You are on page 1of 5

‫التواتر املعنوي‪:‬‬

‫ًا‬
‫وعندي أن نصب الخليفة بلغ القطع بالتواتر املعنوي أيض ‪ ،‬وبيان ذلك‪:‬‬
‫نبدأ بتبيان مفهوم التواتر‪ ،‬بشقيه اللفظي واملعنوي‪ ،‬وكيف يتحققان‪ ،‬وأنبه إلى ندرة األبحاث التي تدرس‬
‫التواتر املعنوي وشروطه‪ ،‬وكيفية تحققه‪،‬‬
‫شروط التواتر اللفظي‬
‫أما التواتر اللفظي فلتحققه شروط حتى يفيد املتواتُر العلَم ‪ :‬منها ما يرجع إلى املخبرين‪ ،‬ومنها ما يرجع إلى‬
‫السامعين‪:‬‬
‫فالتي ترجع إلى املخبرين أربعة‪ :‬األول‪ :‬أن يكونوا عاملين بما أخبروا به غير مجازفين‪ ،‬فلو كانوا ظانين لذلك‬
‫فقط لم يفد القطع‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع‪ ،‬أي أن يكونوا مستندين إلى الحس‪ ،‬ألن ما‬
‫ًا‬
‫ال يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه‪ ،‬وأيض ال بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب‪ ،‬وال يقيد ذلك بعدد معين بل‬
‫ضابطه حصول العلم الضروري به‪ 1،‬فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر وإال فال‪ ،‬وهذا قول الجمهور‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬وجود العدد املعتبر في كل الطبقات‪ ،‬فيروي ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل باملخبر عنهم‪،‬‬
‫وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر‪ ،‬فال يصح أن يكونوا أو بعضهم غير عدول‪.2‬‬
‫وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فال بد أن يكونوا عقالء‪ ،‬إذ يستحيل حصول العلم ملن ال عقل له‪ ،‬وأن‬
‫يكونوا عاملين بمدلول الخبر وأن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة تقليد أو نحوه‪.3‬‬

‫‪1‬‬
‫أنظر‪ :‬أدلة االعتقاد للمؤلف‪ ،‬باب‪ :‬أخبار اآلحاد ال تفيد العلم بذواتها‪ ،‬توطئة ضرورية جدا‪ :‬مفاتيح التعامل مع املسألة‪ :‬أوال‪ :‬ليس املراد‬
‫ًال‬
‫بالقبول التصديق‪ :‬الشهادة مثا ‪ ،‬هل ثمة من عدد يفصل بين التواتر واآلحاد؟‬

‫‪ 2‬قال ابن حجر في اإلصابة في تمييز الصحابة‪ :‬وال يقال يستفاد من هذه األخبار التواتر املعنوي ألن التواتر ال يشترط ثقة رجاله وال‬
‫عدالتهم وإنما العمدة على ورود الخبر بعدد يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب فإن اتفقت ألفاظه فذاك وإن اختلفت فمهما اجتمعت‬
‫فيه فهو التواتر املعنوي‪.‬‬
‫‪ 3‬راجع كتاب‪ :‬أدلة االعتقاد للمؤلف ففيه تفصيل واسع للموضوع‪.‬‬
‫طرق التواتر املعنوي‪:‬‬
‫حين نقول‪ :‬تواتٌر معنوٌي ‪ ،‬فإننا نستمده من عمليِة نقٍل بلغت التواتر‪ ،‬تأتي من خالل االستقراء‪،‬‬
‫واالستقراء كما قال فيه الشاطبي‪" :‬هكذا شأنه؛ فإنه تصُّف ح جزئيات ذلك املعنى ليثبت من جهتها حكٌم عاٌم ‪،‬‬
‫َّل‬
‫‪4‬‬
‫إما قطعي‪ ،‬وإما ظني‪ ،‬وهو أمر ُم َس ٌم عند أهل العلوم العقلية والنقلية"‬
‫والنقل املفيد للتواتر املعنوي على ثالثة ضروب‪:‬‬
‫أولها ‪ :‬إما من خالل نقل مجموعة أخبار آحاد‪( ،‬روايات حديث)‬
‫ًا‬
‫وثانيها‪ :‬أو من خالل نقٍل عملٍي جماعٍي أفاَد معنًى معين ‪،‬‬
‫وثالثها‪ :‬أو باستقراء تضافر اشتراك أدلة في أداء معنى واحد‪،‬‬
‫أما الضرب األول ‪ :‬فاألخبار‪ ،‬فأن يؤتى فيها بذكر معنى مشترك باالستقراء يستمد من الصيغ ومعاني تلك‬
‫ْخ‬ ‫َأ ْل‬ ‫ُّل‬ ‫َط‬ ‫َت َمل ُمْلْش َت‬ ‫َأ‬
‫الصيغ‪ ،‬أي ْن َي َت َو ا َر "ا ْع َن ى ا َر ُك " ِب ِر يِق ال زوم ِف ي ِض ْم ِن َف اٍظ ُم َت ِل َف ٍة ‪ ،‬بحيث تسد اجتماع تلك‬
‫األخبار على معنى مشترك فجوة الظنية التي في اآلحاد‪ ،‬فيؤخذ التواتر املعنوي‪ ،‬بشروط أربعة‪:‬‬
‫ًا‬
‫الشرط األول‪ :‬بلوغ جمع من الرواة آلحاد األخبار مبلغ يستحيل معه اتفاقهم على الكذب‪ ،5‬أي أنك لو‬
‫درست مجموع األخبار دراستك لحديث متواتر واحد‪ ،‬وجدت العدد في مجموعها مما يحيل اتفاق رواة كل‬
‫األخبار على الكذب‪ ،‬ووجود التواتر في كل الطبقات التي روت األحاديث بنفس الطريقة التي تحققنا فيها من‬
‫بلوغ جمع الرواة مبلغا يستحيل معه اجتماعهم على الكذب‪،‬‬
‫َل‬
‫ي ال ُز و ‪ْ ،‬ن‬ ‫ُّل‬ ‫َط‬ ‫ُك‬ ‫َت‬ ‫ُمْلْش‬ ‫َن‬ ‫الشرط الثاني‪َ :‬أ ْن َي َت َو اَت َر َم ْع ًن ى ي ْم َأ ْل َف ا ُم ْخ َت َف ‪َ ،‬و َل ْو َن ْع‬
‫َمْل‬ ‫َك‬
‫ِم ِك‬ ‫ِق‬ ‫ِر‬ ‫ِب‬ ‫ا ا ى ا َر ِف يِه‬ ‫ِل ٍة‬ ‫ٍظ‬ ‫ِف ِض ِن‬ ‫ِب‬
‫ْن َه ا َي ْش َت ُل َع َل ى َم ْع ًن ى ُم ْش َت َر ُم َت َح ّص ل باالستقراء َبْي َن َه ا يفيد داللة على املعنى َه الَّتَض ُّم َأ ْو‬ ‫ُك َو‬
‫ِن‬ ‫ِبِج ِة‬ ‫ٍك‬ ‫ِم‬ ‫ُّل اِح ٍد ِم‬
‫ْل َز‬
‫اال ِت اِم ‪.‬‬
‫َت‬ ‫َأ‬ ‫ُت َمْل‬ ‫َأ‬
‫قال محمد النجار الفتوحي في شرح الكوكب املنير‪َ :‬و َّم ا الَّت َو ا ُر ا ْع َن ِو ُّي ِم ْن الُّس َّن ِة ‪َ ،‬و ُه َو ِب ْن َي َت َو ا َر َم ْع ًن ى ِف ي‬
‫ِض ْم َأ ْل َف اٍظ ُم ْخ َت ِل َف ٍة ‪َ ،‬و َل ْو َك اَن اَمْلْع َن ى اُمْلْش َت َر ُك ِف يِه َط ي الُّل ُز و َف َك ِث يٌر (َو ) ِق ْس ٌم (َم ْع َن ٌّي ‪َ ،‬و ُه َو َت َغ اُي ُر‬
‫ِو‬ ‫ِم‬ ‫ِب ِر ِق‬ ‫ِن‬
‫َح‬ ‫َو َس َخ‬ ‫ْو‬ ‫َح‬ ‫ْل‬ ‫َح‬ ‫ُّل ُز َك َم َت َق َّد َم َو َذ َك َك‬ ‫َم ْع ًن ُك َو َل ْو َط‬ ‫َر‬ ‫َأل ْل َف َم َع ْش‬
‫اِء اِت ٍم )‬ ‫‪ِ .‬ل ( ِد يِث ا ِض ‪،‬‬ ‫اال ِت اِك ِف ي ى ِّل ٍّي ) ِب ِر يِق ال وِم ا‬ ‫ا اِظ‬
‫َو ُش َج اَع ِة َع َر َي الَّل ُه َع ْنُه َو َغ ْي َه ا‪َ .‬و َذ ِل َك إَذ ا َك ُث َر ْت اَأل ْخ َب اُر ي اْل َو َق اِئ َو اْخ ُت ِل َف ِف يَه ا‪َ ،‬ل ِك ْن ُك ُّل َو اِح ٍد ِم ْن اَه‬
‫ِف‬ ‫ِر‬ ‫ِل ٍّي ِض‬
‫َي ْش َت ُل َع َل َم ْع ًن ُم ْش َت َر َبْي َن َه َه َّتَض ُّم َأ ْو ْل َز َح َص َل ْل ْل ُمِع ْل َق ْد ُمْلْش َت َر َو ُه َو َم َث َّش َج َع ُة‬
‫ال ال ا‬ ‫ا ِع ِب ا ِر ا ِك ‪،‬‬ ‫ٍك ا ِبِج ِة ال ِن اال ِت اِم ‪،‬‬ ‫ى ى‬ ‫ِم‬
‫َأ ْو اْلَك َر ُم َو َن ْح ُو َذ َك ‪َ ،‬و ُي َس َّم ى اُمْلَت َو ا َر ْن َه اَمْلْع َن ى َو َذ َك َك َو َق ا َح ا يَم ا ُيْح َك ى ْن َع َط اَي اُه ْن َف َر َو‬
‫ٍس ِإ ِب ٍل‬ ‫ِم‬ ‫ِم‬ ‫ِئ ِع ِت ٍم ِف‬ ‫ِل‬ ‫ِت ِم ِج ِة‬ ‫ِل‬
‫َو َع ْي َو َث ْو َو َن ْح َه ا‪َ .‬ف َّن َه ا َت َتَض َّم ُن ُج وَد ُه َف ُيْع َل ُم ‪َ ،‬و ْن َل ْم ُي ْع َل ْم َش ْي ٌء ْن ْل َك اْل َق َض اَي ا َعْي ‪َ ،‬و َك َق َض اَي ا َع‬
‫ِل ٍّي‬ ‫ِب ِنِه‬ ‫ِم ِت‬ ‫ِإ‬ ‫ِو ِإ‬ ‫ٍن ٍب‬
‫ْن َأ َّنُه َه َز َم َخ ْي َب َر َك َذ َو َف َع َل ُأ ُح َك َذ َل َغ ْي َذ َك َف َّنُه َي ُد ُّل ْل َز َع َل‬ ‫ُر‬ ‫ُح‬ ‫ْنُه‬ ‫َع‬ ‫َر َي الَّل ُه‬
‫ِب اال ِت اِم ى‬ ‫ِف ي ٍد ا‪ ،‬إ ى ِر ِل ‪ِ .‬إ‬ ‫ا‬ ‫ِف ي‬ ‫ِف ي وِب ِه ِم‬ ‫ِض‬
‫َع‬ ‫ُش‬
‫‪6‬‬
‫َج ا ِتِه ‪.‬‬

‫‪ 4‬املوافقات للشاطبي كتاب األدلة الشرعية‬


‫‪ 5‬فمثال‪ :‬روايات عذاب القبر بلغت في عصر الصحابة حوالي سبعين حديثا بمختلف رواياتها‪ ،‬رواها حوالي ستة وعشرون صحابيا‬
‫‪ 6‬محمد النجار الفتوحي في شرح الكوكب املنير باب في اإلجماع‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون املعنى عاما غير مخَّص ٍص ‪ ،‬مطلقا من غير تقييد‪ ،‬وأن يفيد ذلك املعنى أي يتوارد‬
‫على شيء واحد‪ ،‬ال مجموعة أشياء متفرقة ال تدل على ذلك املعنى بداللة التضمن أو االلتزام‪ ،‬قال الشاطبي‪:‬‬
‫ًال‬
‫"والثاني‪ :‬أن التواتر املعنوي هذا معناه‪ ،‬فإن جود حاتم مث إنما ثبت على اإلطالق من غير تقييد‪ ،‬وعلى‬
‫العموم من غير تخصيص‪ ،‬بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر‪ ،‬مختلفة في الوقوع‪ ،‬متفقة في معنى‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫الجود‪ ،‬حتى حّص لت للسامع معنى كلي حكم به على حاتم‪ ،‬وهو الجود‪ ،‬ولم يكن خصوص الوقائع قادح في‬
‫‪7‬‬
‫هذه اإلفادة‪،‬‬
‫ُد‬
‫الشرط الرابع‪ :‬أن ال يعارض املعنى املستفا من التواتر دليال قطعيا سواء أتعارض بالكلية مع الدليل‪ ،‬أم‬
‫استفدنا من الدليل القطعي معاني تعارضت مع أو قدحت في املستفاد من التواتر املعنوي وأثارت حوله‬
‫عالمات شك‪ ،‬تهبط به عن درجة القطع‪( .‬فال بد أن يتوافق املعنى مع املستفاد من األدلة القطعية‪ ،‬فمثال‬
‫أخبار اآلحاد التي استفدنا منها القول بعذاب القبر نزلت عن درجة التواتر املعنوي قليال بسبب تعارضها مع‬
‫ما قد تؤديه بعض اآليات من معان نحتاج معها إلى التأويل والتعليل الذي يعسر معه فهمها على ما هي عليه‬
‫َك َذ َك ُن‬ ‫َل ُث َغ‬ ‫ُمْل‬ ‫ُة‬
‫بشكل يفضي للقطع‪ ،‬مثل قوله تعالى‪َ﴿ :‬و َيْو َم َتُق وُم الَّس اَع ُي ْق ِس ُم ا ْج ِر ُم وَن َم ا ِب وا ْي َر َس اَع ٍة ِل َك ا وا‬
‫ْل‬ ‫َف َذ‬ ‫ْل‬ ‫َّل َل‬ ‫َت‬ ‫ُي ْؤ َف ُك وَن (‪َ )55‬و َق اَل اَّل يَن ُأ وُت وا اْل ْل َم َو ا يَم اَن َل َق ْد َل ْث ُت‬
‫ِب ْم ِف ي ِك اِب ال ِه ِإ ى َيْو ِم ا َبْع ِث َه ا َيْو ُم ا َبْع ِث‬ ‫ِإْل‬ ‫ِع‬ ‫ِذ‬
‫َن‬ ‫َل ُك ُك اَل َت َل‬
‫َو ِك َّن ْم نُت ْم ْع ُم و (‪ ﴾)56‬الروم ‪ ،‬وهذا نوع يدخل تحت ما سماه الشاطبي‪ " :‬ولم يكن خصوص الوقائع‬ ‫‪8‬‬

‫ًا‬
‫قادح في هذه اإلفادة"‬
‫مالحظة مهمة‪ :‬في التواتر اللفظي كما وفي املعنوي نرى أن بلوغ الجمع حدا يحيل اجتماعهم على الكذب‬
‫ٌط‬
‫يحتاج أن تضاف له شرو حتى يفيد اليقين سواء في التواتر اللفظي‪ ،‬أو في التواتر املعنوي إذ في‬
‫املعنوي يحتاج لعدم املعارضة الواردة في رابعا أعاله‪ ،‬وذلك ألنهم لم يجتمعوا على رواية حديث واحد‬
‫حتى يقال‪ :‬يفيد القطع بعددهم‪ ،‬بل بروايات مختلفة كل رواية فيها ما فيها من دوافع الظنية‪ ،‬وكذلك في‬
‫التواتر اللفظي‪ ،‬ال يكفي شرط بلوغ العدد حدا يستحيل معه تواطؤهم على الكذب ليفيد القطع‪ ،‬بل‬
‫يجب أن يضاف إليه شروط أخرى منها أن يكونوا عاملين بما أخبروا به‪ ،‬وأن يعلموا ذلك عن ضرورة من‬
‫مشاهدة أو سماع‪ ،‬فتنبه لهذا يرحمك هللا!‬
‫ًال‬
‫قال الشاطبي في املوافقات‪ :‬والثاني‪ :‬أن التواتر املعنوي هذا معناه‪ ،‬فإن جود حاتم مث إنما ثبت على اإلطالق‬
‫من غير تقييد‪ ،‬وعلى العموم من غير تخصيص‪ ،‬بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر‪ ،‬مختلفة في‬
‫ًا‬
‫الوقوع‪ ،‬متفقة في معنى الجود‪ ،‬حتى حّص لت للسامع معنى كلي حكم به على حاتم‪ ،‬وهو الجود‪ ،‬ولم يكن‬
‫ًا‬
‫خصوص الوقائع قادح في هذه اإلفادة‪.9،‬‬
‫وأما الضرب الثاني ‪ :‬وأما النقل العملي‪ ،‬فيتحصل باستقراء وقائع وعادات‪ 10‬مستقرة عند األمة‪ ،‬ومثاله‬
‫اللغات‪ :‬إذ أن مما يدخل في التواتر املعنوي استعمال العرب للغات‪ ،‬فإنها تعارفت على ألفاظ معينة تؤدي‬
‫‪ 7‬املوافقات للشاطبي كتاب األدلة الشرعية‬
‫‪ 8‬راجع كتابنا‪ :‬أدلة االعتقاد ففيه فصل كامل حول هذه اآليات وهذه املسألة‬
‫‪ 9‬املوافقات للشاطبي كتاب األدلة الشرعية‬
‫‪ 10‬جاء الشرع ليبين للناس الحسن والقبح والخير والشر والثواب والعقاب‪ ،‬فالخلق الكريم حكم شرعي يجب أن يتصف به املسلم لكونه‬
‫أمر باالتصاف به‪ ،‬ال ألنه صفة حسنة في ذاتها‪ ،‬وباملثل فإن ما اعتاده الناس إنما نزلت الشريعة لضبطه باألحكام الشرعية‪ ،‬فيستحيل عقال‬
‫أن تكون األمة أجمعت ‪-‬على اختالف مشاربها وأصولها وأعراقها وشعوبها‪ -‬على عادة معينة مستقرة إال أن يكون أصلها الشرع!‬
‫معان معينة‪ ،‬فاللفظ حتى يعتبر لفظا عربيا ال بد أن ُي روى عن العرب الرواية الصحيحة إما بنقل األشعار‪،‬‬
‫أو من خالل استعمال من تقوم بهم الحجة من العرب للغات (وهذا شكل يتراوح ما بين التواتر املعنوي‬
‫واللفظي)‪.‬‬
‫ومن األمثلة األخرى‪ :‬استقراء ما وصل إلينا من إجماع املسلمين على أمر يرجع أصله إلجماع الصحابة‪ ،‬ثم‬
‫نقل في العصور التالية إجماعا على حكم ما‪ ،‬كثبوت أن الصلوات خمس‪ ،‬وركعاتها‪ ،‬وسنة الفجر‪ ،‬وانعقاد‬
‫الخالفة‪.‬‬
‫وأما الضرب الثالث ‪ :‬فأن يستفاد التواتر املعنوي من خالل النظر واستقراء اشتراك النصوص‪ ،‬والوقائع‬
‫واأللفاظ والقرائن واألدلة واألمارات واألحكام الكلية والقواعد واتفاقها على "معنى كلي" من خالل عملية‬
‫استقراء‪ ،‬والنظر في إمكان اإلفادة منها في تأكيد معنى واحد مشترك‪ ،‬وقاطع‪،‬‬
‫فمثال‪ :‬باستقراء العالقات بين الرجال والنساء في اإلسالم نجد‪ :‬تحريم النظر للعورات‪ ،‬وغض البصر‪،‬‬
‫وحرمة السفر للمرأة مسيرة معينة دون َم ْح َر ٍم ‪ ،‬وجعل صفوف النساء في الصالة في املسجد العام خلف‬
‫صفوف الرجال منفصلة عنهم‪ ،‬وقالت النساء للرسول ﷺ قد غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما‪ ،‬ولم يجز‬
‫شهادة املرأة في الجنايات‪ ،‬وأدلة هذه األحكام تدل داللة التزام على فصل النساء عن الرجال‪ ،‬وأن الرجال ال‬
‫يجتمعون بالنساء‪ .‬ثم إن واقع حياة املسلمين في عهد الرسول ﷺ هي فصل النساء عن الرجال‪ ،‬وهذا الفصل‬
‫ًال‬
‫معناه منع اجتماع الرجال بالنساء‪ ،‬والشرع جعل البيوت حياة خاصة‪ ،‬وجعل االستئذان دلي على كونها‬
‫حياة خاصة‪ ،‬فال تدخل إال باستئذان‪ ،‬فمنع الدخول ومنع ما يترتب عليه إال وفق أحكام معينة‪ ،‬فاألدلة‬
‫العامة لألحكام الشرعية املتعلق باملرأة تجاه الرجل تدل داللة قاطعة وليست ظنية على فصل النساء عن‬
‫الرجال‪ ،‬ألنها جاءت بأدلة قطعية الثبوت قطعية الداللة من آيات قرآنية وأحاديث متواترة‪ ،11‬فهذا االستقراء‬
‫لألحكام الشرعية يفضي إلى تواتر معنى فصل الرجال عن النساء عند املسلمين في الحياة الخاصة وأضحى‬
‫هذا مما هو معلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬لقوة ثبوته وبداهته‪.‬‬
‫ومن األمثلة األخرى‪ :‬استقراء ما وصل إلينا من النظر في اآليات واألدلة الدالة على وجوب الخالفة! وهو‬
‫ما سنفعله في هذا الفصل إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫رأي اإلمام تقي الدين النبهاني في التواتر املعنوي‬
‫وقد استقرأت رأي العالمة تقي الدين النبهاني في التواتر املعنوي وخلصت إلى أنه يقول بالتواتر املعنوي‪ ،‬قال‬
‫في جواب سؤال بتاريخ ‪ 1973‬ما نصه‪ :‬ثم إن واقع حياة املسلمين في عهد الرسول ﷺ هي فصل النساء عن‬
‫الرجال‪ ،‬أي فصل املرأة عن الرجل‪ ،‬وهذا الفصل معناه منع اجتماع الرجال بالنساء‪ ،‬أي منع اجتماع الرجل‬
‫باملرأة‪ .‬فاألدلة العامة لالحكام الشرعية املتعلق باملرأة تجاه الرجل تدل داللة قاطعة وليست ظنية على فصل‬
‫النساء عن الرجال‪ ،‬ألنها جاءت بأدلة قطعية الثبوت قطعية الداللة من آيات قرآنية وأحاديث متواترة‪ ،‬حتى‬
‫أصبح فصل الرجال عن النساء عند املسلمين مما هو معلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬لقوة ثبوته وبداهته‪.12‬‬
‫انتهى‪ ،‬فالشاهد هنا قوله‪ :‬أحاديث متواترة‪ ،‬ومعلوم أنها متواترة معنى‪،‬‬

‫‪ 11‬جواب سؤال لحزب التحرير بتاريخ‪ 11 :‬من شهر رجب ‪1393‬هجري ‪ 9/8/1973‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 12‬جواب سؤال لحزب التحرير بتاريخ‪ 11 :‬من شهر رجب ‪1393‬هجري ‪ 9/8/1973‬بتصرف‪.‬‬
‫ّل‬
‫كما ورد في كتاب الشخصية اإلسالمية الجزء األول‪ :‬فصالة ركعتي سنة الفجر سنة لو لم يص ها ال شيء‬
‫عليه‪ ،‬ولو صالها له ثواب مثل ركعتي املغرب سواء بسواء من حيث الحكم الشرعي‪ ،‬أما من حيث العقيدة‪،‬‬
‫فالتصديق بركعتي الفجر أمر حتمي وإنكارهما كفر‪ ،‬ألنهما ثبتتا بطريق التواتر‪ .‬انتهى‪ ،‬ومعلوم أن أحاديث‬
‫ركعتي الفجر في كتب السنن آحاد‪ ،‬إال أن القطع بثبوتهما كان من طريق التواتر املنقول باإلجماع‪.‬‬
‫وهذان املثاالن يبينان أن اإلمام النبهاني رحمه هللا يرى أن التواتر املعنوي قد يحصل باالستقراء‪ ،‬كاستقراء‬
‫فصل الرجال عن النساء في الحياة الخاصة من تاريخ اإلسالم‪ ،‬ولعلنا نصف ذلك بأنه نقل للحكم بتواتر‬
‫ُن‬
‫معنوي قل لنا "عملًي ا" من خالل عمل األمة عليه في العصور األولى‪.‬‬

You might also like