You are on page 1of 3

‫اء‬ ‫الم ومحن العلم‬ ‫اإلس‬

‫‪ -2‬محنة سعيد بن جبير‬

‫ه ذه حمن ة س عيد بن جب ري م ع احلج اج بن يوس ف طاغي ة الع راق‪ ،‬وس عيد بن جب ري من أك ابر أص حاب ابن عب اس‬
‫رضي اهلل عنهما‪ ،‬ومن أئمة اإلسالم يف التفسري والفقه وأنواع العلوم‪ ،‬وكثرة العمل الصاحل‪ .‬وقد رأى خلق ًا من الصحابة‪،‬‬
‫ابعني‪.‬‬ ‫ق من الت‬ ‫ه خل‬ ‫ة منهم‪ ،‬وروى عن‬ ‫وروى عن مجاع‬
‫وقد قال خصيف يومًا‪( :‬كان أعلم التابعني بالطالق سعيد بن املسيب‪ ،‬وباحلج عطاء‪ ،‬وباحلالل واحلرام طاووس‪،‬‬
‫وبالتفس ري أب و احلج اج جماه د بن جب ري‪ ،‬وأمجعهم ل ذلك كل ه س عيد بن جب ري)‪.‬‬
‫ا املمتحن‪.‬‬ ‫يف‪ ...‬يف إمامن‬ ‫يخ حص‬ ‫و الش‬ ‫يف ه‬ ‫امل حص‬ ‫هادة ع‬ ‫كش‬ ‫تل‬
‫وقد قال خصيف يومًا‪( :‬كان أعلم التابعني بالطالق سعيد بن املسيب‪ ،‬وباحلج عطاء‪ ،‬وباحلالل واحلرام طاووس‪،‬‬
‫وبالتفس ري أب و احلج اج جماه د بن جب ري‪ ،‬وأمجعهم ل ذلك كل ه س عيد بن جب ري)‪.‬‬
‫ا املمتحن‪.‬‬ ‫يف‪ ...‬يف إمامن‬ ‫يخ حص‬ ‫و الش‬ ‫يف ه‬ ‫امل حص‬ ‫هادة ع‬ ‫كش‬ ‫تل‬
‫ك ان ابن جب ري من ال ذين ين اوئون حكم عب د املل ك بن م روان‪ ،‬إلس اءة األخ ري يف حكم الرعي ة املس لمة‪ ،‬ولوق وع‬
‫ده‪.‬‬ ‫امل يف عه‬ ‫مظ‬
‫وكان احلجاج بن يوسف‪ ،‬والي ًا لعبد امللك‪ ،‬يأخذ بالشبهات‪ ،‬ويتحرى املناوئني يف مجيع البالد اإلسالمية‪ ،‬حلكم‬
‫أمريه وسيده‪ ..‬فيصب احملن عليهم‪ ،‬دون هوادة‪ ،‬وال خوف من اهلل‪ ،‬املقتدر اجلبار‪ ،‬وكان خالد بن عبد اهلل القسري والي ًا‬
‫على مكة املكرمة ـ زادهها اهلل مثابة وأمنا ـ وقد علم بوجود ابن جبري يف واليته‪ ،‬فألقى القبض عليه‪ ،‬واعتقله‪ ،‬مث أراد أن‬
‫يتخلص منه‪ ،‬ملعرفته بأن سعيدًا‪ ،‬قد أويت لسنًا ناطقًا‪ ،‬وقلبًا حافظًا‪ ،‬وسرعة بديهة بإلقاء احلجة القوية إلسكات خصمه‪ ،‬إذ‬
‫هو ليس من أولئك الذين خيشون رهبة حاكم‪ ،‬وال بطش سلطان يف سبيل معتقده غري مبال بالنتائج مهما كانت‪ .‬ودفع ًا‬
‫للوق ع يف جلة املخاص مة وخض م املنافس ة ال يت ال تض من نص ره وخوف ًا من مس ش عور أه ل مك ة ال ذين ي دينون ب الوالء‬
‫واالح رتام البن جب ري‪ ،‬أرس له خمف ورًا م ع إمساعيل بن واس ط البجلي‪ ،‬إىل احلج اج بن يوس ف‪.‬‬
‫وهن ا تب دأ احملن ة‪ ،‬مث تش تد س ورهتا م ع لق اء احلج اج طاغي ة الع راق‪ ،‬ويف ه ذا اللق اء‪ ،‬غ ري الك رمي‪ ،‬ج رت املناقش ة‬
‫واملخاصمة الفكرية‪ ،‬كان سعيد فيها فارس امليدان‪ ،‬وصاحب لواء النصر والظفر‪ ،‬حيث كان فيها جريئ ًا‪ ،‬ال تلني قناته‪،‬‬
‫ص لبًا ال يض عف س يف لس انه‪ ،‬يق ول احلق‪ ،‬وه و يعلم أن ه مف ارق ال دنيا‪ ،‬بس بب ذل ك‪:‬‬
‫ا امسك؟‬ ‫اج‪ :‬م‬ ‫ال الحج‬ ‫(ق‬
‫ري‪.‬‬ ‫عيد بن جب‬ ‫عيد‪ :‬س‬ ‫س‬
‫قيت أنت‪.‬‬ ‫ك وش‬ ‫قيت أم‬ ‫اج‪ :‬ش‬ ‫الحج‬
‫ريك‪.‬‬ ‫هغ‬ ‫عيد‪ :‬الغيب يعلم‬ ‫س‬
‫ارًا تلظى‪.‬‬ ‫دنيا ن‬ ‫ك بال‬ ‫دل‬ ‫اج‪ :‬ال ب‬ ‫الحج‬
‫دك الختذتك إهلًا‪.‬‬ ‫ك بي‬ ‫و علمت أن ذل‬ ‫عيد‪ :‬ل‬ ‫س‬
‫د؟‬ ‫ك يف حمم‬ ‫ا قول‬ ‫اج‪ :‬فم‬ ‫الحج‬
‫الـوعـي – العـدد الحادي عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬شعبان ‪1408‬هـ ‪ -‬نيسان ‪1988‬م‬
‫‪1‬‬
‫ام اهلدى‪.‬‬ ‫يب الرمحة وإم‬ ‫عيد‪ :‬ن‬ ‫س‬
‫ار؟‬ ‫و يف الن‬ ‫ة أم ه‬ ‫و يف اجلن‬ ‫ك يف علّي ‪ ،‬أه‬ ‫ا قول‬ ‫اج‪ :‬فم‬ ‫الحج‬
‫ا‪.‬‬ ‫رفت أهله‬ ‫ا‪ ،‬ع‬ ‫رفت من فيه‬ ‫ا وع‬ ‫و دخلته‬ ‫عيد‪ :‬ل‬ ‫س‬
‫اء؟‬ ‫ك يف اخللف‬ ‫ا قول‬ ‫اج‪ :‬فم‬ ‫الحج‬
‫ل‪.‬‬ ‫ت عليهم بوكي‬ ‫عيد‪ :‬ليس‬ ‫س‬
‫ك؟‬ ‫أيهم أعجب إلي‬ ‫اج‪ :‬ف‬ ‫الحج‬
‫اهم خلالقي‪.‬‬ ‫عيد‪ :‬أرض‬ ‫س‬
‫الق؟‬ ‫ى للخ‬ ‫أيهم أرض‬ ‫اج‪ :‬ف‬ ‫الحج‬
‫ّر هم وجنواهم‪.‬‬ ‫ذي يعلم س‬ ‫د ال‬ ‫ك عن‬ ‫عيد‪ :‬علم ذل‬ ‫س‬
‫دقين‪.‬‬ ‫اج‪ :‬أحب أن تص‬ ‫الحج‬
‫ذبك‪.‬‬ ‫ك لن أك‬ ‫عيد‪ :‬إن مل أحب‬ ‫س‬
‫حك؟‬ ‫ك مل تض‬ ‫ا بال‬ ‫اج‪ :‬فم‬ ‫الحج‬
‫ار‪.‬‬ ‫ه الن‬ ‫ق من طني والطني تأكل‬ ‫وق خل‬ ‫حك خمل‬ ‫ف يض‬ ‫عيد‪ :‬وكي‬ ‫س‬
‫حك؟‬ ‫ا نض‬ ‫ا بالن‬ ‫اج‪ :‬فم‬ ‫الحج‬
‫وب)‪.‬‬ ‫تِو القل‬ ‫عيد‪ :‬مل تس‬ ‫س‬
‫ذل ك ه و املش هد األول من ه ذه املناقش ة‪ ،‬أو ق ل الفص ل األول من احملن ة‪ ،‬وق د ب دا للحج اج أن ه غ ري ق ادر على‬
‫إخضاع سعيد إليه‪ ،‬أو محله على إعطاء الوالء ألمريه وسيده‪ ،‬ولو باإلشارة أو التلميح‪ ..‬ومل ينفعه التهديد بالقتل‪ ،‬كما مل‬
‫ة الكالم‪ ،‬وقبح االهتام‪.‬‬ ‫د غالظ‬ ‫تف‬
‫وهن ا يس لك احلج اج طريق ًا آخ ر‪ ،‬لعل ه يص ل في ه إىل م ا يري د وحيص ل على مبتغ اه من س عيد‪.‬‬
‫(مث يأمر احلجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت‪ ،‬فجمعه بني يديه‪ ،‬فقال سعيد‪ :‬إن كنت مجعت هذا لتتقي به فزع‬
‫ي وم القيام ة فص احل‪ ،‬وإال ففزع ة واح دة ت ذهل ك ل مرض عة عم ا أرض عت‪ ،‬وال خ ري يف ش يء لل دنيا إال م ا ط اب وزك ا)‪.‬‬
‫وهكذا ينتهي املشهد الثاين من هذه احملنة‪ ،‬فلم ينفع احلجاج هذا اإلغراء باملال والذهب‪ ،‬كما مل تسعفه منحه اليت‬
‫أومأ هبا‪ ،‬فليس ابن جبري من عباد املال‪ ،‬وال من الذين يبيعون دينهم بدنياهم‪ ،‬لذا فقد لقنه درس ًا لن ينساه‪ ،‬يف أن املال‪،‬‬
‫أعظم وسيلة إلصالح األعمال‪ ،‬وصالح اآلخرة‪ ،‬إن مجع بطريق احلالل الطيب‪ ..‬التقاء فزع يوم القيامة‪َ ،‬يْو َم َال َيْنَف ُع‬
‫ِليٍم ‪.‬‬ ‫َه ِبَق ْلٍب َس‬ ‫وَن ‪ِ ‬إَّال َمْن َأَتى ال َّل‬ ‫اٌل َو َال َبُن‬ ‫َم‬
‫ر‪.‬‬ ‫بيًال آخ‬ ‫اج س‬ ‫لك احلج‬ ‫مث يس‬
‫(مث دعا احلجاج بالعود والناي‪ ،‬فلما ضرب بالعود ونفخ بالناي‪ ،‬بكى سعيد‪ ،‬فقال‪ :‬ما يبكيك؟ أهو اللعب؟ قال‬
‫سعيد‪ :‬هو احلزن‪ ،‬أما النفخ فذكرين يومًا عظيمًا يوم ينفخ يف الصور‪ ،‬وأما العود فشجرة قطعت من غري حق‪ ،‬وأما األوتار‬
‫ة)‪.‬‬ ‫وم القيام‬ ‫اة تبعث ي‬ ‫فمن الش‬

‫الـوعـي – العـدد الحادي عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬شعبان ‪1408‬هـ ‪ -‬نيسان ‪1988‬م‬
‫‪2‬‬
‫فسعيد ليس من هواة الطرب وال من رواد الناي والعود‪ ،‬وإمنا من هواة احلق ورواد اإلسالم الذي وهب حياته له‪،‬‬
‫فإعراضه عن ذلك وإظهار حزنه حني تذكر اآلخرة وشدة عذاهبا‪ ،‬فكان درسًا آخر لقنه إياه‪ ،‬وإدراك املسلم ذلك دائمًا‪ ،‬ملا‬
‫عص ى اهلل‪ ،‬أو خ الف أم رًا من أوام ره‪ ،‬وبع د أن اسقط يف يده‪ ،‬وفش لت مجي ع تلك الس بل‪ ،‬هن ا اش تدت احملن ة قليًال‪ ،‬فعال‬
‫غضب احلجاج‪ ،‬وفقد أعصابه‪ ،‬وكان ينهي هذه احملنة مبشاهدها‪ ،‬أو يصل إىل هنايتها‪ ،‬ولكن تريث إىل حني‪ ،‬لعله حيظى‬
‫عيد‪.‬‬ ‫يء من س‬ ‫بش‬
‫(قال احلجاج ويلك يا سعيد‪ :‬فقال ال ويل ملن زحزح عن النار وأدخل اجلنة‪ .‬قال احلجاج‪ :‬اخرت يا سعيد أي قتلة‬
‫أقتلك؟ فقال اخرت أنت لنفسك‪ ،‬فوا هلل ال تقتلين قتلة إال قتلك اهلل مثلها يف اآلخرة؟‪ .‬فقال‪ :‬أريد أن أعفو عنك؟ فقال‪ :‬إن‬
‫ذر)‪.‬‬ ‫ك وال ع‬ ‫راءة ل‬ ‫ا أنت فال ب‬ ‫و فمن اهلل وأم‬ ‫ان العف‬ ‫ك‬
‫عند ذلك ضاق احلجاج ذرعًا بسعيد‪ ،‬ومل يطق صربًا عليه‪ ،‬وهو يتلقى منه هذه األجوبة اجلريئة واليت كانت سهامًا‬
‫ة‪.‬‬ ‫أمر بإهناء احملن‬ ‫ه‪ ..‬ف‬ ‫ب قلب‬ ‫تص‬
‫(قال احلجاج‪ :‬اذهبوا به فاقتلوه‪ ،‬فلما خرج ضحك‪ ،‬فأخرب احلجاج بذلك‪ ،‬فردوه إليه‪ ،‬وقال‪ :‬ما أضحك؟ فقال‪:‬‬
‫عجبت من جرأتك على اهلل وحلم اهلل عليك‪ ،‬فأمر بالنطع فبسط‪ .‬وقال‪ :‬اقتلوه‪ ،‬فقال سعيد‪ :‬وجهت وجهي للذي فطر‬
‫ركني‪.‬‬ ‫ا من املش‬ ‫ا أن‬ ‫لمًا وم‬ ‫ًا مس‬ ‫موات واألرض حنيف‬ ‫الس‬
‫ة‪.‬‬ ‫ري القبل‬ ‫ه لغ‬ ‫وا ب‬ ‫اج‪ :‬وجه‬ ‫ال احلج‬ ‫ق‬
‫ه اهلل‪.‬‬ ‫وا فثم وج‬ ‫ا تول‬ ‫عيد‪ :‬فأينم‬ ‫ال س‬ ‫ق‬
‫ه‪.‬‬ ‫وه على وجه‬ ‫اج‪ :‬كب‬ ‫ال احلج‬ ‫ق‬
‫ق ال س عيد‪ :‬منه ا خلقن اكم وفيه ا نعي دكم ومنه ا خنرجكم ت ارة أخ رى‪.‬‬
‫اج‪ :‬اذحبوه‪.‬‬ ‫ال احلج‬ ‫ق‬
‫قال سعيد‪ :‬أما أنا فأشهد أن ال إله إال اهلل وحده‪ ،‬ال شريط له وأن حممدًا عبده ورسوله خذها مىن حىت تلقاين هبا‬
‫دي)‬ ‫ه بع‬ ‫د يقتل‬ ‫لطه على أح‬ ‫ة‪ ..‬اللهم ال تس‬ ‫وم القيام‬ ‫ي‬
‫فذبح من الوريد إىل الوريد‪ .‬ولسانه رطب بذكر اهلل‪ ..‬وهبذا انتهت حمنة سعيد بن جبري باستشهاده‪ .‬وبقيت احملن‬
‫تص يب أمثال ه‪ ،‬من ال ذين أعرض وا عن احلك ام بكليتهم‪ .‬إلع راض احلك ام عن اهلل وعن دين ه وش ريعته‪.‬‬
‫وهكذا شأن اهلل مع عبادة املؤمنني الصابرين‪ .‬فلم ُيض ّيع إمياهنم‪ ،‬أومل ينسهم ذكره يف أوقات حمنتهم‪ ،‬وهم قادمون‬
‫إليه‪ ،‬وكيف ينساهم‪ ..‬أو يضيعهم‪ ..‬وحمنتهم كانت يف سبيله‪ ،‬ومن أجل إعزاز دينه‪ .‬لذا قيل هلم‪ :‬سالم عليكم مبا صربمت‬
‫دار‪.‬‬ ‫ىب ال‬ ‫فنعم عق‬
‫قي ل للحس ن البص ري رمحه اهلل تع اىل‪ :‬إن احلج اج ق د قت ل س عيد بن جب ري‪ .‬فق ال‪" :‬اللهم ائت على فاس ق ثقي ف‪.‬‬
‫واهلل ل و أن من بني املش رق واملغ رب اش رتكوا يف قتل ه لكبهم اهلل ع ز وج ل يف الن ار)‪.‬‬
‫(وق ال امحد بن حنب ل قت ل احلج اج س عيد بن جب ري وم ا على وج ه األرض أح د إال وه و مفتق ر إىل علم ه‪. )..‬‬

‫الـوعـي – العـدد الحادي عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬شعبان ‪1408‬هـ ‪ -‬نيسان ‪1988‬م‬
‫‪3‬‬

You might also like