You are on page 1of 86

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬


‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬
‫قسم‪ :‬الفلسفة‬
‫الموضوع‪:‬‬

‫التربية عند كانط‬


‫مذكرة مقدمة لنيل شهادة املاسرت يف الفلسفة‬

‫إشراف األساا ‪:‬‬ ‫من إعداد الطالبة‪:‬‬


‫لصقع الربيع‬ ‫زغوان زهرة‬

‫السنــة اجلامعيــة‪2017/2016 :‬‬


‫بقدر المك تكتسب املعايل‬
‫و من طلب العىل سهر الليايل‬
‫اهدي قليب اذلي وحل ا ى يحةر ‪،‬لكن قارب النجا ينقذين دامئا اال‬
‫وهل امياين ابهلل س بحانه وتعا ى‪ ،‬اكتب اهدايئ‬
‫ا ى الشجر املباركة اليت محتين بظاللها والكزن المثني اذلي وهبين‬
‫هللا اايه س بحانه وتعا ى‬
‫عائليت ا ى من محلتين وهنا عىل وهن ومدتين ابحلنان وسهرت‬
‫الليايل من اجيل وكرست حياهتا لأكلن صلر مثالية لها‪ ،‬ا ى احن‬
‫واعز أأم قر عيين أأيم‬
‫ا ى من كرس حياته يف تربييت وتعلميي وأأدرك صباي وش بايب ‪،‬ا ى‬
‫من وصلت اليه بفضهل بعد فضل هللا عز وجل‪ ،‬ا ى رمز الكربايء‬
‫ومقة العطاء أأيب‬
‫ا ى زويج وس ندي يف هذه احليا ورفيق دريب‬
‫ا ى من ترعرعت معهم ومنى غصين بيهنم وزادت حمبيت هبم‬
‫ا ى أأخلايت واب ألخص برشى وسار وابن أأيخ الصغةر رساج‬
‫و ا ى اخليت ا ألعزاء‬
‫ا ى من أأانر يل الطريق يف سبيل وحصيل املعرفة ولل بقدر بس يط‬
‫أأساتذيت الكرام‬
‫ا ى صديقة العمر رحمية‪ ،‬سامية‪ ،‬وهيبة‪ ،‬غفران‬
‫ا ى لك من ذكرمه قليب ونسامه قلمي مجيعا اهدي بذر معيل ومثر تعيب‬

‫ا ى لك من احرتمه وعرفته وعرفين‬


‫تشكر و عرفان‬
‫امحلد هلل عىل نعمه اليت ال حتىص و ال تعد و الشكر‬
‫عىل منه و كرمه و توفيقه بأنه يرس يل‬
‫س بل هذا البحث فهل امحلد يف الوىل و الآخرة و هل امحلد‬
‫حىت يرىض و هل امحلد بعد الرىض‬
‫و اذا اكن الشكر ابلنعم واجبا‪،‬فشكر الناس‬
‫من شكر هللا‪،‬و مك يرشفين أن أتقدم خبالص الشكر‬
‫و التقدير لس تاذي الفاضل و احملرتم‪:‬‬
‫لصقع الربيع‬
‫و هل عظمي الامتنان لقبوهل ا إالرشاف عيل‪ ،‬فاكن‬
‫هذا أول الفضل و مك اكن يف توجهياته‬
‫و لكامته ما يشحذ مهمي‪ ،‬لكام خانين العزم‪،‬‬
‫مك اكن يف صربه و طيبته و سعة صدره عنواان يل‬
‫عىل اإمتام هذا البحث فهل الشكر خالصا‬
‫عىل ما قدمه يل جفزاه هللا عنا خري اجلزاء‬
‫و يف الخري ال أنىس أن أتقدم ابمسي معاين الشكر‬
‫و أمجل معاين التقدير للك من علمين حرفا‪،‬‬
‫ولك من قدم يل يد املساعدة من قريب أو بعيد‬
‫و لو حىت بلكمة طيبة‬
‫كام اليفوتين أن أتقدم جبزيل الشكر اىل من ساعدان‬
‫يف اجناز هذا العمل خصوصا صاحب مكتبة السفري‪.‬‬
‫ﻣﻘﺪﻣﺔ‬
‫ــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة‬

‫مقدمة‬

‫إن مشكلة الرتبية شغلت العديد من الفالسفة واملربني قدميا وحديثا‪،‬ومن املعروف أن عالقة‬
‫الفيلسوف ابلرتبية عموما قدمية يف الفكر البشري ‪،‬فالفالسفة منذ القدمية صرفوا جهدهم للرتبية والتعليم ابعتباره‬
‫امليدان لتطبيق أفكارهم الفلسفية سواء يف إصالح أوضاع جمتمعاهتم السياسية أو االقتصادية أو االجتماعية‪،‬أو‬
‫كما جندها عند الفيلسوف "أفالط ون" فقد كان يدعوا إىل إقامة جمتمعات فاضلة وهكذا فالتفكري الفلسفي‬
‫ابعتباره أتمال فكراي شامال يهدف إىل فهم الواقع وتفسريه مثلما يسعى إىل تغيريه هبدف االرتقاء ابلطبيعة‬
‫اإلنسانية وال يكون ذلك ممكنا إال برؤية تربوية جادا‪.‬‬

‫فاملتتبع ملراحل اتريخ الفكر الفلسفي من احلقبة اليواننية إىل الفلسفة املعاصرة مرورا ابملذاهب الفلسفية‬
‫الوسيطية إسالمية واملسيحية‪،‬وما تالها من اجتاهات فلسفية حديثة أبرزت بشكل خاص متاهي األفكار الرتبوية‬
‫مع األوضاع الفكرية والسياسية والعلمية بشكل أساسي‪ ،‬ومن خالل هذا يتضح لنا إن كل نظرة يف الرتبية هي‬
‫جزء من النظرية الفلسفية لكل فيلسوف‪.‬‬

‫ومن هنا ميكننا أن نتساءل‪ :‬أمل يسع رجال الدين من أمثال "اغسطني" و"لغزايل" اىل تربية الناس على‬
‫مكارم األخالق؟ أليست هذه النظرة تربوية من نتاج الطابع العام للفلسفة يف العصر الوسيط؟أمل تكن فلسفت‬
‫"سارتر" اليت تعكس معاانت اإلنسان من القلق ومتزق الذي خلفت احلر العاملية – دعوة لبناء شخصية واعية‬
‫حبريتها من خالل املواقف اليت حتياها وتعانيها‪،‬كذلك األمر مع الفلسفة املثالية فهي تعرب عن وضعية اإلنسان‬
‫األملاين الذي يعيش دوامة احلضارة احلديثة ‪.‬‬

‫هلذا انطلق "كانط" من الواقع األملاين وحاول تقدمي إصالح أعمق يف شىت جماالت لينهض مبستقبل‬
‫اإلنسانية عامة وأملانيا خاصة‪،‬ابعتبار إن "كانط" فيلسوف أخالقي ابلدرجة األوىل كان يبحث يف مصري‬
‫اإلنسانية ككل وأدرك كل إدراك أن ذلك ال يتأتى إال ابلرتبية كوهنا خاصية إنسانية‪ ،‬وهذا الطرح هو الذي‬
‫اسرتعى انتباهنا ومن كانت مشكلة موضوع حبثنا على النحو التايل‪:‬‬

‫كيف نظر كانط إىل الرتبية؟‬

‫أ‬
‫ــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة‬

‫وتندرج حتت هذه االشكالية التساؤوالت الفرعية التالية‪:‬‬

‫‪ -‬ماهي املصادر اليت استقى منها "ك انط" فكره؟‬

‫‪ -‬ماهي األسس اليت قامت عليها الرتبية عند "كانط"؟‬

‫‪ -‬ماهو دور الرتبية يف حياة اإلنسان عند "كانط"؟‬

‫وقسمت موضوع البحث إىل ثالثة فصول ابإلضافة إىل املقدمة فتكلمت يف الفصل األول عن‬
‫املصادر اليت أثرت يف فكر "كانط" الرتبوي‪،‬وذلك من خالل الرجوع إىل حيات الرتبوية وإعمال وقراءات‬
‫السابقة للفالسفة ومدى أتثريهم في ‪،‬والواقع الرتبوي الذي كان يعيش ‪.‬‬

‫أما الفصل الثاين الذي كان احلديث في عن املبادئ أو األسس اليت قامت عليها الرتبية الكانطية‬
‫بداية إبعطاء مفهوم للرتبية عند "كانط " بيد أننا ال نستطيع أن نعطي مفهوم عام وشامل للرتبية عنده ألن‬
‫موضوع الرتبية عند "كانط" عام جدا ‪،‬لكين حاولت قدر املستطاع أن أعطي مفهوم للرتبية عنده هذا ابلنسبة‬
‫للمبحث األول‪،‬أما املبحث الثاين الذي كان خيتص مبدى اهتمام "كانط" ابلرتبية اهتمام رجل فكر منظر‬
‫وفقط‪،‬بل كان اهتمام ممارس للرتبية‪.‬أما املبحث األخري فقد كان مبثابة نقطة االنطالق يف الرتبية الكانطية‬
‫نتيجة مل ا كانت تشهده أملانيا يف القرن الثامن عشر من أشكال وأنواع للرتبية جعلت يبلور رؤية نقدية للواقع‬
‫الذي كانت تعيش أملانيا آنذاك ‪،‬وما للرتبية من دور أساسي يف تنشأت األجيال ‪.‬‬

‫وأخريا فصل الثالث الذي كان يدور حول مدى أمهية ودور الرتبية واملكانة اليت حتتلها يف حياة‬
‫اإلنسانية‪،‬فكان املبحث األول اهلدف الذي تسعى إلي الرتبية الكانطية يف تنشئة الطفل‪ .‬أما املبحث الثاين‬
‫فكان يدور حول أهم الوسائل الذي تقوم عليهم الرتبية عند "كانط"‬

‫يف حني املبحث الثالث كان عن أنواع الرتبية عند "كانط " فهناك تربية فيزايئية أو نظرية وأخرى‬
‫عملية وكل نوع من أنواع الرتبية تندرج حتت أنواع‪.‬‬

‫ويف األخري ختمت حبثي خبامتة استنتجت فيها نظرة "كانط" للرتبية والدور الذي لعبت الرتبية يف حياة‬
‫اإلنسانية عند "كانط" ‪،‬وبعض االنتقادات‪.‬فاخرتت املنهج التحليلي وكذا املقارن لكن الغالب املنهج التحليلي‬
‫أما املقارن ف كان بني"كانط"و"روستو"وأيضا"ابزدوف" حول مدى أتثري كل منهم يف األخر‪.‬معتمدة يف حبثي‬
‫ب‬
‫ــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة‬

‫هذا على مؤلف فيلسوف "كانط" ثالثة نصوص‪،‬أتمالت يف الرتبية بقوة ابإلضافة إىل مؤلف "عبد الرمحان‬
‫بدوي" فلسفة الدين والرتبية عند"كانط"وساعدتين بعض املراجع األخرى يف فهم فلسفة "كانط" نذكر منها‬
‫كتا "كانط" وفلسفت النظرية ل "حممود زيدان فهمي زيدان"ورواد املثالية يف الفلسفة الغربية ل "عثمان أمني"‬
‫وغريها من مراجع‪.‬‬

‫وقد كان اهتمامي يف هذا البحث انبع من كون أن الرتبية موضوع عام وكرغبة مين ان اعرف‬
‫األسلو أو املنهج الذي بين علي "كانط" فلسفت الرتبوية ومدى اهتمام هذا األخري أبمهية الرتبية‪،‬وإرادة مين‬
‫جعلين القي نظرة على هذا الفيلسوف املتميز كيف انطلق ومن أين ليؤسس النظرية يف الرتبية‪.‬‬

‫أما العوائق اليت واجهتين قلة املراجع حول هذا املوضوع فهي قليال فكثري من الكتب تتكلم عن الرتبية‬
‫عند فالسفة ك"روسو "و"الغزايل"وغريها من الفالسفة اال"كانط" فالدراسات حول الرتبية عنده قليال لكن هذا‬
‫ال مينع ان اليوجد مرجع تكلم عن الرتبية الكانطية فهناك"عبد الرمحان بدوي"يف كتاب سالف الذكر الذي‬
‫ساعدين كثريا اىل درجة وجدت نفسي اعتمد علي كثريا‪.‬‬

‫لكن رغم كل هذا ال ميكنين آن ادعي إنين قد فهمت فلسفة "كانط" الرتبوية ابلشكل الالزم ذلك‬
‫راجع إىل قلة الدراسات السابقة حول هذا املوضوع‪.‬‬

‫ج‬
‫اﻟﻔﺼﻞ اﻷول‬
‫ﻣﺼﺎدر اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺘﺮﺑﻮي ﻋﻨﺪ‬
‫ﻛﺎﻧﻂ‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫متهيد‪:‬‬

‫القارئ للفكر الفلسفي األملاين يستنتج أن من أهم أعالم هذا الفكر هو الفيلسوف "إميانويل كانط"‬
‫)‪ (E.KANT‬الذي أنتج االجتاه املثايل أو النقدي‪ ...‬يف الفلسفة األملانية‪ ،‬والذي متيز بنزعته األخالقية‬
‫واإلنسانية والعقلية وما ترتب عليها من فكر تربوي كان له أثر واسع يف اجملتمعات الغربية عامة واجملتمع األملاين‬
‫خاصة‪ ،‬وال خيفى علينا أن جل الفلسفات قد تطورت ومنت نتيجة لعوامل سواء ذاتية أو موضوعية‪ ،‬وفلسفة‬
‫"كانط" واحدة من بني هذه الفلسفات وهذا ما سنتناوله‪.‬‬

‫وال خيفى علينا أن الفلسفة الكانطية الرتبوية شأهنا شأن كل فلسفة قد منت وتطورت يف ظروف معينة‬
‫وألسباب متعددة ذاتية وأخرى موضوعية وهو ما سنتناوله ابلتحليل يف هذا الفصل‪.‬‬

‫املبحث األول‪ :‬النشأة الرتبوية لكانط‪.‬‬

‫ولد "إميان ويل كانط" يف مدينة كينجسربج يف بروسيا الشرقية (واليوم روسيا) يف ‪ 22‬أبريل سنة‬
‫‪ ، 1724‬كان والده سراجا أما والدته فكانت شديدة التدين حريصة على مساع مواعظ "فرانس شولتس" مدير‬
‫معهد فريدرك‪ 1.‬وهذا بدوره سينعكس على شخصية الطفل "كانط" فيما بعد‪.‬‬

‫ويف تربية "كانط" كان الوالد حريصا على بث روح االجتهاد والشرف‪ ،‬وخصوصا جتنب الكذب‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫بينما كانت األم حريصة على بث روح التقوى الدينية‪.‬‬

‫فقد كانت أمه عضو يف مجاعة مذهبية متسكت أبهداف الدين وإقامة الشعائر الدينية متسكا شديدا‬
‫ال لني فيه وال تساهل‪ .‬وحبكم نزعة أمه الدينية تلك غاص "كانط" إىل عنقه إابن طفولته يف الدين من الصباح‬
‫إىل املساء‪ 3.‬فهذه الرتبية الدينية فقد تركت يف الطفل "كانط" عندما تقدم به السن احلنني والرغبة يف احلفاظ‬
‫على أصول هذا اإلميان الذي غرسته فيه أمه أايم طفولته‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬املوسوعة الفلسفية‪ ،‬ج‪ ،1‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬ط‪ ،1984 ،1‬ص‪.274‬‬

‫‪ 2‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬إميان ويل كانط‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪ ،1977 ،1‬ص‪.08‬‬

‫‪ 3‬وول ديورانت‪ :‬قصة الفلسفة‪ ،‬مكتبة املعارف‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1982 ،4‬ص‪.326‬‬

‫‪-5-‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫ففي ظل هذا اجلو الديين نشأ "كانط" وتشرب مببادئ هذا املذهب يف املنزل واملدرسة واجلامعة‪ ،‬مما‬
‫كان له األثر الكبري يف حياته‪.‬‬

‫جل مؤرخو حياة كانط مل يغفلوا على هذا اجلانب من الرتبية الدينية التقوية اليت تلقاها يف صغره يف‬
‫التأسيس لفلسفته‪.‬‬

‫يستمسك أنصار هذا املذهب ابلعقيدة اللوترية األساسية القائلة‪" :‬إن اإلميان يربر املؤمن وترى أن حمل‬
‫الدين اإلرادة ال العقل ‪ ،‬و تعلي من شأن القلب واحلياة الباطنية" ومن مث تقول هذه النزعة "إن اإلميان احلق‬
‫‪1‬‬
‫هو الذي تؤيده األعمال"‪.‬‬

‫مل تكتفي والدة كانط وما قدمته البنها من إرشادات وتوجيهات داخل املنزل "فنمت يف نفس كانط‬
‫نزعة أخالقية متشددة‪ ،‬مما سيظهر أثره يف سلوكه ويف مبادئ لألخالق اليت عرضها يف كتابه "نقد العقل‬
‫العملي"‪ 2.‬إىل جانب هذا عملت والدة كانط على إدخال ولدها "كانط" يف معهد تقوي من أجل أن يزيد‬
‫تشراب مببادئ التقوية‪ ،‬وهو معهد "فريدرك الذي كانت حريصة يف االستماع ملواعظ" فرانس شولتز" سنة‬
‫‪."1732‬‬

‫لكن سرعان ما خرج كانط من هذا املعهد الذي تعلم فيه اللغة الالتينية‪ ،‬فقد الحظ "كانط" أن‬
‫‪3‬‬
‫الشعائر والطقوس كانت تؤدي بطريقة آلية ال روح فيها‪ ،‬ومل تعجبه الربامج الدينية يف تلك املعهد‪.‬‬

‫وتردد "كانط" يف املشاركة يف الطقوس الدينية ملا كان رئيسا جلامعة كوجنسرج انجتا عن كرهه وعدم‬
‫تقبله للطقوس والشكليات الرمسية اليت اختصر فيها الدين‪ ،‬حىت أنه يف خطاب ألحد أصدقائه يقرر أنه "ال‬
‫الشهادة ابإلميان وال التوسل ابألمساء املقدسة وال أي مراعاة للطقوس الدينية ميكن أن يساعدك على الضفر‬
‫ابخلالص"‪ 4.‬وعليه ابإلميان احلقيقي هو القائم على عالقة مباشرة وحية بني اإلنسان وهللا وهذا ما يرفضه يف‬
‫كتابه "الدين يف حدود العقل"‪.‬‬

‫‪ 1‬يوسف كرم‪ :‬اتريخ الفلسفة احلديثة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪( ،5‬د‪.‬س) ص‪.208‬‬

‫‪ 2‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬إميان ويل كانط‪ ،‬ص‪..08‬‬

‫‪ 3‬حممود زيدان‪ :‬كنط وفلسفته النظرية‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،2004 ،‬ص‪.18‬‬

‫‪ 4‬وانت كرستوفر أندزجي كليمو فسكي‪ :‬أقدم لك كانط‪ ،‬ترمجة إمام عبد الفتاح‪ ،‬إمام‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،2002 ،‬ص‪.12‬‬

‫‪-6-‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫مما جعله هذا األمر ينفر من التعليم الديين الالهويت وميله إىل العلوم العقلية‪ ،‬واختيار دراسة الفلسفة‬
‫بدال من دراسة الالهوت‪.‬‬

‫وعليه أتثر "كانط" أتثرا ابلغا ابلرتبية الدينية التقوية‪ ،‬اليت تلقاها على يد أمه‪ ،‬عكس الرتبية اليت تلقاها‬
‫وعرفها يف معهد فريدرك‪ ،‬وقد كان هلذه الرتبية انعكاسا على فلسفته الرتبوية واألخالقية‪.‬‬

‫بعد وفاة والده اشتغل "كانط" ابلتعليم اخلاص‪ ،‬فمارس مهنة التعليم اخلاص يف سن مبكر ما بني‬
‫‪ 1755-1747‬وقد كان توجهه هلذه املهنة من أجل كسب قوت عيشه ألن كان ينتمي إىل عائلة فقرية‪.‬‬

‫ملا خترج "كانط" من اجلامعة اضطرته ظروفه املالية إىل أن يعمل معلما خاص يف بعض البيوت‪ ،‬فتوىل‬
‫‪1‬‬
‫مهنة معلم خاص لدى ثالث عائالت خمتلفة يف بروسيا‪ ،‬وظل يف هذه املهنة امان سنني‪.‬‬

‫وهذه املهنة سيحرتفها أقطاب الفلسفة األملانية "كهيجل" فيما بعد‪.‬‬

‫كانت متارس هذه املهنة من طرف "كانط" يف ضياع وقصور هؤالء النبالء‪ ،‬فقد أفاد ذلك "كانط"‬
‫‪2‬‬
‫يف توفري جو التأمل يف إطار الطبيعة الفسيحة ومالحظة ظواهرها‪.‬‬

‫واشتغال "كانط" ابلتعليم اخلاص مكنه من االختالط ابلعديد من األسرة األملانية واألوساط‬
‫االجتماعية الراقية " فنمت هذه املخالطة ابلناس فهمه للطبيعة البشرية وخرباته ابلعالقات اإلنسانية فقد كان‬
‫‪3‬‬
‫حريصا على مجع املعارف واملعلومات اليت تنمي ثقافته وتغذي عقله"‪.‬‬

‫جتربة "كانط" كمعلم خاص لدى أبناء النبالء جعلته يكتسب الكثري من األفكار واملعارف حول‬
‫موضوعات الرتبية وما الحظه من عيوب يف خالل ممارسته هلذه املهنة‪.‬‬

‫بعد امان سنني ختلى "كانط" عن التعليم اخلاص وتفرغ للدراسة اجلامعية العالية وملا أشرف "كانط"‬
‫‪4‬‬
‫على الثالثني حظر للماجسرت‪ ،‬وحصل عليها يف ‪ 12‬يونيو ‪.1755‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬إمانويل كانط‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪ ،1977 ،1‬ص‪.09‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.09‬‬

‫‪ 3‬الشنيطي‪ :‬خواطر كانط يف الرتبية‪ ،‬دراسات فلسفية مهداة إىل روح‪ ،‬أتليف مجاعي‪،‬تصدير ابراهيم مذكور‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،1979‬ص‪.10‬‬

‫‪ 4‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬إما نويل كانط‪ ،‬ص‪.09‬‬


‫‪-7-‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫وبعد حصوله على هذه الدرجة عني مدرسا يف اجلامعة‪ ،‬فألقى دروسا يف املنطق وامليتافيزيقا‬
‫والرايضيات‪ ،‬والقانون الطبيعي وعلم األخالق‪ ،‬والالهوت الطبيعي‪ ،‬وعلم اإلنسان‪ ،‬واجلغرافيا الطبيعية‪.‬‬

‫ولكن ابالستناد إىل كتب ألفها غريهم يف إلقاء حماضراهتم على الطالب بدال من أن يلقوا احملاضرات‬
‫من عندهم وهذا ما فرضته اجلامعات األملانية على األساتذة آنذاك‪.‬‬

‫ورغم جناحه اهلائل يف التدريس‪ ،‬فقد بقي مخس عشرة سنة مدرسا ‪ ،Magister‬وابلرغم من‬
‫احملاوالت العديدة ليكون أستاذا عدة مرات إال أهنا أخفقت‪ ،‬فبعد وفاة أستاذه للفلسفة‪ ،‬لكنه مل ينجح يف‬
‫‪1‬‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ويف سنة ‪ 1758‬أراد "تشولتس" بعد وفاة أستاذ املنطق والفلسفة أن يتوىل "كانط" هذا املنصب‬
‫فاستدعاه إىل غرفته وطلب منه التقدم للحصول على هذا املنصب‪ ،‬لكن الدكتور "بوك" ضفر به ومت إسناده‬
‫إىل األستاذ "بوك"‪.‬‬

‫لكن رغم هذا شغل "كانط" منصب أستاذ يف الشعر يف سنة ‪ ،1764‬لكنه رأى أن ذلك ليس من‬
‫اختصاصه‪ ،‬وقبل أن يتوىل منصب مالحظ اثين يف املكتبة امللكية يف ‪ ،1766‬وما لبث "كانط" أن استقال‬
‫‪2‬‬
‫من هذا العمل‪.‬‬

‫غري أن طموح "كانط" يف منصب األستاذية مل يتحقق إال يف سنة ‪ 1770‬أي بعدما أصبح يبلغ ستة‬
‫وأربعني سنة من العمر‪ ،‬وذلك عند شغر منصب املنطق وامليتافيزيقا‪ ،‬وذلك بعد مناقشته ألطروحته ابللغة‬
‫الالتينية حول "صورة ومبادئ العاملني احلسي واملعقول" وعليه حتقق أمل "كانط" بعد انتظار طويل‪.‬‬

‫ومنذ ذلك الوقت تدرج "كانط" يف العديد من املناصب العلمية واإلدارية حىت أصبح عميدا للجامعة‬
‫أكثر من مرة‪ ،‬وذلك نظرا لكفاءته ونزاهته وإخالصه يف العمل‪.‬‬

‫ابإلضافة إىل هذا فقد كان عمله يف اجلامعة مزدمحا‪ ،‬إذ كان يعطي "كانط" عشرة حماضرات يف‬
‫‪3‬‬
‫األسبوع‪ ،‬وكان يصل عدد حماضراته أحياان إىل امانية وعشرين حماضرة‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬إمانويل كانط‪ ،‬ص‪.09‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.10‬‬

‫‪ 3‬زيدان حممود فهمي‪ :‬كانط وفلسفته النظرية‪ ،‬ص‪.19‬‬

‫‪-8-‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫إىل جانب هذا فقد عاش كانط يف عصر مضطرب ومتدهور نتيجة لألوضاع اليت مرت هبا أملانيا يف‬
‫النظام التعليمي والرتبوي إابن القرن الثامن عشر‪ ،‬وما كان ميارسه املعلمون على التالميذ من أنواع العقوابت‬
‫ومما ال شك فيه أن األفكار الرتبوية اليت جاء هبا "كانط" ما هي إىل رد فعل ألوضاع التعليم يف أملانيا اليت من‬
‫شأهنا ستفيدان يف فهم فلسفة "كانط" الرتبوية‪.‬‬

‫وميكننا حتديد أهم مالمح التعليم يف أملانيا يف القرن الثامن عشر يف النقاط التالية‪:‬‬

‫*املعلمون‪:‬‬

‫كان املعلمون يلجئون إىل القسوة الشديدة يف العقاب‪ ،‬حىت قيل أن معلما يف إحدى املدارس‪ ،‬عاقب‬
‫تالميذه بشىت أنواع العقوابت إىل درج ة أنه قيل وضع املعلم قفص يسمى "قفص الدب" وهو قفص يدخل فيه‬
‫الولد‪ ،‬ال يستطيع فيه اجللوس وال الوقوف‪.‬‬

‫كان املعلمون يف غاية الضعف واملهانة‪ ،‬ال يعرفون كيف يعلمون‪ ،‬فنوعية املعلمني يف أملانيا آنذاك‬
‫رديئة ومؤسفة‪ ،‬نتيجة عدم امتالكهم لكفاءة مهنية خاصة يف جمال التعليم‪ ،‬فقد كان جل املعلمني من رجال‬
‫الدين‪ ،‬ومن ميلكون درجة رفيعة يف الالهوت فباستطاعتهم أن يدرسوا كل شيء يقول دلتاي‪..." :‬كل من أمت‬
‫‪1‬‬
‫دراساته الالهوتية يف اجلامعة وألقى بعض املواعظ التافهة‪ ،‬كان يعد هبذا مؤهال لوظيفة التعليم"‪.‬‬

‫وضعف مستوى املعلمني أدى بدوره إىل عدم انتظام نسبة احلضور يف املدارس‪ ،‬كما أن اجلامعات مل‬
‫تكن على أفضل حال من املدارس‪ ،‬وهذا ما جعل فريدرش الثاين الكبري ملك بروسيا حماوال إصالح أحوال‬
‫املدارس وللمعلمني حيث‪ ،‬جعل التعليم إجباراي على األطفال من سن اخلامسة حىت الثالثة عشر‪ ،‬وغريها من‬
‫‪2‬‬
‫األوامر اليت أصدرها‪ ،‬غري أن هذه األوامر مل تكن فعالة رغم أهنا كانت جيدة‪.‬‬

‫*املناهج‪:‬‬

‫إن سوء املناهج املتبعة واقتصار هذه املناهج على التلقني دون سواه‪ ،‬وعدم اتباع املعلمون يف ذلك‬
‫الوقت املناهج التعليمية السليمة املالئمة للطفل واملناسبة لقدراته ولطبيعته‪ ،‬وهذا ما سينقده "كانط" فقد كان‬
‫املعلمون ال يعرفون كيف يعلمون‪ ،‬لقد كانوا مثل الببغاوات يعلمون األطفال أشياء ال يفهموهنا وال يعرفون‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنط‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1980 ،1‬ص‪.114‬‬

‫‪ 2‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كانط‪ ،‬ص‪.112‬‬

‫‪-9-‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫كيف يسألون‪ ،‬ويتكلمون وحدهم أو ميلون طول الوقت"‪ 1.‬وهذا ما تنبه إليه "كانط" وأدرك مدى خطورته‬
‫على املتعلم وهذا ما دفعه إىل تقدمي بديل تربوي‪.‬‬

‫إىل جانب تردي نوعية املعلمني ونقص املدارس‪ ،‬وعدم انتظام نسبة احلضور يف املدارس ابإلضافة إىل‬
‫عدم صالحية املناهج‪ ،‬جند أيضا أن طبيعة التعليم يف املدارس الثانوية كانت هتدف إىل تعليم الالتينية فقط‬
‫لغاية الهوتية‪ ،‬أما اللغة األملانية‪ -‬وهي اللغة القومية‪ -‬مل تكن تدرس يف املدارس حىت النصف الثاين من القرن‬
‫‪2‬‬
‫الثامن‪.‬‬

‫أما العلوم الفيزايئية والرايضية فقد كانت أسوأ حضا‪ ،‬فمعظم الربامج الدراسية قد خلت من ذكرها‪،‬‬
‫ألهنا كانت مغيبة متاما من املناهج الدراسية‪.‬‬

‫كما أن األنظمة احلاكمة يف ذلك الوقت مل تكن هتتم ابلشأن الرتبوي وكان جل اهتمامها منصبا على‬
‫كيفية االستعداد للحروب واخلوض فيها‪.‬‬

‫وعموما فإن حياة كانط مليئة ابألحداث واملواقف‪ ،‬فتأثره أبمه يف أايم طفولته تركت فيه نزعة دينية‬
‫وأخالقية‪ ،‬إىل جانب تدريسه يف التعليم اخلاص والتعليم اجلامعي أيضا هذا األخري ترك فيه فضائل كثرية كحبه‬
‫للعمل واه تمامه برتبية الطفل‪ ،‬كل هذا انتج عن األوضاع اليت مر فيها يف عصره فوقف "كانط" على هذه‬
‫األوضاع واملساؤئ اليت مر هبا التعليم آنذاك يف أملانيا وانتقدها مع إعطاء البديل وهذا ما سنراه إذن فحياة‬
‫"كانط" جد مهمة فهي مبثابة األرضية الصلبة اليت من خالهلا نفهم ملاذا كانط اهتم ابلتعليم والطفل والرتبية‬
‫وغريها‪.‬‬

‫‪ 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.114‬‬

‫‪ 2‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كانط‪ ،‬ص‪.113‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫املبحث الثاين‪ :‬نظرية املعرفة عند كانط‪.‬‬

‫تعترب نظرية املعرفة من العلوم احلديثة‪ ،‬اليت انلت اهتمام العديد من املفكرين والفالسفة‪ ،‬حيث اهتمت‬
‫نظرية املعرفة بقضية أساسية تتعلق مبصدر املعرفة‪ ،‬مما أدى إىل ظهور اجتاهني متعارضني‪ ،‬متثل االجتاه األول يف‬
‫أن العقل هو املصدر الوحيد للمعرفة (االجتاه العقالين) أما االجتاه الثاين فتمثل يف التجريبيني الذين يعتقدون أن‬
‫احلواس هو مصدر املعرفة‪ ،‬هذا الصراع الفلسفي بني العقالنيني والتجريبيني أدى إىل ظهور تيار نقدي فلسفي‬
‫بزعامة "إما نويل كانط"‪.‬‬

‫كانط والفلسفة النقدية‪:‬‬

‫لقد وصفت الفلسفة النقدية ابلعديد من األوصاف‪ ،‬فمنهم من وصفها الفلسفة الرتسندنتالية‪ ،‬ومنهم‬
‫من وصفها ابلفلسفة املثالية‪ ،‬وآخرون وصفوها ابلفلسفة العقالنية‪...‬إخل‪ ،‬غري أن أشهر ما وصفت به هذه‬
‫الفلسفة هو النقدية‪.‬‬

‫مسيت فلسفة "كانط" ابلفلسفة النقدية‪ ،‬والنقد عند "كانط" ليس ذلك النقد املوجه إىل الكتب‬
‫واملناهج‪ ،‬وإمنا مسيت اب لنقدية ألهنا هتتم بوضع احلدود اليت جيب على العقل أن ال يتعداها يف عملية املعرفة‪،‬‬
‫وقد كانت الغاية من وضع كتابه "نقد العقل اخلالص" هي وضع هذه احلدود‪.‬‬

‫إن السبب يف وضع هذه احلدود هي املغالطات والتناقضات اليت وقع فيها العقل اإلنساين على مر‬
‫العصور‪.‬‬

‫من املعروف أن كانط صاحب مشروع نقدي يرتكز على ثالث أسئلة‪:‬‬

‫‪-1‬ماذا ميكنين أن أعرف؟‬

‫‪-2‬ماذا جيب علي أن أعمل؟‬

‫‪-3‬ماذا ميكنين أن آمل؟‬

‫السؤال األول يتعلق ابملشكلة املعرفة‪ ،‬بينما يتعلق السؤال الثاين ابملشكلة اخللقية‪ ،‬يف حني يتعلق‬
‫السؤال الثالث ابملشكلة الدينية‪ ،‬والسؤال األو هو موضوع نظرية املعرفة وهذا ما سنتناوله‪.‬‬

‫الفلسفة النقدية فلسفة توفيقية حبيث‪" :‬ال تريد أن تكون حسية وال ذهنية ابملعىن الضيق هلذين‬
‫اللفظني‪ ،‬وإمنا تريد يف االمتحان الذي جتريه للعقل أن تكون ترتستدنتالية‪ ،‬أي حاكمة انقدة عادلة جماوزة‬
‫‪- 11 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫جلميع املذاهب التقليدية‪ ،‬واقفة موقف أعلى تستطيع أن تنظر منه لتقدير الصواب واخلطأ يف كل واحدة من‬
‫تلك املذاهب"‪ 1.‬وهذا ما سنالحظه من خالل التطور الروحي لكانط‪.‬‬

‫هدف الفلسفة النقدية هو فك اخلصومة التقليدية بني التيارين التجرييب والعقلي واجلمع بينهما على‬
‫حنو توفيقي‪ ،‬فالنقدية "تفسر كل معرفة صحيحة أبهنا امرة العاملني الزمني لبنائها وال يقل الواحد منهما خطرا‬
‫عن اآلخر‪ ،‬عامل أوال يف متقدم على التجربة‪ ...‬وهذا العامل هو من طبيعة الذات العارفة‪ ،‬وعامل مادي‬
‫قوامه أحاسيس اإلدراك احلسي" وإذا افتقران إىل واحد من العاملني مل يكن لدينا معرفة صحيحة‪.‬‬

‫التطور الروحي "لكانط" قد مر مبرحلتني هامة يف حياته‪:‬‬

‫املرحلة قبل النقدية‪:‬‬

‫وأول أثر "لكانط" يف املرحلة قبل النقدية يف نظرية املعرفة هو كتابه "إيضاح جديد للمبادئ األوىل‬
‫للمعرفة امليتافيزيقية" سنة ‪ 1755‬وفيه تتجلى انتماؤه الواضح إىل مدرسة "ليبنتز" و"فولف"‪ .‬ويؤكد عبد‬
‫الرمحان بدوي أن االجتاه العام للكتاب هو النزعة العقلية سواء يف املنهج أو يف الغاية‪ ،‬واهلدف الذي يرمي إليه‬
‫‪2‬‬
‫هو تقرير مذهب أو نسق من احلقائق العقلية الضرورية‪.‬‬

‫أما املرحلة الثانية فهي املرحلة التجريبية أو النزعة التجريبية وهي تتحدد من خالل مؤلفاته خالل‬
‫عامي (‪ ) 1763-1762‬وهي على التوايل (بيان ما يف أشكال القياس األربعة من حتذلق زائف)‪( ،‬حبث يف‬
‫مبادئ الالهوت الطبيعي واألخالق) وحملاولة إدخال تصور املقادير السالبة يف احلكمة العاملية)‪( ،‬الربهان‬
‫املمكن الوحيد إلثبات وجود هللا)‪.‬‬

‫لقد سعى "كانط" يف هذه املؤلفات األربعة إىل األخذ ابلتجربتني‪ ،‬واكتملت جتربته بعد سنيت‬
‫(‪ ،) 1762-1763‬فأصبح "كانط" يرى أن كل معرفة تبدأ مع التجربة‪ ،‬وقدرتنا املعرفية لن تستيقظ إىل‬
‫العمل ما مل يتم ذلك من خالل موضوعات صدم حواسنا يقول "ال تتقدم أي معرفة عندان زمنيا على التجربة‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫جل معها تبدأ مجيعا"‪.‬‬

‫‪ 1‬عثمان أمني‪ :‬رواد املثالية يف الفلسفة الغربية‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪( ،‬د‪.‬ط)‪ ،1989 ،‬ص‪.62‬‬

‫‪ 2‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬إمانويل كانط‪ ،‬ص‪.129‬‬

‫‪ 3‬أميا نويل كانط‪ :‬نقد العقل احملض‪ ،‬ترمجة موسى وهبة‪( ،‬د‪.‬ط)‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص ‪.45‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫جعل ت املرحلة التجريبية من كانط يعتقد أن التجربة تنهي املصدر األول ملختلف التصورات واملعارف‬
‫فـ "ليس امة شك أبدا يف أن كل معرفتنا تبدأ مع التجربة؛ ألن قدرة املعرفة لن تقوم بواجبها ما مل حيدث ذلك‬
‫من خالل املوضوعات اليت تلمس حواسنا فتحدث التصورات من جهة‪ ،‬ومن جهة تدفع عمل الفهم إىل‬
‫مقارنة هذه التصورات وربطها وفصلها؛ وبذلك تتحول املادة اخلام لالنطباعات احلسية إىل معرفة للموضوعات‬
‫تسمى التجربة"‪ 1.‬فاالنطباع احلسي هو الشرط الوحيد لقيام أي معرفة‪ ،‬وما مل تتوفر لن تتسىن لنا أي معرفة‬

‫لكن التحول احلاسم يف تطور فكر "كانط" قد حدث فيما يبدو‪ ،‬يف سنة ‪ ،1769‬ويبدوا أن ذلك‬
‫كان بتأثري هيوم‪ ،‬ذلك أن هيوم نبه "كانط" إىل مشكلة الكلية والضرورة يف األحكام‪.‬‬

‫لكن يف احلقيقة أن هذه النزعة مل تبقى مسيطرة على كانط‪ ،‬بل أعقبتها مرحلة هامة من مراحل فكره‪.‬‬
‫واليت تعترب منعرجا حامسا يف الفكر الكنطي واليت مجع من خالهلا بني التجريبية والعقلية‪.‬‬

‫ميز "كانط" يف هذه املرحلة بني العامل احملسوس والعامل املعقول‪ ،‬ويقر بوجود كليهما‪ .‬والعامل احملسوس‬
‫له شكله ومبادئه وهو يتضمن وجود عامل معقول‪ ،‬هو عامل النومينات أو األشياء يف ذاهتا‪ ،‬واملبادئ الصورية‬
‫‪2‬‬
‫لعامل الظواهر اثنان‪ :‬الزمان واملكان‪.‬‬

‫املرحلة النقدية‪:‬‬

‫ذلك هو تطور فكر "كنت" قبل أن يقوم بنقد العقل‪ ،‬وقد رأى يف سنة ‪ 1770‬أنه البد من‬
‫الفحص عن العقل احملض‪ ،‬وذلك لبيان طبيعة املعرفة النظرية واملعرفة العملية من حيث هي عقلية فقط‪ ،‬فأكد‬
‫‪3‬‬
‫على هذا الفحص‪ ،‬ومل يفرغ منه إىل يف سنة ‪ 1781‬أي حني أصدر كتابه "نقد العقل احملض"‪.‬‬

‫من املعروف أن نظرية املعرفة عند "كانط" ارتبطت بكتابه‪" ،‬نقد العقل اجملرد"‪ ،‬وانطالقا من مؤلفه‬
‫هذا أرجع كانط للعقل مكانته األساسية يف بناء التصورات‪ ،‬واكتساب املعارف دون إمهال دور التجربة كمرحلة‬
‫أوىل يف تبنيه العقل حيث يقول "كانط" "تتولد معرفتنا من مصدرين أساسيني يف الذهن؛ األول هو استقبال‬
‫التصورات لقدرة تلقي االنطباعات‪ ،‬والثاين هو القدرة على معرفة موضوع هبذه التصورات (تلقائية األفاهيم)؛‬

‫‪ 1‬مجال حممد أمحد سليمان‪ :‬أنطولوجيا الوجود‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪( ،‬د‪.‬ط)‪ ،2009 ،‬ص‪.139‬‬

‫‪ 2‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬إميانويل كانط‪ ،‬ص‪.154‬‬

‫‪ 3‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬املوسوعة الفلسفية‪ ،‬ص‪.272‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫ابألول يعطي لنا املوضوع‪ ،‬وابلثاين يفكر بعالقة مع ذلك التصور بوصفه جمرد تعني للذهن"‪ 1.‬يعين هذا أن‬
‫احلدس واألفاهيم يشكال عنصري كل معرفة لدينا‪ ،‬فاألفاهيم بدون حدوس ال ميكن أن يعطي لنا معرفة‪ ،‬وال‬
‫احلدوس دون األفاهيم كذلك ال ميكن أن تعطي لنا معرفة‪.‬‬

‫جتاوز "كانط" نظرة كل من العقالنيني والتجريبيني‪ ،‬وذلك بدمج عناصر العقلية بعناصر التجربة ألهنم‬
‫كا نوا ينظرون إىل العقل من جانب واحد‪ ،‬والعقل عند "كانط" ملكه يف املعرفة يتألف من صور ومبادئ قبلية‬
‫سابقة على التجربة‪ ،‬يقوم بتنظيم معطيات التجربة ويقوم بتحويلها إىل معرفة يقينية‪ ،‬وهذا ما جاء على لسانه‬
‫"أبن العقل منظومة من املبادئ القبلية"‬

‫يرى كانط أن هناك مصدري ن للمعرفة ومها احلساسية والفهم أو املفامهة قائال‪" :‬القدرة على تلقي‬
‫التصورات ابلطريقة اليت هبا نتأثر ابملوضوعات الوافدة‪ ،‬تسمى احلساسية‪ ،‬فبواسطة احلساسية إمنا تعطى لنا‬
‫املوضوعات‪ ،‬وهي وحدها تزودان ابحلدوس‪ ،‬لكن الفامهة هي اليت تفكر هذه املوضوعات ومنها تتولد‬
‫األفاهيم"‪ 2،‬إذن هناك مصرين للمعرفة البشرية مها احلساسية والفامهة‪ ،‬فاحلساسية متدان ابملوضوعات يف حني‬
‫يعمل الفهم على تعقل تلك املوضوعات‪.‬‬

‫مييز "كانط" عند حديثه عن احلساسية بني صورة احلدوس احلسية ومادهتا؛ فاملادة هي موضوع‬
‫اإلدراك احلسي‪ ،‬يف حني أن الصورة هي املبدأ الباطن يف الذات العارفة‪ ،‬والذي ميكنها من تنظيم مضمون‬
‫الظاهرة‪ ،‬فاملادة تصدر عن املوضوع املتغري احلادث‪ ،‬يف حني تصدر املصورة عن الذات اليت متنح للمادة صفة‬
‫الكلية والضرورية يقول أن "ما يتناسب مع اإلحساس يف الظاهرة أمسيه مادهتا‪ ،‬أما ما ميكن متنوع الظاهرة من‬
‫أن ينسق مبوجب عالقات معينة‪ ،‬فأمسيه صورة الظاهرة‪ .‬وحي أن ما ميكن كل اإلحساسات من أن تنسق‬
‫وتتخذ صورة معينة‪ ،‬ال ميكن أن يكون هو اآلخر إحساسا وحيت أنه ال تعطي لنا مادة أي ظاهرة إال بعداي‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫فإنه جيب أن تكون صورهتا قائمة قبليا يف الذهن‪ ،‬ومهيأة هلا مجيعا"‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬نقد العقل احملض‪ ،‬ص‪.75‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.59‬‬

‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.59‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫فما يتماشى مع اإلحساس هو املادة‪ ،‬أما تلك العالقات والتنسيق املوجود قبليا يف الذهن هو صورة‬
‫املعرفة‪ ،‬هذه األخرية تكون مهيأة يف الذهن حبسب اإلحساسات اخلارجية والظواهر اخلارجية‪.‬‬

‫تتكون احلساسية من صورتني أوليتني مها املكان والزمان‪ ،‬فال ميكن إدراك معطيات االنطباع احلسي‬
‫إال من خالل املكان والزمان اللذين اعتربمها "كانط" صورتني قبليتني للحساسية قائال‪" :‬أن امة صورتني‬
‫حمضتني للحدس احلسي‪ ،‬بوصفهما مبادئ للمعرفة القبلية‪ ،‬ومها الزمان واملكان"‪ 1.‬وال ميكن إدراك األشياء إال‬
‫وهي متحيزة يف املكان ومتعاقبة يف الزمان‪ ،‬فاملكان هو صورة احلس اخلارجي يف حني أن الزمان هو صورة‬
‫احلس الباطين أو الداخلي‪.‬‬

‫إذن هناك مصدرين للمعرفة هي احلساسية والفهم أو املفامهة‪ ،‬فاحلساسية هي اليت متدان مبادة املعرفة‬
‫نظرا الرتباطها املباشر ابلعامل اخلارجي‪ ،‬يف حني يقدم لنا الفهم بصورة املعرفة وجيعل موضوعات احلساسية قابلة‬
‫للتعقل‪.‬‬

‫ويضيف "كانط" املقوالت إىل الزمان واملكان‪ ،‬فهو يرى أهنما مفهومان خاصان قبليان ينتميان إىل‬
‫احلدس اخلالص للعامل اخلارجي والداخلي على التوايل‪ ،‬وابلتايل فبدون مفاهيم قبلية املكان والزمان تستحيل‬
‫‪2‬‬
‫التجربة ومنه يكون الزمان واملكان مشاهبني للمقوالت‪.‬‬

‫وهكذا فإن التجربة تتشكل بتصورات قبلية‪ ،‬لكن ما يدفع إىل قيام التجربة هي مصادرة تستمد منها‬
‫التجربة يسميها "كانط" "ابألشياء يف ذاهتا"‪ ،‬يف مقابل املظاهر أو الظواهر‪ ،‬لكن يستحيل تبعا لنظرية "كانط"‬
‫أن تكون لدينا جتربة ابلشيء يف ذاته‪ ،‬ما دامت كل جتربة حتدث عن طريق تضافر املكان والزمان واملقوالت‬
‫(مع أي عنصر خارجي)‪.‬‬

‫وعليه فاخلوض يف نظرية املعرفة عند "كانط" أمر معقد وجد صعب وال داعيا للخوض فيها ألن الذي‬
‫يهمنا هو معرفة املصادر الذي جعلها "كانط" أساس كل معرفة ومنهما نستطيع أن نفهم ملاذا "كانط" جعل‬
‫احلساسية والفهم من األمور الرتبية العقلية اليت جيب أن ننمي الطفل عليهم‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬نقد العقل احملض‪ ،‬ص‪.60‬‬

‫‪ 2‬برتراندرسل‪ :‬حكمة الغرب‪ ،‬ترمجة فؤاد زكرايء‪ ،‬ج‪ ،2‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،1983 ،‬ص‪.122‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫فاملعرفة هي نتاج تضافر وتكامل بني كل من احلساسية والفهم وهذا ما قاله كانط أنه "من دون‬
‫احلساسية لن يعطى لنا أي موضوع ومن دون الفامهة لن يفكر شيء‪ ،‬واألفكار من دون مضمون فارغة‪،‬‬
‫واحلدوس من دون أفاهيم عمياء"‪ 1.‬فمن الضروري أن جتعل األفاهيم حسية‪ ،‬مبثل ما هو ضروري أن جتعل‬
‫احلدوس مفهومة‪ ،‬وال ميكن هلاتني القدرتني أن تتبادل الوظائف‪ .‬فال يسع الفامهة أن حتدس شيئا وال احلواس‬
‫أن تفكر شيئا‪ ،‬فباحتادمها فقط ميكن أن تتولد معرفة‪.‬‬

‫غري أن مصادر املعرفة يف نظر كانط ال تتوقف على هاتني امللكتني بل اكتشف ملكة أخرى واليت‬
‫مساها ملكة العقل‪.‬‬

‫"هذه امللكة اإلنسانية هي املنبع األكرب للوهم إذ العقل هنا يسعى دائما إىل جماوزة جمال الفهم‪ ،‬حماوال‬
‫أن جيد للموضوعات أساسا غري مشروط"‪ 2.‬يتجاوز العقل ملكة الفهم لينتج لنا غري الذي ينتجه الفهم من‬
‫تصورات ومقوالت‪ ،‬فمهمة العقل وضع احلدود والشروط اليت ال ميكن للفهم أن يتعداها‪.‬‬

‫فالعقل عند كانط ليس جمرد مستقبل لإلحساسات‪ ،‬وإمنا هو العقل الذي يفرض قوانينه على األشياء‪،‬‬
‫فالعقل اإلنساين له قدرة حمدودة على اإلدراك فهو ال يستطيع إدراك عامل احلقائق أو األشياء يف ذاهتا ابلرغم من‬
‫وجوده‪.‬‬

‫وهكذا يكون كانط قد أعطى األولوية ال للمدرك احلسي أو اإلحساس أو احلدس احلسي‪ ،‬بل جعل‬
‫هذا كله غري ممكن إال داخل املبدأ أو املفهوم أو الشرط العقلي األويل؛ وعلى هذا فهو يسحب البساط من‬
‫حتت قدمي االنطباع احلسي ليعطي األولوية مللكة العقل على الواقع‪ 3.‬وهذه امللكة –العقل‪ -‬هو اجلانب املهم‬
‫يف تنميته لدى الطفل‪ ،‬وبدوره سيعكس الضوء على فلسفته "كانط" الرتبوية‪.‬‬

‫وعليه فالعقل هو املركز الذي تدور حوله األشياء لتتم لنا معرفتها من مقوالته وقوانينه وشروطه األولية‪،‬‬
‫ولكي تكون األشياء أو املوضوعات معرفة البد هلا من أن تتطابق مع مبادئ العقل ومقوالته األولية‪ ،‬وليس‬
‫كما ذهب الفالسفة قبل كانط من أن املعرفة اليقينية تكمن يف تطابق تصوراتنا العقلية مع املوضوعات ومن‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬نقد العقل احملض‪ ،‬ص‪.75‬‬

‫‪ 2‬عثمان أمني‪ :‬رواد املثالية يف الفلسفة الغربية‪ ،‬ص‪.97‬‬

‫‪ 3‬مجال حممد أمحد سليمان‪ :‬أنطولوجيا الوجود‪ ،‬ص‪.144‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫يتضح "أن املعرفة تصدر عن العقل أو الطبع اإلنساين ال عن االنطباعات احلسية اليت ال تعدوا كوهنا مهمازا‬
‫‪1‬‬
‫حيرك قدرة املعرفة فينا"‪.‬‬

‫وعموما فإن نظرية املعرفة عند "كانط" ترى أن العقل هو املصدر الرئيسي النبثاق األفكار ونشوئها‪،‬‬
‫وأن قدرتنا العقلية حمدودة فليس لنا أن نعرف كل شيء وإمنا نعرف فقط ما يتفق ويتطابق مع تصوراهتا‪،‬‬
‫فمجال املعرفة مقتصر على عامل الظواهر فقط‪ ،‬وذلك من خالل اعتماده على ملكة احلساسية اليت تزودان‬
‫ابحلدوس واالنطباعات احلسية املتنوعة‪ ،‬وأيضا ملكة الفهم اليت متكنه من تعقل تلك احلدوس‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬املؤثرات الفكرية للرتبية عند كانط‬

‫*روسو‬

‫*ابزدوف‪.‬‬

‫العديد من األفكار والتجارب الرتبوية اليت عاصرها "كانط" ووقف على ما فيها من مساوئ وحماسن‬
‫ساعدته يف بناء منوذجه الرتبوي اخلاص به‪.‬‬

‫صحيح أن كانط أتثر بفلسفة "ليبنتز" و"نيوتن" ألن "كانط" عندما دخل إىل جامعة كوجنسربج‬
‫حيث كان آنذاك االجتاه السائد يف تلك اجلامعة وغريها من اجلامعات األملانية هو تدريس فلسفة ليبنرت‬
‫وطبيعيات نيوتن‪.‬‬

‫كما اعرتف "كانط" أتثره "هبيوم" (‪ )D.HUME‬الذي أيقظه من سباته الدوغماشي يف العلم‬
‫واملعرفة‪ ،‬ابإلضافة إىل "فولف" وغريه من الفالسفة‪.‬‬

‫لكن حديثنا سيكون ابلدرجة األوىل عن الفالسفة الذين أتثرهم "كانط" يف جمال الرتبية‪ ،‬ومن بينهم‬
‫"روسو" و"ابفردوف"‪ .‬وأتثر "كانط" هبؤالء الفالسفة ال يعين أنه وقف عند هناية النقطة اليت توصل إليها‬
‫الفالسفة بل أخذ بعض األفكار وجددها وأعطى هلا اجتاه آخر‪.‬‬

‫‪ 1‬مجال حممد أمحد سليمان‪ :‬أنطولوجيا الوجود‪ ،‬ص‪.145‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫‪-1‬أتثر كانط بروسو‪.‬‬

‫يعد "روسو" مصدرا هاما من مصادر فلسفة كانط‪ ،‬فكل الدراسات والفلسفات اليت تناولت اتريخ‬
‫الفلسفة احلديثة إال وحتدثت عن العالقة الفلسفية العميقة بني "روسو" و"كانط"‪.‬‬

‫حىت قيل أن إطالع "كانط" على كتاب "إميل" غري يف الكثري حىت يف حياته اليومية إىل درجة أنه‬
‫ألغى خروجه لنزهته املعتادة حتت أشجار الزيزفون وذلك من أجل قراءة هذا الكتاب الذي وجد فيه "رجال‬
‫‪1‬‬
‫آخر يشق طريقه للخروج من ظالم لإلحتاد‪ ،‬رجال أكد بشجاعة أسبقية الشعور على العقل النظري"‪.‬‬

‫شغف كانط أبفكار "روستو الداعية إىل حياة الطبيعة وللفطرة اخلالصة جعلت منه يتعلم إبحياء احرتام‬
‫الطبيعة اإلنسانية حىت أنه قال "إنه علمين أن حال الطبيعة أمسى من حال املدينة"‪ 2.‬بعدما كان "كانط"‬
‫يعتمد أن العلم أكرب عنوان للمجد‪ ،‬والغاية القصوى لإلنسانية‪ ،‬حىت احتقر "كانط" الشعب اجلاهل‪ ،‬ومن مث‬
‫جاء "روسو" فرفع الغشاوة عن بصريته‪.‬‬

‫كما علمه أيضا "أن الرتبية جيب أن ت كون سلبية يف األكثر‪ ،‬فتقتصر على ضمان حرية امليول‬
‫الطبيعية‪ ،‬وتنبذ إكراه العرف املصطنع"‪ 3.‬فتقتصر على معاونة الطفل يف تربية نفسه بنفسه‪ ،‬وتتجنب كل ما‬
‫يضيق عليه ويقيده‪.‬‬

‫كما أخذ "كانط" عنه "شعوره العميق بيقني الضمري الذي نستشعره يف وجداننا استشعارا مباشرا‬
‫ليس إىل االرتياب فيه سبيل"‪ 4.‬فالعقل هو أساس كل شيء يف اإلنسان‪.‬‬

‫وأتثر "كانط" "بروسو" يف العديد من اجلوانب الفلسفية حىت أنه حوله من املسائل املعرفية إىل املسائل‬
‫األخالقية والرتبوية وهذا واضح من خالل األفكار الرتبوية اليت طرحها "كانط" أتثرا مبا جاء به "روسو" يف‬
‫كتابه "إميل"‪.‬‬

‫‪ 1‬وول ديورانت‪ :‬قصة الفلسفة‪ ،‬ترمجة فتح هللا حممد الشعشع‪ ،‬مكتبة املعارف‪ ،‬بريوت‪( ،‬د‪.‬س)‪ ،‬ص‪.325‬‬

‫‪ 2‬يوسف كرم‪ :‬اتريخ الفلسفة احلديثة‪ ،‬ص‪.211‬‬

‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.211‬‬

‫‪ 4‬عثمان أمني‪ :‬رواد املثالية يف الفلسفة الغربية‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1989 ،‬ص‪.66‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫لقد كتب "روسو" أفكاره الرتبوية يف كتابه الشهري "إميل" إذ يعترب هذا الكتاب فريد من نوعه حيث‬
‫عرض فيه أبسلوب شيق وممتع الرتبية املناسبة اليت يراها "إميل" وإميل هو الطفل الذي اقرتحه أن تكون تربيته‬
‫موضوعا لفلسفته الرتبوية‪.‬‬

‫قسم "روسو" الرتبية اليت ينشدها إلميل إىل مراحل شرح يف كل مرحلة الرتبية املناسبة لنمو "إميل"‪.‬‬

‫املرحلة األوىل‪:‬‬

‫من امليالد إىل سن اخلامسة‪ ،‬ويف هذه املرحلة يتم الرتكيز فيها على الرتبية اجلسيمة والنفسية للطفل‪.‬‬

‫املرحلة الثانية‪:‬‬

‫الرتبية من سن اخلامسة إىل سن الثانية عشرة‪ ،‬وتقوم الرتبية يف هذه املرحلة على دعامتني‪ ،‬األوىل هي‬
‫الرتبية السلبية‪ ،‬أما الثانية فهي أن الرتبية امللقية جيب أن تتم عن طريق اجلزاء الطبيعي‪ .‬ويف هذه املرحلة ينتقد‬
‫الطرق التقليدية اليت كانت تتبع يف تربية الطفل من وعظ وإرشاد نظري‪.‬‬

‫املرحلة الثالثة‪:‬‬

‫الرتبية من سن الثانية عشرة إىل اخلامسة عشرة‪ ،‬فيهتم "روسو" هبذه املرحلة اهتماما شديدا‪ ،‬ففيها‬
‫يزود الطفل ابملعلومات واملعارف‪.‬‬

‫املرحلة الرابعة‪:‬‬

‫ومتتد هذه املرحلة من سن اخلامسة عشرة إىل العشرين‪ ،‬ففي هذه املرحلة يعد "إميل" للحياة مع‬
‫اآلخرين‪ ،‬فعلينا أن ندرس على العالقات االجتماعية‪ ،‬فتصبح حمبة اآلخرين هي الدافع املوجه لسلوكه‪ ،‬ويكون‬
‫هدف الرتبية يف هذه املرحلة هو تنمية الوجدان وتقومي األخالق‪.‬‬

‫املرحلة اخلامسة‪:‬‬

‫لقد خصص "روسو" يف هذه املرحلة لرتبية املرأة اليت أطلق عليها اسم "صويف" ويرى "روسو" أن‬
‫تكون تربيتها جسمية ابإلضافة إىل تعلم الطهي والتطريز واملوسيقى والعناية ابلطفل‪" ،‬فوظيفة املرأة هي إسعاد‬
‫الرجل" وإرضائه والقيام برتبية األطفال‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫وهكذا اعترب روسو املؤسس احلقيقي لالجتاه الطبيعي‪ ،‬حيث أعطى للطبيعة دورا يف تربية الطفل‪ ،‬ومن‬
‫خالل كتابه "إميل" عرض لنا "روسو" لوان من الرتبية القائم على معرفة حقيقة اإلنسان "فالرجل الطبيعي ليس‬
‫ابإلنسان اهلمجي‪ ،‬ولكنه إنسان تسريه وحتكمه قوانني طبيعية"‪ 1.‬ففي نظر "روسو" احلقوق الوحيدة لإلنسان‬
‫هي تلك احلقوق املستمدة من الطبيعة‪.‬‬

‫فكل من "كانط" و "روسو" يتفقان يف الكثري من األفكار الرتبوية خصوصا ما تعلق ابلرتبية اجلسمية‬
‫للطفل‪ ،‬فكالمها يؤكدان على ضرورة أن تبدأ تربية الطفل منذ حلظة الوالدة أو امليالد‪.‬‬

‫كما يتفقان أيضا حول رفض فكرة "القماط" وذلك ملا فيه من ضرر على الطفل سواء على اجلانب‬
‫النفسي أو اجلسمي‪ ،‬فإذا كان "روسو" يرى أن لف الطفل "ابلقماط" حيدث "التضييق على أطراف الطفل‬
‫يعوق دورة الدم ويعوق النمو ويغري من تكوينه وبنيته" فالطفل حني يولد فهو حباجة إىل مد أطرافه وحتريكها‪،‬‬
‫كي يطرح عنه ما ركبه من االنقباض والتجمع الطويل يف أحشاء أمه‪ ،‬إذن فكيف حنول بينه وبني احلركة داخل‬
‫‪2‬‬
‫القماط‪.‬‬

‫فإن "كانط" هو اآلخر يرفض فكرة "القماط" قائال "إن القماط لشيء يقلق األطفال‪ ،‬وعدم القدرة‬
‫على استعمال أطرافهم يغمرهم بنوع من اليأس"‪ 3.‬إذن فكالمها يستبعدان أن نلف الطفل ابلقماط‪.‬‬

‫ابإلضافة إىل ولعهما ابلرتبية السلبية يف السنوات األوىل ملرحلة الطفولة فإذا كان "روسو" يرى أنه جيب‬
‫أال نعلم الطفل الفضائل‪ ،‬بل جيب أن حنميه من الوقوع يف الرذائل‪ ،‬مثلما جيب أال نعلمه احلقيقة‪ ،‬بل كيف‬
‫يتجنب الوقوع يف اخلطأ حيث قال "إن الرتبية األوىل اليت تقدم للطفل جيب أن تكون سلبية‪ ،‬وهذه الرتبية‬
‫السلبية ال تتكون من تلقني مبادئ الفضيلة واحلق ولكن قوامها احملافظة على القلب من الرذيلة‪ ،‬وعلى العقل‬
‫‪4‬‬
‫من الزلل"‪.‬‬

‫‪ 1‬حممود عبد الرزاق شفشق‪ :‬األصول الفلسفية للرتبية‪ ،‬دار البحوث العلمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬ك‪ ،1982 ،4‬ص‪.273‬‬

‫‪ 2‬جان جاك روسو‪ :‬إميل‪ ،‬الشركة العربية للطباعة والنشر‪( ،‬د‪.‬م)‪(.‬د‪.‬س)‪ ،‬ص ‪.34‬‬

‫‪ 3‬أما نويل كانط‪ :‬ثالث "نصوص أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ما هي األنوار؟ ما التوجه يف التفكري؟ تعريب حممود بن مجاعة‪ ،‬دار حممد علي للنشر‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.32‬‬

‫‪ 4‬حممود شفشق‪ :‬األصول الفلسفية للرتبية‪ ،‬ص‪.274‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫فإن "كانط" هو ا آلخر يرى أنه "بوجه عام البد من مالحظة أن الرتبية األوىل تكون سالبة فحسب‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫أي أنه ينبغي أن ال يضاف أي شيء إىل االحتياطات اليت اختذت الطبيعة‪ ،‬وأنه ينبغي فقط عدم إرابكها"‪.‬‬

‫لكن هذا ال يعين أهنما يتفقان يف مجيع األفكار أو املسائل الرتبوية إال أنه هناك أوجه اختالف بني‬
‫كل من "روسو" و "كانط"‪.‬‬

‫فبينما "روسو" يقول إن الطفل يولد خريا واجملتمع والنظم االجتماعية والناس هم الذين يفسدونه‪ ،‬لكن‬
‫عند "كانط" جند عكس ما ذهب إليه "روسو" فاإلنسان عند كانط شرير ابلطبع‪ ،‬ويولد ولديه استعدادات‬
‫‪2‬‬
‫لكل أنواع الرذائل‪ ،‬وهو خير ابلطبع أيضا وهذه البذرة قابلة للتنمية‪.‬‬

‫ومن هذا االختالف ينشأ اختالف يف تصور كل منهما لدور املريب والرتبية "فروسو" يدعو إىل ترك‬
‫الطفل على فطرته وإبعاده عن كل ضغط أو قهر حىت تنمو استعداداته الطبيعية وهذه االستعدادات هي يف‬
‫األصل خرية‪ ،‬بينما "كانط" يرى أن الرتبية جيب أن تتوىل حماربة االستعدادات وامليول الطبيعية يف الطفل ألهنا‬
‫‪3‬‬
‫شريرة يف األصل‪.‬‬

‫وابلتايل فإن مبادئ الرتبية عند كالمها متعارضة‪ ،‬فإذا كانت عند "روسو" تنبع من مسايرة الطبيعة‪،‬‬
‫فإن عند "كانط" تنبع من فكرة الواجب املطلق غري املشروط أبحوال الطبيعة‪.‬‬

‫وبناء على ما سبق ميكن القول أن أتثر "كانط" أبفكار "روسو" الرتبوية كان واضحا يف أفكاره لكن‬
‫هناك من يقول أن كانط أتثر "بروسو" وهذا واضح من خالل ما مت ذكره‪ ،‬وهناك من يقول أن كانط مل يتأثر‬
‫بروسو بدليل أن الكتاب الذي ألفه كانط كان بعدما استقل بفلسفته النقدية‪ ،‬إذن نقول أن كانط قد استفاد‬
‫من "روسو" وأعطى هلذه األعمال أي أعمال "روسو" أتويال ال ميكن إمهاله‪ ،‬فإذا كان روسو قد أيقظ كانط‬
‫كما أيقضه "هريمر" من سباته الروغمايت يف املعرفة والعلم‪ .‬فإن كانط هو اآلخر أمت مشروع "روسو" الرتبوي‪.‬‬

‫‪ 1‬إما نويل كانط‪ :‬ثالث نصوص‪ ،‬ص‪.33‬‬

‫‪ 2‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.119‬‬

‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.119‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫كانط وابزدوف‪:‬‬

‫ابزدوف (‪:)Basedow‬‬

‫هو يوهان برانرد ابزدوف أو ابزداو ولد يف مهبورغ يف سنة ‪ 1723‬وتويف يف جمد بورج يف سنة‬
‫‪ ، 1790‬كان خادما عند طبيب‪ ،‬وتتلمذ يف مدرسة مهبورج الثانوية‪ ،‬حيث درس على يد "رمير" الفيلولوجي‬
‫الكبري‪ ،‬ويف سنة ‪ 1744‬درس الالهوت الربوتتسنبيت‪ ،‬وبعد أربع سنوات عمل معلما يف أسرة هوتستني‪ ،‬وبعد‬
‫ذ لك أصبح أستاذا لعلم األخالق والفنون اجلميلة يف أكادميية يف الدمنارك‪ ،‬حيث أحدث ضجة آبرائه املتطرفة‪،‬‬
‫وبعدها صار أستاذا يف مدرسة ألتوان الثانرية‪.‬‬

‫يعين هذا أن "ابزدوف" قضى حياته يف التعليم والرتبية‪ ،‬كما نشر أيضا بعض الكتاابت الالهوتية‬
‫خالل الفرتة املمتدة بني ‪.1768-1761‬‬

‫وابتداء من ‪ 1770‬تفرغ تفرغا اتما إلجناز مشروعاته يف إصالح الرتبية والتعليم‪ ،‬وقد كان ذلك رعاية‬
‫من "أمري دساو"‪ ،‬ومتكن يف سنة ‪ 1774‬من أتسيس معهد التجريبيا للرتبية مسي ابسم‬
‫(‪ )Philanthropinu‬ويشمل هذا املعهد على معهد لتكوين املعلمني ومدرسة لتعليم األوالد من سن‬
‫السادسة حىت الثامنة عشرة يف مدرسة داخلية‪ ،‬ويف السنة ذاهتا نشر أهم مؤلفاته‪ ،‬وهو "املنت األوىل يف‬
‫‪1‬‬
‫الرتبية"‪.‬‬

‫أعجب كانط "ببازودوف" وما قام به من أعمال‪ ،‬حىت أنه ملا قام "كانط" ألول مرة بتدريس مادة‬
‫الرتبية سنة ‪ 1776‬آثر أن يتخذ متنا لتدريس كتاب "ابزدوف"‪.‬‬

‫كما أن املعهد التجرييب الذي أسسه ابزدوف انل إعجاب كانط‪ ،‬رغم وقوعها يف بعض األخطاء فقد‬
‫كان هذا املعهد –حسب كانط‪ "-‬املدرسة الوحيدة اليت كان للمعلمني فيها حرية العمل تبعا لطرقهم اخلاصة‬
‫وخططهم اخلاصة‪ ،‬وكانوا متحيدين فيها فيما بينهم ومع كل علماء أملانيا" إذن كانط يشري ابستخدام التجارب‬
‫واحملاوالت يف طريقة "ابزدوف" يف الرتبية‪.‬‬

‫وميكن تلخيص معامل طريقة "ابزدوف" يف الرتبية‪ 2‬على النحو التايل‪:‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.106‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.108‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫‪-‬من الناحية السياسية واالجتماعية‪ ،‬فإن هذه الرتبية تريغ إىل أن تكون وطنية عن كل كنية‪.‬‬

‫‪-‬ومن الناحية الثقافية اليت تعطي للفرد‪ ،‬فإهنا نفعية ابملعىن احملدود‪.‬‬

‫‪-‬ومن انحية الوسائل املتبعة‪ ،‬فإهنا تقوم على طريقة حسية أو عيانية وتروجيية‪.‬‬

‫فكتاب "كانط" يف الرتبية وكتاب "ابزدوف" يف املنهج حيمالن الكثري من نقاط تشابه‪ ،‬ميكن‬
‫‪1‬‬
‫تلخيصها فيما يلي‪:‬‬

‫‪-‬جيب أن تبدأ الرتبية مع امليالد‪.‬‬

‫‪-‬إعطاء أمهية كبرية لنظام التغذية والتمرينات البدنية‪.‬‬

‫‪-‬وجوب الطاعة العمياء يف مستهل الطفولة‪ ،‬وعدم الطاعة ينبغي أن يعاقب عليه‪.‬‬

‫‪-‬االحرتاز من اختاذ العادات‪.‬‬

‫‪-‬حماربة الضيق واخلوف واحلسد والتدريب على الصرب والشجاعة والصدق‪.‬‬

‫‪-‬عدم إمهال التدريب على أشكال احلياة املدنية وتكوين احلكمة الدنيوية‪.‬‬

‫‪-‬التأكيد على قيمة العيان احلسي‪.‬‬

‫‪-‬رفض قراءة القصص ألهنا ضارة‪.‬‬

‫‪-‬وجوب مالئمة مادة التعليم مع السن‪.‬‬

‫‪ -‬واجلزء األهم عند كليهما يف التعليم هو الرتبية احللقية‪.‬‬

‫كما يتفقان يف مسألة أن التعليم املشرتك أفضل من التعليم الفردي‪.‬‬

‫لكن هذا ال يعين أهنما ال خيتلفان رغم اتفاقهما‪ ،‬فغاية الرتبية عند "ابزدوف" هي اإلعداد حلياة‬
‫‪2‬‬
‫مشرتكة وطنية سعيدة أما "كانط" فهي تكوين األخالق‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.109‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.110‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫كما يندد كانط بكل وسائل التعليم املصطنعة ونظام اجلزاء والعقاب املصطنع الذي وضعه "ابزدوف"‬
‫‪1‬‬
‫ألن هذا األخري يوحي أحياان ابستعمال التمويه واخلداع من جانب املعلم‪ ،‬أما كانط فريفض هذا متاما‪.‬‬

‫فبينما يرى "ابزدوف" أنه ينبغي جتنب كل ضغط أو إكراه من أجل حث التلميذ على اجلد واالجتهاد‬
‫يف الدرس‪ ،‬يرى "كانط" أنه ينبغي أال ندع التالميذ يتعلمون كأهنم يلعبون‪ ،‬ويطالب بعمل التلميذ على‬
‫االجتهاد وذلك بتكوين عادات ضاغطة عليه لالجتهاد‪.‬‬

‫فإن كان "ابزدوف" يرى أن حتقيق األخالق يف األوالد ال يتم إال عن طريق الدين كما ال يثق فيمن‬
‫حيب الفضيلة للفضيلة نفسها‪ ،‬وأن مذهب األخالق جيب أن يقوم على التجربة‪.‬‬

‫فإن "كانط" على العكس من ذلك متاما‪ ،‬فهو يدعوا إىل أداء الواجب من أجل الواجب نفسه‪ ،‬وفعل‬
‫الفضيلة من أجل الفضيلة نفسها كما يقيم األخالق على أساس األمر املطلق املستخلص من العقل العملي‬
‫‪2‬‬
‫احملض السابق على كل جتربة"‪.‬‬

‫هذه جممل األخطاء ملدرسة "ابزدوف التجريبية" يف نظر "كانط" فرغم النجاح اهلائل الذي حققه‬
‫معهد "ابزدوف" داخل أملانيا وخارجها إال أنه حيمل الكثري من األخطاء‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.110‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.111‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫الفصل األول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر الفكر التربوي عند كانط‬

‫خالصة الفصل‪:‬‬

‫من خالل ما مت عرضه يف هذا الفصل ألهم األفكار واملعارف اليت قامت عليها حياة "إميانويل كانط"‬
‫ميكننا القول أن هذا الفصل مبثابة الطريق املمهد منها نستطيع أن نتحدث ونفهم فلسفته لرتبوية رغم أنن مل‬
‫أتعمق فيه بكثري‪ ،‬ألن حياة "كانط" وما يرتبط هبا مليئة ابألحداث والذي يهمنا هو ليس الغوص يف جممل‬
‫هذه األفكار واألحداث بل احلديث عن املصادر أو املنابع اليت هبا انصب "كانط" على الرتبية‪.‬‬

‫إن انشغال "كانط" مهنة التعليم اخلاص والعام ألمر مهم من خالهلا ميكننا أن نلقي الضوء على‬
‫فلسفته الرتبوية وليس هذا فقط بل وحىت تربيته الدينية اليت تلقاها على يد أمه جعلته يدرك مدى أمهية الرتبية‬
‫يف حياة اإلنسان‪ ،‬هذا من جهة أما نظرية املعرفة عند "كانط" فهي جد مهمة قبل التطرق إىل موضوع الرتبية‬
‫عنده ألن "كانط" من خالل نظريته يعطي للعقل مكانة ومركز أساسيا قبل كل شيء وهذا ما سينميه يف‬
‫الطفل‪.‬‬

‫املؤثرات القدمية واجملددة وجل األفكار اليت أتثر هبا "كانط" كانت واضحة يف مرحلة معينة من مراحل‬
‫تفكريه الفلسفي (املرحلة قبل النقدية) لكن فيما بعد (املرحلة النقدية) استطاع "كانط" أن يؤسس فلسفة‬
‫جديدة خاصة به‪ ،‬مما يعين أنه مل يقف على ما توصل إليه كل من "روسو" و"ابزدوف" وغريهم من الفالسفة‪،‬‬
‫صحيح أن "كانط" أتثر هبم وأخذ عليهم لكن بعد التعديل واإلضافة ويف بعض األحيان جتاوز‪.‬‬

‫وعليه فالفلسفة الكانطية مل تنشأ من فراغ بل كانت حمصلة لكل تلك العوامل سواء املوضوعية أو‬
‫الذاتية واملؤثرات الفكرية دوما ميكن اإلشارة إليه أن كانط يكتفي مبا ردده السابقون عليه‪ ،‬بل استقل بفلسفته‬
‫الرتبوية اخلاصة واليت شكلت اجتاها يف الفكر الرتبوي اإلنساين‪.‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ‬
‫أﺳﺲ اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﺎﻧﻂ‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫متهيد‪:‬‬

‫لقد عرفت فلسفة "كانط" ابلفلسفة النقدية كون هذه األخرية قائمة على النقد الذي مشل كل‬
‫جماالت املعرفة أو امليتافيزيقا أو األخالق بل مشل مجيع مناحي احلياة مبا فيها الرتبية اليت هي األخرى تسلم من‬
‫النقد‪ ،‬لذا ففلسفته كانت مبثابة أرضية واسعة اليت انعكست بشكل مباشر على الرتبية اإلنسانية عنده‪.‬‬

‫املبحث األول‪ :‬مفهوم الرتبية عند كانط‪:‬‬

‫‪-1‬املدلول اللغوي‪:‬‬

‫تشري أغلب املعاجم العربية واألجنبية تقريبا إىل معان متقاربة‪ ،‬فقد جاء يف لسان العرب البن منظور‬
‫"راب يربو" مبعىن زاد ومنى واربيته منيته‪ 1.‬وورد يف القرآن الكرمي أيضا لفظ تربية يف قوله تعاىل‪ " :‬وترى األرض‬
‫هامدة فإذا أنزلنا عليها املاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج هبيج" (سورة احلج اآلية ‪ )05‬أي منت وارتفعت‬
‫وازدادت الرتوائها‪ ،‬وقوله أيضا "وقل ريب ارمحهما كما ربياين صغريا" (سورة اإلسراء اآلية ‪ )24‬وعليه فلفظ‬
‫الرتبية خمتلف لك ن املعىن كله يرمي إىل معىن الرتبية كالزايدة والنمو‪ ،‬والرعاية والعناية كلها تدل على مفهوم‬
‫الرتبية‪ ،‬يقال رىب الولد أي هذبه وجعله ينمو‪.‬‬

‫أما يف اللغة األجنبية فإن الرتبية (‪ )Education‬ال خترج أيضا عن املعىن اللغوي إذ تعين القيادة‬
‫والنمو‪.‬‬

‫‪-2‬املدلول االصطالحي‪:‬‬

‫يقدم الالند يف موسوعته الفلسفية مفهوم الرتبية مبعناها العام واخلاص‪ ،‬فاملعىن اخلاص الرتبية سلسلة‬
‫عملية إجرائية يدرب هبا الراشدون ويشجعون لديهم منو بعض النزعات وبعض العادات املصنوعة‪ ،‬وتتوضح‬
‫وتتكامل بواسطته‪ ،‬فتنتظم مع ابقي الظواهر النفسية‪ .‬أما املعىن العام يشري إىل أن الرتبية أو التهذيب أو‬

‫‪ 1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مج‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مادة راب‪ ،‬ص‪.1572‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫التأديب يقوم على تطوير وظيفة أو عدة وظائف‪ ،‬تطورا تدرجييا عن طريق التجربة والتدريب وتظهر من خالل‬
‫‪1‬‬
‫جتويدها وإتقاهنا من طرف الفرد‪.‬‬

‫كما ورد أيضا يف معجم "مجيل صلبيا" تعريفا للرتبية‪ ،‬تعين الرتبية يف هذا املعجم تنمية الوظائف‬
‫النفس ية ابلتمرين حىت تبلغ كماهلا شيئا فشيئا‪ ،‬يقال ربيت الولد يعين قويت ملكاته‪ ،‬ومنيت قدراته‪ ،‬وهذبت‬
‫سلوكه‪ ،‬حىت يصبح صاحلا للحياة يف بيئة معينة‪ ،‬ومن شروط الرتبية الصحيحة أن تنمي شخصية الطفل من‬
‫الناحية اجلسمية والعقلية واخللقية حىت يصبح قادرا على مؤالفة الطبيعة جياوز ذاته‪.‬‬

‫ويعمل على إسعاد نفسه‪ ،‬وإسعاد اآلخرين وهلذا تعد الرتبية ظاهرة اجتماعية ختضع ملا ختضع له‬
‫الظواهر األخرى يف تطورها‪ 2.‬وعليه فالرتبية هي تنمية وهتذيب الفرد حسيا وعقليا ونفسيا‪.‬‬

‫الرتبية عند كانط‪:‬‬

‫آمن "كانط" أن الرتبية خاصية إنسانية‪ ،‬وأن اإلنسان هو املخلوق الوحيد الذي جيب تربيته‪ ،‬والرتبية‬
‫عنده تعين الرعاية وما تشمله من تغذية وتعهد‪ ،‬كما تعين الرتبية االنضباط والتعليم املقرتن ابلتكوين‪ ،‬ومن هذه‬
‫الزوااي الثالث يكون اإلنسان رضيعا وتلميذا وطالبا‪ 3.‬إذن فاإلنسان هو الوحيد الذي جيب تربيته‪ ،‬خالفا‬
‫للحيواانت اليت تتعهد نفسها بنفسها‪ ،‬فهي االحتياج إىل الرعاية مثلما حيتاج إليها اإلنسان‪.‬‬

‫يرى "كانط" أن إنفراد اإلنسان خباصية الرتبية‪ ،‬ليس جمرد مسألة اختيارية‪ ،‬بل هي صفة مرتبطة به‬
‫كضرورة‪ ،‬فال ميكننا ‪-‬حسب كانط‪ -‬احلديث عن إنسانية اإلنسان لو جرد من الرتبية‪ ،‬ألن ابلرتبية يكتسب‬
‫اإلنسان إنسانيته‪.‬‬

‫أما احليواانت فهي ال حتتاج إىل تربية عند والدهتا حىت تعرف ما جيب القيام به من أجل البقاء (جلب‬
‫الطعام‪ ،‬اهلروب من اخلطر‪ ،‬طرح الفضالت داخل العش‪ )...‬ويعطينا "كانط" مثال عن اخلطاطيف الصغرية‬

‫أندري الالند‪ :‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬تعريب خليل أمحد خليل اجمللد األول‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،2‬مادة تربية‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪.323-322‬‬

‫‪ 2‬مجيل صلبيا‪ :‬املعجم الفلسفي‪ ،‬ج‪ ،1‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،1982 ،‬مادة الرتبية‪ ،‬ص‪.266‬‬

‫‪ 3‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.11‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫اليت مبجرد خروجها من البيضة تستطيع أن تدبر أمرها‪ ،‬وتتمكن من إسقاط فضالهتا خارج العش‪ ،‬وابلتايل‬
‫فهي ال حتتاج إىل من يرعاها ويقوم برتبيتها‪.‬‬

‫لكن اإلنسان عند ميالده يكون واجبا على أبويه أن يوفرا له شروط العيش اإلنساين وإال فسيبقى‬
‫متوحشا‪ ،‬وهذا ما أكده "كانط" بقوله "ال يستطيع اإلنسان أن يصري إنساان إال ابلرتبية‪ ،‬فهو ليس سوى ما‬
‫تصنع به الرتبية"‪ 1.‬فال ميكن تصور اإلنسان إنساان إال من خالل الرتبية اليت توجه إليه‪ ،‬وأرى أن هذه الفكرة‬
‫قد أكد عليها كل الفالسفة وعلماء الرتبية احلديثة‪ ،‬ألن اإلنسان ال يكتسب صفة اإلنسانية إال من خالل‬
‫الرتبية‪ ،‬أو ما يعرف يف اصطالح علماء النفس واالجتماع ابلتنشئة االجتماعية اليت هي عملية متصلة ابإلنسان‬
‫دون غريه من الكائنات األخرى وهذا ما بينه "كانط"‪.‬‬

‫كما ترتبط الرتبية عند "كانط" ابالنضباط هذا األخري مبثابة الشرط احملقق لإلنسانية‪ ،‬إذ عن طريق‬
‫االنضباط يصري اإلنسان إنساان‪ ،‬فاحليوان ‪-‬حسب "كانط"‪ -‬ال حيتاج أن حيدد لنفسه مسار سلوكه‪ ،‬فقد‬
‫حدد سلفا من طرف الطبيعة‪ ،‬لكن اإلنسان –حسب كانط‪ -‬إىل استعمال عقله اخلاص ليحدد لنفسه مسار‬
‫سلوكه‪ ،‬ومبا أن الطفل ال يستطيع القيام بذلك فقد وجب على اآلخرين أن يقوموا بذلك من أجله‪.‬‬

‫إذن االنضباط عن "كانط" هو الفعل الذي جيرد به اإلنسان من حيوانيته ومن وضع التوحش‬
‫واهلمجية إىل وضع التمدن والتحضر‪.‬‬

‫فالغرض من الرتبية عند "كانط" هو الوصول ابإلنسان إىل الكمال املمكن‪ ،‬ومهمتها هي أن حترتم‬
‫حرية الفرد الطبيعية وتساعده على حتقيق إنسانيته‪ ،‬مؤكدا أن حاجة اإلنسانية للرتبية هي حاجته ملزيد من‬
‫احلرية وا الكتمال املتواصل‪ ،‬وغاية الرتبية هي مساعدة الطفل على امتالك اجلرأة والتفكري اعتمادا على الذات‪،‬‬
‫ألن الرتبية يف –نظر كانط‪ -‬هي عملية تكوين وبناء للجسم ألنه بدون تربية ال يستطيع أن يصري إنساان‪.‬‬

‫ألن الطبيعة اإلنسانية تبقى قاصرة ما مل تنمى ابلرتبية ألنه "يكمن يف صلب الرتبية السر الكبري لكمال‬
‫‪2‬‬
‫الطبيعة البشرية"‪.‬‬

‫‪ 1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪ 2‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫فمهمة الرتبية يف نظر "كانط" هي تنمية االستعدادات الطبيعية لدى اإلنسان تنمية متوازنة‪ ،‬وال‬
‫يقصد تنمية جانب واحد من مساحة الرتبية لكنه يريد تغطية كل تلك املساحة أي خمتلف النواحي اجلسمية‬
‫والفكرية واألخالقية‪.‬‬

‫املبحث الثاين‪ :‬أصالة مشكلة الرتبية عند كانط‪.‬‬

‫إن السؤال الذي تبادر يف أذهان عامة الناس يف عصر "كانط" هو مدى اهتمام هذا األخري مبسألة‬
‫الرتبية‪ ،‬هل كان انشغاله ابملسألة الرتبوية انشغاال حقيقيا انبعا عن إحساسه أبمهية الرتبية يف حياة اإلنسان؟ أم‬
‫أن املذكرات اليت خلقها يف هذا اجملال كانت نتيجة لواجب مهين؟‬

‫لقد اختلف الباحثون حول هذه املسألة بني من يرى أن إحساس "كانط" ابلرتبية هو إحساس‬
‫حقيقي الزمه طوال حياته وابألخص إذا علمنا أنه قد أمضى جل حياته يف التعليم إما متعلما أو معلما وأستاذا‬
‫وبني من يرى أن تلك املذكرات املتعلقة ابلرتبية اليت خلفها "كانط" ال ميكن اعتبارها دليال كافيا على اهتمام‬
‫كانط ابلرتبية اليت وأنه إمنا كتبها نتيجة ظروف التدريس يف اجلامعة فاضطرته إىل تسجيل بعض أتمالت يف هذا‬
‫‪1‬‬
‫املوضوع‪ ،‬ألنه كلف بتدريس الرتبية يف جامعة كينجرسربج طوال أربعة فصول دراسية‪.‬‬

‫إن ما كتبه "كانط" يف موضوع الرتبية حسب الباحثون ما هو إال "كراسة سجل فيها أتمالته اليت‬
‫‪2‬‬
‫تعينه على إلقاء حماضراته يف هذه املادة اليت كلف بتدريسها‪.‬‬

‫وأن هذه الكراسة اليت دفعها "كانط" إىل "رنك" غري مؤلفة أتليفا‪ ،‬وفيها تكرار‪ ،‬وأن "رنك" طبع هذه‬
‫املذكرات على حاهلا دون تنقيتها كان ذلك سنة ‪ ،1803‬أي قبل وفاة "كانط" بعام واحد‪ ،‬مما زاد يف‬
‫أصحاب هذا الرأي أن "كانط" مل يكن هو احملرر احلقيقي لتلك املذكرات يف الرتبية بل كان تلميذه "رينك"‬
‫(‪.)Rink‬‬

‫لكن هذه املربرات ال ميكن أن نعتربها دليال على أن كانط مل يكن مهتما مبشكلة الرتبية‪ ،‬خصوصا‬
‫وأنه عاش يف عصر متدهور خاصة يف جمال التعليم‪ ،‬والقول أبن كانط مل يكتب تلك املذكرات إال تلبية لواجب‬
‫مهين أمر غري مقنع ومؤكد‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كانط‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1980 ،1‬ص‪.103‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.103‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫كما أن إسناد مهمة أن "كانط" مل يكن احملرر احلقيقي لذلك الكتاب هو أمر غري مقنع أيضا‪ ،‬ألن‬
‫كثريا من أفكار الفالسفة عرب التاريخ نتعرف عليها من خالل تالمذهتم‪.‬‬

‫يف مقابل هذا الرأي يرى أن اهتمام "كانط" ابلرتبية كان اهتماما حقيقيا الزمه طوال حياته‪،‬‬
‫فاملذكرات اليت خلقها كانت انبعة من اهتمامه ابلرتبية وحال النظام الرتبوي الذي كان سائدا آنذاك‪.‬‬

‫إن املتصفح ملا ورد يف التأمالت الكانطية حول الرتبية‪ ،‬يكتشف أن اهتمام "كانط" ابملسائل الرتبوية‬
‫كان ابلفعل اهتماما حقيقيا‪ ،‬الذي اعترب أن مشكلة الرتبية أمر صعب ومهم قائال‪" :‬مثة اكتشافات إنسانيان‬
‫حيق لنا أن نعتربمها أصعب االكتشافان ومها فن سياسة البشر وفن تربيتهم"‪ 1.‬وترجع صعوبة الرتبية يف نظره إىل‬
‫التعارض بني الطبيعة والعقل العملي‪ ،‬فالطبيعة مصدر الرغبة واألهواء حترف الرتبية عن غاايهتا‪ ،‬ومهمة الرتبية‬
‫‪2‬‬
‫ترويض الطفل على اخلضوع ألوامر العقل وإعداده ململكة الغاايت اليت تشري إليها الفلسفة األخالقية‪.‬‬

‫لذا فيجب تعويد اإلنسان يف وقت مبكر عل ى اخلضوع ألوامر العقل ولو تركنا اإلنسان يف حداثة سنه‬
‫ال يتصرف إال وفق مشيئته ودون شيء مينعه الحتفظ طوال حياته كلها بنوع من الوحشية‪ 3.‬لذلك فقد اعرتف‬
‫"كانط" أبن الرتبية هي أهم وأصعب مشكلة تطرح على اإلنسان‪.‬‬

‫ويظهر اهتمام "كانط" ابلرتبية كذلك عند حديثه عن مشروع نظرية يف الرتبية والذي اعتربه مثل أعلى‬
‫وسام ال ميلك أن يكون ضارا حىت يف حال ما إذا كنا غري قادرين على حتقيقه على أرض الواقع لذلك "ينبغي‬
‫أن ال تعترب الفكرة املطلقة ضراب من اخليال فنستبعدها وكأهنا حلم مجيل‪ ،‬حىت وإن كانت بعض العوائق تعرتض‬
‫حتقيقها"‪ 4.‬موضحا ذل ك مبثال} فهل يعين هذا أن فكرة الصدق مستحيلة بال "كانط" ينفي ذلك ويعترب‬
‫الشرط األساسي لكي تكون الفكرة صادقة هو أن تكون صحيحة بغض النظر عما إذا حتققت يف الواقع أم‬
‫ال‪ ،‬كذلك األمر ابلنسبة لصفة الصدق اليت تبقى حتتفظ بكامل قيمتها حىت وإن كان كل الناس يكذبون‪،‬‬
‫واأل مر نفسه ينطبق على الرتبية ف "يكفي أوال أن تكون فكرتنا صحيحة حىت ال تكون فيما بعد مستحيلة على‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪ 2‬اجليوشي فاطمة‪ :‬فلسفة الرتبية‪ ،‬منشورات جامعة حلب‪ ،‬ص‪.47‬‬

‫‪ 3‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.13‬‬

‫‪ 4‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.15‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫اإلطالق رغم كل العوائق اليت ال تزال تعرتض حتقيقها"‪ 1.‬فليس املهم حتقيق ذلك املثل على أرض الواقع‪ ،‬بل‬
‫املهم أن يكون ذلك املثل صحيحا‪.‬‬

‫وابلتايل فإن فكرة تربية تنمي كل االستعدادات الطبيعية لدى اإلنسان هي ابلتأكيد فكرة صادقة رغم‬
‫كل الصعوابت اليت قد تعرتض حتقيقها على أرض الواقع‪.‬‬

‫وانطالقا من كل هذا نستطيع القول أبن انشغال كانط ابلرتبية كان انشغاال حقيقيا الزمه طوال‬
‫حياته‪ ،‬وهو الذي أمضى أكثر من نصف حياته مزاوال ملهنة التعليم‪ ،‬لذلك فقد جاءت أفكاره الرتبوية ذات‬
‫عمق كبري لدرجة أن أحد الباحثني قال "مل أجد موضوعا أشرف وال أجل وال أكمل من موضوع يفصل تربية‬
‫الطفل يف مهده ويصلحه يف طفولته ويصقله يف شبابه ويسعده يف شؤونه ويزيده كماال ومجاال يف سائر أايم‬
‫‪2‬‬
‫حياته ومل أجد أكمل وال أشهى يف ذلك من كتاب ألفه الفيلسوف "كانط األملاين""‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬املنطلقات النقدية‪.‬‬

‫يتوجه "كانط" يف مذكراته حول الرتبية ابلنقد إىل الكثري من السلوكات والعادات املخلة ابلرتبية يف‬
‫عصره سواء املتفشية داخل األسرة أو املؤسسات الدينية وكذلك املؤسسات التعليمية‪ ،‬ويرى أن هذه العادات‬
‫التقليدية اليت أضحت منتشرة ومرتسخة لدى اجلمهور الواسع‪ ،‬هي ابلفعل عائق أمام أي تطور ملناهج الرتبية‬
‫أو أي إصالح لنمط عيش اإلنسانية‪ ،‬وعليه جيب أوال العمل على حماربتها ونقضها يف عدة مستوايت‪.‬‬

‫*نقد الرتبية اللينة‪:‬‬

‫ينتقد "كانط" أسلوب الليونة والتدليل الذي يعامل به الطفل من طرف آابئهم يف السنوات املبكرة‬
‫قائال أبن "إرضاء كل نزواهتم يف حداثة سنهم يفسد شعورهم وأخالقهم"‪ 3.‬خصوصا عندما يصرخون فتهرع‬
‫األمهات إليهم حلملهم أو مداعبتهم أو الغناء هلم‪" ،‬فكانط" يرفض هذا النوع من التعامل ألنه يفسدهم‬
‫وجيعلهم يتعودون على التدليل والرخاء ومن مث عدم حتمل املسؤولية‪ ،‬فالطفل كلما صرخ ووجد من يستجيب له‬
‫إال وتعود على ذلك ألن يف الصراخ فائدة كما يعتقد كانط لذا ينصح بتجاهله وتركه يصرخ حىت يتصلب‬

‫‪ 1‬كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.15‬‬

‫‪ 2‬أنت تشرتون‪ :‬كتاب الرتبية للحكيم األملاين كانت‪ ،‬ترمجة طنطاوي جوهري‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املطبعة السلفية‪ ،1355 ،‬ص‪.5‬‬

‫‪ 3‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.34‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫وينفس عن نوازعه التدمريية يقول كانط‪" :‬إن الصياح شيء انفع لألطفال‪ ...‬وبفضله ينمي الطفل بقدر أوفر‬
‫‪1‬‬
‫أعضاءه الداخلية وقنوات جسمه‪ ،‬ومن السيئ أن يهرع إىل جندة الطفل ما إن يصيح"‪.‬‬

‫كما يدعو "كانط" إىل إخضاع الطفل خشية أو قائمة على خشونة العيش لكون هذا النمط من‬
‫الرتبية هو الصاحل لتقومي اجلسم‪ ،‬هذا ال يعين أبن "كانط" منع الطفل يف أن يكون يف كامل الرفاهية ولكن أال‬
‫‪2‬‬
‫نعوده على منط العيش املدلل واملعاملة اللينة‪ ،‬ألن ذلك وبكل بساطة مضر له والستعداداته املستقبلية للتعلم‪.‬‬

‫يرى "كانط" أن املرحلة األوىل من الرتبية حىت وإن اتسمت ابلقسوة فهي مرحلة تقوم على تلقني‬
‫الطفل االنضباط وهي خطوة سالبة ابلطبع إذ ترتكز على املنع والتقومي والضبط‪ ،‬وتشمل هذه العملية –حسب‬
‫كانط‪ -‬كل مستوايت معاملة الطفل يف سنواته املبكرة من تغذية ولعب‪ ،‬ورايضة‪ ،‬وتكوين نفسي‪...‬‬

‫*نقد الوعظ الديين يف الرتبية‪:‬‬

‫ينتقد "كانط" أسلوب "الوعظ" الذي كان سائدا داخل األديرة يف تلقني املبادئ األخالقية أو‬
‫اإلميان‪ ،‬ويقوم الوعظ على منع الطفل من القيام ابلسلوك (كالكذب مثال) ابعتباره حمرما من طرف هللا‪ ،‬وهو‬
‫ما يدفع األطفال إىل تصور هذا السلوك مقبوال لو أن هللا مل يقم بتحرميه‪ ،‬أو أنه ميكن القيام به أحياان نظرا‬
‫خلصوصية السياق (الضرورة مثال)‪" ،‬فكانط" يدعوا إىل مقت السلوكات املسيئة يف ذاهتا‪ ،‬وليس لكوهنا حمرمة‬
‫بفعل قوة إهلية يقول‪" :‬أليس يف غاية األمهية أن نعلم األطفال‪ ،‬منذ نعومة أظافرهم مقت الرذيلة ليس من البتة‬
‫‪3‬‬
‫ألن هللا حرمها فقط‪ ،‬بل ألهنا يف حد ذاهتا مقيتة‪ ...‬حىت لو صادف أن هللا مل حيرمه"‪.‬‬

‫*نقد الرعاية ابألدوات الصناعية‪:‬‬

‫ومن السلوكات الرتبوية اليت ينتقدها أيضا "كانط" يف عصره هو االعتماد على األدوات يف رعاية‬
‫الطفل وتلقينه للمهارات الطبيعية كالكالم واملشي فينصح كانط بتجنب هذه األدوات االصطناعية كاملساكات‬

‫‪ 1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.33‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.38‬‬

‫‪ 3‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.23‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫أو العجالت‪ *.‬لكوهنا ال تساعد الطفل بقدر ما ترتك لديه أتثريات جانبية سلبية كالتشوهات‪ ،‬وهذا ما حيدثه‬
‫القماط أيضا –حسب كانط‪ -‬فهو يرفضه ألنه يؤثر سلبا على بنيته اجلسمية فريى "أن هذه الرتبية اليت تقوم‬
‫على استعمال أدوات اصطناعية إمنا هي على وجه التحديد تربية سلبية يف حني الطفل ميتلك الطفل أدوات‬
‫طبيعية‪ ،‬واألدوات هنا هي اليدان اللتان ميدمها الطفل أما من عندما يستيقظ‪ ،‬فكلما استخدم اإلنسان أدوات‬
‫‪1‬‬
‫اصطناعية ازداد تبعيته لألدوات"‪.‬‬

‫*نقد املناهج التعليمية‪:‬‬

‫يف حماولته لصياغة رؤية منهجية للتعليم املدرسي‪ ،‬يبدأ "كانط" بتوجيه النقد جملموعة من األمناط‬
‫السائدة يف التدريس داخل املعاهد واملؤسسات التعليمية يف عصره‪ ،‬اليت كانت تركز على التعليم بطرق آلية‬
‫كاحلفظ والتعليم السريع بغية معرفة أكرب قدر من املعارف وهو ما جعل املناهج التعليمية تقتصر على املعارف‬
‫السطحية‪ ،‬وكذلك توجه الكثري من الناس عدميي التجربة إىل التدريس والرتبية كمهنة‪ ،‬مع فتح بعض املعاهد‬
‫الرتبوية واجملال فيها مفتوح للمدرسني بتطبيق مناهج خمتلفة بكل حرية‪ ،‬لذا فهذه املؤسسات –حسب كانط‪-‬‬
‫تفتقر لرؤية منهجية مدروسة يف مناهج الرتبية‪.‬‬

‫لكن هذا ال يعين أن "كانط" أمهل كل تربية أخالقية يف السنوات املبكرة لدى الطفل‪ ،‬فإنه البد من‬
‫أن يصهر األبوين على إتباع املبادئ األخالقية وحىت الرعاية اجلسمية للطفل‪ ،‬ألنه يف غياب ذلك ترتسخ‬
‫العيوب بسهولة‪.‬‬

‫يقرتح "كانط" كربانمج تعليمي ميكن إتباعه يف تنميته القدرات املعرفية للطفل أن يبدأ املدرسون‬
‫بتعريف التالميذ على الطبيعة وذلك بواسطة الصور واأليقوانت (صور احليواانت والنبااتت) وأن جيعلوهم‬
‫يعربون عنها بطريقتهم ابخلطوط واألشكال‪ ،‬هذا يدل أن "كانط" أتثر "ببازدوف" الذي كان يقوم التعليم‬
‫عنده على الطريقة العيانية أي ابستخدام الصور والرسومات البيانية‪ ،‬مما سيجعلهم يتعلمون الرسم والكتابة مث‬
‫القراءة مركزا أيضا على التعليم ابخلرائط‪ ،‬ذلك لكون األطفال حيبوهنا وهذا بدوره سيجعل لدى الطفل قابلية‬
‫تلقي الدروس يف اجلغرافيا مث التاريخ‪ ،‬الذي يساهم أقصد املنهج يف تنمية الذاكرة وتقويتها لكن ال ينصح‬

‫* املساكات هي حواش من النسيج تعلق بثوب الطفل لتمسكه حىت ال يقع عند املشي أما العجالت فهي جهاز مزود بعجالت صغرية يشد إليه‬
‫الطفل وقف استعمل ملساعدة الطفل على املشي مع جتنبه خطر الوقوع أو اإلصابة جبروح‪ ،‬ويسقط بسحب هذه اآللة‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.36‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫"كانط" إبتباع منهج احلفظ كليا‪" .‬فال ينبغي أن ال نشغل الذاكرة إال ابألشياء اليت لنا مصلحة يف استبقاءها‬
‫وهلا عالقة ابحلياة الواقعية"‪ 1.‬فال ميكن إتباع طريقة احلفظ يف مجيع األحوال إال إذا كانت تلك األشياء ذات‬
‫صلة ابلواقع فيجب االحتفاظ هبا‪ ،‬ويوضح لنا "كانط" هذا مبثال‪ :‬فعلى سبيل املثال مطالعة الرواايت فهي‬
‫أسوأ األشياء ابلنسبة إىل األطفال‪ ،‬إذ ال يتعاطوهنا إال لالنتهاء هبا‪ ،‬ألهنا تضعف الذاكرة ومن السخيف تذكر‬
‫بعض الرواايت وقصها من جديد على اآلخرين‪.‬‬

‫ويف هذا الصدد يقسم كانط الرتبية إىل‪:‬‬

‫وتشمل التدريس املعريف كذلك التلقني الثقايف‬ ‫التمرس على املبادئ األخالقية‪:‬‬
‫واألخالقي ومها مهمتني موكلتان للمعاهد الرتبوية ومنها‬ ‫يقرتح "كانط" أبن تتكفل هبا األسرة يف‬
‫العمومية واخلاصة إال أن كانط يفضل املعاهد العمومية‬ ‫البيت أو أن تتكفل هبا أشخاص مأجورين‬
‫لكوهنا أكثر نفعا من حيث االنضباط واحرتام ملناهج‬ ‫إن كان األبوان ال جيدان وقتا للقيام هبذه‬
‫الرتبوية املسطرة‪ ،‬إال أن هذه املعاهد يكون عدد‬ ‫املهمة‬
‫تالمذهتا حمدود وهي قليلة لكوهنا مكلفة جدا يف‬
‫إحداثها‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.50‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫حيث "كانط" على أمهية التعليم املدرسي‪ ،‬إذ هو الكفيل بتنمية استعدادات الطفل ليعرف ذاته من‬
‫جهة وليتمكن من التكيف مع حميطه‪ ،‬ومن مث مسامهته يف الرقي اإلنساين كمواطن ألنه يكسب حينئذ قيمة‬
‫عامة وليس فردية فقط‪.‬‬

‫وعلى هذا األساس يكون التعليم املدرسي إحدى لبنات بناء اجملتمع اإلنساين املتكامل الغاايت‬
‫واملنشود من طرف "كانط" لذا يضعه يف املقام األول قبل أي تعليم آخر (ديين أو أخالقي‪" )...‬إن التكوين‬
‫املدرسي هو الذي يتوفر يف أكرب وقت يف املقام األول ‪ ...‬أما الثقافة األخالقية فتأيت متأخرة أكثر من غريها‬
‫‪1‬‬
‫على اعتبار أهنا تعتمد مبادئ البد لإلنسان أن يدركها هو ابلذات"‪.‬‬

‫أما فيما خيص تعلم اللغات فيقرتح "كانط" بتدريب األطفال أو مبعىن السماع قبل قراءة املوسوعة‬
‫املصورة‪ ،‬حىت يستطيعوا الربط بني الصورة واملعاين املقصودة‪.‬‬

‫كما يؤكد "كانط" أنه ال جيب تلقني الطفل املعارف بشكل مباشر بل جيب العمل على خلق احلاجة‬
‫لديه ملعرفة األشياء ومن مث يتساءل عنها‪ ،‬أو حىت نعلمه كيف يصل إىل اإلجابة وحده وهو ما يسميه "كانط"‬
‫ابلطريقة السقراطية يف تربية العقل القائمة على احلوار دون احلفظ والتلقني واإلمالء "فينبغي انتهاج الطريقة‬
‫‪2‬‬
‫السقراطية يف تربية العقل"‪.‬‬

‫وهذا ما اتبعه "كانط" يف إلقاء حماضراته على طالبه‪ ،‬فقد كان يكره الطالب يدون حماضراته‪ ،‬وقد‬
‫كانت كلماته اليت دائما يرددها على طالبه "فكر لنفسك وأحبث بنفسك‪ ،‬قف على قدميك إين ال أعلمك‬
‫فلسفة الفالسفة لكين أريد أن أعلمك كيف تتفلسف"‪ 3.‬ألن الفلسفة تستوجب التسلح ابملنهج وإتباع طريقة‬
‫قهر فن التفكري‪ ،‬فكانط يرد من املرء أن خيوض يف جتربة التفكري الفلسفي‪ ،‬وتعلم الفلسفة‪ ،‬ليس مبجرد مطالعة‬
‫أمهات الكتب الفلسفية وجل ما تركه الفالسفة وإمنا العكس يف نظر "كانط"‪.‬‬

‫كما تضمن املنهج الرتبوي عند "كانط" العديد من املبادئ اليت من خالهلا ميكن الوصول إىل‬
‫األهداف والغاايت منها‪:‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪ 2‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.51‬‬

‫‪ 3‬حممود زيدان‪ :‬كنط والفلسفة النظرية‪ ،‬دار املعارف‪( ،‬د‪.‬م)‪ ،‬ط‪ ،1979 ،3‬ص‪.24‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫أ‪ -‬ضرورة مراعاة سن الطفل يف التعليم "فينبغي أن ال نعلم األطفال إال األشياء املناسبة لسنهم‪ ...‬فال‬
‫بد من أن يكون الطفل فطنا كما ينبغي أن يكون عليه الطفل ال غري"‪ 1.‬يؤكد كانط يف هذا الصياغ على أن‬
‫يعامل الطفل وفق سنه وقدراته‪ ،‬فينبغي أن ال يكون له سوى ذكاء الطفل وأن ال يربز قبل األوان ‪ ،‬وهذا ما‬
‫أكد عليه "روسو"‪.‬‬
‫ب‪ -‬ضرورة الربط التدرجيي بني املعرفة والقدرات "فينبغي يف تعليم الطفل أن نسعى إىل الربط التدرجيي‬
‫ما بني املعرفة والقدرات ‪ ...‬زد على ذلك البد من ربط املعرفة والكالم (السهولة يف النطق‪ ،‬فن القول اجليد‬
‫والفصاحة)" ‪ 2.‬وأيضا الربط بني املعرفة والكالم أي السهولة يف النطق والفصاحة‪.‬‬
‫ج‪ -‬ضرورة معرفة عامل الطفل‪ ،‬ألنه مثة عيب أشد خطورة هو أن القرن الثامن عشر مل يكن يعرف ما‬
‫هو الطفل وما ميكن أن نسميه اإلحساس ابلطفل"‪ .‬فقد كانت تطبق مناهج غري سليمة وصحيحة آنذاك على‬
‫الطفل قائمة على احلفظ واإلمالء والتلقني‪.‬‬
‫د‪ -‬ضرورة اجلدية يف العمل والتعليم‪" .‬فيجب أن يكون اإلنسان مشغوال حبيث يتشبع ابهلدف الذي‬
‫ينشده‪ ،‬فال حيس بذاته وتكون أفضل راحة ابلنسبة إليه هي الراحة اليت أتيت بعد العمل‪ ...‬البد للطفل من أن‬
‫يتعود أن يعمل"‪ 3.‬فيدعوا كانط إىل التعامل ا جلدي مع احلياة املدرسية وإشعار املتعلمني كوهنم يعملون دون‬
‫إكراه أو قسوة ويسعون بواسطة الرتبية إىل حتقيق اهلدف املنشود يف حياهتم‪ ،‬وأن حبهم للعمل ليس ميال بل‬
‫واجب‪ ،‬ويؤمن "كانط" ابللعب ويعترب ه ضروري للطفل لكن "إنه لفي منتهى السوء أن نعود الطفل على‬
‫‪4‬‬
‫اعتبار كل شيء لعبا‪،‬فال بد له من وقت للراحة‪ ،‬ولكن البد له أيضا من وقت يعمل فيه"‪.‬‬
‫وعليه فكانط حيث على إتباع منهج أيخذ بعني االعتبار قدرات الطفل يف كل مرحلة‪ ،‬ويف نفس‬
‫الوقت يراعي تنمية القدرات الذهنية والعقلية اليت سيتمكن هبا الطفل من التعامل مع خمتلف اإلشكاليات وأن‬
‫يستوعب خمتلف القضااي اليت ستطرح أمامه مستقبال‪ ،‬وهذه املهمة التعليمية ال تنحصر فقط يف اللحظة اليت‬
‫خيضع فيها الطفل للتعليم وإمنا ابنتهاج طرق ترسخ املعرفة العقلية لدى الطفل‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.64‬‬

‫‪ 2‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.51‬‬

‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.48‬‬

‫‪ 4‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسس التربية عند كانط‬

‫خالصة الفصل‪:‬‬

‫اهتم كانط ابلرتبية اهتماما كبريا‪ ،‬ومل يكن هذا االهتمام اهتمام رجل فكر منظر وفقط‪ ،‬بل هو اهتمام‬
‫ممارس للرتبية‪ ،‬إذ زاول مهنة املعلم واملريب اخلاص يف البيوت ملدة ‪ 9‬سنوات (‪ )1755-1746‬يف هذه الفرتة‬
‫ابلذات استطاع أن يبلور رؤية نقدية ملا كانت تشهده أملانيا يف القرن ‪ 18‬من أشكال الرتبية السائدة يف‬
‫الوسط األسري وداخل املؤسسات التعليمية والدينية والحظ أهنا هتدد مستقبل "اإلنسانية وأن للرتبية دور‬
‫أساسي يف تنشئة األجيال‪.‬‬

‫وتطرقنا يف هذا الفصل إىل املنطلقات النقدية للرتبية عند كانط‪ ،‬وقف "كانط" على ما كان حاصل‬
‫يف أملانيا خالل القرن ‪ 18‬وذلك من خالل مزاولته للتعليم هذا األخري أعطى لكانط رؤية نقدية اثقبة جعلته‬
‫يقف على خمتلف جوانب الرتبية وينتقدها‪.‬‬

‫ونص "أتمالت يف الرتبية" نص نقداي ابمتياز ينضاف إىل املشروع النقدي الذي أرساه كانط يف‬
‫أعماله الثالث (نقد العقل اخلالص‪ ،‬نقد العقل العملي‪ ،‬نقد ملكة احلكم)‪ ،‬فالوضع الذي عاشه "كانط" يف‬
‫أملانيا دفع به إىل الوقوف على هذه النقاط ونقده‪.‬‬

‫وعليه فالرتبية خاصية إنسانية‪ ،‬ففي صلبها يكمن كمال البشرية ورقيها وتطورها‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ‬
‫ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻋﻨﺪ‬
‫ﻛﺎﻧﻂ‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫متهيد‪:‬‬

‫حتتل الرتبية عند "كانط" مكاان هاما يف حياة اإلنسان وهذا راجع للدور الذي تلعبه الرتبية يف نفس‬
‫اإلنسان عامة والطفل خاصة وهذا ما سيبينه "كانط" من خالل األفكار اليت طرحها‪.‬‬

‫املبحث األول‪ :‬أهداف الرتبية عند كانط‪:‬‬

‫لقد اعرتف كانط أبن الرتبية اليت كانت سائدة يف عصره ال متكن اإلنسان من بلوغ الغاية من‬
‫وجوده‪ 1،‬لذلك وجب علينا أن نعمل على صياغة خمطط لرتبية جديدة تكون متوافقة مع غاية اإلنسان‪ ،‬وهي‬
‫الغاية اليت تتمثل يف الكمال األخالقي‪.‬‬

‫وقد وضع "كانط" هلذه الرتبية اجلديدة أهداف أساسية‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫أ‪-‬االنضباط‪:‬‬

‫واالنضباط يعين السعي إىل احليلولة دون أن تؤدي احليوانية إىل فقدان اإلنسانية‪ ،‬سواء يف اإلنسان‬
‫اخلاص أو يف اإلنسان االجتماعي؛ فاالنضباط ال يتمثل إىل يف ترويض التوحش"‪ 2.‬فاالنضباط مرحلة أساسية‬
‫يف عملية الرتبية إذ يقوم بوقاية اإلنسان من االعزاف عن غاايته وذلك نتيجة الغريزة احليوانية والنواع‪..‬‬

‫وكلمة "ترويض" يف نظر "كانط" هو شرط سليب‪ ،‬ألنه يعمل على حترير اإلرادة من طغيان الشهوات‬
‫اليت بفعلها نصبح عاجزين عن أن خنتار أبنفسنا إذا ما تعلقنا ببعض األشياء الطبيعية‪ ،‬ألننا عندئذ نتيح لتلك‬
‫‪3‬‬
‫الغرائز أبن تتحول إىل قيود‪.‬‬

‫لذلك فإن فقدان االنضباط هو أمر أشد خطورة يف نظر كانط من فقدان الثقافة‪ ،‬ألن فقدان الثقافة‬
‫ميكن تداركها يف املستقبل‪ ،‬بينما االنضباط يصعب معاجلته خاصة إذا جتاوع اإلنسان مرحلة الطفولة ألنه يبدأ‬
‫يف سن مبكرة‪.‬‬

‫‪ 1‬كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.15‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬صفحة نفسها‪.‬‬

‫‪ 3‬إميانويل كانط‪ :‬نقد ملكة احلكم؛ ترمجة غامن هنا‪ ،‬بريوت‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.393‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫ب‪-‬الثقافة‪:‬‬

‫االنضباط ما هو إىل مرحلة أولية‪ ،‬وال ميكن لإلنسان أن يقف عند حدود هذه املرحلة‪ ،‬بل عليه أن‬
‫يكون مثقفا‪ ،‬وهذا التثقيف ال يكون إال ابلتعليم وخمتلف مواد التدريس‪ ،‬وهذا يزود املرء ابملهارة‪ ،‬هذه األخرية‬
‫هي "اكتساب مكانة كافية لكل األغراض اليت ميكن أن يستهدفها اإلنسان‪ ،‬إهنا ال حتدد إذن غرضا بعينه‪ ،‬بل‬
‫ترتك ذلك للظروف"‪ 1.‬أي امتالك املرء القدرة الكافية لكل األغراض اليت يسعى إليها اإلنسان‪ ،‬فهي ال حتدد‬
‫بذاهتا أي غاية‪ ،‬بل ترتك تلك الغاايت للظروف‪.‬‬

‫ففي – نظر كانط للمهارة شكلني‪ ،‬مهارة دائما حسنة مثل القراءة والكتابة‪ ،‬ومهارة ليست حسنة إال‬
‫ألجل غاايت معينة مثل املوسيقى‪ ،‬وعليه فاملهارة ليست متشاهبة وحمدودة نتيجة كثرة األغراض‪.‬‬

‫ج‪-‬حتصيل احليطة‪:‬‬

‫حيرص كانط على "أن يصبح اإلنسان متصفا ابحليطة‪ ،‬وأن يتكيف مع اجملتمع اإلنساين‪ ،‬وأن يكون‬
‫‪2‬‬
‫حمبواب‪ ،‬وأن يكون له أتثري‪ ،‬وهذا يعود إىل شكل معني من الثقافة يسمى حضارة‪.‬‬

‫"فالبد أيضا من العمل على أن يصري اإلنسان فطنا فيتكيف مع اجملتمع اإلنساين‪ ،‬ويصري حمبواب‪،‬‬
‫ويكون صاحب نفوذ‪ ،‬وهذه الصفة تسبب إىل نو‪ .‬من التحضر يسمى املدنية‪ ،‬وتقتضي آدااب يف السلوك‬
‫ونوعا من الفطنة‪ ،‬من شأهنا أن تؤدي إىل أن يكون اإلنسان قادرا على االستفادة من كل الناس لتحقيق‬
‫أغراض جوهرية‪ ،‬وتتكيف الفطنة مع الذوق املتغري لكل عصر"‪ 3.‬مما جيعله اإلنسان فطنا ومتكيفا مع اجملتمع‪،‬‬
‫وينشئ عالقات اجتماعية وودية مع الغري‪ ،‬وهذا بدوره يكسبه قوة التأثري فيهم‪ ،‬وهذا ما يتطلب آدااب يف‬
‫التعامل وهتذيبا يف السلوك ونوعا من احليطة أو الفطنة من شأهنا أن متكن املرء من استعمال كل الناس لغاايته‬
‫األساسية‪ ،‬كما تتكيف هذه الفطنة حبسب الذوق املتغري يف كل عصر‪.‬‬

‫فاحليطة تقوم على "فن تطبيق مهارتنا على اإلنسان‪ ،‬أي معرفة استعمال البشر لغاايتنا اخلاصة"‪،‬‬
‫فاحليطة هي ما يكتسبه اإلنسان من مهارات وصفات جتعله يف تواصل مع غريه‪ ،‬وهذا ال يتحقق دون "ثقافة‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.126‬‬

‫‪ 2‬كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.22‬‬

‫‪ 3‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.126‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫ذوقية وتواصلية رفعية تستجيب ملعيار فالسفة القرن ‪ 18‬كما أمسوه احلضارة أو التمدن"‪ 1.‬فاكتساب ثقافة‬
‫احليطة تكسب املرء صفة املواطنة عندئذ يكتب هبذه الثقافة قيمة عامة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫كما حيدد كانط ميزات لكي يستطيع الطفل أن يركن إىل احليطة أمهها‪:‬‬

‫‪-‬ينبغي أن يعرف كيف يصري كتوما وعصيا على الفهم‪.‬‬

‫‪-‬يف املقابل ميتلك القدرة على النفاذ إىل نفوس اآلخرين‪.‬‬

‫‪-‬أن ال يكون املرء مفرط االندفا‪..‬‬

‫‪-‬جتنب الفتور املفرط‪.‬‬

‫‪-‬أن يكون نشيطا وغري حاد املزاج‪.‬‬

‫فاحليطة تفرتض املهارة‪ ،‬واحليطة هي القدرة اليت تقوم على معرفة استعمال املرء ملهاراته ابلنظر إىل‬
‫اإلنسان‪ ،‬وفيما يتعلق ابحليطة واملهارة البد من مراعاة سن الطفل يقول كانط "إذا كان املرء أثناء طفولته‬
‫ماهرا‪ ،‬حمتاطا‪ ،‬مستقيما بال مكر مثل اإلنسان الراشد‪ ،‬فهذا يكاد ال يكون أفضل من أن حيتفظ املرء حبساسية‬
‫‪3‬‬
‫طفيلية يف سن النضج"‪.‬‬

‫د‪-‬التنشئة اخللقية‪:‬‬

‫كما حيرص أيضا كانط على التكوين األخالقي لإلنسان "فينبغي أن ال يكون اإلنسان مؤهال لشىت‬
‫أنوا‪ .‬الغاايت فحسب‪ ،‬بل ينبغي أيضا أن يكتسب إحساسا جيعله ال خيتار إال الغاايت احلسنة"‪ ،‬ففي نظر‬
‫كانط على اإلنسان السعي إىل غاايت كلية وضرورية يف الوقت نفسه‪ .‬ألهنا الغاايت اليت يتبناها ابلضرورة كل‬
‫شخص وميكن أن تكون يف الوقت ذاته غاايت كل إنسان"‪ .‬أنه ال ينبغي فقط أن يكون اإلنسان مهيئا بكل‬
‫أنوا‪ .‬األغراض جيب عليه أيضا أن يكتسب امليل إىل اختيار األغراض الطيبة دون غريها‪ ،‬والغاايت الطبيعية‬

‫‪ 1‬عبد احلق منصف‪ :‬األنوار وسلطة اجلنري البيداغوجي‪ ،‬املغرب‪ ،2011 ،‬ص‪.154‬‬

‫‪ 2‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.66‬‬

‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫هي تلك اليت ميدحها الكل ويف نفس الوقت ميكن أن تكون غاايت كل أحد"‪ 1.‬واعترب كانط هذا اهلدف هو‬
‫اهلدف احلقيقي واألمسى للرتبية ألهنا تنسجم مع غاية اإلنسان‪.‬‬

‫فالرتبية إن حققت أغراضها ينبغي أن يصري اإلنسان مهذاب ومثقفا ويف الوقت ذاته ماهرا كل هذا‬
‫جيعله يكتسب خلق حسن‪.‬‬

‫وكخطاطة جململ األهداف اليت تسعى إليها الرتبية –حسب كانط‪ -‬كما مت ذكرها فيما يلي‪:‬‬

‫األخالق‬ ‫حتصيل احليطة‬ ‫الثقافة‬ ‫االنضباط‬

‫(احلضارة)‬

‫احلرص على التنشئة‬ ‫على اإلنسان أن يكون‬ ‫على اإلنسان أن يكون‬ ‫على اإلنسان أن يكون‬
‫اخللقية حبيث يكتب‬ ‫متحضرا أو ذلك‬ ‫منضبطا وذلك من خالل مثقفا والثقافة تشمل‬
‫اإلنسان إحساسا جيعله‬ ‫ابمتالكه القدرة على‬ ‫التعليم وتلقني املهارات‬ ‫السعي إىل احليلولة دون‬
‫ال خيتار إال الغاايت‬ ‫التكيف مع حميطه‬ ‫وتنمية استعدادات‬ ‫أن تؤدي احليوانية إىل‬
‫احلسنة وميكن أن تكون‬ ‫وابتصافه ابحليطة يف‬ ‫اإلنسان لبلوغ خمتلف‬ ‫فقدان اإلنسانية‬
‫يف الوقت ذاته غاايت‬ ‫التعامل مع اآلخرين‪،‬‬ ‫الغاايت (القراءة‪،‬‬ ‫فاالنضباط ال يتمثل إال‬
‫كل إنسان‪.‬‬ ‫حبيث يكون حمبواب‬ ‫الكتابة‪)...‬‬ ‫يف ترويض التوحش‪.‬‬
‫وحمرتما وسلوكه ينم عن‬
‫تربية آلية سالبة تقوم على تربية موجبة أخالقية تقوم‬
‫التهذيب وحسن اخللق‪.‬‬
‫على االكتساب والتلقني‬ ‫املنع والضبط‪.‬‬
‫والتوجيه‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.126‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫الطفل ورهاانت الرتبية‪:‬‬

‫إن أول ما يراهن عليه كانط يف مشروعه للرتبية هو جتريد اإلنسان من حيوانيته وجتنيبه االنغماس يف‬
‫الوحشية ألن "اإلنسان فيما بعد قد أصبح متوحشا من جديد وتردى اثنية يف الرببرية"‪ 1.‬والتوحش هو‬
‫االستقالل عن القوانني‪ ،‬ويرى "كانط" أنه الميكن بلوغ هذا اهلدف بعيدا عن التوحش واحليوانية إال ابلقسر‪،‬‬
‫لذلك تكون أول مراحل الرتبية لدى اإلنسان هي مرحلة تلقني الطفل "االنضباط" ألن مهمة االنضباط‬
‫حسب "كانط" هو إخضا‪ .‬اإلنسان لقوانني اإلنسانية ويبدأ إشعاره بقسر القوانني ‪ ،‬وهي مرحلة ذات طبيعة‬
‫سالبة إذ تقوم على املنع والضبط‪.‬‬

‫ويف املقابل يرى كانط أن االنضباط رهني بتعويد الطفل يف سن مبكرة على االمتثال للقوانني‬
‫والضوابط االجتماعية واألخالقية الكفيلة بتأطري حياة الفرد احلضارية واملنسجمة مع غاايت الفضيلة اإلنسانية‪،‬‬
‫لكن هذه اخلطوة تشوهبا بعض الصعوابت واملفارقات واليت يثريها "كانط" نفسه عندما يستذكر أن اإلنسان‬
‫ينز‪ .‬حنو احلرية بطبعه وبذلك يكون متمردا على كل أشكال الضبط والقسر‪ ،‬وهو مستعد للتضحية من أجل‬
‫حريته يقول "أن اإلنسان بطبعه نزوعا شديدا إىل احلرية حبيث يضحي من أجلها بكل شيء إن بدأ يتعود‬
‫عليها بعض الوقت لذا جيب اللجوء يف وقت مبكر جدا إىل االنضباط‪ ،‬ألنه إذا مل يكن األمر كذلك يصعب‬
‫جدا فيما بعد تغيري اإلنسان"‪ 2.‬وعليه يكون من واجب املربني واآلابء الوقوف على تلقني "االنضباط"‬
‫ألطفاهلم وتعويدهم عليه منذ نعومة أظافرهم وإال فسيخرجون عن السيطرة وينزعون حنو الفوضى والتمرد‬
‫والوحشية مع تبيان للطفل أن القسر والضبط الذي خيضع له هو ملصلحته ومن أجل غاية فاضلة تكمن يف‬
‫تلقينه كيفية استعمال حريته مستقبال وتنمية استعداداته األخالقية‪.‬‬

‫كما يشري كانط إىل أنه ال ميكن تدارك الرتبية لدى الشعوب اليت مل تتعود االنضباط (املتوحشة) مؤكدا‬
‫أن االنضباط بوصفه إتبا‪ .‬نظام معني‪ ،‬هو الذي حيول الكائن البشري من مرتبة احليوانية إىل مرتبة اإلنسانية‪،‬‬
‫ومن وضع التوحش واهلمجية إىل وضع التمدن والتحضر وعليه فالرتبية هي ميزة الشعوب املثقفة واملتحضرة‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬ثالث نصوص‪ ،‬ص‪.12‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.12‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫يقول "كانط" "فمن مل يثقف يظل فظا‪ ،‬ومن مل يتعلم االنضباط يظل متوحشا‪ ،‬وغياب االنضباط إمنا هو شر‬
‫‪1‬‬
‫أعظم بكثري من غياب الثقافة‪ ،‬ألن هذا األخري ميكن تداركه فيما بعد‪ ،‬أما التوحش فلن نستطيع استبعاده"‪.‬‬

‫ومن الرهاانت اليت يضعها أيضا "كانط" هو تقدم اإلنسانية ورقيها حنو الكمال‪ ،‬ويف هذا الصدد‬
‫يضع "كانط" يف مسؤولية كل األجيال تلقني الرتبية للجيل الذي قبله على أحسن وجه ألنه "بوسع كل جيل‬
‫أن خيطو بدوره خطوة أكثر حنو اكتمال اإلنسانية‪ ،‬إذ يكمن يف صلب الرتبية السر الكبري لكمال الطبيعة‬
‫البشرية"‪ 2.‬وهكذا سيكون بوسع كل جيل‪ ،‬أن يكون أحسن من اجليل األول‪ ،‬وذلك خبطوة أكرب تقدما‪ ،‬لذا‬
‫فالكفيل برتبية الناس هم أانس تلقوا الرتبية من قبل‪ ،‬وليس األمر كما كان من قبل أقصد العصر الذي عاشه‬
‫"كانط" آنذاك يف أملانيا يف جانب التعليم فكل من حيمل شهادة الالهوت ابستطاعته أن يعلم‪ .‬وهبذه الطريقة‬
‫حسب "كانط" يفتح لنا أفقا على نو‪ .‬بشري مقبل يكون أكثر سعادة‪ .‬ولعل هذه الفكرة هي ما سيجعل‬
‫تصور "كانط" للرتبية تصورا يتجاوع الطروحات التقليدية للفعل الرتبوي مبا فيها تصور "جون جاك روسو"‬
‫(إميل) ألنه ال يعدو أن يكون إال تصورا براغماتيا يعترب الرتبية جمرد تكيف مع العصر وتكوين أانس يسايرون‬
‫شروط الراهنة وهذه نظرة حمدودة للرتبية حسب "كانط"‪.‬‬

‫كما ال ميكن أن يتأتى مشرو‪ .‬الرتبية الذي غايته كمال اإلنسانية إال "ابلعمل على توريث األجيال‬
‫القادمة تعليمات تستطيع حتقيقها ابلتدريج"‪ 3.‬وهذا من أجل الوصول حنو الكمال اإلنساين‪.‬‬

‫وبناء عليه ال ميكن للرتبية أن تتقدم إال خطوة خطوة‪ ،‬كما ال ميكن أن يرسى مفهوم دقيق لبنية الرتبية‬
‫إال ألن جيال قد ورث اجليل املوايل جتاربه ومعارفه وأن هذا األخري أضاف إليها بدوره بعض الشيء وورثها‬
‫اجليل الذي أييت بعده مزيدا على هذا النحو وهكذا‪.‬‬

‫ومن هنا يرى كانط أن الرتبية احلقة هي اليت تتوجه خلدمة غاية الكمال "اإلنساين‪ ،‬وهو ما جيعل‬
‫"أتمالت يف "الرتبية" لبنة من لبنات بناء املشرو‪ .‬األنواري وكذلك مشرو‪ .‬السلم الدائم الذي ال ميكن حتقيقه‬
‫إال بتكوين إنسان مستنري حبق‪ ،‬ومن هذا املنطلق الرتبية عند "كانط" اليت هي يف خدمة النزعة اإلنسانية ال‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.15‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫تنفصل عن فلسفته األخالقية فـ "جيب على اإلنسان أوال تنمية استعداداته إىل اخلري‪ ،‬فلم تضعها العناية اإلهلية‬
‫فيه مكتملة كلها‪ ،‬وإمنا هي جمرد استعدادات تفتقر إىل العالمة املميزة للخلقية"‪ 1.‬فاإلنسان يولد وهو يف حالة‬
‫خام كما قال "كانط" وأن تلك االستعدادات اليت يولد اإلنسان مزود هبا تتشكل من خالل الصورة‬
‫األخالقية‪ ،‬فاإلنسان يف نظر ال يولد خري وال شريرا‪ ،‬لكن الرتبية هي املسؤولة عن توجيهه حنو اخلري أو الشر‪.‬‬

‫لذلك‪ ،‬يدعو "كانط" إىل أتسيس "علم الرتبية" (البيداغوجيا قائم على النظر والتفكري لتطوير‬
‫االستعدادات اإلنسانية اجتاه الكمال) إذن "البد لفن الرتبية‪ ،‬أو البيداغوجيا‪ ،‬من أن يصبح قائما على النظر‬
‫والتفكري (أو الروية)‪ ،‬إذا أراد تنمية الطبيعة اإلنسانية حبيث تبلغ غايتها"‪ 2.‬فعل سبيل املثال الوالدان اللذان قد‬
‫ربيا‪ ،‬ميثالن قدوة يتكون األطفال وفقها ويهتدون هبا‪ ،‬ولكن إذا أريد هلؤالء األطفال أن يصبحوا أفضل من‬
‫احلالة الراهنة‪ ،‬جيب أن تصبح البيداغوجيا دراسة أو حبثا‪ ،‬ألنه خبالف ذلك ينبغي أن ال ينتظر منها شيء‪.‬‬
‫والبيداغوجيا هبذا املعىن جيب أن توجه خمطط للرتبية يتخذ بعدا كونيا وعامليا‪ ،‬ومبىن على أساسني‪:‬‬

‫‪-‬آيل سالب‪ :‬وهو املتمثل يف "الضبط" وذلك بتلقني الطفل االنضباط واالمتثال للمبادئ والقوانني‬
‫بشكل مباشر وآيل‪ ،‬وتقوم بواسطته املنع وجتنيب الطفل من السقوط يف األخطاء والنزوات؛ أي جتنيبه النزو‪.‬‬
‫حنو الوحشية وهو ما ميثل أول مراحل الرتبية‪.‬‬

‫ويعطي "كانط" كمثال عل ى ذلك‪ ،‬فأخذ الطفل إىل املدرسة يف السنة األوىل ال يكون بغرض تلقينه‬
‫املعارف‪ ،‬ولكن الغرض منه هو تعويده اجللوس واالنضباط داخل القسم واالمتثال لألستاذ‪ ،‬وهي خطوة آلية‬
‫سالبة‪ ،‬هتيء الطفل للمرحلة التالية املوجبة (التلقني والتعليم)‪.‬‬

‫‪-‬أخالقي موجب‪ :‬وهي موجبة لكوهنا املرحلة اليت أييت فيها دور تعليم الطفل وتلقينه املهارات وتنمية‬
‫االستعدادات (القراءة‪ ،‬الكتابة‪ ،‬املوسيقى) وتلقني املبادئ األخالقية‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.18‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫املبحث الثاين‪ :‬وسائل الرتبية‪.‬‬

‫تعترب الرسائل من أهم عناصر العملية الرتبوية‪ ،‬واليت ال ميكن ألي عملية تربوية أن تقوم من دوهنا‪ ،‬ألنه‬
‫بوجودها حتقق الغاايت واألهداف الرتبوية‪ ،‬وهذا ما سيثبته كانط‪.‬‬

‫‪-1‬العقوبة‪:‬‬

‫تعترب وسيلة العقوبة من بني الوسائل املتداولة عند العديد من املربني أو املدرسني "وكانط" واحد من‬
‫بني املدرسني الذي كانت له وجهة نظر حول العقوبة‪.‬‬

‫ومسألة العقوبة هل ا أنظار خمتلفة‪ ،‬فهناك من يرى أن استعمال العقوبة على الطفل تلحق أضارا على‬
‫الصفات لذا رفضوها‪ ،‬يف املقابل هناك من اندى هبا وضرورة وجودها يف العمل الرتبوي‪.‬‬

‫يعتقد "كانط" أن الطاعة ابلنسبة للطفل ضرورية قبل كل شيء لطبعه والسيما التالميذ ومسألة‬
‫أساسية يف جناح العمل الرتبوي‪ ،‬لكن "كانط" ميز بني نوعني من الطاعة؛ طاعة مطلقة مبعىن إطاعة القوانني‬
‫سواء داخل املدرسة أو يف أي مؤسسة أو دولة وهي انجتة عن اإلكراه‪ ،‬وطاعة إرادية مبعىن طاعة ال ختضع‬
‫لاللتزام بل تكون اتبعة من إرادة اإلنسان‪ ،‬وقد اعرتف "كانط" أبهنا طاعة متعقلة وطيبة فهي انمجة عن الثقة‬
‫فإذا كانت الطاعة اإلرادية مهمة جدا‪ ،‬فإن الطاعة املطلقة ضرورية للعمل‪ ،‬فهي تعد الطفل لاللتزام ابلقوانني‬
‫اليت ينبغي أن ميتثل هلا فيما بعد فباعتباره مواطنا حىت وإن مل تنل رضاه‪.‬‬

‫ومنه جيب وضع قانون إلزامي كلي يف العمل الرتبوي خيضع له مجيع األطفال دون تفضيل طفل‪ ،‬على‬
‫آخر‪ ،‬وحيث كانط على االنتباه هلذا اجلانب خاصة يف املدارس ألنه هبذا القانون سيصبح الطفل مدعاة للتمرد‪.‬‬

‫من اجلديد أن يتصرف األطفال حسب الرغبة‪ ،‬لكن البد من إلزامهم أبمور كثرية ابعتبارها واجبا ألنه‬
‫أمر مقيد طوال حياته‪ ،‬وخمالفة هذه األوامر واخلروج عن الطاعة أمر يستدعي العقاب‪ ،‬نفهم من هذا على أن‬
‫العقوبة عند كانط هي جزءا على عدم االنضباط أو انعدام الطاعة من طرف الطفل أو التلميذ‪.‬‬

‫والعقوبة عند "كانط" نوعني إما عقاب مادي وإما معنوي‪ ،‬وتكون العقوبة معنوية مثال عندما نشعر‬
‫الطفل ابخلزي أو تعامله بربودة واعدراء واحتقار عندما يسيء التصرف‪ ،‬واهلدف من هذا هو إشعاره بسوء ما‬
‫أقدم عليه‪ ،‬وهذا النمط من العقاب هو املفضل لدى "كانط" ألنه مساعد على اخللقية‪ ،‬وعلى سبيل املثال‬
‫عندما يكذب الطفل‪ ،‬فتكون نظرة احتقار عقوبة كافية ومناسبة‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫أما العقاب املادي ويتمثل هذا األ خري إما يف رفض ما يرغب فيه الطفل وهي عملية سالبة أو بتطبيق‬
‫اجلزاء‪ ،‬لكن جيب احلذر منها لكون هذه الطريقة ميكن أن تسبب احلتو‪ .‬لدى الطفل‪ ،‬وليس من احلسن –‬
‫حسب "كانط"‪ -‬أن نعطي األطفال مكافآت ألهنم يصريون بذلك ذوي أغراض أاننية ونفسية وينسجم عن‬
‫‪1‬‬
‫هذا االستعداد االرتزاق واالستئجار‪.‬‬

‫ويشري "كانط" أنه ال جيب مصاحبة العقوبة مبالمح الغضب "إن عقوابت تسلط مصحوبة بعالمات‬
‫الغضب هلا أثر مغلوط"‪ 2.‬ألن األطفال عندئذ ينضرون إليها على أهنا فقط انمجة عن انفعال شخصي أو أهنم‬
‫مستهدفون و حاقدين عليهم‪ ،‬كما أن العقوبة ال جيب أن تكون اجتاه األطفال بشكل متواتر‪ ،‬ألنه عندما‬
‫تصبح مألوفة فتولد لديهم طباعا عنيدة فـ "جيب إنزال العقوابت على األطفال ابحتياط‪ ،‬وعلى حنو يرون معه‬
‫أن الغرض منها هو إصالحهم فقط‪ ،‬وإرغام األطفال حني يعاقبون على أن يشكروا‪ ،‬أو يقبلوا اليد‪ ...‬هو أمر‬
‫‪3‬‬
‫أمحق وجيعل األطفال خائفني"‪.‬‬

‫إن العقاب هو نتيجة لعدم الطاعة هلذا مييز كانط بني طاعة املراهق وطاعة الطفل‪ ،‬فطاعة البالغ تقوم‬
‫يف االمتثال لقواعد الواجب‪ ،‬وأن يفعل الواجب معناه يطيع العقل‪ ،‬لكن من املضيعة للوقت احلديث أو الكالم‬
‫عن الواجب مع األطفال‪ ،‬فهم يف النهاية يتصورون الواجب على أنه شيء يؤدي عدم أدائه إىل الضرب‬
‫ابلعصا‪ ،‬والطفل ميكن أن ينقاد ابلغرائز وحدها لكن ينبغي أال نستعمل الشعور ابلعار مع األطفال‪ ،‬بل يكون‬
‫ذلك يف مرحلة البلوغ فقط‪ ،‬ألنه ال حمل له إال بعد أن تكون فكرة الشرف قد ضربت جبذورها يف نفسه‪ .‬إذن‬
‫جيب مراعاة سن الطفل أثناء توخيه العقاب‪.‬‬

‫ومييز "كانط" متييزا آخر ألنوا‪ .‬العقوابت‪ ،‬عقوبة طبيعية وأخرى اصطناعية‪ ،‬الطبيعية هي اليت جيلبها‬
‫اإلنسان لنفسه بتصرفاته كما هو احلال مع الطفل الذي يشبع شبعا مفرطا فيصبح مريضا كالذي أيكل أكال‬
‫مفرطا فيمرض نتيجة لذلك‪ ،‬وهذا النو‪ .‬من العقوابت هي األفضل يف نظر "كانط" ألهنا ترتك فيها أثرا طوال‬
‫حياته‪ ،‬أما العقوبة االصطناعية فهي تشمل العقوابت املادية واملعنوية‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.61‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬

‫‪ 3‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كانط‪ ،‬ص‪.146‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫كما جيب أن تكون العقوابت املادية مكملة فقط للعقوابت العمومية من حيث ما يعوعها وحني ال‬
‫تكون كافية وافية ابلغرض‪ ،‬وإذا مل تقدم العقوابت املعنوية أي عون بل ينبغي االنتهاء إىل العقوبة املادية فلن‬
‫يصبح بعد تكوين أخالق حسنة بفضل هذه العقوابت املادية‪.‬‬

‫‪-2‬الرتبية العمومية والرتبية اخلاصة‪:‬‬

‫ميز "كانط" بني نوعني من الرتبية‪ ،‬األوىل هي الرتبية اخلاصة مهمتها التمرس على املبادئ األخالقية‪،‬‬
‫ويقرتح "كانط" أبن تتكفل هذه الرتبية هي األسرة‪ ،‬أو أن تكفل هبا أشخاص مأجورين إن كان األبوان ال‬
‫جيدان وقتا للقيام هبذه املهمة‪ ،‬أما الثانية وهي الرتبية العمومية واليت تتم يف املدارس وتشمل التدريس املعاريف‬
‫والتلقني الثقايف واألخالقي‪ ،‬ومها مهمتني موكلتني للمعاهد الرتبوية ومنها العمومية لكوهنا أكثر نفعا من حيث‬
‫االنضباط واحرتام املناهج الرتبوية املسطرة إال أن هذه املعاهد تكون عدد تالمذهتا حمدود وهي قليلة لكوهنا‬
‫مكلفة جدا يف إحداثها‪.‬‬

‫يؤكد "كانط" أبن الرتبية اخلاصة موكولة إىل األولياء أو أشخاص مأجورين كما قلنا سابقا‪ ،‬إال أن‬
‫هناك صعوبة خاصة يف الرتبية اليت يوجهها املساعدين‪ ،‬وتكمن يف الرتبية اليت يقدمها األولياء من جهة والرتبية‬
‫اليت يوجهها املساعدين‪ ،‬يف هذه احلالة يف –نظر كانط‪ -‬اليت يكون فيها الطفل ملزما أبن يتصرف وفق مبادئ‬
‫املعلم اخلاص‪ ،‬ويتبع أيضا نزوات األولياء‪ ،‬ففي مثل هذه الرتبية يرى "كانط" "من الضروري أن يتناعل األولياء‬
‫‪1‬‬
‫عن سلطتهم كلها لفائدة املريب"‪.‬‬

‫إن اهلدف من معاهد عمومية هو حتسني الرتبية األسرية‪ ،‬لكن إذا كان األولياء أو من يقدم املساعدة‬
‫يف الرتبية قد ربوا جيدا إذن أمكن جتنب نفقات املعاهد العمومية ألنه "من الصعب أن يتمكن غري أطفال‬
‫‪2‬‬
‫األغنياء من االنتفا‪ .‬مبثل هذه املعاهد"‪.‬‬

‫لكن كانط يفضل الرتبية العمومية على الرتبية اخلاصة ليس فقط من حيث املهارة بل أيضا من حيث‬
‫تكوين مواطنني "فالرتبية العمومية تعطي أفضل منوذج للمواطن يف املستقبل" ألهنا تتوفر على مزااي ألن "فيها‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.26‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.26-25‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫يتعلم املرء أن خيترب قواه‪ ،‬كما يتعلم التحديد الناتج عن حق الغري‪ ،‬وال تتمتع فيها أبي امتياع ألنه يلقي فيها‬
‫‪1‬‬
‫مقاومة حيثما كان‪ ،‬وال يصبح فيها ذا خطوة إال حبسب جدارته"‪.‬‬

‫لذلك يركز "كانط" على الثقافة املدرسية أو التعليم والتكوين املدرسي‪ ،‬ألنه يرى فيهما أفضل الطرق‬
‫الكتساب املهارة واحليطة وبلوغ الرشد والنضج وذلك مبعرفة اختيار الوسائل وحتديد األهداف والوعي ابملقاصد‬
‫يقول "إن التكوين املدرسي هو الذي يتوفر يف أبكر وقت ويف املقام األول‪ 2. "...‬فالتعليم املدرسي هو الكفيل‬
‫بتنمية استعدادات الطفل ليعرف ذاته من جهة وليتمكن من التكيف مع حميطه ومن مث مسامهته يف الرقي‬
‫اإلنساين كمواطن على خالف روسو الذي يعترب املدرسة إفساد أخالق الطفل‪.‬‬

‫وعليه فالرتبية العمومية اليت متارس يف املدارس هي أفضل منوذج يعطي للتلميذ من أجل مستقبل أفضل‬
‫–حسب كانط‪ -‬أما الرتبية اخلاصة اليت متارس من قبل األولياء أو املساعدين فهي ال تكون مواطن أفضل‪ ،‬وال‬
‫يغرس فيه واجباته حنو اآلخر‪ ،‬لذلك فأطفال األمراء واألغنياء يظلون أطفاال طوال حياهتم‪ ،‬ألهنم تعودوا على‬
‫اإلتكالية فـ "ال شجرة املعزولة وسط احلقل تنمو منحنية ومتد أغصاهنا بعيدا؛ والشجرة وسط الغابة‪ ،‬يف املقابل‬
‫تنمو مستقيمة وتتجه إىل أعلى حنو ضوء الشمس"‪ 3.‬وعليه تعترب الرتبية العمومية أو املدرسة وسيلة مهمة يف –‬
‫نظر كانط‪ -‬يف العملية الرتبوية‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.28‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪ 3‬املصدال نفسه‪ ،‬ص‪.20‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫املبحث الثالث‪ :‬أنواع الرتبية‬

‫‪-‬الرتبية الفيزايئية‪.‬‬

‫‪-‬الرتبية العملية‪.‬‬

‫‪-1‬الرتبية الفيزايئية‪( :‬النظرية)‪:‬‬

‫اإلنسان طبيعته وحرية‪ ،‬والرتبية الفيزايئية هي تلك الرتبية اليت تتعلق بتنمية اجلانب الطبيعي يف‬
‫اإلنسان‪ ،‬أي تنمية قدراته واستعداداته‪ ،‬اجلسمية املتعلقة بقوى البدن وكذا العقلية املختصة بتنمية قدرات‬
‫الذهن املعرفية‪ ،‬ومها يف –نظر كانط‪ -‬تربيتان متواكبتان وغري منفصلتني‪.‬‬

‫أ‪-‬الرتبية اجلسمية‪:‬‬

‫إن هذا النو‪ .‬من الرتبية مشرتك بني اإلنسان واحليوان‪ ،‬ألنه يتعلق بنمو اجلسم من خالل ما تقدمه‬
‫املوضوعات أو األولياء من رعاية وتكون منذ والدة الطفل‪.‬‬

‫وتضم الرتبية اجلسمية –حسب كانط‪ -‬جانب سليب وآخر اجيايب‪.‬‬

‫‪-‬الرتبية اجلسمية السلبية‪:‬‬

‫يرى "كانط" أن الرتبية األوىل تكون سالبة أي "أنه ينبغي أن ال يضاف أي شيء إىل االحتياطات‬
‫اليت اختذهتا الطبيعة"‪ 1.‬هذا يعين أننا نرتك الطفل مثال ميشي بدال استعمال األدوات االصطناعية‪ ،‬فرتك له جمال‬
‫االختيار األسلوب املناسب بنفسه دون تدخل أي أسلوب آخر يف حياته غري الذي وهبته له الطبيعة‪.‬‬

‫لذلك يستبعد "كانط" القماط وينصح بدال منه بنو‪ .‬من الصندوق املزود بسيور من األعلى‪ ،‬فيبقى‬
‫الطفل دائما فيه حىت عند إرضاعه‪ .‬ألنه "كثريا من مواطن الضعف لدى اإلنسان ال تتأتى من أنه مل يتلق أي‬
‫تعليم‪ ،‬بل من أنه يقن انطباعات خاطئة"‪ 2.‬فعلى سبيل املثال املرضعات يرتكنا يف األطفال نو‪ .‬من اخلوف من‬
‫العناكب والضفاد‪ ،.‬وهذا اخلوف والسلوك الذي يظهرنه املرضعات من امشئزاع على مالمح وجوههن ما إن‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.33‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.40‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫يرين عنكبوات‪ ،‬فهذا يؤثر يف الطفل بنو‪ .‬من املشاركة الوجدانية‪ ،‬وكثري من األطفال حيتفظون هبذا اخلوف طوال‬
‫حياهتم ويضلون أطفاال‪.‬‬

‫هذه األجهزة االصطناعية من القماط واهلدهدة واستعمال العجالت أو املساكات يف –نظر كانط‪-‬‬
‫مجيعا جتلب ا لوابل بقدر ما تتعارض‪ ،‬والغاية اليت تسعى إليها الطبيعة يف كل كائن متعض وعاقل واليت‬
‫مبقتضاها البد من أن حيافظ على حرية التدرب على استعمال قواه‪.‬‬

‫وهبذه الطريقة يكون من األفضل جدا استعمال قلة من األدوات يف البداية وترك األطفال يتعلمون‬
‫املزيد أبنفسهم؛ وعندئذ يكون مبقدورهم تعلم الكثري من األشياء أبكثر ثبات‪ .‬ألن استعماله أثناء الرتبية‬
‫اجلسمية شيء خمالف ملا وهبته الطبيعة للطفل‪.‬‬

‫لذلك ينبغي أن نعود الطفل منذ صغره على احلرية وتعويده على أتجيل رغباته دون االنصيا‪ .‬إليه‬
‫كلما بكى ألنه هبذا االنصيا‪ .‬نفسد األطفال وإبمكانه احلصول على كل شيء وابلتايل حنقق رغباته وأهوائه‪،‬‬
‫ألنه هبذا نقتل اجلانب األخالقي يف الطفل وبطبيعة احلال "ال ميلك الطفل بعد أي مفهوم عن األخالق‪ ،‬لكننا‬
‫نفسد بذلك استعداداته الطبيعية حبيث يلزم مستقبال تسليط عقوابت صارمة جدا لنجعل اثنية من الطفل‬
‫الفاسد األخالق طفال مستقيما‪ ،‬وإذا أردان فيما بعد ختليص األطفال من عادة رؤية اآلخرين يسارعون دائما‬
‫‪1‬‬
‫لندائهم"‪.‬‬

‫كما حيرص "كانط" أن ال يكون االنضباط يف تكوين اجلسم نوعا من االستعباد والقضاء على احلرية‬
‫‪2‬‬
‫وإمنا "أن حيس الطفل على العكس إحساسا دائما حبريته‪ ،‬ولكن على حنو ال يعارض معه حرية الغري"‪.‬‬

‫وعليه جيب تنمية الشعور ابللذة واألمل بطريقة سالبة‪ ،‬دون أن يصبحوا مائعني‪ ،‬لذا البد من انتهاج‬
‫طريقة جتاه األطفال منذ حداثة سنهم "ينبغي انتهاج سلوك دون انقطا‪ ،.‬فتكون املقاومة اليت يعرتضها الطفل‬
‫‪3‬‬
‫يف هذه احلالة طبيعية متاما وال تعدوا أن تكون سالبة"‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.34‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.39‬‬

‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.58‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫فرتبية الشعور ابللذة واألمل جيب أن يكون عن طريق مقاومة طبيعية سالبة تعرتض لرغبات الطفل دون‬
‫أن تصا‪ .‬إليه ما أن يبكي فـ "ينبغي أن ال تكسر إرادة األطفال‪ ،‬بل أن توجه فحسب حبيث تنصا‪ .‬للعوائق‬
‫‪1‬‬
‫الطبيعية"‪.‬‬

‫‪-‬الرتبية اجلسمية االجيابية‪:‬‬

‫هذا اجلزء االجيايب من الرتبية اجلسمية للطفل يكمن يف الثقافة هذه األخرية خيتلف هبا اإلنسان عن‬
‫احليوان‪ ،‬وتتمثل يف ممارسة ملكاته الذهنية‪ ،‬وهذا اجلانب من الرتبية له دور فعال وأمهية كبرية‪ ،‬لذا على األولياء‬
‫أن يوفروا ألطفاهلم الظروف املواتية لذلك وتقوم الرتبية اجلسمية االجيابية على قاعدتني أساسيتني مها‪:‬‬

‫أ‪-‬ضرورة استبعاد كل األدوات قدر اإلمكان‪.‬‬

‫ب‪-‬أن يستعني الطفل دائما بنفسه‪.‬‬

‫فبالنسبة للقاعدة األوىل يلح كانط –كما رأينا‪ -‬على ضرورة استبعاد كل األدوات منذ البداية يف تربية‬
‫الطفل كاستعمال املساكات والعجالت الصغرية فنستبعدها ونرتك الطفل حيبو على األرض إىل أن يتعلم املشي‬
‫بنفسه أكثر وثوقا على غرار استعمال األدوات ألهنا تسبب تعطيل املهارات الطبيعية‪ ،‬وجتعله عبدا اتكاليا‬
‫يعتمد عليها دون إبدا‪..‬‬

‫ومنه ال جيب استبدال العني اجملردة لقياس امتداد ما خييط‪ ،‬كما ال ميكن استعمال ساعة لتحديد‬
‫الوقت‪ ،‬يف حني أنه ميكن نا اعتبار موقع الشمس حتديدا للوقت‪ ،‬أو أن نستعمل عورق للتنقل من املاء بدال من‬
‫السباحة‪ ،‬وعليه ينبغي تنمية املهارة الطبيعية ألهنا ترتك له اجملال أمام االبتكار أو حىت يكتشف هو بنفسه‬
‫األدوات‬

‫أما القاعدة الثانية فتتمثل يف ضرورة اعتماد الطفل على نفسه أثناء الرتبية اجلسمية سواء تعلق األمر‬
‫ابستعمال احلركة اإلرادية أو ابستعمال أعضاء احلواس‪ ،‬فيتطلب األمر يف احلركة اإلرادية القوة واملهارة والسرعة‬
‫والوثوق‪ ،‬مثلما كان احلال مع السويسريون الذين تعودوا على املشي يف اجلبال وعلى اجلسور الصغرية والقفز‬
‫فوق اهلاوايت بثقة كاملة ودون خوف‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.57‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫لذلك جيب ترك األطفال يتعودون على استعمال األطراف فهم دون خوف ودون استعمال أي أداة‪،‬‬
‫ألن الطبيعة هيأته لذلك‪ ،‬ألن األطفال ميتلكون وعان أقل من وعن الكهول‪ ،‬وعظامهم ليست صلبة وسريعة‬
‫االنكسار بنفس القدر اليت تصبح عليه بتقدم السن‪ ،‬فاألطفال أنفسهم خيتربون قواهم‪ ،‬نراهم مثال يتسلقون‪،‬‬
‫وأحياان يغدو فهو حركة صحية تقوي اجلسم والرمي وغريها من احلركات اليت خيترب فيها الطفل قواه‪.‬‬

‫كما حيبذ "كانط" كل األلعاب منها لعبة الغمامة (أو تعصيب العينني) والكرة واألرجوحة ولعبة الرمي‬
‫أيضا ويف املقابل ينبذ البوق والطبلة (الدف) ألهنم حيداثن أصوات صاخبة تؤذي مسامع األشخاص الكبار‪،‬‬
‫وتزعج اآلخرين وتتناىف مع حرية اآلخرين‪ ،‬وعليه كل األلعاب اليت فيها مترين للعضالت وللحواس معا يقول‬
‫كنت "إن أحسن األلعاب هي تلك اليت فيها تدريب للحواس‪ ،‬إىل جانب ما تنميه من مهارة‪ ،‬مثل األلعاب‬
‫اليت تدرب البصر ع لى احلكم الدقيق على املسافات‪ ،‬وعلى املقادير وعلى النسب‪ ،‬ومتكن من معرفة مواقع‬
‫األماكن يف البالد‪ ،‬وجيب أن نستعني يف ذلك ابلشمس‪ ...‬إن هذه مترينات حسنة"‪ 1.‬إذن فاللعب املقصود‬
‫هو اللعب الذي له هدف وغاية‪.‬‬

‫وابلتايل ينبغي توجيه األلعاب حبيث ختدم غرضا معينا مثل تقوية البدن وتعويده على األعمال الشاقة‪،‬‬
‫مما يؤمن الطفل ضد النتائج الضارة الناشئة عن الرخاوة‪ ،‬وكذلك على الرايضة البدنية أن توجه الطبيعة‬
‫فحسب‪ ،‬ال أن تنمي أشكاال مصطنعة من التأنق يف احلركات والبد من "أن تكون املرتبة األوىل لالنضباط ال‬
‫‪2‬‬
‫للتعلم‪ ...‬وبتنمية جسم األطفال إمنا تكوهنم للمجتمع"‪.‬‬

‫وعليه يعطي كانط أمهية كبرية للرتبية اجلسمية‪ ،‬لذلك جيب أن تكون منذ اللحظات األوىل من حياة‬
‫الطفل لذا يوصي اآلابء مبراعاة هذا اجلانب مع إتبا‪ .‬الشروط الالعمة يف تربية الطفل ملا هلذه الرتبية من آاثر‬
‫كتقوية البدن وتنميته وكذا على اجلانب العقلي واألخالقي للطفل كما تعينهم على احلرية‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص ص‪.133-132‬‬

‫‪ 2‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.44‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫ب‪-‬الرتبية العقلية‪:‬‬

‫يصنف كانط الرتبية العقلية ضمن الرتبية الفيزايئية‪ ،‬ألهنا تثقيف االستعدادات الطبيعية يف اإلنسان أي‬
‫تربية العقل وضبط اإلرادة‪ ،‬فطاملا العلنا يف ميدان الطبيعة‪ ،‬فنحن ال نزال يف جمال الفيزايئي‪ ،‬وتنتهي الطبيعة‬
‫حني تبدأ احلرية‪ ،‬هذه األخرية جماهلا األخالق‪ ،‬ومادامت الثقافة العقلية ال تتعلق ابألخالق‪ ،‬فإهنا تظل يف حيز‬
‫‪1‬‬
‫الطبيعة‪ ،‬أي فيزايئية‪.‬‬

‫وختتلف ثقافة الذهن املادية عن الثقافة األخالقية‪ ،‬ألن هذه األخرية تتعلق ابحلرية‪ ،‬بينما تتعلق الثقافة‬
‫املادية ابلطبيعة‪ ،‬فـ "ميكن إلنسان أن يكون مثقفا جدا من الناحية املادية ‪ ...‬لكن مع ذلك يكون سيء‬
‫‪2‬‬
‫الثقافة جدا من الناحية األخالقية إنساان شريرا ال غري"‪.‬‬

‫كما ميكن نعت الثقافة العقلية أبهنا فيزايئية‪ ،‬ألهنا تقوم يف معظمها على االنضباط‪ ،‬شأهنا يف ذلك‬
‫شأن الرتبية البدنية‪ ،‬إذن الرتبية العقلية تركز على ثقافة النفس وثقافة اجلسم على السواء وتصنف ضمن ثقافة‬
‫الذهن املادية وتتعلق ابلطبيعة‪.‬‬

‫وتقسم ثقافة الذهن املادية إىل حرة ومدرسية‪ ،‬فالثقافة احلرة ما هي إال سوى لعب‪ ،‬بينما الثقافة‬
‫املدرسية هي شيء جدي وعمل قائم على نو‪ .‬من اإلكراه والقسر‪.‬‬

‫‪-1‬ضرورة العمل‪:‬‬

‫حيث كانط على ضرورة العمل ابلنسبة لإلنسان‪ ،‬حىت ولو كانت هذه األعمال شاقة وتتضمن نوعا‬
‫من القهر "إن اإلنسان جيب أن يكون مشغوال حبيث يشبع ابهلدف الذي ينشده‪ ،‬فال حيس بذاته وتكون‬
‫‪3‬‬
‫أفضل راحة ابلنسبة إليه هي الراحة اليت أتيت بعد العمل"‪.‬‬

‫وهلذا فمن املهم أن يتعلم األطفال أن يعملوا ويتعودوا عليه ولكن من السيئ يف –نظر كانط‪ -‬أن نعود‬
‫الطفل على أن ينظر إىل كل شيء على أنه لعبة‪ ،‬صحيح أنه البد له من أوقات للرتويج عن النفس لكن البد‬
‫أيضا من أوقات جيب فيها أن يعمل‪ ،‬ألن اإلنسان هو احليوان الوحيد الذي حيتاج إىل العمل‪ ،‬وذلك من أجل‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.135‬‬

‫‪ 2‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.46‬‬

‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.48‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫احلفاظ على ذاته‪ ،‬ومن اخلطأ –حسب كانط‪ -‬أننا لسنا جمربين إىل العمل ألن العناية اإلهلية وفرت لنا كل ما‬
‫حنتاجه‪ ،‬لذا جيب العمل حىت وإن استلزم إكراها‪.‬‬

‫‪-2‬تربية ملكات النفس (الدنيا‪ ،‬العليا)‪:‬‬

‫يقسم "كانط" ملكات النفس إىل ملكات عليا وملكات دنيا‪ ،‬األوىل يف نظر كانط هي العقل‪،‬‬
‫والذهن‪ ،‬وملكة احلكم والثانية يذكر منها‪ :‬االنتباه‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬البديهية‪ ،‬املخيلة‪.‬‬

‫والرتبية العقلية جيب أن تتعلق ابمللكات العليا‪ ،‬وتثقيف امللكات الدنيا يتم يف نفس الوقت الذي يتم‬
‫فيه تربية امللكات العليا فال ميكن تربية ملكة عقلية لذاهتا وتوحدها‪ ،‬بل ينبغي تربية أو تثقيف كل واحدة من‬
‫امللكات العقلية يف عالقتها بغريها من امللكات لذا يقول "كانط" "جيب أن ال هني إحدى قوى الذهن لذاهتا‬
‫ومبفردها متاما بل أن تنمى كل واحدة من القوى يف عالقة ابألخرى فحسب‪ ،‬مثال أن تنمى املتخيلة حلساب‬
‫الفامهة دون غريها"‪ 1.‬وابلتايل فال قيمة للملكات الدنيا ما مل تكن مرتبطة ابمللكات العليا‪.‬‬

‫أ‪-‬تربية امللكات الدنيا‪:‬‬

‫إن تثقيف الذاكرة أمر يف غاية األمهية‪ ،‬وجيب أن يكون هذا التثقيف يف وقت مبكر حىت يتوافر‬
‫للذهن املادة اليت يعمل فيها وهبا‪ ،‬لكن هذا التدريب للذاكرة ينبغي أال يتم بواسطة التحفيظ عن ظهر قلب‪،‬‬
‫وإمنا ينبغي أن خنتار مادة الذاكرة من بني املواد اليت تستحق أن حتفظ يف الذاكرة ولنا مصلحة يف استبقائها وهلا‬
‫عالقة فعلية ابحلياة الواقعية‪ ،‬وهلذا يستهجن "كانط" أن يقرأ األطفال القصص‪ ،‬ألهنا تضعف الذاكرة وتؤدي‬
‫إىل التهاويل اخلاوية من األفكار‪.‬‬

‫ولتنمية الذاكرة يف سن مبكر‪ ،‬مع تنمية الفامهة يف ذات الوقت بـ‪- :‬حفظ األمساء الواردة يف‬
‫القصص‪.‬‬

‫‪-‬ابلقراءة والكتابة‪ ،‬فالبد من تدريب األطفال على القراءة والكتابة من أنفسهم‪ ،‬دون اللجوء إىل‬
‫التهجي‪.‬‬

‫‪-‬وابللغات‪ ،‬وينبغي تعليم األطفال اللغات أبن يسمعوها أوال‪ ،‬قبل أن يقرؤوا شيئا من نصوصها –ما‬
‫يسمى ابملوسوعة املصورة أيضا‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.48‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫ومنه ينبغي أن ال نشغل الذاكرة إال ابألشياء املهمة واليت لنا مصلحة يف استبقائها وهلا عالقة بواقع‬
‫الطفل‪.‬‬

‫أما تربية االنتباه فيجب أن تتم ابعتبار الذاكرة‪ ،‬ألن هذه األخرية تقوم على االنتباه‪ ،‬وتربية االنتباه يهم‬
‫أيضا سائر امللكات وعدم االنتباه الطفل أو التلميذ يف املدرسة حيدث تشتت لذا جيب حماربته بكل وسيلة‪،‬‬
‫ألن التشتت جيعل التالميذ نصف سامعني‪ ،‬ونصف مبصرين‪ ،‬وهلذا يؤكد "كانط" أن التشتت الذهين هو عدو‬
‫‪1‬‬
‫كل تربية‪ ،‬ويؤدي إىل تضييع خري امللكات‪.‬‬

‫أما فيما خيص ا خليال فإن "كانط" حيذر من تنميته‪ ،‬خصوصا وأن ملكة اخليال عند األطفال قوية‬
‫جاحمة وهلذا فإهنا أحوج إىل الكبح والضبط منها إىل التنمية والرتبية‪ ،‬لكن ال يعين أهنا ترتك منعدمة ومعطلة بل‬
‫حتتاج إىل أن ختضع لقواعد‪.‬‬

‫وعليه فإن كانط يدعوا إىل تشغيل احلواس ابنتباه وإىل امتالك ذاكرة قوية دون حتويل احلفظ إىل جمرد‬
‫مترين وإىل توسيع فضاء اخليال وتسلح ملكة احلكم ابلذكاء‪ ،‬لكن ال ميكن أن نركز على تنمية امللكات الدنيا‬
‫لوحدها بل جيب أن يشمل مجيع ملكات والقدرات املعرفية لإلنسان‪ ،‬ألنه ال قيمة للملكات الدنيا دون أن‬
‫ترتبط ابمللكات العليا‪.‬‬

‫ب‪-‬تربية امللكات العليا‪:‬‬

‫قلنا أن امللكات العليا تشمل الفامهة وملكة احلكم والعقل‪ ،‬الفامهة هو القدرة على معرفة ما هو كلي‪،‬‬
‫وهلذا ال ميكن تثقيفه إال ابملواد اليت توجد فيها قواعد يقينية‪ .‬لذا يف البداية ميكننا أن ننمي أو نثقف الفامهة‬
‫نوعا ما ابلسلب كأن نقرتح عليها أمثلة تتفق مع القاعدة‪ ،‬أو على العكس ابستخراج القاعدة املالئمة‬
‫للحاالت املفردة‪.‬‬

‫وجيب أن تبدأ تربية الفامهة يف وقت مبكر‪ ،‬ويف نفس الوقت ينبغي تربية الذاكرة‪ ،‬فال ميكن للمرء أن‬
‫يتعلم شيئا ال يفهمه‪ ،‬بل يردده دون فهم‪ ،‬وخري وسيلة للتنمية أن يضع املرء بنفسه ما يراد له تعلمه‪ ،‬وأحسن‬
‫طريقة لفهم خريطة جغرافية –حسب كانط‪ -‬أن تتمكن من إجناعها أبنفسنا‪ ،‬والوسيلة املساعدة على الفهم‬
‫هي إنتاج األشياء وهلذا "فالذي نتعلمه أمنت تعلم‪ ،‬وحنفظه أحسن حفظ هو الذي تعلمناه نوعا ما أبنفسنا‪،‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كانط‪ ،‬ص‪139‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫ولكن القلة من الناس هم القادرون على ذلك"‪ 1.‬ألنه هبذه الطريقة اليت يعمل فيها املرء بنفسه ما يريد تعلمه‬
‫هي تكوين اخللق وبث االستقالل الذايت يف النفس ألن الذهن الذي يتعود على أن يبحث بنفسه ويكتشف‬
‫بنفسه يصري أكثر حرية واستقالال ومقدرة على االبتكار‪.‬‬

‫أما فيما يتصل برتبية ملكة احلكم فنقول أوال أن ملكة احلكم هي القدرة على تطبيق الكلي على‬
‫اجلزئي‪ ،‬وهي اليت تبني كيف ينبغي أن نستخدم الذهن‪ ،‬وهذا االستخدام ضروري كي نفهم ما نتعلم أو ما‬
‫يقال وأن ال نردد شيئا مل نفهمه "فما أكثر من يقرأ ويسمع حىت دون أن يفهم‪ ،‬خالفا ملا يعتقد‪ ،‬لذلك‬
‫‪2‬‬
‫فالصور واألشياء ضرورية"‪.‬‬

‫يف املقابل فالعقل هو القدرة على إدراك الرابطة بني الكلي واجلزئي وتربيته جيب أن تسري على الطريقة‬
‫السقراطية‪ ،‬ذلك أن سقراط –وكان يسمي نفسه مولد املعلومات من سامعيه‪ -‬يقدم إلينا يف حماوراته اليت‬
‫حفظها لنا أفالطون على حنو معني‪ ،‬أمثلة على الطريقة اليت ميكن هبا‪ ،‬حىت ولو تعلق األمر بكبار السن‪ ،‬اقتياد‬
‫‪3‬‬
‫التلميذ إىل أن يستخلص من عقله هو نفسه الكثري من األمور‪.‬‬

‫لكن ال ينبغي أن يفهم من هذا أنه جيب إجهاد عقل الطفل‪ ،‬وال ينبغي أيضا للطفل أن يتعقل كل‬
‫األمور وليس له أن يعرف مبادئ كل ما جيب أن يربيهم على النحو الالئق‪ ،‬لكن يف املقابل جيب أن حنرتع يف‬
‫–نظر كانط‪ -‬من تلقني األطفال معارف عقلية‪ ،‬وعلينا أن نعمل حبيث يستخلصوها من ذواهتم‪ ،‬واملنهج‬
‫السقراطي ينبغي أن يكون قاعدة ملنهج السؤال واجلواب‪ ،‬صحيح أنه بطيء ومن الصعب توجيهه حبيث يتعلم‬
‫سائل األطفال شيئا يف األثناء اليت تستخرج معرفة ما من ذهن أحد التالميذ‪.‬‬

‫والفارق بني املنهج السقراطي واملنهج اآليل للسؤال واجلواب هو أن األول يتوجه فيه املعلم إىل عقل‬
‫التلميذ ويسعى كي جيعله يكتشف يف نفسه وبنفسه ما يريد أن يعلمه إايه‪ ،‬أما املنهج اآليل للسؤال واجلواب‬
‫ففيه حياول املعلم أن يستوثق بواسطة األسئلة من أن ذاكرة التلميذ جيدة‪ ،‬ويف أتليف الكتب يكون السؤال‬
‫واجلواب وسيلة للرتويج عن ذاكرة القارئ وجذب اهتمامه‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.54‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬صفحة نفسها‪.‬‬

‫‪ 3‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬ص‪.141‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫‪-3‬تربية عاطفة اللذة أو األمل‪:‬‬

‫وهنا يعرج كانط على تربية عاطفة (أو الشعور ابللذة أو األمل وعنده أن هذه الرتبية "ينبغي أن تكون‬
‫سلبية‪ ،‬ألن العاطفة نفسها ينبغي أال جتعل ذات رخاوة‪ ،‬إن امليل إىل الرخاوة هو لإلنسان أشد ضررا من كل‬
‫شرور احلياة‪ ،‬فمن املهم إذن أن يتعلم الطفل منذ بداية شبابه أن يعمل‪ ،‬واألطفال إذا مل تدب الرخاوة بعد‬
‫فيهم‪ ،‬حيبون حقا املالهي املرتبطة ابلتعب‪ ،‬واألشغال اليت تتطلب قوى‪ "...‬ومفاد هذا أنه ينبغي ضبط اللذات‬
‫حبيث ال تؤدي إىل الرخاوة‪ ،‬وعلى حد قول "كانط" يف كتابه "علم اإلنسان"‪" :‬أيها الشباب‪ ...‬أحب العمل‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وأرفض املتع ال من أجل التخلي عنها‪ ،‬وإمنا لتحتفظ هبا دائما‪ ،‬قدر املستطا‪ .‬يف أفقك"‪.‬‬

‫ويالحظ "كانط" أن بعض اآلابء ميتحنون ويدربون صرب أوالدهم جيعلهم ينتظرون وقتا طويال‬
‫للحصول على ما يريدون‪.‬‬

‫وعليه يطالب "كانط" اآلابء يف معاملة أبنائهم دون اللجوء للتدليل وال اجلفوة‪ ،‬فال ميكن أن نستسلم‬
‫لصراحتهم ورغباهتم أاي كانت‪ ،‬وال نرفض هلم كل طلب "إننا نفسد األطفال إذا فعلنا اي يريدون‪ ،‬ونسيء‬
‫تربيتهم متاما إذا لبينا واستبقنا ما يريدون وما يتمنون"‪ 2.‬ألنه ابالستجابة هلم على كل ما يريدون –حسب‬
‫كانط‪ -‬جيعلهم ذوي رخاوة‪.‬‬

‫‪-2‬الرتبية العملية‪:‬‬

‫إذا كانت الرتبية الفيزايئية تتعلق بتنمية اجلانب الطبيعي يف اإلنسان‪ ،‬فإن الرتبية العملية هي األخرى‬
‫تتعلق جبانب يف اإلنسان الذي هو احلرية ألن اإلنسان كما رأينا طبيعية وحرية‪ ،‬لذا فالرتبية العملية مهمة‬
‫لإلنسان فبواسطتها يتثقف اإلنسان ليصري كائنا حرا وابنعدامها خنلق إنساان انقصا منذ البداية‪.‬‬

‫وتضم هذه الرتبية كال من الرتبية األخالقية والدينية والسياسية واجلنسية وحىت الفنية‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كانط‪ ،‬ص‪.142‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.143‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫‪-‬الرتبية األخالقية‪:‬‬

‫يركز كانط على هذا اجلانب من الرتبية واعتربها مرحلة أساسية يف تربية اإلنسان‪ ،‬ألن غاية اإلنسان –‬
‫حسب كانط‪ -‬هي الكمال األخالقي‪.‬‬

‫والرتبية األخالقية هي "تربية ترمي إىل تكوين الشخصية‪ ،‬تربية كائن يتصرف حبرية ويقدر على‬
‫‪1‬‬
‫االكتفاء بذاته وعلى أن يكون عضوا يف اجملتمع‪ ،‬ولكنه قادر أيضا على أن ميتلك لنفسه قيمة ذاتية"‪.‬‬

‫لذلك فإن الرتبية األخالقية ما هي إال عملية تنشئة وتوجيه خلقي للفرد‪ ،‬وبواسطتها يصري اإلنسان‬
‫عضو يف جمتمع‪ ،‬وأن يثبت نفسه يف اجملتمع الذي يعيش فيه‪.‬‬

‫واهلدف من الرتبية اخللقية هو التوجيه والتنشئة اخللقية للطفل ينبغي "أن ال يكون اإلنسان مؤهال‬
‫لشىت أنوا‪ .‬الغاايت فحسب‪ ،‬بل ينبغي أيضا أن يكتسب إحساسا جيعله ال خيتار إال الغاايت احلسنة‪ ،‬وهي‬
‫اليت يتبناها ابلضرورة كل شخص‪ ،‬وميكن أن تكون يف الوقت ذاته غاايت كل إنسان"‪ 2.‬فعلى الرتبية ‪.‬أن‬
‫تساعد الطفل على اكتساب الغاايت احلسنة اليت هي غاايت كل إنسان‪.‬‬

‫ألن املرء –حسب كانط‪ -‬جيب أن يفعل اخلري ألنه خري‪ ،‬وأن يؤدي الواجب ألنه واجب‪ ،‬فهذا أمر‬
‫مطلق ال يتوقف على شرط أو ضرف أو اعتبار آخر غري الواجب نفسه‪.‬‬

‫وهذه الرتبية اخللقية يف نظر كانط‪ ،‬جيب أن تقوم على مبادئ "فينبغي احلرص على أن يعتاد الطفل‬
‫التصرف وفق مبادئ ال حبسب الدوافع"‪ 3.‬فينبغي تعويد الطفل على التصرف وفق املبادئ وليس وفق‬
‫االنضباط ألنه مينع العيوب‪ ،‬بينما األول ينمي طريقة التفكري‪.‬‬

‫إن هذه املبادئ أو القواعد وفقها يتصرفوا األطفال‪ ،‬فمن املهم جدا أن "جنعلهم يالحظون يف كل‬
‫األشياء خمططا معينا‪ ،‬وقوانني مع ينة ينبغي أن تتبع على أدق وجه‪ ،‬ومن ذلك مثال أننا حندد هلم وقتا للنوم‪،‬‬

‫‪ 1‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كانط‪ ،‬ص‪.28‬‬

‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.23-22‬‬

‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.58‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫ووقتا للعمل‪ ،‬وأخريا وقتا للراحة‪ ،‬وجيب أن ال مندد أو نقلص من هذا الوقت فيما بعد‪ ،‬وميكن ترك األطفال‬
‫‪1‬‬
‫خيتارون بني األشياء املهمة ولكن عليهم دائما أن يتبعوا بعد ذلك ما سنوا ألنفسهم مرة من قانون"‪.‬‬

‫واملبادئ ال تفرض على الطفل فرضا بل يتبني هو نفسه عدالتها أي تنبع من فامهته الذاتية ال من‬
‫اخلارج‪ ،‬فمصدر هذه املبادئ هو اإلنسان نفسه‪ ،‬فعلى الطفل أن يتصرف وفق املبادئ تتبع من فهمه اخلاص‬
‫صحيح هذا أمر صعب املنال لدى الطفل الصغري –حسب كانط‪ -‬مما جيعل الثقافة األخالقية أن تفرتض‬
‫الكثري من األنوار على عاتق األولياء واملعلمني‪.‬‬

‫لكن األولياء واملعلمني كثريا ما يلجئون إىل العقاب يف تنشئة الطفل تنشئة خلقية‪ ،‬وهذا أمر غري‬
‫صائب يف –نظر كانط‪ -‬فـ إذا أردان أتسيس اخللقية‪ ،‬ينبغي جتنب العقاب‪ ،‬فاخللقية هي أمر يف غاية القداسة‬
‫و السمو حبيث ينبغي أن ال نبخسها هبذه الصورة‪ ،‬وأن ال نضعها هي واالنضباط يف نفس املرتبة‪.‬‬

‫وجلوء املعلمني واألولياء إىل العقاب عند أتسيس الطبع األخالقي يف الطفل فإنه "سيصبح إنساان ال‬
‫يرى إال كيف يشق بنجاح طريقه يف احلياة ويكون هذا الطريق حسنا أو قبيحا حسبما جيد هذا أو ذاك أكثر‬
‫‪2‬‬
‫نفعا"‪.‬‬

‫ألنه إذا عاقبنا الطفل عندما يفعل الشر‪ ،‬وكافأانه عندما يفعل اخلري فسوف ختلق لديه عادة سيئة‪،‬‬
‫وهي أنه يفعل اخلري إال من أجل املكافأة وال يفعل الشر إال خوفا من العقاب‪ ،‬ولكنه مع الدخول يف معرتك‬
‫احلياة جيد أن األمور ال جتري على هذا النحو‪ ،‬فيفعل اخلري دون أن يكافأ والشر دون أن يعاقب‪.‬‬

‫كما تقوم الرتبية األخالقية عند كانط على املفهوم الذي أقام عليه كل فلسفته األخالقية وهو "مفهوم‬
‫الواجب* " وهذه الواجبات اليت يكون الطفل ملزما أبدائها ليست سوى الواجبات املعتادة جتاه الذات‬
‫‪3‬‬
‫واآلخرين"‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ ،‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.59‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‬

‫* الواجب‪ :‬هو كل سلوك ميكن أن يصاغ يف قاعدة عامة بدون أن يكون عرضة للنقد العقل أو تسخيفه له‪ ،‬وهبذه الطريقة استطا‪ .‬أن يقدر قيمة‬
‫الواجبات اخلاصة من حيث أهنا أخالقية أو ال أخالقية وذلك بوعهنا بذلك امليزان الوحيد‪.‬‬

‫‪ 3‬إميانويل كانط‪ ،‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.68‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫ولتكوين اخللق القومي يف الطفل‪ ،‬ينبغي أن نعلمه الواجبات اليت ينبغي عليه القيام هبا‪ ،‬وهذا التعليم يتم‬
‫ابلقدوة والتوجيه‪.‬‬

‫هناك نوعني من الواجبات يبحث عنهم "كانط" أثناء أتسيس الطبع اخللقي لدى الطفل وهي‪:‬‬

‫أ‪-‬واجبات اإلنسان حنو نفسه‪:‬‬

‫وال تقوم هذه الواجبات مثال يف احلصول عل ى لباس أنيق أو إقامة مأدبة حافلة وما شابه ذلك‪ ،‬كما‬
‫ال تقوم يف السعي إلشبا‪ .‬اللذات وإرضاء الشهوات وإمنا تتمثل يف "امتالك إحساس داخلي معني ابلكرامة‬
‫جيعل اإلنسان أنبل من سائر املخلوقات مجيعا‪ ،‬ومن واجب اإلنسان أن ال يتخلى يف شخصه عن كرامة‬
‫اإلنسانية هذه"‪ 1.‬فعلى الطفل أن يعرف هذه الواجبات اجتاه ذاته‪ ،‬ويعرف أبن اإلمان أو الكذب أو التذلل‬
‫لآلخرين أمر حيط من قيمته كإنسان وعن كرامته اإلنسانية لتنزل به إىل مستوى أقل من احليوان‪.‬‬

‫ب‪-‬واجبات اإلنسان حنو اآلخرين‪:‬‬

‫فإذا كان للطفل واجب حنو نفسه‪ ،‬فإن لديه واجب اجتاه اآلخرين بوصفه كائن اجتماعي ال يستطيع‬
‫أن يعيش لوحده بل عليه أن ينخرط يف اجملتمع ومع غريه من الناس‪.‬‬

‫ومنه جيب أن نبث يف الطفل واجب احرتام حقوق اآلخرين منذ وقت مبكر‪ ،‬وأن نسهر على التزامه‬
‫بتحقيق ذلك‪ ،‬ويعطي لنا كانط مثاال عن ذلك فمثال إذا قابل طفل طفال آخر مسكينا‪ ،‬دفعه عن الطريق أو‬
‫ضربه فينبغي أال نقول له ال تفعل هذا‪ ،‬ارمحه‪ ،‬بل جيب معاملته بطريقة حمسوسة‪ ،‬ألن سلوكه كان مضادا‬
‫حلقوق اإلنسان‪.‬‬

‫هذه هي الواجبات اليت ينبغي أن نغرسها يف روح الطفل منذ وقت مبكر واجبات اجتاه نفسه‪،‬‬
‫وواجبات اجتاه الغري‪.‬‬

‫وعليه فإن الرتبية يف تصور "كانط" ال ينبغي أن تقوم على أساس املنفعة أو املصلحة‪ ،‬وإمنا ينبغي أن‬
‫تقوم فقط على أساس أداء الواجب لذاته‪.‬‬

‫‪ 1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.69‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫‪-‬الرتبية الدينية‪:‬‬

‫بغية إرساء قواعد متينة للرتبية الدينية‪ ،‬ينطلق "كانط" أوال من طرح السؤال‪ " :‬ما هو الدين؟ وجييب‪:‬‬
‫"الدين هو القانون الذي يوجد فينا‪ ،‬على اعتبار أنه يستمد سلطته علينا من مشر‪ .‬وقاض‪ .‬فهو أخالق مطبقة‬
‫على معرفة هللا" فكانط يعطي للدين مكانة إنسانية وظيفية قبل أن جيعلها الهوتية‪ ،‬فالضمري هو القانون املاثل‬
‫فينا –حسب كانط‪ -‬والضمري على وجه التحديد ما هو إال تطبيق أفعالنا على هذا القانون‪.‬‬

‫فالدين ‪-‬حسب كانط‪ -‬إذ ن مرتبط ابألخالق فبدون األخالق ال يكون له أثر وسيكون حبثا عن‬
‫اخلطوة فحسب فهو من غري الضمري اخللقي "ال يعدون أن يكون جمموعة من الشعائر تتسم ابلتطري" فيجب‬
‫أن تكون اخللقية هي األوىل مث تتبعها الالهوت‪ ،‬فال ميكن أن نبدأ ابلالهوت‪ ،‬ألن الدين الذي ال يقوم إال‬
‫على الالهوت فال ميكن أبدا أن ينطوي على جانب أخالقي‪.‬‬

‫لذا جند "كانط" ينتقد بشدة وضع الرتبية الذي كان سائدا يف عصره‪ ،‬فما دامت الرتبية األخالقية‬
‫تستند إىل الدين فإن الرتبية الدينية هي األخرى جيب أن تقوم على أساس الرتبية األخالقية ألنه إذا أردان أن‬
‫نريب الطفل تربية دينية صحيحة‪ ،‬فيجب أن نبدأ معه ابلقانون الذي حيمله يف ذاته‪ ،‬الذي هو الضمري كما‬
‫يسميه "كانط" فـ البد من أن نبدأ عند الطفل ابلقانون الذي حيمله يف ذاته‪.‬‬

‫وعلى هذا األساس انتقد كانط طرق الرتبية الدينية اليت كانت تلقن للطفل يف عصره‪ ،‬واليت تقوم على‬
‫احلفظ وكذا على الوعظ واملكافأة والتوبيخ‪ ،‬خصوصا عندما تعلق األمر بتلقني األطفال األخالق واملبادئ‪،‬‬
‫يقول "كانط"‪" :‬إذا عاقبنا الطفل حني يفعل الشر‪ ،‬وكافأانه حني يفعل اخلري‪ ،‬عندئذ يفعل اخلري ليعامل هو‬
‫معاملة حسنة وعندما يدخل فيما بعد معرتك احلياة حيث ال جتري‪ ،‬األمور البتة على هذا النحو‪ ،‬وحيث يفعل‬
‫‪1‬‬
‫اخلري دون أن يكافأ والشر دون أن يعاقب‪ ،‬فإنه يصبح إنساان ال يرى إال كيف يشق طريقه بنجاح"‪.‬‬

‫هلذا يرى "كانط" أنه جيب احلرص على أن نعلم األطفال املبادئ لذاهتا وليس لغاايت نفعية‪ ،‬فيجب‬
‫أن يدرك األطفال أن اخلري خري يف ذاته وأن الشر شر يف ذاته‪ ،‬وأن احرتام هذه املبادئ واجب أخالقي مطلق‬
‫يف ذاته‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.59‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫إن األطفال ال ميتلكون أي مفاهيم دينية‪ ،‬لذلك ينبغي تلقينها هلم يف سن مبكر‪ ،‬لذلك يرى "كانط"‬
‫أنه جيدر ابلطفل أوال معرفة ذاته ومعرفة الطبيعة مث معرفة الذات اإلهلية بعد كل هذا يقول "جيب أوال أن ينسب‬
‫كل شيء إىل الطبيعة‪ ،‬مث أن تنسب هذه األخرية إىل هللا‪ ،‬فنبني مثال يف املقام األول كيف أن كل شيء معد‬
‫من أجل احملافظة على األنوا‪ .‬وتواعهنا ولكن يف نفس الوقت أيضا وعلى حنو أبعد من أجل اإلنسان حبيث‬
‫يستطيع بذاته أن يصبح سعيدا"‪ 1.‬فاملنهج املالئم هذا هو حسب كانط‪.‬‬

‫وميكن تصوير قول كانط هذا كما يلي‪:‬‬

‫تردد الرعاية اإلهلية للطبيعة إىل غاية‬ ‫تنسب الطبيعة ومكوانهتا يف‬ ‫يتعرف الطفل على ذاته‬
‫قصوى سعادة اإلنسان‬ ‫انسجامها إىل الرعاية اإلهلية‬ ‫وعلى الطبيعة‬

‫وعليه فيجب على الرتبية الدينية أن تستند إىل اخللقية أوال مث الالهوتية يف وقت الحق وبشكل‬
‫عرضي‪ ،‬ألن الغاية من التدين ليست ابملفارقة خلدمة إنسانية‪ ،‬وما دامت الغاية هي اإلنسان ذاته" فيجب أن‬
‫تكون اخللقية هي األوىل وأن ينبعها الالهوت‪ ،‬وهذا ما نسميه دينا"‪ 2.‬فالضمري –حسب كانط‪ -‬هو احملكمة‬
‫اليت يستند إليها اإلنسان يف سلوكاته ال إىل قوى خارجية من خالل الثواب والعقاب‪.‬‬

‫ومنه يدعوا "كانط" يف حديثه عن الرتبية الدينية إىل حرص األبوين على أن ال يعترب البشر حبسب‬
‫ممارستهم الدينية‪ ،‬ألنه رغم تنو‪ .‬األداين إال أنه توجد وحدة بينها يف كل األصقا‪ ،.‬لذا نعترب أن "كانط"‬
‫حبسب هذا القول من املشيدين بفكر التسامح وبتعدد األداين‪ ،‬إىل درجة أنه جيعل "التسامح الديين" من‬
‫أسس الرتبية اليت جيب اختاذها بعني االعتبار يف تنشئة األطفال‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.75‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.76‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫‪-‬الرتبية اجلنسية‪:‬‬

‫مل خيصص "كانط" جماال واسعا ملناقشة مسألة اجلنس يف الرتبية‪ ،‬بل إنه اكتفى بتسطري بعض‬
‫اإلشارات‪ ،‬وقد يرجع ذلك إىل خصوصية املرحلة اليت كان "كانط" يلقي فيها هذه احملاضرات حول الرتبية‬
‫واليت يصعب فيها مناقشة موضو‪ .‬اجلنس داخل اجلامعة‪ ،‬فنجده منذ بداية احملاضرات يلقي حملة إىل أمهية‬
‫موضو‪ .‬اجلنس يف تربية املراهق فيعد أبنه سيعود إىل هذا املوضو‪ .‬الحقا أو يف آخر احملاضرة ويتكلم عليه يف‬
‫هناية احملاضرة على شكل خامتة‪ ،‬ولذلك داللة كبرية على مدى حساسية موضو‪ .‬اجلنس يف اجملتمع األملاين يف‬
‫القرن ‪.18‬‬

‫يرى "كانط" أنه من املهم أن نتوخى احلذر يف تربية الطفل خصوصا اجلنسية فـ "عندما تزداد السن‬
‫ويبدأ امليل إىل اجلنس يف االستيقاظ آنذاك أتيت الفرتة احلرجة اليت تكون فيها كرامة اإلنسان قادرة وحدها على‬
‫إلزام الشاب حبدود معينة‪ ،‬ومع ذلك البد يف وقت مبكر من إعطاء توجيهات إىل الشاب حىت يستطيع أن‬
‫‪1‬‬
‫حيذر من هذا األمر أو ذاك"‪.‬‬

‫يبدأ الطفل يف فرتة املراهقة ابلتمييز بني اجلنسني وكما يقوى كانط" "فإن الطبيعة ترفع له ستار السرية‬
‫على االختالف الطبيعي بني اجلنسني‪ ،‬ومن مث يبدأ يف طرح التساؤالت حول طبيعة هذا االختالف كطرحه‬
‫من أين أييت األطفال" وهو ما جيب أن يتلقاه األبوين بتلقائية‪ ،‬وأن جييبانه عن جممل األسئلة بوضوح‪ ،‬ألن‬
‫كتمان املوضو‪ .‬ال يزيد األمر إال حدة يف هذه الفرتة يقول "كانط" ‪ ،‬إن منو هذه النواع‪ .‬آيل لدى املراهق‪،‬‬
‫وكل شيء جيري كما هو احلال يف الغرائز اليت تنمو حىت دون معرفة موضوعها‪ ،‬فمن املستحيل إذن إبقاء‬
‫‪2‬‬
‫املراهق يف اجلهل وما يقرتن به من براءة‪ ،‬وعندما نصمت ال نفعل سوى أننا جنعل الداء يستفحل"‪.‬‬

‫ويف نفس الوقت يدعوا "كانط" املراهق من جتنب بعض املمارسات اجلنسية املضرة به كالعادة السرية‬
‫(يسميها كانط ابملتعة املوجهة إىل الذات) املناقضة لطبيعة اإلنسان‪ ،‬وينبغي كذلك أن نصورها له برغم الذي‬
‫تثريه هذه املمارسة وأن نبني له أنه "الشيء يضر ذهن اإلنسان وجسمه أكثر من مشكل املتعة املوجهة إىل‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.70‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.78‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫الذات"‪ 1.‬وأهنا مضرة للتناسل وللنو‪ .‬وهتدد كل قواه اجلسمية ابالهنيار‪ ،‬والشيخوخة‪ .‬هذا فيما يتعلق ابآلاثر‬
‫اجلسمية هلذه املمارسة‪.‬‬

‫أما على املستوى اخللقي –حسب كانط‪ -‬فاآلاثر السلبية هلذه العادة أسوأ بكثري إذ يتجاوع الطفل‬
‫حدود الطبيعة يف اجلنس (أي املمارسة بني ذكر وأنثى) فال يفتأ امليل يثور ألن الطفل آنذاك ( يف حالة‬
‫اإلدمان) ال جيد أي إشبا‪ .‬فعلي للرغبة اجلنسية يف شكلها الطبيعي يقول "األفضل‪ ،‬بل من واجب املراهق أن‬
‫ينتظر حىت يكون قادر على الزواج يتعقل عندئذ لن يتصرف كإنسان صاحل فحسب‪ ،‬بل أيضا كمواطن‬
‫‪2‬‬
‫صاحل"‪.‬‬

‫وعليه 'فكانط " مل يتحدث عن هذه الرتبية كثري بل كانت عبارة عن مالحظات اليت ينبغي أن حيسب‬
‫حساهبا األطفال الذين دخلوا سن املراهقة وهذا كما قلنا سابقا حلساسية املوضو‪ .‬آنذاك‪.‬‬

‫‪-‬الرتبية السياسية‪:‬‬

‫تعد إشكالية العالقة بني األخالق والسياسة إشكالية طرحت عند العديد من املفكرين والفالسفة‪،‬‬
‫فمنهم من رأى وجود عالقة بني األخالق والسياسة ومنهم من قال بوجود عالقة انفصال بينهما‪.‬‬

‫لقد اعتقد "كانط" أن لألخالق عالقة ابلسياسة فنجده يضفي على موضوعات أخالقية صبغة‬
‫‪3‬‬
‫سياسية مباشرة وكسا أيضا املوضوعات السياسية هيبة أخالقية‪.‬‬

‫وابلتايل فال ميكن أن يكون انفصال بني السياسة من حيث هي ممارسة للقانون (احلق) وبني األخالق‬
‫من حيث هي نظرية القانون (احلق)‪ ،‬وتبعا لذلك ال يوجد نزا‪ .‬بني النظري التطبيق"‪ 4.‬فال نزا‪ .‬بني النظر‬
‫والعمل‪.‬‬

‫‪ 1‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية ‪ ،‬ص‪.79‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.80‬‬

‫‪ 3‬ليوشرتاوس‪ ،‬جوعيف كروبسي‪ ،‬اتريخ الفلسفة السياسية‪ ،‬سيد أمحد‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ط‪ ،1‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،2005 ،‬ص‪.172‬‬

‫‪ 4‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬فلسفة القانون والسياسة عند هيجل‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬بريوت‪ ،1968 ،‬ص‪.247‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫فاجلمهورية احلقيقية –حسب كانط‪ -‬ال ميكن أن ترتاء إال ابلنسبة لسياسي أخالقي‪ ،‬أعين شخصا‬
‫خي ضع السياسة لألخالق بصورة دقيقة وال ميكن حتقيق السالم الدائم له مهمة فنية‪ ،‬وإمنا مهمة أخالقية‬
‫‪1‬‬
‫حقيقية‪.‬‬

‫إن "كانط" مينح األخالق منزلة املشاركة السياسية‪ ،‬حيث يرتقي ابحلق أو القانون السياسي إىل مرتبة‬
‫الواجب األخالقي الذي ال جيوع اخرتاقه حتت ذريعة واألكثر من ذلك ال يعترب كانط األخالق متفقة مع‬
‫السياسة على صعيد األصالة العقلية فحسب‪ ،‬بل إن كل املعارف (أخالقية‪-‬سياسية) تعمل فيما بينها‬
‫‪2‬‬
‫ابنسجام"‪.‬‬

‫هذه بعض األمور اليت تطرقت هلا‪ ،‬أللقى نظرة حول أمهية السياسة وما يرتبط هبا واآلن سأتناول‬
‫الرتبية ومدى أمهيتها يف الشأن السياسي‪.‬‬

‫يثري "كانط" مسألة عالقة الرتبية ابلشأن السياسي يف الدولة من خالل طرحه للسؤال‪" :‬هل ينبغي‬
‫التماس حالة أفضل للعامل من األمراء أهم من الرعية؟" مبعىن هل جيب توكيل‪ ،‬املسألة الرتبوية للدولة‬
‫وللمؤسسات احلاكمة؟ جييب "كانط" أبنه ال ميكن التعويل على احلكام يف اإلتيان ابألفضل للبشرية‪ ،‬إال إذا‬
‫كانوا هؤالء احلكام قد تلقوا نضاما من الرتبية حيرتم غاية كمال اإلنسانية‪ ،‬وعليه جيب أوال أن يتلقى احلكام‬
‫منذ الصغر الرتبية على يد الرعية وليس من أمثاهلم "فليس مبقدوران أن أنمل يف أن أييت اخلري من فوق إال يف‬
‫‪3‬‬
‫صورة ما إذا كانت الرتبية هنالك هي الفضلى"‪.‬‬

‫إن دور الرتبية –حسب كانط‪ -‬ليس فقط تنمية مهارات وقدرات وملكات الفرد فقط‪ ،‬بل الرتبية‬
‫املثلى هي اليت ترمي إىل خلق مواطن صاحل خيدم اجلميع والدولة إذ "ال ينبغي أن تكتفي الرتبية بتكوين الطبيعة‬
‫داخل الطفل‪ ،‬بل ينبغي أن ترىب فيه قدرته على استعمال حريته بشكل يستجيب ملبادئ فلسفة احلق"‪ 4.‬أي‬
‫تربية احلرية داخل الطفل بشكل جيعلها تنسجم مع حرية اآلخرين‪.‬‬

‫‪ 1‬ليوشرتاوس‪ ،‬جوعيف كروبسي‪ ،‬اتريخ الفلسفة السياسية‪ ،‬ص‪.171‬‬

‫‪ 2‬مسري بلكفيف‪ ،‬إميانويل كانط فيلسوف الكونية‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪، 2011،‬ط‪ ،1‬ص‪.210-209‬‬

‫‪ 3‬إميانويل كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.20‬‬

‫‪ 4‬عبد احلق منصف‪ :‬األنوار وسلطة اخلبري البيداغوجي‪ ،‬ص‪.370‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫فهدف الرتبية ال ينبغي أن ينحصر يف نظر كانط يف حتقيق أهداف فنية ختص جيال بعينه‪ ،‬بل جيب‬
‫أن ميتد ذلك اهلدف إىل حتقيق أهداف كونية خاصة ابجلنس البشري أبسره‪.‬‬

‫وابلرغم من أن "كانط" ترك اجملال مفتوحا أمام احلكام ابلتكفل بشأن الرتبوي شريطة أن يكونوا قد‬
‫تلقوا تربية مثلى فذلك ليس أبسلوب استنكاري‪ ،‬وهو ما يعين رفض كانط اجلاعم ألن تكون الرتبية يف يد‬
‫احلكام‪ ،‬ابعتبارهم ال يتوجهون يف خمططاهتم الرتبوية إال إىل استئثار مصاحلهم السياسية أكثر مما يهتمون‬
‫بصالح اإلنسانية‪ ،‬ويف نظره " إن التجربة تعلمنا أن األمراء من أجل بلوغ غاايهتم‪ ،‬ينظرون إىل اخلري الكلي أقل‬
‫مما ينظرون إىل خري دولتهم‪ ،‬فما ان يعطوا ماال هلذا الغرض حىت يستأثروا عندئذ حبق إمالء ملخطط يف الرتبية‪،‬‬
‫وكذلك الشأن ابلنسبة إىل كل ما يتعلق بثقافة الذهن البشري وانتشار املعارف اإلنسانية"‪.‬‬

‫وهلذا يدعو "كانط" إىل أن تكون الرتبية من اختصاص أانس خرباء مستنريين أكثر من غريهم‪ ،‬يسعون‬
‫إىل بلوغ اإلنسانية كما هلا و سعادهتا يقول "إن الطبيعة اإلنسانية ال تستطيع أن تقارب غايتها ابلتدريج إال‬
‫بفضل جهود أشخاص ذوي مشاعر رحبة يهتمون ابخلري الكلي و هلم القدرة على تصور فكرة حالة فضلى‬
‫‪1‬‬
‫آتية"‪.‬‬

‫وإسناد كانط مهمة وضع خمططات الرتبية إىل فئة اخلرباء املستنريين كما قلنا‪ ،‬الذين جيعلون اخلري‬
‫الكلي لإلنسانية هدفهم النهائي‪ ،‬هذا املخطط جيب أن يركز على "تنمية املشاعر جتاه اآلخرين‪ ،‬مث املشاعر‬
‫العاملية‪ ،‬فإن يف نفوسنا شيئا جيعلنا نعري اهتماما لذواتنا‪ ،‬لآلخرين الذين نشأان معهم مث ينبغي أن يتوفر‬
‫االهتمام ابخلري الكلي‪ ،‬فال بد من جعل األطفال أينسون هبذا االهتمام‪ ،‬ومن العمل على أن ينعشوا به‬
‫‪2‬‬
‫أنفسهم‪ ،‬حىت وإن مل يكن لصاحل وطنهم أو لصاحلهم"‪.‬‬

‫الرتبية الفنية‪:‬‬

‫تعد الرتبية الفنية هي األخرى ذات صلة ابإلنسان وذات أمهية كون هذه األخرية تتضمن قيم تربوية‬
‫خمتلفة‪ ،‬جعلت من املربني واملعلمني يهتمون هبذه الرتبية‪ ،‬وكانط واحد من هؤالء‪.‬‬

‫‪ 1‬كانط‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ص‪.21‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.82-81‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫اهتم "كانط" ابلنظرية اجلمالية اهتماما كبري‪ ،‬وعرف أن للفن واجلمال قيمة يف حياة اإلنسان على‬
‫غرار احليواانت‪ ،‬ألنه حسب كانط الفن خاصية إنسانية ألن اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي ميتلك العقل‬
‫وإرادة حرة وهذا ما يتطلبه الفن "البد أن يصدر عن أتمل وفعل بشري يقوم على اإلرادة احللة‪ ،‬ولذلك ال‬
‫ميكن أن يكون إبدا‪ .‬الفن صفة من صفات احليواانت األخرى‪ ،‬ألن اإلنسان هو الكائن الوحيد الناطق والذي‬
‫‪1‬‬
‫لديه من امللكات ما يؤهله لذلك‪.‬‬

‫والفن ال يكون فنا إال إذا كان انجتا عن إرادة هذه اإلرادة تضع العقل أساسا ألفعالنا‪ ،‬فعلى سبيل‬
‫املثال –حسب كانط‪ -‬ال ميكننا أن نصف عمل النحل عمال فنيا ألنه "ولو كنا منيل إىل نعت نتاج النحل‬
‫ابلعمل الفين‪ ،‬إال أن ذلك يكون على سبيل التمثيل فقط وتشبيها هبذا األخري‪ ،‬وأننا حاملا نفكر أبن النحل ال‬
‫يؤسس عمله على متعن العقل‪ ،‬فسوف نقول أنه نتاج طبيعتها (الغريزة) وال ينسب كعمل فين إال إىل‬
‫‪2‬‬
‫خالقها"‪.‬‬

‫فاجلمال حسب كانط –هو ذلك اجلمال املنزه عن كل غرض أو غاية‪ ،‬بعيدا عن األغراض أو املصاحل‬
‫الشخصية‪ ،‬وعلى الرغم من أنه من دون غاية حمددة‪ ،‬إال أنه "يسهم يف تثقيف ملكات النفس من أجل‬
‫التواصل االجتماعي‪.‬‬

‫إن الفنون اجلميلة والعلوم‪ ،‬مبا توفره من لذة يسهل إيصاهلا للجميع‪ ،‬وبواسطة ما حتدثه يف اجملتمع من‬
‫عقل وهتذيب فإهنا وإن مل جتعل اإلنسان أفضل أخالقيا‪ ،‬إال أهنا جتعله مؤداب وتكسبه الكثري على حساب‬
‫‪3‬‬
‫صغيان نزوان احلواس‪ ،‬وهبذا تعده لسيادة ينبغي أال تكون فيها سلطة إال للعقل وحده‪.‬‬

‫وابلتايل فللفن واجلمال –حسب كانط‪ -‬دور يف تنشئة وإعداد اإلنسان‪.‬‬

‫إذا كان "كان ط" يرى أن احلكم الذوقي حكم منزه عن كل غرض فإنه يؤكد أبن للرتبية الفنية وسيلة‬
‫يف ترسيخ امليل االجتماعي يف اإلنسان‪ ،‬لكن هذا ال يعين ختلي الفرد عن ذاته فإنه يقرر "ليس للجميل من‬
‫منفعة اللهم إال ابلنظر إىل اجملتمع‪ ،‬وأية ذلك أنه ملا كان اإلنسان حيواان اجتماعيا فإن الذوق ‪ ...‬وظيفة عملية‬

‫‪ 1‬الصباغ رمضان‪ :‬كانط والنقد اجلميل‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار الوفاء للطباعة والنشر (ب‪.‬س)‪ ،‬ص‪.59‬‬

‫‪ 2‬إميانويل كنت‪ :‬نقد ملكة احلكم‪ ،‬ترمجة غامن هنا‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.227‬‬

‫‪ 3‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪.396-395‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫اجتماعية نظرا ألنه هو الذي يسمح لنا أبن ننقل إىل اآلخرين عواطفنا اخلاصة فنشبع بذلك ميلنا الفطري حنو‬
‫‪1‬‬
‫االتصال ابلغري‪.‬‬

‫وعليه فالرتبية الفنية يف نظر كانط "ال هتيئ الفرد ألجل تقدير فكرة اجلمال واجلالل يف ذاهتا‪ ،‬بل‬
‫ألجل التواصل مع الغري عرب التجربة اليت تعيشها احلساسية البشرية جتاه ما تعترب مجيال أو جليال داخل األشياء‬
‫‪2‬‬
‫أو حياة اآلخرين"‪.‬‬

‫ومنه فإن للرتبية الفنية دور يف حياة اإلنسان مثلها مثل الرتبية الدينية أو السياسية‪ ...‬فبواسطتها‬
‫يستطيع الفرد أن يعرب عن عواطفه اجتاه اآلخرين وجتعله مييل إىل الغري من أجل غاية دون التخلي عن الذات‪.‬‬

‫‪ 1‬كامل حممد حممد عويصة‪ :‬إميانويل كانط‪ ،‬شيخ الفلسفة يف العصر احلديث‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1993 ،1‬ص‪.104‬‬

‫‪ 2‬عبد احلق منصف‪ :‬األنوار وسلطة اخلبري البيداغوجي‪ ،‬ص‪.339‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫الفصل الثالث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانة التربية علد كانط‬

‫خالصة الفصل‪:‬‬

‫تبني من خالل هذا العمل أن للرتبية مكاان هاما يف حياة اإلنسان لكون هذه األخرية تسعى إىل‬
‫هتذيب سلوك الطفل ابعتباره مركز العملية الرتبوية وتنميته هي هدفها‪.‬‬

‫كما أنه ال ميكن أن تقوم الرتبية وحتقق إال من خالل وسائل هذه األخرية هبا يستطيع الطفل أن‬
‫يستوعب ويسرتشد يف حياته اإلنسانية‪ ،‬وجيب أن تراعى منذ البداية‪.‬‬

‫والرتبية العملية تربية هتدف إىل توجيه اإلنسان إىل حسن استعمال حريته‪ ،‬سواء على املستوى الفردي‬
‫أو على املستوى اجلماعي‪.‬‬

‫فالرتبية العملية جيب أن تقوم على مبادئ أو وسائل انبعة من عقل اإلنسان بعيدا عن سيطرة اجلسم‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫ﺧﺎﺗﻤﺔ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خاتمة‬

‫خامتة‪:‬‬

‫يف األخري ميكن القول أنين حاولت أن أحلل أفكار كانط الرتبوية اليت سعى إليها من خالل مشروعه‬
‫الرتبوي الطويل‪ ،‬وبناءا على ما مت عرضه وحتليله سابقا خنلص‪:‬‬

‫‪-‬توصل كانط إىل أن الرتبية شرط ضروري وأساسي حلصول التنوير وكذا التقدم البشري‪.‬‬

‫‪-‬االهتمام الكبري الذي كان يوليه كانط ملسألة الرتبية الزمه طوال حياته‪ ،‬ومل يكن نتيجة للواجب‬
‫املهين فقط فكان دوما يعترب أبن الرتبية هي أهم وأصعب مشكلة تطرح على اإلنسان‪ ،‬وهذا التأكيد الكانطي‬
‫ليس من قبيل التأكيدات السطحية بقدر ما يعرب عن االهتمام البالغ لدى كانط مبسألة الرتبية ذلك أن فكرة‬
‫التنوير لدى كانط تتضمن بعدا تربواي فلم يعد اهلدف من وراء مؤسسة الرتبية هو اكتساب مهارات وامتالك‬
‫معارف من أجل االندماج يف بؤرة اجملتمع السائد فحسب وإمنا أيضا يف االنفتاح على حركة التفكري املعاصرة‬
‫(األنوار) واملسامهة يف ترسيخ الدولة العصرية من أجل تغيري الذهنيات واملمارسات وجماوزة النظم التقليدية‪.‬‬

‫‪-‬واالهتمام هذا انبع من اشتغال الرجل مدة طويلة مبسألة التعليم مما مكنه من اكتساب جتربة كبرية يف‬
‫الرتبية والتعليم وإدراك الفرق الشاسع بني النظرية واملمارسة يف ميدان الرتبية‪.‬‬

‫‪-‬ومن امللفت للنظر حقا أن كانط يقرتح يف الرتبية حلوال انجعة تدل على وعي وحس تربوي سليم‬
‫ودقيق‪ ،‬وهذا التأكيد على التجربة ليس عبثا بل هو من أجل االلتفات إىل واقع الطفل األسري وكذا‬
‫االجتماعي وما يتطلبه هذا الواقع من إجناز وختطيط تربوي‪ ،‬ذلك أن "كانط" يعترب أن غاية الرتبية ال تنحصر‬
‫فقط يف االهتمام ابحلالة الراهنة وتكوين الناشئة وفق متطلبات الواقع الراهن الذي يعيشه اجملتمع أو إعداد‬
‫األطفال للنجاح يف احلياة كما يريد ذلك أولياؤهم‪ ،‬بل األهم عند "كانط" هو تكوين هؤالء حبسب احلالة‬
‫املمكنة اليت تكون أفضل منها يف املستقبل‪ ،‬أي وفق فكرة اإلنسانية وغايتها الكاملة‪" ،‬فكانط" مل يكن أملانيا‬
‫بقدر ما كان إنسانيا‪ ،‬فشغفه الكبري ابإلنسانية مل يفارقه طوال مسريته التارخيية‪.‬‬

‫‪ -‬إن "كانط" من خالل هذا إمنا يسعى إىل أتسيس نظرية كونية تتضمن أبعاد قيمية إنسانية تنأى عن‬
‫التصورات اجلهوية واإلقليمية وتتجاوز كل املسافات التارخيية احملددة لتطرح إشكاليات تربوية ال تاال حتتف‬
‫براهنيتها إىل اآلن‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خاتمة‬

‫‪-‬أن االنضباط هو الشرط احملقق لإلنسانية‪ ،‬إن عن طريق االنضباط يصري اإلنسان إنساان على‬
‫خالف احليوان‪ ،‬ألن اإلنسان حيتاج إىل استعمال عقله اخلاص ليحدد لنفسه مسار سلوكه ومبا أن الطفل ال‬
‫يستطيع القيام بذلك وجب على اآلخرين أن يقوموا بذلك من أجله يف سن مبكر‪ ،‬فاألطفال يرسلون إىل‬
‫املدرسة ليس من أجل أن يتعلموا شيئا‪ ،‬بل من أجل التعود على االنضباط واالمتثال ملا يؤمرون به‪ ،‬وهذا يقي‬
‫فيما بعد من اخلضوع للناوات واألهواء‪.‬‬

‫‪-‬أن عملية الرتبية تواجهها عوائق هذه األخرية ملا كمكننا من األصول إىل اهلدف املنشود األول هو‬
‫عائق يتعلق ابألولياء الذين حيرصون على شيء واحد وهو أن ينجح أوالدهم جناحا يف احلياة دون كمكينهم من‬
‫استعمال عقوهلم أبنفسهم واالهتمام ابلرتبية كعلم يستفيد منه كل األجيال‪ ،‬أما العائق الثاين فيتعلق ابألمراء‬
‫الذين ال يرون يف رعايتهم سوى أدوات ألغراضهم‪ ،‬وهدفهم ليس اخلري الكلي لإلنسانية‪ ،‬لذا يدعو كانط إىل‬
‫تصور خمطط يف الرتبية يتخذ منحىن كونيا‪.‬‬

‫‪-‬إن اإلعالء من شأن الرتبية والعمل على تعميمها يؤدي حتما إىل التقدم والتنوير‪ ،‬واحلط من قيمتها‬
‫والتقليص من دورها يرسخ اجلهل واالستبداد والتخلف االجتماعي‪.‬‬

‫‪-‬استطاع كانط أن يبلور رؤية نقدية ملا كانت تشهده أملانيا يف القرن ‪ 18‬من أشكال الرتبية السائدة‬
‫يف الوسط األسري وداخل املؤسسات التعليمية والدينية‪.‬‬

‫‪-‬إن الرتبية لدى "كانط" ليست ابآللية كما هو احلال ابلنسبة ألمناط الرتبوية السائدة يف عصره وال‬
‫ابلرغماتية اليت تسعى إىل تكوين أانس خيدمون مصاحل الدولة‪ ،‬بل إهنا تربية قائمة على أساس مبدئي أخالقي‬
‫يروم صالح اجلنس البشري‪ ،‬ليس فقط على املستوى القطري‪ ،‬بل غايته صالح اإلنسانية كونيا‪ ،‬وهو ما جعل‬
‫الرتبية حبق لدى كانط إحدى النوافذ اليت تفتحها على "مشروع السالم الدائم" وكذا مشروع األنوار‪.‬‬

‫لقد شكل هذا النموذج الرتبوي الذي قدمه كانط مصدرا خصبا استقت منه الرتبية احلديثة واملعاصرة‬
‫على اختالف مذاهبها "كجون ديوي" وبياجي‪ ،‬وهذا يؤكد عمق األثر الذي تركه "كانط" يف الفكر الفلسفي‬
‫فقد كان مبثابة األرضية اليت انطلق منها الفالسفة يف أتسيس مشاريع تربوية خمتلفة‪.‬‬

‫لكن رغم أن كانط يعترب نقطة حتول جذري يف اتريخ الفلسفة عموما‪ ،‬والفلسفة احلديثة خصوصا‪ ،‬إال‬
‫أنه تعرض جلملة االنتقادات من طرف العديد من الفالسفة واملفكرين الدارسني لفكره‪.‬‬
‫‪- 74 -‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خاتمة‬

‫فالرتبية الكانطية أمهلت العديد من اجلوانب يف منو الفرد اجلسمية منها واملهارية والوجدانية‪ ،‬واعتربت‬
‫هذه األمور تعوق تنمية العقل وهتذيب الروح‪.‬‬

‫إن اإلنسان الذي تسعى إليه الرتبية النيتشوية‪ ،‬ليس هو اإلنسان الذي سعى إليه كانط فقد رأى أبن‬
‫"اإلنسان املتوحش أو الوحش األشقر الكاسر هو مبعىن ما املثل األعلى للجنس البشري أو اإلنساين‪ ،‬وأنه‬
‫بسبب اخلوف من هذا اإلنسان الوحش‪ .‬مت ترويض وحتقيق النوع املعاكس أو املخالف أي –احليوان املدجن‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫واحليوان التجمعي‪ ،‬واحليوان الضعيف‪ ،‬وحيوان احلقوق املتساوية أو احليوان املسيحي أو الكانطي‪.‬‬

‫كما أن الرتبية اليت دعا إليها "كانط" واعتربها أمر صعب مهم يف إحياء اإلنسانية فإن نيتشة اعرتض‬
‫على هذا النوع من الرتبية واعتربها أبهنا أداة قمع توظفها الدولة لتحقيق مصاحلها فهي "خدعة كمارسها الدولة‬
‫يف استالب األجيال الشابة إهنا أداة للتالعب والتناور تعمل على تشويه وعي اإلنسان وإلغاء ذاته وابلتايل‬
‫‪2‬‬
‫إخضاعه للسلطة"‪.‬‬

‫‪ 1‬مفرج مجال‪( :‬ينتشة ضد كانط أو التقدم الومهي للنقد الكانطي)‪ ،‬جملة أوراق فلسفية‪ ،‬العدد ‪ ،2004 ،11‬ص‪.492-491‬‬
‫‪ 2‬بوبكري حممد‪ :‬الرتبية واحلرية‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،1997 ،‬ص‪.59‬‬
‫‪- 75 -‬‬
‫ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﻤﺼﺎدر‬
‫واﻟﻤﺮاﺟﻊ‬
‫ـــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قائمة المصادر والمراجع‬

‫قائمة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪-1‬املصادر‪:‬‬
‫‪- .1‬إمانويل كانط‪ ،‬نقد ملكة احلكم‪ ،‬ترمجة غامن هنا‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪ ،‬بريوت‪ ،2005 ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ .2‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‪ :‬أتمالت يف الرتبية‪ ،‬ماهي األنوار؟ مالتوجه يف التفكري تعريب وتعليق حممد لن مجاعة‪،‬‬
‫دار حممد علي للنشر‪ .‬د ط‪ ،‬د ت‪.‬‬
‫‪ .3‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪ :‬نقد العقل احملض‪ ،‬ترمجة موسى هيبة‪ ،‬د ط‪ ،‬د ت‪.‬‬
‫‪-2‬املراجع‪:‬‬
‫‪ .4‬بدوي عبد الرمحان‪ :‬األخالق عند كنت‪ ،‬الكويت‪ ،‬وكالة املطبوعات‪.1979 ،‬‬
‫‪ .5‬بدوي عبد الرمحان‪ :‬إميانويل كانط‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪.1977 ،1‬‬
‫‪ .6‬بدوي عبد الرمحان‪ :‬فلسفة الدين والرتبية عند كنت‪ ،‬بريوت‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.1980‬‬
‫‪ .7‬بدوي عبد الرمحان‪ :‬فلسفة القانون والسياسة‪ ،‬الكويت‪ ،‬وكالة املطبوعات‪.1979 ،‬‬
‫‪ .8‬بلكفيف مسري‪ :‬إميانويل كانط فيلسوف الكونية‪ ،‬ط‪ ،1‬اجلزائر‪ ،‬منشورات االختالف‪.2011 ،‬‬
‫‪ .9‬بوبكري حممد‪ :‬الرتبية واحلرية‪ ،‬إفريقيا الشرق‪.1997 ،‬‬
‫‪ .10‬بوترو‪ ،‬إميل‪ :‬فلسفة كانط‪ ،‬ترمجة عثمان أمني‪،‬‬
‫‪ .11‬تشرتون آنت‪ :‬كتاب الرتبية للحكيم األملاين كانت‪ ،‬ترمجة الطنطاوي جوهري‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املطبعة السلفية‪،‬‬
‫‪1355‬هـ‪.‬‬
‫‪ .12‬اجليوشي فاطمة‪ :‬فلسفة الرتبية‪( ،‬ب‪.‬ب) منشورات جامعة حلب‪( ،‬ب‪.‬س)‪.‬‬
‫‪ .13‬ديورانت ول‪ :‬قصة الفلسفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬مكتبة املعارف‪ ،‬ط‪.1982 ،4‬‬
‫‪ .14‬راسل برتراند‪ :‬حكمة الغرب‪ ،‬ترمجة فؤاد زكرايء (ب‪.‬ب)‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،1983 ،‬ج‪.2‬‬
‫‪ .15‬روسو‪ ،‬جان جاك‪ :‬إميل والرتبية‪ ،‬ترمجة عادل زعيرت‪ ،‬مصر‪ ،‬دار املعارف‪.1956 ،‬‬
‫‪ .16‬زيدان حممود فهمي‪ :‬كنط وفلسفة النظرية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪.2004 ،‬‬
‫‪ .17‬شفشق حممود عبد الرزاق‪ :‬األصول الفلسفية للرتبية‪( ،‬ب‪.‬ب) دار البحوث‪ ،‬ط‪.1974 ،1‬‬
‫‪ .18‬الصباغ رمضان‪ :‬كانط ونقد اجلميل‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪( ،‬ب‪،‬س)‪.‬‬
‫‪ .19‬عبد احلق منصف‪ :‬األنوار وسلطة اخلبري البيداغوجي‪ ،‬املغرب‪ ،‬إفريقيا الشرق‪.‬‬
‫‪ .20‬عثمان أمني‪ :‬رواد املثالية يف الفلسفة العربية‪( ،‬ب‪.‬ب)‪ ،‬دار املعارف ‪.1967‬‬
‫‪ .21‬عويصة كامل حممد حممد‪ :‬إميانويل كانط شيخ الفلسفة احلديثة يف العصر احلديث‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬ط‪.1993 ،1‬‬
‫‪- 77 -‬‬
‫ـــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ .22‬كرم يوسف‪ :‬اتريخ الفلسفة احلديثة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪( ،‬ب‪.‬س)‪.2011 ،‬‬
‫‪ .23‬ليوشرتاوس وجوزيف كروبسي ‪ :‬اتريخ الفلسفة السياسية ‪ ,‬سيد امحد اجلزء الثاين ‪,‬اجمللس االعلى للثقافة ‪,‬‬
‫القاهرة ط‪2005 1‬‬
‫‪ .24‬وانت كرستوفر‪ ،‬آندزجي كليمو فسكي‪ :‬اقدم لك كانط‪ ،‬ترمجة إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬اجمللس األعلى‬
‫للثقافة‪.2002 ،‬‬
‫‪-3‬اجملالت‪:‬‬
‫‪ .25‬مجال مفرج‪( :‬نيتشيه ضد كانط أو التقدم الومهي للنقد الكانطي)‪ ،‬جملة أوراق فلسفية‪ ،‬العدد ‪،11‬‬
‫‪.2004‬‬
‫‪ .26‬الشنيطي‪ :‬خواطر كانط يف الرتبية‪ ،‬دراسات فلسفية مهداة إىل روح عثمان أمني‪ ،‬أتليف مجاعي‪ ،‬تصدير‬
‫ابراهيم مذكور‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.1979 ،‬‬
‫‪-4‬املعاجم‪:‬‬
‫‪ .27‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مج‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مادة راب‪.‬‬
‫‪ .28‬أندري الالند‪ :‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬تعريب خليل أمحد خليل اجمللد األول‪ ،‬منشورات عويدات‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،2‬مادة تربية‪.‬‬
‫‪ .29‬مجيل صلبيا‪ :‬املعجم الفلسفي‪ ،‬ج‪ ،1‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪.1982 ،‬‬
‫‪ .30‬عبد الرمحان بدوي‪ :‬املوسوعة الفلسفية‪ ،‬ج‪ ،1‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬ط‪.1984 ،1‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫ﻓﻬﺮس اﻟﻤﺤﺘﻮﻳﺎت‬
‫فهرس المحتويات‬

‫إهداء‬

‫شكر‬

‫مقدمة‬

‫الفصل األول‪ :‬مصادر الفكر الرتبوي عند كانط‬

‫متهيد ‪5 .....................................................................................‬‬

‫املبحث األول‪ :‬النشأة الرتبوية لكانط‪5 .........................................................‬‬

‫املبحث الثاين‪ :‬نظرية املعرفة عند كانط‪11..................................................... .‬‬

‫كانط والفلسفة النقدية‪11................................................................... :‬‬

‫التطور الروحي "لكانط" قد مر مبرحلتني هامة يف حياته‪12...................................... :‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬املؤثرات الفكرية ‪17...........................................................‬‬

‫أتثر كانط بروسو‪18........................................................................ .‬‬

‫كانط وابزدوف‪22......................................................................... :‬‬

‫خالصة الفصل‪25.......................................................................... :‬‬

‫الفصل الثاين‪ :‬أسس الرتبية عند كانط‬

‫‪27...........................................‬‬ ‫متهيد‪:‬‬

‫املبحث األول‪ :‬مفهوم الرتبية عند كانط‪27.................................................... :‬‬

‫ملدلول اللغوي‪27........................................................................... :‬‬

‫املدلول االصطالحي‪27..................................................................... :‬‬

‫الرتبية عند كانط‪28......................................................................... :‬‬

‫املبحث الثاين‪ :‬أصالة مشكلة الرتبية عند كانط ‪30...............................................‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫املبحث الثالث‪ :‬املنطلقات النقدية ‪32..........................................................‬‬

‫نقد الرتبية اللينة‪32..........................................................................:‬‬

‫نقد الوعظ الديين يف الرتبية ‪33................................................................‬‬

‫نقد الرعاية ابألدوات الصناعية ‪33.............................................................‬‬

‫نقد املناهج التعليمية ‪34......................................................................‬‬

‫خالصة الفصل ‪38...........................................................................‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬مكانة الرتبية عند كانط‬

‫متهيد ‪40....................................................................................‬‬

‫املبحث األول‪ :‬أهداف الرتبية عند كانط ‪40....................................................‬‬

‫االنضباط ‪40....................................................................‬‬ ‫‪-1‬‬


‫الثقافة ‪41.......................................................................‬‬ ‫‪-2‬‬
‫حتصيل احليطة‪41...............................................................:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫التنشئة اخللقية‪42................................................................‬‬ ‫‪-4‬‬

‫الطفل ورهاانت الرتبية ‪44.................................................................‬‬

‫املبحث الثاين‪ :‬وسائل الرتبية ‪47...........................................................‬‬

‫العقوبة ‪47..............................................................................‬‬

‫الرتبية العمومية والرتبية اخلاصة‪49..........................................................‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬أنواع الرتبية‪51............................................................‬‬

‫الرتبية الفيزايئية‪( :‬النظرية)‪51.............................................................:‬‬

‫الرتبية اجلسمية ‪51...............................................................‬‬ ‫أ‪-‬‬


‫‪ -‬الرتبية اجلسمية السلبية‪51.............................................................‬‬
‫‪ -‬الرتيبة اجلسمية اإلجيابية‪53............................................................‬‬
‫‪- 80 -‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫الرتبية العقلية ‪55.................................................................‬‬ ‫ب‪-‬‬

‫‪ -‬ضرورة العمل ‪55.....................................................................‬‬


‫‪ -‬تربية مالكات النفس (الدنيا‪ ،‬العليا) ‪56................................................‬‬
‫‪ -‬تربية عاطفة اللذة واألمل ‪59............................................................‬‬

‫الرتبية العملية‪59.........................................................................‬‬

‫‪ -‬الرتبية األخالقية ‪60..................................................................‬‬


‫‪ -‬الرتبية الدينية ‪63.....................................................................‬‬
‫‪ -‬الرتبية اجلنسية ‪65....................................................................‬‬
‫‪ -‬الرتبية السياسية ‪66...................................................................‬‬
‫‪ -‬الرتبية الفنية ‪68......................................................................‬‬

‫خالصة الفصل ‪71.......................................................................‬‬

‫خامتة ‪73..............................................................................‬‬

‫قائمة املصادر واملراجع‪77.................................................................‬‬

‫فهرس احملتوايت ‪79......................................................................‬‬

‫‪- 81 -‬‬

You might also like