You are on page 1of 11

‫مقدمة ‪:‬‬

‫األسلوبية منهج نقدي تطورت بتطور علم اللغة‪ ،‬وتقوم بدراسة التحليل اللغوي وهي من الدراسات‬
‫الحديثة اآلخذة في التطور‪ .‬وعلى خالف زعم بعض البالغيين املحدثين الذين يعدون األسلوبية نفس البالغة‬
‫ً‬
‫الجديدة أو فرعا من فروع البالغة القديمة‪ ،‬البد من القول إن األسلوبية تختلف عن البالغة في غالبية مناهجها‬
‫وإن كانت ترتبط بها في بعض املواضيع‪ ،‬وفي بعض قضايا التحليل اللغوي؛ لكن فاعليتهما تختلف في التحليل األدبي‬
‫ً‬
‫أيضا ‪ ،‬واألسلوبية أوسع مدى من البالغة‪ .‬اهتم كثير من الباحثين املحدثين بدراسة التحليل البالغي واألسلوبي‬
‫والقياس بينهما بالتطبيق‪ ،‬يستنتج من دراساتهم التطبيقية بين األسلوبية والبالغة أن البالغة تقوم بالتحليل األدبي‬
‫ً ً‬
‫بعلومها الثالثة‪ :‬املعاني‪ ،‬والبيان‪ ،‬والبديع‪ ،‬بينما األسلوبية تدرس أثرا أدبيا في ثالثة مستويات‪ :‬املستوى الصوتي‪،‬‬
‫ً‬
‫واملستوى الداللي‪ ،‬واملستوى التركيبي‪ ،‬وهذا أكثر شموال من البالغة؛ إذ تدخل في دراسة األسلوبية قضايا نحوية‬
‫ولغوية‪.‬‬

‫وفي بحثنا هذا سنحاول اإلجابة عن اإلشكالية التالية‪ :‬ما عالقة األسلوبية بالبالغة ؟ وما تاريخ كل منهما؟‬

‫ولإلجابة على اإلشكالية املطروحة نقترح الخطة التالية‬

‫املبحث األول‪ :‬البالغة‬

‫املطلب األول‪ :‬مفهوم البالغة‬

‫املطلب الثاني‪ :‬نشأة البالغة وتطورها‬

‫املبحث الثاني‪ :‬األسلوبية‬

‫املطلب األول‪ :‬مفهوم األسلوبية‬

‫املطلب الثاني‪ :‬نشأة األسلوبية وتطورها‬

‫‪1‬‬
‫املبحث األول‪ :‬البالغة‬

‫املطلب األول‪ :‬مفهوم البالغة‬


‫أوال‪ :‬لغة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َأ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ال تعالى‪﴿ :‬و ا َبلغ شده﴾ ْ‬ ‫َّ‬ ‫مَل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ليه‪ .‬ق َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هاء لى الشيء‪ُ ،‬يق ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ ُ‬ ‫الوص ُ‬‫ُ‬
‫أي‪:‬‬ ‫ال‪ :‬بلغ فالن مراده إذا انتهى ِإ ِ‬ ‫ِ‬ ‫واالنت ِإ‬ ‫ول‬ ‫البالغة لغة‬
‫ُ ََ ُ ‪1‬‬
‫وم ْبلغ الش ِيء‪ :‬منتهاه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ص َل ْلي َها‪َ ،‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ ُ‬
‫وصل‪ ،‬وبلغ الر ِاكب امل ِدينة‪ :‬إذا و ِإ‬
‫ً‬ ‫َ َ‬
‫البالغة‪ ,‬اصطالحا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الكالم‪َ  ‬‬ ‫َ َ ْ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫الح ِال‬ ‫مقتضى َ‬ ‫الف ِص ِيح َعلى‬ ‫أوهي‪ :‬سوق‪ِ  ‬‬ ‫الحال‪ِ .‬‬ ‫ِ‬ ‫الكالم‪ ‬الفصيح‪ ،‬ملقتضى‬ ‫البالغة‪ ,‬اصطالحا ِهي‪ :‬مطابقة‪ِ  ‬‬
‫َ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ات‪ ،‬وال تكون البالغة وصفا للكلمة‪.‬‬ ‫سب املق َام ِ‬ ‫ِبح ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫"مفردها ومرك ِبها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اظه‬‫صاحة ألف ِ‬ ‫ِ‬ ‫الخطاب َم ْع ف‬ ‫ِ‬
‫مطابقته ملا يقتضيه ُ‬
‫حال‬ ‫الم‪:‬‬ ‫بالغة الك ِ‬
‫ُ ُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أحوال املخاطبين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تناسب‬ ‫بصورة‬
‫ٍ‬ ‫املتكل ُم‬ ‫صوره‬ ‫الكالم البليغ‪ :‬هو الذي ي ِّ‬
‫صاحبها َع َلى َتأليف كالم بليغ‪ُ ،‬مطابق َ‬ ‫النفس َ‬ ‫املتكلم‪ :‬هي َم َلكة في َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫أي‬
‫فصاحته في ِّ‬
‫ِ‬ ‫ملقت َضى الحال‪َ ،‬مع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫در ِب َها‬ ‫يقت ُ‬ ‫بالغة‬
‫ُ‬ ‫ُ ً َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ٌ َ‬ ‫معنى َق َ‬
‫نافرات ِهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وع َرف ُس َنن تخاط ِبهم في ُم‬ ‫رب خبرا‪،‬‬ ‫َ‬
‫بأساليب الع ِ‬ ‫ِ‬ ‫لك غاية ل ْن َي ِص َل ِإ ْلي َها إال من أحاط‬ ‫صده‪ ،‬و ِت‬ ‫ً‬
‫قال‪.‬‬ ‫"ولكل مقام َم ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫وسها‬‫لكل حالة ُلب َ‬
‫ٍ‬ ‫بس ِّ‬ ‫وم ِد ِيحهم‪َ ،‬وهجائهم َوشكرهم‪ ،‬واعتذارهم‪ِ ،‬ل َيل َ‬ ‫فاخراتهم‪َ ،‬‬ ‫ُ َ‬
‫وم‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫مخصوصة دون أخرى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫صورة‬
‫ٍ‬ ‫باملقام" وهو األمر الحامل للمتكلم على أن يورد عبارته على‬ ‫ِ‬ ‫الخطاب‪" :‬ويسمى‬ ‫ِ‬ ‫حال‬
‫‪ -‬مقاما‪ :‬باعتبار حلول‪ ‬الكالم‪ ‬فيه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حاال ‪ :‬باعتبار حالة املخاطب أو املتكلم أو نحوهما‪.‬‬
‫وإلقاء‪ ‬الكالم‪ ‬على هذه الصورة التي اقتضاها الحال يسمى (مقتضى) فقولهم‪( :‬مقتضى الحال) أو (مقتضى املقام)‬
‫بمعنى الكيفية التي اقتضاها الحال أو املقام‪.‬‬
‫ً‬
‫‪2‬‬
‫مثال ‪ :‬يقال عند كون الفاعل نكرة‪ ،‬حين يتطلب املقام التنكير‪ :‬هذا‪ ‬الكالم‪ ‬مطابق ملقتضى الحال‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬نشأة البالغة وتطورها‬

‫اهتم العرب القدامي منذ القدم بعلم البالغة الذي يعد من أبرز وأشرف العلوم عندهم؛ ألنها األدوات املهمة لفهم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القرآن الكريم وإدراك إعجازه‪ ،‬وهذا بدوره دفع الباحثين إلى فهمها ودرسها حتى أصبحت فنا مستقال ذات قواعد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأصول‪( .‬فإن البالغة التي نرى بين أيدينا اآلن علما مستقال مميزا عن العلوم األخرى لم توجد دفعة واحدة ولم‬
‫تكن ثمرة لجهد عالم معين من العلماء أو فترة من الزمان‪ ،‬ولكن هذا العلم كان ثمرة لجهود كثير من العلماء على‬
‫ً‬
‫العصور‪ ،‬تعددت مناهجهم واختلفت ثقافتهم وشاركوا جميعا في بناء هذا الصرح البالغي الكبير)‪ .‬وإذا تتبعنا‬
‫الدراسات األولى لنشأه هذا العلم وصلنا إلى العصر الجاهلي الذي كان األدباء والشعراء فيه يقفون عند اختيار‬
‫ً‬
‫األلفاظ واملعاني والصور‪ ،‬وكانوا يسوقون أحيانا مالحظات الريب في أنها أصل املالحظات البيانية في بالغتنا‬
‫العربية؛ ثم في العصر اإلسالمي أخذت تنمو العناية بالكالم بفضل ما نهج القرآن ورسوله الكريم من طرق‬
‫الفصاحة والبالغة‪ ،‬وإذا تحولنا إلى العصر األموي وجدنا الخطابة ازدهرت ازدهارا إثر تحضر العرب ونمو‬
‫عقولهم‪ ،‬فشاعت مجادالت الفرق من الخوارج والشيعة والزبيرية وغيرها‪ ،‬فكان من الطبيعي أن ينمو النظر في‬

‫‪ - 1‬باطاهر‪ ،‬بن عيسى‪ ،‬البالغة العربية‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،2008 ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.14‬‬

‫‪2‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بالغة الكالم نثرا وشعرا؛ إذ لسوقي املربد والكناسة دورهما في تطور البالغة‪ ،‬أما العصر العباسي ففيه اتسعت‬
‫املالحظات البيانية ألسباب مختلفة‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫‪ . 1‬تطور النثر والشعر مع تطور الحياة العقلية والحضارية؛ ألن كثيرين من املوالي والفرس أتقنوا العربية ونهضوا‬
‫بالنثر والشعر نهضة واسعة‪.‬‬

‫‪ .2‬نشوء طائفتين من املعلمين عنيت إحداهما باللغة والشعر واألخرى باملناظرة والخطابة‪.‬‬

‫‪.3‬اتساع الترجمة‪.‬‬

‫الينكر دور الكتاب من أمثال ابن املقفع في تطور البالغة الذين كانوا يتكسبون من العمل في ديوان الكتابة‪ ،‬كما‬
‫كانت وسيلة لتسلم أرفع املناصب‪ ،‬وال يمكن إنكار املتكلمين واللغويين في تسجيل مالحظات مختلفة على فصاحة‬
‫الكالم وبالغته‪ ،‬فنرى الجاحظ يبسط مباحث البالغة الخاصة في كتابه "البيان والتبيين" كما نرى ابن املعتز يجتهد‬
‫في هذا املجال‪ ،‬ثم نری عبد القاهر يضع نظرية النظم في كتابيه "دالئل اإلعجاز" و"أسرار البالغة" ويساعد على‬
‫ازدهار الدراسات البالغية محتال مكانة كبيرة في تاريخ البالغة‪ ،‬وكذلك جارهللا الزمخشري في كتابه "الكشاف"‬
‫الذي سعى إلى تفسير اإلعجاز البالغي للقرآن الكريم مطبقة آراء الجرجاني في البالغة ومضيفا إليها شيئا من‬
‫إبداعه؛ لكن البالغة بدأ يسري فيها الجمود منذ القرن الرابع الهجري إثر جمود األدب‪ .‬ومن املحاوالت البالغية في‬
‫هذا العصر يمكننا اإلشارة إلى "خاية اإليجاز" للفخر الرازي‪ ،‬و"املثل السائر" البن األثير‪ ،‬و"التبيان في علم البيان"‬
‫للزملكابي‪ ،‬وتعد هذه املحاوالت دراسات جانبية وتلخيصات مبسطة؛ إذ لم يقتف أصحابها أثر عبد القاهر‬
‫‪1‬‬
‫والزمخشري‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬األسلوبية‬

‫املطلب األول‪ :‬مفهوم األسلوبية‬

‫أوال‪ :‬لغة‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫األسلوبية مصدر صناعي من األسلوب‪ .‬وجذر هذه الكلمة الثالثي هو‪َ :‬سل َب‪ ،‬وحتما ال يعنيني في هذا البحث‬
‫الخوض في املعاني‪ ،‬التي تندرج تحته‪ ،‬بقدر ما يعنيني منها ما هو متصل بمفهوم األسلوبية املعاصر‪ ،‬في االستخدام‬
‫النقدي الحديث‪ .‬وال بأس من اإلشارة إلى املعنى األول‪ ،‬الذي يوحي به الجذر في لغة العرب‪ ،‬ومفاده‪ :‬انتزاع الشيء‬
‫ً‬
‫وأخذه واالستيالء عليه‪ .‬وفيه أيضا معنى ما يكون على اإلنسان من اللباس‪ .‬وتأتي كلمة أسلوب بمعنى السطر من‬
‫الفن‪" ،‬يقال‪ :‬أخذ فالن في أساليب من القول‪ ،‬أي‪ :‬أفانين‬‫النخيل‪ " ،‬وكل طريق ممتد فهو أسلوب"‪.‬واألسلوب هو ّ‬
‫منه"‬

‫‪ - 1‬الحجازي‪ ،‬محمود‪ ،‬مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬دار القباء الحديثة‪ ،‬القاهرة‪ ،2007 ،‬ص‪.21‬‬

‫‪3‬‬
‫ً‬
‫قديما‪ ،‬معنى ّ‬
‫الفن‪ ،‬أو ما يكون‬ ‫ومما سبق يظهر كيف تحمل كلمة أسلوب في ذات استعمالها عند العرب‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪1‬‬
‫بسمات تكون أدعى للقبول‪ ،‬وأشد تأثيرا في السامع‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫متعلقا باللغة‪ ،‬من حيث التفنن في إظهارها‬

‫وال عجب في ذلك‪ ،‬إذ ُعرف العرب بفصاحتهم وبالغتهم وحرصهم على انتقاء األلفاظ واملعاني في كل ما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يصدر عنهم‪ ،‬ولعل ظاهرة عبيد الشعر‪ ،‬تعد دليال على ذلك‪ .‬واألكبر منه هو نزول القرآن الكريم متحديا إياهم بأن‬
‫يأتوا بمثله‪ ،‬فجاءهم هللا تعالى بمعجزة تناسب املقام الذي كانوا عليه من حيث اللغة الفصيحة‪ ،‬والبالغة املليحة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬إصطالحا‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫يقدم كثير من العرب الذين كتبوا في األسلوبية تعريفهم لها مرتبطا بالنظر إليها من خالل الزاوية الغربية‪ .‬إذ ُينظر‬
‫إلى األسلوبية على أنها علم مستحدث ارتبطت نشأته الحقيقية بالدراسات اللسانية اللغوية‪ ،‬وهي الدراسات‬
‫اللغوية اللسانية التي ظهرت بوادرها في مطالع القرن التاسع عشر‪ .‬يقول إبراهيم عبد الجواد‪ ":‬والدافع الحقيقي‬
‫لنشأة األسلوبية يكمن في التطور الذي لحق الدراسات اللغوية‪ ،‬وتكاد الدراست العربية تجمع على أن نشأة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫األسلوبية ترتبط ارتباطا وثيقا بهذا التطور‪ ،‬وتعده أساس الدراسات األسلوبية‪ .‬وإذا آمنا بأن األسلوبية جاءت‬
‫وليد التطور الذي لحق العلوم الثالثة‪ :‬النقد والبالغة واللغة‪ ،‬فإننا نؤكد أن نشأة األسلوبية لغوية‪ ،‬وال سيما‬
‫التطور في مجال الدراسات األدبية"‪ .‬ويرى أحمد درويش أن كلمة (أسلوبية) قد وصلت إلى ً‬
‫معنى محدد في أوائل‬
‫القرن العشرين‪ ،‬وهو تحديد مرتبط بشكل وثيق بأبحاث علم اللغة‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬نشأة األسلوبية وتطورها‬

‫حاول الباحثون في العصر الحديث تحديد البالغة وربطها بالدراسات األسلوبية الحديثة‪ ،‬وفي نشأة هذا العلم‬
‫أقوال متعددة‪ :‬فبعض الباحثين يرجع نشأته إلى سنة ‪1968‬م وبعضهم اآلخر يعتقد بأن نشأته كانت في سنة‬
‫‪1886‬م‪ ،‬وآخرون ذهبوا إلى أن األسلوبية أسسها شالرز بالي سنة ‪1865‬م‪ .‬ويتفق جمهور الباحثين على أن نشأتها‬
‫كانت مع نشأة علم اللغة كما أنها ترتبط وتصل قدمها إلى‪ :‬علم البالغة وإن كانت البالغة أقدم زمنا منها‪ .‬وهكذا‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬كانت األسلوبية وليدة البالغة القديمة وعلم اللغة وليست علما حديث النشأة‪ .‬البالغة القديمة‬
‫كانت فن القول إلقناع الناس وكانت ملكة تؤثر في عقول الناس وقلوبهم وانحصرت في ثالثة علوم‪ :‬املعاني‪،‬‬
‫والبيان‪ ،‬والبديع‪ ،‬ولكن لم تتجاوز الحملة إلى النص إال قليال‪ ،‬ولكن البالغة الحديثه تعدت فن القول واجتهدت في‬
‫وضع القواعد وترتيبها وتحليلها في املستوى األعلى وأصبحت فنا مستقال‪ .‬هكذا نرى أن معيار تشخيص األحكام‬
‫النقدية في القديم كان طبع الناقد وذوقه‪ ،‬ولكن املعيار اليوم هو األحكام والقواعد التي انبعثت عن عقلية‬
‫اإلنسان‪ ،‬فقامت األسلوبية على الفكرة والعاطفة والخيال والبالغة‪ ،‬وتتناول النص عبر هذه املعايير وال تنفك عن‬
‫‪2‬‬
‫هذا‪ .‬فاألسلوبية الحديثة تقوم بتحليل النص عبر ثالثة عناصر‪ ،‬هي‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ .1‬العنصر اللغوي‪ :‬ويعالج نصوصا قامت اللغة بوضع رموزها‪.‬‬

‫‪ - 1‬أبو العدوس‪ ،‬يوسف‪ ،‬األسلوبية النظرية والتطبيق‪ ،‬ط ‪ ،۲‬داراملسيرة‪ ،‬عمان‪ ،2008 ،‬ص‪.67‬‬
‫‪ - 2‬إسماعيلي‪ ،‬علوي حافظ‪ ،‬اللسانيات في الثقافة العربية املعاصرة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬ليبيا‪ ،2009 :‬ص‪81‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ . 2‬العنصر النفعي‪ :‬ويؤدي إلى أن ندخل في حسابنا مقوالت غير لغوية مثل‪ :‬املؤلف‪ ،‬النقاد والقارئ‪ ،‬واملوقف‬
‫التاريخي‪ ،‬وهدف الرسالة‪ ،‬وغيرها‪" .‬‬

‫‪ . 3‬العنصر الجمالي األدبي‪ :‬وتكشف عن تأثير النص في القارئ والتفسير والتقويم األدبي له‪ .‬بعبارة أخرى العنصر‬
‫الجمالي هو مزايا الكالم تظهر في نظمه‪ ،‬وخصائص في سياق لفظه وبدائعه‪ ،‬حيث تقع كل كلمة مكانها التنبو بها‬
‫مكانها‪ ،‬واليرى غيرها أصلح هناك أو أشبه حتى يبلغ القول غايته‪ .‬على أساس هذا التعريف تبرز وجوه الخالف‬
‫‪1‬‬
‫والتشابه بين البالغة واألسلوبية في األمور اآلتية‪:‬‬

‫أ‪ -‬العنصر اللغوي كما يصرح به اسمه يتجاوز بيئة األدب إلى اللغة‪ ،‬مع أن البالغة ال تخرج األدب‪.‬‬

‫ب ‪ -‬في العنصر الجمالي األدبي يهتم كالهما باألثر الذي يتركه النص في املتلقي‪ ،‬لكن األسلوبية في التحليل األدبي‬
‫تهتم بالنص والسياق الحاكم عليه‪ ،‬وتنظر إلى األثر نظرة شاملة على خالف العلماء البالغيين الذين يهتمون‬
‫بدارسة جملة أوجملتين‪ ،‬لذا يعتقد بعض أن البالغة ال تقدر على البحث عن البنية املشتركة بين الصور املختلفة‪.‬‬

‫ج ‪ -‬والعنصر النفعي يشير إلى أن األسلوبية تعني بالكاتب أو املتكلم عناية بالغة‪ ،‬فضال عن هذا تهتم بحالته‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫النفسية ومكانته اإلجتماعية اهتماما بالغا‪ ،‬خالفا للبالغة التي تعني باملخاطب‪ ،‬وجل اهتمامها التأثير في املخاطب‬
‫دون االهتمام باملتكلم‪ ،‬كما نلحظ في قوله تعالى‪« :‬فرجع موسى إلى قومه غضبن أسفا" قال يقوم ألم يعدكم ربكم‬
‫وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن تحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى ‪.‬‬

‫في التحليل‪ ,‬البالغي‪ :‬ليس غرض املتكلم (موسى) االستفهام بل يقصد أن يؤثر في املخاطب (قومه) أي يالحظ‬
‫ً‬
‫مخاطبه وأحواله (عصيانهم ملوسى)‪ .‬ثم استخدم أسلوبا من أساليب علم املعاني ليؤثر في املخاطب ويهز مشاعره‪،‬‬
‫وهكذا استخدم تركيب الهمزة والنفي؛ إذ إن هذا التركيب يدل على اإلنكار‪ ،‬ونفي النفي إيجاب‪ .‬أما األسلوبية‬
‫فتهتم بالبنية السطحية والعميقة لهذا السؤال‪ ،‬أي يالحظ املتكلم وأحواله النفسية واالجتماعية ويستنتج بأن‬
‫(عليه السالم) كان نبيهم‪ ،‬ولم يسألهم هذا السؤال؛ ألنه كان جاهال بهذا األمر‪.‬‬

‫وهكذا تتناول األسلوبية البعد الخارجي لهذا السؤال ثم البعد الداخلي عبر املتكلم‪ .‬ففي اآلية املذكورة على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬تبدأ األسلوبية تحليلها باملستوى التركيبي فتحلل مباحثها الصرفية والنحوية وتدخل في علم املعاني‪ ،‬ثم‬
‫تدرس املستوى الصوتي فيها فتتناول متغيراته اإليقاعية‪ ،‬والتوازي والتكرار والتماثل الصوتي للحروف والسجع‬
‫والجناس‪ ،‬ثم تدخل في املستوى الداللي وتحلل النص في ضوء معطيات علم البيان‪ ،‬وذلك‪ :‬في تحليل االستعارة‬
‫‪2‬‬
‫واملجاز والتشبيه وغيرها‪ ،‬فضال عن تحليل االنزياح في املصاحبات اللفظية‪.‬‬

‫إذن ال تقوم البالغة بالجمع بين علومها الثالثة‪ ،‬وال تربط بين السجع في (وعدا وحسنا) واالستفهام املجازي في علم‬
‫ً‬
‫املعاني؛ أما األسلوبية فتربط بين ثالثة مستويات وتحكم على سياق هذه اآلية بوصفها نوعا من التهديد (يهدد‬
‫موسى قومه)‪.‬‬

‫‪ - 1‬أبو العدوس‪ ،‬يوسف‪ ،‬األسلوبية النظرية والتطبيق‪ ،‬ص ‪.70‬‬


‫‪ - 2‬الحجازي‪ ،‬محمود‪ ،‬مدخل إلى علم اللغة‪ ،‬دار القباء الحديثة‪ ،‬القاهرة‪ ،2007 ،‬ص‪.98‬‬

‫‪5‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أوال‪ -‬علم املعاني‪ :‬وهو أصول وقواعد تعرف بها أحوال الكالم التي يكون بما مطابقا ملقتضى الحال‪ ،‬بعباره أخرى‬
‫يحترز بعلم املعاني ‪ .‬الخطأ عن في تأدية املعنى املراد ويميز الفصيح من غيره‪ ،‬لكن األسلوبية فضال عن هذا النوع‬
‫من التحليل تهتم بتعدد األساليب املستخدمة مثل األمر والنهي واالستفهام وغيرها ومواضع خروج الكالم عن‬
‫مقتضى الظاهر وتفسيرها‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬علم البيان‪ : ,‬يقوم بإيراد املعنى الواحد بطرق مختلفة بزيادة ونقصان مهتمة باللفظ‪ ۱،‬لكن األسلوبية ال‬
‫تكتفي باللفظ وظاهر النص‪ ،‬بل تحلق في أجواء البنية العميقة للنص أكثر من علم البيان‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬علم البديع‪ :‬وهو علم تعرف به وجوه تحسين الكالم واملزايا التي تزيد الكالم حسنا وطالوة‪ ،‬وتكسوه بماء‬
‫ورونقا بعد رعاية املطابقة ووضوح الداللة ‪ .‬ويعد التحسين عملية فنية تتقابل مع التطبيق على مقتضى الظاهر‬
‫ووضوح الداللة وهو تقابل يجعل من التحسين شيئا هامشية‪ .‬لكن األسلوبية تجتهد في تالؤم اللفظ مع املعني‪،‬‬
‫فضال عن تحسين الكالم وتزينه‪ ،‬والدراسة األسلوبية تتمثل في أمرين‪ :‬األول تطوير مفهوم نظرية اللغة وعالقتها‬
‫بالواقع الحضاري واالجتماعي؛ ألن ثقافة الناس تترك أثرا متعمقة في لغتهم‪ ،‬وكلما أتقن أهل مجتمع التكلم عن‬
‫نواياهم ومتطلباتهم‪ ،‬ارتقت حياتهم االجتماعية‪ ،‬وإذا تحدث أحد خالف عرف الجميع‪ ،‬قيل له‪ :‬خرجت عن كالم‬
‫الناس؛ فاألسلوبية تقدم جماليات الكالم املنبعثة من تالئم اللفظ واملعنى الذي يؤدي إلى تأدية الداللة املنشودة في‬
‫محاولة لترسيخها في أذهان الناس؛ ليستخدموها في حياتهم مسهمين في رقي مجتمعهم‪ ،‬والثاني االعتماد على العلوم‬
‫‪1‬‬
‫املختلفة واإلملام باألثر األدبي مطابقة ملقتضى الحال ‪.‬‬

‫واألسلوبية تقوم بالتحليل األدبي في ثالثة مستويات‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫أ‪ .‬املستوى الصوتي (اإليقاعي)‪ :‬يهتم في النص بمتغيراته اإليقاعية‪ ،‬والتوازي والتكرار‪ ،‬والتماثل الصوتي‬
‫للحروف‪ ،‬والسجع‪ ،‬والجناس‪ ،‬والوقف‪ ،‬والوزن‪ ،‬والنبر‪ ،‬واملقطع‪ ،‬والتنغيم‪ ،‬والقافية‪.‬‬

‫ب‪ .‬املستوى التركيبي‪ :‬في هذه الدراسة يمكن دراسة الجملة والفقرة والنص وما يتبع ذلك مثل االهتمام بطول‬
‫الجملة وقصرها‪ ،‬البنية العميقة والسطحية‪ ،‬وكل ما يرتبط بعلم املعاني وعلمي‪ :‬النحو والصرف‪.‬‬

‫ج‪ .‬املستوى الداللي‪ :‬وفي هذا املستوى يمكن دراسة الكلمات املفاتيح‪ ،‬واالختيار‪ ،‬املصاحبات اللغوية‪ ،‬والصيغ‬
‫االشتقاقية‪ ،‬وما يرتبط بعلم البيان‪.‬‬

‫على أساس هذه التقسيمات نرى جذور األسلوبية في البالغة؛ ألن األسلوبية تضع علوم البالغة الثالثة تحت مظلتها‬
‫وهكذا يظهرأنها ليست حديثة النشأة‪.‬‬

‫هذه املقالة تبرز مواضع العالقة بين الدراسة البالغية واألسلوبية عن طريق التحليل األسلوبي والبالغي للجمل‬
‫االستفهاميه في سورة طه وتكتفي في املستوى البالغي بدراسة علم املعاني وفي الدراسة األسلوبية بتحليل املستوى‬
‫التركيبي مهتمة بالبنية العميقة والسطحية لالستفهام‪.‬‬

‫‪ - 1‬باطاهر‪ ،‬بن عيسى‪ ،‬البالغة العربية‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،2008 ،‬ص‪.112‬‬

‫‪6‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أسلوب االستفهام أسلوب لغوي ويستخدم لطلب الفهم بشيء اسما أوحقيقة أو صفة أو عددا لم يكن معلوما من‬
‫قبل‪ ،‬فاالستفهام‪( :‬من التراكيب التي تحمل في ذاتها إمكانيات االتصال من املرسل واملتلقي ملا ينطوي عليه من‬
‫مضمون وجداني ونفسي وهو من الوسائل التأثيرية التي تفعل فعلها في املتلقي)‪ .‬وهو أحد أساليب األدب اإلنشائي؛‬
‫والجملة اإلنشائية هي كل كالم ال يحتمل الصدق والكذب‪ ".‬والكالم اإلنشائي مرتبط بتصور املتكلم ومشاعره‪ ،‬أي‬
‫يقوم على أساس الطلب الذي يطلبه املتكلم من املخاطب ويخرج به عن أغراضه الحقيقية إلى أغراضه املجازية‪.‬‬
‫استخدم هللا تعالى هذا األسلوب في سورة طه بكال حالتيه الحقيقية واملجازية ليحتفظ بصلته مع اآلخرين بهذا‬
‫األسلوب ويجعلهم مشاركين في بيان مراده؛ وبخاصة أن هذه السورة يهيمن عليها عنصر قصصي‪ ،‬والحوار من‬
‫عناصر النصوص القصصية‪ ،‬وهذه السورة تحفل بكثير من هذه الحوارات التي ال تخلو من االستفهامات‪ .‬قال‬
‫تعالى ‪( :‬وهل أتنك حديث موسى ‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ -‬الدراسة البالغية‪ :‬هذه الجملة إنشائية واستفهامية ومجازية؛ ألنها صادرة عن هللا تعالى واملراد منها التشويق‬
‫‪1‬‬
‫وإثارة الذهن وتوجيه نحو املستفهم عنه‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ -‬الدراسة األسلوبية‪ :‬ونفسرها في بعدين‪:‬‬

‫‪ .1‬البعد الخارجي (صورة الشيء) أو البنية السطحية ويحلل خالل سياق النص‪.‬‬

‫‪ . 2‬البعد الداخلي (الذهن) أو البنية العميقة وهو يشير إلى املتكلم‪.‬‬

‫البعد الخارجي لهذه اآلية يقول‪ :‬الجملة إنشائية استفهامية لطلب التصديق عن وقوع النسبة بين طرفي اإلسناد‬
‫أو عدم وقوعه (إتيان حديث الرسول صلى هللا عليه وسلم أو عدم إتيانه) هذا األسلوب يستخدم في املواضع التي‬
‫ً‬
‫لم يكن املتكلم عارفا بهذا املوضوع‪ ،‬ويسأل الداللة الكلية‪ ،‬وهذا بالنسبة إلى هللا تعالى أمر محال؛ إذ ال شيء مخفي‬
‫عنه في العالم‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ -‬البعد الداخلي لهذه اآلية هو أسلوب األمر‪ :‬انظر قصة موسى البعد الداخلي لهذه اآلية يشير إلى مجازية‬
‫هذا االستفهام‪ ،‬أي ما كان قصد هللا تعالى طلب فهم الجواب‪ ،‬بل أراد أن ينبه رسوله محمد صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم إلى قصة ‪ .‬موسى (عليه السالم)‪.‬‬

‫هذا األسلوب من خصائص القصص القرآنية حتى يتشوق املخاطب إلى أن يستمع إلى بقية املشاهد‪( :‬السطح‬
‫والعمق أحدهما لفيلمور‪ ،‬يؤكد فيه على الداللة وبالتالي الفاعلية واألداتية واآلخر لتشومسكي ويؤكد فيه على‬
‫التركيب وبالتالي التحويالت فيه)‪ .‬تظهر الوظائف الثالث‪ :‬االنفعالية (املتكلم) والطلبية (املخاطب الخاص أو العام)‬
‫واملرجعية‬

‫(السياق) في املستوى الصياغي األصلي لبنية اإلنشاء‪ ،‬واالستفهام ال يستثنى من ذلك‪ .‬عملية التوليد الداللي في‬
‫االستفهام تمر بثالث مراحل حتى تتجاوز داللته األصلية إلى دالالت جديدة‪.‬‬

‫وهذه املراحل‪ :‬هي‪ :‬التنبيه‪ ،‬والتفاعل‪ ،‬واإلنتاج‪.‬‬

‫‪ - 1‬عودة‪ ،‬ميس محمد‪ ،‬تأصيل األسلوبية في املوروث النقدي و البالغي‪ ،‬دار الجليس‪ ،‬عمان ‪ ،2010 ،‬ص‪.75‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ -‬التنبيه‪ ,:‬هو إيقاظ املخاطب وإثارة ذهنه نحو ما فعل هللا تعالى بالنسبة إلى نبينا محمد صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫حين أراد أن يبدأ بالحوار معه‪ ،‬فبهذه الجملة االستفهامية إلثارة فكره وحسه للتوجه نحو قصة موسى (عليه‬
‫السالم)‪ ،‬فلو استخدم القرآن الكريم أسلوب األمر هنا‪ ،‬ال يتحقق هدف زيادة االرتباط بين املتكلم واملخاطب ولم‬
‫يفد هذا التنبيه‪ ،‬فاالستفهام هنا يكون أبلغ من األمر‪.‬‬

‫‪-‬التفاعل‪ :‬هو تعامل القارئ مع النص وسياقه؛ فاملخاطب هنا الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وفي هذه املرحلة‬
‫يحصل ذهن الرسول صلى هللا عليه وسلم على البعد الخارجي لهذا السؤال‪ ،‬فبعد أن خاطبه هللا تعالى يلتفت إلى‬
‫سياق النص أو الكالم ويتعامل معه إلدراكه ‪.‬‬

‫‪-‬اإلنتاج‪ :‬وفي هذه املرحلة يحصل ذهن الرسول صلى هللا عليه وسلم على البعد الداخلي لالستفهام ويتجاوز البنية‬
‫ً‬
‫السطحية إلى البنية العميقة مستنتجا أن هللا تعالى ملم بجواب هذا السؤال وقصده شيء آخر‪ .‬قال تعالى‪« :‬وما تلك‬
‫بيمينك ياموسى ‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ -‬الدراسة البالغية تقول‪ :‬هذه اآلية جملة إنشائية وصدرت بأداة االستفهام "ما"‪ ،‬هكذا تسأل عن حقيقة‬
‫ً‬
‫وماهية الشيء‪ ،‬ولكنها صادرة عن هللا تعالى واالستفهام هنا ليس حقيقيا بل مجازي والغرض منه التقرير‪ ،‬أي‬
‫تقرير موسى (عليه السالم) بأن الذي يمسكه بيده اليمنى قطعة مستطيلة من الخشب ال حياة فيها‪ ،‬وليستحضر‬
‫‪1‬‬
‫هذا في وجدانه‪ ،‬ويقر به حتى عندما حدثت املعجزة اإللهية‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ -‬األسلوبية تقوم بتحليل‪ ,‬هذه اآلية على مستوى البعدين اآلتيين‪:‬‬

‫البعد الخارجي أو البنية السطحية‪ :‬وهو االستفهام والسؤال عن الداللة الجزئية ويطلب املتكلم تحصيل صورة‬
‫جزء من أجزاء الجملة وهو الشيء الذي كان بيد موسى (عليه السالم) اليمنى‪ ،‬وفي هذه اآلية حوار بين هللا تعالى‬
‫وموسى (عليه السالم)‪ ،‬واملتكلم هو هللا تعالى وهو عارف بما في يد موسى وهي العصا‪.‬‬

‫البعد الداخلي أو البنية العميقة‪ :‬وهو جملة خبرية (هذا الذي في يدك اليمنى عصا خشبية ولكننا قادرين على‬
‫تحويلها إلى حية)‪.‬‬

‫فالبنية العميقه لهذه اآلية الخبر ال اإلنشاء‪ ،‬فاهلل تعالى عالم بما في يد موسى (عليه السالم)‪ ،‬ولكنه يريد من موسى‬
‫أن يلقي العصا؛ حتى يظهر قدرته وإعجازه ألخذ االعتراف منه حتى يقر بأن قدرة هللا تعالى التقارن بقدرة فرعون‪.‬‬
‫ً‬
‫فاالستفهام هنا أقصر طريق إلى التعبير عن املقصود بالنسبة إلى أسلوب الخبر‪ ،‬وأبلغ طريقا في هز مشاعر‬
‫املخاطب‪.‬‬
‫ً‬
‫عملية التوليد الداللي في هذه اآلية أيضا مرت بمراحلها الثالثة‪ :‬هللا تعالى ينبه باالستفهام وهذا أبلغ أسلوب للتنبيه‪،‬‬
‫ثم في املرحلة الثانية يتعامل موسى مع السياق في بنيته السطحية‪ ،‬وفي املرحلة الثالثة تحضر في ذهن موسى‬
‫الدالالت املتولدة من االستفهام وتنكشف له أغراض االستفهام‪ .‬قال تعالى‪« :‬قال فمن ربكما يموسى –‬

‫‪ - 1‬عودة‪ ،‬ميس محمد‪ ،‬تأصيل األسلوبية في املوروث النقدي و البالغي‪ ،‬ص‪.78‬‬

‫‪8‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أوال‪ -‬الدراسة البالغية‪ :‬في هذه اآلية يخاطب فرعون موسى (عليه السالم) وأخاه‪ ،‬وليس االستفهام هنا حقيقيا‬
‫‪1‬‬
‫بل مجازي بداللة اإلنكار والسخرية أي االنكار والتهكم‪".‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ -‬الدراسات األسلوبية‪ :‬تحلل هذه اآلية في بعديها‪ :‬الخارجي وهو انشائية االستفهام‪ ،‬ويسأل املتكلم ‪ .‬عن‬
‫الداللية الجزئية‪.‬‬

‫وبعدها الداخلي‪ :‬الرب لكما وأنتما تكذبان؛ والجملة الخبرية املنفية هذه‪ ،‬تدل على أن املتكلم (فرعون) ال يسأل‬
‫عن حقيقة هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬بل يريد إنكار موسى وهارون (عليهما السالم) وإبطال قولهما ثم االستهزاء بهما‪ .‬في‬
‫هذه اآلية تبرز هذه العملية التوليدية الداللية على مراحلها املتتابعة‪ :‬التنبيه حين يسأل فرعون موسى ويطلب‬
‫التفاته إليه‪ ،‬ثم تعامل موسى مع سياق كالمه حين لم تحصل الصورة الداللية املجازية لهذا االستفهام في ذهنه‪،‬‬
‫وحين تصل إلى مرحلة اإلنتاج‪ ،‬يدرك مقصود فرعون من سؤاله‪ ،‬وهذا بين من االستجابات التي ترد إلى فرعون في‬
‫وصف ربه وبيان قدرته‪ .‬قال تعالى‪« :‬قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فال قطعن‬
‫‪2‬‬
‫أيديكم وأرجلكم من خلف واألصلبتكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى‪.‬‬

‫بعد أن سأل فرعون موسى (عليه السالم) حين أتى بمعجزته (تحويل العصا الى الحية‪ ،‬وافتراس حيات السحرة‪،‬‬
‫ً‬
‫وتصديق السحرة بموسى) خاطب فرعون السحرة بهذا السؤال‪ .‬أوال‪ :‬الدراسة البالغية‪ :‬تدرس االستفهام في هذه‬
‫ً‬
‫اآلية‪ ،‬وتعده استفهاما مجازيا والغرض منه التهديد والوعيد‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬الدراسة األسلوبية تقوم بتحليلها في بعديها ‪:‬‬

‫البعد الخارجي أو البنية السطحية‪ ,:‬الجملة إنشائية واستفهامية بالهمزة ويسأل الداللة الكلية وعن حصول‬
‫النسبة أو التصديق عن اإليمان بموسى أو عدم اإليمان به‪.‬‬

‫البعد الداخلي وهو‪ :‬بسبب إيمانكم بموسى قبل أن آذن لكم‪ ،‬أعذبكم وأقتلكم لم يكن قصد فرعون االستفهام‬
‫حقيقة بل يريد أن يهددهم ويخوفهم على عملهم‪ ،‬وإن كان يخاطبهم بجملة خبرية لم يحصل منها هذا اإلنذار‬
‫والتخويف وشدة غضبه من عصيانهم كما حصل باالستفهام‪.‬‬
‫ً‬
‫عملية التوليد الداللي تمر أيضا في هذه بمراحلها الثالث‪ ،‬وهي‪ :‬تنبيه السحرة لسؤال فرعون وتوجيه التفاتهم إليه‬
‫ثم ربطهم مع‪ :‬سياق الكالم‪ ،‬واستنتاج من غرض فرعون‪ ،‬واستخراج غرض االستفهام من كالمه ‪.‬‬

‫وهكذا نلحظ ما وصلت إليه األسلوبية عبر األزمنة املتتالية‪ ،‬حيث لم تكن غير مألوفة لدى العرب القدامى‪ ،‬وإن‬
‫تشعبت منها فروع أخرى وأطلق عليها مصطلحات جديدة‪ .‬كما رأينا أن علم املعاني جاء تحت لواء املستوى‬
‫‪3‬‬
‫التركيبي‪ ،‬والبيان تحت املستوى الداللي‪ ،‬واملوسيقى في البديع (السجع والجناس) تحت املستوى الصوتي‪.‬‬

‫‪ 1‬عودة‪ ،‬ميس محمد‪ ،‬تأصيل األسلوبية في املوروث النقدي و البالغي‪ ،‬ص‪.80‬‬


‫‪ 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.81‬‬
‫‪ 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‬

‫‪9‬‬
‫الخاتمة‪,:‬‬

‫تستنتج هذه الدراسة بعد ان تناولت املوقف من األسلوبية بوصفها علما لغويا حديثا ما يأتي‪:‬‬

‫أن األسلوبية وليدة بالغة القديم وعلم اللغة‪ ،‬وهي ليست حديثة النشأة‪ ،‬وال من بنات أفكار الغرب‬ ‫‪.1‬‬
‫وأوروبا‪ ،‬وإن كانت تطورت بتطور علم اللغة الحديث أو لسانيات النص‪.‬‬
‫ً‬
‫أن علم البالغة قديما كان ضيق املجال وبقي منحصرا في علومه الثالثة (املعاني‪ ،‬والبيان‪ ،‬والبديع)‪ ،‬لكن‬ ‫‪.2‬‬
‫األسلوبية اتسع مداها وانضوت هذه العلوم تحت مظلتها في التحليالت األدبية واللغوية‪ ،‬وإن كان علم‬
‫البالغة من مقومات األسلوبية ويرتبط بها بصالت وثيقة‪ ،‬لكنه يختلف عنها في مواضيع كثيرة ال يمكن‬
‫جمعهما في علم واحد‪ ،‬ولذلك وجد النقاد في األسلوبية ضالتهم أكثر من البالغة‪.‬‬

‫قائمة املصادر واملراجع‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫الحجازي‪ ،‬محمود‪ ،‬مدخل إلى علم اللغة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار القباء الحديثة‪۲۰۰۷ ،‬م)‪ ،‬ص‪۰۲۱‬‬ ‫‪.1‬‬
‫إسماعيلي‪ ،‬علوي حافظ‪ ،‬اللسانيات في الثقافة العربية املعاصرة‪ ،‬ط‪( ،1‬ليبيا‪ :‬دار الكتاب الجديد‬ ‫‪.2‬‬
‫املتحدة‪۲۰۰۹ ،‬م)‪ ،‬ص‪۰۷۱‬‬
‫أبو العدوس‪ ،‬يوسف‪ ،‬األسلوبية النظرية والتطبيق‪ ،‬ط ‪( ،۲‬عمان‪ :‬داراملسيرة‪۲۰۰۷ ،‬م)‪ ،‬ص‪.67‬‬ ‫‪.3‬‬
‫باطاهر‪ ،‬بن عيسى‪ ،‬البالغة العربية‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪۲۰۰۸ ،‬م)‪ ،‬ص‪۱۳ .١٥‬‬ ‫‪.4‬‬
‫عودة‪ ،‬ميس محمد‪ ،‬تأصيل األسلوبية في املوروث النقدي و البالغي‪( ،‬عمان ‪ :‬دار الجليس‪۲۰۱۰ ،‬م)‪،‬‬ ‫‪.5‬‬

‫‪11‬‬

You might also like