Professional Documents
Culture Documents
البلاغة والأسلوبية
البلاغة والأسلوبية
األسلوبية منهج نقدي تطورت بتطور علم اللغة ،وتقوم بدراسة التحليل اللغوي وهي من الدراسات
الحديثة اآلخذة في التطور .وعلى خالف زعم بعض البالغيين املحدثين الذين يعدون األسلوبية نفس البالغة
ً
الجديدة أو فرعا من فروع البالغة القديمة ،البد من القول إن األسلوبية تختلف عن البالغة في غالبية مناهجها
وإن كانت ترتبط بها في بعض املواضيع ،وفي بعض قضايا التحليل اللغوي؛ لكن فاعليتهما تختلف في التحليل األدبي
ً
أيضا ،واألسلوبية أوسع مدى من البالغة .اهتم كثير من الباحثين املحدثين بدراسة التحليل البالغي واألسلوبي
والقياس بينهما بالتطبيق ،يستنتج من دراساتهم التطبيقية بين األسلوبية والبالغة أن البالغة تقوم بالتحليل األدبي
ً ً
بعلومها الثالثة :املعاني ،والبيان ،والبديع ،بينما األسلوبية تدرس أثرا أدبيا في ثالثة مستويات :املستوى الصوتي،
ً
واملستوى الداللي ،واملستوى التركيبي ،وهذا أكثر شموال من البالغة؛ إذ تدخل في دراسة األسلوبية قضايا نحوية
ولغوية.
وفي بحثنا هذا سنحاول اإلجابة عن اإلشكالية التالية :ما عالقة األسلوبية بالبالغة ؟ وما تاريخ كل منهما؟
1
املبحث األول :البالغة
اهتم العرب القدامي منذ القدم بعلم البالغة الذي يعد من أبرز وأشرف العلوم عندهم؛ ألنها األدوات املهمة لفهم
ً ً
القرآن الكريم وإدراك إعجازه ،وهذا بدوره دفع الباحثين إلى فهمها ودرسها حتى أصبحت فنا مستقال ذات قواعد
ً ً
وأصول( .فإن البالغة التي نرى بين أيدينا اآلن علما مستقال مميزا عن العلوم األخرى لم توجد دفعة واحدة ولم
تكن ثمرة لجهد عالم معين من العلماء أو فترة من الزمان ،ولكن هذا العلم كان ثمرة لجهود كثير من العلماء على
ً
العصور ،تعددت مناهجهم واختلفت ثقافتهم وشاركوا جميعا في بناء هذا الصرح البالغي الكبير) .وإذا تتبعنا
الدراسات األولى لنشأه هذا العلم وصلنا إلى العصر الجاهلي الذي كان األدباء والشعراء فيه يقفون عند اختيار
ً
األلفاظ واملعاني والصور ،وكانوا يسوقون أحيانا مالحظات الريب في أنها أصل املالحظات البيانية في بالغتنا
العربية؛ ثم في العصر اإلسالمي أخذت تنمو العناية بالكالم بفضل ما نهج القرآن ورسوله الكريم من طرق
الفصاحة والبالغة ،وإذا تحولنا إلى العصر األموي وجدنا الخطابة ازدهرت ازدهارا إثر تحضر العرب ونمو
عقولهم ،فشاعت مجادالت الفرق من الخوارج والشيعة والزبيرية وغيرها ،فكان من الطبيعي أن ينمو النظر في
- 1باطاهر ،بن عيسى ،البالغة العربية ،دار الكتاب الجديد املتحدة ،بيروت ،2008 ،ص .13
- 2املرجع نفسه ،ص .14
2
ً ً
بالغة الكالم نثرا وشعرا؛ إذ لسوقي املربد والكناسة دورهما في تطور البالغة ،أما العصر العباسي ففيه اتسعت
املالحظات البيانية ألسباب مختلفة ،ومنها:
. 1تطور النثر والشعر مع تطور الحياة العقلية والحضارية؛ ألن كثيرين من املوالي والفرس أتقنوا العربية ونهضوا
بالنثر والشعر نهضة واسعة.
.2نشوء طائفتين من املعلمين عنيت إحداهما باللغة والشعر واألخرى باملناظرة والخطابة.
.3اتساع الترجمة.
الينكر دور الكتاب من أمثال ابن املقفع في تطور البالغة الذين كانوا يتكسبون من العمل في ديوان الكتابة ،كما
كانت وسيلة لتسلم أرفع املناصب ،وال يمكن إنكار املتكلمين واللغويين في تسجيل مالحظات مختلفة على فصاحة
الكالم وبالغته ،فنرى الجاحظ يبسط مباحث البالغة الخاصة في كتابه "البيان والتبيين" كما نرى ابن املعتز يجتهد
في هذا املجال ،ثم نری عبد القاهر يضع نظرية النظم في كتابيه "دالئل اإلعجاز" و"أسرار البالغة" ويساعد على
ازدهار الدراسات البالغية محتال مكانة كبيرة في تاريخ البالغة ،وكذلك جارهللا الزمخشري في كتابه "الكشاف"
الذي سعى إلى تفسير اإلعجاز البالغي للقرآن الكريم مطبقة آراء الجرجاني في البالغة ومضيفا إليها شيئا من
إبداعه؛ لكن البالغة بدأ يسري فيها الجمود منذ القرن الرابع الهجري إثر جمود األدب .ومن املحاوالت البالغية في
هذا العصر يمكننا اإلشارة إلى "خاية اإليجاز" للفخر الرازي ،و"املثل السائر" البن األثير ،و"التبيان في علم البيان"
للزملكابي ،وتعد هذه املحاوالت دراسات جانبية وتلخيصات مبسطة؛ إذ لم يقتف أصحابها أثر عبد القاهر
1
والزمخشري.
أوال :لغة
ً َ
األسلوبية مصدر صناعي من األسلوب .وجذر هذه الكلمة الثالثي هوَ :سل َب ،وحتما ال يعنيني في هذا البحث
الخوض في املعاني ،التي تندرج تحته ،بقدر ما يعنيني منها ما هو متصل بمفهوم األسلوبية املعاصر ،في االستخدام
النقدي الحديث .وال بأس من اإلشارة إلى املعنى األول ،الذي يوحي به الجذر في لغة العرب ،ومفاده :انتزاع الشيء
ً
وأخذه واالستيالء عليه .وفيه أيضا معنى ما يكون على اإلنسان من اللباس .وتأتي كلمة أسلوب بمعنى السطر من
الفن" ،يقال :أخذ فالن في أساليب من القول ،أي :أفانينالنخيل " ،وكل طريق ممتد فهو أسلوب".واألسلوب هو ّ
منه"
- 1الحجازي ،محمود ،مدخل إلى علم اللغة ،دار القباء الحديثة ،القاهرة ،2007 ،ص.21
3
ً
قديما ،معنى ّ
الفن ،أو ما يكون ومما سبق يظهر كيف تحمل كلمة أسلوب في ذات استعمالها عند العرب،
ً ً
1
بسمات تكون أدعى للقبول ،وأشد تأثيرا في السامع.
ٍ متعلقا باللغة ،من حيث التفنن في إظهارها
وال عجب في ذلك ،إذ ُعرف العرب بفصاحتهم وبالغتهم وحرصهم على انتقاء األلفاظ واملعاني في كل ما
ً ً
يصدر عنهم ،ولعل ظاهرة عبيد الشعر ،تعد دليال على ذلك .واألكبر منه هو نزول القرآن الكريم متحديا إياهم بأن
يأتوا بمثله ،فجاءهم هللا تعالى بمعجزة تناسب املقام الذي كانوا عليه من حيث اللغة الفصيحة ،والبالغة املليحة.
ثانيا :إصطالحا
َ ً
يقدم كثير من العرب الذين كتبوا في األسلوبية تعريفهم لها مرتبطا بالنظر إليها من خالل الزاوية الغربية .إذ ُينظر
إلى األسلوبية على أنها علم مستحدث ارتبطت نشأته الحقيقية بالدراسات اللسانية اللغوية ،وهي الدراسات
اللغوية اللسانية التي ظهرت بوادرها في مطالع القرن التاسع عشر .يقول إبراهيم عبد الجواد ":والدافع الحقيقي
لنشأة األسلوبية يكمن في التطور الذي لحق الدراسات اللغوية ،وتكاد الدراست العربية تجمع على أن نشأة
ً ً
األسلوبية ترتبط ارتباطا وثيقا بهذا التطور ،وتعده أساس الدراسات األسلوبية .وإذا آمنا بأن األسلوبية جاءت
وليد التطور الذي لحق العلوم الثالثة :النقد والبالغة واللغة ،فإننا نؤكد أن نشأة األسلوبية لغوية ،وال سيما
التطور في مجال الدراسات األدبية" .ويرى أحمد درويش أن كلمة (أسلوبية) قد وصلت إلى ً
معنى محدد في أوائل
القرن العشرين ،وهو تحديد مرتبط بشكل وثيق بأبحاث علم اللغة.
حاول الباحثون في العصر الحديث تحديد البالغة وربطها بالدراسات األسلوبية الحديثة ،وفي نشأة هذا العلم
أقوال متعددة :فبعض الباحثين يرجع نشأته إلى سنة 1968م وبعضهم اآلخر يعتقد بأن نشأته كانت في سنة
1886م ،وآخرون ذهبوا إلى أن األسلوبية أسسها شالرز بالي سنة 1865م .ويتفق جمهور الباحثين على أن نشأتها
كانت مع نشأة علم اللغة كما أنها ترتبط وتصل قدمها إلى :علم البالغة وإن كانت البالغة أقدم زمنا منها .وهكذا
نستطيع أن نقول :كانت األسلوبية وليدة البالغة القديمة وعلم اللغة وليست علما حديث النشأة .البالغة القديمة
كانت فن القول إلقناع الناس وكانت ملكة تؤثر في عقول الناس وقلوبهم وانحصرت في ثالثة علوم :املعاني،
والبيان ،والبديع ،ولكن لم تتجاوز الحملة إلى النص إال قليال ،ولكن البالغة الحديثه تعدت فن القول واجتهدت في
وضع القواعد وترتيبها وتحليلها في املستوى األعلى وأصبحت فنا مستقال .هكذا نرى أن معيار تشخيص األحكام
النقدية في القديم كان طبع الناقد وذوقه ،ولكن املعيار اليوم هو األحكام والقواعد التي انبعثت عن عقلية
اإلنسان ،فقامت األسلوبية على الفكرة والعاطفة والخيال والبالغة ،وتتناول النص عبر هذه املعايير وال تنفك عن
2
هذا .فاألسلوبية الحديثة تقوم بتحليل النص عبر ثالثة عناصر ،هي:
ً
.1العنصر اللغوي :ويعالج نصوصا قامت اللغة بوضع رموزها.
- 1أبو العدوس ،يوسف ،األسلوبية النظرية والتطبيق ،ط ،۲داراملسيرة ،عمان ،2008 ،ص.67
- 2إسماعيلي ،علوي حافظ ،اللسانيات في الثقافة العربية املعاصرة ،ط ،1دار الكتاب الجديد املتحدة ،ليبيا ،2009 :ص81
4
. 2العنصر النفعي :ويؤدي إلى أن ندخل في حسابنا مقوالت غير لغوية مثل :املؤلف ،النقاد والقارئ ،واملوقف
التاريخي ،وهدف الرسالة ،وغيرها" .
. 3العنصر الجمالي األدبي :وتكشف عن تأثير النص في القارئ والتفسير والتقويم األدبي له .بعبارة أخرى العنصر
الجمالي هو مزايا الكالم تظهر في نظمه ،وخصائص في سياق لفظه وبدائعه ،حيث تقع كل كلمة مكانها التنبو بها
مكانها ،واليرى غيرها أصلح هناك أو أشبه حتى يبلغ القول غايته .على أساس هذا التعريف تبرز وجوه الخالف
1
والتشابه بين البالغة واألسلوبية في األمور اآلتية:
أ -العنصر اللغوي كما يصرح به اسمه يتجاوز بيئة األدب إلى اللغة ،مع أن البالغة ال تخرج األدب.
ب -في العنصر الجمالي األدبي يهتم كالهما باألثر الذي يتركه النص في املتلقي ،لكن األسلوبية في التحليل األدبي
تهتم بالنص والسياق الحاكم عليه ،وتنظر إلى األثر نظرة شاملة على خالف العلماء البالغيين الذين يهتمون
بدارسة جملة أوجملتين ،لذا يعتقد بعض أن البالغة ال تقدر على البحث عن البنية املشتركة بين الصور املختلفة.
ج -والعنصر النفعي يشير إلى أن األسلوبية تعني بالكاتب أو املتكلم عناية بالغة ،فضال عن هذا تهتم بحالته
ً ً ً
النفسية ومكانته اإلجتماعية اهتماما بالغا ،خالفا للبالغة التي تعني باملخاطب ،وجل اهتمامها التأثير في املخاطب
دون االهتمام باملتكلم ،كما نلحظ في قوله تعالى« :فرجع موسى إلى قومه غضبن أسفا" قال يقوم ألم يعدكم ربكم
وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن تحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى .
في التحليل ,البالغي :ليس غرض املتكلم (موسى) االستفهام بل يقصد أن يؤثر في املخاطب (قومه) أي يالحظ
ً
مخاطبه وأحواله (عصيانهم ملوسى) .ثم استخدم أسلوبا من أساليب علم املعاني ليؤثر في املخاطب ويهز مشاعره،
وهكذا استخدم تركيب الهمزة والنفي؛ إذ إن هذا التركيب يدل على اإلنكار ،ونفي النفي إيجاب .أما األسلوبية
فتهتم بالبنية السطحية والعميقة لهذا السؤال ،أي يالحظ املتكلم وأحواله النفسية واالجتماعية ويستنتج بأن
(عليه السالم) كان نبيهم ،ولم يسألهم هذا السؤال؛ ألنه كان جاهال بهذا األمر.
وهكذا تتناول األسلوبية البعد الخارجي لهذا السؤال ثم البعد الداخلي عبر املتكلم .ففي اآلية املذكورة على سبيل
املثال ،تبدأ األسلوبية تحليلها باملستوى التركيبي فتحلل مباحثها الصرفية والنحوية وتدخل في علم املعاني ،ثم
تدرس املستوى الصوتي فيها فتتناول متغيراته اإليقاعية ،والتوازي والتكرار والتماثل الصوتي للحروف والسجع
والجناس ،ثم تدخل في املستوى الداللي وتحلل النص في ضوء معطيات علم البيان ،وذلك :في تحليل االستعارة
2
واملجاز والتشبيه وغيرها ،فضال عن تحليل االنزياح في املصاحبات اللفظية.
إذن ال تقوم البالغة بالجمع بين علومها الثالثة ،وال تربط بين السجع في (وعدا وحسنا) واالستفهام املجازي في علم
ً
املعاني؛ أما األسلوبية فتربط بين ثالثة مستويات وتحكم على سياق هذه اآلية بوصفها نوعا من التهديد (يهدد
موسى قومه).
5
ً ً
أوال -علم املعاني :وهو أصول وقواعد تعرف بها أحوال الكالم التي يكون بما مطابقا ملقتضى الحال ،بعباره أخرى
يحترز بعلم املعاني .الخطأ عن في تأدية املعنى املراد ويميز الفصيح من غيره ،لكن األسلوبية فضال عن هذا النوع
من التحليل تهتم بتعدد األساليب املستخدمة مثل األمر والنهي واالستفهام وغيرها ومواضع خروج الكالم عن
مقتضى الظاهر وتفسيرها.
ثانيا -علم البيان : ,يقوم بإيراد املعنى الواحد بطرق مختلفة بزيادة ونقصان مهتمة باللفظ ۱،لكن األسلوبية ال
تكتفي باللفظ وظاهر النص ،بل تحلق في أجواء البنية العميقة للنص أكثر من علم البيان.
ثالثا -علم البديع :وهو علم تعرف به وجوه تحسين الكالم واملزايا التي تزيد الكالم حسنا وطالوة ،وتكسوه بماء
ورونقا بعد رعاية املطابقة ووضوح الداللة .ويعد التحسين عملية فنية تتقابل مع التطبيق على مقتضى الظاهر
ووضوح الداللة وهو تقابل يجعل من التحسين شيئا هامشية .لكن األسلوبية تجتهد في تالؤم اللفظ مع املعني،
فضال عن تحسين الكالم وتزينه ،والدراسة األسلوبية تتمثل في أمرين :األول تطوير مفهوم نظرية اللغة وعالقتها
بالواقع الحضاري واالجتماعي؛ ألن ثقافة الناس تترك أثرا متعمقة في لغتهم ،وكلما أتقن أهل مجتمع التكلم عن
نواياهم ومتطلباتهم ،ارتقت حياتهم االجتماعية ،وإذا تحدث أحد خالف عرف الجميع ،قيل له :خرجت عن كالم
الناس؛ فاألسلوبية تقدم جماليات الكالم املنبعثة من تالئم اللفظ واملعنى الذي يؤدي إلى تأدية الداللة املنشودة في
محاولة لترسيخها في أذهان الناس؛ ليستخدموها في حياتهم مسهمين في رقي مجتمعهم ،والثاني االعتماد على العلوم
1
املختلفة واإلملام باألثر األدبي مطابقة ملقتضى الحال .
أ .املستوى الصوتي (اإليقاعي) :يهتم في النص بمتغيراته اإليقاعية ،والتوازي والتكرار ،والتماثل الصوتي
للحروف ،والسجع ،والجناس ،والوقف ،والوزن ،والنبر ،واملقطع ،والتنغيم ،والقافية.
ب .املستوى التركيبي :في هذه الدراسة يمكن دراسة الجملة والفقرة والنص وما يتبع ذلك مثل االهتمام بطول
الجملة وقصرها ،البنية العميقة والسطحية ،وكل ما يرتبط بعلم املعاني وعلمي :النحو والصرف.
ج .املستوى الداللي :وفي هذا املستوى يمكن دراسة الكلمات املفاتيح ،واالختيار ،املصاحبات اللغوية ،والصيغ
االشتقاقية ،وما يرتبط بعلم البيان.
على أساس هذه التقسيمات نرى جذور األسلوبية في البالغة؛ ألن األسلوبية تضع علوم البالغة الثالثة تحت مظلتها
وهكذا يظهرأنها ليست حديثة النشأة.
هذه املقالة تبرز مواضع العالقة بين الدراسة البالغية واألسلوبية عن طريق التحليل األسلوبي والبالغي للجمل
االستفهاميه في سورة طه وتكتفي في املستوى البالغي بدراسة علم املعاني وفي الدراسة األسلوبية بتحليل املستوى
التركيبي مهتمة بالبنية العميقة والسطحية لالستفهام.
- 1باطاهر ،بن عيسى ،البالغة العربية ،دار الكتاب الجديد املتحدة ،بيروت ،2008 ،ص.112
6
ً ً ً
أسلوب االستفهام أسلوب لغوي ويستخدم لطلب الفهم بشيء اسما أوحقيقة أو صفة أو عددا لم يكن معلوما من
قبل ،فاالستفهام( :من التراكيب التي تحمل في ذاتها إمكانيات االتصال من املرسل واملتلقي ملا ينطوي عليه من
مضمون وجداني ونفسي وهو من الوسائل التأثيرية التي تفعل فعلها في املتلقي) .وهو أحد أساليب األدب اإلنشائي؛
والجملة اإلنشائية هي كل كالم ال يحتمل الصدق والكذب ".والكالم اإلنشائي مرتبط بتصور املتكلم ومشاعره ،أي
يقوم على أساس الطلب الذي يطلبه املتكلم من املخاطب ويخرج به عن أغراضه الحقيقية إلى أغراضه املجازية.
استخدم هللا تعالى هذا األسلوب في سورة طه بكال حالتيه الحقيقية واملجازية ليحتفظ بصلته مع اآلخرين بهذا
األسلوب ويجعلهم مشاركين في بيان مراده؛ وبخاصة أن هذه السورة يهيمن عليها عنصر قصصي ،والحوار من
عناصر النصوص القصصية ،وهذه السورة تحفل بكثير من هذه الحوارات التي ال تخلو من االستفهامات .قال
تعالى ( :وهل أتنك حديث موسى .
ً
أوال -الدراسة البالغية :هذه الجملة إنشائية واستفهامية ومجازية؛ ألنها صادرة عن هللا تعالى واملراد منها التشويق
1
وإثارة الذهن وتوجيه نحو املستفهم عنه.
ً
ثانيا -الدراسة األسلوبية :ونفسرها في بعدين:
.1البعد الخارجي (صورة الشيء) أو البنية السطحية ويحلل خالل سياق النص.
البعد الخارجي لهذه اآلية يقول :الجملة إنشائية استفهامية لطلب التصديق عن وقوع النسبة بين طرفي اإلسناد
أو عدم وقوعه (إتيان حديث الرسول صلى هللا عليه وسلم أو عدم إتيانه) هذا األسلوب يستخدم في املواضع التي
ً
لم يكن املتكلم عارفا بهذا املوضوع ،ويسأل الداللة الكلية ،وهذا بالنسبة إلى هللا تعالى أمر محال؛ إذ ال شيء مخفي
عنه في العالم.
ً
ثالثا -البعد الداخلي لهذه اآلية هو أسلوب األمر :انظر قصة موسى البعد الداخلي لهذه اآلية يشير إلى مجازية
هذا االستفهام ،أي ما كان قصد هللا تعالى طلب فهم الجواب ،بل أراد أن ينبه رسوله محمد صلى هللا عليه وآله
وسلم إلى قصة .موسى (عليه السالم).
هذا األسلوب من خصائص القصص القرآنية حتى يتشوق املخاطب إلى أن يستمع إلى بقية املشاهد( :السطح
والعمق أحدهما لفيلمور ،يؤكد فيه على الداللة وبالتالي الفاعلية واألداتية واآلخر لتشومسكي ويؤكد فيه على
التركيب وبالتالي التحويالت فيه) .تظهر الوظائف الثالث :االنفعالية (املتكلم) والطلبية (املخاطب الخاص أو العام)
واملرجعية
(السياق) في املستوى الصياغي األصلي لبنية اإلنشاء ،واالستفهام ال يستثنى من ذلك .عملية التوليد الداللي في
االستفهام تمر بثالث مراحل حتى تتجاوز داللته األصلية إلى دالالت جديدة.
- 1عودة ،ميس محمد ،تأصيل األسلوبية في املوروث النقدي و البالغي ،دار الجليس ،عمان ،2010 ،ص.75
7
-التنبيه ,:هو إيقاظ املخاطب وإثارة ذهنه نحو ما فعل هللا تعالى بالنسبة إلى نبينا محمد صلى هللا عليه وآله وسلم
حين أراد أن يبدأ بالحوار معه ،فبهذه الجملة االستفهامية إلثارة فكره وحسه للتوجه نحو قصة موسى (عليه
السالم) ،فلو استخدم القرآن الكريم أسلوب األمر هنا ،ال يتحقق هدف زيادة االرتباط بين املتكلم واملخاطب ولم
يفد هذا التنبيه ،فاالستفهام هنا يكون أبلغ من األمر.
-التفاعل :هو تعامل القارئ مع النص وسياقه؛ فاملخاطب هنا الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وفي هذه املرحلة
يحصل ذهن الرسول صلى هللا عليه وسلم على البعد الخارجي لهذا السؤال ،فبعد أن خاطبه هللا تعالى يلتفت إلى
سياق النص أو الكالم ويتعامل معه إلدراكه .
-اإلنتاج :وفي هذه املرحلة يحصل ذهن الرسول صلى هللا عليه وسلم على البعد الداخلي لالستفهام ويتجاوز البنية
ً
السطحية إلى البنية العميقة مستنتجا أن هللا تعالى ملم بجواب هذا السؤال وقصده شيء آخر .قال تعالى« :وما تلك
بيمينك ياموسى .
ً
أوال -الدراسة البالغية تقول :هذه اآلية جملة إنشائية وصدرت بأداة االستفهام "ما" ،هكذا تسأل عن حقيقة
ً
وماهية الشيء ،ولكنها صادرة عن هللا تعالى واالستفهام هنا ليس حقيقيا بل مجازي والغرض منه التقرير ،أي
تقرير موسى (عليه السالم) بأن الذي يمسكه بيده اليمنى قطعة مستطيلة من الخشب ال حياة فيها ،وليستحضر
1
هذا في وجدانه ،ويقر به حتى عندما حدثت املعجزة اإللهية.
ً
ثانيا -األسلوبية تقوم بتحليل ,هذه اآلية على مستوى البعدين اآلتيين:
البعد الخارجي أو البنية السطحية :وهو االستفهام والسؤال عن الداللة الجزئية ويطلب املتكلم تحصيل صورة
جزء من أجزاء الجملة وهو الشيء الذي كان بيد موسى (عليه السالم) اليمنى ،وفي هذه اآلية حوار بين هللا تعالى
وموسى (عليه السالم) ،واملتكلم هو هللا تعالى وهو عارف بما في يد موسى وهي العصا.
البعد الداخلي أو البنية العميقة :وهو جملة خبرية (هذا الذي في يدك اليمنى عصا خشبية ولكننا قادرين على
تحويلها إلى حية).
فالبنية العميقه لهذه اآلية الخبر ال اإلنشاء ،فاهلل تعالى عالم بما في يد موسى (عليه السالم) ،ولكنه يريد من موسى
أن يلقي العصا؛ حتى يظهر قدرته وإعجازه ألخذ االعتراف منه حتى يقر بأن قدرة هللا تعالى التقارن بقدرة فرعون.
ً
فاالستفهام هنا أقصر طريق إلى التعبير عن املقصود بالنسبة إلى أسلوب الخبر ،وأبلغ طريقا في هز مشاعر
املخاطب.
ً
عملية التوليد الداللي في هذه اآلية أيضا مرت بمراحلها الثالثة :هللا تعالى ينبه باالستفهام وهذا أبلغ أسلوب للتنبيه،
ثم في املرحلة الثانية يتعامل موسى مع السياق في بنيته السطحية ،وفي املرحلة الثالثة تحضر في ذهن موسى
الدالالت املتولدة من االستفهام وتنكشف له أغراض االستفهام .قال تعالى« :قال فمن ربكما يموسى –
8
ً ً
أوال -الدراسة البالغية :في هذه اآلية يخاطب فرعون موسى (عليه السالم) وأخاه ،وليس االستفهام هنا حقيقيا
1
بل مجازي بداللة اإلنكار والسخرية أي االنكار والتهكم".
ً
ثانيا -الدراسات األسلوبية :تحلل هذه اآلية في بعديها :الخارجي وهو انشائية االستفهام ،ويسأل املتكلم .عن
الداللية الجزئية.
وبعدها الداخلي :الرب لكما وأنتما تكذبان؛ والجملة الخبرية املنفية هذه ،تدل على أن املتكلم (فرعون) ال يسأل
عن حقيقة هللا سبحانه وتعالى ،بل يريد إنكار موسى وهارون (عليهما السالم) وإبطال قولهما ثم االستهزاء بهما .في
هذه اآلية تبرز هذه العملية التوليدية الداللية على مراحلها املتتابعة :التنبيه حين يسأل فرعون موسى ويطلب
التفاته إليه ،ثم تعامل موسى مع سياق كالمه حين لم تحصل الصورة الداللية املجازية لهذا االستفهام في ذهنه،
وحين تصل إلى مرحلة اإلنتاج ،يدرك مقصود فرعون من سؤاله ،وهذا بين من االستجابات التي ترد إلى فرعون في
وصف ربه وبيان قدرته .قال تعالى« :قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فال قطعن
2
أيديكم وأرجلكم من خلف واألصلبتكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى.
بعد أن سأل فرعون موسى (عليه السالم) حين أتى بمعجزته (تحويل العصا الى الحية ،وافتراس حيات السحرة،
ً
وتصديق السحرة بموسى) خاطب فرعون السحرة بهذا السؤال .أوال :الدراسة البالغية :تدرس االستفهام في هذه
ً
اآلية ،وتعده استفهاما مجازيا والغرض منه التهديد والوعيد.
ً
ثانيا :الدراسة األسلوبية تقوم بتحليلها في بعديها :
البعد الخارجي أو البنية السطحية ,:الجملة إنشائية واستفهامية بالهمزة ويسأل الداللة الكلية وعن حصول
النسبة أو التصديق عن اإليمان بموسى أو عدم اإليمان به.
البعد الداخلي وهو :بسبب إيمانكم بموسى قبل أن آذن لكم ،أعذبكم وأقتلكم لم يكن قصد فرعون االستفهام
حقيقة بل يريد أن يهددهم ويخوفهم على عملهم ،وإن كان يخاطبهم بجملة خبرية لم يحصل منها هذا اإلنذار
والتخويف وشدة غضبه من عصيانهم كما حصل باالستفهام.
ً
عملية التوليد الداللي تمر أيضا في هذه بمراحلها الثالث ،وهي :تنبيه السحرة لسؤال فرعون وتوجيه التفاتهم إليه
ثم ربطهم مع :سياق الكالم ،واستنتاج من غرض فرعون ،واستخراج غرض االستفهام من كالمه .
وهكذا نلحظ ما وصلت إليه األسلوبية عبر األزمنة املتتالية ،حيث لم تكن غير مألوفة لدى العرب القدامى ،وإن
تشعبت منها فروع أخرى وأطلق عليها مصطلحات جديدة .كما رأينا أن علم املعاني جاء تحت لواء املستوى
3
التركيبي ،والبيان تحت املستوى الداللي ،واملوسيقى في البديع (السجع والجناس) تحت املستوى الصوتي.
9
الخاتمة,:
تستنتج هذه الدراسة بعد ان تناولت املوقف من األسلوبية بوصفها علما لغويا حديثا ما يأتي:
أن األسلوبية وليدة بالغة القديم وعلم اللغة ،وهي ليست حديثة النشأة ،وال من بنات أفكار الغرب .1
وأوروبا ،وإن كانت تطورت بتطور علم اللغة الحديث أو لسانيات النص.
ً
أن علم البالغة قديما كان ضيق املجال وبقي منحصرا في علومه الثالثة (املعاني ،والبيان ،والبديع) ،لكن .2
األسلوبية اتسع مداها وانضوت هذه العلوم تحت مظلتها في التحليالت األدبية واللغوية ،وإن كان علم
البالغة من مقومات األسلوبية ويرتبط بها بصالت وثيقة ،لكنه يختلف عنها في مواضيع كثيرة ال يمكن
جمعهما في علم واحد ،ولذلك وجد النقاد في األسلوبية ضالتهم أكثر من البالغة.
10
الحجازي ،محمود ،مدخل إلى علم اللغة( ،القاهرة :دار القباء الحديثة۲۰۰۷ ،م) ،ص۰۲۱ .1
إسماعيلي ،علوي حافظ ،اللسانيات في الثقافة العربية املعاصرة ،ط( ،1ليبيا :دار الكتاب الجديد .2
املتحدة۲۰۰۹ ،م) ،ص۰۷۱
أبو العدوس ،يوسف ،األسلوبية النظرية والتطبيق ،ط ( ،۲عمان :داراملسيرة۲۰۰۷ ،م) ،ص.67 .3
باطاهر ،بن عيسى ،البالغة العربية( ،بيروت :دار الكتاب الجديد املتحدة۲۰۰۸ ،م) ،ص۱۳ .١٥ .4
عودة ،ميس محمد ،تأصيل األسلوبية في املوروث النقدي و البالغي( ،عمان :دار الجليس۲۰۱۰ ،م)، .5
11