You are on page 1of 15

‫الو ُج ِ‬

‫ـود َّيـة‬ ‫سـالَـة ُ‬


‫الر َ‬
‫ِّ‬
‫محيي الدين بن عربي‬
‫يطلبونك في الس ِ‬
‫ـماء‬ ‫َ‬ ‫منك حتَّى * تعالَوا‬
‫وأي األرض تخلو َ‬
‫ُّ‬
‫تراهم ينظرون إليك جهـرا * وهم ال يبصرون من الع ِ‬
‫ماء‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ًْ‬
‫– الحسين بن منصور الحالَّج‬

‫غير اهلل‪.‬‬
‫أنك لم تكن َ‬
‫وعرفت َ‬
‫َ‬ ‫ارتفعت أنانيتُك‪،‬‬
‫ْ‬ ‫نفسك‬
‫عرفت َ‬
‫َ‬ ‫فمتى‬
‫– محيي الدين بن عربي‬

‫تقديم‬
‫والحـلُولـيَّة‬
‫التصـوف ُ‬
‫ُّ‬

‫ال ُّ‬
‫نظننا نغالي إن قلنا بأن اإلسالم ككل محتوىـ في عقيدة‪ ‬التوحيد‪ :‬فإثبات وحدانية اهلل وعدم الشرك به هو من‬
‫عامة المؤمنين المحورـ الواضح البسيط الذي تدورـ عليه حياتُهم الدينية‪ .‬أما الخاصة من أهل الباطن‪ ،‬فالتوحيد منهم‬
‫هو الباب الذي ينفتح على‪ ‬الحقيقة الذاتية‪ :‬فكلما أمعن عق ُل المتصوف‪ ،‬على َه ْدي من بصيرته‪ ،‬في َس ْب ِر ظاهر‬
‫األمر ًّ‬
‫حدا‬ ‫تعقيدا – إلى أن يبلغ به ُ‬
‫ً‬ ‫غورا وأشد‬
‫البساطة العقالنية للوحدانية اإللهية‪ ،‬تبيَّن له أن هذه البساطة أعمق ً‬
‫أوجه التوحيد بالعقل الخطابي‪ discursive reason ‬وحده؛ إذ إن ُّ‬
‫تفكره في هذه‬ ‫التوفيق بين مختلف ُ‬
‫ُ‬ ‫يتعذر بعده‬
‫حال‪َ  ‬جمع[‪ ]1‬يتعدى َّ‬
‫كل‬ ‫حدود استيعابها القصوى‪ ،‬وبذلك يتاح للعقل أن يختبرـ َ ْ‬‫َ‬ ‫بملَكة التفكير‬
‫األوجه بالغٌ ال محالة َ‬
‫ُ‬
‫تصورـ شكالني‪ .‬في عبارة أخرى‪ ،‬فإن للكشف فيما يتعدى الصور وحده أن يرقى إلى الوحدانية‪.‬‬

‫مذهب الشيخ األكبر محيي الدين بن عربي كلَّه هو‪ ‬وحدة الوجود‪ .‬ومازالـ الجد ُل‬
‫َ‬ ‫المفهوم المركزي الذي يتخلَّل‬
‫ُ‬
‫دائرا حول ما إذا كان يقصد بهذا المصطلح وصفـ عقيدة توحيدية ال‪ ‬يوجد‪ ‬بمقتضاها إال‪ ‬الواحد‪ ‬وحده‪ .‬بيد أن‬
‫ً‬
‫اإلجابة باإليجاب عن هذه المسألة ال تشير إلى نقلة حاسمة في اإللهيات اإلسالمية‪ ،‬ألن ابن عربي لم يفعل‪ ،‬في‬
‫الواقع‪ ،‬غير الدفع بمذهب المتكلِّمين األشاعرة حتى أقصىـ مداه؛ إذ إن إصرار األشعري على قدرة اهلل الكلِّية‬
‫وهيمنته على الكون ينطوي‪،‬ـ منطقيًّا‪ ،‬على أن اهلل هو خالق األفعال‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬الفاعل األوحدـ[‪ .]2‬لذا ترانا ال نجانب‬
‫قياسا على ذلك‪ ،‬وعلى غرار ابن عربي‪ ،‬بأن‪ ‬اهلل هو الموجود األوحد‪.‬‬
‫إن قلنا‪ً ،‬‬
‫المنطق ْ‬

‫في كتابه األشهر‪ ‬فصوص الحكم‪ ،‬يتكلم الشيخ األكبر على التحقق الروحي بوصفه "تخلالً" متبادالً بين اهلل‬
‫واإلنسان‪ .‬فاهلل‪ ،‬إذا جاز القول‪ ،‬يتخذ الصورة البشرية‪ :‬فمن منظورـ أول‪ ،‬يكون‪ ‬الالهوت‪ ‬محتوى‪ ‬الناسوت‪ ،‬حيث‬
‫تماما‪ .‬في‬
‫اإلنسان في الحق الذي يستهلكه ً‬
‫ُ‬ ‫حد عبارته[‪]3‬؛ ومن منظور آخر‪ُ ،‬يمتص‬‫الثاني "إناء" لألول‪ ،‬على ِّ‬
‫بد من‬‫حاضراـ في دخيلة الخلق (اإلنسان)‪ ،‬ويكون الخلق ممحوقًاـ[‪ ]4‬في الحق‪ .‬إنما ال َّ‬
‫ً‬ ‫عبارة أخرى‪ ،‬يكون الحق‬
‫فهم هذا الكالم من منظور مخصوص يتصل بالتحقق الروحي‪ :‬فابن عربي‪ ،‬إذ يضع هذين النسقين من تخلُّل اهلل‬
‫جنبا إلى جنب على التوازي‪،‬ـ يدقِّق في "الفص اإلبراهيمي"‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫لإلنسان وتخلل اإلنسان هلل ً‬
‫شيء شيًئا إال كان محموالً فيه‪ ]...[ .‬فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اعلم أنه ما تخلَّل‬
‫وجميع نسبه وإ دراكاته‪ .‬وإ ن كان الخلق هو الظاهر فالحق‬
‫َ‬ ‫وبصره‬
‫َ‬ ‫سمعه‬
‫جميع أسماء الحق‪َ ،‬‬‫َ‬ ‫الخلق‬
‫ُ‬ ‫فيكون‬
‫تعرت عن‬
‫ويده ورجلُه وجميعُ قواه‪ .]...[ ‬ثم إن الذات لو َّ‬ ‫وبصره ُ‬
‫ُ‬ ‫مستور باطن فيه‪ ،‬فالحق سمعُ الخلق‬
‫عرف حتى‬
‫إلها‪ ،‬فال ُي َ‬
‫إلها‪ .‬وهذه النسب أحدثتْها أعيا ُننا‪ :‬فنحن جعلناه بمألوهيَّتنا ً‬
‫هذه النسب لم تكن ً‬
‫عرف اهلل من غير نظر في العالم – وهذا‬ ‫نعرف‪ ]...[ .‬فإن بعض الحكماء وأبا حامد‪[ ‬الغزالي]‪ ‬ادَّعوا أنه ُي َ‬
‫عرف المألوه – فهو الدليل عليه‪ .‬ثم بعد هذا‪،‬‬ ‫عرف أنها إله حتى ُي َ‬ ‫ذات قديمة أزلية‪ ،‬ال ُي َ‬
‫عرف ٌ‬
‫غلط‪ .‬نعم‪ ،‬تُ َ‬
‫َّ‬
‫الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيَّته‪ ،‬وأن العالم ليس إال‬ ‫في ثاني حال‪ ،‬يعطيك الكشف أن‬
‫ويتصور بحسب حقائق هذه‬
‫َّ‬ ‫تجلِّيه في صور أعيانهم الثابتة[‪ ]5‬التي يستحيل وجودها بدونه‪ ،‬وأنه َّ‬
‫يتنوع‬
‫إله لنا‪ .‬ثم يأتي الكشف اآلخر‪ ،‬فيظهر لك صورنا فيه‪ ،‬فيظهر‬ ‫األعيان وأحوالها – وهذا بعد العلم به َّ‬
‫منا أنه ٌ‬
‫[‪]6‬‬
‫بعضا‪ ،‬ويتميَّز بعضنا عن بعض‪.‬‬
‫بعضنا لبعض في الحق‪ ،‬فيعرف بعضنا ً‬

‫في "التخلل" األول‪ ،‬يكشف اهلل عن نفسه بوصفه الذات التي تعرف من خالل ملَكات اإلنسان اإلدراكية وتفعل عبر‬
‫ملَكاته العملية؛ أما في "التخلل" الثاني‪ ،‬المعاكس لألول‪ ،‬فيتحرك اإلنسان‪ ،‬إذا جاز القول‪ ،‬في أبعاد الوجود اإللهي‬
‫طب بحيث تُقابِ ُل َّ‬
‫كل ملَكة أو صفة بشرية صفةٌ من الصفات اإللهية‪ .‬وهذا معبَّر عنه في‬ ‫التي‪ ،‬فيما يخصه‪ ،‬تُستق َ‬
‫الحديث القدسي المشهور‪:‬‬

‫وبصره الذي يبصر‬


‫َ‬ ‫سمعه الذي يسمع به‪،‬‬
‫كنت َ‬
‫إلي بالنوافل حتى ُأحبُّه‪ ،‬فإذا أحببتُه‪ُ ،‬‬
‫وما يزال عبدي يتقرب َّ‬
‫ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجلَه التي يمشي بها‪.‬‬
‫به‪َ ،‬‬

‫جميعا (كما وبعض مذاهب الغرب) على الباحثين الغربيين "البرانيين"‪،‬‬‫ً‬ ‫مذاهب المشرق الباطنية‬
‫ُ‬ ‫كثيرا ما التبست‬
‫ً‬
‫تصادف في الواقع إال‬
‫َ‬ ‫أيضا‪ ،‬بمذهب الحلولية‪ .pantheism ‬غير أن الحلولية ال‬
‫"المتغربين" من أبناء الشرق ً‬
‫ِّ‬ ‫وعلى‬
‫ممن تأثرواـ بالفكر الغربي في القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫في حالة عدد من الفالسفة األوروبيين وبعض الشرقيينـ َّ‬
‫فالحلولية قد نشأت عن النزعة الفكرية عينها التي تفتَّقت‪ ،‬أوالً‪ ،‬عن المذهب الطبيعي‪ ،naturalism ‬ومن ُ‬
‫بعد‪ ،‬عن‬
‫المذهب المادي الحديث‪ .‬يقول سيد حسين نصر‪:‬‬

‫أما ما أغفله النقَّاد َّ‬


‫ممن يتَّهمون الصوفيين بـ"الحلولية" فهو الفرق بين التوحيد الذاتي بين الوجود الظاهر‬
‫ومبدئه الوجودي وبين عينيَّتهما واستمرارهما الجوهري‪ .‬وهذا المفهوم األخير ُمحال عقالً‪ ،‬ويتناقض مع‬
‫[‪]7‬‬
‫كل ما قاله محيي الدين‪[ ‬بن عربي]‪ ‬والصوفيون اآلخرون في خصوص الذات اإللهية‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫فالحلولية‪ ،‬كما يتبين‪ ،‬ال تتصورـ العالقةَ بين المبدأ اإللهي والعالمـ إال من منظور االستمرارية الجوهرية أو‬
‫كل مذهب باطني نقلي بما ال لبس فيه وال إبهام[‪.]8‬‬ ‫الوجودية – وهذا غلط ينبذه ُّ‬

‫قارن بين‬ ‫ِّ‬


‫تجوزـ المقارنةَ بين الحق والخلق‪ ،‬بين اهلل والكون المتجلي‪ ،‬على نحو ما ُي َ‬
‫فلو كانت ثمة استمرارية ِّ‬
‫الغصن وجذع الشجرة الذي يتفرع منه الغصن‪ ،‬لكانت هذه االستمرارية‪ ،‬أو لنقل‪ ،‬هذه "الذاتية" المشتركة بين‬
‫واحدهما إلى‬
‫َ‬ ‫الحدين‪ ،‬إما متعيِّنة بمبدأ أعلى ال تتميَّز عنه‪ ،‬وإ ما متعالية هي نفسها عن هذين َّ‬
‫الحدين اللذين تشد‬ ‫َّ‬
‫جميعا بمعنى ما‪ ،‬وبالتالي‪،‬ـ لما كان الحق إذ ذاك هو الحق‪ .‬لذا يصح‪ ،‬إلى ٍّ‬
‫حد ما‪ ،‬القو ُل بأن الحق‬ ‫ً‬ ‫اآلخر وتكتنفهماـ‬
‫هو عينه هذه االستمرارية أو هذه‪ ‬األحدية‪ ،‬على أال تُ َّ‬
‫تصورـ باعتبارها "خارجه"‪ ،‬وذلك ألن‬

‫بعَرض فيحتاج إلى حامل يقوم‬‫[‪ ]...‬الحق ال ضد له‪ ،‬وال ند له‪ ،‬وال ينتسب إلى أين‪ ]...[ ،‬ليس َ‬
‫[‪]9‬‬
‫وجوده‪< ‬عليه>‪ ،‬وال بجوهر فيشارك الجواهر في حقيقة الجوهرية‪.‬‬
‫ُ‬

‫لكن دون إمكان وجودـ شيء "خارجه" أو "سواه"‪ ،‬كما يؤكد صاحب‪ ‬الرسالة‬ ‫ٍّ‬
‫متجل‪ْ ،‬‬ ‫منزه عن ِّ‬
‫كل شيء‬ ‫وهو َّ‬
‫الوجودية[‪:]10‬‬

‫[‪ ]...‬كان وال َب ْعد معه وال قبل‪ ،‬وال فوق وال تحت‪ ،‬وال قُْرب وال ُب ْعد‪ ،‬وال كيف‪ ،‬وال أين وال حين‪ ،‬وال أوان‬
‫وال وقت وال زمان‪ ،‬وال كون وال مكان‪ ،‬وهو اآلن كما كان‪.‬‬
‫والمسمى‪ :‬هو األول بال أولية وهو‬
‫َّ‬ ‫هو الواحد بال وحدانية‪ ،‬وهو الفرد بال فردانية‪ .‬ليس َّ‬
‫مرك ًبا من االسم‬
‫آخرية‪ ،‬وهو الظاهر بال ظاهرية وهو الباطن بال باطنية‪ .]...[ ‬فال أول وال ِ‬
‫آخر وال ظاهر وال‬ ‫اآلخر بال ِ‬
‫ِ‬
‫باطن إال وهو بال صيران‪ – ]...[ .‬فافهم هذا لئال تقع في غلط الحلولية‪.‬‬
‫خارجا‪ ]...[ .‬ال يراه إال هو‪ ،‬وال يدركه إال هو‪ ،‬وال يعلمه إال‬
‫ً‬ ‫ال هو في شيء‪ ،‬وال شيء فيه‪ ،‬ال داخالً وال‬
‫أحد غيره‪.‬‬
‫هو بنفسه‪ ،‬وبنفسه يعرف نفسه؛ يرى نفسه‪ ،‬ال يراه ٌ‬
‫حجابه وحدانيته‪ ،‬فال يحجبه شيء غير حجابه‪ .‬وجوده وحدانيته‪ ،‬تستَّر بوحدانيته بال كيفية‪.‬‬

‫يقول سيد حسين نصر معلِّقًا على هذا المقبوس‪:‬‬

‫الحد في تأكيد تعالي اهلل‪ .‬إن ما يريد ابن عربي أن يثبته‬


‫تهم بالحلولية َمن يذهب إلى هذا ِّ‬
‫من الصعب أن ُي َ‬
‫كل وجه عن‬‫متعال عنها؛ إال أن المظاهر ليست منفصلة من ِّ‬‫ٍ‬ ‫متميز عن مظاهره وأنه‬
‫هو أن الوجود اإللهي ِّ‬
‫الوجود اإللهي الذي يكتنفها بوجه ما‪.‬‬
‫[‪]11‬‬

‫تعبيرا عن الوحدة الجوهرية‬


‫ض لبعض أهل الباطن من الصوفية أن يستعملواـ صورة استمرارية "مادية" ً‬ ‫فإذا َعَر َ‬
‫جميعا مصنوعة من‬‫تماما كما يشبِّه األدڤيتيون الهنود األشياء بآنية تختلف من حيث الشكل لكنها ً‬
‫لألشياء‪ً ،‬‬
‫بعيدا بالخطرـ‬
‫تماما‪ ،‬يدفع ً‬
‫الصلصال ‪ ،‬فإنهمـ على بيِّنة من قصورـ مثل هذا التشبيه‪ .‬ناهيكم أن هذا القصور‪ ،‬البيِّن ً‬
‫[‪]12‬‬

‫مسوغها يتأسس‬
‫أي شيء أكثر من إشارة أو رمز‪ .‬أما فيما يخص اإلشارة نفسها‪ ،‬فإن ِّ‬ ‫المتمثل في قراءة القوم في ِّ‬
‫على التناظُر المعكوس القائم بين الوحدة الجوهرية لألشياء – وكلها "مصنوعـ من العلم" – وبين وحدتها "المادية"‬
‫عتبر الحق‪ ‬العلة األولى‪ ‬أو "السبب‬
‫التي ال تمت بصلة إلى أية نظرية "سببية" (بالمعنى الكونيـ للكلمة)‪ ،‬اللهم إال أن ُي َ‬
‫كل شيء‪.‬‬‫األول"‪ ،‬فيكون بذلك "مسبِّب" ِّ‬

‫بأي نسق من أنساقهاـ‬


‫أبدا إلى تقييد الحقيقة ِّ‬
‫ويحسن بنا هاهنا أن نضيفـ بأن الصوفي المتحقق ال ينزع ً‬
‫(كاالستمرارية الذاتية)‪ ،‬وال في أية مرتبة من مراتبهاـ (كالوجود المحسوس أو الوجودـ العقلي)‪ ،‬دون األنساق أو‬
‫القْلب‪ ،‬بحيث‬ ‫المراتب الوجودية األخرى؛ بل إنه‪ ،‬على العكس‪ ،‬يتعرف إلى مراتب للحقيقة ال َّ‬
‫عد لها‪ ،‬وال تقبل َ‬
‫يجوزـ القول في النسبي إنه واحد ومبدأه[‪ ،]13‬أو حتى بأنه "عين" مبدئه‪ ،‬على الرغم من القول بأن األصل مبطون‬
‫وتكرارا‪ .‬من هنا‬
‫ً‬ ‫في فرعه غير صحيح من منظور المبدأ الذي ال وجودـ لسواه‪ ،‬كما تلح‪ ‬الرسالة الوجودية‪ً  ‬‬
‫مرارا‬
‫ال يصح أخذ قول فريد الدين العطار‬

‫سأقو ُل لكم ما لم ُي َق ْل‪:‬‬


‫محتجبا‬
‫ً‬ ‫أي األسرارـ بقي‬‫ُّ‬
‫جهرا؟‬
‫<بعد أن>‪ ‬رأيت وجه الحبيب ً‬
‫بسر األسرار الخفية‪:‬‬
‫ها أنا ذا أشي ِّ‬
‫اعلم‪ ،‬أخي‪ ،‬أن النقش هو النقَّاش‬
‫ْ‬

‫منظورا إليها من حيث حقيقتُها الذاتية‪ ،‬هي الحق‪ ،‬من دون‬


‫ً‬ ‫مؤداه أن الموجوداتـ كلَّها‪،‬‬
‫على محمل الحلولية؛ وإ نما َّ‬
‫أن يكون الحق هو "عين" هذه الموجودات[‪ – ]14‬وهذا‪ ،‬ال بمعنى أن حقيقته تستبعدها‪ ،‬بل بمعنى أن حقيقتها في‬
‫والعدم سيَّان[‪ .]15‬وهكذا يكون وجود‪ ‬السواء‪ ،‬في نظر ابن عربي‪ ،‬هو "بطون الحق في الخلق‬
‫َ‬ ‫مرأى من كماله‬
‫والخلق في الحق"[‪.]16‬‬

‫إن‪ ‬األحدية‪ ،‬التي تغيب فيها الكثرةُ الوجودية أو تنعدم‪ ،‬ال تتناقض البتة وفكرةَ عدد غير محدود من مراتب‬
‫ظرـ في الكمال اإللهي‬
‫الوجود‪ :‬فهاتان الحقيقتان‪ ،‬على العكس‪ ،‬وثيقتا الصلة إحداهما باألخرى‪.‬ـ وهذا ينجلي حالما ُين َ‬
‫ظر إليه إما في تعيُّنه‬ ‫إن َّ‬
‫صح التمثيل‪" ،‬يضيق"ـ أو "يتسع" بحسب ما ُين َ‬ ‫"من خالل" ٍّ‬
‫كل منهما‪ :‬إذ ذاك فإن الكامل‪ْ ،‬‬
‫المبدئي‪ ،‬أي‪ ‬األحدية‪ ،‬وإ ما في انعكاسه الكوني‪ ،‬أي طبيعة الوجودـ الذي ال تنضب تجلياتُه وال تني تتعيَّن‪ .‬يدل على‬
‫ذلك قول الشيخ األكبر‪:‬‬

‫األشـياء في نفسـه‪ِ َ  * ‬‬


‫ِ‬
‫أنـت ل َمـا تخـلقُـه جـامـعُ‬ ‫خـالـق‬
‫َ‬ ‫يا‬
‫ق الواسـعُ‬‫الضـي ُ‬
‫ِّ‬ ‫فأنـت‬ ‫تخلق مـا ال ينتهـي كـو ُنه فيـ * ـك‬
‫[‪]17‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫إن هذا المنظورـ ِّ‬


‫يمكننا من فهم أن مذهب التوحيد عند الصوفية (وهو بالدقة‪ ،‬على الرغم من االختالف في‬
‫التسمية‪ ،‬مذهب "الالثنوية" الڤيدنتي الهندي عينه) ال صلة البتة بينه وبين أية "وحدانية"‪ monism ‬فلسفية بالمعنى‬
‫بعض منتقدي العارفين من الصوفية‪ ،‬كابن عربي وعبد الكريم الجيلي‪ .‬فكما يقول‬
‫ُ‬ ‫المعاصر‪ ،‬كما يحاول أن يزعم‬
‫سيد حسين نصر‪:‬‬

‫أيضا‪ ،‬ألن‬
‫مناسبا‪[ ‬بوحدة الوجود]‪ً  ‬‬
‫ً‬ ‫إن اصطالح "الوحدانية الوجودية"‪ monisme existentiel ‬ليس تعريفًا‬
‫نظاما فلسفيًّا فكريًّا يقابل مثالً الثنوية‪ ،‬ولفظة "وجودية" تخلط بين االستمرار‬
‫ً‬ ‫"الوحدانية"‪ ]...[ ‬تفترض‬
‫الذاتي بين األشياء ومبدئها وبين االستمرار الجوهري‪ ،‬أو بين النظرة األفقية والنظرة العمودية‪.‬‬
‫[‪]18‬‬

‫المذكورين إنما تقوم على‬


‫َ‬ ‫وإ ن رأي هؤالء النقاد لمما يزيد من دهشتنا‪ ،‬على اعتبار أن منهجية مذهب الصوفيَّين‬
‫إبراز األضداد األونطولوجية القصوى وعلى النظر في األحدية ال باالختزال المنطقي العقالني للعالم‪ ،‬بل بالجمع‬
‫َك ْشفًا بين األضدادـ والنظائرـ في الخبرة الصوفية المباشرة[‪ .]19‬يتابع سيد حسين نصر‪:‬‬
‫حائرا‪ .‬فهي تشتمل على اجتماع‬
‫[األحدية]‪ ‬مركز الدائرة التي يوجد الكل فيها الذي يقف العق ُل أمامه ً‬
‫الفوارق الوجودية‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وحدانية تنعدم معها‬ ‫"األضداد" الذي ال يمكن أن ُيَر َّد إلى مقوالت العقل البشري أو إلى‬
‫جميعا فيه‪.‬‬
‫[‪]20‬‬
‫ً‬ ‫المركز بالنسبة إلى ِّ‬
‫كل المتناقضات التي تنحل‬ ‫ُ‬ ‫ويغ َفل الوضعُ المتعالي الذي يحتله‬
‫ُ‬

‫أخيرا‪ ،‬نترك المقال للشيخ األكبر نفسه‪:‬‬


‫ً‬

‫جهلك لم تكن أنت‪ .‬فبعلمه أوجدك‪ ،‬وبعجزك عبدتَه‪ .‬فهو هو ِل ُه َو‪ ،‬ال لك‪ ،‬وأنت‬
‫َ‬ ‫لو علمتَه لم يكن هو‪ ،‬ولو‬
‫ألنت ولَ ُه‪ .‬فأنت مرتبط به‪ ،‬ما هو مرتبط بك‪ .‬الدائرة‪ ،‬مطلقةً‪ ،‬مرتبطة بالنقطة؛ النقطة‪ ،‬مطلقةً‪ ،‬ليست‬
‫أنت َ‬‫َ‬
‫مرتبطة بالدائرة؛ نقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة‪ .‬كذلك الذات‪ ،‬مطلقةً‪ ،‬ليست مرتبطة بك‪ .‬ألوهية الذات‬
‫مرتبطة بالمألوه‪[ ‬أنت]‪ ‬كنقطة الدائرة‪[ ‬في ارتباطها بالدائرة]‪.‬‬
‫[‪]21‬‬

‫ديمتري أڤييرينوس‬

‫***‬

‫مراجع‬

‫‪        -‬ابن عربي (محيي الدين)‪ ،‬اصطالح الصوفية‪ ،‬بتحقيق گوستاڤ فلوگل (نسخة باألوفست ضمن‪ ‬كتاب‬
‫التعريفات‪ ‬للشريف الجرجاني)‪ ،‬بيروت‪.1985 ،‬‬

‫‪        -‬ابن عربي (محيي الدين)‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬بتحقيق وتقديم عثمان يحيى‪ ،‬السفر األول‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪.1972 ،‬‬

‫‪        -‬ابن عربي (محيي الدين)‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬بتحقيق وشرح أبو العال عفيفي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ب‪.‬ت‪.‬‬

‫‪        -‬اإلسكندري (ابن عطاء اهلل)‪ ،‬الحكم العطائية‪ ،‬بضبط وتقديم إبراهيم اليعقوبي‪،‬ـ دمشق‪/‬بيروت‪.1985 ،‬‬

‫‪        -‬الجيلي (عبد الكريم)‪ ،‬اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل‪ ،‬القاهرة‪.1981 ،‬‬

‫‪        -‬السهروردي اإلشراقي‪ ،‬هياكل النور‪ ،‬بتقديم وتحقيق وتعليق محمد علي أبو ريان‪ ،‬القاهرة‪.1957 ،‬‬

‫وأصلحه كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬كولن‪،‬‬


‫َ‬ ‫صنعه‬
‫َ‬ ‫‪        -‬الحالج (الحسين بن منصور)‪ ،‬الديوان‪ ،‬يليه‪ ‬كتاب الطواسين‪،‬‬
‫‪.1997‬‬

‫شنكر‪ ،‬معرفة الذات‪ ،‬حلقة الدراسات الهندية ‪ ،4‬بيروت‪ ،‬طب ‪.1997 :1‬‬


‫‪َ         -‬‬

‫‪        -‬الكاشاني (عبد الرزاق)‪ ،‬اصطالحات الصوفية‪ ،‬بتحقيق وتقديم وتعليق عبد الخالق محمود‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طب ‪:2‬‬
‫‪.1984‬‬
‫‪        -‬الكالباذي (أبو بكر محمد)‪ ،‬التعرف لمذهب أهل التصوف‪ ،‬بتحرير عبد الحليم محمود‪ ،‬بيروت‪1980 ،‬‬
‫(نسخة باألوفست عن طب القاهرة‪.)1960 ،‬‬

‫‪        -‬نصر (سيد حسين)‪ ،‬ثالثة حكماء مسلمين‪ ،‬بترجمة صالح الصاوي ومراجعة وتنقيح ماجد فخري‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪.1986‬‬

‫‪Schuon, Frithjof, Islam and the Perennial Philosophy, tr. J. Peter Hobson, Preface by Seyyed Hossein Nasr,          -‬‬
‫‪.World of Islam Festival Publishing Company Ltd, 1976‬‬

‫***‬

‫‪ ‬‬

‫الرسالة الوجودية‬
‫في معنى قوله صلَّى اهلل عليه وسلَّم‬

‫ربه"‬
‫ف َّ‬
‫نفسه فقد َع َر َ‬
‫ف َ‬ ‫"من َع َر َ‬
‫َ‬
‫للسيد اإلمام العالم المحقِّق صاحب الشريعة والحقيقةـ‬
‫محيي الدين أبي عبد اهلل محمد بن العربي‬
‫الطائي الحاتمي األندلسي‬

‫‪ ‬‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫رب العالمين‬
‫الحمد هلل ِّ‬

‫ف ربَّه"‬
‫نفسه فقد َع َر َ‬
‫ف َ‬ ‫"من َعَر َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫في معنى قول النبي – صلى اهلل عليه وسلم –‪َ :‬‬

‫والب ْعد هو‪ .‬كان وال َب ْعد معه‬


‫الحمد هلل الذي لم يكن قبل وحدانيته قب ُل إال والقبل هو‪ ،‬ولم يكن بعد فردانيَّته َب ْع ُد إال َ‬
‫وال قبل‪ ،‬وال فوقـ وال تحت‪ ،‬وال قُْرب وال ُب ْعد‪ ،‬وال كيف‪ ،‬وال أين وال حين‪ ،‬وال أوان وال وقت وال زمان‪ ،‬وال‬
‫كون وال مكان‪ ،‬وهو اآلن كما كان‪.‬‬

‫والمسمى‪ :‬هو األول بال أولية وهو ِ‬


‫اآلخر‬ ‫َّ‬ ‫هو الواحد بال وحدانية‪ ،‬وهو الفرد بال فردانية‪ .‬ليس َّ‬
‫مركًبا من االسم‬
‫آخرية‪ ،‬وهو الظاهر بال ظاهرية وهو الباطن بال باطنية؛ أعني أنه هو وجود حروف "األول"ـ وهو وجودـ‬ ‫بال ِ‬
‫"اآلخر"‪ ،‬وهو وجود حروف "الباطن" وهو وجودـ حروفـ "الظاهر"‪ .‬فال أول وال ِ‬
‫آخر وال ظاهر وال باطن‬ ‫ِ‬ ‫حروفـ‬
‫إال وهو بال صيران‪ .‬هذه الحروف وجوده‪ ،‬وصيران وجوده هذه الحروف‪ – .‬فافهمـ هذا لئال تقع في غلط‬
‫الحلولية‪.‬‬
‫خارجا‪ .‬ينبغي أن نعرفه بهذه الصفة‪ ،‬ال بالعلم وال بالعقل‪ ،‬وال بالفهم‬
‫ً‬ ‫ال هو في شيء‪ ،‬وال شيء فيه‪ ،‬ال داخالً وال‬
‫بالحس الظاهر وال بالعين الباطن وال باإلدراك‪ .‬ال يراه إال هو‪ ،‬وال يدركه إال هو‪ ،‬وال‬
‫ِّ‬ ‫وال بالوهمـ وال بالعين‪ ،‬وال‬
‫أحد غيره‪.‬‬
‫يعلمه إال هو بنفسه‪ ،‬وبنفسه يعرف نفسه؛ يرى نفسه‪ ،‬ال يراه ٌ‬

‫شيء غير حجابه‪ .‬وجوده وحدانيته‪ ،‬تستَّرـ بوحدانيته بال كيفية‪ .‬ال يراه ٌ‬
‫أحد غيره‪ :‬ال‬ ‫ٌ‬ ‫حجابه وحدانيته‪ ،‬فال يحجبه‬
‫نفسه‬
‫مقرب يعرفه‪ .‬نبيُّه هو‪ ،‬ورسوله هو‪ ،‬ورسالته هو‪ ،‬وكالمه هو‪ :‬أرس َل َ‬ ‫نبي مرسل‪ ،‬وال ولي كامل‪ ،‬وال َملَك َّ‬
‫والمرسلـ إليه‪ .‬وجود‬ ‫والمرسلـ به‬ ‫ِ‬
‫المرسل‬ ‫تفاوت بين‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫بنفسه من نفسه إلى نفسه‪ ،‬ال واسطة وال سبب غيره‪ ،‬وال ُ‬
‫سماه‪.‬‬
‫حروفـ الثناء وجوده ال غير‪ ،‬ال ثناؤه وال اسمه وال ُم َّ‬

‫نفسه فقد عرف ربَّه‪ ]22[".‬وقال – صلى اهلل‬


‫ولهذا قال – صلى اهلل عليه وسلم –‪" :‬عرفت ربِّي بربِّي‪َ ،‬من عرف َ‬
‫عليه وسلم –‪" :‬عرفت ربِّي بربِّي‪ ".‬أشار – صلى اهلل عليه وسلم – بذلك أنك لست أنت‪< ،‬بل> أنت هو بال أنت‪:‬‬
‫ال هو داخل فيك وال هو خارج منك‪ ،‬وال أنت خارج منه وال أنت داخل فيه؛ وال بذلك أنك موجود وصفتكـ هكذا‬
‫أبدا‪ :‬غني به‪ .‬إنك ما كنت قط وال تكون‪ ،‬ال بنفسك وال فيه وال معه‪ ،‬وال أنت ٍ‬
‫فان وال موجود‪ .‬أنت هو‪ ،‬وهو‬ ‫ً‬
‫عرفت اهلل‪ – .‬وإ ال فال‪.‬‬
‫َ‬ ‫عرفت وجودك بهذه الصفة فقد‬
‫َ‬ ‫أنت‪ ،‬بال علَّة من هذه العلل‪ .‬فإن‬

‫الع َّراف أضافوا معرفة اهلل – تعالى – إلى فناء الوجودـ وفناء الفناء[‪ – ]23‬وذلك غلط وسهوـ واضح‪ :‬فإن‬
‫وأكثرـ ُ‬
‫معرفة اهلل – تعالى – ال تحتاج إلى فناء الوجود وال إلى فناء فنائه‪ ،‬ألن الشيء ال وجودـ له‪ ،‬وما ال وجود له ال‬
‫عرفت اهلل‪ – .‬وإ ال فال‪.‬‬
‫َ‬ ‫فناء له؛ فإن الفناء بعد إثبات الوجود‪ .‬فإذا عرفت نفسك بال وجود وال فناء فقد‬

‫إثبات الشرك‪ ،‬ألنك إذا أضفت معرفة اهلل إلى‬


‫ُ‬ ‫وفيـ إضافة معرفة اهلل – تعالى – إلى فناء الوجود وإ لى فناء فنائه‬
‫فناء الوجودـ وفناء الفناء‪ ،‬كان الوجود لغير اهلل ونقيضه – وهناك شرك واضح‪ ،‬ألن النبي – صلى اهلل عليه وسلم‬
‫"من فني عن نفسه عرف ربَّه‪ ".‬فإن إثبات الغير يناقض فناءه‪،‬‬ ‫نفسه فقد عرف ربَّه"‪ ،‬ولم يقل‪َ :‬‬
‫"من عرف َ‬ ‫– قال‪َ :‬‬
‫فان وال غير ٍ‬
‫فان‪ ،‬وال‬ ‫وما ال يجوز ثبوتُه ال يجوزـ فناؤه‪ .‬وجودك ال شيء‪ ،‬والالشيء ال ُيضاف إلى شيء‪ ،‬ال ٍ‬
‫معدما قبل التكوين‪ .‬فاآلن األزل‪ ،‬واآلن األبد‪ ،‬واآلن ِ‬
‫الق َدم‪ .‬فاهلل هو‬ ‫كنت َ ً‬
‫موجودـ وال معدوم‪< .‬أنت> اآلن كما َ‬
‫الق َدم؛ فإنه بال وجود األزل واألبد ِ‬
‫والق َدم لم يكن كذلك ما كان وحده ال شريك‬ ‫وجودـ األزل ووجودـ األبد ووجود ِ‬
‫ومن يكن كذلك‬ ‫وجوده بذاته‪ ،‬ال بوجود اهلل؛ َ‬
‫ُ‬ ‫له‪ .‬وواجب أن يكون وحده ال شريك له‪ :‬فإن "شريكه" هو الذي يكون‬
‫ومن رأى شيًئا مع اهلل أو‬ ‫ثانيا – وذلك محال‪ :‬فليس هلل شريك وال ٌّ‬
‫ند وال كفؤ‪َ .‬‬ ‫محتاجا إليه‪ ،‬فيكون إ ًذا ربًّا ً‬
‫ً‬ ‫لم يكن‬
‫أيضا شري ًكا يحتاج إلى اهلل‬
‫من اهلل أو في اهلل – وذلك الشيء يحتاج إلى اهلل بالربوبية – فقد جعل ذلك الشيء ً‬
‫بعد‬
‫فان عن وجوده أو عن فنائه‪ ،‬فهو ُ‬ ‫شيء يقوم بنفسه‪ ،‬أو يقوم به‪ ،‬أو هو ٍ‬
‫ٌ‬ ‫جو َز أن يكون مع اهلل‬
‫بالربوبية‪ .‬ومن َّ‬
‫فانيا في فنائه‪ ،‬فتسلسل‬
‫قائما به‪ ،‬فيه يصير ً‬‫موجودا سواه‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫جو َز أن يكون‬
‫شم رائحة معرفة النفس‪ ،‬ألن َمن َّ‬ ‫ما َّ‬
‫الفناء بالفناء‪ – ،‬وذلك ِش ْرك بعد ِش ْرك‪ ،‬وليس بمعرفة النفس‪ – ،‬هو ُم ْش ِرك‪ ،‬ال عارف باهلل وال بنفسه‪.‬‬

‫فإن قال قائل‪" :‬كيف السبيل إلى معرفة النفس وإ لى معرفة اهلل؟"‪ ،‬فالجواب‪ :‬سبيل معرفتها أن تعلم وتتحقق أن اهلل‬
‫ْ‬
‫فإن قال قائل‪" :‬أنا أرى نفسي غير اهلل‪ ،‬وال أرى اهلل‬
‫عز وجل – كان ولم يكن معه شيء‪ ،‬وهو اآلن كما كان‪ْ .‬‬ ‫– َّ‬
‫ـ"األمارة"‬
‫المسماة ب َّ‬
‫َّ‬ ‫وجودك وحقيقتك‪ ،‬ال النفس‬
‫َ‬ ‫نفسي"‪ ،‬فالجواب‪ :‬أراد النبي – صلى اهلل عليه وسلم – بـ"النفس"‬
‫جميعا‪ ،‬كما قال‬
‫ً‬ ‫و"اللوامة" و"المطمئنة" [يوسف ‪ ،53‬القيامة ‪ ،2‬الفجر ‪]27‬؛ بل أشار بـ"النفس" إلى ما سوى[‪ ]24‬اهلل‬
‫َّ‬
‫– صلى اهلل عليه وسلمـ –‪" :‬اللهم ِأرني األشياء كما هي"‪ :‬عبَّر باألشياء عما سوىـ اهلل – سبحانه وتعالى –‪ ،‬أي‬
‫ق أم حادث ٍ‬
‫فان؟ فأراه اهلل‬ ‫أي شيء هي‪ :‬أهي أنت أم غيرك‪ ،‬أهي قديم با ٍ‬ ‫عر ْفني ما سواك ألعلم وأعرف األشياء َّ‬
‫ِّ‬
‫نفسه بال وجود ما سواه‪ ،‬فرأى األشياء "كما هي"؛ أعني األشياء ذات اهلل – تعالى – بال كيف‬
‫– تعالى – ما سواه َ‬
‫وال أين‪.‬‬

‫واسم األشياء يقع على النفس وغيرها من األشياء‪ .‬فإن وجود النفس ووجودـ األشياء سيَّان في الشيئية‪ :‬فمتىـ عرف‬
‫الرب‪ ،‬ألن الذي يظن َّأنـ<ـه> سوى اهلل ليس هو سوى اهلل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫النفس فقد عرف‬
‫َ‬ ‫األشياء عرف النفس‪ ،‬ومتى عرف‬
‫َ‬
‫علمت أنك لست ما سوى اهلل‪ ،‬وعلمت‬
‫َ‬ ‫ولكنك ال تعرف وأنت تراه‪ ،‬وال تعلم أنك تراه‪ .‬ومتى يكشف لك هذا السر‪،‬‬
‫مقصود ا‪ ،‬وأنك ال تحتاج إلى الفناء‪ ،‬وأنك لم تزل وال تزال‪ ،‬بال حين وال أوان‪ ،‬كما ذكرنا قبل‪ .‬جميع‬
‫ً‬ ‫أنك كنت‬
‫وآخركـ ِ‬
‫آخ َره‪ ،‬بال شك وال ريب؛ وترىـ‬ ‫باطنه‪ ،‬وأولكـ أولَه ِ‬
‫وباطنكـ َ‬
‫َ‬ ‫ظاهره‬ ‫ظاهركـ‬ ‫صفاته صفاتك‪ ،‬وترى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صفاتِك صفاتِه وذاتَك ذاتَه‪ ،‬بال صيرورتك إيَّاه وصيرورته إيَّاك‪ ،‬وال بقليل وال بكثير‪.‬‬

‫وجهه" [القصص ‪ ،]88‬بالظاهر والباطن‪ ،‬يعني‪ :‬ال موجودـ إال هو؛ وال وجودـ لغيره فيحتاج‬ ‫ك إال َ‬ ‫ُّ‬
‫"كل شيء هال ٌ‬
‫إلى الهالك‪ .‬و"يبقى وجهُه" [الرحمن ‪ ]27‬يعني‪ :‬ال شيء إال وجهه‪ .‬فكما أن َمن لم يعرف شيًئا‪ ،‬ثم َع َرفَه‪ ،‬ما فني‬
‫تداخل باألثر‪< .‬هنا> يقع الجهل‪ :‬فال تظن أنك‬ ‫نكر بوجودـ العارف‪ ،‬وال َ‬‫وجود الم ِ‬ ‫وجوده بوجود آخر‪ ،‬وال َّ‬
‫ُـ ُ‬ ‫تركب‬ ‫ُ‬
‫تحتاج إلى الفناء؛ فإن احتجت إلى الفناء فأنت إ ًذا حجابه – والحجاب غير اهلل؛ فليزمـ غلبةُ غيره عليه بالدفع عن‬
‫رؤيته له‪ – .‬وهذا غلط وسهو‪.‬‬

‫قد ذكرناـ قبل أن حجابه وحدانيته وفردانيَّته ال غير‪ .‬ولهذا أجاز للواصل إلى الحقيقة أن يقول‪" :‬أنا الحق" وأن‬
‫ذات اهلل‪ ،‬بال كون صفاتُه وال ذاتُه‬ ‫ِ‬
‫صفات اهلل‪ ،‬وذاتَه َ‬ ‫يقول‪" :‬سبحاني"‪ .‬وما وصل واص ٌل إليه إال ورأى صفاتِه‬
‫أن لم يكن له <وجود> قط‬‫ق في اهلل‪< ،‬أو> يرى نفسه ْ‬ ‫فان من اهلل أو با ٍ‬
‫خارجا منه قط‪ ،‬وال أنه ٍ‬
‫ً‬ ‫داخالً في اهلل أو‬
‫ألنه كان ثم فني؛ فإنه ال نفس إال نفسه‪ ،‬وال وجود إال وجوده‪ .‬وإ لى هذا أشار النبي – صلى اهلل عليه وسلم –‬
‫بقوله‪" :‬ال تسبُّوا الدهر‪ ،‬فإن اهلل هو الدهر"‪َّ ،‬‬
‫ونزه اهلل – تبارك وتعالىـ – عن الشريك والند والكفؤ‪.‬‬

‫مرضت ولم تَ ُع ْدني‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ي عن النبي – صلى اهلل عليه وسلم – أنه قال‪" :‬إن اهلل – تعالى – قال‪ :‬يا ابن آدم‪،‬‬ ‫ور ِو َ‬
‫ُ‬
‫وجود‬
‫ُ‬ ‫وجوده‪ .‬فمتى جاز أن يكون‬
‫ُ‬ ‫ووجود المريض‬
‫َـ‬ ‫وجوده‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجود السائل‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ك ولم تُعطني"‪ :‬أشار إلى أن‬
‫وسألت َـ‬
‫سر ذرة من‬
‫وجوده‪ ،‬ومتى ظهر ُّ‬
‫َ‬ ‫المكونات من األعراض والجواهرـ‬
‫َّ‬ ‫ووجود جميع األشياء من‬
‫ُـ‬ ‫وجوده‬
‫َ‬ ‫السائل‬
‫المكونات الظاهرة والباطنة؛ وال نرى الذرين سوى اهلل‪ ،‬بال وجود الذرين‪ ،‬اسمهما‬
‫َّ‬ ‫سر جميع‬
‫الذرات‪ ،‬ظهر ُّ‬
‫ومسماهماـ ووجودهما كلهما هو‪ ،‬بال شك وال ريب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ومسماهما‪،‬ـ بل اسمهما‬
‫َّ‬

‫شأن" [الرحمن ‪ ]29‬من إظهار وجوده وإ خفائه‬ ‫وال ترى أنه – تعالى – خلق شيًئا قط‪ ،‬بل ترى َّ‬
‫"كل يوم هو <في> ٍ‬
‫وبطُ َن‬ ‫ِ‬
‫واآلخر والظاهر والباطن وهو ِّ‬
‫بكل شيء عليم" [الحديد ‪ :]3‬ظهر بوحدانيته َ‬ ‫بال كيفية‪ ،‬ألنه "هو األول‬
‫ِ‬
‫"اآلخر"ـ هو‪،‬‬ ‫بفردانيَّته‪ ،‬وهو األول بذاته وقيوميَّته وهو ِ‬
‫اآلخر بديموميَّته‪ .‬وجود حروف "األول" هو ووجودـ حروفـ‬
‫مسماه‪.‬‬
‫ووجود حروف "الظاهر" هو ووجود حروف "الباطن" هو؛ هو اسمه وهو َّ‬
‫عدم ما سوى‪ :‬فإن الذي تظن أنه سواه ليس سواه‪ – ،‬تََن َّزه أن يكون غيره‪ – ،‬بل ُ‬
‫غيره‬ ‫وجوده يجب ُ‬
‫ُ‬ ‫وكما يجب‬
‫وباطنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫هو‪ ،‬بال غيرية الغير‪ ،‬مع وجوده وفي وجوده‪،‬‬

‫أوصاف كثيرة ال َّ‬


‫حد وال نهاية لها‪ .‬فكما أن َمن مات بصورته انقطع جميعُ أوصافه‬ ‫ٌـ‬ ‫وِل َم ِن اتصف بهذه الصفة‬
‫عنه‪ ،‬المحمودة والمذمومة‪ ،‬كذلك َمن مات بالموت المعنوي[‪ ]25‬ينقطع عنه جميعُ أوصافه‪ ،‬المذمومة والمحمودة‪،‬‬
‫صفات اهلل –‬
‫ُ‬ ‫ومقام صفاته‬
‫َ‬ ‫ذات اهلل – تعالى –‬
‫مقام ذاته ُ‬
‫مقامه في جميع الحاالت‪ ،‬فيقوم َ‬
‫ويقومـ اهلل – تعالى – َ‬
‫تعالى –‪ .‬ولذلك قال النبي – صلى اهلل عليه وسلم –‪" :‬موتواـ قبل أن تموتوا"‪ ،‬أي اعرفواـ أنفسكم قبل أن تموتوا؛‬
‫إلي بالنوافلـ حتى ُأحبُّه‪ ،‬فإذا أحببتُه كنت له‬
‫يتقرب َّ‬
‫وقال – صلى اهلل عليه وسلم –‪" :‬قال اهلل تعالى‪ :‬ال يزال العبد َّ‬
‫تغيرا في ذاته وال صفاته‪.‬‬ ‫ويدا"‪ ،‬إلى آخره‪ ،‬فأشار إلى أن َمن عرف نفسه يرى جميع وجوده‪ ،‬وال ً‬ ‫وبصرا ً‬
‫ً‬ ‫سمعا‬
‫ً‬
‫ارتفعت‬
‫ْ‬ ‫نفسك‬
‫عرفت َ‬
‫َ‬ ‫وال يحتاج إلى تغيُّر صفاته‪ ،‬إذ لم يكن هو وجودـ ذاته‪ ،‬بل كان جاهالً بمعرفة نفسه‪ .‬فمتى‬
‫فإن كان لك وجود مستقل‪ ،‬ال يحتاج إلى الفناء وال إلى معرفة النفس‪،‬‬
‫أنانيتُك‪ ،‬وعرفت أنك لم تكن غير اهلل ‪ْ .‬‬
‫[‪]26‬‬

‫يوجد ٌّ‬
‫رب سواه‪.‬‬ ‫فتكون ربًّا سواه‪ .‬فتباركـ اهلل – تعالى – أن َ‬

‫كائنا وال كنت وال تكون قط‪.‬‬‫معدوما‪ ،‬ولست ً‬


‫ً‬ ‫موجودا وال‬
‫ً‬ ‫ففائدة معرفة النفس أن تعلم وتحقِّق أن وجودكـ ليس‬
‫ويظهرـ لك بذلك معنى "ال إله إال اهلل" [الصافاتـ ‪ :]35‬إذ ال إله غيره‪ ،‬وال وجودـ لغيره؛ فال غير سواه‪ ،‬وال إله إال‬
‫لت ربوبيتَه"‪ ،‬فالجواب‪ :‬لم أعطِّل ربوبيته ألنه لم يزل ربًّا – وال مربوب – ولم يزل خالقًا‬ ‫َّ‬
‫إيَّاه‪ .‬فإن قال قائل‪" :‬عط َ‬
‫– وال مخلوق –‪ ،‬وهو اآلن كما كان‪ .‬أترى خالقته وربوبيته ال تحتاج إلى مخلوق وال إلى مربوب‪ :‬فهو بتكوين‬
‫والق َدم‪ :‬فوحدانية الجهة مقتضى‬‫المكونات كان موصوفًا بجميع أوصافه‪ ،‬وهو اآلن كما كان‪ .‬فال تفاوت بين الجهة ِ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫آخره ِ‬
‫وآخ ُره أولُه‪ ،‬والجميع واحد‬ ‫ِ‬ ‫ظاهريته‪ ،‬ووحدانية ِ‬
‫ظاهره‪ ،‬أولُه ُ‬
‫ُ‬ ‫وباطنه‬
‫ُ‬ ‫باطنه‬
‫ظاهره ُ‬
‫ُ‬ ‫الق َدم مقتضى باطنيَّته‪.‬‬
‫شأن"‪ ،‬وما كان شيء سواه‪ ،‬وهو اآلن كما كان‪ .‬وال موجود لما سواه‬ ‫"كل يوم هو في ٍ‬ ‫والواحدـ جميع‪ .‬كان صفته َّ‬
‫فوجود‬
‫ُ‬ ‫والق َدم‪" .‬كل يوم هو في شأن"‪ ،‬وال شيء موجود‪ :‬فهو اآلن كما كان‪.‬‬ ‫بالحقيقة‪ ،‬كما كان في األزل ِ‬
‫وعدمها سيَّان – وإ ال لَلَ ِز َم طيران طار لم يكن في وحدانيَّته‪ ،‬وذلك نقص‪ – .‬وجلَّت وحدانيته عن ذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الموجوداتـ‬

‫ضد أو ٍّ‬
‫ند أو كفؤ أو شريك إلى اهلل – تعالى – فقد عرفتَها‬ ‫نفسك بهذه الصفة‪ ،‬من غير إضافة ٍّ‬‫ومتى عرفت َ‬
‫نفسه فقد‬
‫"من أفنى َ‬
‫نفسه فقد عرف ربَّه"‪ ،‬ولم يقل‪َ :‬‬
‫"من عرف َ‬ ‫بالحقيقة‪ .‬ولذلك قال – صلى اهلل عليه وسلمـ –‪َ :‬‬
‫عرف ربَّه‪ ".‬فإنه – صلى اهلل عليه وسلمـ – علم ورأى أن ال شيء سواه‪ ،‬ثم أشار إلى أن معرفة النفس هي معرفة‬
‫اهلل – تعالى –‪ ،‬أي اعرف نفسك‪ ،‬أي وجودك أنك لست أنت‪ ،‬ولكنك ال تعرف؛ أي اعرف أن وجودكـ ليس‬
‫وجوده‬
‫ُ‬ ‫وعدمك‬
‫ُ‬ ‫وجودك‬
‫ُ‬ ‫بوجودك وال غير وجودك‪ :‬فلست بموجودـ وال بمعدوم‪ ،‬وال غير موجود وال غير معدوم‪.‬‬
‫وعدمك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وجودك‬
‫ُ‬ ‫عين وجوده‬
‫وجوده‪ ،‬وألن َ‬
‫ُ‬ ‫عين وجودكـ وعدمك‬
‫بال وجود وال عدم‪ ،‬ألن َ‬

‫نفسك‪ .‬فإن معرفة النفس‬


‫عرفت َ‬
‫َ‬ ‫رأيت األشياء بال رؤية شيء آخر مع اهلل – تعالى – وفي اهلل أنها هو‪ ،‬فقد‬
‫َ‬ ‫فإن‬
‫ْ‬
‫بهذه الصفة هي معرفة اهلل – بال شك وال ريب وال تركيب شيء من الحدث مع القديم وفيه وبه‪ .‬فإن سألك سائل‪:‬‬
‫أثبت أن ال غير سواه‪ ،‬والشيء الواحد ال يصل إلى نفسه"‪ ،‬فالجواب‪ :‬ال َّ‬
‫شك أنه‬ ‫"كيف السبيل إلى وصاله؟ – فقد َّ‬
‫صل‪ ،‬وال ُب ْعد وال قُْرب‪ ،‬ألنه ال يمكن الوصال إال بين اثنين‪ :‬فإن لم يكن إال واحد‪ ،‬فال‬
‫صل وال فَ ْ‬
‫في الحقيقة ال َو ْ‬
‫صل‪ .‬فإن الوصال يحتاج إلى اثنين متساويين‪ :‬فهما شبهان‪ ،‬وإ ن كانا غير متساويين فهما َّ‬
‫ضدان؛ وهو‬ ‫صل وال فَ ْ‬‫َو ْ‬
‫والبعد في غير‬
‫منزه أن يكون له ضد أو ند‪ .‬فالوصال في غير الوصال‪ ،‬والقُْرب في غير القُْرب‪ُ ،‬‬ ‫– تعالى – َّ‬
‫وب ْعدـ بال ُب ْعد‪.‬‬
‫صل‪ ،‬وقُْربـ بال قُْرب‪ُ ،‬‬
‫ص ٌل بال َو ْ‬
‫البعد‪ ،‬فيكون َو ْ‬
‫ُ‬

‫والب ْعد بال ُب ْعد؟"‪ ،‬فالجواب‪ :‬أعني أنك‪ ،‬في أوان‬


‫صل‪ .‬فما معنى القُْرب بال قُْرب ُ‬
‫ص َل بال َو ْ‬
‫الو ْ‬
‫فإن قيل‪" :‬فهمنا َ‬
‫وصلت إلى اهلل –‬
‫َ‬ ‫والب ْعد‪ ،‬لم تكن شيًئا سواه‪ ،‬ولكنك لم تكن عارفًا بنفسك ولم تعلم أنك هو بال أنت‪ .‬فمتى‬
‫القُْرب ُ‬
‫علمت أنك كنت إيَّاه‪ ،‬وما كنت تعرفـ قبل أنك هو أو‬
‫َ‬ ‫نفسك بال وجود حروف العرفان‪،‬‬ ‫عرفت َ‬
‫َ‬ ‫تعالى –‪ ،‬أي‬
‫علمت أنك عرفت اهلل باهلل‪ ،‬ال بنفسك‪.‬‬
‫َ‬ ‫غيره‪ .‬فإذا حصل العرفان‪،‬‬

‫والمسمى في الحقيقة واحد‬


‫َّ‬ ‫مسماك محمود – فإن االسم‬
‫ب بمعنى أنك ال تعرف بأن اسمك محمود أو َّ‬‫مثال ذلك‪َ :‬ه ْ‬
‫ومسمىـ المحمودـ ارتفع‬
‫َّ‬ ‫ق‪ ،‬واسم محمد‬ ‫–‪ ،‬وتظن أن اسمك محمد‪ ،‬وبعدـ أحيان عرفت أنك محمود‪ ،‬فوجودك با ٍ‬
‫محمدا إال بالفناء عن نفسك‪ ،‬ألن الفناء يكون بعد إثبات وجودـ ما‬
‫ً‬ ‫عنك بمعرفتك نفسك أنك محمود‪( .‬ولم تكن‬
‫ك به – تبارك وتعالى‪ ).‬فما نقص من المحمود شيء‪ ،‬وال محمد فني في‬ ‫أشر َ‬
‫وجود ما سواه فقد َ‬
‫َ‬ ‫ومن أثبت‬
‫سواه؛ َ‬
‫نفسه أنه محمود‪ ،‬ال‬ ‫المحمود‪ ،‬وال دخل فيه وال خرج منه‪ ،‬وال َّ‬
‫المحمود َ‬
‫ُ‬ ‫حل محمودـ في محمد‪ .‬فبعدماـ عرف‬
‫كائنا؟ فإذن العارفـ والمعروف‬
‫محمدا ما كان‪ ،‬فكيف يعرفـ به شيًئا ً‬ ‫ً‬ ‫نفسه بنفسه‪ ،‬ال بمحمد‪ ،‬ألن‬
‫محمد‪ ،‬عرف َ‬
‫واحد‪ ،‬والواصلـ والموصول واحد‪ ،‬والرائي والمرئي واحد‪ .‬فالعارف صفتُه والمعروف ذاتُه‪ ،‬والواصل صفتُه‬
‫والموصول ذاتُه‪ ،‬والصفة والموصوف واحد‪.‬‬

‫صل‪ ،‬وعلم أن العارف هو‬‫صل وال فَ ْ‬


‫فمن فهم هذا المثال علم أنه ال َو ْ‬
‫"من عرف نفسه فقد عرف ربَّه"‪َ :‬‬
‫هذا بيان َ‬
‫غيره‪ ،‬وما انفصل عنه‬
‫والمعروف هو‪ ،‬والرائيـ هو والمرئيـ هو‪ ،‬والواصل هو والموصولـ هو‪ .‬فما وصل إليه ُ‬
‫َ‬
‫غيره‪ .‬فمن فهم ذلك خلص من َشرك ِّ‬
‫الش ْرك‪ – .‬وإ ال فلم يشم رائحة الخالص من الشرك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫الع َّراف الذين ظنوا أنهم عرفوا نفوسهم وعرفواـ ربَّهم‪ ،‬وأنهم خلصوا من غفلة الوجود‪ ،‬قالوا إن الطريقـ ال‬ ‫وأكثرـ ُ‬
‫ولظنهم أنهم – بمحض‬ ‫ِّ‬ ‫تتيسرـ إال بالفناء وبفناء الفناء‪ ،‬وذلك لعدم فهمهمـ قو َل النبي – صلى اهلل عليه وسلم –‬
‫َّ‬
‫وطوراـ إلى‬
‫ً‬ ‫وطوراـ إلى فناء الفناء‪،‬‬
‫ً‬ ‫وطوراـ إلى الفناء‪،‬‬
‫ً‬ ‫طورا إلى نفي الوجود‪ ،‬أي فناء الوجود‪،‬‬
‫الشرك – أشارواـ ً‬
‫شيء سواه ويفنى‬ ‫ٌ‬ ‫جوز أن يكون‬ ‫وطورا إلى االصطالمـ[‪ – ]27‬وهذه اإلشارات كلها ِش ْرك محض‪ :‬فإن َمن َّ‬ ‫ً‬ ‫المحو‪،‬‬
‫ومن أثبت شيًئ ا سواه فقد أشرك به – تعالى –‪ – .‬أرشدهمـ اهلل وإ يَّانا‬ ‫فناء فنائه‪ ،‬فقد أثبت شيًئا سواه؛ َ‬
‫وجوز َ‬ ‫بعده‪َّ ،‬‬
‫إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫شعر‬

‫كنـت‬
‫تكـون وال قـط َ‬
‫َ‬ ‫أنـت * ومـا أن‬ ‫ظنـنت ظـنـو ًنـا َّ‬
‫بأنـك َ‬ ‫َ‬
‫ظننت‬
‫َ‬ ‫ع ما‬
‫رب * وثـانـي اثنـيـن‪َ ،‬د ْ‬ ‫أنـت َّ‬
‫فـإنــك ٌّ‬ ‫فـإن أنـت َ‬ ‫ْ‬
‫بـان عنك وال عنـه ِب ْن َ‬
‫ـت‬ ‫فـال فـرق بيـن وجـوديـكمـا * فمـا َ‬
‫نـت‬
‫ت‪ ،‬وإ ْن زال جـهـلُك ُك َ‬ ‫س ْن َ‬
‫غيـره * َح ُ‬ ‫َّ‬
‫قلت – جهالً – بأنـك َ‬ ‫فإن َ‬
‫ت‬‫ـسـ ْن َ‬
‫عدك قُ ْـرب – بهـذا َح ُ‬ ‫وب ُ‬
‫صـ ٌل * ُ‬
‫وهجـرك َو ْ‬
‫ُ‬ ‫فوصـلُك َه ْج ٌـر‬
‫وصفت‬
‫َ‬ ‫تفوق ما عنه‬‫ُ‬ ‫العقـل وافهم بنـور انكـشـ * ٍ‬
‫ـاف – ليلى‬ ‫َ‬ ‫َد ِع‬
‫ْ‬
‫ت‬
‫تهـون – فالشـرك ُهـ ْن َ‬
‫َ‬ ‫ش ِـر ْك مــع اهلل شـيـًئا * لئـالَّ‬
‫وال تُـ ْ‬

‫نفسك هو عرفان اهلل – تعالى –‪ ،‬والعارفـ بنفسه غير اهلل‪ ،‬وغير اهلل‬
‫فإن قال قائل‪" :‬أنت تشيرـ إلى أن عرفانك َ‬
‫ْ‬
‫نفسه علم أن وجوده ليس بوجوده وال غير وجوده‪ ،‬بل‬ ‫كيف يعرفـ اهلل وكيف يصل إليه؟"‪ ،‬فالجواب‪َ :‬من عرف َ‬
‫وجوده معه‬
‫ُ‬ ‫وجوده في اهلل وال خروج منه‪ .‬وال يكون‬
‫ُ‬ ‫وجوده وجود اهلل بال دخول‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجوده وجود اهلل بال صيرورة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجوده بحاله‪ :‬ما كان قبل أن يكون‪ ،‬بال فناء‪ ،‬وال محو‪ ،‬وال ِ‬
‫فناء فناء‪ .‬فإن فناء الشيء بقدرة اهلل –‬ ‫َ‬ ‫وفيه‪ ،‬بل يرى‬
‫نفسه‪،‬‬
‫تعالى –؛ وهذا محا ٌل واضح صريح‪ .‬فتبيَّن أن عرفان العارف بنفسه هو عرفان اهلل – سبحانه وتعالى – ُ‬
‫فمن وصل إلى هذا المقام‪ ،‬لم‬‫ألن نفسه ليس إال هو‪ .‬وعنى رسولـ اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – بـ"النفس" الوجود‪َ .‬‬
‫وكالمه كالم اهلل‪ ،‬وفعلُه فعل اهلل‪ ،‬ودعواه معرفة اهلل‬
‫ُ‬ ‫وجوده وجود اهلل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجوده‪ ،‬بل‬
‫َ‬ ‫وجوده في الظاهر والباطن‬
‫ُ‬ ‫يكن‬
‫نفسك غير‬
‫نفسه بنفسه‪ .‬ولكنك تسمع الدعوى منه‪ ،‬وترى الفعل منه‪ ،‬وترى غير اهلل كما ترى َ‬
‫هو دعواه معرفة اهلل َ‬
‫نظر اهلل‬
‫ونظره ُ‬
‫َ‬ ‫عين اهلل‪،‬‬
‫عينه ُ‬
‫اهلل‪ ،‬بجهلك بمعرفة نفسك‪ .‬فإن "المؤمن مرآة المؤمن"‪ :‬فهوـ بعينه‪ ،‬أي ينظره؛ فإن َ‬
‫فإن‬
‫بال كيفية‪ :‬ال هو هو بعينك أو علمك أو فهمك أو وهمك أو ظنك أو رؤيتك‪ ،‬بل هو هو بعينه وعلمه ورؤيته‪ْ .‬‬
‫وصلت‬
‫َ‬ ‫فإن‬
‫وصلت إلى ما وصل إليه؛ ْ‬
‫َ‬ ‫"إني اهلل‪ ،‬فإن اهلل يقول‪ِّ :‬إني اهلل"‪ ،‬فالجواب‪ :‬ال هو‪ ،‬ولكنك ما‬
‫قال قائل‪ِّ :‬‬
‫ورأيت ما يرى‪.‬‬
‫َ‬ ‫وقلت ما يقول‪،‬‬
‫َ‬ ‫فهمت ما يقول‪،‬‬
‫َ‬ ‫إلى ما وصل إليه‪،‬‬

‫َّ‬
‫تتوهمن بهذه اإلشارات أن اهلل‬ ‫ِ‬
‫تقض في ُشبهة‪ ،‬وال‬ ‫وجوده بك‪ ،‬بال وجودهم‪ .‬فال‬
‫ُ‬ ‫وجود األشياء‬
‫ُ‬ ‫وعلى الجملة‪،‬‬
‫مخلوق‪ .‬فإن بعض العارفين قال‪" :‬الصوفيـ غير مخلوق"‪ ،‬وذلك بعد الكشف التام وزوالـ الشكوك واألوهام‪ .‬وهذه‬
‫ق أوسع من الكونين؛ فأما َمن كان َخلقُه كالكونين فال تواف ْقه‪ ،‬فإنها أعظم من الكونين‪.‬‬
‫لمن له َخْل ٌ‬
‫اللقم َ‬

‫ِ‬
‫والمدرك‬ ‫ِ‬
‫والواجدـ والموجود‪ ،‬والعارف والمعروف‪ ،‬والموحِّد <والموحَّد>‪،‬‬ ‫وعلى الجملة أن الرائي والمرئي‪،‬‬
‫وجوده بوجوده‪ ،‬بال كيفية إدراك ورؤية‬
‫َ‬ ‫وجوده بوجوده‪ ،‬ويدرك‬
‫َ‬ ‫وجوده بوجوده‪ ،‬ويعرفـ‬
‫َ‬ ‫والمدركـ واحد‪ :‬هو يرى‬
‫َ‬
‫ومعرفة‪ ،‬وبال وجود حروف صورة اإلدراك والرؤية والمعرفة‪ .‬فكما أن وجوده بال كيفية‪ ،‬فرؤية نفسه بال كيفية‪،‬‬
‫وإ دراكه نفسه بال كيفية‪ ،‬ومعرفة نفسه بال كيفية‪.‬‬

‫"بأي نظر تنظر إلى جميع المكروهات والمحبوبات؟ فإذا رأينا‪ ،‬مثالً‪ ،‬روثًاـ أو جيفة أنقول هو‬
‫فإن سأل سائل وقال‪ِّ :‬‬
‫ْ‬
‫اهلل؟"‪ ،‬فالجواب‪ :‬تعالى َّ‬
‫وتقدس حاشا ثم حاشا أن يكون شيًئا من هذه األشياء! وكالمنا مع َمن ال يرى الجيفةَ جيفةً‬
‫فمن لم يعرف نفسه فهو أ ْك َمه وأعمى؛ وقبل ذهاب‬ ‫كالمنا مع َمن له بصيرة وليس بأ ْك َمه‪َ .‬‬
‫والروث روثًا‪ ،‬بل ُ‬
‫َـ‬
‫والعمى‪ ،‬ال يصل إلى هذه المعاني وال هذه المخاطبة مع اهلل – ال مع غير اهلل وال مع األ ْك َمه‪ .‬فإن‬
‫األ ْك َمهية َ‬
‫وهمة في طلب العرفان وفي طلب معرفة‬‫الواصل إلى هذا المقام يعلم أنه ليس غير اهلل‪ .‬وخطابنا مع َمن له عزم َّ‬
‫ويطرؤ في قلبه صورة في الطلب واشتياقـ إلى الوصول إلى اهلل – تعالى –‪ ،‬ال مع َمن ال قصد وال مقصد‬‫ُ‬ ‫النفس‪،‬‬
‫له‪.‬‬

‫فإن سأل سائل وقال‪" :‬قال اهلل تعالى‪" :‬ال تدركه األبصار وهو يدرك األبصارـ وهو اللطيف الخبير" [األنعام ‪،]103‬‬
‫ْ‬
‫األبصار وهو يدرك‬
‫ُـ‬ ‫وأنت تقول بخالفه‪ ،‬فما حقيقة ما تقول؟"‪ ،‬فالجواب‪ :‬جميع ما قلنا هو معنى قوله‪" :‬ال تدركه‬
‫غيره‪ .‬وقد‬
‫غيره‪ ،‬لجاز أن يدركه ُ‬
‫أحد في الوجود‪،‬ـ وال بصر مع أحد يدركه‪ .‬فلو جاز أن يكون ُ‬‫األبصار"‪،‬ـ أي ليس ٌ‬
‫َ‬
‫غيره‪ ،‬بل يدركه‬
‫نبَّه اهلل – سبحانه وتعالى – بقوله‪" :‬ال تدركه األبصار" على أن ليس غيره سواه‪ ،‬يعني ال يدركه ُ‬
‫ومن قال إنها‬ ‫ِ‬
‫المدرك لذاته ال غير؛ فال تدركه األبصار‪ ،‬إذ <ما> األبصارـ إال وجوده‪َ .‬‬ ‫هو‪ .‬فال غيره إال هو‪ :‬فهو‬
‫بعد لم يعرف نفسه‪ .‬إذ ال شيء وال األبصار إال هو‪.‬‬ ‫حدث ال ِ‬
‫يدرك القديم الباقي‪ ،‬فهو ُ‬ ‫والم َ‬
‫حدثة‪ُ ،‬‬‫ال تدركه ألنها ُم َ‬
‫وجوده بال وجودـ اإلدراك وبال كيفية ال غير‪.‬‬
‫َ‬ ‫فهو يدرك‬

‫شعر‬

‫ِ‬
‫عـيـب‬ ‫بالـرب * بال َنـ ْق ٍ‬
‫ـص وال‬ ‫ِّ‬ ‫الـرب‬
‫َّ‬ ‫عـرفـت‬
‫ُ‬
‫شــك وال ِ‬
‫ريــب‬ ‫فـذاتــي ذاتُـه حــقًّا * بـال ٍّ‬
‫ِ‬
‫الغيب‬ ‫مظـهـر‬ ‫وال صـيران بينـهـمـا * فنفسـي‬
‫ُ‬
‫ش ْــو ِب‬‫ومنـذ عـرفتُـه نفسـي * بـال َم ْـز ٍج وال َ‬
‫ص َل محبـوبـي * بـال ُب ْـع ٍـد وال قُ ْــر ِب‬
‫وصـلت َو ْ‬
‫ُ‬
‫ســ ْل ِـب‬
‫مـن وال َ‬ ‫ٍ‬
‫فيـض * بـال ٍّ‬ ‫عطـاء ذي‬
‫َ‬ ‫ونلـت‬
‫ُ‬
‫فـنـيـت له نفـسي * وال يـبـقــى لـه ذوب‬
‫ْ‬ ‫وال‬

‫أثبت اهلل وتنفي َّ‬


‫كل شيء‪ ،‬فما هذه األشياء التي تراها؟"‪ ،‬فالجواب‪ :‬هذه المقاالت مع َمن‬ ‫فإن سأل سائل وقال‪" :‬أنت َّ‬‫ْ‬
‫ومن‬‫ومن يرى شيًئ ا سوى اهلل فليس لنا معه جواب وال سؤال؛ فإنه ال يرى غير ما يرى‪َ .‬‬ ‫ال يرى سوى اهلل شيًئا‪َ .‬‬
‫ومن لم يعرف نفسه ال يرى اهلل – تعالى –؛ وكل إناء يرشح بما فيه‪ .‬وقدـ شرحنا‬
‫نفسه ال يرى غير اهلل‪َ ،‬‬‫عرف َ‬
‫ومن َي َر َير ويفهم ويدرك‪.‬‬
‫فمن ال يرى ال يرى وال يفهم وال يدرك‪َ ،‬‬
‫كثيرا من قب ُل‪ ،‬وإ ْن نشرح أكثر من ذلك َ‬
‫ً‬
‫فالواصلـ تكفيه اإلشارة‪ ،‬وغير الواصل ال يصل‪ ،‬ال بالتعليمـ وال بالتفهيم وال بالتقريرـ وال بالعقل وال بالعلم – إال‬
‫بهمته ويصل به إلى مقصوده‪ – ،‬إنشاء اهلل تعالى‪.‬‬
‫بخدمة شيخ فاضلـ وأستاذ حاذق وسالك ليهتدي بنوره ويسلكـ َّ‬

‫كل شيء قديرـ وباإلجابة‬ ‫وفَّقنا اهلل لما يحب ويرضىـ من القول والفعل والعلم والعمل والنورـ والهدى‪ ،‬إنه على ِّ‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫تسليما ً‬
‫ً‬ ‫جدير‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم‪ ،‬وصلَّى على سيدنا محمد وآله وصحبه المحبِّين وسلَّم‬

‫في بيان الطريق وبيان السالك والمسلوك إليه وبيان عالماتها‬

‫شممت رائحة‬
‫َ‬ ‫ابتداؤهاـ السلوك‪ ،‬وانتهاؤهاـ األول في انتهاء السلوك وابتدائها اآلخر‪ .‬فإن لم تفهم هذه اإلشارة ما‬
‫المدورة‪ ،‬ال خارجها وال داخلها‪ .‬ابتداء الدائرة انتهاؤها‪ ،‬وانتهاؤهاـ‬
‫َّ‬ ‫التوحيد‪ .‬وأصل المقصود وجود الدائرة‬
‫الوجود هو المنزل سعةً‪ .‬تبتدئ الطريق‪ ،‬ولكنه ال‬
‫ُـ‬ ‫ابتداؤها‪ .‬والدائرة طريق السير في الوجود‪ .‬في معرفة النفس‪،‬‬
‫يعرف وال يعلم‪ ،‬ويرى وجوده غير اهلل‪ .‬فمتى وصل نفسه‪ ،‬أي وجوده‪ ،‬بال شك وال ارتياب‪ ،‬تبيَّن له سعةً أنه كان‬
‫"من عرف‬ ‫واصالً في االبتداء أو موصوالً‪ ،‬ولكنه ال يعرف الوصول‪ .‬ولذلك قال النبي – صلى اهلل عليه وسلم –‪َ :‬‬
‫نفسه فقد عرف ربَّه‪ ".‬والنبي – صلى اهلل عليه وسلم – عرف في االبتداء‪ ،‬وسلك الطريقـ بالمعرفة‪ .‬ولهذا ابتداؤه‬
‫َ‬
‫الصديقين ابتداؤه‪ ،‬ألنهم عرفوا األسرار في االنتهاء‪ – .‬وشتَّان بين َمن َّ‬
‫تقدم في االبتداء‬ ‫ِّ‬ ‫وانتهاء‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫الصديقين‪،‬‬ ‫انتهاء‬
‫ُ‬
‫ابتداء‬
‫ُ‬ ‫ومن َّ‬
‫تقدم في االنتهاء‪ .‬فابتداء العشق وجود المقصودـ وشوقـ إرادة المقصود‪ .‬العشق هو والشوقـ أنت‪.‬‬ ‫َ‬
‫العشق الشوق‪ ،‬وانتهاء <الشوق> العشق‪ – .‬فافهم ذلك‪.‬‬

‫ليس في المقام مقام أعلى وأجل في االبتداء من العشق‪ ،‬ألن جميع ما ذكرناه – وجود العشق‪ ،‬واسم العشق‪،‬‬
‫وصورة العشق ومعناه – <هو> العشق ومقصود العشق‪ .‬والدائرة‪ ،‬وجميع ما داخلها وخارجها‪< ،‬هي> العشق‪:‬‬
‫المعرى من العشق واسمه‪ – .‬فافهم‪.‬ـ‬
‫َّ‬ ‫أعني العشق‬

‫حدث وال بقديم‪ ،‬بل هو هو‪ ،‬بال َح َدثان‪ .‬و ِق َد ُـم الشوقـ يصير في االبتداء عشقًا‪.‬‬
‫بم َ‬
‫واسمه ليس ُ‬
‫ُ‬ ‫وجوده‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الشوقـ‬
‫وصاحب الشوق‪ ،‬متى وصل إلى االنتهاء‪ ،‬يرى شوقه عشقًا‪ ،‬ويعرف أن شوقه كان وجودـ العشق‪ ،‬ولكنه لم‬
‫تفاوتًا‪،‬‬
‫وجود العشق والمعشوقـ والعاشق‪ ،‬وال يرى بينه وبين جميع المخلوقاتـ ُ‬
‫َـ‬ ‫المكونات‬
‫َّ‬ ‫يعرفه‪ ،‬ويرىـ جميع‬
‫صل على َمن لم يشم رائحة الوصول قط‪ .‬وال فرق بينه وبين‬ ‫بالو ْ‬ ‫وجوده‪ ،‬وال ِّ‬
‫يرجح نفسه َ‬ ‫َ‬ ‫ويرىـ جميع المخلوقات‬
‫الحيوانات والجمادات‪ ،‬وبين الشيء وضده؛ وهذه صفة َمن يكون وجوده الموصول‪ ،‬ال صفة الواصل والوصالـ‬
‫صل‪ ،‬وال صفة العاشق والعشق‪ ،‬بل صفة المعشوق‪ ،‬ألن التفاوت بين هذه األشياء يكون في نظر َمن ليس له‬
‫والو ْ‬
‫َ‬
‫تفاوت بينها‪ ،‬بل الجميع سواء عند اهلل‪ – .‬واهلل أعلم بالصواب‪.‬‬
‫بعد‪ .‬وأما َمن له نظر فال ُ‬
‫نظر ُ‬
‫ٌ‬

‫تمت‪ ‬الرسالة الوجودية‪ ‬بعون اهلل – تعالى –‬


‫َّ‬
‫و<منة> منه وكرمه ولطفه؛ وباهلل التوفيق؛‬‫َّ‬
‫والحمد هلل وحده؛ وصلَّى اهلل‬
‫على سيِّدنا محمد ِ‬
‫وآله‬
‫وصحبه وسلَّم‪.‬‬

‫*** *** ***‬

‫‪ ‬‬

‫[‪" ]1‬الجمع‪ :‬شهود الحق بال خلق‪( ".‬الكاشاني‪ ،‬اصطالحات الصوفية‪ ،‬ص ‪)62‬‬

‫[‪.See: Frithjof Schuon, Islam and the Perennial Philosophy, pp. 118-21 ]2‬‬

‫[‪ ]3‬ابن عربي‪ ،‬فصوص الحكم‪" ،‬فص حكمة مهيَّمية في كلمة إبراهيمية"‪ ،‬ص ‪ .84‬بالمثل‪ ،‬يقول الحالج (الديوان‪ ،‬ص ‪:)26‬‬

‫ِ‬
‫الثاقـب‬ ‫سنا الهـو ِته‬
‫سر َ‬
‫أظهر ناسـوتُه * َّ‬ ‫سبحان من‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫والشـارب‬ ‫ظـاهرا * في صورة اآلكل‬
‫ً‬ ‫ثم َبدا في َخ ْل ِقـه‬
‫بالحـاجب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحاجب‬ ‫ِ‬
‫كلحظة‬ ‫حتى لقد عـاي َنـه َخ ْلقُـه *‬

‫وجودا إال للحق‪( ".‬الكاشاني‪ ،‬اصطالحات الصوفية‪ ،‬ص ‪)96‬‬


‫ً‬ ‫[‪"  ]4‬المحق‪ :‬فناء وجود العبد في ذات الحق [بحيث] ال يرى‬
‫[‪"  ]5‬العين الثابتة‪ :‬هي حقيقة الشيء في الحضرة العلمية؛ ليست موجودة‪ ،‬بل معدومة‪ ،‬ثابتة في علم اهلل [‪( ".]...‬الكاشاني‪ ،‬اصطالحات الصوفية‪،‬‬
‫ص ‪)4-143‬‬

‫األشياء‬
‫َ‬ ‫اإلنسان بالروح اإللهي‪ ،‬يعرف العق ُل اإلنساني‬
‫ُ‬ ‫[‪ ]6‬فصوص الحكم‪" ،‬فص حكمة مهيَّمية في كلمة إبراهيمية"‪ ،‬ص ‪ .2-81‬بمقدار ما ُيتخلَّل‬
‫نور العقل على األشياء المفردة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كل ها في أعيانها؛ لكن هذه المعرفة الذاتية على اإلجمال تتمايز على التفصيل بمقدار ما ينخلع ُ‬

‫لمصطلحي "الحلول"‪( panentheism ‬ر‪.‬‬ ‫أيضا مناقشةـ نصر (ص ‪)9-138‬‬‫‪ ‬سيد حسين نصر‪ ،‬ثالثة حكماء مسلمين‪ ،‬ص ‪ .138‬راجع ً‬
‫[‪]7‬‬
‫َ‬
‫نيكلسون) والتصوف "الطبيعي"‪  mystique naturelle ‬الذي أطلقه جاك ماريتان على التصوف اإلسالمي وغيره من المذاهب الباطنية المشرقية‬
‫التصوف المسيحي "الفائق للطبيعة"‪ .) surnaturelle ‬وجلي بالطبع أن موقف ماريتان وأشياعه من المفكرين الكاثوليك هو خير وسيلة‬
‫ُ‬ ‫(ويقابله عنده‬
‫ظا في بنى نقلية ثابتة قد تبلغ َّ‬
‫حد‬ ‫ك محفو ً‬
‫جميعا على شيء من بقاياه مازال حيًّا‪ ،‬وإ ْن ي ُ‬
‫ً‬ ‫الثقافات‬
‫ُ‬ ‫الستبعاد مذهب ذي خاصية عالمية‪ ،‬تنطوي‬
‫منهاجهاـ وشكلُها مالزمان ِّ‬
‫لكل طريقة باطنية نقلية‪ ،‬أيًّا‬ ‫ُ‬ ‫تفتحه النهائي عبر سيرورة تحقُّق‬
‫أحيانا كثيرة‪ .‬إن هذا المذهب يجد في اإلنسان َ‬
‫ً‬ ‫الجمود‬
‫اطالع جميع السالكين في الطريقة على المضمون العميق للمذهب‪ .‬وهذه السيرورة الخاضعة لقوانين دقيقة‬ ‫َ‬ ‫كانت‪ ،‬دون أن يقتضي هذا بالضرورة‬
‫ساررة‪.initiation ‬‬
‫الم َ‬
‫للغاية ومتشابهة (مهما يكن الصعيد الذي تختص به) هي سيرورة ُ‬

‫[‪  ]8‬من األسباب التي أوقعت المستشرقين في التباس وحدة الوجود بالحلولية‪ ،‬على ما يبدو لنا‪ ،‬اشتما ُل كلمة "وجود" العربية على‬
‫معنيي‪ ‬األيس‪"( esse  ‬الكينونة") والوجود‪ ،existentia  ‬حيث إن كلمة "وجود" تتضمن معنى‪ ‬الكينونة‪ً  ‬‬
‫أيضا‪ .‬من ذلك أن "الكينونة المطلقة"‪Absolute ‬‬ ‫َ‬
‫وجود منفصل عن الكينونة أو األيس‪ .‬والفعل‬
‫ٌ‬ ‫تصور في اإللهيات المشرقية‬ ‫‪ Being‬هي‪ ‬الوجود المحض‪ ‬في مذهب الصوفية‪ .‬من هنا ال ُي َّ‬
‫الثالثي‪ ‬وجد‪  ‬يتضمن كذلك معنى "اإليجاد"‪ ،‬كما يتضمن بصيغة المبني للمجهول ( ُو ِج َد) معنى‪ ‬الوجدان‪ ،‬وبذلك يشير إلى تكافؤ َ‬
‫معنيي الكينونة‬
‫عين وجوده"‪ ،‬ويقول ابن عربي عن‪ ‬الوجود‪ ‬إنه‬
‫والمعرفة (الوجدان) في "عينهما"‪ ،‬أي مبدئهما‪ .‬يقول السهروردي القتيل في ذلك‪" :‬معرفةُ الشيء ُ‬
‫الحق [أي معرفته] في الوجد" (اصطالح الصوفية‪ ،‬ص ‪)287‬‬ ‫ِّ‬ ‫"وجدان‬

‫[‪ ]9‬السهروردي‪ ،‬هياكل النور‪ ،‬الهيكل الرابع‪ ،‬الفصل األول‪ ،‬ص ‪.60‬‬

‫قطعا خالصةً لمذهب الشيخ األكبر في‪ ‬وحدة الوجود‪ ‬وذروةً له‪.‬‬


‫‪  ‬مهما يكن من أمر صحة نسبة هذه الرسالة إلى صوفية آخرين‪ ،‬فإنها تمثل ً‬
‫[‪]10‬‬

‫[‪ ]11‬ثالثة حكماءـ مسلمين‪ ،‬ص ‪.141‬‬

‫الذات في ِّ‬
‫كل شيء‬ ‫َ‬ ‫[‪  ]12‬يقول الحكيم الهندي شنكراتشاريا‪" :‬الذات [آتما] هو حقًّا هذا الكون كله‪ ،‬وما من شيء آخر سوى الذات‪ .‬يدرك اليوگي‬
‫كحال الصلصال من ال ِجرار‪ ،‬إلخ‪( ".‬معرفة الذات‪ ،‬ف ‪ ،48‬ص ‪)67‬‬

‫[‪ ]13‬نقصد بكلمة "مبدأ" هنا العلَّة األونطولوجية المستقلة عن معلوالتها‪.‬‬

‫أي شيء سوى برهمن موجود فهو وهم‪،‬‬


‫شيء إال وهو برهمن‪ .‬فإذا بدا أن َّ‬
‫ٌ‬ ‫شيء من الكون؛ وال يوجد‬
‫ٌ‬ ‫[‪ ]14‬يقول شنكرا‪" :‬ليس كمثل برهمن‬
‫كالسراب في الصحراء‪( ".‬معرفة الذات‪ ،‬ف ‪ ،63‬ص ‪)71‬‬

‫وممحوة بأحدية ذاته‪( ".‬الحكم العطائية‪ ،‬الحكمة ‪ ،141‬ص ‪)51‬‬


‫َّ‬ ‫[‪  ]15‬يقول ابن عطاء‪" :‬األكوان ثابتة بإثباته‬

‫[‪ ]16‬اصطالح الصوفية‪ ،‬ص ‪.297‬‬

‫[‪ ]17‬فصوص الحكم‪" ،‬فص حكمة حقِّية في كلمة إسحاقية"‪ ،‬ص ‪.88‬‬

‫[‪ ]18‬ثالثة حكماءـ مسلمين‪ ،‬ص ‪.139‬‬

‫عرف إال بجمعه بين‬


‫‪  ‬يقول ابن عربي‪" :‬قال الخراز – رحمه اهلل تعالى‪ ،‬وهو وجه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه – بأن اهلل ال ُي َ‬
‫[‪]19‬‬

‫واآلخ ر والظاهر والباطن‪ .‬فهو عين ما ظهر‪ ،‬وهو عين ما بطن في حال ظهوره‪( ".‬فصوص الحكم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األضداد في الحكم عليه بها‪ :‬فهو األول‬
‫"فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية"‪ ،‬ص ‪ )77-76‬بالمثل‪ ،‬فإن الكاشاني (اصطالحات الصوفية‪ ،‬ص ‪ِّ )94‬‬
‫يسمي "الهوية المطلقة التي هي‬
‫تعانق األطراف" بـ"مجمع األضداد"‪.‬‬
‫حضرة ُ‬

‫[‪ ]20‬ثالثة حكماءـ مسلمين‪ ،‬ص ‪.141‬‬

‫[‪ ]21‬ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬السفر ‪ ،1‬ف ‪ ،315‬ص ‪.212‬‬

‫يعول على‬
‫كثيرا إلسناد الحديث‪ ،‬بل ِّ‬
‫نس ب إلى يحيى بن معاذ الرازي‪ .‬لكن ابن عربي ال يأبه ً‬ ‫‪ ‬أغلب الظن أنه ليس بحديث‪ ،‬بل هو كالم ُي َ‬
‫[‪]22‬‬

‫خبرته الروحية للتأكد من صحة‪ ‬معناه‪ ،‬يقول‪" :‬قد َّ‬


‫صح لدينا تحققًا‪".‬‬

‫‪ ‬بحسب الكالباذي‪ ،‬الفناء‪" ‬هو الغيبة عن األشياء ً‬


‫رأسا" و"حال َمن ال يشهد صفتَه‪ ،‬بل يشهدها مغيَّبةً بمغيِّبها" (نقالً عن أبي القاسم فارس)؛‬ ‫[‪]23‬‬

‫أيضا‪َ ،‬من "يغيِّبه [اهلل] عن رؤية صفته [‪ ،]...‬فال يبقى فيه إال ما ِم َن اهلل إليه‪ ،‬ويفنى عنه ما منه إلى اهلل‪ ،‬فيكون كما‬
‫و"الفاني"‪ ،‬بحسب الكالباذي ً‬
‫كل مرسوم‪ ،‬فيبقى في وقته بال بقاء‬‫كل رسم كان له وعن ِّ‬ ‫العبد من ِّ‬ ‫كان‪ :‬إذ كان في علم اهلل قبل أن ِ‬
‫يوج َده [‪ ".]...‬وفناء الفناء‪ ‬هو أن "يؤخذ ُ‬
‫عالما ببقائه وفنائه ووقته [‪( ".]...‬التعرف لمذهب أهل التصوف‪ ،‬ص ‪)7-125‬‬
‫يعلمه‪ ،‬وال فناء يشعر به‪ ،‬وال وقت يقف عليه‪ ،‬بل يكون خالقُه ً‬

‫[‪"  ]24‬السوى‪ :‬هو الغير‪ ،‬وهو األعيان من حيث تعيُّناتها‪( ".‬الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪)128‬‬

‫[‪"  ]25‬الموت‪ :‬باصطالح القوم‪ ،‬قمع هوى النفس؛ فإن حياتها به‪ ،‬وال تميل إلى لذاتها وشهواتها ومقتضيات الطبيعة البدنية إال به‪ .‬وإ ذا مالت إلى‬
‫الجهة السفلية جذبت القلب‪ ،‬الذي هو النفس الناطقة‪ ،‬إلى مركزها‪ ،‬فيموت عن الحياة الحقيقية العلمية التي له بالجهل‪ .‬فإذا ماتت النفس عن هواها‬
‫القلب بالطبع والمحبة األصلية إلى عالمه‪ :‬عالم القدس والنور والحياة الذاتية التي ال تقبل الموت أصالً‪( ".‬الكاشاني‪ ،‬اصطالحات‬
‫ُ‬ ‫بقمعه‪ ،‬انصرف‬
‫الصوفية‪ ،‬ص ‪)105‬‬

‫حتم ا على نحو ما؛ لكنها ال "تبقى" إال بمعنى أن هذا الكائن الذي مازال يحمل اسم "إنسان"‬
‫‪ ‬مع ذلك‪ ،‬فإن الذات الفردية لإلنسان المتحقق تبقى ً‬
‫[‪]26‬‬

‫تواصل ذاتي رابط ما بين‬


‫ُ‬ ‫شيء من الذات الفردية بمعنى من المعاني لما ُو ِج َد‬
‫ٌ‬ ‫يبق فيه‬
‫ال يشعر بأنه هو "نفسه" إال بتخلل العقل اإللهي إياه‪ .‬فلو لم َ‬
‫فهما‪ :‬ففي اإلنسان الذي بلغ هذه‬ ‫َّ‬
‫خبراته البشرية‪ .‬على أن العالقة بين الحقيقة وبين ما تبقى من فردية اإلنسان المتحقق روحيًّا من أعسر األمور ً‬
‫المرتبة من الكمال ال تعود الحقيقة "محتجبة" بشيء‪ ،‬في حين أن الوعي الفردي بالتعريف‪ ‬حجاب ‪ ،‬وهو غير موجود إال بمقدار ما يعكس َ‬
‫النور‬
‫الباهر للعقل اإللهي‪.‬‬
‫َ‬

‫[‪" ]27‬االصطالم‪ :‬نعت َولَ ٍه َي ِر ُد على القلب‪ ،‬فيسكن تحت سلطانه‪( ".‬ابن عربي‪ ،‬اصطالح الصوفية‪ ،‬ص ‪)292‬‬

You might also like