،فتنتظم مع ابقي الظواهر النفسية .أما املعىن العام يشري إىل أن الرتبية أو التهذيب أو
1ابن منظور :لسان العرب ،مج ،دار املعارف ،القاهرة ،مادة راب ،ص.1572
- 27 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
التأديب يقوم على تطوير وظيفة أو عدة وظائف ،تطورا تدرجييا عن طريق التجربة والتدريب وتظهر من خالل
1
جتويدها وإتقاهنا من طرف الفرد.
كما ورد أيضا يف معجم "مجيل صلبيا" تعريفا للرتبية ،تعين الرتبية يف هذا املعجم تنمية الوظائف
النفس ية ابلتمرين حىت تبلغ كماهلا شيئا فشيئا ،يقال ربيت الولد يعين قويت ملكاته ،ومنيت قدراته ،وهذبت
سلوكه ،حىت يصبح صاحلا للحياة يف بيئة معينة ،ومن شروط الرتبية الصحيحة أن تنمي شخصية الطفل من
الناحية اجلسمية والعقلية واخللقية حىت يصبح قادرا على مؤالفة الطبيعة جياوز ذاته.
ويعمل على إسعاد نفسه ،وإسعاد اآلخرين وهلذا تعد الرتبية ظاهرة اجتماعية ختضع ملا ختضع له
الظواهر األخرى يف تطورها 2.وعليه فالرتبية هي تنمية وهتذيب الفرد حسيا وعقليا ونفسيا.
آمن "كانط" أن الرتبية خاصية إنسانية ،وأن اإلنسان هو املخلوق الوحيد الذي جيب تربيته ،والرتبية
عنده تعين الرعاية وما تشمله من تغذية وتعهد ،كما تعين الرتبية االنضباط والتعليم املقرتن ابلتكوين ،ومن هذه
الزوااي الثالث يكون اإلنسان رضيعا وتلميذا وطالبا 3.إذن فاإلنسان هو الوحيد الذي جيب تربيته ،خالفا
للحيواانت اليت تتعهد نفسها بنفسها ،فهي االحتياج إىل الرعاية مثلما حيتاج إليها اإلنسان.
يرى "كانط" أن إنفراد اإلنسان خباصية الرتبية ،ليس جمرد مسألة اختيارية ،بل هي صفة مرتبطة به
كضرورة ،فال ميكننا -حسب كانط -احلديث عن إنسانية اإلنسان لو جرد من الرتبية ،ألن ابلرتبية يكتسب
اإلنسان إنسانيته.
أما احليواانت فهي ال حتتاج إىل تربية عند والدهتا حىت تعرف ما جيب القيام به من أجل البقاء (جلب
الطعام ،اهلروب من اخلطر ،طرح الفضالت داخل العش )...ويعطينا "كانط" مثال عن اخلطاطيف الصغرية
أندري الالند :موسوعة الالند الفلسفية ،تعريب خليل أمحد خليل اجمللد األول ،منشورات عويدات ،بريوت ،ط ،2001 ،2مادة تربية، 1
ص.323-322
2مجيل صلبيا :املعجم الفلسفي ،ج ،1دار الكتاب اللبناين ،بريوت ،1982 ،مادة الرتبية ،ص.266
- 28 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
اليت مبجرد خروجها من البيضة تستطيع أن تدبر أمرها ،وتتمكن من إسقاط فضالهتا خارج العش ،وابلتايل
فهي ال حتتاج إىل من يرعاها ويقوم برتبيتها.
لكن اإلنسان عند ميالده يكون واجبا على أبويه أن يوفرا له شروط العيش اإلنساين وإال فسيبقى
متوحشا ،وهذا ما أكده "كانط" بقوله "ال يستطيع اإلنسان أن يصري إنساان إال ابلرتبية ،فهو ليس سوى ما
تصنع به الرتبية" 1.فال ميكن تصور اإلنسان إنساان إال من خالل الرتبية اليت توجه إليه ،وأرى أن هذه الفكرة
قد أكد عليها كل الفالسفة وعلماء الرتبية احلديثة ،ألن اإلنسان ال يكتسب صفة اإلنسانية إال من خالل
الرتبية ،أو ما يعرف يف اصطالح علماء النفس واالجتماع ابلتنشئة االجتماعية اليت هي عملية متصلة ابإلنسان
دون غريه من الكائنات األخرى وهذا ما بينه "كانط".
كما ترتبط الرتبية عند "كانط" ابالنضباط هذا األخري مبثابة الشرط احملقق لإلنسانية ،إذ عن طريق
االنضباط يصري اإلنسان إنساان ،فاحليوان -حسب "كانط" -ال حيتاج أن حيدد لنفسه مسار سلوكه ،فقد
حدد سلفا من طرف الطبيعة ،لكن اإلنسان –حسب كانط -إىل استعمال عقله اخلاص ليحدد لنفسه مسار
سلوكه ،ومبا أن الطفل ال يستطيع القيام بذلك فقد وجب على اآلخرين أن يقوموا بذلك من أجله.
إذن االنضباط عن "كانط" هو الفعل الذي جيرد به اإلنسان من حيوانيته ومن وضع التوحش
واهلمجية إىل وضع التمدن والتحضر.
فالغرض من الرتبية عند "كانط" هو الوصول ابإلنسان إىل الكمال املمكن ،ومهمتها هي أن حترتم
حرية الفرد الطبيعية وتساعده على حتقيق إنسانيته ،مؤكدا أن حاجة اإلنسانية للرتبية هي حاجته ملزيد من
احلرية وا الكتمال املتواصل ،وغاية الرتبية هي مساعدة الطفل على امتالك اجلرأة والتفكري اعتمادا على الذات،
ألن الرتبية يف –نظر كانط -هي عملية تكوين وبناء للجسم ألنه بدون تربية ال يستطيع أن يصري إنساان.
ألن الطبيعة اإلنسانية تبقى قاصرة ما مل تنمى ابلرتبية ألنه "يكمن يف صلب الرتبية السر الكبري لكمال
2
الطبيعة البشرية".
- 29 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
فمهمة الرتبية يف نظر "كانط" هي تنمية االستعدادات الطبيعية لدى اإلنسان تنمية متوازنة ،وال
يقصد تنمية جانب واحد من مساحة الرتبية لكنه يريد تغطية كل تلك املساحة أي خمتلف النواحي اجلسمية
والفكرية واألخالقية.
إن السؤال الذي تبادر يف أذهان عامة الناس يف عصر "كانط" هو مدى اهتمام هذا األخري مبسألة
الرتبية ،هل كان انشغاله ابملسألة الرتبوية انشغاال حقيقيا انبعا عن إحساسه أبمهية الرتبية يف حياة اإلنسان؟ أم
أن املذكرات اليت خلقها يف هذا اجملال كانت نتيجة لواجب مهين؟
لقد اختلف الباحثون حول هذه املسألة بني من يرى أن إحساس "كانط" ابلرتبية هو إحساس
حقيقي الزمه طوال حياته وابألخص إذا علمنا أنه قد أمضى جل حياته يف التعليم إما متعلما أو معلما وأستاذا
وبني من يرى أن تلك املذكرات املتعلقة ابلرتبية اليت خلفها "كانط" ال ميكن اعتبارها دليال كافيا على اهتمام
كانط ابلرتبية اليت وأنه إمنا كتبها نتيجة ظروف التدريس يف اجلامعة فاضطرته إىل تسجيل بعض أتمالت يف هذا
1
املوضوع ،ألنه كلف بتدريس الرتبية يف جامعة كينجرسربج طوال أربعة فصول دراسية.
إن ما كتبه "كانط" يف موضوع الرتبية حسب الباحثون ما هو إال "كراسة سجل فيها أتمالته اليت
2
تعينه على إلقاء حماضراته يف هذه املادة اليت كلف بتدريسها.
وأن هذه الكراسة اليت دفعها "كانط" إىل "رنك" غري مؤلفة أتليفا ،وفيها تكرار ،وأن "رنك" طبع هذه
املذكرات على حاهلا دون تنقيتها كان ذلك سنة ،1803أي قبل وفاة "كانط" بعام واحد ،مما زاد يف
أصحاب هذا الرأي أن "كانط" مل يكن هو احملرر احلقيقي لتلك املذكرات يف الرتبية بل كان تلميذه "رينك"
(.)Rink
لكن هذه املربرات ال ميكن أن نعتربها دليال على أن كانط مل يكن مهتما مبشكلة الرتبية ،خصوصا
وأنه عاش يف عصر متدهور خاصة يف جمال التعليم ،والقول أبن كانط مل يكتب تلك املذكرات إال تلبية لواجب
مهين أمر غري مقنع ومؤكد.
1عبد الرمحان بدوي :فلسفة الدين والرتبية عند كانط ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت ،ط ،1980 ،1ص.103
- 30 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
كما أن إسناد مهمة أن "كانط" مل يكن احملرر احلقيقي لذلك الكتاب هو أمر غري مقنع أيضا ،ألن
كثريا من أفكار الفالسفة عرب التاريخ نتعرف عليها من خالل تالمذهتم.
يف مقابل هذا الرأي يرى أن اهتمام "كانط" ابلرتبية كان اهتماما حقيقيا الزمه طوال حياته،
فاملذكرات اليت خلقها كانت انبعة من اهتمامه ابلرتبية وحال النظام الرتبوي الذي كان سائدا آنذاك.
إن املتصفح ملا ورد يف التأمالت الكانطية حول الرتبية ،يكتشف أن اهتمام "كانط" ابملسائل الرتبوية
كان ابلفعل اهتماما حقيقيا ،الذي اعترب أن مشكلة الرتبية أمر صعب ومهم قائال" :مثة اكتشافات إنسانيان
حيق لنا أن نعتربمها أصعب االكتشافان ومها فن سياسة البشر وفن تربيتهم" 1.وترجع صعوبة الرتبية يف نظره إىل
التعارض بني الطبيعة والعقل العملي ،فالطبيعة مصدر الرغبة واألهواء حترف الرتبية عن غاايهتا ،ومهمة الرتبية
2
ترويض الطفل على اخلضوع ألوامر العقل وإعداده ململكة الغاايت اليت تشري إليها الفلسفة األخالقية.
لذا فيجب تعويد اإلنسان يف وقت مبكر عل ى اخلضوع ألوامر العقل ولو تركنا اإلنسان يف حداثة سنه
ال يتصرف إال وفق مشيئته ودون شيء مينعه الحتفظ طوال حياته كلها بنوع من الوحشية 3.لذلك فقد اعرتف
"كانط" أبن الرتبية هي أهم وأصعب مشكلة تطرح على اإلنسان.
ويظهر اهتمام "كانط" ابلرتبية كذلك عند حديثه عن مشروع نظرية يف الرتبية والذي اعتربه مثل أعلى
وسام ال ميلك أن يكون ضارا حىت يف حال ما إذا كنا غري قادرين على حتقيقه على أرض الواقع لذلك "ينبغي
أن ال تعترب الفكرة املطلقة ضراب من اخليال فنستبعدها وكأهنا حلم مجيل ،حىت وإن كانت بعض العوائق تعرتض
حتقيقها" 4.موضحا ذل ك مبثال} فهل يعين هذا أن فكرة الصدق مستحيلة بال "كانط" ينفي ذلك ويعترب
الشرط األساسي لكي تكون الفكرة صادقة هو أن تكون صحيحة بغض النظر عما إذا حتققت يف الواقع أم
ال ،كذلك األمر ابلنسبة لصفة الصدق اليت تبقى حتتفظ بكامل قيمتها حىت وإن كان كل الناس يكذبون،
واأل مر نفسه ينطبق على الرتبية ف "يكفي أوال أن تكون فكرتنا صحيحة حىت ال تكون فيما بعد مستحيلة على
- 31 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
اإلطالق رغم كل العوائق اليت ال تزال تعرتض حتقيقها" 1.فليس املهم حتقيق ذلك املثل على أرض الواقع ،بل
املهم أن يكون ذلك املثل صحيحا.
وابلتايل فإن فكرة تربية تنمي كل االستعدادات الطبيعية لدى اإلنسان هي ابلتأكيد فكرة صادقة رغم
كل الصعوابت اليت قد تعرتض حتقيقها على أرض الواقع.
وانطالقا من كل هذا نستطيع القول أبن انشغال كانط ابلرتبية كان انشغاال حقيقيا الزمه طوال
حياته ،وهو الذي أمضى أكثر من نصف حياته مزاوال ملهنة التعليم ،لذلك فقد جاءت أفكاره الرتبوية ذات
عمق كبري لدرجة أن أحد الباحثني قال "مل أجد موضوعا أشرف وال أجل وال أكمل من موضوع يفصل تربية
الطفل يف مهده ويصلحه يف طفولته ويصقله يف شبابه ويسعده يف شؤونه ويزيده كماال ومجاال يف سائر أايم
2
حياته ومل أجد أكمل وال أشهى يف ذلك من كتاب ألفه الفيلسوف "كانط األملاين"".
يتوجه "كانط" يف مذكراته حول الرتبية ابلنقد إىل الكثري من السلوكات والعادات املخلة ابلرتبية يف
عصره سواء املتفشية داخل األسرة أو املؤسسات الدينية وكذلك املؤسسات التعليمية ،ويرى أن هذه العادات
التقليدية اليت أضحت منتشرة ومرتسخة لدى اجلمهور الواسع ،هي ابلفعل عائق أمام أي تطور ملناهج الرتبية
أو أي إصالح لنمط عيش اإلنسانية ،وعليه جيب أوال العمل على حماربتها ونقضها يف عدة مستوايت.
ينتقد "كانط" أسلوب الليونة والتدليل الذي يعامل به الطفل من طرف آابئهم يف السنوات املبكرة
قائال أبن "إرضاء كل نزواهتم يف حداثة سنهم يفسد شعورهم وأخالقهم" 3.خصوصا عندما يصرخون فتهرع
األمهات إليهم حلملهم أو مداعبتهم أو الغناء هلم" ،فكانط" يرفض هذا النوع من التعامل ألنه يفسدهم
وجيعلهم يتعودون على التدليل والرخاء ومن مث عدم حتمل املسؤولية ،فالطفل كلما صرخ ووجد من يستجيب له
إال وتعود على ذلك ألن يف الصراخ فائدة كما يعتقد كانط لذا ينصح بتجاهله وتركه يصرخ حىت يتصلب
2أنت تشرتون :كتاب الرتبية للحكيم األملاين كانت ،ترمجة طنطاوي جوهري ،القاهرة ،املطبعة السلفية ،1355 ،ص.5
- 32 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
وينفس عن نوازعه التدمريية يقول كانط" :إن الصياح شيء انفع لألطفال ...وبفضله ينمي الطفل بقدر أوفر
1
أعضاءه الداخلية وقنوات جسمه ،ومن السيئ أن يهرع إىل جندة الطفل ما إن يصيح".
كما يدعو "كانط" إىل إخضاع الطفل خشية أو قائمة على خشونة العيش لكون هذا النمط من
الرتبية هو الصاحل لتقومي اجلسم ،هذا ال يعين أبن "كانط" منع الطفل يف أن يكون يف كامل الرفاهية ولكن أال
2
نعوده على منط العيش املدلل واملعاملة اللينة ،ألن ذلك وبكل بساطة مضر له والستعداداته املستقبلية للتعلم.
يرى "كانط" أن املرحلة األوىل من الرتبية حىت وإن اتسمت ابلقسوة فهي مرحلة تقوم على تلقني
الطفل االنضباط وهي خطوة سالبة ابلطبع إذ ترتكز على املنع والتقومي والضبط ،وتشمل هذه العملية –حسب
كانط -كل مستوايت معاملة الطفل يف سنواته املبكرة من تغذية ولعب ،ورايضة ،وتكوين نفسي...
ينتقد "كانط" أسلوب "الوعظ" الذي كان سائدا داخل األديرة يف تلقني املبادئ األخالقية أو
اإلميان ،ويقوم الوعظ على منع الطفل من القيام ابلسلوك (كالكذب مثال) ابعتباره حمرما من طرف هللا ،وهو
ما يدفع األطفال إىل تصور هذا السلوك مقبوال لو أن هللا مل يقم بتحرميه ،أو أنه ميكن القيام به أحياان نظرا
خلصوصية السياق (الضرورة مثال)" ،فكانط" يدعوا إىل مقت السلوكات املسيئة يف ذاهتا ،وليس لكوهنا حمرمة
بفعل قوة إهلية يقول" :أليس يف غاية األمهية أن نعلم األطفال ،منذ نعومة أظافرهم مقت الرذيلة ليس من البتة
3
ألن هللا حرمها فقط ،بل ألهنا يف حد ذاهتا مقيتة ...حىت لو صادف أن هللا مل حيرمه".
ومن السلوكات الرتبوية اليت ينتقدها أيضا "كانط" يف عصره هو االعتماد على األدوات يف رعاية
الطفل وتلقينه للمهارات الطبيعية كالكالم واملشي فينصح كانط بتجنب هذه األدوات االصطناعية كاملساكات
- 33 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
أو العجالت *.لكوهنا ال تساعد الطفل بقدر ما ترتك لديه أتثريات جانبية سلبية كالتشوهات ،وهذا ما حيدثه
القماط أيضا –حسب كانط -فهو يرفضه ألنه يؤثر سلبا على بنيته اجلسمية فريى "أن هذه الرتبية اليت تقوم
على استعمال أدوات اصطناعية إمنا هي على وجه التحديد تربية سلبية يف حني الطفل ميتلك الطفل أدوات
طبيعية ،واألدوات هنا هي اليدان اللتان ميدمها الطفل أما من عندما يستيقظ ،فكلما استخدم اإلنسان أدوات
1
اصطناعية ازداد تبعيته لألدوات".
يف حماولته لصياغة رؤية منهجية للتعليم املدرسي ،يبدأ "كانط" بتوجيه النقد جملموعة من األمناط
السائدة يف التدريس داخل املعاهد واملؤسسات التعليمية يف عصره ،اليت كانت تركز على التعليم بطرق آلية
كاحلفظ والتعليم السريع بغية معرفة أكرب قدر من املعارف وهو ما جعل املناهج التعليمية تقتصر على املعارف
السطحية ،وكذلك توجه الكثري من الناس عدميي التجربة إىل التدريس والرتبية كمهنة ،مع فتح بعض املعاهد
الرتبوية واجملال فيها مفتوح للمدرسني بتطبيق مناهج خمتلفة بكل حرية ،لذا فهذه املؤسسات –حسب كانط-
تفتقر لرؤية منهجية مدروسة يف مناهج الرتبية.
لكن هذا ال يعين أن "كانط" أمهل كل تربية أخالقية يف السنوات املبكرة لدى الطفل ،فإنه البد من
أن يصهر األبوين على إتباع املبادئ األخالقية وحىت الرعاية اجلسمية للطفل ،ألنه يف غياب ذلك ترتسخ
العيوب بسهولة.
يقرتح "كانط" كربانمج تعليمي ميكن إتباعه يف تنميته القدرات املعرفية للطفل أن يبدأ املدرسون
بتعريف التالميذ على الطبيعة وذلك بواسطة الصور واأليقوانت (صور احليواانت والنبااتت) وأن جيعلوهم
يعربون عنها بطريقتهم ابخلطوط واألشكال ،هذا يدل أن "كانط" أتثر "ببازدوف" الذي كان يقوم التعليم
عنده على الطريقة العيانية أي ابستخدام الصور والرسومات البيانية ،مما سيجعلهم يتعلمون الرسم والكتابة مث
القراءة مركزا أيضا على التعليم ابخلرائط ،ذلك لكون األطفال حيبوهنا وهذا بدوره سيجعل لدى الطفل قابلية
تلقي الدروس يف اجلغرافيا مث التاريخ ،الذي يساهم أقصد املنهج يف تنمية الذاكرة وتقويتها لكن ال ينصح
* املساكات هي حواش من النسيج تعلق بثوب الطفل لتمسكه حىت ال يقع عند املشي أما العجالت فهي جهاز مزود بعجالت صغرية يشد إليه
الطفل وقف استعمل ملساعدة الطفل على املشي مع جتنبه خطر الوقوع أو اإلصابة جبروح ،ويسقط بسحب هذه اآللة.
- 34 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
"كانط" إبتباع منهج احلفظ كليا" .فال ينبغي أن ال نشغل الذاكرة إال ابألشياء اليت لنا مصلحة يف استبقاءها
وهلا عالقة ابحلياة الواقعية" 1.فال ميكن إتباع طريقة احلفظ يف مجيع األحوال إال إذا كانت تلك األشياء ذات
صلة ابلواقع فيجب االحتفاظ هبا ،ويوضح لنا "كانط" هذا مبثال :فعلى سبيل املثال مطالعة الرواايت فهي
أسوأ األشياء ابلنسبة إىل األطفال ،إذ ال يتعاطوهنا إال لالنتهاء هبا ،ألهنا تضعف الذاكرة ومن السخيف تذكر
بعض الرواايت وقصها من جديد على اآلخرين.
وتشمل التدريس املعريف كذلك التلقني الثقايف التمرس على املبادئ األخالقية:
واألخالقي ومها مهمتني موكلتان للمعاهد الرتبوية ومنها يقرتح "كانط" أبن تتكفل هبا األسرة يف
العمومية واخلاصة إال أن كانط يفضل املعاهد العمومية البيت أو أن تتكفل هبا أشخاص مأجورين
لكوهنا أكثر نفعا من حيث االنضباط واحرتام ملناهج إن كان األبوان ال جيدان وقتا للقيام هبذه
الرتبوية املسطرة ،إال أن هذه املعاهد يكون عدد املهمة
تالمذهتا حمدود وهي قليلة لكوهنا مكلفة جدا يف
إحداثها.
- 35 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
حيث "كانط" على أمهية التعليم املدرسي ،إذ هو الكفيل بتنمية استعدادات الطفل ليعرف ذاته من
جهة وليتمكن من التكيف مع حميطه ،ومن مث مسامهته يف الرقي اإلنساين كمواطن ألنه يكسب حينئذ قيمة
عامة وليس فردية فقط.
وعلى هذا األساس يكون التعليم املدرسي إحدى لبنات بناء اجملتمع اإلنساين املتكامل الغاايت
واملنشود من طرف "كانط" لذا يضعه يف املقام األول قبل أي تعليم آخر (ديين أو أخالقي" )...إن التكوين
املدرسي هو الذي يتوفر يف أكرب وقت يف املقام األول ...أما الثقافة األخالقية فتأيت متأخرة أكثر من غريها
1
على اعتبار أهنا تعتمد مبادئ البد لإلنسان أن يدركها هو ابلذات".
أما فيما خيص تعلم اللغات فيقرتح "كانط" بتدريب األطفال أو مبعىن السماع قبل قراءة املوسوعة
املصورة ،حىت يستطيعوا الربط بني الصورة واملعاين املقصودة.
كما يؤكد "كانط" أنه ال جيب تلقني الطفل املعارف بشكل مباشر بل جيب العمل على خلق احلاجة
لديه ملعرفة األشياء ومن مث يتساءل عنها ،أو حىت نعلمه كيف يصل إىل اإلجابة وحده وهو ما يسميه "كانط"
ابلطريقة السقراطية يف تربية العقل القائمة على احلوار دون احلفظ والتلقني واإلمالء "فينبغي انتهاج الطريقة
2
السقراطية يف تربية العقل".
وهذا ما اتبعه "كانط" يف إلقاء حماضراته على طالبه ،فقد كان يكره الطالب يدون حماضراته ،وقد
كانت كلماته اليت دائما يرددها على طالبه "فكر لنفسك وأحبث بنفسك ،قف على قدميك إين ال أعلمك
فلسفة الفالسفة لكين أريد أن أعلمك كيف تتفلسف" 3.ألن الفلسفة تستوجب التسلح ابملنهج وإتباع طريقة
قهر فن التفكري ،فكانط يرد من املرء أن خيوض يف جتربة التفكري الفلسفي ،وتعلم الفلسفة ،ليس مبجرد مطالعة
أمهات الكتب الفلسفية وجل ما تركه الفالسفة وإمنا العكس يف نظر "كانط".
كما تضمن املنهج الرتبوي عند "كانط" العديد من املبادئ اليت من خالهلا ميكن الوصول إىل
األهداف والغاايت منها:
3حممود زيدان :كنط والفلسفة النظرية ،دار املعارف( ،د.م) ،ط ،1979 ،3ص.24
- 36 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
أ -ضرورة مراعاة سن الطفل يف التعليم "فينبغي أن ال نعلم األطفال إال األشياء املناسبة لسنهم ...فال
بد من أن يكون الطفل فطنا كما ينبغي أن يكون عليه الطفل ال غري" 1.يؤكد كانط يف هذا الصياغ على أن
يعامل الطفل وفق سنه وقدراته ،فينبغي أن ال يكون له سوى ذكاء الطفل وأن ال يربز قبل األوان ،وهذا ما
أكد عليه "روسو".
ب -ضرورة الربط التدرجيي بني املعرفة والقدرات "فينبغي يف تعليم الطفل أن نسعى إىل الربط التدرجيي
ما بني املعرفة والقدرات ...زد على ذلك البد من ربط املعرفة والكالم (السهولة يف النطق ،فن القول اجليد
والفصاحة)" 2.وأيضا الربط بني املعرفة والكالم أي السهولة يف النطق والفصاحة.
ج -ضرورة معرفة عامل الطفل ،ألنه مثة عيب أشد خطورة هو أن القرن الثامن عشر مل يكن يعرف ما
هو الطفل وما ميكن أن نسميه اإلحساس ابلطفل" .فقد كانت تطبق مناهج غري سليمة وصحيحة آنذاك على
الطفل قائمة على احلفظ واإلمالء والتلقني.
د -ضرورة اجلدية يف العمل والتعليم" .فيجب أن يكون اإلنسان مشغوال حبيث يتشبع ابهلدف الذي
ينشده ،فال حيس بذاته وتكون أفضل راحة ابلنسبة إليه هي الراحة اليت أتيت بعد العمل ...البد للطفل من أن
يتعود أن يعمل" 3.فيدعوا كانط إىل التعامل ا جلدي مع احلياة املدرسية وإشعار املتعلمني كوهنم يعملون دون
إكراه أو قسوة ويسعون بواسطة الرتبية إىل حتقيق اهلدف املنشود يف حياهتم ،وأن حبهم للعمل ليس ميال بل
واجب ،ويؤمن "كانط" ابللعب ويعترب ه ضروري للطفل لكن "إنه لفي منتهى السوء أن نعود الطفل على
4
اعتبار كل شيء لعبا،فال بد له من وقت للراحة ،ولكن البد له أيضا من وقت يعمل فيه".
وعليه فكانط حيث على إتباع منهج أيخذ بعني االعتبار قدرات الطفل يف كل مرحلة ،ويف نفس
الوقت يراعي تنمية القدرات الذهنية والعقلية اليت سيتمكن هبا الطفل من التعامل مع خمتلف اإلشكاليات وأن
يستوعب خمتلف القضااي اليت ستطرح أمامه مستقبال ،وهذه املهمة التعليمية ال تنحصر فقط يف اللحظة اليت
خيضع فيها الطفل للتعليم وإمنا ابنتهاج طرق ترسخ املعرفة العقلية لدى الطفل.
- 37 -
الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط
خالصة الفصل:
اهتم كانط ابلرتبية اهتماما كبريا ،ومل يكن هذا االهتمام اهتمام رجل فكر منظر وفقط ،بل هو اهتمام
ممارس للرتبية ،إذ زاول مهنة املعلم واملريب اخلاص يف البيوت ملدة 9سنوات ( )1755-1746يف هذه الفرتة
ابلذات استطاع أن يبلور رؤية نقدية ملا كانت تشهده أملانيا يف القرن 18من أشكال الرتبية السائدة يف
الوسط األسري وداخل املؤسسات التعليمية والدينية والحظ أهنا هتدد مستقبل "اإلنسانية وأن للرتبية دور
أساسي يف تنشئة األجيال.
وتطرقنا يف هذا الفصل إىل املنطلقات النقدية للرتبية عند كانط ،وقف "كانط" على ما كان حاصل
يف أملانيا خالل القرن 18وذلك من خالل مزاولته للتعليم هذا األخري أعطى لكانط رؤية نقدية اثقبة جعلته
يقف على خمتلف جوانب الرتبية وينتقدها.
ونص "أتمالت يف الرتبية" نص نقداي ابمتياز ينضاف إىل املشروع النقدي الذي أرساه كانط يف
أعماله الثالث (نقد العقل اخلالص ،نقد العقل العملي ،نقد ملكة احلكم) ،فالوضع الذي عاشه "كانط" يف
أملانيا دفع به إىل الوقوف على هذه النقاط ونقده.
وعليه فالرتبية خاصية إنسانية ،ففي صلبها يكمن كمال البشرية ورقيها وتطورها.
- 38 -
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻋﻨﺪ
ﻛﺎﻧﻂ
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
متهيد:
حتتل الرتبية عند "كانط" مكاان هاما يف حياة اإلنسان وهذا راجع للدور الذي تلعبه الرتبية يف نفس
اإلنسان عامة والطفل خاصة وهذا ما سيبينه "كانط" من خالل األفكار اليت طرحها.
لقد اعرتف كانط أبن الرتبية اليت كانت سائدة يف عصره ال متكن اإلنسان من بلوغ الغاية من
وجوده 1،لذلك وجب علينا أن نعمل على صياغة خمطط لرتبية جديدة تكون متوافقة مع غاية اإلنسان ،وهي
الغاية اليت تتمثل يف الكمال األخالقي.
أ-االنضباط:
واالنضباط يعين السعي إىل احليلولة دون أن تؤدي احليوانية إىل فقدان اإلنسانية ،سواء يف اإلنسان
اخلاص أو يف اإلنسان االجتماعي؛ فاالنضباط ال يتمثل إىل يف ترويض التوحش" 2.فاالنضباط مرحلة أساسية
يف عملية الرتبية إذ يقوم بوقاية اإلنسان من االعزاف عن غاايته وذلك نتيجة الغريزة احليوانية والنواع..
وكلمة "ترويض" يف نظر "كانط" هو شرط سليب ،ألنه يعمل على حترير اإلرادة من طغيان الشهوات
اليت بفعلها نصبح عاجزين عن أن خنتار أبنفسنا إذا ما تعلقنا ببعض األشياء الطبيعية ،ألننا عندئذ نتيح لتلك
3
الغرائز أبن تتحول إىل قيود.
لذلك فإن فقدان االنضباط هو أمر أشد خطورة يف نظر كانط من فقدان الثقافة ،ألن فقدان الثقافة
ميكن تداركها يف املستقبل ،بينما االنضباط يصعب معاجلته خاصة إذا جتاوع اإلنسان مرحلة الطفولة ألنه يبدأ
يف سن مبكرة.
3إميانويل كانط :نقد ملكة احلكم؛ ترمجة غامن هنا ،بريوت ،املنظمة العربية للرتمجة ،ط ،2005 ،1ص.393
- 40 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
ب-الثقافة:
االنضباط ما هو إىل مرحلة أولية ،وال ميكن لإلنسان أن يقف عند حدود هذه املرحلة ،بل عليه أن
يكون مثقفا ،وهذا التثقيف ال يكون إال ابلتعليم وخمتلف مواد التدريس ،وهذا يزود املرء ابملهارة ،هذه األخرية
هي "اكتساب مكانة كافية لكل األغراض اليت ميكن أن يستهدفها اإلنسان ،إهنا ال حتدد إذن غرضا بعينه ،بل
ترتك ذلك للظروف" 1.أي امتالك املرء القدرة الكافية لكل األغراض اليت يسعى إليها اإلنسان ،فهي ال حتدد
بذاهتا أي غاية ،بل ترتك تلك الغاايت للظروف.
ففي – نظر كانط للمهارة شكلني ،مهارة دائما حسنة مثل القراءة والكتابة ،ومهارة ليست حسنة إال
ألجل غاايت معينة مثل املوسيقى ،وعليه فاملهارة ليست متشاهبة وحمدودة نتيجة كثرة األغراض.
ج-حتصيل احليطة:
حيرص كانط على "أن يصبح اإلنسان متصفا ابحليطة ،وأن يتكيف مع اجملتمع اإلنساين ،وأن يكون
2
حمبواب ،وأن يكون له أتثري ،وهذا يعود إىل شكل معني من الثقافة يسمى حضارة.
"فالبد أيضا من العمل على أن يصري اإلنسان فطنا فيتكيف مع اجملتمع اإلنساين ،ويصري حمبواب،
ويكون صاحب نفوذ ،وهذه الصفة تسبب إىل نو .من التحضر يسمى املدنية ،وتقتضي آدااب يف السلوك
ونوعا من الفطنة ،من شأهنا أن تؤدي إىل أن يكون اإلنسان قادرا على االستفادة من كل الناس لتحقيق
أغراض جوهرية ،وتتكيف الفطنة مع الذوق املتغري لكل عصر" 3.مما جيعله اإلنسان فطنا ومتكيفا مع اجملتمع،
وينشئ عالقات اجتماعية وودية مع الغري ،وهذا بدوره يكسبه قوة التأثري فيهم ،وهذا ما يتطلب آدااب يف
التعامل وهتذيبا يف السلوك ونوعا من احليطة أو الفطنة من شأهنا أن متكن املرء من استعمال كل الناس لغاايته
األساسية ،كما تتكيف هذه الفطنة حبسب الذوق املتغري يف كل عصر.
فاحليطة تقوم على "فن تطبيق مهارتنا على اإلنسان ،أي معرفة استعمال البشر لغاايتنا اخلاصة"،
فاحليطة هي ما يكتسبه اإلنسان من مهارات وصفات جتعله يف تواصل مع غريه ،وهذا ال يتحقق دون "ثقافة
- 41 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
ذوقية وتواصلية رفعية تستجيب ملعيار فالسفة القرن 18كما أمسوه احلضارة أو التمدن" 1.فاكتساب ثقافة
احليطة تكسب املرء صفة املواطنة عندئذ يكتب هبذه الثقافة قيمة عامة.
2
كما حيدد كانط ميزات لكي يستطيع الطفل أن يركن إىل احليطة أمهها:
فاحليطة تفرتض املهارة ،واحليطة هي القدرة اليت تقوم على معرفة استعمال املرء ملهاراته ابلنظر إىل
اإلنسان ،وفيما يتعلق ابحليطة واملهارة البد من مراعاة سن الطفل يقول كانط "إذا كان املرء أثناء طفولته
ماهرا ،حمتاطا ،مستقيما بال مكر مثل اإلنسان الراشد ،فهذا يكاد ال يكون أفضل من أن حيتفظ املرء حبساسية
3
طفيلية يف سن النضج".
د-التنشئة اخللقية:
كما حيرص أيضا كانط على التكوين األخالقي لإلنسان "فينبغي أن ال يكون اإلنسان مؤهال لشىت
أنوا .الغاايت فحسب ،بل ينبغي أيضا أن يكتسب إحساسا جيعله ال خيتار إال الغاايت احلسنة" ،ففي نظر
كانط على اإلنسان السعي إىل غاايت كلية وضرورية يف الوقت نفسه .ألهنا الغاايت اليت يتبناها ابلضرورة كل
شخص وميكن أن تكون يف الوقت ذاته غاايت كل إنسان" .أنه ال ينبغي فقط أن يكون اإلنسان مهيئا بكل
أنوا .األغراض جيب عليه أيضا أن يكتسب امليل إىل اختيار األغراض الطيبة دون غريها ،والغاايت الطبيعية
1عبد احلق منصف :األنوار وسلطة اجلنري البيداغوجي ،املغرب ،2011 ،ص.154
- 42 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
هي تلك اليت ميدحها الكل ويف نفس الوقت ميكن أن تكون غاايت كل أحد" 1.واعترب كانط هذا اهلدف هو
اهلدف احلقيقي واألمسى للرتبية ألهنا تنسجم مع غاية اإلنسان.
فالرتبية إن حققت أغراضها ينبغي أن يصري اإلنسان مهذاب ومثقفا ويف الوقت ذاته ماهرا كل هذا
جيعله يكتسب خلق حسن.
وكخطاطة جململ األهداف اليت تسعى إليها الرتبية –حسب كانط -كما مت ذكرها فيما يلي:
(احلضارة)
احلرص على التنشئة على اإلنسان أن يكون على اإلنسان أن يكون على اإلنسان أن يكون
اخللقية حبيث يكتب متحضرا أو ذلك منضبطا وذلك من خالل مثقفا والثقافة تشمل
اإلنسان إحساسا جيعله ابمتالكه القدرة على التعليم وتلقني املهارات السعي إىل احليلولة دون
ال خيتار إال الغاايت التكيف مع حميطه وتنمية استعدادات أن تؤدي احليوانية إىل
احلسنة وميكن أن تكون وابتصافه ابحليطة يف اإلنسان لبلوغ خمتلف فقدان اإلنسانية
يف الوقت ذاته غاايت التعامل مع اآلخرين، الغاايت (القراءة، فاالنضباط ال يتمثل إال
كل إنسان. حبيث يكون حمبواب الكتابة)... يف ترويض التوحش.
وحمرتما وسلوكه ينم عن
تربية آلية سالبة تقوم على تربية موجبة أخالقية تقوم
التهذيب وحسن اخللق.
على االكتساب والتلقني املنع والضبط.
والتوجيه
- 43 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
إن أول ما يراهن عليه كانط يف مشروعه للرتبية هو جتريد اإلنسان من حيوانيته وجتنيبه االنغماس يف
الوحشية ألن "اإلنسان فيما بعد قد أصبح متوحشا من جديد وتردى اثنية يف الرببرية" 1.والتوحش هو
االستقالل عن القوانني ،ويرى "كانط" أنه الميكن بلوغ هذا اهلدف بعيدا عن التوحش واحليوانية إال ابلقسر،
لذلك تكون أول مراحل الرتبية لدى اإلنسان هي مرحلة تلقني الطفل "االنضباط" ألن مهمة االنضباط
حسب "كانط" هو إخضا .اإلنسان لقوانني اإلنسانية ويبدأ إشعاره بقسر القوانني ،وهي مرحلة ذات طبيعة
سالبة إذ تقوم على املنع والضبط.
ويف املقابل يرى كانط أن االنضباط رهني بتعويد الطفل يف سن مبكرة على االمتثال للقوانني
والضوابط االجتماعية واألخالقية الكفيلة بتأطري حياة الفرد احلضارية واملنسجمة مع غاايت الفضيلة اإلنسانية،
لكن هذه اخلطوة تشوهبا بعض الصعوابت واملفارقات واليت يثريها "كانط" نفسه عندما يستذكر أن اإلنسان
ينز .حنو احلرية بطبعه وبذلك يكون متمردا على كل أشكال الضبط والقسر ،وهو مستعد للتضحية من أجل
حريته يقول "أن اإلنسان بطبعه نزوعا شديدا إىل احلرية حبيث يضحي من أجلها بكل شيء إن بدأ يتعود
عليها بعض الوقت لذا جيب اللجوء يف وقت مبكر جدا إىل االنضباط ،ألنه إذا مل يكن األمر كذلك يصعب
جدا فيما بعد تغيري اإلنسان" 2.وعليه يكون من واجب املربني واآلابء الوقوف على تلقني "االنضباط"
ألطفاهلم وتعويدهم عليه منذ نعومة أظافرهم وإال فسيخرجون عن السيطرة وينزعون حنو الفوضى والتمرد
والوحشية مع تبيان للطفل أن القسر والضبط الذي خيضع له هو ملصلحته ومن أجل غاية فاضلة تكمن يف
تلقينه كيفية استعمال حريته مستقبال وتنمية استعداداته األخالقية.
كما يشري كانط إىل أنه ال ميكن تدارك الرتبية لدى الشعوب اليت مل تتعود االنضباط (املتوحشة) مؤكدا
أن االنضباط بوصفه إتبا .نظام معني ،هو الذي حيول الكائن البشري من مرتبة احليوانية إىل مرتبة اإلنسانية،
ومن وضع التوحش واهلمجية إىل وضع التمدن والتحضر وعليه فالرتبية هي ميزة الشعوب املثقفة واملتحضرة
- 44 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
يقول "كانط" "فمن مل يثقف يظل فظا ،ومن مل يتعلم االنضباط يظل متوحشا ،وغياب االنضباط إمنا هو شر
1
أعظم بكثري من غياب الثقافة ،ألن هذا األخري ميكن تداركه فيما بعد ،أما التوحش فلن نستطيع استبعاده".
ومن الرهاانت اليت يضعها أيضا "كانط" هو تقدم اإلنسانية ورقيها حنو الكمال ،ويف هذا الصدد
يضع "كانط" يف مسؤولية كل األجيال تلقني الرتبية للجيل الذي قبله على أحسن وجه ألنه "بوسع كل جيل
أن خيطو بدوره خطوة أكثر حنو اكتمال اإلنسانية ،إذ يكمن يف صلب الرتبية السر الكبري لكمال الطبيعة
البشرية" 2.وهكذا سيكون بوسع كل جيل ،أن يكون أحسن من اجليل األول ،وذلك خبطوة أكرب تقدما ،لذا
فالكفيل برتبية الناس هم أانس تلقوا الرتبية من قبل ،وليس األمر كما كان من قبل أقصد العصر الذي عاشه
"كانط" آنذاك يف أملانيا يف جانب التعليم فكل من حيمل شهادة الالهوت ابستطاعته أن يعلم .وهبذه الطريقة
حسب "كانط" يفتح لنا أفقا على نو .بشري مقبل يكون أكثر سعادة .ولعل هذه الفكرة هي ما سيجعل
تصور "كانط" للرتبية تصورا يتجاوع الطروحات التقليدية للفعل الرتبوي مبا فيها تصور "جون جاك روسو"
(إميل) ألنه ال يعدو أن يكون إال تصورا براغماتيا يعترب الرتبية جمرد تكيف مع العصر وتكوين أانس يسايرون
شروط الراهنة وهذه نظرة حمدودة للرتبية حسب "كانط".
كما ال ميكن أن يتأتى مشرو .الرتبية الذي غايته كمال اإلنسانية إال "ابلعمل على توريث األجيال
القادمة تعليمات تستطيع حتقيقها ابلتدريج" 3.وهذا من أجل الوصول حنو الكمال اإلنساين.
وبناء عليه ال ميكن للرتبية أن تتقدم إال خطوة خطوة ،كما ال ميكن أن يرسى مفهوم دقيق لبنية الرتبية
إال ألن جيال قد ورث اجليل املوايل جتاربه ومعارفه وأن هذا األخري أضاف إليها بدوره بعض الشيء وورثها
اجليل الذي أييت بعده مزيدا على هذا النحو وهكذا.
ومن هنا يرى كانط أن الرتبية احلقة هي اليت تتوجه خلدمة غاية الكمال "اإلنساين ،وهو ما جيعل
"أتمالت يف "الرتبية" لبنة من لبنات بناء املشرو .األنواري وكذلك مشرو .السلم الدائم الذي ال ميكن حتقيقه
إال بتكوين إنسان مستنري حبق ،ومن هذا املنطلق الرتبية عند "كانط" اليت هي يف خدمة النزعة اإلنسانية ال
- 45 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
تنفصل عن فلسفته األخالقية فـ "جيب على اإلنسان أوال تنمية استعداداته إىل اخلري ،فلم تضعها العناية اإلهلية
فيه مكتملة كلها ،وإمنا هي جمرد استعدادات تفتقر إىل العالمة املميزة للخلقية" 1.فاإلنسان يولد وهو يف حالة
خام كما قال "كانط" وأن تلك االستعدادات اليت يولد اإلنسان مزود هبا تتشكل من خالل الصورة
األخالقية ،فاإلنسان يف نظر ال يولد خري وال شريرا ،لكن الرتبية هي املسؤولة عن توجيهه حنو اخلري أو الشر.
لذلك ،يدعو "كانط" إىل أتسيس "علم الرتبية" (البيداغوجيا قائم على النظر والتفكري لتطوير
االستعدادات اإلنسانية اجتاه الكمال) إذن "البد لفن الرتبية ،أو البيداغوجيا ،من أن يصبح قائما على النظر
والتفكري (أو الروية) ،إذا أراد تنمية الطبيعة اإلنسانية حبيث تبلغ غايتها" 2.فعل سبيل املثال الوالدان اللذان قد
ربيا ،ميثالن قدوة يتكون األطفال وفقها ويهتدون هبا ،ولكن إذا أريد هلؤالء األطفال أن يصبحوا أفضل من
احلالة الراهنة ،جيب أن تصبح البيداغوجيا دراسة أو حبثا ،ألنه خبالف ذلك ينبغي أن ال ينتظر منها شيء.
والبيداغوجيا هبذا املعىن جيب أن توجه خمطط للرتبية يتخذ بعدا كونيا وعامليا ،ومبىن على أساسني:
-آيل سالب :وهو املتمثل يف "الضبط" وذلك بتلقني الطفل االنضباط واالمتثال للمبادئ والقوانني
بشكل مباشر وآيل ،وتقوم بواسطته املنع وجتنيب الطفل من السقوط يف األخطاء والنزوات؛ أي جتنيبه النزو.
حنو الوحشية وهو ما ميثل أول مراحل الرتبية.
ويعطي "كانط" كمثال عل ى ذلك ،فأخذ الطفل إىل املدرسة يف السنة األوىل ال يكون بغرض تلقينه
املعارف ،ولكن الغرض منه هو تعويده اجللوس واالنضباط داخل القسم واالمتثال لألستاذ ،وهي خطوة آلية
سالبة ،هتيء الطفل للمرحلة التالية املوجبة (التلقني والتعليم).
-أخالقي موجب :وهي موجبة لكوهنا املرحلة اليت أييت فيها دور تعليم الطفل وتلقينه املهارات وتنمية
االستعدادات (القراءة ،الكتابة ،املوسيقى) وتلقني املبادئ األخالقية.
- 46 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
تعترب الرسائل من أهم عناصر العملية الرتبوية ،واليت ال ميكن ألي عملية تربوية أن تقوم من دوهنا ،ألنه
بوجودها حتقق الغاايت واألهداف الرتبوية ،وهذا ما سيثبته كانط.
-1العقوبة:
تعترب وسيلة العقوبة من بني الوسائل املتداولة عند العديد من املربني أو املدرسني "وكانط" واحد من
بني املدرسني الذي كانت له وجهة نظر حول العقوبة.
ومسألة العقوبة هل ا أنظار خمتلفة ،فهناك من يرى أن استعمال العقوبة على الطفل تلحق أضارا على
الصفات لذا رفضوها ،يف املقابل هناك من اندى هبا وضرورة وجودها يف العمل الرتبوي.
يعتقد "كانط" أن الطاعة ابلنسبة للطفل ضرورية قبل كل شيء لطبعه والسيما التالميذ ومسألة
أساسية يف جناح العمل الرتبوي ،لكن "كانط" ميز بني نوعني من الطاعة؛ طاعة مطلقة مبعىن إطاعة القوانني
سواء داخل املدرسة أو يف أي مؤسسة أو دولة وهي انجتة عن اإلكراه ،وطاعة إرادية مبعىن طاعة ال ختضع
لاللتزام بل تكون اتبعة من إرادة اإلنسان ،وقد اعرتف "كانط" أبهنا طاعة متعقلة وطيبة فهي انمجة عن الثقة
فإذا كانت الطاعة اإلرادية مهمة جدا ،فإن الطاعة املطلقة ضرورية للعمل ،فهي تعد الطفل لاللتزام ابلقوانني
اليت ينبغي أن ميتثل هلا فيما بعد فباعتباره مواطنا حىت وإن مل تنل رضاه.
ومنه جيب وضع قانون إلزامي كلي يف العمل الرتبوي خيضع له مجيع األطفال دون تفضيل طفل ،على
آخر ،وحيث كانط على االنتباه هلذا اجلانب خاصة يف املدارس ألنه هبذا القانون سيصبح الطفل مدعاة للتمرد.
من اجلديد أن يتصرف األطفال حسب الرغبة ،لكن البد من إلزامهم أبمور كثرية ابعتبارها واجبا ألنه
أمر مقيد طوال حياته ،وخمالفة هذه األوامر واخلروج عن الطاعة أمر يستدعي العقاب ،نفهم من هذا على أن
العقوبة عند كانط هي جزءا على عدم االنضباط أو انعدام الطاعة من طرف الطفل أو التلميذ.
والعقوبة عند "كانط" نوعني إما عقاب مادي وإما معنوي ،وتكون العقوبة معنوية مثال عندما نشعر
الطفل ابخلزي أو تعامله بربودة واعدراء واحتقار عندما يسيء التصرف ،واهلدف من هذا هو إشعاره بسوء ما
أقدم عليه ،وهذا النمط من العقاب هو املفضل لدى "كانط" ألنه مساعد على اخللقية ،وعلى سبيل املثال
عندما يكذب الطفل ،فتكون نظرة احتقار عقوبة كافية ومناسبة.
- 47 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
أما العقاب املادي ويتمثل هذا األ خري إما يف رفض ما يرغب فيه الطفل وهي عملية سالبة أو بتطبيق
اجلزاء ،لكن جيب احلذر منها لكون هذه الطريقة ميكن أن تسبب احلتو .لدى الطفل ،وليس من احلسن –
حسب "كانط" -أن نعطي األطفال مكافآت ألهنم يصريون بذلك ذوي أغراض أاننية ونفسية وينسجم عن
1
هذا االستعداد االرتزاق واالستئجار.
ويشري "كانط" أنه ال جيب مصاحبة العقوبة مبالمح الغضب "إن عقوابت تسلط مصحوبة بعالمات
الغضب هلا أثر مغلوط" 2.ألن األطفال عندئذ ينضرون إليها على أهنا فقط انمجة عن انفعال شخصي أو أهنم
مستهدفون و حاقدين عليهم ،كما أن العقوبة ال جيب أن تكون اجتاه األطفال بشكل متواتر ،ألنه عندما
تصبح مألوفة فتولد لديهم طباعا عنيدة فـ "جيب إنزال العقوابت على األطفال ابحتياط ،وعلى حنو يرون معه
أن الغرض منها هو إصالحهم فقط ،وإرغام األطفال حني يعاقبون على أن يشكروا ،أو يقبلوا اليد ...هو أمر
3
أمحق وجيعل األطفال خائفني".
إن العقاب هو نتيجة لعدم الطاعة هلذا مييز كانط بني طاعة املراهق وطاعة الطفل ،فطاعة البالغ تقوم
يف االمتثال لقواعد الواجب ،وأن يفعل الواجب معناه يطيع العقل ،لكن من املضيعة للوقت احلديث أو الكالم
عن الواجب مع األطفال ،فهم يف النهاية يتصورون الواجب على أنه شيء يؤدي عدم أدائه إىل الضرب
ابلعصا ،والطفل ميكن أن ينقاد ابلغرائز وحدها لكن ينبغي أال نستعمل الشعور ابلعار مع األطفال ،بل يكون
ذلك يف مرحلة البلوغ فقط ،ألنه ال حمل له إال بعد أن تكون فكرة الشرف قد ضربت جبذورها يف نفسه .إذن
جيب مراعاة سن الطفل أثناء توخيه العقاب.
ومييز "كانط" متييزا آخر ألنوا .العقوابت ،عقوبة طبيعية وأخرى اصطناعية ،الطبيعية هي اليت جيلبها
اإلنسان لنفسه بتصرفاته كما هو احلال مع الطفل الذي يشبع شبعا مفرطا فيصبح مريضا كالذي أيكل أكال
مفرطا فيمرض نتيجة لذلك ،وهذا النو .من العقوابت هي األفضل يف نظر "كانط" ألهنا ترتك فيها أثرا طوال
حياته ،أما العقوبة االصطناعية فهي تشمل العقوابت املادية واملعنوية.
- 48 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
كما جيب أن تكون العقوابت املادية مكملة فقط للعقوابت العمومية من حيث ما يعوعها وحني ال
تكون كافية وافية ابلغرض ،وإذا مل تقدم العقوابت املعنوية أي عون بل ينبغي االنتهاء إىل العقوبة املادية فلن
يصبح بعد تكوين أخالق حسنة بفضل هذه العقوابت املادية.
ميز "كانط" بني نوعني من الرتبية ،األوىل هي الرتبية اخلاصة مهمتها التمرس على املبادئ األخالقية،
ويقرتح "كانط" أبن تتكفل هذه الرتبية هي األسرة ،أو أن تكفل هبا أشخاص مأجورين إن كان األبوان ال
جيدان وقتا للقيام هبذه املهمة ،أما الثانية وهي الرتبية العمومية واليت تتم يف املدارس وتشمل التدريس املعاريف
والتلقني الثقايف واألخالقي ،ومها مهمتني موكلتني للمعاهد الرتبوية ومنها العمومية لكوهنا أكثر نفعا من حيث
االنضباط واحرتام املناهج الرتبوية املسطرة إال أن هذه املعاهد تكون عدد تالمذهتا حمدود وهي قليلة لكوهنا
مكلفة جدا يف إحداثها.
يؤكد "كانط" أبن الرتبية اخلاصة موكولة إىل األولياء أو أشخاص مأجورين كما قلنا سابقا ،إال أن
هناك صعوبة خاصة يف الرتبية اليت يوجهها املساعدين ،وتكمن يف الرتبية اليت يقدمها األولياء من جهة والرتبية
اليت يوجهها املساعدين ،يف هذه احلالة يف –نظر كانط -اليت يكون فيها الطفل ملزما أبن يتصرف وفق مبادئ
املعلم اخلاص ،ويتبع أيضا نزوات األولياء ،ففي مثل هذه الرتبية يرى "كانط" "من الضروري أن يتناعل األولياء
1
عن سلطتهم كلها لفائدة املريب".
إن اهلدف من معاهد عمومية هو حتسني الرتبية األسرية ،لكن إذا كان األولياء أو من يقدم املساعدة
يف الرتبية قد ربوا جيدا إذن أمكن جتنب نفقات املعاهد العمومية ألنه "من الصعب أن يتمكن غري أطفال
2
األغنياء من االنتفا .مبثل هذه املعاهد".
لكن كانط يفضل الرتبية العمومية على الرتبية اخلاصة ليس فقط من حيث املهارة بل أيضا من حيث
تكوين مواطنني "فالرتبية العمومية تعطي أفضل منوذج للمواطن يف املستقبل" ألهنا تتوفر على مزااي ألن "فيها
- 49 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
يتعلم املرء أن خيترب قواه ،كما يتعلم التحديد الناتج عن حق الغري ،وال تتمتع فيها أبي امتياع ألنه يلقي فيها
1
مقاومة حيثما كان ،وال يصبح فيها ذا خطوة إال حبسب جدارته".
لذلك يركز "كانط" على الثقافة املدرسية أو التعليم والتكوين املدرسي ،ألنه يرى فيهما أفضل الطرق
الكتساب املهارة واحليطة وبلوغ الرشد والنضج وذلك مبعرفة اختيار الوسائل وحتديد األهداف والوعي ابملقاصد
يقول "إن التكوين املدرسي هو الذي يتوفر يف أبكر وقت ويف املقام األول 2. "...فالتعليم املدرسي هو الكفيل
بتنمية استعدادات الطفل ليعرف ذاته من جهة وليتمكن من التكيف مع حميطه ومن مث مسامهته يف الرقي
اإلنساين كمواطن على خالف روسو الذي يعترب املدرسة إفساد أخالق الطفل.
وعليه فالرتبية العمومية اليت متارس يف املدارس هي أفضل منوذج يعطي للتلميذ من أجل مستقبل أفضل
–حسب كانط -أما الرتبية اخلاصة اليت متارس من قبل األولياء أو املساعدين فهي ال تكون مواطن أفضل ،وال
يغرس فيه واجباته حنو اآلخر ،لذلك فأطفال األمراء واألغنياء يظلون أطفاال طوال حياهتم ،ألهنم تعودوا على
اإلتكالية فـ "ال شجرة املعزولة وسط احلقل تنمو منحنية ومتد أغصاهنا بعيدا؛ والشجرة وسط الغابة ،يف املقابل
تنمو مستقيمة وتتجه إىل أعلى حنو ضوء الشمس" 3.وعليه تعترب الرتبية العمومية أو املدرسة وسيلة مهمة يف –
نظر كانط -يف العملية الرتبوية.
- 50 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
-الرتبية الفيزايئية.
-الرتبية العملية.
اإلنسان طبيعته وحرية ،والرتبية الفيزايئية هي تلك الرتبية اليت تتعلق بتنمية اجلانب الطبيعي يف
اإلنسان ،أي تنمية قدراته واستعداداته ،اجلسمية املتعلقة بقوى البدن وكذا العقلية املختصة بتنمية قدرات
الذهن املعرفية ،ومها يف –نظر كانط -تربيتان متواكبتان وغري منفصلتني.
أ-الرتبية اجلسمية:
إن هذا النو .من الرتبية مشرتك بني اإلنسان واحليوان ،ألنه يتعلق بنمو اجلسم من خالل ما تقدمه
املوضوعات أو األولياء من رعاية وتكون منذ والدة الطفل.
يرى "كانط" أن الرتبية األوىل تكون سالبة أي "أنه ينبغي أن ال يضاف أي شيء إىل االحتياطات
اليت اختذهتا الطبيعة" 1.هذا يعين أننا نرتك الطفل مثال ميشي بدال استعمال األدوات االصطناعية ،فرتك له جمال
االختيار األسلوب املناسب بنفسه دون تدخل أي أسلوب آخر يف حياته غري الذي وهبته له الطبيعة.
لذلك يستبعد "كانط" القماط وينصح بدال منه بنو .من الصندوق املزود بسيور من األعلى ،فيبقى
الطفل دائما فيه حىت عند إرضاعه .ألنه "كثريا من مواطن الضعف لدى اإلنسان ال تتأتى من أنه مل يتلق أي
تعليم ،بل من أنه يقن انطباعات خاطئة" 2.فعلى سبيل املثال املرضعات يرتكنا يف األطفال نو .من اخلوف من
العناكب والضفاد ،.وهذا اخلوف والسلوك الذي يظهرنه املرضعات من امشئزاع على مالمح وجوههن ما إن
- 51 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
يرين عنكبوات ،فهذا يؤثر يف الطفل بنو .من املشاركة الوجدانية ،وكثري من األطفال حيتفظون هبذا اخلوف طوال
حياهتم ويضلون أطفاال.
هذه األجهزة االصطناعية من القماط واهلدهدة واستعمال العجالت أو املساكات يف –نظر كانط-
مجيعا جتلب ا لوابل بقدر ما تتعارض ،والغاية اليت تسعى إليها الطبيعة يف كل كائن متعض وعاقل واليت
مبقتضاها البد من أن حيافظ على حرية التدرب على استعمال قواه.
وهبذه الطريقة يكون من األفضل جدا استعمال قلة من األدوات يف البداية وترك األطفال يتعلمون
املزيد أبنفسهم؛ وعندئذ يكون مبقدورهم تعلم الكثري من األشياء أبكثر ثبات .ألن استعماله أثناء الرتبية
اجلسمية شيء خمالف ملا وهبته الطبيعة للطفل.
لذلك ينبغي أن نعود الطفل منذ صغره على احلرية وتعويده على أتجيل رغباته دون االنصيا .إليه
كلما بكى ألنه هبذا االنصيا .نفسد األطفال وإبمكانه احلصول على كل شيء وابلتايل حنقق رغباته وأهوائه،
ألنه هبذا نقتل اجلانب األخالقي يف الطفل وبطبيعة احلال "ال ميلك الطفل بعد أي مفهوم عن األخالق ،لكننا
نفسد بذلك استعداداته الطبيعية حبيث يلزم مستقبال تسليط عقوابت صارمة جدا لنجعل اثنية من الطفل
الفاسد األخالق طفال مستقيما ،وإذا أردان فيما بعد ختليص األطفال من عادة رؤية اآلخرين يسارعون دائما
1
لندائهم".
كما حيرص "كانط" أن ال يكون االنضباط يف تكوين اجلسم نوعا من االستعباد والقضاء على احلرية
2
وإمنا "أن حيس الطفل على العكس إحساسا دائما حبريته ،ولكن على حنو ال يعارض معه حرية الغري".
وعليه جيب تنمية الشعور ابللذة واألمل بطريقة سالبة ،دون أن يصبحوا مائعني ،لذا البد من انتهاج
طريقة جتاه األطفال منذ حداثة سنهم "ينبغي انتهاج سلوك دون انقطا ،.فتكون املقاومة اليت يعرتضها الطفل
3
يف هذه احلالة طبيعية متاما وال تعدوا أن تكون سالبة".
- 52 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
فرتبية الشعور ابللذة واألمل جيب أن يكون عن طريق مقاومة طبيعية سالبة تعرتض لرغبات الطفل دون
أن تصا .إليه ما أن يبكي فـ "ينبغي أن ال تكسر إرادة األطفال ،بل أن توجه فحسب حبيث تنصا .للعوائق
1
الطبيعية".
هذا اجلزء االجيايب من الرتبية اجلسمية للطفل يكمن يف الثقافة هذه األخرية خيتلف هبا اإلنسان عن
احليوان ،وتتمثل يف ممارسة ملكاته الذهنية ،وهذا اجلانب من الرتبية له دور فعال وأمهية كبرية ،لذا على األولياء
أن يوفروا ألطفاهلم الظروف املواتية لذلك وتقوم الرتبية اجلسمية االجيابية على قاعدتني أساسيتني مها:
فبالنسبة للقاعدة األوىل يلح كانط –كما رأينا -على ضرورة استبعاد كل األدوات منذ البداية يف تربية
الطفل كاستعمال املساكات والعجالت الصغرية فنستبعدها ونرتك الطفل حيبو على األرض إىل أن يتعلم املشي
بنفسه أكثر وثوقا على غرار استعمال األدوات ألهنا تسبب تعطيل املهارات الطبيعية ،وجتعله عبدا اتكاليا
يعتمد عليها دون إبدا..
ومنه ال جيب استبدال العني اجملردة لقياس امتداد ما خييط ،كما ال ميكن استعمال ساعة لتحديد
الوقت ،يف حني أنه ميكن نا اعتبار موقع الشمس حتديدا للوقت ،أو أن نستعمل عورق للتنقل من املاء بدال من
السباحة ،وعليه ينبغي تنمية املهارة الطبيعية ألهنا ترتك له اجملال أمام االبتكار أو حىت يكتشف هو بنفسه
األدوات
أما القاعدة الثانية فتتمثل يف ضرورة اعتماد الطفل على نفسه أثناء الرتبية اجلسمية سواء تعلق األمر
ابستعمال احلركة اإلرادية أو ابستعمال أعضاء احلواس ،فيتطلب األمر يف احلركة اإلرادية القوة واملهارة والسرعة
والوثوق ،مثلما كان احلال مع السويسريون الذين تعودوا على املشي يف اجلبال وعلى اجلسور الصغرية والقفز
فوق اهلاوايت بثقة كاملة ودون خوف.
- 53 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
لذلك جيب ترك األطفال يتعودون على استعمال األطراف فهم دون خوف ودون استعمال أي أداة،
ألن الطبيعة هيأته لذلك ،ألن األطفال ميتلكون وعان أقل من وعن الكهول ،وعظامهم ليست صلبة وسريعة
االنكسار بنفس القدر اليت تصبح عليه بتقدم السن ،فاألطفال أنفسهم خيتربون قواهم ،نراهم مثال يتسلقون،
وأحياان يغدو فهو حركة صحية تقوي اجلسم والرمي وغريها من احلركات اليت خيترب فيها الطفل قواه.
كما حيبذ "كانط" كل األلعاب منها لعبة الغمامة (أو تعصيب العينني) والكرة واألرجوحة ولعبة الرمي
أيضا ويف املقابل ينبذ البوق والطبلة (الدف) ألهنم حيداثن أصوات صاخبة تؤذي مسامع األشخاص الكبار،
وتزعج اآلخرين وتتناىف مع حرية اآلخرين ،وعليه كل األلعاب اليت فيها مترين للعضالت وللحواس معا يقول
كنت "إن أحسن األلعاب هي تلك اليت فيها تدريب للحواس ،إىل جانب ما تنميه من مهارة ،مثل األلعاب
اليت تدرب البصر ع لى احلكم الدقيق على املسافات ،وعلى املقادير وعلى النسب ،ومتكن من معرفة مواقع
األماكن يف البالد ،وجيب أن نستعني يف ذلك ابلشمس ...إن هذه مترينات حسنة" 1.إذن فاللعب املقصود
هو اللعب الذي له هدف وغاية.
وابلتايل ينبغي توجيه األلعاب حبيث ختدم غرضا معينا مثل تقوية البدن وتعويده على األعمال الشاقة،
مما يؤمن الطفل ضد النتائج الضارة الناشئة عن الرخاوة ،وكذلك على الرايضة البدنية أن توجه الطبيعة
فحسب ،ال أن تنمي أشكاال مصطنعة من التأنق يف احلركات والبد من "أن تكون املرتبة األوىل لالنضباط ال
2
للتعلم ...وبتنمية جسم األطفال إمنا تكوهنم للمجتمع".
وعليه يعطي كانط أمهية كبرية للرتبية اجلسمية ،لذلك جيب أن تكون منذ اللحظات األوىل من حياة
الطفل لذا يوصي اآلابء مبراعاة هذا اجلانب مع إتبا .الشروط الالعمة يف تربية الطفل ملا هلذه الرتبية من آاثر
كتقوية البدن وتنميته وكذا على اجلانب العقلي واألخالقي للطفل كما تعينهم على احلرية.
1عبد الرمحان بدوي :فلسفة الدين والرتبية عند كنت ،ص ص.133-132
- 54 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
ب-الرتبية العقلية:
يصنف كانط الرتبية العقلية ضمن الرتبية الفيزايئية ،ألهنا تثقيف االستعدادات الطبيعية يف اإلنسان أي
تربية العقل وضبط اإلرادة ،فطاملا العلنا يف ميدان الطبيعة ،فنحن ال نزال يف جمال الفيزايئي ،وتنتهي الطبيعة
حني تبدأ احلرية ،هذه األخرية جماهلا األخالق ،ومادامت الثقافة العقلية ال تتعلق ابألخالق ،فإهنا تظل يف حيز
1
الطبيعة ،أي فيزايئية.
وختتلف ثقافة الذهن املادية عن الثقافة األخالقية ،ألن هذه األخرية تتعلق ابحلرية ،بينما تتعلق الثقافة
املادية ابلطبيعة ،فـ "ميكن إلنسان أن يكون مثقفا جدا من الناحية املادية ...لكن مع ذلك يكون سيء
2
الثقافة جدا من الناحية األخالقية إنساان شريرا ال غري".
كما ميكن نعت الثقافة العقلية أبهنا فيزايئية ،ألهنا تقوم يف معظمها على االنضباط ،شأهنا يف ذلك
شأن الرتبية البدنية ،إذن الرتبية العقلية تركز على ثقافة النفس وثقافة اجلسم على السواء وتصنف ضمن ثقافة
الذهن املادية وتتعلق ابلطبيعة.
وتقسم ثقافة الذهن املادية إىل حرة ومدرسية ،فالثقافة احلرة ما هي إال سوى لعب ،بينما الثقافة
املدرسية هي شيء جدي وعمل قائم على نو .من اإلكراه والقسر.
-1ضرورة العمل:
حيث كانط على ضرورة العمل ابلنسبة لإلنسان ،حىت ولو كانت هذه األعمال شاقة وتتضمن نوعا
من القهر "إن اإلنسان جيب أن يكون مشغوال حبيث يشبع ابهلدف الذي ينشده ،فال حيس بذاته وتكون
3
أفضل راحة ابلنسبة إليه هي الراحة اليت أتيت بعد العمل".
وهلذا فمن املهم أن يتعلم األطفال أن يعملوا ويتعودوا عليه ولكن من السيئ يف –نظر كانط -أن نعود
الطفل على أن ينظر إىل كل شيء على أنه لعبة ،صحيح أنه البد له من أوقات للرتويج عن النفس لكن البد
أيضا من أوقات جيب فيها أن يعمل ،ألن اإلنسان هو احليوان الوحيد الذي حيتاج إىل العمل ،وذلك من أجل
- 55 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
احلفاظ على ذاته ،ومن اخلطأ –حسب كانط -أننا لسنا جمربين إىل العمل ألن العناية اإلهلية وفرت لنا كل ما
حنتاجه ،لذا جيب العمل حىت وإن استلزم إكراها.
يقسم "كانط" ملكات النفس إىل ملكات عليا وملكات دنيا ،األوىل يف نظر كانط هي العقل،
والذهن ،وملكة احلكم والثانية يذكر منها :االنتباه ،الذاكرة ،البديهية ،املخيلة.
والرتبية العقلية جيب أن تتعلق ابمللكات العليا ،وتثقيف امللكات الدنيا يتم يف نفس الوقت الذي يتم
فيه تربية امللكات العليا فال ميكن تربية ملكة عقلية لذاهتا وتوحدها ،بل ينبغي تربية أو تثقيف كل واحدة من
امللكات العقلية يف عالقتها بغريها من امللكات لذا يقول "كانط" "جيب أن ال هني إحدى قوى الذهن لذاهتا
ومبفردها متاما بل أن تنمى كل واحدة من القوى يف عالقة ابألخرى فحسب ،مثال أن تنمى املتخيلة حلساب
الفامهة دون غريها" 1.وابلتايل فال قيمة للملكات الدنيا ما مل تكن مرتبطة ابمللكات العليا.
إن تثقيف الذاكرة أمر يف غاية األمهية ،وجيب أن يكون هذا التثقيف يف وقت مبكر حىت يتوافر
للذهن املادة اليت يعمل فيها وهبا ،لكن هذا التدريب للذاكرة ينبغي أال يتم بواسطة التحفيظ عن ظهر قلب،
وإمنا ينبغي أن خنتار مادة الذاكرة من بني املواد اليت تستحق أن حتفظ يف الذاكرة ولنا مصلحة يف استبقائها وهلا
عالقة فعلية ابحلياة الواقعية ،وهلذا يستهجن "كانط" أن يقرأ األطفال القصص ،ألهنا تضعف الذاكرة وتؤدي
إىل التهاويل اخلاوية من األفكار.
ولتنمية الذاكرة يف سن مبكر ،مع تنمية الفامهة يف ذات الوقت بـ- :حفظ األمساء الواردة يف
القصص.
-ابلقراءة والكتابة ،فالبد من تدريب األطفال على القراءة والكتابة من أنفسهم ،دون اللجوء إىل
التهجي.
-وابللغات ،وينبغي تعليم األطفال اللغات أبن يسمعوها أوال ،قبل أن يقرؤوا شيئا من نصوصها –ما
يسمى ابملوسوعة املصورة أيضا.
- 56 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
ومنه ينبغي أن ال نشغل الذاكرة إال ابألشياء املهمة واليت لنا مصلحة يف استبقائها وهلا عالقة بواقع
الطفل.
أما تربية االنتباه فيجب أن تتم ابعتبار الذاكرة ،ألن هذه األخرية تقوم على االنتباه ،وتربية االنتباه يهم
أيضا سائر امللكات وعدم االنتباه الطفل أو التلميذ يف املدرسة حيدث تشتت لذا جيب حماربته بكل وسيلة،
ألن التشتت جيعل التالميذ نصف سامعني ،ونصف مبصرين ،وهلذا يؤكد "كانط" أن التشتت الذهين هو عدو
1
كل تربية ،ويؤدي إىل تضييع خري امللكات.
أما فيما خيص ا خليال فإن "كانط" حيذر من تنميته ،خصوصا وأن ملكة اخليال عند األطفال قوية
جاحمة وهلذا فإهنا أحوج إىل الكبح والضبط منها إىل التنمية والرتبية ،لكن ال يعين أهنا ترتك منعدمة ومعطلة بل
حتتاج إىل أن ختضع لقواعد.
وعليه فإن كانط يدعوا إىل تشغيل احلواس ابنتباه وإىل امتالك ذاكرة قوية دون حتويل احلفظ إىل جمرد
مترين وإىل توسيع فضاء اخليال وتسلح ملكة احلكم ابلذكاء ،لكن ال ميكن أن نركز على تنمية امللكات الدنيا
لوحدها بل جيب أن يشمل مجيع ملكات والقدرات املعرفية لإلنسان ،ألنه ال قيمة للملكات الدنيا دون أن
ترتبط ابمللكات العليا.
قلنا أن امللكات العليا تشمل الفامهة وملكة احلكم والعقل ،الفامهة هو القدرة على معرفة ما هو كلي،
وهلذا ال ميكن تثقيفه إال ابملواد اليت توجد فيها قواعد يقينية .لذا يف البداية ميكننا أن ننمي أو نثقف الفامهة
نوعا ما ابلسلب كأن نقرتح عليها أمثلة تتفق مع القاعدة ،أو على العكس ابستخراج القاعدة املالئمة
للحاالت املفردة.
وجيب أن تبدأ تربية الفامهة يف وقت مبكر ،ويف نفس الوقت ينبغي تربية الذاكرة ،فال ميكن للمرء أن
يتعلم شيئا ال يفهمه ،بل يردده دون فهم ،وخري وسيلة للتنمية أن يضع املرء بنفسه ما يراد له تعلمه ،وأحسن
طريقة لفهم خريطة جغرافية –حسب كانط -أن تتمكن من إجناعها أبنفسنا ،والوسيلة املساعدة على الفهم
هي إنتاج األشياء وهلذا "فالذي نتعلمه أمنت تعلم ،وحنفظه أحسن حفظ هو الذي تعلمناه نوعا ما أبنفسنا،
- 57 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
ولكن القلة من الناس هم القادرون على ذلك" 1.ألنه هبذه الطريقة اليت يعمل فيها املرء بنفسه ما يريد تعلمه
هي تكوين اخللق وبث االستقالل الذايت يف النفس ألن الذهن الذي يتعود على أن يبحث بنفسه ويكتشف
بنفسه يصري أكثر حرية واستقالال ومقدرة على االبتكار.
أما فيما يتصل برتبية ملكة احلكم فنقول أوال أن ملكة احلكم هي القدرة على تطبيق الكلي على
اجلزئي ،وهي اليت تبني كيف ينبغي أن نستخدم الذهن ،وهذا االستخدام ضروري كي نفهم ما نتعلم أو ما
يقال وأن ال نردد شيئا مل نفهمه "فما أكثر من يقرأ ويسمع حىت دون أن يفهم ،خالفا ملا يعتقد ،لذلك
2
فالصور واألشياء ضرورية".
يف املقابل فالعقل هو القدرة على إدراك الرابطة بني الكلي واجلزئي وتربيته جيب أن تسري على الطريقة
السقراطية ،ذلك أن سقراط –وكان يسمي نفسه مولد املعلومات من سامعيه -يقدم إلينا يف حماوراته اليت
حفظها لنا أفالطون على حنو معني ،أمثلة على الطريقة اليت ميكن هبا ،حىت ولو تعلق األمر بكبار السن ،اقتياد
3
التلميذ إىل أن يستخلص من عقله هو نفسه الكثري من األمور.
لكن ال ينبغي أن يفهم من هذا أنه جيب إجهاد عقل الطفل ،وال ينبغي أيضا للطفل أن يتعقل كل
األمور وليس له أن يعرف مبادئ كل ما جيب أن يربيهم على النحو الالئق ،لكن يف املقابل جيب أن حنرتع يف
–نظر كانط -من تلقني األطفال معارف عقلية ،وعلينا أن نعمل حبيث يستخلصوها من ذواهتم ،واملنهج
السقراطي ينبغي أن يكون قاعدة ملنهج السؤال واجلواب ،صحيح أنه بطيء ومن الصعب توجيهه حبيث يتعلم
سائل األطفال شيئا يف األثناء اليت تستخرج معرفة ما من ذهن أحد التالميذ.
والفارق بني املنهج السقراطي واملنهج اآليل للسؤال واجلواب هو أن األول يتوجه فيه املعلم إىل عقل
التلميذ ويسعى كي جيعله يكتشف يف نفسه وبنفسه ما يريد أن يعلمه إايه ،أما املنهج اآليل للسؤال واجلواب
ففيه حياول املعلم أن يستوثق بواسطة األسئلة من أن ذاكرة التلميذ جيدة ،ويف أتليف الكتب يكون السؤال
واجلواب وسيلة للرتويج عن ذاكرة القارئ وجذب اهتمامه.
- 58 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
وهنا يعرج كانط على تربية عاطفة (أو الشعور ابللذة أو األمل وعنده أن هذه الرتبية "ينبغي أن تكون
سلبية ،ألن العاطفة نفسها ينبغي أال جتعل ذات رخاوة ،إن امليل إىل الرخاوة هو لإلنسان أشد ضررا من كل
شرور احلياة ،فمن املهم إذن أن يتعلم الطفل منذ بداية شبابه أن يعمل ،واألطفال إذا مل تدب الرخاوة بعد
فيهم ،حيبون حقا املالهي املرتبطة ابلتعب ،واألشغال اليت تتطلب قوى "...ومفاد هذا أنه ينبغي ضبط اللذات
حبيث ال تؤدي إىل الرخاوة ،وعلى حد قول "كانط" يف كتابه "علم اإلنسان"" :أيها الشباب ...أحب العمل،
1
وأرفض املتع ال من أجل التخلي عنها ،وإمنا لتحتفظ هبا دائما ،قدر املستطا .يف أفقك".
ويالحظ "كانط" أن بعض اآلابء ميتحنون ويدربون صرب أوالدهم جيعلهم ينتظرون وقتا طويال
للحصول على ما يريدون.
وعليه يطالب "كانط" اآلابء يف معاملة أبنائهم دون اللجوء للتدليل وال اجلفوة ،فال ميكن أن نستسلم
لصراحتهم ورغباهتم أاي كانت ،وال نرفض هلم كل طلب "إننا نفسد األطفال إذا فعلنا اي يريدون ،ونسيء
تربيتهم متاما إذا لبينا واستبقنا ما يريدون وما يتمنون" 2.ألنه ابالستجابة هلم على كل ما يريدون –حسب
كانط -جيعلهم ذوي رخاوة.
-2الرتبية العملية:
إذا كانت الرتبية الفيزايئية تتعلق بتنمية اجلانب الطبيعي يف اإلنسان ،فإن الرتبية العملية هي األخرى
تتعلق جبانب يف اإلنسان الذي هو احلرية ألن اإلنسان كما رأينا طبيعية وحرية ،لذا فالرتبية العملية مهمة
لإلنسان فبواسطتها يتثقف اإلنسان ليصري كائنا حرا وابنعدامها خنلق إنساان انقصا منذ البداية.
وتضم هذه الرتبية كال من الرتبية األخالقية والدينية والسياسية واجلنسية وحىت الفنية.
- 59 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
-الرتبية األخالقية:
يركز كانط على هذا اجلانب من الرتبية واعتربها مرحلة أساسية يف تربية اإلنسان ،ألن غاية اإلنسان –
حسب كانط -هي الكمال األخالقي.
والرتبية األخالقية هي "تربية ترمي إىل تكوين الشخصية ،تربية كائن يتصرف حبرية ويقدر على
1
االكتفاء بذاته وعلى أن يكون عضوا يف اجملتمع ،ولكنه قادر أيضا على أن ميتلك لنفسه قيمة ذاتية".
لذلك فإن الرتبية األخالقية ما هي إال عملية تنشئة وتوجيه خلقي للفرد ،وبواسطتها يصري اإلنسان
عضو يف جمتمع ،وأن يثبت نفسه يف اجملتمع الذي يعيش فيه.
واهلدف من الرتبية اخللقية هو التوجيه والتنشئة اخللقية للطفل ينبغي "أن ال يكون اإلنسان مؤهال
لشىت أنوا .الغاايت فحسب ،بل ينبغي أيضا أن يكتسب إحساسا جيعله ال خيتار إال الغاايت احلسنة ،وهي
اليت يتبناها ابلضرورة كل شخص ،وميكن أن تكون يف الوقت ذاته غاايت كل إنسان" 2.فعلى الرتبية .أن
تساعد الطفل على اكتساب الغاايت احلسنة اليت هي غاايت كل إنسان.
ألن املرء –حسب كانط -جيب أن يفعل اخلري ألنه خري ،وأن يؤدي الواجب ألنه واجب ،فهذا أمر
مطلق ال يتوقف على شرط أو ضرف أو اعتبار آخر غري الواجب نفسه.
وهذه الرتبية اخللقية يف نظر كانط ،جيب أن تقوم على مبادئ "فينبغي احلرص على أن يعتاد الطفل
التصرف وفق مبادئ ال حبسب الدوافع" 3.فينبغي تعويد الطفل على التصرف وفق املبادئ وليس وفق
االنضباط ألنه مينع العيوب ،بينما األول ينمي طريقة التفكري.
إن هذه املبادئ أو القواعد وفقها يتصرفوا األطفال ،فمن املهم جدا أن "جنعلهم يالحظون يف كل
األشياء خمططا معينا ،وقوانني مع ينة ينبغي أن تتبع على أدق وجه ،ومن ذلك مثال أننا حندد هلم وقتا للنوم،
- 60 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
ووقتا للعمل ،وأخريا وقتا للراحة ،وجيب أن ال مندد أو نقلص من هذا الوقت فيما بعد ،وميكن ترك األطفال
1
خيتارون بني األشياء املهمة ولكن عليهم دائما أن يتبعوا بعد ذلك ما سنوا ألنفسهم مرة من قانون".
واملبادئ ال تفرض على الطفل فرضا بل يتبني هو نفسه عدالتها أي تنبع من فامهته الذاتية ال من
اخلارج ،فمصدر هذه املبادئ هو اإلنسان نفسه ،فعلى الطفل أن يتصرف وفق املبادئ تتبع من فهمه اخلاص
صحيح هذا أمر صعب املنال لدى الطفل الصغري –حسب كانط -مما جيعل الثقافة األخالقية أن تفرتض
الكثري من األنوار على عاتق األولياء واملعلمني.
لكن األولياء واملعلمني كثريا ما يلجئون إىل العقاب يف تنشئة الطفل تنشئة خلقية ،وهذا أمر غري
صائب يف –نظر كانط -فـ إذا أردان أتسيس اخللقية ،ينبغي جتنب العقاب ،فاخللقية هي أمر يف غاية القداسة
و السمو حبيث ينبغي أن ال نبخسها هبذه الصورة ،وأن ال نضعها هي واالنضباط يف نفس املرتبة.
وجلوء املعلمني واألولياء إىل العقاب عند أتسيس الطبع األخالقي يف الطفل فإنه "سيصبح إنساان ال
يرى إال كيف يشق بنجاح طريقه يف احلياة ويكون هذا الطريق حسنا أو قبيحا حسبما جيد هذا أو ذاك أكثر
2
نفعا".
ألنه إذا عاقبنا الطفل عندما يفعل الشر ،وكافأانه عندما يفعل اخلري فسوف ختلق لديه عادة سيئة،
وهي أنه يفعل اخلري إال من أجل املكافأة وال يفعل الشر إال خوفا من العقاب ،ولكنه مع الدخول يف معرتك
احلياة جيد أن األمور ال جتري على هذا النحو ،فيفعل اخلري دون أن يكافأ والشر دون أن يعاقب.
كما تقوم الرتبية األخالقية عند كانط على املفهوم الذي أقام عليه كل فلسفته األخالقية وهو "مفهوم
الواجب* " وهذه الواجبات اليت يكون الطفل ملزما أبدائها ليست سوى الواجبات املعتادة جتاه الذات
3
واآلخرين".
* الواجب :هو كل سلوك ميكن أن يصاغ يف قاعدة عامة بدون أن يكون عرضة للنقد العقل أو تسخيفه له ،وهبذه الطريقة استطا .أن يقدر قيمة
الواجبات اخلاصة من حيث أهنا أخالقية أو ال أخالقية وذلك بوعهنا بذلك امليزان الوحيد.
- 61 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
ولتكوين اخللق القومي يف الطفل ،ينبغي أن نعلمه الواجبات اليت ينبغي عليه القيام هبا ،وهذا التعليم يتم
ابلقدوة والتوجيه.
هناك نوعني من الواجبات يبحث عنهم "كانط" أثناء أتسيس الطبع اخللقي لدى الطفل وهي:
وال تقوم هذه الواجبات مثال يف احلصول عل ى لباس أنيق أو إقامة مأدبة حافلة وما شابه ذلك ،كما
ال تقوم يف السعي إلشبا .اللذات وإرضاء الشهوات وإمنا تتمثل يف "امتالك إحساس داخلي معني ابلكرامة
جيعل اإلنسان أنبل من سائر املخلوقات مجيعا ،ومن واجب اإلنسان أن ال يتخلى يف شخصه عن كرامة
اإلنسانية هذه" 1.فعلى الطفل أن يعرف هذه الواجبات اجتاه ذاته ،ويعرف أبن اإلمان أو الكذب أو التذلل
لآلخرين أمر حيط من قيمته كإنسان وعن كرامته اإلنسانية لتنزل به إىل مستوى أقل من احليوان.
فإذا كان للطفل واجب حنو نفسه ،فإن لديه واجب اجتاه اآلخرين بوصفه كائن اجتماعي ال يستطيع
أن يعيش لوحده بل عليه أن ينخرط يف اجملتمع ومع غريه من الناس.
ومنه جيب أن نبث يف الطفل واجب احرتام حقوق اآلخرين منذ وقت مبكر ،وأن نسهر على التزامه
بتحقيق ذلك ،ويعطي لنا كانط مثاال عن ذلك فمثال إذا قابل طفل طفال آخر مسكينا ،دفعه عن الطريق أو
ضربه فينبغي أال نقول له ال تفعل هذا ،ارمحه ،بل جيب معاملته بطريقة حمسوسة ،ألن سلوكه كان مضادا
حلقوق اإلنسان.
هذه هي الواجبات اليت ينبغي أن نغرسها يف روح الطفل منذ وقت مبكر واجبات اجتاه نفسه،
وواجبات اجتاه الغري.
وعليه فإن الرتبية يف تصور "كانط" ال ينبغي أن تقوم على أساس املنفعة أو املصلحة ،وإمنا ينبغي أن
تقوم فقط على أساس أداء الواجب لذاته.
- 62 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
-الرتبية الدينية:
بغية إرساء قواعد متينة للرتبية الدينية ،ينطلق "كانط" أوال من طرح السؤال " :ما هو الدين؟ وجييب:
"الدين هو القانون الذي يوجد فينا ،على اعتبار أنه يستمد سلطته علينا من مشر .وقاض .فهو أخالق مطبقة
على معرفة هللا" فكانط يعطي للدين مكانة إنسانية وظيفية قبل أن جيعلها الهوتية ،فالضمري هو القانون املاثل
فينا –حسب كانط -والضمري على وجه التحديد ما هو إال تطبيق أفعالنا على هذا القانون.
فالدين -حسب كانط -إذ ن مرتبط ابألخالق فبدون األخالق ال يكون له أثر وسيكون حبثا عن
اخلطوة فحسب فهو من غري الضمري اخللقي "ال يعدون أن يكون جمموعة من الشعائر تتسم ابلتطري" فيجب
أن تكون اخللقية هي األوىل مث تتبعها الالهوت ،فال ميكن أن نبدأ ابلالهوت ،ألن الدين الذي ال يقوم إال
على الالهوت فال ميكن أبدا أن ينطوي على جانب أخالقي.
لذا جند "كانط" ينتقد بشدة وضع الرتبية الذي كان سائدا يف عصره ،فما دامت الرتبية األخالقية
تستند إىل الدين فإن الرتبية الدينية هي األخرى جيب أن تقوم على أساس الرتبية األخالقية ألنه إذا أردان أن
نريب الطفل تربية دينية صحيحة ،فيجب أن نبدأ معه ابلقانون الذي حيمله يف ذاته ،الذي هو الضمري كما
يسميه "كانط" فـ البد من أن نبدأ عند الطفل ابلقانون الذي حيمله يف ذاته.
وعلى هذا األساس انتقد كانط طرق الرتبية الدينية اليت كانت تلقن للطفل يف عصره ،واليت تقوم على
احلفظ وكذا على الوعظ واملكافأة والتوبيخ ،خصوصا عندما تعلق األمر بتلقني األطفال األخالق واملبادئ،
يقول "كانط"" :إذا عاقبنا الطفل حني يفعل الشر ،وكافأانه حني يفعل اخلري ،عندئذ يفعل اخلري ليعامل هو
معاملة حسنة وعندما يدخل فيما بعد معرتك احلياة حيث ال جتري ،األمور البتة على هذا النحو ،وحيث يفعل
1
اخلري دون أن يكافأ والشر دون أن يعاقب ،فإنه يصبح إنساان ال يرى إال كيف يشق طريقه بنجاح".
هلذا يرى "كانط" أنه جيب احلرص على أن نعلم األطفال املبادئ لذاهتا وليس لغاايت نفعية ،فيجب
أن يدرك األطفال أن اخلري خري يف ذاته وأن الشر شر يف ذاته ،وأن احرتام هذه املبادئ واجب أخالقي مطلق
يف ذاته.
- 63 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
إن األطفال ال ميتلكون أي مفاهيم دينية ،لذلك ينبغي تلقينها هلم يف سن مبكر ،لذلك يرى "كانط"
أنه جيدر ابلطفل أوال معرفة ذاته ومعرفة الطبيعة مث معرفة الذات اإلهلية بعد كل هذا يقول "جيب أوال أن ينسب
كل شيء إىل الطبيعة ،مث أن تنسب هذه األخرية إىل هللا ،فنبني مثال يف املقام األول كيف أن كل شيء معد
من أجل احملافظة على األنوا .وتواعهنا ولكن يف نفس الوقت أيضا وعلى حنو أبعد من أجل اإلنسان حبيث
يستطيع بذاته أن يصبح سعيدا" 1.فاملنهج املالئم هذا هو حسب كانط.
تردد الرعاية اإلهلية للطبيعة إىل غاية تنسب الطبيعة ومكوانهتا يف يتعرف الطفل على ذاته
قصوى سعادة اإلنسان انسجامها إىل الرعاية اإلهلية وعلى الطبيعة
وعليه فيجب على الرتبية الدينية أن تستند إىل اخللقية أوال مث الالهوتية يف وقت الحق وبشكل
عرضي ،ألن الغاية من التدين ليست ابملفارقة خلدمة إنسانية ،وما دامت الغاية هي اإلنسان ذاته" فيجب أن
تكون اخللقية هي األوىل وأن ينبعها الالهوت ،وهذا ما نسميه دينا" 2.فالضمري –حسب كانط -هو احملكمة
اليت يستند إليها اإلنسان يف سلوكاته ال إىل قوى خارجية من خالل الثواب والعقاب.
ومنه يدعوا "كانط" يف حديثه عن الرتبية الدينية إىل حرص األبوين على أن ال يعترب البشر حبسب
ممارستهم الدينية ،ألنه رغم تنو .األداين إال أنه توجد وحدة بينها يف كل األصقا ،.لذا نعترب أن "كانط"
حبسب هذا القول من املشيدين بفكر التسامح وبتعدد األداين ،إىل درجة أنه جيعل "التسامح الديين" من
أسس الرتبية اليت جيب اختاذها بعني االعتبار يف تنشئة األطفال.
- 64 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
-الرتبية اجلنسية:
مل خيصص "كانط" جماال واسعا ملناقشة مسألة اجلنس يف الرتبية ،بل إنه اكتفى بتسطري بعض
اإلشارات ،وقد يرجع ذلك إىل خصوصية املرحلة اليت كان "كانط" يلقي فيها هذه احملاضرات حول الرتبية
واليت يصعب فيها مناقشة موضو .اجلنس داخل اجلامعة ،فنجده منذ بداية احملاضرات يلقي حملة إىل أمهية
موضو .اجلنس يف تربية املراهق فيعد أبنه سيعود إىل هذا املوضو .الحقا أو يف آخر احملاضرة ويتكلم عليه يف
هناية احملاضرة على شكل خامتة ،ولذلك داللة كبرية على مدى حساسية موضو .اجلنس يف اجملتمع األملاين يف
القرن .18
يرى "كانط" أنه من املهم أن نتوخى احلذر يف تربية الطفل خصوصا اجلنسية فـ "عندما تزداد السن
ويبدأ امليل إىل اجلنس يف االستيقاظ آنذاك أتيت الفرتة احلرجة اليت تكون فيها كرامة اإلنسان قادرة وحدها على
إلزام الشاب حبدود معينة ،ومع ذلك البد يف وقت مبكر من إعطاء توجيهات إىل الشاب حىت يستطيع أن
1
حيذر من هذا األمر أو ذاك".
يبدأ الطفل يف فرتة املراهقة ابلتمييز بني اجلنسني وكما يقوى كانط" "فإن الطبيعة ترفع له ستار السرية
على االختالف الطبيعي بني اجلنسني ،ومن مث يبدأ يف طرح التساؤالت حول طبيعة هذا االختالف كطرحه
من أين أييت األطفال" وهو ما جيب أن يتلقاه األبوين بتلقائية ،وأن جييبانه عن جممل األسئلة بوضوح ،ألن
كتمان املوضو .ال يزيد األمر إال حدة يف هذه الفرتة يقول "كانط" ،إن منو هذه النواع .آيل لدى املراهق،
وكل شيء جيري كما هو احلال يف الغرائز اليت تنمو حىت دون معرفة موضوعها ،فمن املستحيل إذن إبقاء
2
املراهق يف اجلهل وما يقرتن به من براءة ،وعندما نصمت ال نفعل سوى أننا جنعل الداء يستفحل".
ويف نفس الوقت يدعوا "كانط" املراهق من جتنب بعض املمارسات اجلنسية املضرة به كالعادة السرية
(يسميها كانط ابملتعة املوجهة إىل الذات) املناقضة لطبيعة اإلنسان ،وينبغي كذلك أن نصورها له برغم الذي
تثريه هذه املمارسة وأن نبني له أنه "الشيء يضر ذهن اإلنسان وجسمه أكثر من مشكل املتعة املوجهة إىل
- 65 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
الذات" 1.وأهنا مضرة للتناسل وللنو .وهتدد كل قواه اجلسمية ابالهنيار ،والشيخوخة .هذا فيما يتعلق ابآلاثر
اجلسمية هلذه املمارسة.
أما على املستوى اخللقي –حسب كانط -فاآلاثر السلبية هلذه العادة أسوأ بكثري إذ يتجاوع الطفل
حدود الطبيعة يف اجلنس (أي املمارسة بني ذكر وأنثى) فال يفتأ امليل يثور ألن الطفل آنذاك ( يف حالة
اإلدمان) ال جيد أي إشبا .فعلي للرغبة اجلنسية يف شكلها الطبيعي يقول "األفضل ،بل من واجب املراهق أن
ينتظر حىت يكون قادر على الزواج يتعقل عندئذ لن يتصرف كإنسان صاحل فحسب ،بل أيضا كمواطن
2
صاحل".
وعليه 'فكانط " مل يتحدث عن هذه الرتبية كثري بل كانت عبارة عن مالحظات اليت ينبغي أن حيسب
حساهبا األطفال الذين دخلوا سن املراهقة وهذا كما قلنا سابقا حلساسية املوضو .آنذاك.
-الرتبية السياسية:
تعد إشكالية العالقة بني األخالق والسياسة إشكالية طرحت عند العديد من املفكرين والفالسفة،
فمنهم من رأى وجود عالقة بني األخالق والسياسة ومنهم من قال بوجود عالقة انفصال بينهما.
لقد اعتقد "كانط" أن لألخالق عالقة ابلسياسة فنجده يضفي على موضوعات أخالقية صبغة
3
سياسية مباشرة وكسا أيضا املوضوعات السياسية هيبة أخالقية.
وابلتايل فال ميكن أن يكون انفصال بني السياسة من حيث هي ممارسة للقانون (احلق) وبني األخالق
من حيث هي نظرية القانون (احلق) ،وتبعا لذلك ال يوجد نزا .بني النظري التطبيق" 4.فال نزا .بني النظر
والعمل.
3ليوشرتاوس ،جوعيف كروبسي ،اتريخ الفلسفة السياسية ،سيد أمحد ،اجلزء الثاين ،ط ،1اجمللس األعلى للثقافة ،القاهرة ،2005 ،ص.172
4عبد الرمحان بدوي :فلسفة القانون والسياسة عند هيجل ،دار الشروق ،بريوت ،1968 ،ص.247
- 66 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
فاجلمهورية احلقيقية –حسب كانط -ال ميكن أن ترتاء إال ابلنسبة لسياسي أخالقي ،أعين شخصا
خي ضع السياسة لألخالق بصورة دقيقة وال ميكن حتقيق السالم الدائم له مهمة فنية ،وإمنا مهمة أخالقية
1
حقيقية.
إن "كانط" مينح األخالق منزلة املشاركة السياسية ،حيث يرتقي ابحلق أو القانون السياسي إىل مرتبة
الواجب األخالقي الذي ال جيوع اخرتاقه حتت ذريعة واألكثر من ذلك ال يعترب كانط األخالق متفقة مع
السياسة على صعيد األصالة العقلية فحسب ،بل إن كل املعارف (أخالقية-سياسية) تعمل فيما بينها
2
ابنسجام".
هذه بعض األمور اليت تطرقت هلا ،أللقى نظرة حول أمهية السياسة وما يرتبط هبا واآلن سأتناول
الرتبية ومدى أمهيتها يف الشأن السياسي.
يثري "كانط" مسألة عالقة الرتبية ابلشأن السياسي يف الدولة من خالل طرحه للسؤال" :هل ينبغي
التماس حالة أفضل للعامل من األمراء أهم من الرعية؟" مبعىن هل جيب توكيل ،املسألة الرتبوية للدولة
وللمؤسسات احلاكمة؟ جييب "كانط" أبنه ال ميكن التعويل على احلكام يف اإلتيان ابألفضل للبشرية ،إال إذا
كانوا هؤالء احلكام قد تلقوا نضاما من الرتبية حيرتم غاية كمال اإلنسانية ،وعليه جيب أوال أن يتلقى احلكام
منذ الصغر الرتبية على يد الرعية وليس من أمثاهلم "فليس مبقدوران أن أنمل يف أن أييت اخلري من فوق إال يف
3
صورة ما إذا كانت الرتبية هنالك هي الفضلى".
إن دور الرتبية –حسب كانط -ليس فقط تنمية مهارات وقدرات وملكات الفرد فقط ،بل الرتبية
املثلى هي اليت ترمي إىل خلق مواطن صاحل خيدم اجلميع والدولة إذ "ال ينبغي أن تكتفي الرتبية بتكوين الطبيعة
داخل الطفل ،بل ينبغي أن ترىب فيه قدرته على استعمال حريته بشكل يستجيب ملبادئ فلسفة احلق" 4.أي
تربية احلرية داخل الطفل بشكل جيعلها تنسجم مع حرية اآلخرين.
2مسري بلكفيف ،إميانويل كانط فيلسوف الكونية ،منشورات االختالف ،اجلزائر، 2011،ط ،1ص.210-209
- 67 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
فهدف الرتبية ال ينبغي أن ينحصر يف نظر كانط يف حتقيق أهداف فنية ختص جيال بعينه ،بل جيب
أن ميتد ذلك اهلدف إىل حتقيق أهداف كونية خاصة ابجلنس البشري أبسره.
وابلرغم من أن "كانط" ترك اجملال مفتوحا أمام احلكام ابلتكفل بشأن الرتبوي شريطة أن يكونوا قد
تلقوا تربية مثلى فذلك ليس أبسلوب استنكاري ،وهو ما يعين رفض كانط اجلاعم ألن تكون الرتبية يف يد
احلكام ،ابعتبارهم ال يتوجهون يف خمططاهتم الرتبوية إال إىل استئثار مصاحلهم السياسية أكثر مما يهتمون
بصالح اإلنسانية ،ويف نظره " إن التجربة تعلمنا أن األمراء من أجل بلوغ غاايهتم ،ينظرون إىل اخلري الكلي أقل
مما ينظرون إىل خري دولتهم ،فما ان يعطوا ماال هلذا الغرض حىت يستأثروا عندئذ حبق إمالء ملخطط يف الرتبية،
وكذلك الشأن ابلنسبة إىل كل ما يتعلق بثقافة الذهن البشري وانتشار املعارف اإلنسانية".
وهلذا يدعو "كانط" إىل أن تكون الرتبية من اختصاص أانس خرباء مستنريين أكثر من غريهم ،يسعون
إىل بلوغ اإلنسانية كما هلا و سعادهتا يقول "إن الطبيعة اإلنسانية ال تستطيع أن تقارب غايتها ابلتدريج إال
بفضل جهود أشخاص ذوي مشاعر رحبة يهتمون ابخلري الكلي و هلم القدرة على تصور فكرة حالة فضلى
1
آتية".
وإسناد كانط مهمة وضع خمططات الرتبية إىل فئة اخلرباء املستنريين كما قلنا ،الذين جيعلون اخلري
الكلي لإلنسانية هدفهم النهائي ،هذا املخطط جيب أن يركز على "تنمية املشاعر جتاه اآلخرين ،مث املشاعر
العاملية ،فإن يف نفوسنا شيئا جيعلنا نعري اهتماما لذواتنا ،لآلخرين الذين نشأان معهم مث ينبغي أن يتوفر
االهتمام ابخلري الكلي ،فال بد من جعل األطفال أينسون هبذا االهتمام ،ومن العمل على أن ينعشوا به
2
أنفسهم ،حىت وإن مل يكن لصاحل وطنهم أو لصاحلهم".
الرتبية الفنية:
تعد الرتبية الفنية هي األخرى ذات صلة ابإلنسان وذات أمهية كون هذه األخرية تتضمن قيم تربوية
خمتلفة ،جعلت من املربني واملعلمني يهتمون هبذه الرتبية ،وكانط واحد من هؤالء.
- 68 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
اهتم "كانط" ابلنظرية اجلمالية اهتماما كبري ،وعرف أن للفن واجلمال قيمة يف حياة اإلنسان على
غرار احليواانت ،ألنه حسب كانط الفن خاصية إنسانية ألن اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي ميتلك العقل
وإرادة حرة وهذا ما يتطلبه الفن "البد أن يصدر عن أتمل وفعل بشري يقوم على اإلرادة احللة ،ولذلك ال
ميكن أن يكون إبدا .الفن صفة من صفات احليواانت األخرى ،ألن اإلنسان هو الكائن الوحيد الناطق والذي
1
لديه من امللكات ما يؤهله لذلك.
والفن ال يكون فنا إال إذا كان انجتا عن إرادة هذه اإلرادة تضع العقل أساسا ألفعالنا ،فعلى سبيل
املثال –حسب كانط -ال ميكننا أن نصف عمل النحل عمال فنيا ألنه "ولو كنا منيل إىل نعت نتاج النحل
ابلعمل الفين ،إال أن ذلك يكون على سبيل التمثيل فقط وتشبيها هبذا األخري ،وأننا حاملا نفكر أبن النحل ال
يؤسس عمله على متعن العقل ،فسوف نقول أنه نتاج طبيعتها (الغريزة) وال ينسب كعمل فين إال إىل
2
خالقها".
فاجلمال حسب كانط –هو ذلك اجلمال املنزه عن كل غرض أو غاية ،بعيدا عن األغراض أو املصاحل
الشخصية ،وعلى الرغم من أنه من دون غاية حمددة ،إال أنه "يسهم يف تثقيف ملكات النفس من أجل
التواصل االجتماعي.
إن الفنون اجلميلة والعلوم ،مبا توفره من لذة يسهل إيصاهلا للجميع ،وبواسطة ما حتدثه يف اجملتمع من
عقل وهتذيب فإهنا وإن مل جتعل اإلنسان أفضل أخالقيا ،إال أهنا جتعله مؤداب وتكسبه الكثري على حساب
3
صغيان نزوان احلواس ،وهبذا تعده لسيادة ينبغي أال تكون فيها سلطة إال للعقل وحده.
إذا كان "كان ط" يرى أن احلكم الذوقي حكم منزه عن كل غرض فإنه يؤكد أبن للرتبية الفنية وسيلة
يف ترسيخ امليل االجتماعي يف اإلنسان ،لكن هذا ال يعين ختلي الفرد عن ذاته فإنه يقرر "ليس للجميل من
منفعة اللهم إال ابلنظر إىل اجملتمع ،وأية ذلك أنه ملا كان اإلنسان حيواان اجتماعيا فإن الذوق ...وظيفة عملية
1الصباغ رمضان :كانط والنقد اجلميل ،اإلسكندرية ،دار الوفاء للطباعة والنشر (ب.س) ،ص.59
2إميانويل كنت :نقد ملكة احلكم ،ترمجة غامن هنا ،املنظمة العربية للرتمجة ،بريوت ،ط ،2005 ،1ص.227
- 69 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
اجتماعية نظرا ألنه هو الذي يسمح لنا أبن ننقل إىل اآلخرين عواطفنا اخلاصة فنشبع بذلك ميلنا الفطري حنو
1
االتصال ابلغري.
وعليه فالرتبية الفنية يف نظر كانط "ال هتيئ الفرد ألجل تقدير فكرة اجلمال واجلالل يف ذاهتا ،بل
ألجل التواصل مع الغري عرب التجربة اليت تعيشها احلساسية البشرية جتاه ما تعترب مجيال أو جليال داخل األشياء
2
أو حياة اآلخرين".
ومنه فإن للرتبية الفنية دور يف حياة اإلنسان مثلها مثل الرتبية الدينية أو السياسية ...فبواسطتها
يستطيع الفرد أن يعرب عن عواطفه اجتاه اآلخرين وجتعله مييل إىل الغري من أجل غاية دون التخلي عن الذات.
1كامل حممد حممد عويصة :إميانويل كانط ،شيخ الفلسفة يف العصر احلديث ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط ،1993 ،1ص.104
- 70 -
الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط
خالصة الفصل:
تبني من خالل هذا العمل أن للرتبية مكاان هاما يف حياة اإلنسان لكون هذه األخرية تسعى إىل
هتذيب سلوك الطفل ابعتباره مركز العملية الرتبوية وتنميته هي هدفها.
كما أنه ال ميكن أن تقوم الرتبية وحتقق إال من خالل وسائل هذه األخرية هبا يستطيع الطفل أن
يستوعب ويسرتشد يف حياته اإلنسانية ،وجيب أن تراعى منذ البداية.
والرتبية العملية تربية هتدف إىل توجيه اإلنسان إىل حسن استعمال حريته ،سواء على املستوى الفردي
أو على املستوى اجلماعي.
فالرتبية العملية جيب أن تقوم على مبادئ أو وسائل انبعة من عقل اإلنسان بعيدا عن سيطرة اجلسم.
- 71 -
ﺧﺎﺗﻤﺔ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خاتمة
خامتة:
يف األخري ميكن القول أنين حاولت أن أحلل أفكار كانط الرتبوية اليت سعى إليها من خالل مشروعه
الرتبوي الطويل ،وبناءا على ما مت عرضه وحتليله سابقا خنلص:
-توصل كانط إىل أن الرتبية شرط ضروري وأساسي حلصول التنوير وكذا التقدم البشري.
-االهتمام الكبري الذي كان يوليه كانط ملسألة الرتبية الزمه طوال حياته ،ومل يكن نتيجة للواجب
املهين فقط فكان دوما يعترب أبن الرتبية هي أهم وأصعب مشكلة تطرح على اإلنسان ،وهذا التأكيد الكانطي
ليس من قبيل التأكيدات السطحية بقدر ما يعرب عن االهتمام البالغ لدى كانط مبسألة الرتبية ذلك أن فكرة
التنوير لدى كانط تتضمن بعدا تربواي فلم يعد اهلدف من وراء مؤسسة الرتبية هو اكتساب مهارات وامتالك
معارف من أجل االندماج يف بؤرة اجملتمع السائد فحسب وإمنا أيضا يف االنفتاح على حركة التفكري املعاصرة
(األنوار) واملسامهة يف ترسيخ الدولة العصرية من أجل تغيري الذهنيات واملمارسات وجماوزة النظم التقليدية.
-واالهتمام هذا انبع من اشتغال الرجل مدة طويلة مبسألة التعليم مما مكنه من اكتساب جتربة كبرية يف
الرتبية والتعليم وإدراك الفرق الشاسع بني النظرية واملمارسة يف ميدان الرتبية.
-ومن امللفت للنظر حقا أن كانط يقرتح يف الرتبية حلوال انجعة تدل على وعي وحس تربوي سليم
ودقيق ،وهذا التأكيد على التجربة ليس عبثا بل هو من أجل االلتفات إىل واقع الطفل األسري وكذا
االجتماعي وما يتطلبه هذا الواقع من إجناز وختطيط تربوي ،ذلك أن "كانط" يعترب أن غاية الرتبية ال تنحصر
فقط يف االهتمام ابحلالة الراهنة وتكوين الناشئة وفق متطلبات الواقع الراهن الذي يعيشه اجملتمع أو إعداد
األطفال للنجاح يف احلياة كما يريد ذلك أولياؤهم ،بل األهم عند "كانط" هو تكوين هؤالء حبسب احلالة
املمكنة اليت تكون أفضل منها يف املستقبل ،أي وفق فكرة اإلنسانية وغايتها الكاملة" ،فكانط" مل يكن أملانيا
بقدر ما كان إنسانيا ،فشغفه الكبري ابإلنسانية مل يفارقه طوال مسريته التارخيية.
-إن "كانط" من خالل هذا إمنا يسعى إىل أتسيس نظرية كونية تتضمن أبعاد قيمية إنسانية تنأى عن
التصورات اجلهوية واإلقليمية وتتجاوز كل املسافات التارخيية احملددة لتطرح إشكاليات تربوية ال تاال حتتف
براهنيتها إىل اآلن.
- 73 -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خاتمة
-أن االنضباط هو الشرط احملقق لإلنسانية ،إن عن طريق االنضباط يصري اإلنسان إنساان على
خالف احليوان ،ألن اإلنسان حيتاج إىل استعمال عقله اخلاص ليحدد لنفسه مسار سلوكه ومبا أن الطفل ال
يستطيع القيام بذلك وجب على اآلخرين أن يقوموا بذلك من أجله يف سن مبكر ،فاألطفال يرسلون إىل
املدرسة ليس من أجل أن يتعلموا شيئا ،بل من أجل التعود على االنضباط واالمتثال ملا يؤمرون به ،وهذا يقي
فيما بعد من اخلضوع للناوات واألهواء.
-أن عملية الرتبية تواجهها عوائق هذه األخرية ملا كمكننا من األصول إىل اهلدف املنشود األول هو
عائق يتعلق ابألولياء الذين حيرصون على شيء واحد وهو أن ينجح أوالدهم جناحا يف احلياة دون كمكينهم من
استعمال عقوهلم أبنفسهم واالهتمام ابلرتبية كعلم يستفيد منه كل األجيال ،أما العائق الثاين فيتعلق ابألمراء
الذين ال يرون يف رعايتهم سوى أدوات ألغراضهم ،وهدفهم ليس اخلري الكلي لإلنسانية ،لذا يدعو كانط إىل
تصور خمطط يف الرتبية يتخذ منحىن كونيا.
-إن اإلعالء من شأن الرتبية والعمل على تعميمها يؤدي حتما إىل التقدم والتنوير ،واحلط من قيمتها
والتقليص من دورها يرسخ اجلهل واالستبداد والتخلف االجتماعي.
-استطاع كانط أن يبلور رؤية نقدية ملا كانت تشهده أملانيا يف القرن 18من أشكال الرتبية السائدة
يف الوسط األسري وداخل املؤسسات التعليمية والدينية.
-إن الرتبية لدى "كانط" ليست ابآللية كما هو احلال ابلنسبة ألمناط الرتبوية السائدة يف عصره وال
ابلرغماتية اليت تسعى إىل تكوين أانس خيدمون مصاحل الدولة ،بل إهنا تربية قائمة على أساس مبدئي أخالقي
يروم صالح اجلنس البشري ،ليس فقط على املستوى القطري ،بل غايته صالح اإلنسانية كونيا ،وهو ما جعل
الرتبية حبق لدى كانط إحدى النوافذ اليت تفتحها على "مشروع السالم الدائم" وكذا مشروع األنوار.
لقد شكل هذا النموذج الرتبوي الذي قدمه كانط مصدرا خصبا استقت منه الرتبية احلديثة واملعاصرة
على اختالف مذاهبها "كجون ديوي" وبياجي ،وهذا يؤكد عمق األثر الذي تركه "كانط" يف الفكر الفلسفي
فقد كان مبثابة األرضية اليت انطلق منها الفالسفة يف أتسيس مشاريع تربوية خمتلفة.
لكن رغم أن كانط يعترب نقطة حتول جذري يف اتريخ الفلسفة عموما ،والفلسفة احلديثة خصوصا ،إال
أنه تعرض جلملة االنتقادات من طرف العديد من الفالسفة واملفكرين الدارسني لفكره.
- 74 -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خاتمة
فالرتبية الكانطية أمهلت العديد من اجلوانب يف منو الفرد اجلسمية منها واملهارية والوجدانية ،واعتربت
هذه األمور تعوق تنمية العقل وهتذيب الروح.
إن اإلنسان الذي تسعى إليه الرتبية النيتشوية ،ليس هو اإلنسان الذي سعى إليه كانط فقد رأى أبن
"اإلنسان املتوحش أو الوحش األشقر الكاسر هو مبعىن ما املثل األعلى للجنس البشري أو اإلنساين ،وأنه
بسبب اخلوف من هذا اإلنسان الوحش .مت ترويض وحتقيق النوع املعاكس أو املخالف أي –احليوان املدجن-
1
واحليوان التجمعي ،واحليوان الضعيف ،وحيوان احلقوق املتساوية أو احليوان املسيحي أو الكانطي.
كما أن الرتبية اليت دعا إليها "كانط" واعتربها أمر صعب مهم يف إحياء اإلنسانية فإن نيتشة اعرتض
على هذا النوع من الرتبية واعتربها أبهنا أداة قمع توظفها الدولة لتحقيق مصاحلها فهي "خدعة كمارسها الدولة
يف استالب األجيال الشابة إهنا أداة للتالعب والتناور تعمل على تشويه وعي اإلنسان وإلغاء ذاته وابلتايل
2
إخضاعه للسلطة".
1مفرج مجال( :ينتشة ضد كانط أو التقدم الومهي للنقد الكانطي) ،جملة أوراق فلسفية ،العدد ،2004 ،11ص.492-491
2بوبكري حممد :الرتبية واحلرية ،إفريقيا الشرق ،1997 ،ص.59
- 75 -
ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﻤﺼﺎدر
واﻟﻤﺮاﺟﻊ
ـــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قائمة المصادر والمراجع
.22كرم يوسف :اتريخ الفلسفة احلديثة ،دار املعارف ،ط( ،ب.س).2011 ،
.23ليوشرتاوس وجوزيف كروبسي :اتريخ الفلسفة السياسية ,سيد امحد اجلزء الثاين ,اجمللس االعلى للثقافة ,
القاهرة ط2005 1
.24وانت كرستوفر ،آندزجي كليمو فسكي :اقدم لك كانط ،ترمجة إمام عبد الفتاح إمام ،اجمللس األعلى
للثقافة.2002 ،
-3اجملالت:
.25مجال مفرج( :نيتشيه ضد كانط أو التقدم الومهي للنقد الكانطي) ،جملة أوراق فلسفية ،العدد ،11
.2004
.26الشنيطي :خواطر كانط يف الرتبية ،دراسات فلسفية مهداة إىل روح عثمان أمني ،أتليف مجاعي ،تصدير
ابراهيم مذكور ،دار الثقافة للطباعة والنشر ،القاهرة.1979 ،
-4املعاجم:
.27ابن منظور :لسان العرب ،مج ،دار املعارف ،القاهرة ،مادة راب.
.28أندري الالند :موسوعة الالند الفلسفية ،تعريب خليل أمحد خليل اجمللد األول ،منشورات عويدات،
بريوت ،ط ،2001 ،2مادة تربية.
.29مجيل صلبيا :املعجم الفلسفي ،ج ،1دار الكتاب اللبناين ،بريوت.1982 ،
.30عبد الرمحان بدوي :املوسوعة الفلسفية ،ج ،1املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط.1984 ،1
- 78 -
ﻓﻬﺮس اﻟﻤﺤﺘﻮﻳﺎت
فهرس المحتويات
إهداء
شكر
مقدمة
متهيد 5 .....................................................................................
27........................................... متهيد:
- 79 -
فهرس المحتويات
متهيد 40....................................................................................
العقوبة 47..............................................................................
الرتبية العملية59.........................................................................
خامتة 73..............................................................................
- 81 -