You are on page 1of 3

‫المحاضرة التاسعة‪:‬‬

‫إصالحات المؤسسة االقتصادية العمومية‪ :‬استقاللية المؤسسات‬


‫(االستقالل المالي واإلداري)‬

‫اعتبرت استقاللية المؤسسات كإصالحات الفرصة األخيرة بالنظر لفشل مختلف التدخالت‬
‫واإلصالحات السابقة في إطار نفس المنظومة؛ وهذا له ما يبرره على مستويات عدة في تلك‬
‫المرحلة‪ ،‬فمثال كانت ميزانية الدولة التي كان يعول عليها في التدخل في اللحظة األخيرة إلنقاذ هذه‬
‫المؤسسات غير قادرة تماما على تقديم أي شكل من أشكال المساعدة المادية والمالية لها بالنظر‬
‫لالنهيار الشديد لسعر البترول بداية من منتصف الثمانينات خاصة‪ .‬لقد كانت تدخالت الخزينة‬
‫العمومية من خالل تعظيم االستثمارات العمومية في مراحل سابقة والتدخل المالي المباشر لصالح‬
‫هذه المؤسسات األساس الذي شكل جوهر نموها وإصالحها سابقا‪ ،‬لكن هذا بدوره كان ناتجا عن‬
‫نمو مالي ناتج عن نمو الريع البترولي باألساس‪ ،‬يعني ذلك أن األمر برمته كان يفتقد للعقالنية‬
‫الالزمة وللفعالية والفاعلية المناسبين اقتصاديا وتنظيميا وتسييريا‪ .‬فانهيار أسعار البترول أدت إلى‬
‫أشكال من االنهيار تبعا لذلك‪ ،‬وتراجعا لتدخالت الدولة اإلصالحية والمالية السخية للقطاع العمومي‬
‫تحديدا في هذه الفترة‪ ،‬األمر الذي جعل هذه اإلجراء يعرف على أنه إجراء الفرصة األخيرة‪.‬‬
‫‪ .1‬ما معنى استقاللية مؤسسات االقتصادية العمومية‪:‬‬
‫تعني استقاللية هذه المؤسسة تمكينها من التصرف بكل حرية في كل ما يخصها من‬
‫الناحيتين االقتصادية المالية والتنظيمية التسييرية الخاصين بها؛ بما يسمح لها من جهة بامتالك‬
‫عناصر النمو الذاتي والتحكم بها‪ ،‬ومن اإلسهام في تحسين وضعية االقتصاد العمومي بشكل‬
‫عام ومساعدته على النهوض والتعافي من جهة أخرى‪ .‬إنه إجراء إصالحي ذو طابع مالي‬
‫تنظيمي تسييري إذن ضمن نفس التوجه االقتصادي العمومي االشتراكي‪.‬‬
‫يتحدد مفهومها وفقا لالتجاه العام للمجتمع الذي تنتمي إليه‪ ،‬وبأهدافها التي جاءت ألجلها؛ ماليا‬
‫وقانونيا أصبحت هذه المؤسسات شركات مساهمة أو شركات محدودة المسؤولية‪ ،‬تملك الدولة‬
‫أوالجماعات المحلية فيها‪ ،‬بصيغة مباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬جميع الحصص أو جميع األسهم‪ .‬فتعتبر‬
‫بذلك المؤسسات االقتصادية العمومية شركات مساهمة‪ ،‬أما المؤسسات العمومية االقتصادية التي‬
‫نشأت على مستوى محلي (الجماعات المحلية) فتعتبر ذات مسؤولية محدودة‪.‬‬

‫‪ .2‬أهداف االستقاللية‪:‬‬
‫هناك عدة أهداف ذات طابع مالي اقتصادي من جهة‪ ،‬لكن كذلك ذات طابع تنظيمي تسييري‬
‫وتحفيزي للمؤسسة على المبادرة وتجاوز أسباب وعوامل الفشل السابقة‪ .‬هناك محاولة لتحرير‬
‫المؤسسة من أشكال التبعية واألبوة سابقا‪ ،‬والتي نظر إليها على أنها قيود منعت تطورها ونموها‬
‫وسيرها بشكل مناسب‪.‬‬
‫يمكن تسجيل األهداف األساسية التالية‪:‬‬
‫• تحييد المعوقات البيروقراطية التي استمرت في إعاقة أداء المؤسسة وتعقيد وضعها‬
‫التنظيمي‪ ،‬من حيث المبادرة وسرعة اتخاذ القرار‪ ،‬من حيث االتصال وسرعة التدخل رغم‬
‫اإلصالح السابق في هذا الشأن والمتمثل في إعادة الهيكلة‪،‬‬
‫• وضع هذه المؤسسات أمام مسؤولياتها المباشرة كأمر واقع‪ ،‬أي أمام مسؤولية النجاح والفشل‪،‬‬
‫وهذا ما سيتيح إلطاراتها تحديدا ولعمالها ككل فرصا في مجال المبادرة الذاتية واتخاذ القرار‪،‬‬
‫وتخليصهم من الضغوط الخارجية‪،‬‬
‫• مسايرة التغيرات الشاملة والنوعية التي كان يعرفها المجتمع الجزائري ككل في تلك الفترة‪،‬‬
‫سياسيا‪ ،‬اقتصاديا‪ ،‬اجتماعيا وثقافيا‪،..‬‬
‫• دفع هذه المؤسسات إلى الخروج من وضع االنتظار والترقب‪ ،‬إلى وضع االعتماد على الذات؛‬
‫على إطاراتها وعمالها وإمكانياتها الخاصة بشكل عام‪.‬‬
‫• تمكينها من فرص التكيف مع محيطها الخاص الداخلي والخارجي وفق إمكانياتها وقدراتها‬
‫وأهدافها الخاصة‪ ،‬وهذا ما سيمكنها من بلورة تجربة ذاتية ذات خصوصية قد تمكنها‪ ،‬من خالل‬
‫التراكم‪ ،‬من تحقيق مزيدا من النمو والقدرة على الفعل‪،‬‬
‫لقد تم النظر إلى ملكية الدولة لهذه المؤسسات وتدخلها في تسييرها وتنظيمها‪ ،‬وما يترتب عن‬
‫ذلك من تعقيد وبيروقراطية‪ ..‬ومن مصاريف وتكاليف مالية ومسؤوليات تثقل كاهل الخزينة‬
‫العمومية المثقلة أصال بالتوسع المستمر لمسؤولياتها المالية الجديدة مقابل انهيار شبه كلي لمداخيلها‪،‬‬
‫على أنه مشكل ينبغي حله بإجراءات أكثر ثورية‪ .‬لقد تم تمكين هذه المؤسسات من أن تصبح ذات‬
‫شخصية معنوية تميزها عن باقي مؤسسات الدولة وعن المؤسسات واألجهزة التي كانت تتبعها‬
‫سابقا‪ ،‬لتصبح الدولة كمالك مساهم في رأسمالها لكن ال عالقة لها بتسييرها‪ ،‬وينوبها في أداء دور‬
‫المالك صناديق المساهمة التي تعتبر كمؤسسات مالية اقتصادية‪ .‬هكذا تنشأ على مستوى المؤسسة‬
‫هيئات إدارتها وتسييرها من مجلس إدارة وجمعية مساهمين ومدير عام‪ ،‬وهذا ما يشبه كثيرا طبيعة‬
‫المؤسسة الخاصة‪ ،‬من حيث الصالحيات وإجراءات وطرق تحقيق الربحية االقتصادية الحقيقية‪.‬‬
‫لقد جاءت هذه االستقاللية في ظروف وتحوالت عامة عرفها المجتمع الجزائري نتيجة للحراك‬
‫والتغيرات التي عرفها منذ االستقالل وصوال إلى تلك المرحلة‪ ،‬وهو ما شكل بحد ذاته عامل دفع‬
‫باتجاه هذه اإلصالحات‪ ،‬التي تعتبر كما سبق ذكره‪ ،‬إصالحات الفرصة األخيرة‪ ،‬بما هي محاولة‬
‫إعادة تشكيل منطق تنظيم وتسيير اقتصادي ومؤسسي يتميز بأكثر فعالية وبثقافة عمل وأساليب‬
‫مناسبة‪.‬‬
‫‪ .3‬لماذا فشل مسعى استقاللية المؤسسات االقتصادية العمومية؟‬
‫هناك عدة اعتبارات وإكراهات بعضها على صلة بالمؤسسة في حد ذاتها وبعضها يتجاوز‬
‫قدراتها وإمكانياتها ووضعها الذاتي‪ ،‬أي أنه على صلة بمحيطها الخارجي‪ ،‬بمحيطها المجتمعي‬
‫الوطني والمحلي‪ ،‬وبالمحيط العالمي والدولي تكنولوجيا وإنسانيا‪..‬‬
‫◄ تنظيميا وتسييريا‪:‬‬
‫ناتجة باألساس عن تعقيدات وصعوبات تنظيمية وتسييرية على صلة بالقواعد واإلجراءات‬
‫الرسمية الثقيلة والمعقدة وبالطابع البيروقراطي المترسخ‪ ،‬لكن كذلك ذات الصلة بالممارسات‬
‫العمالية والتسييرية التي يغلب عليها الطابع التقليدي غير العقالني والكالسيكي الجامد‪ .‬ذات الصلة‬
‫كذلك بالثقافة العمالية المهيمنة ذات المرجعيات التقليدية وثقافة التسيير التقليدية والكالسيكية كذلك‬
‫غير المناسبة لروح التنظيم والتسيير االشتراكي‪ ،‬والتسيير العقالني واالقتصادي بشكل عام‪.‬‬
‫◄ المحيط المجتمعي‪:‬‬
‫لقد تم غرس هذه المنظومة ككل‪ ،‬والمؤسسة التي تمثلها بالذات‪ ،‬في محيط مجتمعي غير‬
‫مناسب كلية تقريبا بالنظر لتاريخية المجتمع وخصوصيته التي لم تتالءم مع منظومة لها مسارها‬
‫التشكلي الخاص بها وانتماءها المجتمعي المميز‪.‬‬
‫◄ التغيرات العميقة والشاملة التي كانت تحدث عالميا‪ ،‬دوليا وإنسانيا‪:‬‬
‫عرفت تلك المرحلة تسارعا الفتا في حدوث عدة تطورات عالمية ودولية ذات أبعاد متعددة؛‬
‫فكرية وإيديولوجية وإنسانية وسياسية واقتصادية وتكنولوجية وعلمية‪ .‬كما بدأت في هذه المرحلة‬
‫المنظومة االشتراكية ككل في التفكك عالميا‪ ،‬وتعرضت اقتصاداتها واألنظمة االشتراكية المرتبطة‬
‫بها إلى هزات عنيفة وعميقة نتيجة هشاشتها الذاتية وعدم قدرتها على مجابهة التحديات الخارجية‬
‫التي كانت تهددها‪ .‬بالمقابل كانت المنظومة الرأسمالية النقيض تقدم نفسها بأفضل ما يكون من خالل‬
‫اقتصاد السوق وعلى عدة مستويات‪ .‬وهذا ما كان يصب في اتجاه تبلور عالم يهيمن عليه اقتصاد‬
‫السوق والرأسمالية الغربية التي لم تخل في تلك الفترة على األقل من مضامين وميول كولونيالية‪،‬‬
‫لقد تم إبراز ذلك خاصة من خالل تدخالت صندوق النقد الدولي التي هيأت األرضية لهيمنة دول‬
‫معينة وشركاتها متعددة الجنسيات على االقتصاد العالمي وتغيير أنظمة سياسية بالقوة وبمختلف‬
‫التدخالت المباشرة وغير المباشرة‪.‬‬
‫كما أن تطور وسائل النقل واالتصال والتواصل الحديثة أدى إلى حالة تثاقف إنسانية‬
‫وتبادال لألفكار والتجارب‪ ،‬وحتى لغزو فكري وتجريد ثقافي وهيمنة ثقافية‪ ،‬األمر الذي شجع على‬
‫عدة تغيرات مجتمعية وثقافية وفكرية واقتصادية أسهمت بشكل أو بآخر في تبلور مشروع إنسان‬
‫جديد‪ ،‬عامل جديد‪ ،‬مشروع اقتصادي ومؤسسة جديدين عابرين للحدود والخصوصيات‪،‬‬
‫وبارتباطات متعددة وممتدة بدونها لم يكن ممكنا تحقيق أي نجاح مهم يذكر‪ ،‬والوضع الحالي أفضل‬
‫دليل على ذلك‪ .‬لقد جعل هذا األمر إصالحات المنظومة االشتراكية تبدو كلية كما لو أنها تجاوزها‬
‫الزمن بخطوات‪ ،‬هذا ما يمكن فهمه على األقل من خالل ما سمي بإصالحات الفرصة األخيرة‪ .‬هذا‬
‫ما سينطبق كذلك‪ ،‬وبأعمق تأثير‪ ،‬على المراحل الالحقة التي ستمر بها المؤسسة والمنظومة ككل‪،‬‬
‫من خصخصة وانفتاح على اقتصاد السوق وعلى القطاع الخاص‪.‬‬

You might also like